[المجلد الاول]
تصدير التصدير
نشر الجزءان الأوّل والثاني من كتاب تجارب الأمم عام 1987 م. وحظى عملنا المتواضع بالقبول والتشجيع من قبل الباحثين من ذوى الإختصاص، سواء في ايران أو خارجها، ولكن تأخّر- ولظروف طارئة- صدور الأجزاء المتبقّية الجاهزة في المطبعة بحيث صدرت عام (1997- 2001 م) في الوقت الذي نفذت فيه النسخ المنشورة من الجزأين الأوّلين. إذن وعند ما عزم الأمر على إصدارها كاملة ومتزامنة، أعدنا النظر في تصديرنا الذي صدّرنا به عملنا يوم ذاك، وأدخلنا فيه بعض ما استجدّ لنا بعد ذلك.
والجدير بالذكر أنّ هذه الطبعة المحقّقة الكاملة الأجزاء من تجارب الأمم لا تقاس إطلاقا بالطبعة السابقة الناقصة الأجزاء التي نشرها آمد روز (ج 5، ج 6 الذيل، مصر 1916- 1914) وترجمها المستشرق مرجليوث إلى الإنجليزية (أكسفورد 21- 1920) والتي لم تشمل إلّا أقلّ من نصف أجزاء الكتاب من آخره. حيث إن نشرتنا هذه تشمل ولأوّل مرّة في تاريخ النشر ومنذ عهد غوتمبرغ، كلّ أجزاء تجارب الأمم الستة مع ذيله وفهارسه، لتصبح في النهاية ثماني مجلدات.
هذا، وقد شاءت الأقدار أن لا يكون فراغنا من هذا العمل إلّا في عامنا هذا بالذات، الذي صادف السنة الألف من وفاة مسكويه من ناحية، والسنة الدولية لحوار الحضارات من ناحية أخرى. لقد سبق أن عمل مسكويه الكثير من أجل هذا الحوار، فإنّه حكيم اسلامىّ غنوصىّ برغماتىّ، فلسف التاريخ ونظر في تاريخ الأمم والشعوب المعتدّة بها في ذلك العصر وحسب مصادر كانت في متناوله، للتعرّف على مناحى حياتهم ولاستخلاص(1/5)
تجاربهم والتنبيه على مواضع الإعتبار منها، كما درس آداب العرب والفرس واليونان والهند وذلك لإكمال ال «جاودان خرد» أى الحكمة الخالدة التي وجد نواتها عند الفرس الأقدمين وألفاها تعمّ الإنسانيّة جمعاء، كما خدم الإنسان من حيث هو إنسان ومن دون أىّ انتماء، وذلك بمحاولته الرائدة المعترف بها لدى الجميع في فلسفة الأخلاق التي لم تكن مدوّنة قبله، الفلسفة التي لا تهدف إلّا سعادة الإنسان القصوى، ولا تنشد إلّا رقيه إلى كماله الأعلى، الخاصّ واللائق به والمتوقّع منه، ولا يقصد إلّا تقويم سلوكه وذلك لإنقاذه ممّا اعتاد أن يعانيه طيلة حياته.
وفي الختام، نسأل الله تعالى شأنه، وذلك بعد شكره على هذا التوفيق، أن يوفّقنا في إكمال الترجمة الفارسية لهذا الكتاب أيضا وفي إتمام ما تبقّى من العمل لسائر مصنفات هذا العالم العلم الإيرانىّ الإسلامى نصّا وترجمة، وفي نشر دراستى المستقلّة الشاملة، الخاصة بمسكويه ودوره العلمي في عصره، والتي أودّ أن تكون آخر حلقة من هذه السلسلة، وذلك لسدّ الفراغ المشهود على هذا الصعيد، في لغتنا الفارسية.
الدكتور ابو القاسم امامى طهران- شتاء 1379 ش./ 1421 ق./ 2001 م.(1/6)
تصدير عام حول مسكويه وتصنيفه تجارب الأمم
مناهل دراسته
لم يرد في المصادر القديمة التي وصلت إلينا حتى اليوم، ذكر بالتفصيل عن حياة مسكويه يجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة أمام دارسيه. وكلّ ما لدينا هو نصوص مبعثرة في هذا المصدر أو ذاك، تناقلها أصحاب التراجم ومؤرّخو الحكمة، وهي نزر قليل للغاية. ومن حسن الحظّ أن نرى حكيما من كبار الحكماء المعاصرين لمسكويه، ممّن يعرف مسكويه عن كثب ويقدّر القيم التي تنطوى عليها شخصيّته، نراه ولم يقنعه ما كتبه عن مسكويه في كتابه والذي ليس إلّا بقدر ما كتبه حول الحكماء الآخرين بالاختصار والتلخيص، بل يعدنا فيه أنّه سيخصّص رسالة بمسكويه يعالج فيها مزيدا من تفاصيل حياته. وهذا الحكيم هو أبو سليمان المنطقي السجستانىّ الذي يعدّ بدوره من أعظم الحكماء في تلك الحقبة. ثم نرى- وهذا من سوء الحظّ- أنّ ما وعده أبو سليمان لم يصل إلينا، سواء كان لم يوفّق في إنجاز ما وعد، أو لأنّه أنجزه، ولكنّ صروف الدهر هي التي حرمتنا هذه الوثيقة القيّمة التي كان من شأنها أن تغنينا ممّا هو مبعثر هنا وهناك، وليس إلّا تردادا لقليل من الكثير اللازم في التعرّف على حياة مسكويه. أمّا ما وعده أبو سليمان، فهو ما قاله في كتابه صوان الحكمة:
« ... أمّا ما سمعته من مجاري حياته، وشاهدته من سيره الحسنة، وأخلاقه الطاهرة، فسأفرد فيه رسالة أقصرها على ذلك، إذ ليس يحتمل هذا الموضع(1/7)
أكثر ممّا ذكرته.» وكان ظهور هذا الوعد الفريد في الصوان، ومصيره المجهول بعد ذلك، بالنسبة للمعنيّين بدراسة مسكويه «غمامة أبرقت- كما قال القائل- قوما عطاشا، فلمّا رأوها، أقشعت وتجلّت» ولم تمطر ما يشفى غليلهم.
وأمّا تصنيفه تجارب الأمم، الذي ضمّنه في الجزأين الأخيرين منه حوادث عصره، ومن خلالها بعض حوادث حياته، فهذا المصدر أيضا، يتوقّف عند سنة 369 هـ، وهذا يعنى أنّ مسكويه عاش بعد ذلك حوالى نصف قرن، تاركا كتابة الحوادث المتبقّية من عصره، الحوادث التي كان من شأنها أن تلقى مزيدا من الضوء على النصف الثاني من حياته أيضا، وذلك من خلال اتّصاله الوثيق بالشخصيّات الدخيلة في تلك الحوادث، حيث كان مسكويه من وجوه أوساطهم.
ومهما يكن من أمر المصادر، فإننا لا نعمد هنا الخوض في تفاصيل حياة مسكويه، بل نكتفي بإيراد أهمّ المصادر التي فيها ترجمة أو ذكر لمسكويه، نثبتها في أربع فئات:
أ. آثاره كسيرة ذاتيّة:
إنّ مسكويه قد يتحدّث في مطاوى آثاره عن نفسه، بأحاديث لها دلالات مهمّة في معرفة أحواله وبعض نواحي حياته، وأخصّ بالذّكر كتابه: تهذيب الأخلاق، وكتابه الآخر:
الهوامل والشوامل، والجزءين الخامس والسادس من تجارب الأمم.
ب. المصادر المعاصرة لمسكويه (320- 421 هـ) :
1. أبو حيّان التوحيدي (320- 414 هـ) في الإمتاع، والمقابسات، ومثالب الوزيرين، والصداقة والصديق.
2. أبو سليمان المنطقي (العقد الأوّل من القرن الرابع- 391 هـ.) في كتابه صوان الحكمة.
3. أبو منصور الثعالبي (350- 429 هـ.) في تتمّة اليتيمة. وأمّا ما ذكره عن مسكويه في اليتيمة نفسها فلا يتجاوز نقل بيتين من شعر مسكويه قالهما في ابن العميد.(1/8)
4. أبو بكر الخوارزمي (المتوفّى سنة 382 هـ.) في رسائله.
5. بديع الزمان الهمذاني ( ... - 389 هـ.) أيضا في رسائله.
ج. المصادر المتأخّرة عن عصر مسكويه:
1. البيهقي (المتوفى سنة 575 هـ.) في مخطوط كتابه تاريخ حكماء الإسلام، عند كلامه عن الفيلسوف ابن الطيّب وتطاول ابن سينا على علماء عصره. وهو مخطوط يتشابه كما قال عزّت (ص 146) في هذا الموضوع وغيره مع كتاب آخر مطبوع هو تتمة صوان الحكمة، بل هما كتاب واحد بعنوانين مختلفين، نشر عزت في كتابه (ص 146) النصّ الخاصّ بمسكويه، كما نشر الكتاب بكامله في دمشق سنة 1943.
2. ابن أبى أصيبعة (579- 616 هـ.) في عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء.
3. ياقوت (المتوفى سنة 629 هـ.) في معجم الأدباء أو إرشاد الأريب.
4. القفطي (564- 656 هـ.) في إخبار العلماء بأخبار الحكماء.
5. الشهرزوري (عاش شطرى القرنين السادس والسابع) في مخطوطة نزهة الأرواح وروضة الأفراح. وتجد النص منشورا في عزّت (ص 144) . وكلام الشهرزوري في هذا النصّ اقتضاب محرّف من كلام أبى سليمان المنطقي في نشرة بدوي (ص 346) . والعجيب من أمره أنّك تجد في نصّ الشهرزوري هذه العبارة: «إلى وقتنا هذا» دون إشارة إلى أنّ الكلام لأبى سليمان وأنّ الوقت وقته ووقت مسكويه.
6. الصفدي (696- 764 هـ.) في الوافي بالوفيات. ترجم له في هذا الكتاب بترجمة وافقت ترجمته في معجم ياقوت.
7. حاجي خليفة (1017- 1067 هـ.) في كشف الظنون.
8. عبد الله أفندى التبريزي الاصفهانى (من أعلام القرن الثاني عشر) في رياض العلماء.
9. الخوانساري (1224- 1313 هـ.) في الروضات.
10. السيد حسن الصدر (1272- 1354 هـ.) في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، وفي الشيعة وفنون الإسلام.(1/9)
11. محمد على مدرس (1296- 1373 هـ.) في ريحانة الأدب.
12. الطهراني (1293- 1389 هـ.) في الذريعة، وذلك عند ذكره لآثار مسكويه.
د. الدراسات الحديثة:
أمّا الدراسات الحديثة التي قام بها الباحثون في الشرق والغرب، فبالإضافة إلى ما نشر منها في دوائر المعارف، أو في تواريخ الفلسفة الإسلامية، أو في الفهارس، أو في المجلات العلميّة، أو في معاجم الأعلام، أو في مقدمة النشرات لآثار مسكويه، وغيرها، فإنّ هناك دراسات أخرى مسهبة مستقلة، أنجزت أيضا، حول مسكويه ونقد آثاره وتقييم أعماله العلمية. وهي حسب تاريخ النشر: الدكتور عزيز عزّت: «ابن» مسكويه وفلسفته الأخلاقيّة ومصادرها (القاهرة 1946 م) ، والدكتور عبد الرحمن بدوي: مقدمته المسهبة على نشرته لجاويدان خرد (الحكمة الخالدة القاهرة 1952 م، طهران 1358 هـ. ش.) ، والدكتور عبد الحق أنصارى: فلسفة مسكويه الأخلاقية (بالإنجليزية عليكره 1964 م:M.S.Khan، (مسكويه، حياته وآثاره، بالإنجليزية. أخبرنا بذلك في نشرته لرسالة مسكويه في ماهيّة العدل (ليدن 1964 م: ص 1 حاشية 1) ولكنّنا لم نجد أىّ إشارة إلى هذا الكتاب فى الدراسات التي أنجزت بعد ذلك، والدكتور م. أركون: (M.Arkoun) الإنسيّة العربيّة في القرن الرابع الهجري، مسكويه الفيلسوف والمؤرّخ (باللغة الفرنسيّة، باريس 1970 م، وباللغة العربيّة: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، بيروت، دار الساقي 1997 م.) ، وأخيرا فإنّ لنا أيضا دراسة شاملة عن مسكويه باللغة الفارسية حاولنا من خلالها سدّ الفراغ المشهود هنا في ايران، مع العلم بأنّه رازىّ، أى إيرانىّ. هذا علاوة على هذا التصدير الذي بين يدي القارئ، والذي نقل بتمامه وعن طبعته الأولى، في مستدركات أعيان الشيعة في مادّة «أحمد مسكويه» ، ومقدّمتنا لترجمتنا الفارسيّة لهذا الكتاب، وما كتبناه في مادّة «أبو على مسكويه» في «دايرة المعارف بزرگ إسلامي» (دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى) المعاد نشره في «ذكرى ألفيّة أبى على مسكويه» التي أقيمت في مدينة قم في هذا العام.(1/10)
الفترة التي عاشها
عاش مسكويه حوالى مائة سنة، ووصل إلى أرذل العمر الذي امتدّ من سنة 320 هـ على الأقوى، إلى التاسع من صفر سنة 421 هـ. بالتحديد على ما ذكره ياقوت نقلا عن يحيى بن مندة. ويبدو أن مرجليوث هو أوّل من حاول تحديد مولد مسكويه، وذلك في المقدمة التي قدّمها لترجمته الإنجليزية للجزأين الأخيرين من تجارب الأمم وذيل الروذراورى له (أنظر. (LEcl.,Pref.,P.ii:فنراه وقد حدّد مولد مسكويه «مؤقتا» سنة 330 هـ.، ثم يعود قائلا: «أو أسبق بقليل» . ثم يحاول الدكتور عزّت (ص 79- 80) تقديم هذا التاريخ من 330 إلى 325 هـ. كما يقدّمه الدكتور عبد الرحمن بدوي (ص 20- 21) أكثر من ذلك ويجعله سنة 320 هـ. قائلا: «إن لم يكن قبل ذلك» . وأمّا الدلائل أو الأمارات الموجودة لتحديد مولد مسكويه فهي:
1. ما قاله مسكويه نفسه في تجارب الأمم في مقدمة حوادث سنة 340 هـ. فصاعدا، ذاكرا مصادره في تقرير تلك الحوادث، قال:
«أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة، [أى بعد سنة 340 هـ.] فهو عن مشاهدة وعيان، أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته. وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد- رضى الله عنه- خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن إخباره لى دون مشاهدتى في الثقة والسكون إلى صدقه، ومثل أبى محمد المهلّبى- رحمه الله- خبّرنى بأكثر ما جرى في أيّامه، وذلك بطول الصحبة وكثره المجالسة، وحدّثنى كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة، وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.» 2. ما قاله مسكويه في تجارب الأمم أيضا عن نفسه، (أنظر حوادث سنة 341) ، وذلك(1/11)
عند ذكر معزّ الدولة بالحدّة والبذاءة، وموقف الوزير المهلّبى من أخلاقه. قال مسكويه:
«وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذيء اللسان، يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه، ويفترى عليهم، فكان يلحق المهلّبى- رحمه الله- من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه، فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله، وكنت أنادمه في الوقت، فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا، ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا....» أمّا في الدليل الأوّل فيحدّثنا مسكويه عن «طول الصحبة وكثرة المجالسة» التي كانت بينه وبين الوزير المهلبي، وفي الدليل الثاني يقول: «وكنت أنادمه في الوقت.» والمعروف أنّ المهلّبى قد تولّى الكتابة لمعزّ الدولة سنة 339 هـ. وخوطب بالوزارة سنة 345 هـ. وتوفّى في شعبان سنة 352 هـ. (أنظر التجارب، حوادث سنة 339، 345، 352) ، والفترة الواقعة بين سنتي 339 و 352 هي التي كانت فيها تلك المنادمة والصحبة والمجالسة التي وصفها مسكويه بالكثرة والطول. نعم صحيح أنّه «قد صحب الوزير المهلّبى في أيّام شبيبته» - كما صرّح به أبو سليمان أيضا في الصوان (ص 346- 347) - ولكنّ مسكويه في هذه الشبيبة، لا يمكن أن تكون سنّة أقلّ من 25 سنة، وخاصّة بالنظر إلى أنّه «كان من خواصّه ووجوه المختصّين به» - كما أضاف أبو سليمان- وكان من الحنكة والبصيرة على مستوى جعل المهلّبى يتخذه نديما له و «يخبره بأكثر ما جرى في أيّامه» ، كما جعل مسكويه بالذات يعدّ نفسه مصدرا من مصادر تاريخ سنة 340 فصاعدا، وذلك في قوله: «وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجرّبته بنفسي، فسأحكيه بمشيئة الله.» فبذلك لا يصحّ أن يكون مولده بعد سنة 320، كما تكون منادمته وصحبته الطويلة ومجالسته الكثيرة للوزير المهلّبى ابتداء من عام 345 أى دون احتساب الخمس السنوات الأولى (339- 344 هـ.) من وزارة المهلّبى وذلك لبعض الاحتمالات السلبيّة التي قد تعترى هذا الافتراض.
3. وهناك دليل آخر، وهو دليل على طول عمره أكثر من كونه دليلا على تحديد سنواته أو تحديد ميلاده، وهو أنّ لمسكويه أبياتا يشكو فيها «سوء أثر الهرم وبلوغه أرذل العمر»(1/12)
(أنظر الثعالبي، التتمة ص 96) .
فبهذا لا نستبعد أن يكون مسكويه قد عمّر مائة سنة كاملة (320- 421) إن لم نقل أكثر من ذلك، وعاش قرنا كاملا هو ألمع القرون الإسلاميّة حضارة، وهو عصر النهضة في الإسلام كما سمّاه آدم متز. وإذا عرفنا أنّ دولة البويهيين قد بدأت في سنة 320 هـ، فيكون مسكويه والدولة البويهية، تربين، أو، لدتين، تعاصرا قرنا كاملا. والسنوات المائة هذه كانت قمّة ازدهار تلك الدولة، وأمّا السنوات المتبقّية من عمر الدولة (27 421- 448 هـ.) فهي سنوات تنحدر الأسرة البويهيّة فيها، إلى حضيض الضعف والاضمحلال. فبذلك، يصبح مسكويه وثيقة حيّة من أوثق وثائق تلك الحقبة التاريخية التي لها خصائص وميزات في تاريخ الفكر والعلم الإسلاميين، وإن كانت بالنسبة للخلافة العباسية عصر تفكّك وتعدّد في مراكز الحكم، مع العلم بأنّ هذا بالذات، أدّى إلى تعدّد مراكز العلم أيضا، كما أدّى إلى ازدهار تلك المراكز، ونبوغ العلماء المنتمين إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامى آنذاك، وذلك لتنافس الأمراء وتفاخرهم فيما بينهم باجتذاب العلماء والأدباء إلى بلاطاتهم. فنبغ في غضون ذلك رجال علم وحكمة وأدب وسياسة عاصرهم مسكويه وعاصروه، وكان مسكويه على اتّصال وثيق بكثير منهم.
مسكويه، لا ابن مسكويه
واختلفوا لا سيّما في القرون الإسلامية الأخيرة في أنّه: من هو الملقّب بمسكويه؟ هو، أى أحمد، أو أبوه محمّد، أو جدّه يعقوب؟
والواقع أنّ مسكويه لقبه هو، أى لقب أحمد، وأمّا الاختلاف الموجود بهذا الصدد، فيرجع أولا، إلى عدم الانتباه إلى التسمية التي سمّاه بها معاصروه من أصدقائه وزملائه، وثانيا، لأنّ بعض المتأخرين رأوا مسكويه يسمّى نفسه بشكل لا يمكن معه البتّ، لو لم نستدلّ بما دعاه به معاصروه. فإنّنا نراه قد يسمّى نفسه «الأستاذ أبو على أحمد بن محمد مسكويه» (أنظر التجارب، المخطوطة المصورة 182 بن 6, 480 بن 5 والمطبوعة من نشرتنا، ج 5: 170، ج 6:
410، جاويدان خرد [الحكمة الخالدة] : 375) ، كما قد يسمّى «أحمد بن محمد بن يعقوب(1/13)
مسكويه» (أيضا جاويدان خرد ص 5، ورسالته إلى أبى حيّان في ماهيّة العدل، ص 12) .
فوقوع «مسكويه» تارة بعد اسمه أحمد، وتارة بعد اسم أبيه محمد، وتارة بعد اسم جدّه يعقوب، كان سبب الخطأ الذي شاع في ما بعد، في ضبط اسم مسكويه، فأوهم بعض الكتّاب أنّ مسكويه لقب لأبيه، أو جدّه، فكتبوه: «أحمد بن مسكويه» ، أو: «أحمد بن محمد بن مسكويه» أو بشكل أغرب: «أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه» ، بمعنى أنّ «مسكويه» أصبح لقبا لأبى جدّه (أنظر الخوانساري، الروضات 1: 254، والطهراني، الذريعة 3: 374) .
والحقيقة أنّه عند ما يقال: «أحمد مسكويه» أو «أحمد بن محمد مسكويه» ، أو «أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه» ، فالقصد أن يجيء اللقب بعد أحمد أى بعد اسمه، فإذا ذكر الاسم وحده فاللقب يتلوه مباشرة. ولكن إذا ذكر الاسم مخصّصا بذكر اسم الأب، فيجيء اللقب بعد ذكر الأب، وإذا كان هناك تخصيص آخر بذكر اسم الجدّ فيأتى اللقب بعد ذكر اسم الجدّ، وهكذا. لأنّ مسكويه ذاته لم يذكر اسمه متلوّا باسم أبيه، أو جدّه دائما، بل نراه أحيانا يذكر لقبه بعد كنيته (أبى على) فقط، ونراه يفعل ذلك بتكرار مشهود يبدّد كلّ الشكوك بهذا الصدد.
ففي شوامله على هوامل أبى حيّان التي يبلغ عددها 175 مسألة، نراه يذكر اسمه في مستهلّ كل جواب بقوله: «قال أبو على مسكويه» اللهم إلّا في الإجابة الأولى، حيث يذكر اسمه متلوّا باسم أبيه فيقول: «قال أبو على أحمد بن محمد مسكويه» ، أى لمرّة واحدة فقط، وذلك لتخصيص اسمه باسم أبيه كما أشرنا إلى ذلك. فأحمد نفسه هو الملقّب بمسكويه، وهو ليس ابنا لمسكويه، أو سبطا له.
وأمّا المعاصرون لمسكويه (320- 421 هـ.) الذين سمّوه في كتبهم «مسكويه» فهم: أبو سليمان المنطقي (310- 391 هـ.) في صوان الحكمة: ص 321، وأبو حيّان التوحيدي (320- 414 هـ.) في الإمتاع: 1: 35، 136، 3: 227، وفي الصداقة والصديق: 67- 68، وفي مثالب الوزيرين: 18- 19، وأبو منصور الثعالبي (350- 429 هـ.) في تتمّة اليتيمة 1:
96، وأبو بكر الخوارزمي ( ... - 382 هـ.) في رسائله: 102. وأمّا بديع الزمان الهمذاني ( ... - 389 هـ.) فنقل ضبطه ياقوت في معجم الأدباء حيث قال: «وللبديع الهمذاني إلى أبى على مسكويه» على أنّ هناك طبعة غير محقّقة من رسائل البديع (ص 100، 323) ورد فيها اسم(1/14)
مسكويه بصورة خاطئة هكذا: «أبو على بن مشكويه» فلو كان ضبط البديع كمصدر لياقوت مخالفا لضبط ياقوت، أو ضبط أبى حيّان، أو ضبط ابن مندة، من الذين ذكرهم ياقوت في معجمه، لكان ياقوت ذكر هذا الاختلاف.
وأمّا القدماء من غير معاصري مسكويه الذين سمّوه «مسكويه» فهم: الروذراورى (437- 488 هـ.) في مقدمته على الذيل، وابن أبى أصيبعة (579- 616 هـ.) في عيون الأنباء (الطبعات الثلاث: ص 245، ص 236، ص 331) ، وياقوت في معجم الأدباء (نشرة مرجوليوث ج 5: ص 5، 6، 10، 11) ، والصفدي (696- 764 هـ) نقل كلام ياقوت بتمامه (أنظر مرجوليوث في نشرته لياقوت 5: 5 الحاشية) . وقد صرّح ياقوت بأنّ مسكويه لقب لأحمد حيث ذكره في عنوان كلامه بقوله: «أحمد بن محمد بن يعقوب الملقّب مسكويه» (برفع «الملقّب» ) . والحقّ مع مرجوليوث حيث ضبط «الملقّب» بالرفع نعتا لأحمد لا ليعقوب، وذلك لأنّ مرجوليوث شاهد بوضوح أنّ ياقوت نفسه يكرّر ذكر مسكويه في خمسة مواضع (ناقلا عن معاصريه) بلفظ مسكويه، فلم يتردّد في ضبط «الملقّب» بالرفع إذا كان الضبط منه وليس من مخطوطة معجم الأدباء، ونحن نعتبر ابن مندة أيضا من الذين ذكروا مسكويه «مسكويه» حيث نرى ياقوت ينقل عنه بنفس الضبط. ومن هؤلاء القدماء القفطي (564- 646 هـ) في تاريخ الحكماء (ص 331) ونصير الدين الطوسي (597- 672 هـ.) في أخلاق ناصري (باللغة الفارسية ص 35، 36) ، وحاجي خليفة (المتوفى 1067 هـ.) في كشف الظنون، والسخاوي (القرن التاسع) في التوبيخ (ص 39) .
وأمّا في الموسوعات ودوائر المعارف، فهو مسكويه أيضا في: دائرة المعارف الإسلامية (الطبعة الجديدة 1971 م.، الإنجليزية والفرنسية) انسحابا من الموقف في الطبعة القديمة، ففي تلك الطبعة ورد «ابن مسكويه» كما في الطبعة العربية والطبعة الفارسية (دانشنامه ايران وإسلام) ، وهو مسكويه أيضا عند دهخدا في لغتنامه، وكذلك في دائرة المعارف للبستانى، كما صرّح العاملي في الأعيان بقوله: «مسكويه لقب أحمد نفسه كما صرّح به جماعة....» أمّا الدراسات المستقلّة التي نشرت عن مسكويه، فهو في كلّها مسكويه كما رأيت من عناوينها التي سبق أن ذكرناها.(1/15)
ومن بين المستشرقين فإنّ مرجوليوث أيضا صرّح بقوله: «إنّ مسكويه لقب له بالذات لا لأبيه وهذا يظهر بجلاء كثير من كلام معاصريه ... » (أنظر (Ecl.,Preface ,ii وكذلك برجشتر أيسر الذي أورد مواضع جاء فيها «مسكويه» بدون «ابن» (أنظر P.674:بن 65 بن، (ZDMG كما أخبرنا الدكتور عزت عن مخطوطات رسائل مسكويه (مجموعة راغب باشا) جاء فيها ضبط «مسكويه» بالصورة الصحيحة.
أمّا ما ورد في مخطوطة كتاب تاريخ الحكماء للبيهقي (أنظر عزت: 146) أو في مخطوطة نزهة الأرواح للشهرزورى حيث جاء «ابن مسكويه» فهو اقتضاب محرّف خاطئ من صوان الحكمة لأبى سليمان، ونحن عرفنا ضبط أبى سليمان سواء في ما نقله عنه ياقوت، أو في الصوان نفسه في نشرة بدوي (ص 321، 346) . فهاتان المخطوطتان لا يمكن الاعتماد عليهما، ولعلّ أخطاء المتأخرين في ضبط اسم مسكويه إنّما نشأ عنهما.
وأمّا ما جاء في مخطوطة ابن خلكان (608- 681 هـ) الذي كتبه بخطّ يده (المتحف البريطانى، الإضافات، رقم 25735، ورقة 10 ب) والذي اعتمد عليه بروكلمن،GAL) الملحق 1: 582 رقم 1) وقال «من المحتمل أن يكون مسكويه- وأصله مشكويه- لقب جدّه» كما فعل آمد روز (NoteontheHist.P.XVI) فمردود ما دام مسكويه ومعاصروه الكبار يشهدون بخلافه.
فبذلك كلّه، وفي نهاية المطاف، فهو: مسكويه، أى هو أبو على أحمد مسكويه (ابن محمد بن يعقوب) أى اللقب له، لا لأبيه، ولا لجدّه.
مسكويه: مشكويه
إنّ الأصل الفارسي لمسكويه هو «مشكويه» كما جاء في بعض طبعات رسائل الهمذاني، وعند دولتشاه السمرقندي (القرن التاسع الهجري) في تذكرة الشعراء، (ص 24) وعند يوستى في الأسماء الايرانية (بالألمانيّة، ص 218) ، وعند بروكلمن (الملحق 1: 582 الحاشية) وعند جب (Gibb) في دائرة المعارف الإسلامية، وكذلك عند لفيف من الكتّاب الإيرانيين منهم سعيد نفيسى في ترجمته لابن سينا (ص 131) ، دانش پژوه على ظهر نشرته(1/16)
لجاويدان خرد.
أمّا في تاريخ كمبردج فالشكل الفارسي للاسم هو بالسين: مسكويه) Muskuya:أنظر P.429 -30 بن. (theCamb.Hist.ofIran ,Vol.4 وهذا غريب. لأنّ النطق الفارسي للكلمة منذ عصر مسكويه، أو أسبق من ذلك، لا يعترف بوجود حرف السين فيها، مهما يكن من أمر أصلها في اللغات الهندو إيرانية القديمة. فالسين هذه علامة وجود شكلين لتعريب هذا الإسم: مسكويه، مسكويه. والأوّل أوفق للنطق العربي والثاني أقرب إلى الشكل الفارسي:
مشكويه.
إنّ كلمة مشكويه تركّبت من جزأين: مشك أويه (Lmoshk uyeh) أمّا الجزء الأوّل فهو في الفارسية بضم الميم وكسرها، وأصله في السنسكريتية) muska مصغر mus:بالفارسية موش: الفأرة) ، وفي اليونانية،Lmoskos وفي اللاتينيّة،Lmuskus ومعنى الكلمة: المادة العطرة المعروفة المأخوذة من غزال المسك، ولا حاجة إلى القول إنّه عرّب إلى «مسك» . قال الجوهري: المسك من الطيب فارسىّ معرّب. قال: وكانت العرب تسميه «المشموم» . أمّا الجزء الثاني (أويه) فهو لاحقة تلحق بالكلمات لبيان الاتصاف، أو النسبة، أو التصغير، أو الاستعطاف، وأمّا إذا قلنا «مشك (Lmashk) «بفتح الميم، فمعناه جلده الغنم مدبوغا وغير مدبوغ، أو الوعاء الذي يصنع منه ويجعل السقّاء فيه الماء. وتعريبه «مسك» بالسين المهملة وبنفس المعنى (أنظر اللسان، نفس المادّة) . وهذا الشكل بمعناه ربما يهمّ الذين ضبطوا «مسكويه» بفتح الميم، كما نجده عند مرجوليوث في نشرته لمعجم ياقوت (5: 5- 17) مع العلم بأنّه ذكره بكسر الميم في مقدّمته لترجمة تجارب الأمم.
أمّا المعاني التي أوردها أصحاب القواميس الفارسية لكلمة «مشكويه» (مشكوى moshkuy مشكو (Lmoshku فهي: بيت الأصنام. سرادق الملوك. القصر. الطابق الفوقاني من البيت. كما أنّ مشكويى Moshkuyi اسم لنغمة موسيقيّة. (أنظر معين: نفس الموادّ) .
وهناك ملاحظة أخرى حول كلمة «مشكويه» ، وهي أنّها اسم- كما قال المؤرّخون الجغرافيون- لبليدة من أعمال الري بينها وبين الرىّ مرحلتان على طريق ساوه (أنظر مراصد الاطلاع: نفس المادة، والمقدسي: ص 400، وأشباههما من المصادر) ، ولذلك اعتقد(1/17)
بعضهم بأنّ مولد مسكويه هو بليدة مشكويه هذه. (أنظر: رى باستان [الري الأثرية] : 625) .
وقال الدكتور عزّت بهذا الصدد: إنّ مسكويه لقّب بمسكويه ربما لأنّه كان يحبّ هذا العطر، ويفضّله، ويتطيّب به، وهو في بعض أشعاره (أنظر التتمة: 98) يستعمل كلمة المسك للمقارنة الحسنة، فهو يشبّه خيار الناس وفضلاءهم بالمسك في قوله:
والناس في العين أشباه وبينهم ... ما بين عامر بيت الله والخرب
في العود ما يقرن المسك الذكىّ به ... طيبا، وفيه لقى ملقى مع الحطب
وكم كان بودّنا أن نجد دليلا نعتمد عليه على أنّ مسكويه من بليدة مشكويه من أعمال الري- كما قيل- حتى يأتى دور التأمل في كيفية استعمال النسبة بهذا الشكل في اللغة العربية، لأنّها لو كانت نسبة فارسيّة بلاحقة «أويه» ، لكان المنسوب هو «مشك» ونحن نعلم أنّ البليدة اسمها «مشكويه» ، فيلزم أن تكون النسبة إلى «مشكويه» بأحد الأشكال التالية:
مشكويجى (من الأصل الفارسي: مشكويگى، كخانجى وميانجى) أو: مسكويى بحذف ما يشبه تاء التأنيث في النسبة العربية: أو: مسكويهى، على وزن سيبويهى. ثمّ يأتى دور هذا السؤال: لماذا لم يقولوا: أبو على المسكويهى؟ أى لماذا لم يعرّفوه بأل التعريف في ضبطه العربي؟ إلّا أن يقال: إنّ النسبة في أصلها الفارسىّ كانت على شكل «مشكويه اى» وكانت تكتب بالصورة التقليدية: «مشكويه» أى بإثبات ياء صغيرة على شكل همزة على الهاء، ثم حذفت الهمزة استخفافا بشأنها في نهاية الكلمة، وعلى القاعدة القائلة: «تلك كلمة أعجميّة فالعبوا بها كيف شئتم» فقيل في التعريب: مسكويه على وزن سيبويه ونسى أمر التعريب فأصبحت النسبة لقبا له، ثم ابتليت بمصير سائر الكلمات الفارسية المختومة ب «ويه» التي تنوس بين ضبط «- أويه (Luyah) «و «- ويه. (LWayh) «وما دمنا لم نتوصل إلى دليل مقنع يدلّ على صحّة أحد هذه الفروض، فلا يمكن الاطمئنان إلى أىّ شيء يقال بهذا الصدد.(1/18)
أوصافه وألقابه الأخرى
لقد وصفه المترجمون له من القدماء والمتأخّرين بقولهم: الحكيم، المتكلّم، الفيلسوف، الأخلاقى، المؤرّخ، الرياضىّ، المهندس، اللغوي، الأديب، الشاعر، الكاتب، الذكىّ، الناقد، النافذ الفهم، الكثير الاطلاع على كتب الأقدمين ولغاتهم المتروكة. كما كان من ألقابه، علاوة على لقب مسكويه: الخازن، والنديم، كما لقّب بالمعلم الثالث، مع أنّ اللّقب كان قد ترشّح له ابن سينا أيضا. ويقال إنّ مسكويه لقّب بالمعلم الثالث لدوره الفذّ الذي لعبه في إعادة بناء الفلسفة اليونانيّة في فرعها العملي، أى في فلسفة الأخلاق، وجمع أشتاتها وتمحيصها وترصيص أركانها، بصورة لم يزد عليها أىّ مصنّف صنّف في فلسفة الأخلاق حتى زماننا هذا. أضف إلى ذلك أنّ أبرز كتاب في الأخلاق، ظهر في اللغة الفارسيّة، هو كتاب: أخلاق ناصري، الذي ليس إلّا ترجمة لكتاب مسكويه: تهذيب الأخلاق، نقله إلى الفارسيّة نصير الدين الطوسي وكان معجبا بمسكويه وكتابه إعجابا كبيرا يعرب عنه بأبياته المعروفة التي نظمها في زمن سابق وقبل أن يقوم بترجمته، وأوّلها: «بنفسي كتاب حاز كلّ فضيلة ... » (أنظر أخلاق ناصري: 36) .
إنّ هذه الألقاب والنعوت التي لقّب بها مسكويه ونعت، لهى دليل على تعدّد عناصر شخصيّته وسعة آفاقه في العلم والحكمة، تعزّزه أدلّة أخرى تتمثّل في تلك الآثار الكثيرة القيّمة التي تركها لنا، والتي نوردها هنا باختصار:
آثاره في حقول المعرفة
1. ترتيب السعادات ومنازل العلوم (الترتيب، ترتيب السعادات، ترتيب السعادات ومنازل العلوم. أنظر التهذيب: زريق: 15، 39، 49، 91، 124، السعادة. طبعة الطوبجى، ترتيب العادات. أنظر العاملي: 5: 10) ، المسعدة. أنظر: مجلس، ف 7001 وفي الصوان هو اسم لكتاب آخر لمسكويه. وقد حقّقنا ونشرنا هذا الكتاب الصغير الحجم تحت عنوان:
ترتيب السعادات ومنازل العلوم، وذلك في «مجموعه گنجينه بهارستان» : خزانة بهارستان،(1/19)
حكمت 1، صص 97- 127، التي صدرت عن مكتبة ومتحف ومركز وثائق مجلس الشورى الإسلامى (طهران 1379 هـ. ش/ 2000 م.) والكتاب شرح لمراتب السعادة الثلاث وتحديد دقيق لمراتب العلوم حسب مدرسة أرسطو وقيمتها في الرقىّ بالإنسان نحو السعادة والكمال الإنسى (التهذيب: 15) .
2. الفوز الأصغر (الفوز الصغير. أنظر الصوان، بدوي: 347، والقفطي: 332) وقد يسمّى الكتاب باسم آخر هو: كتاب الجواب عن المسائل الثلاث. اختصر إقبال اللاهورى نظام مسكويه الفلسفي من خلال الفوز الأصغر، وقال: «إنّى أطرح الفلسفة الأولى لمسكويه التي لا شك أنّها أكثر انتظاما من فلسفة الفارابي، كما استبدل الفلسفة الأفلاطونيّة الحديثة لابن سينا، بالخدمة الأصيلة التي أدّاها مسكويه تجاه فلسفة بلاده.» (أنظر: سير فلسفه در ايران: 33) .
3. الهوامل والشوامل. وقد استعار أبو حيّان التوحيدي كلمة الهوامل لأسئلته المبعثرة التي تنتظر الجواب (175 مسألة) واستعمل مسكويه كلمة الشوامل في الإجابات التي أجابه بها، فضبط بها هوامل أبى حيّان التي كانت كالإبل المسيّبة، لأنّ الشوامل هي الحيوانات التي تضبط الإبل الهوامل فتجمعها (أنظر أمين، المقدمة ص «ج» ) .
4. تهذيب الأخلاق (كتاب الطهارة، كتاب طهارة النفس، طهارة الأعراق. أنظر نشرة زريق: 91، 104) أمّا تهذيب الأخلاق اسم أطلقه مسكويه أيضا على هذا الكتاب في كتابه الآخر: جاويدان خرد (أنظر نشرة دانش پژوه: 24) . وقد اتخذ اسم الكتاب أشكالا مختلفة في مخطوطات الكتاب. نقله نصير الدين الطوسي إلى الفارسية وسمّاه: أخلاق ناصري، كما قال فيه وفي مؤلّفه أبياته الأربعة المعروفة، إعجابا بهما. ونقله أبو طالب الزنجاني أيضا وبعده السيدة العالمة نصرت أمين إلى الفارسية، كما نقله زريق إلى الإنجليزية (بيروت 1968 م) وأركون (M.Arkoun) إلى الفرنسية (دمشق، المعهد الفرنسى 1969 م) . والكتاب يتألّف من ستّ مقالات هي: الأولى في مبادئ الأخلاق، والثانية في الخلق وتهذيبه والكمال الإنسانى وسبيله، والثالثة في الخير وأقسامه، والسعادة ومراتبها، والرابعة في العدالة، والخامسة في المحبّة والصداقة، والسادسة في صحّة النفس وحفظها.(1/20)
5. الفوز الأكبر (الكبير) ليس للكتاب أثر في فهارس الكتب المطبوعة، بيد أنّ هناك رأيّا قائلا بكون الفوز الأكبر وتهذيب الأخلاق كتابا واحدا، وليس كذلك، لدلائل أقمناها في بحثنا المستقلّ عن مسكويه. ونكتفي هنا بالقول: إنّ أبا سليمان أورد العنوانين لكتابين مختلفين (أنظر الصوان: 347) .
6. فوز السعادة (نور السعادة. أنظر العاملي 10: 146) . نرجّح أن يكون الشبه القريب بين «فوز» و «نور» قد أدّى إلى تصحيف جعل صاحب ريحانة الأدب (8: 208) يعدّهما عنوانين لكتابين مختلفين وهما كتاب واحد. كما أنّ موضوع الكتاب يظهر من عنوانه بجلاء.
7. رسائل فلسفية. محفوظة في مجموعة راغب باشا تحت رقم 1463. وهذه الرسائل مختصرة تبلغ صفحاتها 32 صفحة وتتراوح بين صفحة واحدة و 16 صفحة وعناوينها هي:
أ. رسالة في اللّذّات والآلام، ب. رسالة في الطبيعة، ج. رسالة في جوهر النفس والبحث عنها، د. رسالة في العقل والمعقول، هـ. رسالة في النفس والعقل، ورسالة في إثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها، ز. ما الفصل بين الدهر والزمان.
8. رسالة في ماهيّة العدل. العنوان الكامل لها كما جاء في مستهلّ المخطوطة الموجودة في مشهد (1: 43، 44/ 137) هو: رسالة الشيخ أبى على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه إلى على بن محمد أبى حيّان الصوفي، في ماهيّة العدل وبيان أقسامه.
9. جاويدان خرد. قال مسكويه عنه:
« ... فهذه جمل نحكمها قبل تفصيلها بالجزئيات، ولولا أنّا قد أحكمنا لك الأصول كلّها في كتابنا الموسوم بتهذيب الأخلاق، لأوجبنا لك إيرادها هاهنا، ولكن هذا كتاب غرضنا فيه إيراد جزئيات الآداب بمواعظ الحكماء من كلّ أمّة ونحلة، وتبعنا فيه صاحب كتاب جاويدان خرد [أحد ملوك الفرس الأقدمين] كما وعدنا به في أوّله، ولأنّ موضوع الكتاب الأوّل كتاب فارسىّ، وجب أن نبدأ بآداب الفرس ومواعظهم، ثمّ نتبعها بآداب الأمم الآخرين.»(1/21)
فإذن، القسم الأوّل للكتاب بنى على جاويدان خرد من تأليف قدامى الفرس، والقسم الثاني هو آداب الأمم الأخرى، بدأها بآداب الفرس المتأخرين (إلى ما قبل الإسلام) . وأمّا آداب الأمم الأخرى فهي: آداب الهند، آداب العرب، آداب الروم (منها لغزقابس) ، حكم الإسلاميين.
10. آداب الدنيا والدين. ذكره العاملي (10: 145) وصاحب الذريعة (1: 387) بفارق أنّ الأخير ضبطه «أدب الدنيا والدين» ومصدرهما صاحب الروضات الذي نقل بدوره عن النراقي في الخزائن. كلّ ما نقله الخوانساري بشأن هذا الكتاب هو ما أورده في حاشية الروضات (1: 255) وهذا نصّه:
«وقال المحقّق النراقي في كتابه الخزائن: قال (ابن) مسكويه في كتاب آداب الدنيا والدين: الفرق بين السرف والتبذير، أنّ السرف هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير هو الجهل بمواقع الحقوق. انتهى.» .
ثم قال صاحب الروضات: «وظنّى أنّ الغالب على كتابه هذا الذي لم نذكره في المتن، متون اللغة، وأصول المعرفة مع شيء من مراسم الشريعة وأحاديث العلم والحكمة، فيلاحظ إن شاء الله منه ره.» 11. أنس الفريد. هذا هو عنوانه عند أبى سليمان في الصوان: (247) ، وياقوت (5: 10) والقفطي (331) والشهرزوري (أنظر عزّت: 144) ، وعنوانه: نديم الفريد، عند كلّ من الخوانساري (1: 255) والعاملي (10: 146) .
قال ياقوت: «وله كتاب أنس الفريد وهو مجموع يتضمّن أخبارا وأشعارا وأمثالا غير مبوّب» .
وقال القفطي: «فمن تصانيفه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنّف في الحكايات القصار والفوائد اللّطاف.» قال آدم متز (1: 468) ، وذلك بعد أن تحدّث عن تطور القصص المسلّية والأسمار الأجنبيّة الظاهرة في فنّ القصة منذ القرن الثالث، قال: «وأخيرا جاء دور مسكويه، وكان أكبر مؤرّخى القرن الرابع، فألّف كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنّف في الحكايات القصار(1/22)
والفوائد اللّطاف. وهذه القصص الجديدة، هي من نوع يغاير كلّ المغايرة القصص القديمة التي ألّفها ابن قتيبة وصاحب العقد، ففيها نجد ولأوّل مرّة تمام الأسلوب القصصى الإسلامى، أعنى طريقة القصص التي ليست عربيّة خالصة.» 12. الخواطر (أنس الخواطر؟) . ذكره أبو سليمان في الصوان باسم الخواطر ونقل منه نصّا تدلّ على أن الكتاب في النفس، وأنّها جوهر بجهة وعرض بجهة، وما إلى ذلك.
13. حقائق النفوس. هكذا ورد عند العاملي (10: 146) وتبعا له في ريحانة الأدب (8:
208) وهو مجال آخر لدراسات مسكويه النفسيّة.
14. كتاب السياسة للملك (العاملي 10: 146، والخوانساري 1: 255) ذكره مسكويه في التهذيب. ذكر السيد حسن الصدر في كتابه التأسيس (ص 384) كتابا لمسكويه بعنوان:
كتاب السياسة السلطانيّة. ونحن نظنّ أنّه ليس غير كتاب السياسة للملك.
15. المستوفى في الشعر. ذكر هذا الكتاب بنفس العنوان عند كلّ من أبى سليمان (ص 247) وياقوت (5: 10) . وذكره الشهرزوري (ص 76، عزّت: 144) ، والعاملي (10: 145) .
ولكنّ الخوانساري ذكره بوصفه لا بعنوانه. فقال عند إحصاء آثار مسكويه « ... كتاب في مختار الأشعار» فأصبح ذلك عنوانا للكتاب عند صاحب الريحانة (8: 208) . ذكره أبو سليمان قائلا: «المستوفى في الشعر المشتمل على حلّ المختار منه.» 16. الرسالة المسعدة. ذكره مسكويه في التهذيب بنفس العنوان كما ذكره أبو سليمان (ص 247) بعنوان «رسالة المسعدة» دون أىّ شرح له ولكن عنوان الرسالة- لو فرضنا أنّه لكتاب غير ترتيب السعادات، (أنظر رقم 1) - فإنّه ينطق بكونها دراسة في مسألة السعادة، لا سيّما بالنظر إلى ما نعرفه عند مسكويه من الاهتمام بموضوع السعادة.
17. فوز النجاة. ذكر الكتاب عند بعض من درس مسكويه هامشيّا بعنوان: فوز النجاة في الاختلاف (الأخلاق) . يمكن أن يكون عنوانا ثانيا لكتابه الآخر المسمى فوز السعادة، ولكنّنا لا نستبعد أن يكون عنوانا لكتاب على حدة، بالنظر إلى كثرة ما كتبه مسكويه خصيصا في علم النفس والأخلاق.
18. كتاب السير. ذكره ياقوت (5: 10) كما عرّفه باختصار قائلا: « ... وكتاب السير،(1/23)
أجاده، ذكر فيه ما يسيّر به الرجل نفسه من أمور دنياه. مزجه بالأثر، والآية، والحكمة، والشعر.» هذا كلّ ما أورده ياقوت ونقل عنه العاملي بتمامه (العاملي 10: 146) .
19. كتاب الجامع. ورد بنفس العنوان عند كلّ من ياقوت (5: 10) والعاملي (10:
146) . رجّح عزّت (ص 140) أنّه في الطبّ. إن كان هذا صحيحا يمكن القول: إنّه أجمع من كتاب الرازىّ المسمّى بالحاوى، لأنّ مسكويه درس الرازي وأكبّ على كتبه، ثم كتب هذا الكتاب في ضوء اجتهاداته بعد تلك الدراسة.
20. كتاب في تركيب الباجات من الأطعمة (كتاب الطبيخ. أنظر ابن أبى أصيبعة ص 245) . قال القفطي (ص 332) وذلك عند إحصائه لكتب مسكويه الطبيّة: «.. وكتاب في تركيب الباجات من الأطعمة، أحكمه غاية الإحكام، وأتى فيه من أصول علم الطبيخ وفروعه بكلّ غريب حسن.» وقد ذكر الكتاب عند البعض بعنوان: كتاب البطيخ! وهو تصحيف لا محالة.
21. كتاب الأشربة. ذكره ابن أبى أصيبعة (ص 245) بنفس العنوان، كما ذكره العاملي (10: 146) بقوله: «كتاب الأشربة وما يتعلق بها من الأحكام الطبيّة.» واختصره أمين الدولة ابن التلميذ (ابن أبى أصيبعة 1/ 276) .
22. كتاب في الأدوية المفردة. هذا الكتاب تفرّد بذكر اسمه القفطي (ص 332) فلم يذكره غيره من المترجمين لمسكويه، من أمثال ابن أبى أصيبعة الذي ذكر بعض آثاره في الطبّ والعلاج.
23. مختصر النبض. كتاب في الطب، كتب لعضد الدولة البويهي، وهو متنازع فيه بين ابن سينا وبين أبى على مسكويه، أو أبى على مندويه. أمّا انتساب الكتاب إلى ابن سينا فمردود، لأنّه كان طفلا عمره سنتان عند ما مات عضد الدولة، ولذلك ذهب فيلسوف الدولة صاحب كتاب مطرح الأنظار إلى أنّ الكتاب لأبى على مسكويه أو لأبى على مندويه (أنظر الگود، تاريخ پزشكى ايران ص 280) .
24. رسالة في المحرّك والمتحرّك. ذكرها مسكويه في كتاب العقل والمعقول.
25. رسالة في الحكمة النادرة. ذكرها دفّاع في كتاب اسهام العرب (ص 148) .(1/24)
26. رسالة في ذكر الحجر الأعظم. في الكيمياء، 47 آ، دانشگاه طهران 941 (291 بن 4 بن. (GAS
27. رسالة في الكيمياء. أصغر مهدوى 280 نشريه 2 (291 بن 4 بن. (GAS ويتحدّث سزگين عن مقارنة تمّت بين هذه الرسالة ورسالة في ذكر الحجر الأعظم، وأنتجت أنّ العنوانين لرسالة واحدة.
28. الكنز الكبير. بشير آقا 505، 126 آ- 158 آ (291 بن 4 بن. (GAS
29. تتمّة كتاب كنز الحكمة. (الكنز الكبير؟) آستان قدس 14148، مجموعة (1) صص 231- 275. هذه التتمّة قدّمناها. في المؤتمر السنوى العشرين لتاريخ العلوم عند العرب (حلب، 25- 27 سبتمبر 1999) .
30. تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. قال في الذريعة: «ذكر هذا العنوان صاحب الريحانة ولم نجد عند غيره. قال صاحب الريحانة [عند ذكره لآثار مسكويه] : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين في الأخلاق، وللراغب الاصفهانى أيضا كتاب في معرفة النفس بهذا العنوان.» 31. أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السلف. هكذا ورد العنوان عند الخوانساري (1:
256) ، وهو عند العاملي: «أحوال الحكماء السلف وصفات بعض الأنبياء السالفين» .
32. المختصر في صناعة العدد. إنّ أبا سليمان المنطقي (ص 247) وبعده الشهرزوري (عزّت: 141) يشيران إلى أنّ له مصنفات «في جميع الرياضيّات و ... والحساب و ... ممّا هو متداول في الأيدى يقرأ عليه في أيام مجالسه.» دون ذكر لعنوان واحد من عناوين آثاره الرياضيّة. بيد أنّ مسكويه نفسه ذكر في التهذيب اسم أحدها وهو: المختصر في صناعة العدد.
33. فقر أهل الكتب. ذكره الشهرزوري (ص 76، أنظر عزّت: 141) ، وهو كتاب قد يكون طريفا كما نبّه عليه عزّت. لأنّ مسكويه ربما يعرض فيه نتائج تجربته الخاصّة مع هذه الفئة التي احتكّ بها، والتي ينتمي إليها بحكم كونه خازنا لمكتبات الأمراء والوزراء البويهيين.(1/25)
34. رسالة في دفع الغمّ من الموت. هكذا ورد عند سزكين (336 بن 3) حقّقها لويس شيخو ونشرها تحت عنوان رسالة في الخوف من الموت (عام 1911 م.) ، ونسبها خطأ إلى ابن سينا وهي من مسكويه (انظر أخلاق ناصري، نشرة مينوى ص 606) ونسبت مرّة أخرى إلى ابن سينا عند ما نشرت ضمن رسائل ابن سينا في الحكمة المشرقية (ليدن 1894 أنظر محقق ص 209، 430) ، كما نقلها إلى الفارسية البرقعى القمي في 73 صفحة تحت عنوان:
چرا از مرگ بترسم: لماذا أخاف من الموت؟ (قم، ط 2، 1327 ش- أنظر مشار) .
35. تعاليق على الكتب المنطقية. ذكرها أبو سليمان المنطقي (ص 247) بقوله: تعاليق حواشي الكتب المنطقية. كما ذكرها الشهرزوري والخوانساري والعاملي بتغيير طفيف في الاسم.
36. وصيّة له. أوردها أبو سليمان في الصوان (ص 347- 352) ومسكويه نفسه في جاويدان خرد (نشرة بدوي ص 285- 292) أولها: «يا طالب الحكمة طهّر لها قلبك ... » وختامها: «بلا حاجة إلى تفكير وتمييز وتطلّب.» كما أورد أبو سليمان فصلا آخر من كلام مسكويه بعد إيراده الوصيّة.
37. وصيّة أبى على مسكويه (عهده مع نفسه) . أوردها ياقوت (5: 17- 19) ونقل عنه العاملي (10: 198- 199) ، أولها: «هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد وهو يومئذ آمن في سربه ... » وختامها: «وصرف جميع البال إليه.» أعجب بها التوحيدي ونقلها في المقابسة 94 (ص 383) دون تصريح باسم صاحبها، مع الثناء الجميل الكثير عليه.
38. مراسلة بينه وبين بديع الزمان الهمذاني. للبديع رسالة اعتذار إلى مسكويه، أجاب عليها مسكويه. تجد الرسالة والجواب عند ياقوت (5: 11- 17) .
39. شعر مسكويه. نقل الثعالبي (التتمة: 96- 100) ونقل عنه ياقوت (5: 7- 17) نماذج من شعره. وأثنى عليه الثعالبي بقوله: «وكان في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر.» 40. نزهت نامه علائى. ذكره العاملي (10: 145) وصاحب الريحانة (8: 208) ونسباه إلى مسكويه. كما ذكره صاحب الذريعة (24: 130) ونسبه إلى شهمردان بن أبى الخير(1/26)
الرازي قائلا: «وقد نسبه إسماعيل پاشا (هدية 1: 73) خطأ إلى «ابن» مسكويه وعنه أخذ في أعيان الشيعة وكذلك أخطأنا نحن في النابس- ص 28 فإذن الكتاب ليس لمسكويه.
41. تجارب الأمم. وهو الكتاب الذي بين يدي القارئ. كتاب جليل في التاريخ، ومصدر لا يستغنى عنه في الدراسات التاريخيّة، لم ينشر حتى الآن- مع الأسف- لا عندنا في ايران، ولا في غيرها من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، إلّا بعض أجزائه. فأخذنا على عاتقنا تحقيق نصّه ونشره بكامل أجزائه، مشفوعا بجزئى الذيل والفهارس، كما عزمنا على ترجمته إلى اللغة الفارسية، حتى لا يبقى مواطنونا الذين هم مواطنو مسكويه أيضا، محرومين من قراءته، والتمتع بما يتضمّنه هذا الأثر العظيم، من الفوائد في دراسة الماضي، والاعتبار به.
ولتجارب الأمم من حيث نظرة مسكويه التاريخية، أهميّة بالغة، كما له من حيث عرضه ونشره والاهتمام به، مصير ملتو غريب، نحاول أن نتناوله هنا بقدر ما يتيح لنا المجال في هذا التصدير، فنقول:
التاريخ كما يراه مسكويه
بنظرة إلى مقدمة تجارب الأمم، يتّضح أنّ التاريخ في رأى مسكويه، يشتمل على أحداث يمكن للإنسان أن يستفيد منها تجربة في حياته الفردية والاجتماعية، في أمور لا تزال يتكرّر مثلها، وينتظر حدوث أشباهها، وإذا عرف الإنسان تلك الأحداث وقيمتها التجريبيّة ثم اتّخذها إماما لنفسه، يقتدى به، فهذا يجعله يحذر ممّا ابتلى به قوم، ويتمسّك بما سعدوا به. والنظرة هذه تبتنى على رأيه القائل: إنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة.
فباستطاعة الإنسان أن يقارن الحاضر بالماضي، ويهتدى بهدى التجارب التي حصلت فيه للأسلاف. ثم إنّ ما يحفظه الإنسان من التاريخ، كأنه تجارب له، باشرها بنفسه، فأصبح خبيرا بالأمور التي لم يجرّبها فعلا في حياته، حتى إنّه يعرفها بعد ذلك قبل وقوعها، فيستقبلها استقبال الخبر، فيفعل في علاجها الأنسب والأجدى، فيحلّ مشاكله، وينجح في مشاريعه نجاح الخبير الواعي.(1/27)
بيد أنّ مسكويه لا حظ أنّ تلك الأخبار التاريخيّة الحقّة مغمورة بالأسمار، متبدّدة في الخرافات والأساطير التي ليست لها فائدة إلّا استجلاب النوم بها، والتأنّس بالمستطرف منها. فأخذها بالنقد واستخراج ذات القيمة منها، وضرب صفحا عمّا لم يجد فيها قيمة تاريخيّة تجريبيّة وتركها وهو يرى أنّ للأحداث التاريخيّة الحقّة أيضا أنس السمر الذي يوجد في الخرافات والأساطير. إنّ مسكويه لم يثق بروايات ما قبل الطوفان، لفقدانها القيمة التاريخيّة التي ينشدها هو، كما لم يجد في المعجزات تجربة إنسيّة يستطيع الجميع أن يمارسوا مثلها، أو يعتبروا بها، وهذا لا يعنى أنّه ترك ما كان للأنبياء من تدابيرهم البشريّة التي ليست مقرونة بالإعجاز، لأنّ هذا النمط من أخبارهم وارد في صميم ما اهتمّ به مسكويه في كتابة التاريخ. مع العلم بأنّ لمسكويه كتابا في صفات الأنبياء السالفين تحت عنوان: أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السالفين (أنظر التصدير: الآثار) . وهذا ردّ على المستشرق كرادى فو (I ,106) في ما اتّهمه به من أنّه لم يحترم السنّة. وأخيرا، عمد مسكويه إلى أحداث تجرى على البخت والاتّفاق، ممّا هو خارج عن نطاق تدبير الإنسان وقدرته، حتى تكون في حسبانه، ولا تسقط من ديوان الحوادث عنده، وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه.
إنّه لن ينسى ما ضمنه في مقدّمة الكتاب، بل نراه يؤكد هنا وهناك وبمناسبات شتّى، على أغراضه ويصرّ على المضىّ في النهج الذي نهجه لنفسه في عمله. فحينا نراه يبرّر تركه ذكر بعض الأشياء بقوله: «لخروجها عمّا بنينا عليه غرض هذا الكتاب (264 بن 1) ، وحينا يؤكّد على هذا الغرض حتى في عنوان حدث أراد ذكره. ففي عنوان الحديث عن الشورى يقول:
«ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب.» وكذلك، وبعد أن ينقل الحوار الذي جرى بين الإمام على بن أبى طالب والزبير: الحوار الذي أثّر في الزبير حتى أقسم لا يحارب عليّا- لولا وسوسة ابنه له واقتراحه التكفير عن اليمين بعتق غلام له يقال له: مكحول- وبعد إيراده هذا الحدث نراه يقول: «وإنّما حكينا هذه الحكاية لأنّ فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب على قوم فإنّا ننبّه عليه، وذلك أنّ المحنق ربما سكن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتّى من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه.»(1/28)
(550 بن 1) . ولا يهمّه في ذلك شخصيّة القائل أو الفاعل، ولا ينظر إلى من قال أو فعل، بل يهمّه مغزى ما قال أو فعل، من حيث تلاؤمه وأغراضه في كتابه تجارب الأمم. فنراه يستحسن موقفا من مواقف الضحّاك الشهير بالسفك والقتل والظلم، وينقل كلاما منه حيث قال في الإجابة على أمّه البذيئة: «فلمّا هممت بالسطوة بهم (أى: بكابى الاصبهانى وأصحابه عند ما زاروه للتأتّى له واستعطافه- 15- 14 بن 1) وقف الحقّ بيني وبينهم كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت.» ثم يعلّق مسكويه على هذا الكلام بقوله: «فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.» إنّ هذا الالتزام الواعي الذي يبديه مسكويه تجاه منهجه، هو ما لا نراه عند كثير من المصنّفين. فمسكويه، كما قال روزنتال (196، 197) يمثّل مستوى عاليا في الكتابة التاريخيّة، فهو قلّما يهتمّ بالأمور التافهة، بل يدرك كلّ ما له قيمة تاريخيّة جوهريّة، ويعرض الأحداث الهامّة بشكل معقول متماسك.
إنّ المؤرخين المسلمين- ومعظمهم ممّن تأخّر عن مسكويه وتأثّر به بالذات- نظروا إلى التاريخ من حيث هو درس وعظة وعبرة، ولكنّ مسكويه، السابق في هذا المضمار، هو المؤرّخ الوحيد الذي نهج منهج الاستدلال الفلسفي مع ما كان له من نظرة أخلاقية عمليّة برغماتية (Pragmatic) إلى حوادث التاريخ (زرياب: 180- بتصرّف) . إنّك لا تجد بين المؤرّخين المسلمين مؤرّخا عمد إلى التاريخ عن وعى وجدّ، نشدانا للفوائد التي تنطوى عليها أحداثه، بالمستوى الذي عمد إليه مسكويه. إنّه حكيم أخلاقىّ، ومصنّف كتاب حكيم باسم تجارب الأمم. كما هو رائد في الكتابة العلميّة للتاريخ، وأوّل من شقّ الطريق إلى فلسفة التاريخ، ليكون أسوة حسنة فيما بعد، لأمثال رشيد الدين فضل الله (645- 718 هـ) في جامع التواريخ، وابن خلدون (732- 806 هـ) في مقدمته، ثم الكافيجي (القرن التاسع) في كتابه: المختصر في علم التاريخ، والسخاوي (830- 920 هـ) في كتابه: الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التاريخ (زرين كوب: 71، 74- بتصرف) . وهناك ميزة أخرى أشار إليها كيتانى في مقدمته حيث قال: إنّ الأثر الذي بقي لنا من مسكويه، بنى على أساس منهج قريب جدا من المبادئ المتّبعة عند مؤرّخى العالم الغربي والمؤرّخين المتأخّرين، ومسكويه خلافا لسلفه الشهير الطبري الذي استهدف- أساسا- جمع المواد التاريخيّة،(1/29)
وعرضها على ترتيب تاريخىّ لائق، عزم على أن يصنّف تاريخه كبناء عضوي يكون الفكر الأساسى المحدّد عنصرا بنّاء في الكتاب بأسره، رابطا كلّ أجزاء التصنيف بعضها ببعض.
يرى القارئ على صفحات هذا الكتاب عنصرا شخصيا لا يجده في المصنّفات التاريخيّة الأخرى المؤلّفة في تلك الحقبة.
إنّ تجارب الأمم- وبصورة جلّية- عمل فكرى نتج عن ذهن استدلالى بنّاء، يسوده انطباع سام من غرض المؤرّخ وواجبه، وبهذا، يبدى مسكويه فضلا كبيرا على من سبقه أو عاصره من المؤرّخين الذين كتبوا آثارهم باللغة العربية. إنّه لا يرضيه مجرّد جمع المادة التاريخيّة وعرضها في ترتيب تاريخىّ، لأنّه يعتقد أنّ أحداث الماضي تترابط في ما بينها بشبكة من المصالح الإنسيّة. وفي الحقيقة، فإنّ التاريخ- كما يراه مسكويه- ليس غير هذا، كما يرى العاقل في رواية التاريخ الحقّة ينبوعا من العلم الثمين (كيتانى، المقدمة. (IIX- IXL:
إنّ مسكويه لا يميل إلى أحد في كتابة التاريخ، ولا يحيد به عن المنهج القويم أىّ انتماء.
«لقد كتب تاريخه- كما نبّه عليه مرجوليوث أيضا- في حياد تامّ، مع أنّه عاش في خدمة الأمراء والوزراء البويهيّين، وكان من المتوقع أن يشيد بهم ويمدحهم، ولا يتعرّض لنقدهم أبدا، في حين نراه لم يمل إليهم في كتابة التاريخ،» ولم يراع جانبهم في ما كتبه عنهم، بل نراه يؤاخذهم على أشياء في سلوكهم وتدابيرهم.
مصادر مسكويه في كتابة التاريخ
صرّح مسكويه بأنّه لمّا قرأ أخبار الأمم، وسير الملوك، وأخبار البلدان، وكتب التواريخ (أنظر مقدّمة المصنّف) وجد فيها ما تستفاد منه تجربة، وهذا دليل واضح على تعدّد مصادره، في كتابة التاريخ. بيد أنّه اعتمد اعتمادا كلّيا على الطبري (224- 310 هـ.) ، كما اعتمد على المصادر الأخرى التي تتنوّع وتختلف، حسب الفترات التاريخيّة التي أرّخها في تصنيفه، وحسب مصادر كانت في متناوله، بحيث لا يمكن عدّها وحصرها إلّا بعدّ المصرّح منها في الكتاب، وحصر غير المصرّح منها بإرجاع نقول مسكويه المختلفة إلى أصولها وأصحابها، وهذا يتطلّب دراسة مستقلة قد تأخذ وقتا طويلا. فمصادر مسكويه حسب هذه العجالة هي:(1/30)
1. تاريخ الطبري: عوّل مسكويه، أوّلا وقبل كلّ شيء، على الطبري. وذلك بحذف كثير من موادّ الطبري، من مكرّره وما لم يدخل في إطار منهج مسكويه في كتابة تاريخه.
فمسكويه يوازى الطبري ابتداء من العصر الفيشداذى وذكر أوشهنج بالذات، أو ممّا بعد الطوفان حسب تصريحه، إلى سنة 295 هـ، مع العلم بأنّ الطبري استمرّ في تاريخه حتى سنة 302 هـ. ومسكويه ليس المؤرّخ الوحيد الذي ينهل من مناهل الطبري ويعوّل عليه في تصنيفه. فمن هو الذي لم يعوّل على الطبري؟ فها هو ابن الأثير يصرّح في مقدمته (ص 3) قائلا: «فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو المعوّل عند العامّة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه. فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخلّ بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذات عدد، فقصدت أتمّ الروايات، وأضفت إليها من غيرها ما ليس منها ... فلمّا فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة [منها تجارب الأمم] فطالعتها، وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه....» هذه هي الحالة عند جلّ المؤرخين منهم ابن خلدون أيضا (العبر 4: 1140) . إنّهم وجدوا تاريخ الطبري ينبوعا ثرّا يتدفّق منه ذلك الحجم الهائل من المواد التاريخيّة، والروايات المختلفة الكثيرة التي أوردها فيه، دون نقد، أو تعليق، واعيا عامدا ما يفعله، كما صرّح به في مقدمته. ولكن المؤرّخين صاغوا ما أخذوه عن الطبري في قوالب ارتضوها لتصانيفهم، كلّ على شاكلته. ومن هؤلاء مسكويه، الذي أخذ بدوره عن الطبري أخذ نقد واختيار وتمحيص وحذف وإضافة من مصادر أخرى، وفقا لأغراضه التي تحدّث عنها في مقدمة تجارب الأمم.
والجدير بالذكر أنّ هناك مناسبة خاصّة بين مسكويه والطبري يمتاز بها مسكويه من بين سائر المؤرّخين، حيث يعتبر مسكويه تلميذا غير مباشر للطبري في استماع تاريخه عن صاحبه، وقراءة كتابه عليه، والحصول على الإجازة منه. قال مسكويه بهذا الصدد (تجارب الأمم 6: 224) : «وفيها [أى في سنة 350 هـ.] مات أبو بكر أحمد بن كامل القاضي، رحمه الله، ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبى جعفر الطبري، وكان صاحب أبى جعفر، قد سمع منه(1/31)
شيئا كثيرا، ولكنّى ما سمعت منه عن أبى جعفر غير هذا الكتاب، بعضه قراءة عليه، وبعضه إجازة لى، وكان ينزل في شارع عبد الصمد، ولى معه اجتماع كثير.» 2. نفائس المكتبات: لم يكتف مسكويه بالطبرى، حتى بالنسبة إلى القسم الذي قلنا إنّه عوّل فيه عليه تعويلا كليّا (العصر الفيشداذى إلى سنة 295) ، بل أورد في تاريخه نصوصا إيرانيّة عديمة النظير لا نجدها لا عند الطبري ولا عند غيره من كبار المؤرخين من أمثال المسعودي وابن الأثير ومن إليهما، ونخصّ بالذكر عهد أردشير الذي يعتبر من أقدم النصوص الإيرانية المدوّنة التي وصلت إلينا، وكذلك السيرة الذاتيّة لأنوشروان، وخطبته المشحونة، اللتين نقلهما مسكويه عن كتاب كتبه أنوشروان نفسه في سيرته.
من أين أتى مسكويه بهذه النصوص وغيرها ممّا تفرّد بنقلها بين المؤرّخين؟ إنّه كان خازنا لمكتبات البويهيين من أمثال ابن العميد، وابنه أبى الفتح، وعضد الدولة. لقد دامت صحبته أو خزانته سبع سنين لابن العميد فقط (تجارب الأمم 6: 315) ، وكان لفهرس مكتبة ابن العميد 1056 ورقة (44 كراسة لكلّ منها 24 ورقة- متز 1: 297) ولم يثبت في هذا الفهرس إلّا أسماء الكتب، وقد اجتمعت في تلك المكتبة كلّ أنواع العلوم والحكم والآداب، تحمل على مائة وقر وزيادة (تجارب الأمم 6: 262) . وعن مكتبة عضد الدولة حكى لنا المقدسي (الذي كان يختلف إليها، فلا جرم أنّه زار مسكويه أيضا) حيث قال عند وصفه لدار عضد الدولة بشيراز وغرفها وعجائبها:
« ... وخزانة الكتب، عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنّف إلى وقته من أنواع العلوم كلّها إلّا وحصّله فيها، وهي أزج طويل، في صفّة كبيرة، فيه خزائن من كلّ وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوّق، عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضّدة على الرفوف، لكلّ نوع بيوت وفهرستات، فيها أسامى الكتب لا يدخلها إلّا وجيه ... » (المقدسي: 449) .
فلا شكّ أنّ مسكويه استفاد من هذه المكتبات كثيرا من علمه والمواد التاريخيّة التي أوردها في كتابه ممّا لا يوجد عند سائر المؤرّخين سواء ما أضافه في تاريخ ما قبل الإسلام(1/32)
مستمدّا من مصادر إيرانية قديمة موجودة في تلك الخزانات، أو ما أضافه إلى تاريخ ما بعد الإسلام آخذا عن مصادر إسلامية كانت فيها.
3. ثابت بن سنان: هناك فترة تاريخيّة تبدأ من سنة 295 إلى سنة 340 هـ يعتمد مسكويه فيها على مصادر مستقلّة عن الطبري، منها: تاريخ ثابت بن سنان (المتوفى سنة 363 هـ) ابن ثابت بن قرّة الصابي الحرّانى (221- 228 هـ) خال أبى إسحق هلال بن محسن الصابي.
كتب ثابت بن سنان تاريخه ابتداء من خلافة المقتدر (من سنة مائتين ونيّف- القفطي) إلى سنة 360 هـ. فكتب أبو إسحق هلال بن محسّن تتمة لتاريخ ثابت بن سنان وصلت إلى سنة 447 (كلود كاهن، دانشنامه ايران وإسلام) . ومن دلائل كونه مصدرا لمسكويه ما جاء في التجارب 5: 313 حيث قال: «.. وحكى ثابت بن سنان في كتابه أنّ ... » فهذا تصريح من مسكويه أنّه أخذ في تاريخ هذه الفترة عن ثابت بن سنان أيضا.
4. أبو إسحاق الصابي، إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون (هارون) :.... قال الروذراورى في ذيل تجارب الأمم (ص 33) :
«وعمل أبو إسحق الكتاب الذي سمّاه: التاجى في الدولة الديلميّة وهو كتاب إذا عمل منه جزءا حمله إلى عضد الدّولة حتى يقرأه ويصلحه، ويزيد فيه وينقص منه. فلمّا كان تكامل ما أراده حرّر وحمل إلى خزانته. وهو كتاب بديع الترصيف حسن التصنيف، فإنّ أبا إسحاق كان من فرسان البلاغة، الذين لا تكبو مراكبهم ولا تنبو مضاربهم، ووجدنا آخره موافقا لآخر كتاب تجارب الأمم، حتى إنّ بعض الألفاظ تتشابه في خاتمتهما، وانتهى القولان في التاريخ بهما إلى أمد واحد، والكتاب موجود يغنى تأمّله عن الإخبار عنه.» وللكتاب وصاحبه أبى إسحاق الصابي، وسبب تأليفه إيّاه بأمر من عضد الدولة البويهي حكاية طريفة تجدها عند الروذراورى في ذيل تجارب الأمم (ص 30- 33) .
هذا، وقد التبس الأمر علينا في الطبعة الأولى بين إبراهيم الصابي كاتب التاجى وبين حفيده هلال الصابي (384- 359) الذي ذيّل على تاريخ ثابت بن سنان (288- 221)(1/33)
حيث أوردنا (ص 34) على الروذراورى صاحب الذيل فيما قاله بشأن الشبه بين آخر كتاب التاجى وبين آخر تجارب الأمم، الأمر الذي كان في نيّتنا، وذلك بعد صدور الطبعة الأولى ووقوفنا على هذا الالتباس، أن نشير إليه في استدراكاتنا التي رجّحنا أن نثبتها في مجلد الفهارس، أى المجلد الثامن لتجارب الأمم من طبعتنا، غير متوقّعين أنّه سيعاد طبع هذا التصدير قبل أن يطبع مجلد الفهارس. وهنا نشكر زميلنا الدكتور ع. منزوى الذي نبّه بدوره على ذلك في مقدمته الممتعة (ص 21) التي وضعها لترجمته للجزئين الأخيرين من الكتاب اللذين نشرهما مع الذيل آمد روز (القاهرة 16- 1914) .
5. مسكويه مصدرا: مهما يكن من أمر الفترة السابقة، أى التي تنتهي إلى سنة 340 هـ، فإنّ مسكويه بشهوده وعيانه تارة، وبسماعه من الأصدقاء والزملاء الساسة المشايخ تارة أخرى، يعتبر مصدرا حيّا لكتابة تاريخه. لقد صرّح مسكويه بذلك في بداية ذكر الحوادث لتلك السنة حيث قال:
«أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة (340 هـ) فهو مشاهدة وعيان، أو خبر محصّل، يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد- رضى الله عنه- خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره، وما اتفق له فيها، فلم يكن إخباره لى دون مشاهدتى في الثقة به، والسكون إلى صدقه، ومثل أبى محمد المهلّبى- رحمه الله- خبّرنى بأكثر ما جرى في أيّامه، وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة، وحدّثنى كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة، وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي، فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.» وهكذا يصل تاريخه إلى سنة 369 هـ. مع أنّه عاش حتى سنة 421 هـ. أى لمدة نصف قرن، تاركا كتابة تاريخ تلك المدّة. وبالرغم من ذلك، فإنّ تجارب الأمم عرف كمصدر أساس لا يستغنى عنه لدراسة القرن الرابع الهجري والعصر البويهي الذي يعتبر ألمع العصور الإسلامية علما وحضارة
.(1/34)
تجارب الأمم: اسمه
اسم الكتاب هو: تجارب الأمم، كما سمّاه مسكويه نفسه في مقدمته حيث قال: «..
فجمعت هذا الكتاب وسمّيته: تجارب الأمم.» وقد ذكره بضبط أمين كلّ من ياقوت 5: 10، وابن الأثير 7: 118، 8: 86، وكذلك القفطي: 331، والبيهقي: 18- 19، وابن خلكان 2:
19، وابن خلدون 3: 772، والخوانساري 1: 255، وغيرهم. ولكنه ورد بزيادة «عواقب الهمم» عند كل من أبى سليمان في الصوان: 347، والروذراورى في الذيل: 5، والسخاوي نقلا عن عمر بن الفهد الهاشمي المكي في إتحاف الورى (روزنتال: 441) . والزيادة عند العاملي 10: 146 هي «تعاقب الهمم» وهي ضبطت عند كيتانى (Caetani) في مقدمته LTaaqib بكسر القاف وهو خطأ. والزيادة هذه إنما نشأت عن أسلوب السجع في عنونة المصنفات، الأسلوب الذي طالما ساد أو ساط الكتّاب والنسّاخ طيلة القرون ممّن لم يرضوا بما سمّاه المصنفون تصانيفهم، فشفعوا أسماءها بما شاء لهم السجع والصنعة المتكلّفة، بالرغم من تصريح المؤلّفين في ضبط أسماء آثارهم. ولذلك نرى الشطر الثاني: «عواقب الهمم أو: تعاقب الهمم» موضوعا مختلقا، لأنّ مسكويه وهو صاحب الكتاب، أثبت اسم كتابه في مقدمته بقوله: «تجارب الأمم» لا أكثر ولا أقلّ، حيث قال: «فجمعت هذا الكتاب وسمّيته تجارب الأمم» . والغريب في الأمر أنّ الناسخ الذي انتسخ هذه المقدّمة وتصريح المصنّف باسم كتابه، نراه في عبارات الختام والفراغ، وقد أضاف على الاسم شطرا ثانيا تارة، وقدّم الشطر الثاني على الشطر الأوّل تارة أخرى. أى كتب مرّة: «تجارب الأمم وعواقب الهمم» ، ومرّة: «عواقب الهمم وتجارب الأمم» !
تجزئة تجارب الأمم
إنّ التجزئة الكاملة الوحيدة التي وصلت إلينا من تجارب الأمم هي تجزئة مخطوطة أيا صوفيا وهي ستّة أجزاء. أمّا مخطوطة ملك (مط) فهي في مجلّد واحد كبير، وليس فيه تجزئة، اللهم إلّا إشارة بسيطة في الهامش تدل على أنّ المخطوطة انتسخت عن نسخة كانت(1/35)
على ثلاثة أجزاء، دون أىّ إشارة إلى عبارات الافتتاح من البسملة والتحميد وغير ذلك.
وهذا التثليث يبدو أيضا ممّا بقي من مخطوطة ملك الثانية (مح) ، أو مخطوطة آستان قدس (آ) ، فهما أيضا كانتا في الأصل ثلاثة أجزاء.
أمّا تجزئة أيا صوفيا فهي تجزئة كمّية، أى لم يعتبر فيها التقسيم التأليفي الذي يبتنى عادة على المواضيع الرئيسة، أو الفترات التاريخيّة المحدّدة خاصّة في أثر تاريخىّ مثل تجارب الأمم. لذلك يرى القارئ أنّنا نقلنا 43 صفحة من بداية الجزء الثاني وأضفناها إلى نهاية الجزء الأوّل، أوّلا لإكمال الفصل الأخير من الجزء الأوّل، ثانيا من أجل إكمال عصر ما قبل الأموى، وسنراعى هذا المبدأ في الأجزاء الباقية أيضا إذا اقتضى الحال.
ومن ناحية أخرى، قسمنا الجزء الأوّل إلى قسمين: قسم خاصّ بما قبل الإسلام وهو مفصّل بدوره إلى فصول حسب عصور الأسر الحاكمة الإيرانية مثل: الفيشداذية، والكيانيّة، والأشغانيّة، والساسانيّة، وقسم آخر خاص بالعصر الراشدي، وفيه فصول حسب أيّام الخلفاء. أمّا بالنسبة للعصر الأموى والعصر العباسي أيضا سنراعى مبدأ التقسيم والتفصيل مهما أمكن.
أمّا العناوين الفرعيّة التي كانت في أصل المخطوطة لم نجدها كافية لإرشاد القاري إلى موادّ الكتاب ومواضيعه، ولذلك اخترنا لها عناوين جديدة مناسبة وضعناها في أماكنها.
ومما دفعنا إلى ذلك، أنّنا وجدنا بين مخطوطات الكتاب، ومن حيث العناوين الفرعيّة اختلافا، سواء في وجود عنوان ما، أم في عدمه، أو في صياغة عبارته، ممّا برهن على أنّ غير المصنف من النسّاخ وغيرهم، هم الذين وضعوا قسما من هذه العناوين الفرعيّة الّتى لا تؤثّر دون شكّ على نظرة الباحث المدقق الذي ينظر في نصّ الكتاب.
مخطوطات تجارب الأمم
لم يصل إلينا من مخطوطات هذا الكتاب إلّا القليل، لا سيّما إذا كان المراد المخطوط الكامل المشتمل على كل أجزائه. وهذه المخطوطات بغضّ النظر عن كمالها ونقصها هي:
1. أيا صوفيا (الأصل) : مخطوط كامل في ستة أجزاء محفوظ في أيا صوفيا بأسطنبول(1/36)
برقم 3116 إلى رقم 3121. انتسخه محمد بن على بن محمد أبو طاهر البلخي بكامل أجزائه، بحيث فرغ من انتساخ الجزء الأوّل في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسمائة (505) ومن انتساخ الجزء السادس والأخير منه في منتصف شهر ربيع الأول سنة ستّ وخمسمائة (506) . أى في مدة سنة واحدة. قطعه صغير، وفي الصفحة الواحدة منه 12 سطرا، وفي كل سطر 13 كلمة. أوّل هذه المخطوطة أى في فاتحة الجزء الأوّل وبعد البسملة والتحميد: «قد أنعم الله علينا ... » وآخرها أى في نهاية الجزء السادس: «إلّا أنّه لم يظهر أمره لأحد. هذا آخر ما عمله الأستاذ أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه رضى الله عنه والحمد لله وصلواته على محمد النبىّ وآله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.» أما تجزئة الكتاب في هذه المخطوطة فهي كما يلي:
الجزء الأول (أيا صوفيا، رقم 3116، 296 ورقة: 591 صفحة) . تاريخ النسخ: ربيع الأول سنة خمس وخمسمائة (505) . يشتمل هذا الجزء على الحوادث التاريخية منذ العصر الفيشداذى الإيرانى حتى سنة 37 هجرية.
الجزء الثاني (أيا صوفيا، رقم 3117، 297 ورقة: 593 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 120، والصورة رقم 290) . ويشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 38 إلى سنة 103 هجرية.
الجزء الثالث (أيا صوفيا، رقم 3118، 297 ورقة: 593 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 121، والصورة رقم 244) . يتضمن هذا الجزء على حوادث سنة 104 إلى سنة 191 هجرية.
الجزء الرابع (أيا صوفيا، رقم 3119، 290 ورقة، 580 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 122، والصورة رقم 293) . يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 191 إلى سنة 233 هجرية.
الجزء الخامس (أيا صوفيا، رقم 3120، 293 ورقة: 585 صفحة) تاريخ الانتساخ: شهر محرّم سنة ست وخمسمائة (506) . يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 234 إلى 326(1/37)
هجرية.
الجزء السادس (أيا صوفيا، رقم 3121، 260 ورقة: 520 صفحة) تاريخ الانتساخ:
منتصف شهر ربيع الأول سنة ستّ وخمسمائة (506) . يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 326 إلى سنة 396 هجرية.
ما نشر من هذه المخطوطة: نشر كيتانى (L.Caetani) الجزء الأوّل، والجزء الخامس، والجزء السادس من المخطوطة (ليدن 1909، 1913، 1917 م) عن مؤسسة جب (Gibb) التذكارية، طبعة فتوغرافيّة. (facsimileedition) إنّه قدّم الجزأين الخامس والسادس على الأجزاء الأخرى (الثاني والثالث والرابع) نظرا لكونهما مكمّلين لتاريخ الطبري. وكان مشروع المؤسسة يقضى بأن يعود كيتانى وأعوانه إلى العمل لنشر الأجزاء الوسطى (2، 3، 4) بعد الفراغ من الجزأين الأخيرين (كيتانى، مقدمة الجزء الخامس (XIV:ولكنّهم لم يوفّقوا في إنجاز مشروعهم لأسباب قد تكون ظروف الحرب العالمية الأولى منها. فلم تنشر تلك الأجزاء وبقيت بعيدة عن متناول الباحثين.
امّا الملاحق التي ألحقت بهذه الطبعة (طبعة كيتانى الفتوغرافية) فهي في الجزء الأول:
مقدمة لكيتانى (5 صفحات) وكلمة آمد روز (Amedroz) عن حياة مسكويه (13 صفحة) وملخّص لمضمون الجزء الأول بقلم ملونى (G.Meloni) وفهرس أعلام لملونى أيضا، كما ألقى لى سترنج (G.LeStrange) نظرة على الملخص والفهرس قبل إرسالهما إلى المطبعة.
وفي الجزء الخامس، مقدمة لكيتانى أيضا (4 صفحات) مع ملخص وفهرس. أمّا الجزء السادس فليس معه غير مقدّمة كتبها لى سترنج (صفحتان) .
أمّا ما نشره آمد روز (مد) فهو الجزءان الخامس والسادس من هذه المخطوطة (القاهرة شركة التمدن 1914، 1915 م) بإسقاط 56 صفحة من أوّل الجزء الخامس وضمّ 28 صفحة من الجزء السادس إلى الجزء الخامس، كما نشر معهما جزءا ثالثا يتألّف من ذيل تجارب الأمم للوزير أبى شجاع محمد بن الحسين الملقّب بظهير الدين الروذراورى (من سنة 369 إلى سنة 389 هجرية) ، وجزءا رابعا يتشكّل من الجزء الثامن من تاريخ أبى الحسين هلال(1/38)
بن المحسّن بن إبراهيم الصابي الكاتب (من سنة 389 إلى سنة 393) وهذان الجزءان صدرا في مجلّد واحد تحت عنوان: ذيل تجارب الأمم (القاهرة شركة التمدن 1916 م) ، مع العلم بأنّ آمد روز لم يوفّق في إكمال تحقيق نصّ الذيل بسبب وفاته، فتابع عمله مرجوليوث، فحقّق النصف الباقي منه (مرجليوث، المقدمة. (I:فكلّ ما نشره آمد روز هو مجلدان (5، 6) من تجارب الأمم، ومجلد ثالث عرف بذيل تجارب الأمم (ذيل الروذراورى الجزء الثامن من تاريخ هلال الصابي) . والأجزاء الثلاثة هذه (نشرة آمد روز) نشرت بترجمة إنجليزية (ثلاثة أجزاء) ترجمها مرجوليوث بمقدّمة من 11 صفحة وفهرس من 144 صفحة (جزء واحد) والمجموع من النصّ العربي والترجمة الإنجليزية والفهرس سبعة أجزاء، تحت عنوان) AbbasidCaliphate:أكسفورد 1920- 1921 م) .
أمّا نشرتنا هذه، كما هي بين يدي القارئ، فتشمل أجزاء تجارب الأمم الستّة مع الذيل:
الجزء السابع، والفهارس: الجزء الثامن، لنكون قد نشرنا الكتاب ولأوّل مرّة بأجزائه الكاملة (طهران، سروش 1987- 2001 م) كما ستشمل ترجمة الكتاب إلى اللغة الفارسيّة التي نشر الجزء الأوّل منها حتى الآن (طهران، سروش 1990) ، وليكتمل العمل وفي نهاية المطاف، في 16 جزءا، فنكون بذلك قد أسهمنا في سدّ الفراغ الذي طالما شغل بال الكثيرين من المعنيّين بالدراسات التاريخية الإسلامية الإيرانية.
2. ملك (مط) برقم 4145. نسخة كاملة من حيث الكمّية، في مجلّد واحد من القطع الكبير. عدد صفحاتها 1014، في كلّ صفحة منها 25 سطرا ولكل سطر 21 كلمة. هي مثل أيا صوفيا في أوّلها وآخرها. وعبارة الفراغ في الختام هي: «قد تمّ الفراغ من هذه المسودّة في عشر (العشر) الأوّل من شهر ذى الحجّة الحرام في الليلة (ليلة) الأضحى منه، من سنة أربع وتسعين ومائتين بعد الألف (1294) من الهجرة المقدسة، على يد أقلّ الطلّاب والسادات محمود الطباطبائى الأردستانى الإصفهانى.» خط النسخة نسخىّ جميل مقروء، ولكنّ الهفوات والأخطاء الناتجة عن قلّة الثقافة لدى الناسخ، حطّت من قيمتها كنسخة.
وسيأتي الكلام عنها في مكانه.(1/39)
3. ملك الثانية: (مح) برقم 4324. عدد أوراقها 231 وعدد صفحاتها 462، بالقطع المتوسط، في كلّ صفحة منها 21 سطرا. انتسخه محمد بن داود الحسيني المشهدي في سنة 1307 هجرية. أولها: «ودخلت سنة إحدى ومائة وفيها ولى يزيد بن عبد الملك الخلافة ... » وآخرها: «.. واتصل خبر انصرافه بالمهتدى، فكتب إليه في ذلك كتابا (كتبا) كثيرة، فلم يؤثر (تؤثّر) شيئا، فلمّا نظر ... ، تمت ... » . تشتمل المخطوطة هذه على حوادث سنة 101 إلى سنة 256 هجرية. فهي مخطوطة ناقصة.
4. آستان قدس: (أ) برقم 4090، جامعة طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 1638 والصورة رقم 3/ 6188 (ثلاثة أقسام) عدد الأوراق 257، وعدد الصفحات في الأقسام الثلاثة 514 صفحة. أوّلها بعد البسملة والحمدلة: «ودخلت سنة إحدى ومائة» وآخرها: «وخرج واتصل خبر انصرافه بالمهتدى، فكتب إليه كتابا [كتبا] كثيرة، فلم يؤثّر (تؤثّر) شيئا. فلمّا نظر ... » تشبه في أولها وآخرها مخطوطة ملك الثانية (مح) . يعود تاريخ انتساخ المخطوطة إلى شعبان سنة 1297 وهذه المخطوطة ناقصة أيضا كمخطوطة ملك الثانية.
5. باريس 5838 (Shefer ,A.B 1) :بن Paris ,Bib 1.Nat.,Arab نسخة ناقصة تشتمل على حوادث سنوات 249- 315 هجرية فقط. (كيتانى، المقدمة. (XIII:
6. بودلى 357 ,UriI ,No.804) :بن. (LMarsh وهذه النسخة تشتمل على حوادث 340- 365 هجرية. (كيتانى المقدمة. (XIII:
7. أمستردام: مخطوطة ناقصة تشتمل على حوادث سنة 196 إلى سنة 251 هجرية (101 بن Cat.deJong كيتانى، المقدمة (XIII:أوّلها ناقص بأكثر من سطرين، ثم تبدأ هكذا:
«.. أمر العراة باتخاذ تراس من البواري، وبالرمي بالمقاليع ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب، ووكّل الأمر كلّه إلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى الهرش ... » وآخره: «.. ونزل الحسين بالقرب من دممّا. نجز الكتاب ... ويتلوه في الجزء السادس: ذكر رأى أشير به عليه صواب. والحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على محمّد النبىّ وآله الطاهرين وسلّم.»(1/40)
نشر المخطوطة دى خويه (M.J.DeGoeje) بترجمة لاتينيّة ومقدمة (بريل 71- 1869 م) تحت عنوان entaHistoricorum:كما نشرت مرّة ثانية بالأفست وبحذف الترجمة اللاتينية (بغداد، المثنّى، دون تاريخ) تحت عنوان: العيون والحدائق، لمؤلف مجهول (من خلافة الوليد بن عبد الملك إلى خلافة المعتصم) ويليه مجلّد من تجارب الأمم. والعنوان الخاص بقسم تجارب الأمم هو: تجارب الأمم، تأليف أبى على أحمد بن محمد بن يعقوب «بن» مسكويه، الجزء السادس. فالنشرة هذه هي من قسمين: القسم الأوّل هو الجزء الثالث المتبقّى من كتاب «العيون والحدائق في أخبار الحقائق» (عح) اشترك (يونج (P.DeJong مع دى خويه في تحقيقه، والقسم الثاني وهو جزء صغير من تجارب الأمم (تد) حقّقه دى خويه وحده. (من صفحة 411 إلى صفحة 583، المجموع: 172 صفحة مطبوعة) .
8. اسكوريال.Escorial ,No.1704.Cat.1709:نسخة ناقصة تشتمل على حوادث سنة 36 إلى سنة 67 هجرية (كايتانى، المقدمة. (XIII،
تحقيق النصّ
وبمقارنة بسيطة بين هذه المخطوطات التي وصفناها، يتّضح أنّ المخطوطة الكاملة الوحيدة التي عرفت في العالم حتى الآن، هي مخطوطة أيا صوفيا، وهي التي يؤهّلها تاريخها المتقدّم (605- 606 هـ) وأصالتها وصحتها نسبيّا لأن تكون أساسا لعملنا في تحقيق نصّ الكتاب، وإخراجه بجميع أجزائه. لأنّ سائر المخطوطات، كما أشرنا إليه، ناقصة تشمل أجزاء متقطعة من الكتاب، وحتى لو سنح لنا جمع أشتاتها من مكتبات العالم، وضمّ بعضها إلى بعض، لا تعطينا النصف من نصّ الكتاب. لأنّها إمّا تكرار لبعض أجزاء الكتاب وإمّا متقطّعة لا صلة بين بعضها والبعض الآخر (أنظر السنوات التي تشتمل عليها هذه الأجزاء) .
وأمّا مخطوطة (مط) فهي برغم اشتمالها على كلّ الكتاب، فهي مخطوطة متأخرة (أنظر(1/41)
تاريخ الانتساخ) من ناحية، ومليئة بأخطاء الاستنساخ من ناحية أخرى. وأمّا كثرة الأخطاء والتصحيفات فيها فترجع في ما نظنّ، إلى أمرين: أولهما عدم وضوح الخطّ في الأصل الذي نقل عنه الكاتب، وثانيهما عدم الثقافة اللازمة لمثل هذا العمل عند هذا الكاتب. ولذلك بالذات، ظهرت في هذه المخطوطة أخطاء فادحة وتصحيفات عجيبة كثيرة تبلغ عشرين إلى ثلاثين خطأ في صفحة واحدة، وهي وصلت فعلا حوالى الخمسين في الصفحة الأولى من الكتاب من خطأ وبياض.
وهنا لا بأس في أن نذكر نماذج من أخطاء هذه المخطوطة ليقف القارئ على نوعيّة الأخطاء، ومن ثمّ على قيمة هذه المخطوطة السلبيّة: لقد كتب الناسخ خطأ «عمر بن خان» بدل «غزا برجان» ، و «عهته» ! بدل «عرضه» ، و «على حاله مؤخرا» ! بدل «على خاله سوخرا» ! و «أبوال» ! بدل «أموال» ! و «يعرضوا السن» بدل «صغير السنّ» ! و «فطرر بن» بدل «وضرار بن» ! و «ما قدر جمعا إنّك في هذا الأمر» ! بدل «ما قدر جعالتك في هذا الأمر» ، و «قبالة بخطه» ! بدل «قبالة لحظه» ! و «ناش» ! بدل «باشر» ، و «وكان سعد هذا تزوّج أمّه خدمة لجذيمة» ! بدل «تزوّج أمة تخدم لجذيمة» ! و «خر شدن» بدل «خر شيدان» ! وأخطاء كثيرة أخرى، لا جدوى لذكر جميعها.
وبالنظر إلى الحالة هذه، فإنّا اعتمدنا أساسا على نسخة أياصوفيا (الأصل) ثم (مط) كما استعنّا بالأصول التاريخية خاصة بالطبرى، وبالمخطوطات الناقصة الموجودة في متناولنا مثل: مح، آ، تد، (والأخيرة عن طريق نشرة دى خويه) كما استعنّا بصورة غير مباشرة بالمخطوطتين اللتين استفاد منهما الدكتور احسان عباس في نشرته لعهد أردشير التي رمز إليها ب: ر، غ، خصيصا لتحقيق العهد (أنظر مقدمته لنشرته) .
ونعنى بالأصول التاريخية، تاريخ الطبري، والكامل لابن الأثير، والآثار الباقية للبيرونى، وسير الملوك للثعالبي، والمروج للمسعودي، وحمزة والدينوري وغيرها. وهذه- ما خلا الطبري- استفدنا منها في قسم ما قبل الإسلام، أى ما يخصّ بالتاريخ الإيرانى القديم، لا سيّما في تحقيق الأعلام الإيرانية.(1/42)
وأمّا بالنسبة للطبري (طبعة أوروبا) فانّنا استفدنا منه الكثير سواء بالنسبة للاعلام، أو بالنسبة لإزاحة الشكوك في قراءة الكلمات والعبارات، وملأ الفراغ الناتج عن البياض والسقط والانمحاء والخرم وغيرها، ولا سيما من حواشي الطبري في نشرة دى خويه المليئة باختلاف النسخ، حيث إنّ الطبري منهل كبير ارتوى منه جلّ المؤرخين الآتين بعده ومنهم مسكويه. وهذا بالنسبة للفترة التاريخية الطويلة التي اشترك فيها الطبري ومسكويه في ذكر أحداثها، وأمّا بالنسبة للزمن الزائد عليها (العصر البويهي عند مسكويه) فرأينا أن نقارن النصّ مع أصول أخرى متأخرة عن الطبري حسب إلحاح الحاجة لأنّ الطريق كان معبّدا في هذا القسم من العمل وإلى حدّ ما، بعد أن نشر آمد روز الجزأين الخاصّين بهذا العصر مع الذيل، فذلّل لنا بعض الصعاب مشكورا.
والجدير بالذكر أنّنا ذكرنا صفحات الإرجاع في كلّ مقارنة عملناها بين الأصل والطبري، مع ما في هذه المقارنة من صعوبات، لأنّ المقارنة بين نصّ ما، ونصّ يخالفه في الحجم وترتيب الموادّ، تتطلّب أناة، ولكنّها في نفس الوقت عمل فيه نفع كبير للباحثين.
وفي تاريخ ما قبل الإسلام، أى أوائل الجزء الأول، يوجد كثير من الأعلام الإيرانيّة القديمة ذات جذور في اللغات الفهلويّة والأفستائيّة وغيرها، ضبطت وصحّفت في الأصول التاريخيّة ومنها تجارب الأمم، بصور شتّى، أوّلا: بسبب غرابة أشكالها في أصلها القديم، ثانيا: اللعب الذي لعبته اللغة العربيّة في تعريبها ثالثا: عبث الكتّاب والنساخ بها. وهذا هو ما أدّى إلى أشكال غريبة من التحريف والتصحيف. لذلك أرجعنا- قدر المستطاع- مثل هذه الأعلام إلى أصولها في الحواشي، بعد إثبات اختلاف صور الضبط فيها، مستفيدين من عمل سابق قمنا به بهذا الصدد، معوّلين على قواميس اللغات الإيرانيّة القديمة ودراسات الإخصائيين في هذا المجال. وممّا هو جدير بالذكر هنا، أنّه، لمّا كانت الأعلام كثيرة متوالية في الصفحات الأولى من الجزء الأوّل، وذلك لاختصار تقارير مسكويه لتلك الفترة، لذلك، نرى حواشي تلك الصفحات مكثّفة، مع أنّنا حاولنا- قدر المستطاع- تلخيص تعاليقنا وإثباتها بأوجز وجه. وكذلك حاولنا شرح الأعلام الجغرافية، أو بعض الكلمات، قدر ما(1/43)
تيسّر وسنحت لنا فرص البحث والتتبع، أو بدافع حاجتنا في تحقيق الكلمة وضبطها، دون أن نكون قد وفّقنا في شرح كلّ تلك الأعلام أو المفردات. كما استعملنا لهذا الغرض الرموز الصوتية الدولية، ولكن بشيء من التغيير الذي دفعتنا إليه الظروف المطبعيّة، فأصبحت الرموز كما يلي:
(الفارسيّة V (هـ) h الكسرة العربية) إ Ai ا a خ x ش) sh بالمدّ) اى I آ a ى y ث th ج ch چ j ز z أو u ا o ذ zh ژ dh و w غ gh گ g وقد اتبعنا في رسم الكلمات وكذلك في إثبات الحوار الوارد في النصّ وما إلى ذلك، معدّل الطرق الحديثة المقترحة في تحقيق النصوص، ممّا يتلاءم وطبيعة نصّ تاريخىّ مثل تجارب الأمم، وبالنتيجة، فقد غيّرنا ضبط رهط من الكلمات نثبت هاهنا نماذج منها: أثبتنا:
أثنائها بدل أثنايها، وبقاؤه، بقاءه، بقائه بدل بقاه، والحياة بدل الحيوة، وتدنو بدل تدنوا، وإساءة بدل إسآة، وجاءت بدل جآت، وابنة بدل ابنت، وثمانين بدل ثمنين، وحارث بدل حرث، ورؤوس بدل رؤس، وسبعة آلاف بدل سبعة ألف، وأربعة آلاف بدل أربعة ألف، وأيّة، بدل أيّت، وما إليها.. وأمّا، بشأن إثبات الحوار فقد اتبعنا المناهج المألوفة ليكون النصّ عند القراءة، أوضح وأنطق، ووضعنا العبارات المنقولة بين «» ، كما جعلنا كلّ كلمة دخيلة مقحمة ممّا نقلناها عن الأصول الأخرى، أو اقترحناها نحن، جعلناها بين [] ، حفظا للأمانة وحرصا على أصالة النصّ، وأثبتنا رقم صفحات مصورة كيتانى، أى صفحات المخطوطة، بين [] ، أوّلا: لتسهل على القارئ المقارنة بين نشرتنا وبين الأصل إن شكّ في صحّة ما أثبتناه، ثانيا:
لسهولة المراجعة حسب الإرجاعات الموجودة في دراسات الباحثين، ثالثا: لسهولة(1/44)
الإرجاعات الداخلية التي احتجنا نحن إليها، خصيصا بالنظر إلى ثبوت مواضعها قبل الطبع وبعده. ثم يرى القارئ أنّنا أوردنا النصوص الطويلة الهامّة بسطور أقصر تمييزا بينها وبين النصّ العادي، وما إلى ذلك من القواعد المألوفة.
وفي الختام أشكر الله على أن وفّقنى لإتمام هذا العمل الملتوى المضنى، الذي طالما فكّرت في إنجازه، كما أقدّر الجهود التي بذلتها دار سروش للنشر، بمن فيها من أصحاب القرار، والمباشرين، والمتعاملين معهم من خارجها، منذ بدء هذا العمل حتى الآن، أشكرها على تحمّلها أعباء مراحل طبع هذا السفر التراثىّ الكبير، علما منها بأنّ جهدها هذا سينعكس في إثراء المكتبة العالمية، وذلك في حقل الدراسات الإسلاميّة الإيرانيّة، التاريخيّة، والحضاريّة.
وأشكر أخيرا- وهل يبرئ الشكر ذمّة المدين؟ أشكر قرينتي الفاضلة التي وقفت بجانبي في أشدّ اللحظات واستظهرت بها وبدورها المشجّع في آناء التواني والفتور، فلولا ذلك لما أمكننى إنجاز هذا العمل، كما أشكر ابنىّ العزيزين آرش ومازيار، الذين حرموا وفي أغلب الأحيان من كامل حضورى بينهم، حيث طال ما انزويت في مكتبتى بمنأى عنهم وعن الإسهام معهم في تفاصيل الحياة العائليّة. فلا أقلّ من أنّ أهديهم حصيلة هذا الجهد، رمزا لأداء ما فاتنى من الواجب تجاههم، متمنّيا أن يعوّضهم الله حياة طويلة عريضة، ملؤها السلامة والسعادة والهناء. والله ولىّ التوفيق.
الدكتور ابو القاسم امامى شتاء 1379 ش./ 1421 ق./ 2001 م..(1/45)
مقدّمة المصنّف
الحمد لله ربّ العالمين [1] حمد الشاكرين، وصلواته على محمّد النبيّ وآله أجمعين [2] . قد أنعم الله علينا، معاشر خدم مولانا الملك السيّد الأجلّ، وليّ النعم- أطال الله بقاءه، وأكبّ أعداءه، وحرس ملكه، وأعزّ سلطانه- لمّا أخرجنا في زمانه، وأنشأنا في أيامه، وبوّأنا ظلّه، وأنزلنا كنفه، وجعلنا من خاص خدمه.
فنحن نتقلّب [3] من نعمه فيما لا شكر له غير الدعاء، ولا ثمن له غير الثناء، فنسأل الله بأخلص نيّة وأصدق طويّة، إدامة أيّامه، والإمتاع بما خوّلناه من إنعامه، إنّه جواد كريم.
وإنّى لمّا تصفّحت أخبار الأمم، وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان، وكتب التواريخ، وجدت فيها ما تستفاد منه [2] تجربة لا تزال [4] يتكرّر مثلها وينتظر حدوث شبهها وشكلها: كذكر مبادئ الدول، ونشء [5] الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافى من تلافاه وتداركه إلى أن عاد إلى أحسن حال، وإغفال من أغفله واطّرحه إلى أن تأدّى إلى الاضمحلال والزوال، وذكر ما يتّصل
__________
[1] . ربّ العالمين: سقطت من مط.
[2] . التصلية في مط: وصلّى الله على نبيّه وآله أجمعين.
[3] . تقلّب في الأمر: تصرّف فيها كيف يشاء. يقال: فلان يتقلّب في أعمال السلطان وفي نعمائه.
[4] . مط: لا يزال.
[5] . مط: ونشر.(1/47)
بذلك من السياسات في عمارة البلدان، وجمع كلم الرعيّة، وإصلاح نيّات [1] الجند، والحروب ومكايد [2] الرجال، وما تمّ منها على العدوّ، وما رجع على صاحبه، وذكر الأسباب التي تقدّم بها قوم عند السلطان، والأحوال التي تأخّر لها آخرون، وما كان منها [3] محمود الأوائل مذموم العواقب، وما كان بضدّ ذلك، وما استمرّ أوّله وآخره على سنن [4] واحد، وذكر سياسات [3] الوزراء، وأصحاب الجيوش، ومن أسند إليه حرب وسياسة، أو تدبير أو إيالة، فوفى بذلك وتأتّى له [5] ، أو كان بخلاف ذلك.
ورأيت [6] هذا الضرب من الأحداث، إذا عرف له مثال مما تقدّم، وتجربة لمن سلف، فاتّخذ إماما يقتدى به، حذر مما ابتلى به قوم، وتمسّك بما سعد به قوم.
فإنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة، وصار جميع ما يحفظه الإنسان من هذا الضرب كأنّه تجارب له، وقد دفع إليها، واحتنك [7] بها، وكأنّه قد عاش ذلك الزمان كله، وباشر تلك الأحوال بنفسه، واستقبل أموره استقبال الخبر [8] وعرفها قبل وقوعها، فجعلها نصب عينه وقبالة لحظه [9] ، فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها. وشتّان بين من كان بهذه الصورة وبين من كان غرّا [10] غمرا [11] لا يتبيّن الأمر إلّا [4] بعد وقوعه، ولا يلاحظه إلّا بعين الغريب منه، يحيّره [12] كلّ
__________
[1] . مط: يثاب
[2] . مط: ومكانة.
[3] . مط: ومنها ما كان.
[4] . السنن: الطريقة والمثال.
[5] . مط: وتأنى له.
[6] . الكلمة غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه يؤيّده ما في مط.
[7] . احتنكت السنّ الرجل: حنكته، أى: أحكمته التجارب وجعلته حكيما.
[8] . مط: بياض. يقال: أخبرنى بذلك الخبر: العالم بالخبر. وفي ما نقله بعض الباحثين عن هذه المقدمة:
«الخبير» ، وما أثبتناه هو الصحيح نصّا.
[9] . مط: «قبالة بخطه» ! بدل «قبالة لحظه» .
[10] . هو غرّ: غير مجرّب.
[11] . صبىّ غمر: لم يجرّب الأمور.
[12] . مط: ويجبره.(1/48)
خطب يستقبله، ويدهشه كلّ أمر يتجدّد له.
ووجدت هذا النمط من الأخبار مغمورا بالأخبار التي تجرى مجرى الأسمار والخرافات التي لا فائدة فيها غير استجلاب النوم بها، والاستمتاع بأنس المستطرف منها، حتى ضاع بينها، وتبدّد في أثنائها، فبطل الانتفاع به، ولم يتصل لسامعه وقارئه اتصالا يربط بعضه بعضا، بل تنسى النكتة منها قبل أن تجيء أختها، وتتفلّت [1] من الذهن قبل أن تقيّدها نظيرتها، ويشتغل الفكر بسياقة خبرها دون تحصيل فائدتها.
فلذلك، جمعت هذا الكتاب، وسمّيته تجارب الأمم. وأكثر الناس انتفاعا به وأكبرهم حظّا منه، أوفرهم قسطا من الدنيا، كالوزراء، وأصحاب الجيوش، وسوّاس المدن، ومدبّرى أمر [5] العامّة والخاصّة. ثم سائر طبقات الناس. وأقلّ الناس حظّا، لا يخلو [2] أن ينتفع به في سياسة المنزل، وعشرة الصديق، ومداخلة الغريب، ولا يعدم مع ذلك، أنس السمر الذي يوجد في القسم الآخر الذي اطّرحناه.
وبعد، فلو كان الخادم لا يتقرّب إلّا بما يعزّ وجوده عند سلطانه، ولا يلطف في الخدمة إلّا بما لا يجد مثله، لانقطعت أسباب الهدايا والتحف، وارتفعت الملاطفات بالآداب والطرف [3] ، ولا سيما عند من كان في علوّ الهمّة، وتوقّد القريحة، وحفظ الآداب، وسياسة الملك والرعيّة في الخير، على ما عليه الملك السيّد، أدام الله سلطانه [4] .
وأنا مبتدئ بذكر الله ومنّته، بما نقل إلينا من الأخبار بعد الطوفان، لقلّة الثقة بما كان منها قبله، ولأنّ ما نقل [إلينا] [5] أيضا لا يفيد شيئا مما عزمنا على ذكره [6]
__________
[1] . مط: وتنقلت.
[2] . رسم الأصل: لا يخلوا.
[3] . مط: والطرق. الطرفة: كلّ شيء مستحدث عجيب.
[4] . مط: ظلاله.
[5] . إلينا: أضفناها عن مط.(1/49)
وضمنّاه [1] في صدر الكتاب. ولهذا السبب بعينه، لم نتعرّض لذكر معجزات الأنبياء- صلوات الله عليهم- وما تمّ لهم من السياسات بها، لأنّ أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهمّ إلّا ما كان منها تدبيرا بشريّا لا يقترن بالإعجاز.
وقد ذكرنا أشياء مما يجرى على الاتّفاق والبخت [2] وإن لم يكن فيها تجربة، ولا تقصد بإرادة. وإنّما فعلنا ذلك لتكون هي وأمثالها في حساب الإنسان وفي خلده [3] ووهمه، لئلّا تسقط من ديوان الحوادث عنده وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه إلّا بالاستعانة بالله، ولا توقّعا لمحبوبه إلّا بمسألته التوفيق، وهو- عزّ اسمه- خير موفّق ومعين.
__________
[1] . هكذا ضبطت في الأصل.
[2] . البخت: في اللسان عن الأزهرى: لا أدرى أهو عربي أم لا. في المعرّب عن ابن دريد: فارسي معرّب.
بالفهلوية baxt:بالأفستائية Lbaxta:بمعنى النصيب المقدّر (حب) .
[3] . الخلد: البال والنفس.(1/50)
الفيشداذيّة ومن عاصرهم
أوشهنج
فأوّل من يحفظ اسمه وسيرته من الملوك أوشهنج [1] [7] وأنا ذاكره [2] والملوك بعده على توال ونسق. فإن كان لواحد منهم سيرة محمودة أو تدبير مرضىّ، ذكرته وذكرت سائر ما ضمنته في صدر الكتاب، ومن لم يحفظ له سيرة، ذكرت اسمه فقط، ليكون نظام التاريخ محفوظا، فأقول:
إنّ أوشهنج هذا هو الذي خلف جدّه جيومرت [3] وجمع الأقاليم السبعة، ورتّب الملك، ونظم الأعمال، ولقّب ب «فيشداذ» [4] ، وتفسيره بالعربية: أوّل سيرة العدل. [5] ويقال: إنّه كان بعد الطوفان بمائتي سنة. وهو أوّل من عرف قطع [6]
__________
[1] . في الأصول: أوشهنج، أوشهنك، أوشهنق، هوشنگ. بالأفستائية Haushyanha:أى: واهب المنزلة الحسنة (يو: 126، حب) . بالفهلوية) Hoshyang:ف) .
[2] . ذاكره: غير واضحة في الأصل وما أثبتناه هو من مط.
[3] . في الأصول جيومرت، كيومرث. بالأفستائية Gaya -Mareta:أى: الحيّ الذي يموت، أو: الحياة الفانية.
بالفهلوية) Gayomard ,Gayomart:حص: 399- 411) .
[4] . في الأصول: فيشداد، بيشداذ، پيشداد. بالفهلوية) Peshdat:ف) . بالأفستائية Para -Dhata:أى: من وضع القانون أمامه وحكم بالعدل (يد 1: 178) .
[5] . كذا ضبطت في الأصل: أوّل سيرة العدل.
[6] . يشاهد مثل هذا التعبير عند مسكويه في مواضع أخرى أيضا، قال مثلا: أول من عرف ذلّل الفيلة، أو: من(1/51)
الشجر، وبنى به، واستخرج المعادن وبنى مدينتي بابل [1] والسوس [2] . وكان فاضلا سائسا محمودا، ونزل الهند، ثمّ تنقّل في البلاد، وعقد التاج، وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أن نفى أهل الفساد والدّعارة [3] من البلدان [8] إلى البراري، وألجأهم إلى رؤوس الجبال وجزائر البحار، وطهّر منهم الممالك، واستخدم من كان يستصلحه منهم، وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الصلاح وأحسن رعاية الأمور، إلى أن انتهى ملكه إلى طهومرت [4] بعده.
طهومرت
وهو من ولد أوشهنج، وبينهما عدّة آباء، وسلك سيرة جدّه، وتنقّل في البلدان، وبنى الموضع الذي جدّده بعد ذلك سابور [5] من فارس، ونزله، وطلب الدعّار ونفى الشياطين أعنى الأشرار. وهو أول من كتب بالفارسية. وسلك سبيل جدّه، فاستمرّ نظام الملك على حال واحدة من عموم الصلاح، واستقامة أحوال الجند والرعية، إلى أن ملك بعده جمّ شيذ [6] .
__________
[ () ] عرف خندق الخنادق (أنظر ص 51، 61) .
[1] . بابل: بالبابليه LBabilu:أى: باب إيل، أى: باب الله. بالأفستائية.LBavari:في نقش بيستون) Babirauv:حب) .
[2] . في المصادر الفارسية القديمة) Shusha ,Shusa ,Susa:حب) .
[3] . مط: الذعارة.
[4] . كذا في الأصل ومط: طهومرت، وهو تصحيف. وفي الأصول: طهمورت، طهمورث. بالفهلويّة:
) Taxmuritف) .
[5] . سابور: مدينة منها إلى شيراز خمسة وعشرون فرسخا، كما هو اسم لكورة بفارس بها مدن أكبر من مدينة سابور (يا) .
[6] . مط: جمشيد. في الأصول الأخرى: جمّ الشّيذ، جمّ، جمشاسب، جمشيدون. بالأفستائية:
.Yima -Xshaetaبالفهلوية Yimshet:أى: جمّ المشرق (ف، حص، لد) .(1/52)
جمّ شيذ
وهو أخو طهمورت، وتفسير «شيذ» الشعاع. لأنه كان وضيئا، جميلا. وملك الأقاليم، وسلك [9] السيرة المتقدمة، وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب، وأمر أن يلزم كل أحد طبقته. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحروب والشرط، وكتب عليه «الأناة» ، وخاتما للخراج، وجباية الأموال، وكتب عليه «العمارة» ، وخاتما للبريد [1] ، وكتب عليه «الوحا» [2] وخاتما للمظالم، وكتب عليه «العدل» . فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام، وألزم من غلبه من أهل الفساد والشياطين الأعمال الصّعبة، وأذلّهم بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الكلس والجصّ والبناء والطين، وعمل المعادن، وغير ذلك من الأمور الصعبة. فحسنت سيرته، وخافه أهل العيث [3] والفساد، بما ألزمهم من الأعمال الشاقّة. وأحدث النوروز [4] ، وجعله عيدا وأمر الناس بالتنعم فيه. [10] ثم إنّه بعد ذلك، بدّل سيرته. فكان من نتيجة فعله وسوء عاقبته، أن دخل الوهن في الممالك، وتجاسر أهل الفساد عليه.
فمما حكى من تبديل سيرته، إظهار الكبر والجبرية على وزرائه وكتّابه وقوّاده، وإيثار التخلّى والإغرام باللذّات، وترك مراعاة كثير من السياسيات التي
__________
[1] . البريد: عربي (ابن دريد) . فارسي معرّب من «دم بريده» [أى: «محذوف الذّنب» حسب تعبير المؤرخين- أنظر ص 93 وما علّقناه على تلك الصفحة] . أو معرّب من «بردن» أى: الذهاب بالشيء (باللغة الفارسية) . أو معرّب للكلمة اليونانية veredus:ومعناها: الحيوان ذو القوائم الأربع، ثمّ تحوّل إلى معنى «فرس البريد» ، ثم إلى «البريد» بالذات (لد، حب) .
[2] . الوحا: السرعة. والمكتوب على الخواتم عند ابن الأثير. الرفق والمداراة العمارة والعدل الصدق والأمانة السياسة والانتصاف (1: 64) .
[3] . وفي مط: أهل العبث (بالباء الموحّدة) .
[4] . في الطبري: نوروز (1: 180) . الثعالبي: النوروز (ص 14) . ابن الأثير: نيروز (1: 497) . أبو نواس في شعره: النوكروز. بالفهلوية nok -roch:أو) Lnoghroz حب) . مف.nik -roch:(1/53)
كان يتولّاها بنفسه. فأحسّ بذلك بيوراسب [1]- وهو الذي تسمّيه العرب الضحّاك [2]- وعلم استيحاش الناس منه، وتنكّر خواص أصحابه له، فدسّ إلى رجاله [3] من استصلحه [4] لنفسه، ودبّر عليه حتى قوى، ثمّ قصده، فهرب منه جمّ وتبعه حتى ظفر به، فنكل به، وأشره بمئشار [5] . وقد كان جمّ تنقّل في البلدان قبل ذلك، إلى أن جرى عليه ما جرى.
وكان الضحّاك هذا- على ما تزعم الفرس- من ولد جيومرت، وبينه وبين جيومرت من الآباء «تاج» [6] وإليه تنتسب العرب، فيقال لهم: «تاجى» [7] وهم
__________
[1] . مط: هوراسب.
[2] . الضحّاك: معرّب «ده آك» (حمزه: 24) .
[3] . مط: رحاله.
[4] . مط: من استخلصه.
[5] . في الطبري: ونشره بمنشار (1: 181) . أشر الخشبة وغيرها: نشرها. المئشار: المنشار.
[6] . في الطبري: تاز (1: 202) . البيروني: غار (قار) وهو أبو العرب العاربة (ص 104) . حمزة: تاج، ولذلك قيل لهم: تاجيان (ص 34) . ابن الأثير: يارين (1: 74) .
[7] . بالفهلوية) LTazhik فم) Tazik ,tajik، (ف) : المنسوب إلى قبيلة طىء أو العرب. تاجيك، تاجك، تازيك،- وبأحد المعاني- تاژيك: شيء واحد. باللغة التركية: تات (الرعيّة) چيك (في الأصل وبأحد المعاني:
الولد، أو بمعنى التصغير) : 1- غير الترك عامة، ومن ليس بترك أو مغولى. 2- الإيراني خاصة. 3- أهل تاجيكستان (فم) .
أما الوجوه التي ذكرها الباحثون في تسمية العرب ب «تازى» فهي: 1- أن تكون الكلمة من المصدر الفارسي: «تازيدن» أى: شنّ الإغارة لأن العرب كانت تكثر ذلك في غابر الزمن. 2- لفظة «تاژ» معناها الخيمة، والعرب كانت تسكن الخيام فسمّاهم الإيرانيون ب «تاژيك» تازى، ثم تبع الصينيّون الايرانيين في هذه التسمية، فقالوا للعرب: «تاش» (لد) . 3- كان الإيرانيون، في عصر أنوشيروان، على اتصال باليمن، وكانوا يسمون طيّئا ب «تاژ» ، فقالوا للمنسوب إلى هذه القبيلة «تاژيك» ، ثم أطلقوا الاسم على كل العرب (حب) ، وهذا التعميم نراه أيضا في التلمود والموارد اليهودية السريانية الأخرى، حيث أطلق على العرب: طييعه، طييه، طيايه، وأصلها: طىء Obermeyer ,s.233.ff.) نقلا عن المفصّل 1:
660) . 4- ان لفظة: «تازى» هي الشكل الفارسي للفظة: «طائى» العربية التي تطلق على المنسوب إلى قبيلة «طىء» (لش) . 5- كان الايرانيون منذ القديم يسمون غير الايرانيين ب «تاجيك» أو «تاژيك» ، كما سمّت الإغريق غيرهم «بربرا» ، وسمّت العرب غيرهم «أعجميا» ، فتحول هذا اللفظ إلى «تازى» في اللغة الفارسية الحديثة، ثم اختص بالعرب قليلا قليلا، بينما بقي في بلاد الترك وما وراء النهر بشكله(1/54)
يلقّبون بيوراسب ب «الازدهاق» [1] . [11] وقوّم منهم يزعمون أن جمّ شيذ زوّج أخته من بعض أشراف أهل بيته وملّكه اليمن، فولدت له الضحّاك. وأما العرب فينسبون الضحّاك غير هذه النسبة. ورغم قوم أنّه نمرود. وزعم آخرون أنّ نمرود كان عاملا من قبله على كثير من أعماله، ولا ينبغي أن نذكر من أمره فيما قصدنا له، أكثر من هذا النّبذ، لئلّا ننقطع عن غرضنا.
بيوراسب وما جرى بينه وبين كابى الإصبهانى
ولما ملك بيوراسب [2] ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلّها، فسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل والصلب، ليهابه الناس، وليمحو عن صدور الناس سياسة من تقدّمه وذكرهم وسنّتهم. فسنّ العشور، واتخذ المغنّين والملهين. وكان على منكبه سلعتان [3] يحركهما [4] إذا شاء، كما يحرّك يديه.
فادّعى أنهما حيّتان، تهويلا على [12] ضعفاء الناس، وأغبيائهم، وكان يسترهما بثيابه.
فلما طالت أيامه وعمّ الناس جوره، كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بإصبهان
__________
[ () ] القديم وبمعناه العام (مطلق الأجانب) ، ثم بعد أن اختلطت الترك الألتائيون والفرس في تلك التخوم، دخلت كلمة «تاجيك» في لغة الترك فسمّت الترك الإيرانيين ب «تاجيك» فقيل: «ترك وتاجيك» (بس 3:
50 الحاشية) .
[1] . في الأصول: أزدهاق، أژدهاك، ده آك. شا: أژدها، أژدهافش، بالأفستائية.LAgi -Ldahaka:بالفهلوية:
) Azhi -dahakف) .
[2] . في سائر الأصول: بيوراسب، بيوراسف، بهراسب. بالفهلوية) Bevarasp:ف) ، أى: من له عشرة آلاف حصان (فم) .
[3] . السلعة: زيادة تحدث في الجسد.
[4] . مط: حركهما.(1/55)
رجل يقال له: «كابى» [1] من أثناء [2] العامة، وكان الضحّاك قتل له ابنين. فلما بلغ الجزع من كابى هذا على ولديه ما بلغ، أخذ عصا، فعلّق بطرفها [3] جرابا [4] .- ويقال: إنّه كان حدّادا وإنّ الذي علّقه نطع [5] كان يتوقّى به من النار- فجعله علما ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب [6] ، فأجابه خلق كثير، لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور. فاستفحل [7] أمره وقوى، وتفأل الفرس بذلك العلم، وعظّموا أمره، وزادوه ورصّعوه بعد ذلك بالجوهر، حتى جعله ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبرّكون به، وسمّوه «درفش كابيان» . فكانوا لا يسيّرونه إلّا في الأمور العظام.
ولما استعلى كابى الإصبهانى، وأشرف على بيوراسب، هرب [13] عن منازله.
واجتمع أشراف الناس على كابى، وناظروه في الملك. فقال لهم كابى: إنّه لا يتعرّض للملك، لأنه ليس من أهله. وأمرهم أن يملّكوا بعض ولد جمّ. وكان أفريذون [8] بن أثفيان [9] مستخفيا من الضحّاك في بعض النواحي، فوافى هو ومن معه إلى كابى، فاستبشر الناس به، لأنّه كان مرشّحا للملك. فصار كابى أحد أعوان أفريذون حتى احتوى [10] على منازل بيوراسب [11] ، وحتى تبعه وأسره
__________
[1] . كذا في الطبري (1: 207) ، وابن الأثير (1: 75) ، الثعالبي (ص 34) . في الفارسية الحديثة: كاوه.
بالفهلوية) LKavagh:حب) .
[2] . مط: من أبناء العامة.
[3] . في الأصل: بأطرافها، والتصحيح من مط.
[4] . الجراب: الوعاء، أو: المزود من إهاب الشاء.
[5] . النطع: بساط من الأدم أى من الجلود المدبوغة.
[6] . مط: هوراسب.
[7] . استفحل أمره: تفاقم واشتدّ.
[8] . في سائر الأصول: أفريدون، أفريذون، في بندهش.LFreton:بالأفستائيّة.Thraetaon:في فيدا:
) Traitanaيد 1: 188) .
[9] . مط: ايقبان. في سائر الأصول: أثقابان، أثقيان، أثقيال (حب) . يد: آسپيان (1: 188) بالأفستائية:
.Atawyaفي فيدا) Aptya حص: 465، يد 1: 199) . بالفهلوية) Asfian ,Asvian ف) LAsviyan ,Asfiyan (وب: 31) . بالفارسية الحديثة: آتبين، ثم آبتين.
[10] . احتوى الشيء وعليه: حواه: استولى عليه وملكه.
[11] . مط: هوراسب.(1/56)
بدنباوند [1] ، فقتله.
ولم يسمع من أمور الضحّاك بشيء يستحسن، ولا نقل من أخباره ما يكتب غير شيء واحد. وهو أنّ بليّته [2] لما اشتدّت، وطالت أيّامه وتراسل وجوه الناس في أمره، وأجمعوا على المصير إليه من البلدان، وافى بابه العظماء والوجوه من النواحي والأقطار، وتناظروا في الدخول عليه والتأتّى له [3] واستعطافه، وأجمعوا على تقديم كابى الإصبهانى، وذلك لما رأوا من تحرّقه على ولديه، [14] وجرأته على الكلام. فلما اجتمعوا ببابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا يقدمهم كابى.
فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام.
ثم قال:
- «أسلّم عليك سلام من يملك الأقاليم كلّها، أم سلام من يملك هذا الإقليم؟» فقال: «بل سلّم سلام من يملك الأقاليم كلّها، فإنّى ربّ الأرض.» فقال له كابى: «فإن كنت مالك الأقاليم كلّها، فما بالك خصصت بتحاملك ومؤنك [4] وإساءتك ناحية كذا؟ وهلّا قسمت أمر كذا بين الأقاليم؟» ثم عدّد أشياء، وجرّد له الصّدق، حتى انخزل [5] له الضحّاك وأقرّ، ووعد الناس بما يحبّون، وأمرهم بالانصراف ليتّدعوا [6] ، ثم يعودوا إليه ليقضى حاجاتهم.
وكانت له أم فاحشة بذيئة [7] جبّارة، وكانت تسمع كلامهم لمّا دخلوا عليه، فاغتاظت منهم وأنكرت إقراره للقوم. فكلّمت بيوراسب [8] منكرة عليه وقالت:
- «هلّا دمّرت عليهم وأمرت بهم؟»
__________
[1] . دنباوند، دمباوند، دباوند. دماوند: كورة من كور الرىّ. جبل عال جدّا، مستدير قرب الرىّ. سجن أفريذون بيوراسب في رأسه (مع) .
[2] . مط: نكبته.
[3] . تأتّى للأمر: ترفّق وأتاه من وجهه.
[4] . المؤن: جمع مفرده: مؤنه: الشدّة والثقل.
[5] . انخزل: انقطع. وفي مط: «تحرك» بدل «انخزل» .
[6] . ليتّدعوا: لا توجد في مط. اتّدع: سكن واستقرّ.
[7] . بذأ: فحش في قوله.
[8] . مط: هوراسب.(1/57)
فقال لها [15] الضحّاك على عتوّه:
- «إنك لم تفكّرى في أمر، إلّا وقد سبقت إليه. إنّ القوم بدهونى [1] بالحق. فلما هممت بالسطوة بهم، وقف الحقّ بيني وبينهم، واعترض كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت.» فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله، ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.
ثمّ ملك أفريذون
وهو من ولد جمّ. ويقال: إنّه كان التاسع من ولده. فردّ مظالم الناس، وأمر بالإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما غصب عليه الضحّاك من الأرضين وغيرها، فردّها كلّها على أهلها، إلّا ما لم يجد له أهلا، فإنّه وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان موثرا للعلم وأهله، وكان صاحب طبّ ونجوم وفلسفة. وكان له ثلاثة أولاد: سرم، وطوج، وإيرج [2] . فخشي ألّا يتّفقوا بعده. وأن يبغى بعضهم [16] على بعض. فظنّ أنّه إذا قسم الملك بينهم أثلاثا في حياته، بقي الأمر بعده على انتظام وصلاح. فجعل الروم [3] وناحية المغرب لسرم، والترك والصين
__________
[1] . بدهه: فجأة، بغته.
[2] . في الطبري: سرم (سلم) ، طوج، إيرج (1: 222، 230) . المسعودي: سلم، اطوج، ايراج ايران (1:
247) . الثعالبي: سلم، توز ايرج (ص 14) . حمزة: سلم، طوج، ايرج (ص 25) . البيروني: سلم (شرم) ، طوج (توژ) ، إيرج (ص 104) . شا: سلم، تور، ايرج (1: 79) . تور تورج (بق) توژ (لد) توج (اليعقوبي 2: 134) طوس (الدينوري 1: 9) . في الفهلوية (LTurch) Sarm ,Eretch:بن.Tutch
بالافستائية Sairimyana:أى: بلاد سرم، أى: الروم. و Tuiryana أى: بلاد الترك. و Airyana:أى: بلاد الإيرانيين (حص: 469- 474، يد 1: 194، يد 2: 52) .
[3] . لقد ذكر انقسام ملك فريدون بين أبنائه الثلاثة في «چهر دادنسك» الذي هو من الأنساك المفقودة لأفستا، وهذا ما نفهمه من «دينكرد» الفصل الثالث الفقرتين التاسعة والعاشرة. وفي «فروردين يشت» ذكرت خمسة أقوام، فأضيف على الثلاثة المذكورة قومان وهما: «سائى نى» و «داهى» . وقد أخذت الفرس هذه القصة من الهند وأوروبيين ولا يمكن إرجاع تاريخها إلى أبعد من عصر الأشكانيين الذين(1/58)
لطوج، والعراق والهند لإيرج وهو صاحب التاج والسرير، فلمّا مات أفريذون، وثب طوج وسرم بإيرج، فقتلاه، وملكا الأرض بينهما.
وأفريذون أوّل من تسمّى ب «كي [1] » . فكان يقال له: كي أفريذون [2] ، وهي كلمة تعنى التنزيه، أى: روحانى، أى: هو منزّه متصل بالروحانية. [3] وكان جسيما وسيما حسن البهاء، محربا [4] عظيم القوة.
ويقال: إنّ بيوراسب [5] قال له لمّا ظفر به:
- «لا تقتلني بجدّك جمّ.» فقال له أفريذون منكرا لقوله:
«لقد سمت بك نفسك وهمّتك، وعظمت في نفسك، حين قدرتها لهذا. جدّى كان أعظم [17] قدرا من أن يكون مثلك كفؤا له في القود [6] ، ولكنى أقتلك بثور كان في دار جدّى.» وأفريذون أوّل من عرف ذلّل [7] الفيلة، وقاتل بها الأعداء. ثم قسم الأرض كما ذكرنا بين أولاده. ولأجل ما صار بين أولاده من العداوة، بقيت الذحول [8] بين
__________
[ () ] ما كانوا يعرفون القومين Tura و LSairima اللذين ذكرا في «فروردين يشت» ، ولكنهم كانوا يطلقون الإسمين على أعدائهم القاطنين في الشمال وشرقىّ الشمال والمغرب من بلادهم، فأطلقوا LSairima على اليونان، والروم، واللّان، كما أطلقوا Tura على أقوام، عاشوا في شرقى الشمالي أى قبائل «تخار» .
و «خيون» ، ثم على الهياطلة، وأخيرا على قبائل الترك (حص: 469- 474) .
[1] . بالأفستائية.Kavi:بالفهلوية Kay:أى: الملك (فم) وبمعنى العزيز، والقهار، والجبّار (لد) .
[2] . مط: أفريذون.
[3] . مط: متصل الروحانية.
[4] . مط والطبري: مجرّبا. المحرب: الخبير بالحرب، الشجاع.
[5] . مط: هوراسب.
[6] . القود: القصاص.
[7] . مط: عرف تذليل الفيلة، والأصل هو الأصح نصا، لأن أسلوب التعبير هذا معهود من مسكويه في مواطن كثيرة من الكتاب. انظر مثلا: ص 51، 59، 61.
[8] . الذحول جمع مفرده الذحل: الحقد والثأر.(1/59)
الترك، وملوك إيرانشهر [1] ، والروم، وطلب بعضهم بعضا بالدماء والترات [2] .
وكان إبراهيم النبي- صلى الله عليه- في أيام الضحّاك. ولذلك زعم قوم أنّه نمرود وأن نمرود عامل من عمّاله. ولم ينقل من أخباره- عليه السلام [3]- شيء من النمط الذي هممنا بإيراده في هذا الكتاب، إلّا أشياء حكاها مانى [4] ، وهي بعيدة من الحقّ، فلذلك لم أوردها، ولم أتعرّض لذكرها.
منوشهر
فكان من سوء عاقبة وثوب طوج وسرم بإيرج وقتلهما إيّاه، أن نشأ ابن لإيرج بن أفريذون [5] يقال له: منوشهر [18] حقد على طوج، فدبّر عليه، إلى أن قاومه، وتغلّب على ملك أبيه إيرج، ثم نشأ ولد لطوج التركي، فنفى منوشهر [6] عن بلاده. وكانت بينهما حروب لم ينقل منها شيء يستفاد منه تجربة. ثم [7]
__________
[1] . ايران ايراج. شهر: الملك (المسعودي 1: 248) . بالفهلوية EranShatr:أى: أرض ايران كما كان يستعمل في العصر الساسانى (فم) .
[2] . مط: التراب، والترات جمع مفرده التّرة: الظلم في الذحل عامة، الجناية على الغير من قتل ونهب وسبى.
[3] . في مط: بدون «عليه السلام» .
[4] . مانى: بالأفستائية.Namanya:بالفهلوية LManik:أى: المنسوب إلى البيت: (باروچا: 312) . مانى: الفذّ، عديم النظير (بق) . ولد عام 215 م. في مردينو ببابل (البيروني: 208) ، ويقال: إنّه ولد في همدان، ثم انتقل إلى بابل، وقتل 274 م. وادّعى بأنه فارقليط، ومزج بين الزرادشتية والمسيحية (حب، لد، فم) . له من الآثار: سابورقان (شاپورگان) في المعاد. كنز الأحياء. سفر الأسفار. فراقماطيا (بنگاهيك) . سفر الجبابرة (كوان) . إنجيل زند (إنجيل مانى) مكتوبا ب 22 حرفا من حروف الهجاء التي أبدعها، ملحقا بمجموعة من الصور سميت باللغات الايرانية: أردهنگ، أرثنگ، أرتنگ، أرژنگ، أرجنگ، وباليويانيّة: أيقون، وبالقبطية: أيقونس (لد، حب، فم) .
[5] . مط: أفريدون.
[6] . في سائر الأصول: منوشهر، منوشجهر، منوجهر. مط: منوچهر، بالأفستائية) ManushC Lhithra يو 191) .
[7] . ثم: سقطت من مط.(1/60)
أديل [1] منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه.
وكان منوشهر موصوفا بالعدل والإحسان. وهو أوّل من عرف خندق الخنادق وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة، فجعل لكل قرية دهقانا، [2] وجعل أهلها عبيدا وخولا [3] ، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. ولما قوى سار نحو التّرك وطالب دم جدّه إيرج بن أفريذون، فقتل طوج بن أفريذون وأخاه سرما، وأدرك ثأره وانصرف.
ثم نشأ فراسياب [4] بن ترك الذي ينسب إليه الترك من ولد طوج بن أفريذون، فحارب [19] منوشهر، وحاصره بطبرستان. ثم إن منوشهر وفراسياب اصطلحا، وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ- والفرس تحكى في ذلك حكايات [5] لا فائدة في إيرادها- فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوشهر.
__________
[1] . قال الحجاج: يوشك أن تدال الأرض منّا، أى: يجعل لها الكرة والدولة علينا، فتأكل لحومنا كما أكلنا ثمارها، وتشرب دماءنا كما شربنا مياهها (لع) .
[2] . بالفهلوية:dehikan:مالك الأرض ورئيس القرية (حب، فم) .
[3] . الخول: عطية الله من النعم، والعبيد، والإماء، والأتباع، والحشم.
[4] . مط: أفراسياب. في سائر الأصول: فراسيات، فراسياب، أفراسياب (الطبري 1: 434، 528، البيروني:
194، 222، حمزة: 20، المسعودي 1: 249) ، بالفهلوية) Frasyak:برثلمه: 986) .
[5] . منها أسطورة آرش شواتير المسمى في الأفستا ب EroxshaXshwivi -isu:أى: آرش الصلب القوس، أو:
صاحب السهم السريع (اليشت 8، الفقرات 6- 8) . بالفهولية) ErexshaShepak -Tir:حص: 588 لد، حب) . ورد اسمه في المصادر كما يلي: إيرش، ارششياطير، ارشسياطير (الطبري 2: 435) ، أرش (الثعالبي: 107، البيروني: 220) ، ارسناس (الدينوري ص 11) ، ايرشى (ابن الأثير 1: 166) .
جاء في الأفستا: «نحمد تيشتريا Tishtrya النجمة الساطعة الرائعة التي تسير إلى بحر فوروكش:
] VouruKashaبالفهلوية: فراخ كرت] بسرعة ينطلق بها سهم إرخش LErexsha الصلب القوس، ذلك الآرىّ الذي كان أصلب الآريّين قوسا، ورمى من جبل خشوث LXshutha إلى جبل خفنفنت،Xvanvant ومسّته نفحة من أهورا مزدا، وشقّ له الماء والكلأ والشمس صاحبة السهول الفسيحة، منهجا عريضا.» والمراد بجبل خشوث: جبال «البرز» وبجبل خفنفنت: أحد جبال منطقة جيحون (حص: 589، 590، زند اوستا 2: 416) .(1/61)
خطبة منوشهر
فمما حكى ونقل من تدابير منوشهر أنّه لما مضى من ملكه نحو ثلاثين سنة، تناولت الأتراك أطراف أعماله، فجمع قومه، ووبّخهم، ثم خطب عليهم، وهذه أوّل خطبة [1] عرفناها، ونقلت إلينا. قال:
«أيها الناس: إنّكم لم تلدوا الناس كلّهم. وإنّما الناس ناس ما حفظوا أنفسهم [2] ، ودفعوا العدوّ عنهم. وقد نالت الترك منكم [3] ، ومن
__________
[ () ] وأمّا أبو ريحان البيروني فيروى الأسطورة بقوله: «زعموا أنّ أفراسياب لما تغلّب على ايرانشهر، وحاصر منوشجهر بطبرستان، طلب منه أمرا، فأنعم به عليه، على أن يردّ إليه من ايرانشهر رمية نشّابة في مثلها. فحضر ملك من الملائكة اسمه إسفندارمذ، وأمر أن يتخذ قوسا ونشابة، على مقدار مثّله لصانعها على ما بيّن في كتاب الأبستا [الأفستا، الابستاق، بالفهلوية Apistak:بن،Avistak بالفارسية الحديثة: أوستا (بالواو الفارسية) ] ، وأحضر أرش، وكان شريفا ديّنا حكيما، وأمر بأخذ القوس ورمى النشّابة. فقام، وتعرّى وقال: أيها الملك، وأيها الناس! أبصروا بدني، فإنّى بريء من كل جراحة وعلة، وإنّى موقن بأنّى إذا رميت بهذه القوس والسهم، تقطّعت قطعا وتلفت نفسي وقد جعلتها فداء لكم. ثم تجرّد، ومدّ القوس بما أعطاه الله من القوة، فرمى بها، وتقطّع قطعا، وأمر الله الريح حتى اختطفت النشابة من جبل الرويان، وبلغ بها إلى أقصى خراسان بين فرغانة وطبرستان، فأصابت أصل شجرة من شجرة الجوز كبيرة، لم يكن لها في الدنيا شبه من الأشجار كبرا. ويقال: إنّ من موضع الرمية إلى موقع النشّابة ألف فرسخ. فاصطلحا على تلك الرمية، وكانت في هذا اليوم: التيركان. فاتخذه الناس عيدا ... » (البيروني: 220) .
إنّ منطلق السهم كما جاء في الأفستا والمصادر الإسلامية هو أحد هذه الأمكنة: خشوث، قمّة دماوند، آمل، سارى، جرجان، رويان، طبرستان. وموقعه: خفنفنت، ساحل جيحون، مرو، نهر بلخ (جيحون آمودريا) .
[1] . هذه الخطبة تجدها كاملة عند الطبري أيضا (1: 437) ، كما تجد ملخّصها بنسبة أقل من النصف عند ابن الأثير (1: 166) . وقد قارنّا في تحقيق نصها بين الأصل ومط والطبري.
[2] . أول الخطبة في مط: أيها الناس بئس ما حفظوا أنفسهم. وفي الطبري: ... ما عقلوا من أنفسهم.
[3] . منكم: غير موجودة في الطبري.(1/62)
أطرافكم، وليس ذلك إلّا من ترككم جهاد عدوّكم، وقلّة المبالاة، وإن الله تعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا: أنشكر فيزيدنا [4] ، أم نكفر فيعاقبنا؟ ونحن أهل بيت خير [5] ، ومعدن [20] الملك [6] . فإذا كان غدا، فاحضروا.» فاعتذر الناس، وواعدوه الحضور. فلمّا كان من غد، أرسل إلى أهل بيت المملكة وأشرافهم، وإلى الأساورة [7] وكبارهم، فدعاهم، وأذن للرؤساء من الناس ودعا «موبذان موبذ [8] » ، وأقعده على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره خطيبا. فقام أشراف الناس، وأهل بيت المملكة والأساورة، فقال: اجلسوا. فإنّى إنّما قمت لأسمعكم. فجلسوا، فقال:
«أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنّه لا أضعف من مخلوق، طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته [9] في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه.
«ألا وإنّ التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة. وقد ورد الأوّل، ولا بدّ للآخر من اللحوق [10] بالأوّل، وقد مضت قبلنا [21]
__________
[4] . مط: فنريد.
[5] . في الطبري: عزّ.
[6] . في الطبري: الملك لله.
[7] . الأساورة: جمع مفرده الأسوار: الرامي، وقيل: الفارس (المعرّب) ، القائد (لد) ، الحر، العظيم (فاب 1:
223) . بالأفستائية Asbaray:ركوب الفرس، بالفارسية القديمة،asa -bara:بالفهلوية aspavar:بن aspabarak الأسوار: الراكب مقابل الراجل (حب) .
[8] . موبدان موبد: أعلى درجة في رتب رجال الدين الزرداشتى. (فم) بالفهلوية) magupat:مغ بد) .
[9] . الطّلبة والطّلبة: المطلوب.
[10] . في الطبري: اللحاق.(1/63)
أصول نحن فروعها، فما بقاء [1] فرع بعد [2] ذهاب أصله، وإنّ الله- عزّ وجلّ- أعطانا هذا الملك، فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين.
«ألا وإنّ للملك على أهل مملكة حقّا، ولأهل مملكته عليه حقّا [3] . فحقّ الملك على أهل مملكته، أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنّه تجارتهم [4] وحقّ الرعية على الملك، أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحمّلهم ما لا يطيقون. فإنّ أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم، لآفة أو ضرر من السماء أو الأرض، أن يسقط عنهم خراج ما نقص وإن اجتاحتهم [5] مصيبة، أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عمارتهم [6] ، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين. والجند للملك بمنزلة جناحي [22] الطير [7] ، فهم أجنحة الملك، ومتى قصّ من الجناح ريشة، كان ذلك نقصانا منه، وكذلك الملك، إنّما هو بجناحه وريشه.
«وإن الملك ينبغي له أن يكون فيه ثلاث خلال [8] : أوّلها أن يكون صدوقا فلا يكذب، وأن يكون سخيّا فلا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنّه مسلّط [9] ، ويده مبسوطة، والخراج يأتيه.
فينبغي له أن لا يستأثر [10] عن جنده ورعيته، بما هم أهل له، وأن
__________
[1] . في الطبري: بقي.
[2] . مط: مع ذهاب.
[3] . سقطت من مط: «حقا، ولأهل مملكته حقا. فحقّ الملك على أهل مملكته» .
[4] . في الأصل ومط: وإنّه تجارتهم. في الطبري: وإنّها تجارتهم. ابن الأثير: إنّه خازنهم.
[5] . اجتاحتهم مصيبة أو جائحة: أهلكت مالهم.
[6] . في الطبري: عماراتهم.
[7] . كذا في الأصل ومط. وفي الطبري: الطائر.
[8] . الخلال: جمع الخلّة: الخصلة، الخلق.
[9] . مط: سلط.
[10] . استأثر بالشيء: خصّ به نفسه.(1/64)
يكثر العفو. فإنّه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو [1] ، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة. وإن المرء لأن [2] يخطئ في العفو، خير له من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي له أن يتثبّت [3] في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة، فلا ينبغي له أن يحابيه [4] ، وليجمع بينه وبين المتظلّم، فإن صحّ عليه [23] للمظلوم حقّ خرج إليه منه، وانعجز عنه أدّى [5] الملك عنه [6] ، وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد. فهذا لكم علينا. ألا ومن سفك دما بغير حقّ، أو قطع يدا بغير حقّ، فإنّى لا أعفو عن ذلك إلّا أن يعفو عنه صاحبه. فخذوا هذا عنّى.
«ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا [7] ، فإنّما تكفون أنفسكم. وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأى.
وإنّما لى من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإنّ الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف، فذلك مملوك وليس بملك. ومهما [8] بلغنا من الخلاف، فإنّا لا نقبله من المبلغ، حتى نتيقّنه. فإذا صحّت معرفة ذلك، أنزلناه [9] منزلة المخالف.
«ألا وإنّ أكمل الأداة عند المصيبات، الأخذ بالصبر، والراحة إلى اليقين. فمن قتل في مجاهدة العدو، رجوت له الفوز برضوان الله.
وأفضل الأمور التسليم [24] لأمر الله، والراحة إلى اليقين، والرضا
__________
[1] . العفو ... العقوبة: سقطت من مط.
[2] . كذا في مط. في الطبري: أن يخطئ.
[3] . تثبت في الأمر والرأى: تأتّى فيه ولم يعجل.
[4] . حاباه محاباة: اختصه ومال إليه.
[5] . مط: أذى!
[6] . مط: عند.
[7] . في الأصل: «فاكفوها» والتصحيح من الطبري.
[8] . مط: مما.
[9] . في الطبري: وإلّا أنزلناه.(1/65)
بقضائه. أين المهرب مما هو كائن، وإنّما نتقلّب [1] في كفّ الطالب.
وإنّما هذه الدنيا سفر، أهلها لا يحلّون عقد الرحال إلّا في غيرها [2] .
إنّما بلغتهم فيها بالعوارى [3] . فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم لمرّ قضاء الحق [4] ، ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلّا إليه [ولا معوّلا إلّا عليه] [5] . فثقوا [6] بالغلبة إذا كانت نيّاتكم أنّ النصر من عند الله. وكونوا على ثقة من درك [7] الطلبة إذا صحّت نيّاتكم. واعلموا أنّ هذا الأمر لا يقوم إلّا [8] بالاستقامة، وحسن الطاعة، وقمع العدوّ، وسدّ الثغور، والعدل للرعيّة، وإنصاف المظلوم.
فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة والأمر بالخير والنهى عن الشرّ، ولا قوّة إلّا بالله.
«أنظروا للرعية، فإنّها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيهم، رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبيّن في زيادة أرزاقكم. وإذا [25] حفتم [9] على الرعيّة زهدوا في العمارة وعطّلوا أكثر الأرض، فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم.
فتعاهدوا الرعيّة بالإنصاف. وما كان من الأنهار، والبثوق [10] ، مما نفقته على السلطان، فأسرعوا فيه قبل أن يكبر [11] . وما كان من ذلك على الرعيّة، فعجزوا عنه، فأقرضوهم من بيت مال الخراج،
__________
[1] . في الطبري: يتقلّب.
[2] . مط: في غير بناء.
[3] . جمع العارية.
[4] . مط: لمن قضاء الحق. في الطبري: لمن القضاء له.
[5] . زيادة من مط والطبري.
[6] . مط: فتقوّوا.
[7] . الدرك: اسم مصدر من الإدراك: الوصول، والبلوغ.
[8] . لا: غير موجودة في مط.
[9] . حاف عليه: جار وظلم. وفي مط: جنفتم.
[10] . البثوق: جمع البثق: موضع انبثاق الماء.
[11] . الطبري: يكثر.(1/66)
فإذا جاءت [1] أوقات خراجهم [2] ، فخذوا من خراج غلّاتهم على قدر ما لا يجحف بهم. ذلك ربع في كل سنة، أو ثلث، أو نصف، لكيلا يتبيّن [3] عليهم.
هذا قولي وأمرى. يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وجدّ [4] في الذي سمعت في يومك. أسمعتم أيّها الناس؟» قالوا: «نعم.» وأثنوا عليه، ودعوا له، ثم أمر بالطعام. فوضع، وأكلوا وشربوا، وخرجوا وهم له شاكرون. ثم كان من أمره ما كان مما ذكرناه.
منوشهر والرايش بن قيس
وفي أيّامه غزا الرايش بن قيس بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان [26] من ملوك [5] اليمن. وكان اسم الرايش الحارث. غزا الهند، فغنم غنائم عظيمة، فأنفذ رجلا من أصحابه يعرف بشمر بن العطّاف، فدخل الترك من أرض آذربيجان، وهي يومئذ في أيديهم، فقتل وسبى وغنم.
وغزا بعده ذو منار بن الرايش بعد أبيه، وانّما سمّى ذا منار لأنّه غزا بلاد المغرب، فوغل فيها برّا وبحرا، وخاف على جيشه الهلاك عند قفوله [6] ، فبنى المنار ليهتدوا بها. ثم وجّه ابنه إلى أقاصى المغرب، فغنم، وأصاب مالا، وقدم عليه بسبي لهم خلقة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّوه ذا الأذعار.
__________
[1] . في الطبري: حان.
[2] . في مط: إخراجهم.
[3] . في مط: يتبيّن ذلك عليهم.
[4] . كذا في مط: جدّ. في الطبري: خذ.
[5] . ملوك اليمن ... بشمر: سقطت من مط.
[6] . القفول: الرجوع.(1/67)
وإنّما ذكرتهم في هذا الموضع، لاتصال ذلك بذكر [1] منوشهر، وأنّ الفرس تدّعى أنّ ملوك اليمن كانت عمّالا لملوك الفرس بها، وأنّ الرايش كان من قبل منوشهر يغزو الترك وغيرهم. والعرب تنكر ذلك، وتزعم أن ملكهم لم يكن قطّ من قبل أحد، وإنّما كانوا برؤوسهم.
ظهور موسى في أيّام منوشهر
وفي أيّام منوشهر [27] ظهر موسى- صلّى الله عليه- ويقال: إنّ عمره- عليه السلام- كان مائة وعشرين سنة، منها في أيام أفريذون عشرون سنة، وفي أيام منوشهر مائة سنة. وكان من حديث موسى مع فرعون وما أنزل من الآيات على يده، ما هو مشهور. وقد اعتذرنا من ذكر هذه الأخبار وتركها.
ثم كان من حديث التّيه [2] ما كان، إلى أن أخرج بنى إسرائيل منه يوشع بن نون بعد موت موسى، وغزا الكنعانيين، ونفاهم إلى السواحل، وافتتح مدينة الجبّارين. فيقال إنّ إفريقس بن قيس بن صيفي بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مرّ بهم متوجها إلى إفريقية [3] ، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها، وقتل ملكها جرجيرا [4] ، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم من سواحل الشام، فهم البرابرة. وإنّما سمّوا بذلك لأنّ إفريقس [28] قال لهم: «ما أكثر بربرتكم!» فسمّوا بذلك «بربرا» [5] .
وكان إفريقس هذا عاملا لمنوشهر على ما تزعم الفرس. وكان تدبير يوشع أمر
__________
[1] . مط: بذكر.
[2] . التيه: حيث تاه بنو إسرائيل، أى حاروا، ولم يهتدوا للخروج منه.
[3] . مط: فريقيّه.
[4] . مط: جرجيز. وفي الطبري: جرجير.
[5] . بربر: ثرثر، فهو بربار، أى: ثرثار. وفي لغة الإغريق والرومان barbares:الأجنبى (حب) .(1/68)
بنى إسرائيل، من لدن مات موسى إلى أن توفّى يوشع في زمان منوشهر، عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين. ولمّا هلك منوشهر، تغلّب فراسياب على مملكة فارس، وطلب بالذحول. وصار إلى أرض بابل وأقام بمهرجاقذق [1] ، وأكثر الفساد، وخرّب ما كان عامرا، ودفن الأنهار والقنىّ، فقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن أخرج، وردّ إلى بلاد الترك. فغارت [2] المياه في تلك السنين، وحالت [3] الأشجار المثمرة.
زوّ بن طهماسب
ولم يزل الناس في أعظم بليّة إلى أن ظهر زوّ [4] بن طهماسب، ويقول بعضهم:
زاغ، وبعضهم: زاب، وبعضهم: زاسب، وهو من أولاد منوشهر، وبينه وبينه عدّة آباء.
فلما ظهر زوّ طرد فراسياب عن مملكة فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب [29] [5] كثيرة جرت بينهما لم يذكر لنا منها ما نستفيد منه تجربة. وكانت غلبة فراسياب على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة من لدن توفّى منوشهر إلى أن طرده زوّبن طهماسب، إلى تركستان.
ثم ابتدأ زوّ في عمارة ما خرّبه فراسياب. فأمر ببناء ما هدم من الحصون وإعادة ما طمّر [6] وعوّر [7] من الأنهار والقنىّ وكرى [8] ما كان اندفن من المياه
__________
[1] . مهرجاقذق، مهرجانقذق: معرّب من «مهرگان كذه (كذك) . بالفهلوية Mitragan -Katak:أى: بيت ميترا (حب) . ولاية محيطة على صيمرة (لج: 218) وصيمرة بلدة بين ديار الجبال وديار خوزستان (يا) .
[2] . غار الماء: ذهب في الأرض وسفل فيها.
[3] . حالت النخلة: حملت عاما ولم تحمل آخر.
[4] . بالأفستائية LUzava:ابن) LTumaspa يد 2: 46) . بالفهلوية) LOz av ,Uzav:ف) .
[5] . في الأصل (مصورة ليدن) : حصل تقديم وتأخير بين صفحتي 29 و 30.
[6] . طمّره: بالغ في طمره، أى دفنه.
[7] . مط: غور. عوّر عيون المياه: دفنها وسدّها.
[8] . كرى النهر: حفر فيه حفرة جديدة.(1/69)
حتى عاد جميع ذلك إلى أحسن ما كان، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين.
فعمرت البلاد في أيّامه، وكثرت المياه، ودرّت معايش الناس، واستخرج بالسواد [1] نهرا، وسمّاه: الزاب، وبنى على حافتيه [2] مدينة، وهي التي تسمى:
المدينة العتيقة، وكوّرها كورة [3] ، وجعلها ثلاث طساسيج [4] : الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسفل، ونقل إليها بذور الرياحين وأصول الأشجار من الجبال. وزوّ هذا أوّل من عرف [30] اتّخذ [5] ألوان الطبيخ، وأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم بالخيل [6] ، ومما أوجف عليه من أموال الترك، وكان وزيره «كرساسف» من أولاد طوج بن أفريذون. وقد حكى أنّ زوّا وكرساسف [7] ، اشتركا في الملك. والصحيح من أمره أنّه كان وزيرا لزوّ ومعينا له. فكان جميع ملك زوّ ثلاث سنين.
__________
[1] . السواد: رستاق من رساتيق العراق. وحدّ السواد على قول أبى عبيد: من حديثة الموصل طولا إلى عبّادان، ومن عذيب القادسية إلى حلوان عرضا، فيكون طوله مائة وستين فرسخا (يا) .
[2] . مط: حافته.
[3] . الكورة: لفظ فارسي معرّب، وأصله: «خوره» (خره) : الناحية. البقعة التي يجتمع فيها قرى ومحال (فم، مو) .
[4] . طساسيج: جمع مفرده: طسّوج، أى المحلة والناحية، وطسّوج تعريب ل «تسو» . وأصله في الفهلوية:
) LTasukيد 2: 330) .
[5] . مط: «أوّل من عرف اتخاذ» . أسلوب للكتابة عند مسكويه تجده في مواطن كثيرة من الكتاب، انظر مثلا: ص 51، 59، 61.
[6] . مط: الجبل.
[7] . مط: كركاسب. بالأفستائية،keresaspa بالفهلوية) Karshasp:حب) .(1/70)
الكييّة ومن عاصرهم
كيقباذ بن زوّ
ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ، وسلك سبيل أبيه. فكوّر الكور، وبيّن حدودها وحريمها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلّات لأرزاق الجند، وكان حريصا على العمارة، ومانعا لحوزته. والملوك الكييّة من نسله. وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكان مقيما في الحدّ الذي بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ، يمنع الترك من تطرّف [1] شيء من حدود فارس. فجميع هذه العداوات والحروب سببها سوء نظر من قسم الملك بين أولاده، ثم وثوب من وثب من الإخوة [31] بأخيه، واستمرار الشحناء بعد ذلك والعداوات.
وأما القيّم بأمر بنى إسرائيل بعد يوشع، فكان كالب بن توفيل [2] ، ثم حزقيل الذي يقال له: ابن العجوز- وكانت لهما أخبار مشهورة تركنا ذكرها لأنها معجزات لا تستفاد منها تجربة [3]- وحزقيل هو صاحب القوم «الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم» [4] لأنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا من بلاء كان أصابهم: إمّا طاعون، أو ما أشبهه، فخرجوا
__________
[1] . مط والطبري: تطرّق: ابتغى إليه طريقا. تطرّف الشيء: أخذ من أطرافه.
[2] . مط: يوفنا.
[3] . أنظر الطبري 2: 535.
[4] . س 2 البقرة: 243.(1/71)
فرارا من ذلك.
ثم إلياس، ثم اليسع، ثم إيلاف. وفي خلال هؤلاء، كان يتملّك عليهم قوم من الكنعانيين وغيرهم، فيسومونهم البلايا والعظائم، وليس في ذكرهم فائدة. إلى أن جاءهم شمويل النبىّ. وكان من خبره مع جالوت وطالوت ما ذكره الله تعالى.
وملك داود [1] لما كان منه من مبارزة جالوت. والخبر [32] مشهور مقرون بمعجزة الأنبياء. ثم ملك سليمان، وأخباره ومعجزاته مذكورة.
كيقابوس وما جرى على ابنه سياوخش
ثم ملك بعد كيقباذ، كيقابوس [2] بن كيبنة [3] بن كيقباذ الملك. فشدّد على أعدائه وقتل خلقا من عظماء البلاد، ممن كان ينكر أمرهم وسكن بلخ. وولد له ابن لم ير مثله في عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش، [4] وضمّه إلى رستم [5] الشديد بن دستان من ولد كرساسف الذي ذكرناه قبيل، وكان إصبهبذ سجستان وما يليه من قبله، وأمره بتربيته وأوصاه به. فأخذه رستم، ومضى به إلى سجستان وتخيّر له الحواضن والمرضعات، حتى أدرك [6] ، فجمع له المعلّمين، وأدّبه، ثم علّمه الفروسة [7] ، حتى فاق فيها، وقدم على والده رجلا كاملا،
__________
[1] . سقط من مط: داود.
[2] . البيروني ص 107 وحمزة ص 30: كيكاوس. بالفهلوية) KaiKayus:ف) . في الأفستا Kaviusan:الملك الثاني من الأسرة الكيية.
[3] . مط: كييه. في الطبري وحواشيه: كسه (مهملة) ، كتيبه!، كييه، كيبيه، وتصحيفات أخرى (2: 597) .
أصله حسب الروايات الايرانية القديمة: أئى پيفنگهو) Aipivanghu فم 6: 1641 «كيكاوس» ) ، والشبه ظاهر بين الأصل وصورة التعريب خاصة إذا أدخلنا عليه.Kavi:
[4] . بالأفستائية.Syavarshan:بالفهلوية) Siavaxsh:ف) .
[5] . بالأفستائية.Rosataxm (-Ltahm) :بالفهلوية.Rostahm:
[6] . أدرك الصبىّ: بلغ الحلم.
[7] . مط: الفروسية.(1/72)
فامتحنه كيقابوس والده، فوجده كاملا نافذا [1] بارعا.
وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال، يقال: إنّها بنت [33] فراسياب ملك الترك، ويقال: إنّها بنت ملك اليمن. فهويت سياوخش، وهويها. والفرس تحكى أمورا طويلة، وتزعم أنّها كانت ساحرة، وأنّها سحرته، إلّا أن آخر أمرها آل إلى أن علم كيقابوس بما يجرى بينهما.
فكان من عاقبة ميلهما إلى الهوى، وظنّهما أنّ ذلك ينكتم، أن تغيّر كيقابوس لابنه سياوخش، وأشفق سياوخش على نفسه. فسأل رستم أن يسأل أباه توجيهه لحرب فراسياب. وكان قد تجدّدت وحشة بين كيقابوس وفراسياب. وأراد سياوخش بذلك البعد من والده، والتنحّى عما تكيده به امرأة أبيه [2] . ففعل ذلك رستم وخاطب أباه فيه، واستأذن له في جند يضمّهم إليه. فأذن له، وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص [3] سياوخش إلى بلاد الترك. فلما التقى سياوخش وفراسياب، جرى بينهما صلح. وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين [34] فراسياب.
فكتب إليه أبوه بإنكار ذلك، وأمره بمناهضته ومناجزته الحرب. فرأى سياوخش أنّ في فعله ما كتب به أبوه من محاربة فراسياب- بعد الذي جرى بينهما من الصلح والهدنة، من غير نقض [4] فراسياب شيئا من أسباب ذلك- عارا ومنقصة. فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك. ورأى أنّه يؤتى في كلّ ذلك من زوجة أبيه [5] . فمال إلى الهرب من أبيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به وفراق والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك. وكان السفير بينهما رجلا من
__________
[1] . مط: ناقدا.
[2] . في الطبري: كان يقال لها سودابه.
[3] . أشخص فلانا إليه: بعث به إليه.
[4] . «الذي ... نقض» : سقطت من مط.
[5] . الطبري: من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها، فامتنع عليها (2: 529) .(1/73)
عظماء الترك يقال له: فيران [1] . فلمّا فعل ذلك سياوخش، انصرف عنه من كان [2] معه من جند أبيه، إلى أبيه. وأكرم فراسياب سياوخش، وزوّجه ابنة له، وهي أمّ كيخسرو، ولم يزل على إكرامه [3] ، إلى أن ظهر له من أدب سياوخش وإربه [4] وكماله، ونجدته ما أشفق منه، وضرّب [5] بينهما أخ كان [35] لفراسياب وابنان له حذرا على ملكهم. وله خبر طويل في ذلك، إلى أن قتل وامرأة سياوخش- وهي ابنة فراسياب- حامل منه، بابنه كيخسرو. فطلبوا له الحيلة، لاسقاطها ما [6] في بطنها، فلم تسقط.
ثم إن فيران الذي توسّط الصلح بين سياوخش وبين فراسياب، أنكر ما جرى من فعل فراسياب، وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته إليه، يعنى: زوجة سياوخش، لتكون عنده إلى أن تضع، ثم إن أراد قتله قتله [7] .
ففعل فراسياب ذلك. فلما وضعت، امتنع فيران من قتل الولد، وستر أمره حتى بلغ المولود، وهو كيخسرو.
ويحكى: أن كيقابوس بعث بيب [8] بن جوذرز إلى بلاد الترك، وأمره بالبحث عن أمر المولود الذي لسياوخش، والتأتّى لإخراجه مع أمّه. ففعل بيب ذلك، وبقي زمانا طويلا يبحث عن أمره، إلى أن وقف على خبره. فاحتال [36] فيه وفي أمّه، حتى أخرجهما من أرض الترك. فاستقبلهما رستم الشديد في جند عظيم من أولى البأس والنجدة، وطلب الترك أثر كيخسرو، فجرت بينهم وبين رستم حروب ظفر فيها رستم.
__________
[1] . بالفارسية: پيران.
[2] . «كان ... سياوخش» : سقطت من مط.
[3] . مط: الكرامة.
[4] . الإرب: الدّهاء والفطنة.
[5] . ضرّب بين القوم: سعى، أغرى بعضهم ببعض.
[6] . في الأصل: وما.
[7] . قتله: سقطت من مط.
[8] . الطبري: بىّ بن جوذرز. حمزة: ويو بن جوذرز. بالفهلوية.ViviGutarzan:شا: گيو. (Giv)(1/74)
فللفرس هاهنا خرافات، وتزعم أنّ الشياطين كانت مسخّرة لكيقابوس. وقوم يزعمون أنّ سليمان بن داود- عليهما السلام- أمرهم بذلك، في خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة، من الصعود إلى السماء، وبناء مدينة كنكرز [1] بأسوار ذهب وفضّة وحديد ونحاس، وأنّها بين السماء والأرض، وأشباه ذلك مما لا فائدة في ذكره.
إلّا أنّ جملة أمره، أنّه تجبّر لما تمّ له أكثر ما كان يقصده. وسار من خراسان حتى نزل بابل، وترك ما كان يسوسه بنفسه، ويباشره برأيه. وأوحش الناس بالحجّاب والتعظّم، وآثر الخلوة. فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه، وكثرت الملوك في النواحي، حتى كان يغزوهم بعد ذلك ويغزونه، [37] فيظفر مرّة وينكب أخرى، إلى أن غزا بلاد اليمن والملك يومئذ بها ذو الأذعار بن أبرهة بن ذى المنار بن الرايش. فلمّا أظلّه [2] كيقابوس، خرج إليه ذو الأذعار في جموع حمير وولد قحطان، فظفر بكيقابوس، وأسره واستباح عسكره، وحبسه في بئر وأطبق عليها طبقا.
فخرج من سجستان رستم الشديد في من أطاعه من الناس. وأمّا الفرس فتحكى حكايات لا فائدة فيها عن شدّة رستم وبأسه، وأنّه وغل في البلاد بلاد اليمن، واستخرج كيقابوس من محبسه [3] . وأما اليمن فتزعم أنّه لم يكن من ذلك شيء، وأنّ ذا الأذعار لمّا بلغه إقبال رستم، خرج إليه في جنود عظيمة، وخندق
__________
[1] . مط: كندر. الطبري: كيكدر، قيقدور (2: 602) . الثعالبي. كنك دز. التصحيفات والمترادفات كما وردت في الأصول هي: كنكرز، كنگ دز، گنگ دز، گنگ دژ، گنگ ديز، گندز، بهشت گنگ، گنگبهشت، گنگ دژهوخت (هخت، هوخ) ، دژهوخت: مدينة في الجبال الحدودية الشرقية لإيران القديمة (المصادر الفهلوية) ، أو: في ما وراء بحر فراخكرت (بندهش) ، أو: في أرض الترك (شا) ، أو: هي قهندز بخارا (تاريخ بخارا) ، أو: مدينة في ما وراء بحر «فوروكش» ، أو: هي بيت المقدس (فهرست شا) . أو اسم لقلعة بناها الضحّاك في بابل (بق) . انظر أيضا: حب، لد، كيا: 123.
[2] . أظلّ فلانا: دنا منه، وأقبل عليه.
[3] . مط: من جبسه.(1/75)
كل واحد منهما على نفسه وعسكره، وأنّهما أشفقا من البوار على جنديهما، وتخوّفا- إن تزاحما- أن لا يكون لهما بقيّة. فاصطلحا على دفع كيقابوس إلى رستم ووضع [38] الحرب. فانصرف رستم بكيقابوس إلى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق، وأقطعه [1] سجستان وزابلستان. وكانت [2] الكتب يومئذ والرسائل يسيرة نزرة الكلام، لا يذكر فيها الأسباب والعلل. ونسخة الكتاب:
«من كيقابوس بن كيقباذ، إلى رستم.
إنّى قد أعتقتك من العبودة، وملّكتك على بلاد سجستان. فلا تقرّنّ لأحد بعبودة. واملك سجستان كما أمرتك، واجلس على سرير من فضّة مموّهة بالذهب. والبس قلنسوة منسوجة بالذهب متوّجة [3] » .
ومما يدلّ على صدق ما حكيناه من أمر كيقابوس، قول الحسن بن هاني:
وقاظ [4] قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت [5] لحاسبها
ثم ملك كيخسرو [6] بن سياوخش [7] بن كيقابوس
فعقد التاج على رأسه، وخطب رعيّته خطبة بليغة، أعلمهم فيها أنّه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب. ثم كتب إلى [39] جوذرز بإصبهان وكان
__________
[1] . الإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك (لع) .
[2] . مط: كاتب.
[3] . مط: مموهة.
[4] . قاظ بالمكان: أقام فيه في زمن القيظ أى الحرّ.
[5] . وفت: تمّت.
[6] . بالفهلوية) KaiHusrave:حب) .
[7] . سياوش. بالفهلوية.Siavaxsh:(1/76)
إصفهبذه [1] على خراسان، يأمره بالمصير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن [ينتخب] [2] ثلاثين ألف رجل، وضمّهم إلى طوس، [3] وكان في من أشخص معه برزافره [4] عمّ كيخسرو، وابن لجوذرز، وجماعة من إخوته. وتقدّم [5] كيخسرو إلى طوس أن يكون قصده لفراسياب وطراخنته [6] ، وحذّره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له يقال له: فروذ بن سياوخش، من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش تزوّجها أيام صار إلى فراسياب، فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ.
فكان من غلط طوس أن خالف كيخسرو، وذاك أنّه لمّا صار بالقرب من المدينة التي فيها فروذ، هاجت الحرب، وقتل فروذ. واتصل خبره بكيخسرو.
فكتب إلى برزافره عمّه كتابا غليظا يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس، ومحاربته فروذ، وقتله إيّاه. وأمره بتوجيه طوس إليه مقيّدا مغلولا. وتقدّم إليه في القيام بالعسكر، [40] والتوجه إليه لوجهه [7] . ففعل برزافره ذلك، وتولّى أمر العسكر، وعبر النهر المعروف ب «كاسرود» [8] ، وانتهى خبره إلى فراسياب. فوجّه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته لمحاربته. فالتقوا وفيهم فيران واخوته.
فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما اشتدّ الحرب، وكثر القتلى، فهرب وانحاز بالعلم إلى رؤوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة، في وقعة واحدة، سبعون رجلا، وقتل بشر
__________
[1] . الإصفهبذ: لقب لملوك، جبال طبرستان (البيروني: 109) .
[2] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه من مط.
[3] . قال نولدكه: طوس (توس) إن كان اسم شخص فأصله،Tus:وإن كان اسم مكان فأصله.Tos:ثم حصل الخلط بينهما في الكتابة، وهذا أدّى إلى وحدة التلفّظ بينهما، فقيل لكليهما) Tus:يد) .
[4] . شا: فريبرز.
[5] . تقدم إلى فلان بكذا: أمره به، أو طلبه منه.
[6] . الطراخنة: جمع مفرده طرخان (ترخان) : ملك الترك (لف) ، اسم عام لأمراء سمرقند (لد) . يقال لملوك سمرقند: طرخون (البيروني 1011) .
[7] . مط: التوجه لوجهه.
[8] . شا: كاسه رود. اسم قديم لنهر يسمى: «چرم» ، أو: «لائين» (حب 5: 255) .(1/77)
كثير.
وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو. فرئيت الكآبة في وجهه، وامتنع من الطعام والشراب، إلى أن مضت أيام. ثم راسل جوذرز. ولمّا دخل عليه شكا إليه برزافره، وأعلمه أنّه كان سبب الهزيمة بالعلم وخذلانه ولده.
فقال كيخسرو:
- «إنّ حقّك لازم لنا لخدمتك أبانا [1] ، وهذه جنودنا وخزائننا [2] مبذولة لك.
فاطلب ترتك [3] ، واستعدّ [41] وتهيّأ للتوجّه إلى فراسياب.
فنهض جوذرز، فقبّل يده وقال:
- «أيها الملك، نحن رعيّتك وعبيدك. فإن كانت آفة، أو نازلة، فلتكن بالعبيد، دون الملوك. وأولادى المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من الترك.» وكتب كيخسرو إلى رؤساء أجناده ووجوه عسكره يأمرهم بموافاته في صحراء تعرف بشاه اسطون [4] من كورة بلخ، في وقت وقّته لهم. فوافت رؤساء الأجناد في ذلك اليوم، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذيه وأصحابهم وفيهم برزافره عمه، وجوذرز وبقية ولده. فتولى كيخسرو بنفسه عرض الجند، حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم. ثم دعا بجوذرز وثلاثة نفر معه، فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه، حتى يحيطوا بهم برّا وبحرا، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز وجماعة من الإصهبذين [42] كثيرة. ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي يسمونه: درفش كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك إلى أحد من القواد، وإنّما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك [5] ، وأمر أحد
__________
[1] . مط: إيانا.
[2] . مط: وخزانتنا.
[3] . الترة: الثأر.
[4] . شاهستون: كانت ناحية من أعمال بلخ (لد) .
[5] . وانما ... الملوك: سقطت من مط.(1/78)
القواد [1] بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كبيرة، وأمر آخر بالدخول من ناحية الخزر، وضمّ إلى آخر ثلاثين ألف رجل وأمرهم بالدخول من طريق بين [2] جوذرز، وبين الذي دخل من طريق الصين.
ودخل جوذرز من ناحية خراسان، وبدأ بفيران. فالتحمت بينهما حرب مذكورة، تحكى فيها الفرس عجائب، بارز فيها بيزن [3] بن بيب خمان وهو أخو فيران، فقتله مبارزة وقتل جوذرز فيران مبارزة أيضا. وقصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر من كل وجه، واتّبع القوم كيخسرو بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه. فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن [4] [43] في القتل. وقتل فيران إصهبذ فراسياب والمرشّح للملك بعده، وجماعة كبيرة من إخوته وأولاده، وأسر بروين [5] قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى وما غنم من الكراع [6] والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه، أن يجعل أسيره أو قتيله عند علمه، لينظر إليه كيخسرو عند موافاته.
فلمّا وافى كيخسرو العسكر موضع الملحمة، اصطفّت الرجال له وتلقاه جوذرز. فلمّا دخل العسكر، جعل يمرّ بعلم علم. فكان أول قتيل رآه جثّة فيران.
فنظر إليه، وخاطبه بما يجرى مجرى الاشتفاء، ولم يزل يفعل ذلك حتى وقف على علم بيب بن جوذرز، ووجد تحته بروين حيّا أسيرا، فسأل [44] عنه، فأخبر
__________
[1] . مط: «وأمره» بدل «وأمر أحد القوّاد» .
[2] . مط: بنى جوذرز.
[3] . بيژن، ويژن، ويجن. الطبري: بيزن بن بىّ خمان (2: 610) . مط: بيزن بن كيب خمان.
[4] . أثخن في الأمر: بالغ فيه.
[5] . مط: روبن. الطبري: بروا بن فشنجان (2: 611) .
[6] . الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح.(1/79)
أنه قاتل سياوخش الذي مثل به بعد قتله. فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسه بالسجود، ثم قال: «الحمد لله الذي أمكننى منك.» ووبّخه طويلا. ثم أمر بقطع أعضائه حيّا. فلمّا لم يبق له طابق [1] ذبحه. ثم استقرّ في مضربه، وأجلس عمّه عن يمينه، ودعا بجوذرز [2] ، فأحسن صلته ومخاطبته، وحمد ما كان منه، وفوّض إليه الوزارة التي يقال لها: بزرج فرمذار [3] ، وهو مرتبة الوزارة، وجعل إليه مع ذلك إصبهان وجرجان، وفعل مثل ذلك من الحباء [4] والكرامة بكلّ من أبلى [5] من قوّاده ورجاله.
ثم أتته الأخبار من الوجوه الثلاثة الأخر: أنّهم قد أحاطوا بفراسياب. وبرز فراسياب، وما كان بقي من ولده إلّا شيذه، [6] فتوجه نحو كيخسرو بعدّة وعتاد.
فيقال: إنّ كيخسرو أشفق يومئذ، وهابه، وظنّ أن لا طاقة له به، وإنّ القتال بقي متّصلا [45] بينهما أربعة أيام، إلى أن انهزم شيذه واتّبعه كيخسرو، فلحقه وضربه بالعمود على رأسه فخرّ ميّتا، وغنم كيخسرو ماله.
وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل في جمع عظيم. فلمّا التقى مع كيخسرو، نشبت بينهما حرب يقال: إنّه لم ير مثلها قطّ على وجه الأرض، حتى اختلط رجال إيرانشهر برجال الترك. ثم انهزم فراسياب وكثر القتل. فتزعم الفرس أنّه بلغ عدد القتلى أمرا عظيما، لم أستحسن ذكره لكثرته. وجدّ كيخسرو في طلبه، حتى لحقه بآذربيجان، فظفر به واستوثق منه بالحديد. ثم وبّخه، وسأله عن سبب قتله سياوخش. فلم تكن [7] له حجّة، فذبحه كما ذبح سياوخش. ثم انصرف غانما
__________
[1] . الطابق والطابق: العضو، كاليد والرجل.
[2] . مط: ودعا بحق جوذرز.
[3] . بالفارسية: بزرگ فرماندار: الوزير الأعظم (لد) . بالفهلوية) Va zurgFarmatar:ف) .
[4] . في الأصل: الحبا. مط: الحبى، الحباء: العطاء.
[5] . أبلى في الأمر: اجتهد فيه وبالغ.
[6] . الطبري: شيده (2: 615) .
[7] . فلم تكن ... ذبح: سقطت من مط.(1/80)
مسرورا.
وكان لفراسياب أخ يقال له: كي شواسف [1] ، صار إلى بلاد الترك بعد أخيه، وكان له ابن يقال له: خرزاسف [2] ، فملك البلاد بعد أبيه كي شواسف، وهو ابن أخى فراسياب الذي حارب منوشهر.
ولما فرغ كيخسرو [46] من المطالبة بوتره [3] ، واستقرّ في ملكه، زهد في الملك، وتنسّك وأعلم الوجوه من أهل بيته ومملكته، أنّه على التخلّى. فاشتدّ جزعهم، وتضرّعوا إليه، وراودوه [4] على المقام على تدبير ملكهم. فأبى عليهم، ولما يئسوا، قالوا:
- «فإذا قمت [5] على ما أنت عليه، فسمّ من يقوم به.» وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنّه خاصّته ووصيّه. فقبل لهراسف الوصية، وأقبل الناس عليه، وفقد كيخسرو. فبعض الناس يقول: إنّه غاب للتنسك، ولا يدرى أين مات. وبعضهم يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده لهراسب [6] .
لهراسب وما كان من أمر بختنصّر
ويقال: إنّه ابن أخى كيقابوس. واتّخذ سريرا من ذهب مكلّلا بالجوهر، للجلوس عليه. وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ [7] وسمّاها: الحسناء. وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود لنفسه [47] وعمر الأرض.
__________
[1] . مط والطبري: كي شراسف (2: 617) .
[2] . في الطبري أيضا: خرزاسف. بالفارسية: أرجاسپ. بالفهلوية LArjasp:أو.Archa sp:بالأفستائية:
Arjataspaأى: مالك الأفراس الثمينة (حص: 626، يد 1: 285) .
[3] . الوتر والوتر: الذحل، الثأر، الانتقام.
[4] . راوده على الأمر: طلب منه فعله.
[5] . قام على الأمر: دام وثبت. مط: ماذا أقمت عليهم.
[6] . بالفهلوية.Luhrasp:
[7] . بالفهلوية) Baxl:ف) .(1/81)
وذلك أنّ الأتراك اشتدت شوكتهم في زمانه، فجعل منزله بلخ ليقاتل [1] الأتراك.
ووجّه بختنصّر [2] إصبهبدا لما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة.
ويقال: إن اسمه بالفارسية: بخت نرسى. فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها.
ووجّه قائدا له، فأتى بيت المقدس، فصالح ملك بنى إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم، فقتلوه وقالوا:
- «داهنت [3] أهل بابل وخذلتنا» ، واستعدّوا للقتال.
فكان من عاقبة جنايتهم [4] على ملكهم أن كتب قائد بختنصّر إليه بما كان.
فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، وسار بختنصّر، حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب الباقون إلى مصر.
فكتب بختنصّر إلى ملك مصر: [48]- «إنّ عبيدا لى هربوا منّى إليك. فسرّحهم [5] إلىّ، وإلّا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل.» فكتب إليه ملك مصر:
- «ما هم عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار.» فغزاه بختنصّر، فقتله، وسبى أهل مصر. ثم انصرف بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن فيهم دانيال النبىّ وغيره من أبناء الأنبياء، وخرب بيت المقدس
__________
[1] . مط: ليقابل.
[2] . الطبري: اسمه بالفارسية: بخترشه، بخت نرسه، بخت سه (2: 645) بالبابلية Nabukadurri usur:أى:
نبو يحرس التاج (حب) بنوخذ نصر، بنوخذ راصر (المفصل 1: 350) .
[3] . الطبري: راهنت (2: 246) .
[4] . مط: خيانتهم.
[5] . فسرحهم ... مصر: سقطت من مط.(1/82)
منذ ذاك.
وكان لهراسف بعيد الهمّة، طويل الفكر، شديد القمع للملوك المحيطة بإيرانشهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة [1] معلومة، ويقرّون له أنّه ملك الملوك هيبة له. وكان بختنصّر حمل إليه من بيت المقدس خزائن وأموالا عظيمة. ثم كبرت سنّه، وأحسّ بالضعف.
فملّك ابنه بشتاسف [2] ، واعتزل الملك، وكان عمره وملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. [49] وقد قيل: إنّ بختنصّر كان في خدمة لهراسف، وتوجّه من قبله إلى الشام وبيت المقدس، ليجلى اليهود عنها، ففعل، ثم انصرف. ثم كان في خدمة ابنه بشتاسف، ثم في خدمة ابنه بهمن، وإنّ بهمن أقام ببلخ التي كانت تسمى: الحسناء، وأنفذ بختنصّر إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود، وإنّ السبب في ذلك كان وثوب صاحب بيت المقدس على رسل بهمن وقتله بعضهم. فمضى بختنصّر، فسبى وهدم بيت المقدس. وانصرف إلى بابل، وملّك «متنيا» [3] وسمّاه: «صدقيا» [4] . فلمّا صار بختنصّر ببابل، خالفه صدقيا. فغزاه بختنصّر ثانيا، وظفر به. فأخرب المدينة والهيكل وأوثق صدقيا وحمله إلى بابل، بعد أن ذبح ولده وسمل عينيه، فمكث بنو إسرائيل ببابل، إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس. فكانت غلبة بختنصّر- وهو بخت نرسى- إلى أن مات، في هذا القول الذي حكيناه آنفا، أربعين سنة.
ثم قام بعده ابن له يقال له: نمروذ، [50] ثم ابن له يقال له: بلتنصّر [5] ، فخلّط،
__________
[1] . الإتاوة: الجزية، الخراج، ما يؤخذ كرها.
[2] . الطبري: بشتاسب (2: 647) گشتاسپ، ويشتاسب. بالفهلوية) Vishtasp:ف) .
[3] . الأصل غير واضح. مط: سيبا وما أثبتناه من الطبري المطابق لقاموس الكتاب المقدس. في حواشي الطبري: شيبا، منيثا، مثينا (2: 642، لد) .
[4] . مط: صندقيا. الطبري صديقيا، صيدقيا (2: 643) .
[5] . في الأصول الأخرى: بلتشر، بلطشاصر Belsharrasur،بن) Besazar المفصل 1: 611) . جاء في الطبري(1/83)
ولم يرتض بهمن أمره، فعزله، وملّك مكانه:
كيرش [1]
وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبّوا، والرجوع إلى أرضهم وأن يولّى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي- عليه السلام- فولّا أمرهم. وكان ملك كيرش ومدة سنيه معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصّر ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن [2] رجل من قرابته يقال له:
اخشوارس [3]
إبن كيرش بن جاماسب الملقّب ب «العالم» ، وولد لإخشوارس ولد من امرأة من سبى بنى إسرائيل يقال لها: أشير [4] ، صنعا من الله لبنى إسرائيل
، فسمّاه:
كيرش
فملك بعد أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وعلّمه خاله التوراة، وفهم أمر دانيال
__________
[ () ] (2: 652) : «فلما ملك بلتشر خلط في أمره، فعزله بهمن وملّك مكانه على بابل وما يتصل بها من الشام وغيرها داريوش الماذوى ... حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشر وملك بابل وناحية الشام ثلاث سنين، ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمى ... » .
[1] . بالفارسية القديمة: كوروش، كورو. بالعيلامية.Ku -rash:بالبابلية.LKu -ra -ash:بالروميةپ) Cyrus اب (LKent،فترة الحكم: 559- 529 ق م (فم) .
[2] . بالفهلوية) LVahman:ف) .
[3] . اخشوارش، اخشويرش خشايارشاه. وفي النقش الخاص به.Xashi -arsha:
[4] . الطبري: اشتر (2: 653) .(1/84)
ومن كان معه: مثل حننيا، وعازريا، وعزير [1] . وتأدّب وعلم العلوم. وسأله [51] بنو إسرائيل أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال:
«لو كان معى منكم ألف نبىّ، ما فارقنى [ما فارقنى] [2] ما دمت حيّا» .
وولّى دانيال القضاء، وأمره ان يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصّر أخذه من بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش، ومات بهمن لثلاث عشرة سنة خلت من قيام كيرش ببابل.
وقد حكى أهل التوراة في أمر بختنصّر أقوالا مختلفة تركنا ذكرها. إلّا أنهم ذكروا أن بختنصّر لما خرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس. فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. ولما انصرف إلى بابل، اجتمع معه سبايا بنى إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم. فاجتمع عنده الكلّ، فاختار منهم سبعين ألف صبىّ. فلمّا خرجت غنائم جنده، سألوه أن يقسم فيهم الصبيان. فقسم في الملوك [52] منهم، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة. فكان من أولئك الغلمة: دانيال النبىّ، وحننيا، وميشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط آسر بن [3] يعقوب، وعلى ذلك سائر أولاد يعقوب الأسباط.
ثم غزا بختنصّر العرب. وذلك في زمن معدّ بن عدنان. فوثب على كلّ من كان في بلاده من تجّار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات، ويمتارون [4] من عندهم الحبّ والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، وبنى لهم حيرا [5]
__________
[1] . مط: حنينا، وعادنيا، وغرير. الطبري: حننينا وميشايل وعازريا (2: 654) .
[2] . التكملة من الطبري (2: 654) . مط: كالأصل.
[3] . الطبري: أشر، أشير (1: 355، 357) .
[4] . امتار لنفسه أو أهله: جمع الميرة. والميرة: الطعام ونحوه يجمع للسفر ونحوه.
[5] . الحير: شبه الحظيرة أو الحمى. مدينة على الفرات غربي بغداد، كانت الفرس تسميها: فيروز سابور، أول من عمرها سابور ذو الأكتاف (يا) . بالفارسية: فيروز شاپور، باليونانية) LPerisab or:لج: 72) .(1/85)
على النجف، وحصّنه، وضمّهم فيه، ووكّل بهم حرسا. ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهّبوا لذلك، وانتشر الخبر في من يليهم من العرب، فخرجت إليهم طوائف منهم مسالمين فأحسن إليهم، وأنزلهم بختنصّر شاطئ الفرات، فابتنوا موضع معسكرهم، وسمّوه: «الأنبار» وخلّى عن أهل الحيرة، فاتّخذوها منزلا مدّة حياة بختنصّر. فلمّا مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابا. [53]
وملك كي بشتاسف بن كي لهراسف
فبنى مدينة فسّا، وهو أول من عرف بسط دواوين الكتّاب، لا سيّما ديوان الرسائل، وأمر الكتّاب أن يطيلوا كتب الرسائل، ويذكروا فيها الأسباب والعلل.
وكان له ديوانان: أحدهما ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات. فكان كلّ ما يرد، فإلى ديوان الخراج، وكل ما يخرج من جيش وغيره، فإلى ديوان النفقات. وكان من رسم الوزير- واسمه: «برزج فرمذار» [1]- أن يكون له خليفة يسمى:
«إيرانمارغر» [2] ، يصل إلى الملك، ويعرض عليه وينوب عن الوزير. فأمّا المتقلّد لديوان الرسائل فيسمّى: «دبيرفذ» [3] ، وكان له كاتب موكّل بدار المملكة، فان وقع على أحد تقصير في منزلة، أو حطّ في درجة، رجع إلى ذلك الكاتب حتى يبيّن حال مرتبته، فيجري عليه رسمه.
ظهور زردشت
وظهر في أيامه زردشت [4] ، وأراده على قبول دينه، فامتنع من [54] ذلك، ثم
__________
[1] . مط: برزج فريدار.
[2] . مط: ابدا مارعن! بالفهلوية:Eran -amargar:المحاسب، أو المحصى لإيران (حب) .
[3] . دبيربد. بالفهلوية) Dipir -pat:حب) .
[4] . الطبري: زرادشت بن اسفيان (2: 675) . بالأفستائية:Zarathushtra:صاحب البعران الصفراء. اسم(1/86)
صدّقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به، من كتاب يكتب في جلد اثنى [1] عشر ألف بقرة، حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب. وصيّر بشتاسف ذلك بإصطخر ووكّل به الهرابذة [2] ، ومنع تعليمه العامة، وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة. وهادن خرزاسف بن كي سواسف ابن أخى فراسياب وملك الترك على ضرب من الصلح. وفي شريطة الصلح أن يكون [بباب] [3] خرزاسف دابّة موقوفة في منزلة الدواب التي تكون على أبواب الملوك، فأشار زردشت على بشتاسف، بنقض الهدنة [4] ، ومفاسدة ملك الترك. فقبل منه، وبعث إلى الدابّة، والموكّل بها، أن ينصرف، وأظهر الغدر. فغضب خرزاسف، وكتب إليه كتابا غليظا، وأمره بتوجيه زردشت إليه، وأقسم- إن امتنع- أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته.
فلما ورد الرسول بالكتاب، كتب كتابا أغلظ منه [55] جوابا عن كتابه، وآذنه
__________
[ () ] أسرته) .LSpitama حب) بالفهلوية) aratushtSpitaman:ف) . حول مكان الولادة، قيل: الري، وفي الأغلب يقال: الشمال الشرقي لإيران. زمان الولادة: هناك اختلاف أيضا. دأب أتباعه وأغلب المستشرقين على تحديده بحوالى عام 600 ق. م. قتل زرداشت في الحملة الثانية التي شنها أرجاسب التركي على ايران (حب) .
[1] . في الأصل: اثنتي. وهو خطأ. في الطبري: في موضع من إصطخر يقال له: دربيشت (2: 676) . إنّ كور فارس خمسة، أكبرها وأصلها كورة إصطخر (مع) .
[2] . جمع هربذ هيربد. بالأفستائية:Aethrapaiti:المعلم (الجزء الأول بمعنى التعليم، والجزء الثاني لاحقة تفيد معنى الاتصاف والملكية.) واستعمل بمعنى التلميذ أيضا، ثم استعمل بمعنى موبد، ثم بمعنى رجل الدين على الإطلاق (كسا: 417) ، وبمعنى عميد الجامعة (دات: 92) . بالفهلوية،LEhrpat:وفي النقوش LHerpat:أنظر أيضا (حب) .
[3] . في الأصل ومط: ببلاد. في الطبري: أن يكون لبشتاسف «بباب» خرزاسف دابة موقوفة بمنزلة الدواب التي «تنوب» [وفي نسخة «تكون» ] على أبواب الملوك (2: 676) .
[4] . الهدنة: المصالحة بعد الحرب، أو فترة تعقب الحرب يتهيأ فيها العدوان للصلح، ولها شروط خاصة (مر) .(1/87)
بالحرب، وأعلمه أنّه غير ممسك [عنه] [1] إن أمسك، فسار بعضهما إلى بعض، ومع كلّ واحد منهما إخوته وأهل بيته. فقتل بينهما خلق كثير، وأحسن الغناء [2] ابن بشتاسف إسفنديار، وقتل بيدرفش الساحر [3] بيده مبارزة. فصارت الدبرة [4] على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا على وجهه، ورجع بشتاسف إلى بلخ.
فلمّا مضت لتلك الحرب سنون، سعى على إسفنديار رجل يقال له: فرّوخ، [5] فأفسد قلب بشتاسف عليه. وذاك أنه أعلمه: أنه ينتدب [6] للملك، ويزعم أنه أحقّ به، وأن الناس مائلون إليه. فصدّق بشتاسف بذلك، وترك الرفق ومعالجة الأمور على تؤدة، وأخذ في أن يندبه لحرب دون حرب [7] . فكان ينجح فيها كلّها، ثم أمر بتقييده، وصيّره في الحصن الذي فيه حبس النساء. وصار بشتاسف إلى جبل يقال له: «طميذر» [8] ، لدراسة دينه، والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف [56] في مدينة بلخ شيخا هرما قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله على [9] امرأته.
فكان من عاقبة ذلك، أن حملت الجواسيس خبره إلى خرزاسف، فجمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ. فلما انتهى إلى تخوم [10] ملك
__________
[1] . عنه: تكملة من الطبري (2: 677) .
[2] . مط: وأحسن الفناء. في الطبري: وأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار (2: 677) . بالفهلوية: بن) Spendat Espandyaz يد 2: 288) .
[3] . بالفهلوية) Vedaratsh:ياز) . كان بيدرفش بطل جيش أرجاسب ملك الترك. في الطبري: بيدرفش الساحر (3: 677) بيدرفش جادو (حب، لد) .
[4] . الدبرة: الهزيمة في القتال.
[5] . بالفهلوية:Farraxv:المشع، الجميل (حب) .
[6] . ينتدب: يسرع، يجيب الدعوة إلى الأمر.
[7] . كذا في الأصل ومط: لحرب دون حرب. وفي الطبري: لحرب بعد حرب (2: 677) .
[8] . طميذر، طميدر: جبل حصين في بلخ (لد) .
[9] . في الطبري: مع امرأته.
[10] . التخوم: جمع مفرده تخم وتخم: الحد الفاصل بين أرضين.(1/88)
فارس، قدّم أمامه جوهرمز [1] أخاه- وكان مرشّحا للملك- في جماعة من المقاتلة كثيرة، وأمرهم أن يغذّوا [2] السير، حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا [3] بأهلها ويغيروا على المدن والقرى. ففعل جوهرمز ذلك، وسفك الدماء، واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى كثرة، واتبعه خرزاسف، فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين [4] لبشتاسف، وأخذ فيما أخذ «درفش كابيان» ، وشخص يتبع بشتاسف، فهرب منه بشتاسف، حتى تحصّن في الجبل الذي يعرف بطميذر مما يلي فارس، ونزل ببشتاسف ما ضاق به ذرعا [57] وندم على ما صنعه بإسفنديار.
فيقال: إنه وجّه إليه بجاماسف [5] ، حتى استخرجه من محبسه، وصار به إلى أبيه. فلما دخل عليه، اعتذر إليه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل به لهراسف، وقلّده عسكره، وأمره بمحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلام أبيه، طابت نفسه، وكفّر [6] بين يديه، وتولّى الأمر، وتقدم فيما احتاج إليه.
ثم عبّى ليلته أصحابه، فلما أصبح، أمر بنفخ القرون، وسار بالجنود نحو عسكر الترك. فلما رأت الترك عسكره، خرجوا إليه على وجوههم يتسابقون وفي القوم جوهرمز وأندرمان [7] . فالتحمت الحرب بينهم، وانقضّ إسفنديار [و] [8] بيده
__________
[1] . جوهرمز گوهرمزد: گو Lgaw ,gow البطل، أى: هرمزد البطل. في الثعالبي وترجمة زوتنبرغ: كهرم) LKohram ص 336) .
[2] . أغذّ في السير: أسرع.
[3] . أوقع بالأعداء: بالغ في قتالهم.
[4] . وهما خمانى، وباذافره (الطبري 2: 678) هماى وبه آفريد (شا) .
[5] . الطبري: جاماسب العالم (2: 681) . بالفهلوية.LJamasp:
[6] . كفّر لسيده: انحنى ووضع يده على صدره وطأطأ رأسه تعظيما له.
[7] . وندريمان، وندريمن. هو أخو جوهرمز وخرزاسف (الطبري 2: 671) .
[8] . و: زدناها من مط.(1/89)
الرمح كالبرق، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن. فلم تكن هنيهة حتى ثلم في القوم ثلمة عظيمة، وفشا في الترك: إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع العلم الأكبر، [58] وحمل معه منشورا.
فلمّا دخل على بشتاسف، استبشر بظفره، وأمر باتّباع القوم وقتل خرزاسف إن قدر عليه، بلهراسف، وبقتل جوهرمز وأندرمان، بمن قتل من ولده، وبهدم حصون الترك وبحرق مدنها وبقتل أهلها، بمن قتلوا من حملة الدين، وباستنقاذ السبايا، ووجّه معه من القواد والعظماء خلقا كثيرا. فدخل إسفنديار بلاد الترك، ورام ما لم يرمه أحد، واعترض- على ما تزعم الفرس- العنقاء المذكورة [1] ، ورماها، ودخل مدينة الصفر [2] عنوة، حتى قتل ملكها وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله، وسبى ذراريّه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه.
ياسر أنعم
فأمّا ملوك اليمن، فقد كتبناهم إلى عهد سليمان وأيّامه، ثمّ صار الملك إلى ياسر [3] بن عمرو الذي يقال له: ياسر أنعم، [4] لإنعامه على العرب. وكان سار غازيا نحو المغرب. حتى بلغ واديا يقال له: وادي الرمل، ولم يكن [59] بلغه أحد قبله، ولم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل. فبينا هو مقيم إذ انكشف الرمل. فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه. فعبروا، ولم يرجعوا. فأمر بصنم من نحاس،
__________
[1] . انظر الثعالبي: 333.
[2] . من أسماء مدينة بخارا (لد) . في الطبري: دز روئين، وتفسيرها بالعربية: الصفرية (2: 680) روئين دژ (حص) .
[3] . مط: ياشر.
[4] . مط: ناش نعم! هذه التصحيفات العجيبة نوردها بين حين وآخر للاشارة إلى ما لمخطوطة مط من قيمة سلبية، حتى تكون في حسبان القارئ عند مقارنته بينها وبين الأصل. في المفصل: ياسر يهنعم، ياسر ينعم، ياسر أنعم الحميري ملك سبأ (1: 48) .(1/90)
فصنع ثم نصب على صخرة عظيمة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند [1] :
«هذا الصنم لياسر أنعم [2] الحميري، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلّفن ذلك أحد فيعطب.»
تبّع
ثم ملك بعد تبّع. وهو تبان [3] ، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن مليكيكرب، تبّع بن زيد بن عمرو بن تبّع ذى الاذعار بن أبرهة تبّع ذى المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ.
وكان تبّع هذا في أيام بشتاسف وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف.
خرج وغزا، وبلغ الأنبار، والموصل، ثم آذربيجان [4] ، ولقى بها الترك، فهزمهم، وقتل بها المقاتلة، وسبى الذريّة، فأقام بها دهرا، وهابته الملوك، وأهدت إليه، وقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والطرف من الحرير والمسك، [60] وسائر الطرف، فرأى ما لا يرى مثله.
فقال: «ويحك! أكلّ هذا في بلادكم؟» فقال: أبيت اللعن [5] ، هذا أقلّ ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين.» ووصف له بلاد الصين، وسعتها وخصبها. فآلى ليغزونّها، وسار بحمير، حتى أتى الصين في جمع عظيم، حتى دخلها، فقتل مقاتلتها، واكتسح ما وجد فيها.
ويزعمون أنّ مسيره إليها كان- ومقامه بها ورجعته منها- في سبع سنين. وخلّف
__________
[1] . اسم لخط الحمير باليمن (مو) .
[2] . مط: ناش النعم!
[3] . مهملة النقط في الأصل، وضبطناها حسب الطبري (2: 684) . وما في مط: ييان. انظر أيضا المفصّل 1:
547.
[4] . بالفهلوية) Aturpatakan:حب، ف) .
[5] . أبيت اللعن: من تحيات الملوك في الجاهلية، معناها: أبيت أن تأتى من الأمور ما تلعن عليه وتذمّ بسببه (لع) .(1/91)
بالتبّت [1] اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت اليوم، ويزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانهم.
أردشير بهمن
وملك بعد بشتاسف أردشير بهمن. وانبسطت يده، وتناول الممالك بقدرة [حتى] [2] ملك الأقاليم. وابتنى بالسواد مدينة وهي المعروفة ب «همينيا» [3] وهو أبو دارا [الأكبر] [4] ، وأبو ساسان أبى الفرس الأخير [5] أردشير بن بابك وولده.
وكان بهمن بن إسفنديار كريما، [61] متواضعا، مرضيّا. وكانت تخرج كتبه: «من أردشير [6] بهمن [7] عبد الله، وخادم الله، والسائس لأمركم» .
ويقال: إنّه غزا الرومية الداخلة [8] ، في ألف ألف مقاتل. ولم تزل ملوك الأرض تحمل إليه الإتاوة، إلى أن هلك، وابنه دارا [الأكبر] [9] في بطن أمه. فملّكوا خماى بنته شكرا لأبيها. وكان من أعظم ملوك الفرس شأنا، وأفضلهم تدبيرا. وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده. وتفسير «بهمن» بالعربية: «الحسن النيّة» .
__________
:Tibet. [1] من بلدان آسيا المركزية في غربي الصين.
[2] . ما في الأصل غير واضح، وما أثبتناه من مط.
[3] . جاء في الطبري: وسماها: آباد أردشير، وهي القرية المعروفة ب «همينيا» من الزاب الأعلى (2: 687) همانيا، همانية، همنى: قرية كبيرة في ضفة دجلة فوق النعمانية (مع) .
[4] . الأكبر: ليست في الأصل ومط. فأضفناها من الطبري.
[5] . كذا في مط. في الطبري: «الأخر» ، ضد القدم: المؤخّر.
[6] . بالفارسية القديمة:Artaxshathra:الملك المقدس (شاك: 48) . بلوتارخ: ماكروخير،Makroxeir البيروني: مقروشير: طويل اليدين (ص 11) ، ويقال له: طويل الباع، أيضا (لد) .
[7] . بالأفستائية:Vohamana:النصيح، الحسن النية. (يپ 1: 88، حب) .
[8] . الرومية: اسم لمدينتين: مدينة ببلاد الروم وأخرى بالمدائن (مع) .
[9] . الأكبر: تكملة من مط.(1/92)
خماى
ثم ملكت خماى [1] بنته، لأنّها حملت منه دارا الأكبر، وسألته أن يعقد التاج له في بطنها، ويؤثره بالملك، ففعل بهمن ذلك. وكان ساسان [2] بن بهمن في ذلك الوقت رجلا يتصنّع للملك، [لا يشكّ] [3] فيه. فلما رأى ساسان ما فعل أبوه، شقّ عليه، فلحق بإصطخر، وتزهّد، وخرج من الحلية، واتخذ غنيمة، فكان يتولّى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وقالوا:
- «صار ساسان راعيا» .
وسبّوه به. [62] ثم لمّا كبر دارا حوّل التاج إليه. وكانت خماى ضبطت الحكم [4] بنجدة ورأى وحصافة، وأغزت الروم جيشا، وأوتيت ظفرا. فقمعت الأعداء وشغلتهم عن تطرّف [5] شيء من بلادها، ونال رعيّتها في تدبيرها خفض ورفاهة، إلى أن ملّك ابنها
: دارا [6] بن بهمن
فنزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك يؤدّون إليه الخراج. ابتنى بفارس مدينة، وسماها: «دارا بجرد [7] » . وحذف دوابّ البريد [8]
__________
[1] . في الطبري وحواشيه: خمانى، هماى، خماى (2: 686) . هماى (شا) . هماك (ياز، كيا: 41) .
بالأفستائية:LHumaya:المباركة (حب) .
[2] . بالفهلوية:LSasan:الفقير (يو) : هو جد الملوك الساسانية. كان من الأشراف ورئيس معبد آناهيذ (آناهيتا) في إصطخر وبابك ابنه (سا: 86) .
[3] . لا يشك: مهملة في الأصل والإعجام من مط.
[4] . مط: الملك.
[5] . الأصل والطبري: كذا. مط وابن الأثير: تطرّق.
[6] . في سائر الأصول: دارا، داريوش، داريوس، داراب، داريوشن.
[7] . بالفهلوية) Darap -kart:ف) .
[8] . قال الثعالبي: هو أوّل من وضع البريد، ورتب له الدواب، وأمر بتحذيف أذنابها علامة لها (ص 398) .(1/93)
ورتّبها. وكان معجبا بابنه «دارا» ، وبلغ من حبّه إيّاه أن سمّاه باسم نفسه، وصيّر له الملك من بعده، وكان له وزير يسمّى: «رشتين [1] » محمودا في عقله. فشجر بينه وبين غلام تربّى [2] مع دارا الأصغر يقال له: «بيرى [3] » ، شرّ وعداوة. فسعى رشتين عليه عند الملك. فيقال: إنّ الملك سقى بيرى شربة فمات، فاضطغن دارا الأصغر على رشتين، وعلى جماعة كانوا عاونوه.
دارا الأصغر
فلمّا ملك دارا ابن دارا بن بهمن، كان أول ما تكلم به حين عقد التاج [63] على رأسه، قال:
- «لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردّى فيها، لم نكففه عنها.» واستكتب أخا بيرى، واستوزره، رعاية لحق أخيه، وأنسا به، ولم يكن في موضع الوزارة، ولا كان له كفاية رشتين.
فكان من عاقبة ذلك، أن أفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت منه الخاصّة والعامّة، ونفروا عنه، وكان حقودا جبّارا. فعرف خبره الإسكندر فغزاه وقد ملّه أهل مملكته، واستوحش جنده، وأحبّ الجميع الراحة منه. فلحق كثير من وجوه أصحابه وأعلام جنده بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا وقوّوه عليه، فلمّا التقيا ببلاد الجزيرة [4] ، اقتتلا سنة. ثمّ إنّ رجالا من
__________
[ () ] وقال الطبري: ... وحذف دوابّ البرد، ورتّبها (2: 692) . حذف الشيء: قطعه من طرفه. تحذيف الشعر:
الأخذ من نواحيه وتسويته (لع) .
[1] . مط: رستين. والكلمة مهملة النقط في الطبري مع تصحيفات في الحاشية.
[2] . مط: ربى.
[3] . الكلمة مهمة النقط في الطبري مع تصحيفات في الحاشية.
[4] . أنظر مراصد الاطلاع 1: 331.(1/94)
أصحاب دارا وثبوا به، فقتلوه، وتقرّبوا بذلك إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم وقال:
- «هذا جزاء من اجترأ على ملكه.» وتزوّج ابنته: روشنك [1] . ثم غزا الهند ومشارق [64] الأرض، فملكها. ثم انصرف وهو يريد الاسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل في تابوت من ذهب إلى أمّه. وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرّق ملك فارس وكان مجتمعا.
مما يحكى عن الإسكندر وحيله الإسكندر ودارا
وقد كان فيلفوس أبو الإسكندر، صالح دارا، على خراج يحمله إليه في كلّ سنة. فلمّا هلك الأب، وملك الإسكندر، وطمع في دارا، منعه الخراج الذي كان يحمله أبوه إليه. فأسخط دارا، فكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، وأنه إنما دعاه إلى حبس ذلك، الصبى والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وبقفيز [2] من السمسم: يعلمه بذلك أنه إنّما ينبغي أن يلعب مع الصبيان بالصولجان [3] ، ولا يتقلّد الملك، ولا يتلبّس به، ويعلمه أنه إن لم يقتصر على ما أمره به، وتعاطى الملك، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، [65] وأن عدّة جنوده الذين يبعث بهم، كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب الإسكندر في جواب ذلك، أن قد فهم ما كتب به، ونظر إلى ما أرسله
__________
[1] . بالفهلوية Roshanak:بالأفستائية.Raoxshana:ابنة دارا وزوجة الإسكندر (يو، حب) . ابنة دارا هي Stativa وأما روشنك (باليونانية (LRoxano فهي ابنة شريف من شرفاء سغد، تزوجت من الإسكندر (إيب: 1736، 1883) .
[2] . القفيز: مكيال كان يكال به قديما ويختلف مقداره في البلاد (مو) .
[3] . الصولجان: معرّب چوگان، بالفهلوية) Chopakan:حب) .(1/95)
من الصولجان والكرة، وتيمّن به، لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان واجتراره [1] إيّاها، وأنّه شبّه الأرض بالكرة، وتفأل بملكه إياها، واحتوائه عليها، وأنه يجترّ ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيّزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به، كنظره إلى الصولجان والكرة، لدسمه وبعده من المرارة والحرافة. وبعث إلى دارا مع كتابه بصرّة من «خردل» ، وأعلمه في ذلك الجواب: أنّ ما بعث به إليه قليل، غير أنّ ذلك مثل الذي بعث به في القوّة، والحرافة، والمرارة، وأنّ جنوده فيما وصف به منه.
فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده [2] ، وتأهّب لمحاربة الإسكندر، وتأهّب له الإسكندر، وسار نحو [66] بلاد دارا. فلمّا التقيا، وجرى ما جرى من أمر القائدين اللذين تقرّبا إلى الإسكندر وطلبا الحظوة عنده والوسيلة، وكان نادى الإسكندر ألّا يقتل دارا، وأن يؤسر أسرا، فلمّا أعلم الإسكندر بما جرى، سار [3] حتى وقف عنده، فرآه يجود [4] بنفسه. فنزل الإسكندر عن دابته، حتى جلس عند رأسه، وأخبره أنه ما همّ بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه.
وقال له: «سلني ما بدا لك [5] فإنى أسعفك به.» فقال له دارا: «لى حاجتان: إحداهما أن تنتقم لى من الرجلين اللذين فتكا بى- وسمّاهما- والأخرى أن تتزوج ابنتى: روشنك.» فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من ملكهما ما انتهكا، وتزوّج روشنك وملك الأرض كلها.
ويقال: إن الرجلين اللذين قتلا دارا، إنّما فعلا ذلك بأمر الإسكندر، وكان شرط
__________
[1] . مط: واحتياز.
[2] . جنده: سقطت من مط.
[3] . سار: سقطت من مط.
[4] . مط: بحول.
[5] . مط: ما بذلك.(1/96)
لهما شرطا. فلما طعناه، دفع إليهما حكمهما، ووفى لهما بشرطهما، [67] ثم قال:
- «قد وفيت لكما بالشرط، ولم تكونا شرطتما أنفسكما، وأنا قاتلكما، فإنّه ليس ينبغي [1] لقتلة الملوك أن يستبقوا، إلّا بذمّة لا تخفر [2] » ، فقتلهما وصلبهما.
ويقال: إنّ الإسكندر في الأيام التي نازل فيها دارا كان يصير إليه بنفسه على أنه رسول. فيتوسط العسكر، ويعرف كثيرا مما يحتاج إليه. فكان إذا وصله [3] دارا، أعجب به واستحسن سمته [4] ومجاراته. إلى أن اتهمه وأحسّ الإسكندر، فهرب.
ذكر حيلة للإسكندر
فلمّا تواقفت [5] الخيلان يوم الحرب، خرج الإسكندر من صفّ أصحابه وأمر من ينادى:
- «يا معشر الفرس! قد علمتم ما كتبنا [6] لكم من الأمانات، فمن كان منكم على الوفاء، فليعتزل عن العسكر، وله منّا الوفاء بما ضمنّاه.» واتهمت الفرس بعضها بعضا. فكان أول اضطراب حدث فيهم.
حيلة أخرى
ومما يحكى من حيله في الحروب: [68] أنه لما شخص عن فارس إلى أرض الهند، تلقّاه فور ملكها في جمع عظيم، ومعه ألف فيل عليها السلاح والرجال، وفي خراطيمها السيوف والأعمدة، فلم تقف دواب الإسكندر وانهزم. فلما حصل
__________
[1] . ينبغي: سقطت من مط.
[2] . مط: لا تخف! خفر بالعهد: وفي به. خفر العهد وبه: نقضه (مو) .
[3] . في الأصل: أوصله. وفضّلنا ضبط مط.
[4] . السمت: السكينة والوقار، الهيئة.
[5] . مط: تواقف.
[6] . مط: ما اتعالكم!(1/97)
في مأمنه، أمر باتخاذ فيلة من نحاس مجوّفة، وربط خيله بين تلك التماثيل حتى ألفتها، ثم أمر فملئت نفطا وكبريتا، وألبسها الدروع، وجرّت على العجل إلى المعركة، وبين كلّ تمثالين منها [1] جماعة من أصحابه. فلما نشبت الحرب، أمر بإشعال النيران في أجواف التماثيل، فلما حميت، انكشف أصحابه عنها، وغشيتها [2] الفيلة، فضربتها بخراطيمها، فنشطت وولّت مدبرة راجعة [3] على أصحابها، وصارت الدبرة على ملك الهند.
حيلة أخرى له
ومما يحكى أيضا عنه: أنه كان نزل على مدينة حصينة. فتحصن منه أهلها وعرف [4] خبرها، فأعلم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم. فدسّ [5] تجّارا [69] متنكرين، وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة، وتقدم إليهم ببيع ما معهم، وابتياع ما أمكنهم من الميرة، والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم. فلم يزل التجار يشترون الميرة، إلى أن حصل في أيديهم أكثره. فلما علم الإسكندر ذلك، كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا. ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها، فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة، وملك المدينة.
وكان أيضا إذا انصرف عن مثل هذه المدينة، شرّد من حولها من أهل القرى [6] ، وتهدّدهم بالسبي، حتى خرجوا هاربين معتصمين بالمدينة، فلا يزال بذلك حتى يعلم أنّه قد دخلها أضعاف أهلها وأسرعوا في الميرة، فيرجع حينئذ، فيحاصرهم، ويفتح المدينة.
__________
[1] . مط: فيها.
[2] . مط: وغشّها.
[3] . راجعة: سقطت من مط.
[4] . مط: وتعرف.
[5] . مط: فدبر.
[6] . القرى: سقطت من مط.(1/98)
الإسكندر وأرسطوطالس
ومما يحكى عنه: أنّه كتب إلى أرسطوطالس يخبره: أنّ في عسكره من الروم [70] جماعة من خاصته، لا يأمنهم على نفسه، لما يرى من بعد هممهم وشجاعتهم وكثرة آلتهم، ولا يرى لهم عقولا تفي بتلك الفضائل، ويكره الإقدام بالقتل عليهم بالظنّة، مع وجوب الحرمة.
فكتب إليه أرسطوطالس:
- «فهمت كتابك، وما وصفت به أصحابك. فأمّا ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمة. وأمّا ما ذكرت من شجاعتهم ونقص عقولهم عنها، فمن كانت هذه حاله، فرفّهه في معيشته، واخصصه بحسان النساء. فإنّ رفاهة العيش توهى العزم، وتحبّب السلامة، وتباعد من ركوب الخطأ والغرر [1] . وليكن خلقك حسنا تخلص لك النيات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط إخوتك مثله.
فليس مع الاستيثار محبة، ولا مع المواساة بغضة. واعلم أنّ المملوك [2] إذا اشترى لا يسأل عن مال مولاه وإنّما يسأل عنه خلقه.» [71] وكان الإسكندر في الأيام التي لقى فيها دارا، وجل من محاربته، ودعاه إلى الموادعة، لما رأى كثرة عدّته وعتاده وعدد جنده. فاستشار دارا أصحابه في أمره، فغشّوه، وزيّنوا له الحرب، لفساد قلوبهم عليه، وكاتبوا الإسكندر، وأطمعوه فيه. وكان ملك دارا أربع عشرة سنة. فهدّم الإسكندر حصون الفرس، وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، ودواوين دارا.
وكاتب [3] معلّمه ووزيره أرسطوطالس يعلمه: أنّه شاهد بإيرانشهر رجالا ذوى أصالة في الرأى، وجمال في الوجوه، لهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأى لهم
__________
[1] . مط: الغدر. والغرر: الخطر. التعريض للهلكة.
[2] . مط: الملوك!
[3] . مط: وكتب إلى.(1/99)
هيآت وخلقا، لو كان عرف حقيقتها، لما غزاهم، وأنّه إنّما [1] ملكهم بحسن الاتفاق والبخت، وأنّه لا يأمن- إن ظعن عنهم- وثوبهم، ولا تسكن نفسه إلّا ببوارهم.
فكتب إليه أرسطوطالس:
- «فهمت كتابك في رجال فارس. فأما قتلهم فهو من الفساد في الأرض ولو قتلتهم لأنبت البلد أمثالهم [72] لأنّ إقليم بابل يولّد أمثال هؤلاء الرجال، من أهل العقول والسداد في الرأى، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنّك تكون قد وترت [2] القوم، وكثرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممن بعدهم، وإخراجك إياهم في عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك. ولكنى أشير عليك برأى هو أبلغ لك في كلّ ما تريد من القتل، وهو أن تستدعى أولاد الملوك منهم، ومن يستصلح للملك ويترشح له، فتقلّدهم البلدان، ويتوليهم الولايات، ليصير كل واحد منهم ملكا برأسه، فتتفرّق كلمتهم، ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدّى بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتّفقوا على أمر واحد، ولا تجتمع كلمتهم.» ففعل الإسكندر ذلك، فتمّ أمره، وأمكنه أن يتجاوز ملك الفرس، فسار قدما إلى أرض الهند، حتى قتل ملكها مبارزة، بعد حروب عظيمة هائلة، وفتح مدنها، ثم صار إلى الصين، وصنع بها [3] كصنيعه بأرض الهند، ثم طاف مما يلي القطب [73] الشمالي، ورجع إلى العراق، وخرج منها بعد أن ملّك ملوك الطوائف، فمات في طريقه بشهرزور [4] ، ويقال: بل في قرية من قرى بابل، وكان عمره ستّا
__________
[1] . مط: لما!
[2] . مط: سرت.
[3] . بها: سقطت من مط.
[4] . شهرزور: مدينة تقع في ناحية بنفس الاسم في الشمال الغربي من دينور، والمسافة بينهما أربعة منازل (لج: 205) .(1/100)
وثلاثين سنة، وملك منها ثلاث عشرة سنة وأشهرا. وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه.
الإسكندر وملك الصين
وفي الرواية الصحيحة: أنّ الإسكندر لما انتهى إلى بلاد الصين، أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره، فقال:
- «هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن في الدخول عليك.» قال: «أدخله.» فأدخله. فوقف بين يدي الإسكندر، وسلّم، ثم قال:
- «إن رأى الملك يستخلينى.» فأمر الملك من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلهم وبقي حاجبه. فقال:
- «إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غيرك.» قال: «فتّشوه.» فلم يوجد معه سلاح. فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مسلولا وقال له:
- «قف بمكانك وقل ما شئت.» وأخرج كلّ من كان بقي عنده.
فقال:
- «أنا ملك الصين، لا رسوله، جئت أسألك عما تريده، [74] فإن كان مما أمكن عمله- ولو على أصعب الوجوه- عملته، وأغنيتك عن الحرب [1] .» فقال له الإسكندر: «ما الذي آمنك منى؟» قال: «علمي بأنّك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة، ولا مطالبة بذحل، وأنّك تعلم، إن قتلتني، لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم
__________
[1] . مط: عن الحروب.(1/101)
قتلى من أن ينصبوا [1] لأنفسهم ملكا، ثم ينسب إلى غير الجميل، وضدّ الحزم.» فأطرق الإسكندر، وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له:
- «الذي أريد منك ارتفاع [2] مملكتك لثلث سنين عاجلا، ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة» .
قال: «هل غير هذا؟» قال: «لا.» قال: «قد أجبتك، ولكن سلني: كيف تكون حالي بعد ذلك؟» قال: «قل، كيف تكون حالك؟» قال: «أكون أول قتيل من محارب، أو أول أكيلة مفترس.» قال: «فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف تكون حالك؟» قال: «تكون أصلح قليلا وأفسح مدّة.» قال: «فإن قنعت منك [3] بارتفاع سنة؟» قال: «يكون في ذلك بقاء لملكى، وذهاب جميع لذّاتى.» قال: «فإن قنعت [75] منك [4] بارتفاع الثلث، كيف تكون حالك؟» قال: يكون السدس للفقراء ومصالح البلاد، ويكون الباقي لجيشى ولسائر أسباب الملك» .
فقال: «قد اقتصرت منك على هذا.» فشكره وانصرف. فلما طلعت الشمس، أقبل جيش الصين، حتى طبّق الأرض، وأحاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلاك. وتواثب أصحابه حتى ركبوا الخيل، واستعدوا للحرب بعد الأمن والطمأنينة إلى السلم. فبينا هم كذلك،
__________
[1] . مط: أن يصبوا.
[2] . الارتفاع: ما حصل من الزراعة. الخراج.
[3] . منك: سقطت من مط.
[4] . منك: سقطت من مط.(1/102)
إذ طلع ملك الصين وعليه التاج وهو راكب. فلما تراءى [1] الصفّان، ورأى الإسكندر ملك الصين، قدّر أنه حضر للحرب.
فصاح به: «أغدرت؟» فترجّل، وقال: «لا، والله.» قال: «فادن منى.» فدنا وقال: «ما هذا الجيش الكثير؟» قال: «إنى أردت أن أريك أنّى لا أطيعك من قلّة وضعف، ولكنّى رأيت العالم العلوي مقبلا عليك، ممكّنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، ومن حارب العالم العلوي غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلل له [76] بالتذلل لك.» فقال له الإسكندر: «ليس مثلك من يسام الذلّ، ولا من يؤدّى الجزية، فما رأيت بيني وبينك من الملوك، من يستحق التفضيل والوصف بالعقل، غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك» .
فقال ملك الصين: «فلست تخسر.» ثم انصرف عنه الإسكندر، فبعث إليه ملك الصين بضعف ما قرّره معه.
وبنى الإسكندر اثنتي عشرة مدينة، وسمّاها كلّها «الاسكندرية» ، منها: مدينة «جىّ [2] » بإصبهان، وثلاث مدن أخرى بخراسان، وهي: هراة، ومرو، وسمرقند.
وبنى بأرض بابل مدينة لروشنك، وبنى بأرض يونان سبع مدن [3] .
__________
[1] . مط: رأى!
[2] . جىّ: بالفهلوية) Gay:حب) وكانت تسمى شهرستانة (لج: 219) .
[3] . وليس لهذا الحديث أصل، لأنه كان مخرّبا ولم يكن بناء (حمزة: 29) . الروايات الخاصة بالإسكندر تجدها عند الطبري 2: 692- 704.(1/103)
البطالسة
وعرض على ابن للإسكندر الملك بعد وفاة أبيه، فأبى واختار النسك، ملّكت اليونانية على رواية أكثر الناس بطليموس. ثم ملك عدة متوالية يقال لكل واحد منهم: «بطلميوس» [1] ، كما يقال لملوك الفرس: «الأكاسرة» وتغلّب قوم من اليونانيين بعده على نواحي مصر [77] والشام.
__________
[1] . باليونانية) Ptalemaios:حب) .(1/104)
الأشغانيّة [1] ومن عاصرهم
واختلف أهل الرواية في عدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، إلى أن قام بالملك أردشير بابكان [2] ، فنظم ملك الفرس. فبعضهم يزعم أنّ آشك [3]- وهو ابن دارا الأكبر- جمع جمعا كثيرا وسار إلى أنطيخس [4] ، وكان مقيما بسواد العراق من قبل الروم، وزحف إليه أنطيخس. فالتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس، وغلب آشك على السواد، وصار في يده من الموصل إلى الرىّ وإصبهان، وعظّمه سائر [5] ملوك الطوائف لشرفه، وما كان من فعله، وبدءوا به على أنفسهم في كتبهم، وبدأ فيما كان يكتب إليهم بنفسه، وسمّوه ملكا، وأهدوا إليه، من غير أن يعزل أحدا منهم، أو يستعمله.
ثمّ ملك جوذرز بن أشكان
وهو الذي غزا بنى إسرائيل المرّة الثانية. وذلك بعد قتلهم يحيى بن زكريّا.
__________
[1] . فترة الحكم: 250 ق م- 226 م.
[2] . أول السلسلة الساسانية. في الأصل: أردشير بن بابكان، فحذفنا «بن» لأن الألف والنون في آخر «بابك» علامة تفيد نسبة البنوّة، ف «بابكان» أى: ابن بابك. انظر الطبري 2: 704.
[3] . أيضا الطبري (2: 709) .
.Antiochus. [4]
[5] . مط: «روابو الملوك» بدل «سائر الملوك» !(1/105)
فسلّطه الله عليهم، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم [جماعة بعد] [1] ذلك [78] ورفع الله عنهم النبوّة، وأنزل بهم الذلّ.
وكان من سنّة الفرس بعد الإسكندر، أن يخضعوا لمن ملك بلاد الجبل.
فخضعوا للأشغانيّة، وأوّلهم: أشك [2] بن أشكان، ثمّ سابور بن أشكان- وفي أيامه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين- ثمّ ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، ثمّ بيرى الأشغانى، ثمّ جوذرز الأشغانى، ثمّ نرسى [3] الأشغانى، ثمّ هرمز الأشغانى، ثمّ أردوان الأشغانى، ثمّ كسرى الأشغانى، ثمّ بلاش الأشغانى، ثمّ أردوان الأصغر الأشغانى، ثمّ أردشير بن بابك.
فكان مدّة هؤلاء إلى أن وثب أردشير على الأردوان، فقتله وجمع أمر الفرس، مائتين وستّا وستّين سنة. ولم يقع إلينا شيء من تدابيرهم يستفاد منه تجربة إلّا خبر لبعض الروم، وهو
: ذكر حيلة لبعض ملوك الروم
كان أحد ملوك [4] الفرس وجّه رجلا من جلّة قوّاده في جيش إلى ملك الروم، فحاربه، فأجلاه الفارسىّ عن أكثر بلاده، حتّى فتح [79] أنطاكية [5] ، وجاوزها، وأوغل في بلاد الروم. فجمع ملك الروم رؤساء قومه، فشاورهم. فأشاروا بأمور مختلفة، حتّى انفرد له رجل من أهل مملكته، ولم يكن من أبناء الملوك.
فقال: «إنّ [6] عندي رأيا أشير به. فإن رزق الله الظفر، فما لى عندك؟»
__________
[1] . ما في [] مطموس في الأصل، ومأخوذ عن مط.
[2] . بالفهلوية LArshak:أشك: أول الملوك الأشكانيّين (حب) .
[3] . بالفهلويّة) LNarsah:حب) .
[4] . ملوك: سقطت من مط.
[5] . أنطاكيه: مدينة على شاطئ النهر العاصي [نهر حماة وحمص ويعرف بالميماس- يا] ، ويقال لها أنتوخيا أيضا (لد) .
[6] . إنّ: سقطت من مط.(1/106)
قال الملك: «سل حاجتك.» قال: «إنّى أرى الرأى الصحيح، وأخاطر فيه بنفسي، فاجعل لى الملك من بعدك.» قال: «نعم» ، فوثّق له به.
فقال الرومي: «إنّ الفرس قد طمعت في ملكنا، فلم يبق منهم نجد [1] ولا ذو رأى إلّا وجّهوه في وجوهنا، وقد ضعفنا عنهم، وقد حملوا ذراريّهم إلى الشام والجزيرة. فالرأى أن تأذن لى فأنتخب من عسكرك خمسة آلاف رجل، ثم أحملهم في البحر، وأصير من خلفهم، فأوكل بمضائق الطرق، وصعاب العقاب، رجالا من أصحابى من أهل البأس والنجدة، فإنّ خبري إذا بلغهم، فتّ في عضدهم ونخبت [2] قلوبهم، ورجعوا إلى عيالاتهم وأموالهم متقطّعين [3] ، فلا [80] يمرّ بالمواضع التي وكّلت بها أحد من الفرس إلّا قتل، فلا يسلم إلّا القليل الذين إذا صاروا إلى الشام أتيت عليهم [4] وتشرّدهم أنت من خلفهم.» فأجابه الملك إلى رأيه، وأنفذه إلى الشام. فلما بلغ الفرس أنّ الروم قد خلفتهم في أموالهم، وأهاليهم، خرج أكثرهم على وجوههم متقطّعين لا يلوون على شيء، ومرّوا بمضائق الطرق، فقتل أكثرهم، وخرج ملك الروم إلى من بقي منهم، فهزمهم، فلم يسلم منهم إلّا القليل. فتحوّل الملك بذلك السبب من أهل بيت المملكة بالروم، إلى قوم ليسوا من أهل بيتها، بل هم من أهل إرميناقس [5] ، فبقى فيهم إلى هذه الغاية.
__________
[1] . النجد: الشجاع.
[2] . نخب الحرب فلانا: جبّنته، أضعفته.
[3] . تقطّع أمرهم بينهم: تفرّقوا به. تقطّعت بهم الأسباب: عجزوا، وانقطعت سبلهم.
[4] . أتيت عليهم: سقطت من مط.
[5] . مط: ارمينافس. وارميناق ناحية من نواحي الروم القديمة (لد) .(1/107)
ذكر سبب طمع العرب في أطراف الفرس
كنّا حكينا من أمر بختنصّر أنّه أنزل الحيرة من العرب جماعة، فانتقلوا بعد موته إلى الأنبار، وبقي الحير خرابا يبابا، زمانا طويلا، لا تطلع [عليهم] [1] طالعة من بلاد العرب، ولا يطمع [2] أحد فيهم من الريف، بعد ما قصدهم [81] بختنصّر.
فلمّا غلب الإسكندر على مملكة الفرس، وجعلها مقسومة في ملوك الطوائف، ضعف كل واحد منهم في نفسه، وصار عدوّه بالقرب منه من الأرض، ولكلّ واحد خندق [3] يقصده الآخر، فيغير بعضهم على بعض، ثمّ يرجع كالخطفة.
وقد كان كثر في ذلك الزمان أولاد معدّ بن عدنان، ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يليهم، وحدثت بينهم أحداث وحروب، فتفرّقوا، وخرجوا يطلبون متّسعا في بلاد اليمن ومشار [ف] [4] الشام، وأقبلت منهم قبائل حتّى نزلوا البحرين وبها جماعة من الأزد، وكانوا نزلوها في زمان ابن ماء السماء، وتحالف القوم الذين خرجوا من تهامة على التنوخ بالبحرين- التّنوخ: المقام- وكان منهم قوم من قضاعة، وقوم من معدّ، وقوم من إياد.
فتعاقدوا على التوازر والتناصر، وصاروا يدا على الناس وصار اسمهم: «تنوخ» .
ثمّ لمّا بلغهم انتشار [82] أمر الفرس واختلاف كلمتهم، تطلّعت نفوسهم إلى ريف العراق، وطمعوا في الفرس وفيما يلي بلاد العرب من أعمالهم، أو مشاركتهم فيها، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على
__________
[1] . التكملة من الطبري. والعبارة في الطبري: لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب ولا يقدم عليهم قادم (2:
745) .
[2] . مط: ولا طمع أحد.
[3] . معرّب «هندك» ، كنده (لد) .
[4] . في الأصل: «مشارق، والتصحيح من الطبري (2: 745) . والمشارف، جمع مشرف: قرى قرب حوران منها بصرى من الشام، ثمّ من أعمال دمشق. والمشارف من المدن: على مثل مسافة الأنبار من بغداد، والقادسية من الكوفة (يا) .(1/108)
المسير الى العراق. فلمّا ساروا، وجدوا الإرمانيّين- وهم القوم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل- يقاتلون الأردوانيّين، وهم: ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفّر [1]- قرية من سواد العراق- إلى الأبلّة [2] وأطراف البادية. فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم. وإنما قيل: «الإرمانيّين» لأنّه كان يقال لعاد: «إرم» ، فلمّا هلكت، قيل لثمود: «إرم» ، ثمّ سمّوا: «الإرمانيّين» وهم بقايا «إرم» ، وهم نبط السواد. ويقال لدمشق: «إرم» .
ثمّ طلع قوم من تيم الله، وغطفان في من تنخ معهم من الحلفاء والعشائر على الأنبار، على ملك الإرمانيّين. وطلع قوم من كندة وبنى فهم مع من حالفهم. وتنخ بعضهم على نفّر على [83] ملك الأردوانيّين، فأنزلوا الحير، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نفّر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتّى قدمها تبّع- وهو أسعد بن مليكيكرب- في جيوشه، فخلّف بها من لم تكن به قوّة ومن لم يقو على الغزو معه، ولا الرجوع إلى بلاده. فانضمّوا إلى أهل الحيرة، وخرج تبّع في حمير سائرا، ثمّ رجع إليهم، فأقرّهم على حالهم، وانصرف إلى اليمن وفيهم من كلّ القبائل من بنى لحيان- وهم بقايا جرهم- وطيّء، وكلب، وتميم، وغيرهم، واتّصلت جماعتهم وقووا، وكانوا بين الأنبار والحيرة إلى طفّ [3] الفرات في المظالّ والأبنية، وكانوا يسمّون [4] : «عرب الضاحية» .
من عاصر الأشغانيّين من ملوك العرب
فكان أوّل من ملك منهم:
مالك بن فهم، وملوك الفرس طوائف، وقد دخل الوهن عليهم، وطمع فيهم.
__________
[1] . نفّر: بلدة على نهر النرس من بلاد الفرس. قال الخطيب، فإن عنى أنّه من بلاد الفرس قديما جاز، فأمّا الآن فهو من نواحي بابل (مع) .
[2] . الأبلّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة (مع) .
[3] . مط: أطراف.
[4] . يسمون: سقطت من مط.(1/109)
ثمّ ملك أخوه عمرو بن فهم.
ثمّ جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، فقوى أمره، وكان جيّد الرأى، شديد النكاية في الأعداء [84] بعيد المغار. فاستجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وعظّمته العرب، وكنت- عن برص به- ب «الأبرش» وب «الوضّاح» ، فكان تفد عليه الوفود، وتجبى إليه الأموال.
وكان عنده غلام من إياد يقال له: عدىّ بن نصر بن ربيعة، وضيء، له جمال وظرف، يلي شرابه. فعشقته أخت جذيمة رقاش، وما زالت تحتال، وتواطئه، حتّى زوّجها الملك بعدىّ في سكره. فوطئها من ليلته وعلقت [1] منه. فلما أصبح جذيمة وعرف الخبر، ندم ندامة شديدة. وعرف عدىّ الخبر، فهرب، ولحق بإياد حتّى هلك. واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما وسمّته عمرا [2] . فترعرع الغلام وحسن وبرع، فالبسته وحلّته، وأزارته خاله جذيمة، فأعجب به، وأحبّه، وخلطه بولده، وأمر فطوّق، وهو أوّل عربىّ ألبس طوقا. ثمّ تزعم العرب أنّ الجنّ استهوته [3] زمانا إلى أن عاد إلى [85] جذيمة. وله خبر [4] .
عمرو بن ظرب
وكان قد ملك بأرض الحيرة ومشار [ف] [5] بلاد الشام، عمرو بن ظرب بن حسّان العمليقى. فجمع جذيمة جموعه من العرب ليغزوه. وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام. فالتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وفضّت
__________
[1] . علقت منه: أحبّها وشغف بها. علق بها وعلقها: أحبّها. علقت المرأة بالولد: حبلت (لع) .
[2] . عمرو: يكتب بالواو للفرق بينه وبين عمر وتسقطها في النصب لأنّ الألف تخلفها (لع) .
[3] . استهوى فلانا: أثّر فيه حتّى يتقبّل رأيه دون أن يقوم لديه دليل على صحّته.
[4] . انظر الطبري (2: 753) .
[5] . في الأصل ومط «مشارق» ، والتصحيح من الطبري (2: 756) .(1/110)
جموعه، وغنمه جذيمة وانصرف موفورا. فملكت من بعده ابنته
: الزبّاء [1]
واسمها نائلة. وكان جنودها بقايا من العماليق، والعاربة الأولى، وقبائل من قضاعة. فلمّا استحكم حكمها، أجمعت على غزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها. واستشارت أهل الرأى، فأشير عليها بالعدول عن الحرب إلى المكر، وأعلموها [2] أنّها امرأة، والحرب سجال [3] بين الرجال، وأنّها لو قد هزمت كان البوار، وأعلموها من غبّ [4] مباشرة مثلها للحرب، ما كرهته.
وأشارت عليها أختها «زنيبة [5] » وكانت ذات دهاء وإرب- أن تأتى الأمر من جهة الخدع والمكر، وأن تكتب إلى جذيمة [86] تدعوه إلى نفسها وملكها.
فقبلت ذلك وكتبت إليه:
أنها لم تجد ملك النساء إلّا إلى قبح في السماع، وضعف في السلطان وقلّة ضبط للمملكة، وأنّها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤا «غيرك. فهلمّ إلىّ، واجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتولّ تدبيري كلّه وأمرى، لتموت الضغائن والأحقاد، وتزول عن قلوب الناس ما خامرها من العداوات.» فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها بمخاطبات شبيهة بهذا المعنى، استخفّه [6] ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع أهل الرأى من أصحابه، فاستشارهم. فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولى على ملكها.
وكان فيهم رجل يقال له
:
__________
[1] . الزبّاء) Zenobia:المفصّل 3: 99) .
[2] . في الأصل: أعلموه.
[3] . السجال: المباراة، والمفاخرة.
[4] . الغب من كلّ شيء: عاقبته وأخرته.
[5] . زنيبة: مهملة في الأصل، والإعجام من الطبري. في مط: «زنيبة» وهي تنطبق على زنوبيا LZenobia أكثر من انطباقها على ما في الطبري (زبيبة) .
[6] . استخفّه: استفزّه.(1/111)
قصير بن سعد [1]
وكان سعد هذا تزوّج أمة تخدم لجذيمة [2] ، فولدت له قصيرا، وكان حازما، أريبا، أثيرا عند جذيمة. فخالفهم في ما [87] أشاروا به عليه، وقال:
- «رأى فاتر [3] وغدر [4] حاضر.» - فذهب مثلا.
فنازعوه الرأى، فقال لجذيمة:
- «أكتب إليها: فلتقبل إليك إن كانت صادقة. فإن لم تفعل. لم تسر إليها ممكّنا [إيّاها] [5] من نفسك وقد وترتها، وقتلت أباها.» فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، وقال جذيمة:
- «أنت امرؤ رأيك في الكنّ [6] ، لا في الضحّ [7] » - فذهبت مثلا.
دعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدىّ، فاستشاره، فشجّعه على المسير، وقال:
- «هناك نمارة [8] قومي، ولو قد رأوك [9] ، صاروا معك.» فأطاعه وعصى قصيرا. فقال قصير:
- «لا يطاع لقصير أمر.» وفي ذلك يقول الشعراء ما حذفناه طلب الإيجاز.
واستخلف جذيمة عمرو بن عدىّ على ملكه وسلطانه. وسار في وجوه
__________
[1] . أنظر الطبري (2: 758) .
[2] . مط: تزوّج أمّه خدمة لجذيمة!
[3] . الفاتر: الضعيف.
[4] . مط: عذر.
[5] . إيّاها: تكملة منّا.
[6] . الكنّ: كل ما يردّ الحرّ والبرد من الأبنية والغيران ونحوها.
[7] . الضّحّ: الشمس أو ضوؤها إذا استمكن من الأرض. ما أصابته الشمس. البراز الظاهر من الأرض.
[8] . نمارة: بطن من إياد من العدنانية (كحّالة) .
[9] . في الطبري: ولو قدروا لصاروا معك. بدل: ولو قد رأوك صاروا معك (2: 759) .(1/112)
أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربىّ. فلمّا نزل رحبة [1] مالك بن طوق- وكان تدعى في ذلك الزمان «الفرضة» - دعا قصيرا، فقال:
- ما الرأى؟» فقال:
«ببقّة [2] تركت الرأى.» - فذهبت مثلا. [88] واستقبلته رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال:
- «يا قصير كيف ترى؟» قال:
- «خطر يسير في خطب كبير- فذهبت مثلا- وستلقاك الخيل، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك، فالقوم غادرون، فاركب العصا، فإنّى مسايرك عليها.» وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير مولّيا على متنها، فقال:
- «ويل أمّه حزما على ظهر العصا.» - فذهبت مثلا.
ونجا قصير، وأدخل على الزبّاء. فلما رأته كشفت له عن إسبها [3] ، فإذا هو مضفور. فقالت:
- «يا جذيمة! أدأب عروس ترى؟» - فذهبت مثلا.
فقال: «بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى.» - فذهبت مثلا.
فتمّت حيلتها على جذيمة، حتّى قتلته بأن قطعت راهشيه [4] ، في خبر طويل، وأمثال محفوظة. فهلك جذيمة، وخرج قصير حتى قدم على عمرو بن عدىّ
__________
[1] . رحبة مالك بن طوق: على الفرات بين الرقّة والعانة، أحدثها مالك بن طوق في خلافة المأمون (مع) رحبة الشام (لج) .
[2] . بقّة: اسم موضع قريب من الحيرة، وقيل: حصن كان على فرسخين من هيت كان نزله جذيمة الأبرش (مع) .
[3] . الاسب: شعر الفرج، وقيل: شعر الاست. الشعر النابت على قبل المرأة والرجل.
[4] . الراهشان: عرقان في باطن الذراعين.(1/113)
[89] وهو بالحيرة.
فقال له قصير: «أداثر [1] ، أم ثائر؟» فقال:- «بل ثائر سائر.» - فذهبت مثلا.
ذكر حيلة لقصير على الزبّاء تمّت له عليها
كانت الزبّاء قد سألت الكهنة والمنجّمين عن أمرها وملكها، فقالوا:
- «نرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين.» ووصفوا قصيرا وعمرو بن عدىّ، وقالوا:
- «لن تموتي إلّا بيده، ولكنّ حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون.» فحذرت عمرا، واتّخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه، إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجئنى أمر دخلت النفق إلى حصني.
ثمّ دعت مصوّرا حاذقا فجهّزته، وقالت:
- «سر حتّى تقدم على عمرو بن عدىّ متنكّرا فتخلو بحشمه وتخالطهم بما عندك من التصوير، ثمّ أثبت [2] عمرو بن عدىّ معرفة، فصوّره جالسا، وقائما، وراكبا، ومتفضّلا [3] ، ومتسلّحا بهيئته، ولبسته، وثيابه، ولونه. فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلىّ.» فانطلق المصوّر، حتّى قدم على عمرو بن عدىّ [90] وبلغ جميع ما وصّته به، ثمّ رجع إليها بما وجّهته له من الصور. فعرفت عمرا على جميع هيئاته، وحذرته.
ثمّ إنّ قصيرا قال لعمرو: «إجدع أنفى، واضرب ظهري، ودعني وإيّاها.» فقال عمرو: «وما أنا بفاعل، ولا أنت بمستحقّ منّى لذلك.» فقال قصير: «خلّ عنّى إذا وخلاك ذمّ.» فذهبت مثلا.
__________
[1] . الداثر: الغافل. دثر السيف. صدى. دثر القلب: غفل.
[2] . أثبته: عرفه حق المعرفة.
[3] . تفضّل: لبس الفضال. والفضال ما يلبس في البيت.(1/114)
فقال له عمرو: «فأنت أبصر.» فجدع قصير أنف نفسه، وأثّر بظهره، وقيلت فيه الأشعار. وخرج قصير كأنّه هارب، وأظهر أنّ عمرا فعل به ذلك، وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة، وغرّه من الزبّاء.
فسار قصير حتّى قدم على الزبّاء. فقيل لها: «إنّ قصيرا بالباب.» فأمرت به، فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب.
فقالت: «ما الذي أرى بك يا قصير؟» قال: «زعم عمرو أنّى غررت خاله، وزيّنت له المسير إليك، وغششته، ومالأتك [1] عليه، ففعل بى ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أنّى لا أكون مع أحد هو أثقل [91] عليه منك.» فأكرمته، وأصابت عنده حزما ورأيا وتجربة ومعرفة بأمور الملوك. فلمّا علم أنّها قد وثقت به، واسترسلت إليه، قال لها:
- «إنّ لى بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها، وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة، والطيب، والتجارات، فتصيبين ما لا غناء للملوك عنه، مع أرباح عظيمة، فإنّه لا طرائف كطرائف العراق.» فلم يزل بها يزيّن لها ذلك، حتّى سرّحته، ودفعت إليه أموالا، وجهّزت معه عيرا، وقالت:
- «انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهّزناك به، وابتع لنا طرائف ما يكون بها.» فسار قصير، وأتى الحيرة متنكّرا، فدخل على عمرو، وأخبره بالخبر، وقال:
- «جهّزنى بالبزّ والطرف من الأمتعة، لعلّ الله يمكّن من الزبّاء، فتصيب ثأرك،
__________
[1] . مالأه: ساعده.(1/115)
وتقتل عدوّك.» فأعطاه حاجته، وجهّزه بصنوف الثياب وغيرها. فرجع بذلك كلّه إلى الزبّاء [92] فعرضه عليها. فأعجبها ما رأت، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثمّ جهّزته بأكثر ممّا كانت جهّزته به. فسار حتّى قدم العراق، ولقى عمرو بن عدىّ، وحمل من عنده ما ظنّ أنّه موافق للزبّاء، ولم يترك جهدا ولا حيلة في طرفة ولا متاع قدر عليه إلّا حمله إليها.
ثمّ عاد الثالثة إلى العراق. فقال لعمرو:
- «اجمع إلىّ ثقات قومك وأصحابك وجندك، وهيّئ لى الغرائر [1] والمسوح [2] .» وحمل كلّ رجلين في غرارتين، وجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها، وقال:
- «إذا دخلنا مدينة الزبّاء، أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإذا أقبلت الزبّاء تريد النفق، حلّلتها بالسيف.» ففعل عمرو بن عدى جميع ذلك. فلمّا قرب من المدينة، تقدّم قصير إليها، وبشّرها، وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال. وكان قصير يكمن النهار ويسير بالليل. فخرجت الزبّاء فأبصرت [93] الإبل. فلمّا توسّطت الإبل المدينة أنيخت، ودلّ قصير عمرا على باب النفق، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة، ووضعوا فيهم السلاح. وقام عمرو بن عدىّ بباب النفق، وأقبلت الزبّاء مبادرة تريد النفق لتدخله. فأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي صوّرها المصوّر، فمصّت خاتمها وكان فيه سمّ، وقالت:
__________
[1] . الغرائر: جمع مفرده الغرارة، وهي وعاء من الخيش يوضع فيه القمح ونحوه، وهو أكبر من الجوالق.
[2] . المسوح: جمع المسح: الكساء من شعر.(1/116)
- «بيدي، لا بيدك يا عمرو!» فحلّلها بالسيف، فقتلها وأصاب ما أصاب، وانكفأ [1] سالما.
عمرو بن عدىّ
وصار الملك بعد جذيمة لعمرو بن عدىّ بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وإليه تنسب ملوك آل نصر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، لا يدين لملوك الطوائف، ولا يدينون له، حتّى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس، فكان من أمرهم ما كان. [2] ولم يكن لملوك اليمن نظام قبل آل نصر، وإنّما كان الرئيس يكون ملكا على مخلافه [3] ومحجره [4] ، ولا يتجاوزه، [94] فإن نبغ منهم نابغ مثل تبّع وغيره، فتجاوز ذلك، فإنّما هو عن غير نظام ولا ملك موطّد [له] [5] ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من تشرّد، فيغير عند الغرّة، فإذا قصده الطلب، لم يكن له ثبات. فكذلك كان أمر ملوك اليمن كان الواحد منهم بعد الواحد، في قديم الدهر، يخرج من مخلافه ومحجره أيّاما، فيصيب ما مرّ به، ثمّ يتشمّر عند الطلب [6] راجعا إلى موضعه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه ومحجره بالطاعة، أو يؤدّى إليه خرجا إلّا ما يصيب على جهة الغارة، حتى كان عمرو بن عدىّ، إبن أخت جذيمة، فإنّه اتّصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على من كان بنواحي العراق، وبادية الحجاز، باستعمال ملوك فارس إيّاهم
__________
[1] . انكفأ: رجع، انصرف.
[2] . انظر الطبري 2: 768.
[3] . المخلاف: الكورة، وهي المحافظة، أو المديرية في الإصطلاح الحديث.
[4] . المحجر: محجر القيل من أقيال اليمن: حوزته، وناحيته، وحماه.
[5] . تكملة أوردناها لما يبدو هنا من نقص.
[6] . عند خوف الطلب (الطبري 2: 769) .(1/117)
واستكفائهم أمر من وليهم من العرب.
طسم وجديس
وممّن أساء السيرة فاصطلم [1] ، طسم وجديس [2] ، وكانوا في أيّام ملوك الطوائف. فأما طسم فكان الملك [95] فيهم، وكانوا ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار، ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة. وكان ملكهم ظلوما غشوما راكبا هواه. فكان مما لقوا من ظلمه: أنه أمر ألّا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها [3] . فغبر على ذلك دهرا، حتى أنف منهم رجل يقال له: الأسود بن عفار [4] .
فقال لرؤساء قومه:
- «قد ترون ما نحن فيه من العار والذلّ، الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، وتمتعض منه، فأطيعونى، فإنّى أدعوكم إلى عزّ الدهر ونفى الذلّ.» قالوا: «وما ذاك؟» فأخذ عهودهم إلى أن وثق ثم قال:
- «إنّى صانع للملك طعاما، فإذا حضر نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت به فقتلته، وأجهز كلّ رجل منكم على جليسه.» فأجابوه إلى ذلك، واجتمع رأيهم عليه. فاتّخذ طعاما وأمر قومه، فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال:
- «إذا أتاكم [96] القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفكم ثم شدّوا عليهم قبل
__________
[1] . اصطلمهم العدو أو الموت: استأصلهم وأبادهم.
[2] . أنظر الطبري 2: 771، وابن الأثير 1: 351.
[3] . افترع البكر: افتضّها.
[4] . الطبري: غفار.(1/118)
أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنّكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا.» وحضر الملك، فقتل وقتل الرؤساء، ثم شدّوا على البقيّة، فأفنوهم.
حدّة بصر اليمامة
فهرب رجل من طسم يقال له: رياح بن مرّة، حتى أتى حسان بن تبّع، فاستغاث به. فخرج حسّان بن تبّع في حمير، فلمّا كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح:
- «أبيت اللعن، إنّ لى أختا متزوّجة في جديس يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها. إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإنى أخاف أن تنذر القوم، فمر أصحابك، فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه.» ففعلوا ذلك، فأبصرتهم، فقالت لجديس:
- «لقد سارت حمير.» فكذّبوها وقالوا:
- «ما الذي ترين؟» قالت: «أرى رجلا في شجر معه كتف يتعرّقها [1] أو نعل يخصفها.» فلم يستمعوا منها، واستهانوا، فكان كما قالت. وصبّحهم حسّان فأبادهم [97] وأخرب بلادهم، وهدّم قصورهم وحصونهم. وأتى حسّان باليمامة ففقأ [2] عينها، وقالت العرب في ذلك الأشعار، وهي معروفة.
__________
[1] . تعرّق العظم: أكل ما عليه من اللحم نهشا بأسنانه.
[2] . فقأ العين: شقّها فخرج ما فيها.(1/119)
الساسانيّة [1] ومن عاصرهم أردشير بن بابك
ثمّ لمّا استولى أردشير بن بابك [2] على الأرمانيّين (وهم ملوك العراق وأنباط السواد، وكان كلّ واحد منهم يقاتل صاحبه، فاستولى أردشير عليهما، وقتل الأردوان- ويسمّى «شاهنشاه» ) ، كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، فخرجوا، فلحقوا بالشام، وانضمّوا إلى من كان هناك، وكان ناس من العرب يحدثون الأحداث لو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: الثلث [الأوّل [3]] : «تنوخ» ، وهم [4] من كان يسكن المظالّ وبيوت الشعر والوبر في غربىّ الفرات فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها.
والثلث الثاني: «العبّاد» ، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا بها. والثلث الثالث:
«الأخلاف» ، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ممن لم تكن من تنوخ الوبر [98] ولا من العبّاد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار جميعا بنيتا في زمن بختنصّر، فخربت الحيرة لما تحول أهلها عند هلاك بختنصّر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدىّ باتّخاذه إيّاها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة، إلى أن
__________
[1] . فترة الحكم: 224- 652 م (فم) .
[2] . أنظر الطبري (2: 813) .
[3] . الأوّل: تكملة منّا.
[4] . في الأصل: وهو.(1/121)
وضعت الكوفة، ونزلها المسلمون.
ودبّر أردشير أمر الفرس والعرب، وردّ نظام الملك، وكان حازما أريبا كثير الاستشارة طويل الفكر، معتمدا في تدبيره على رجل فاضل من الفرس يعرف ب «تنسر» ، وكان هربذا. فلم يزل يدبّر أمره ويجتمع معه على سياسة الملك، إلى أن أطاعه من جاوره من ملوك الطوائف، وعرفوا فضله، ودخلوا تحت رايته رهبة ورغبة، وحارب من امتنع منهم عليه.
وله مكايد وحروب يطول الكتاب بذكرها. فمن أحسن ما حفظ له عهده إلى الملوك بعده، وهذه نسخته: [99]
عهد أردشير
- «باسم ولىّ الرحمة. [1] من ملك الملوك أردشير بن [2] بابك، إلى من يخلفه [3] بعقبه من ملوك فارس، السلام والعافية. أمّا بعد [4] ، فإنّ صيغ [5] الملوك على غير صيغ [6] الرعية، فالملك يطبعه [7] العزّ والأمن والسرور والقدرة، على طباع الأنفة والجرأة والعيث [8] والبطر. ثم كلّما ازداد في العمر تنفّسا وفي الملك سلامة، زاده [9] في هذه الطبائع الأربع [10] ، حتّى يسلمه [11] إلى سكر السلطان الذي هو أشدّ من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات [12] والغير
__________
[1] . ر: بدون بسملة. 6: بسم الله الرحمن الرحيم.
[2] . غ: من أردشير ملك الملوك.
[3] . غ: يخلف.
[4] . غ: بدون «أما بعد» .
[5] . مط: منع.
[6] . مط: منع.
[7] . غ: بطبعه.
[8] . غ: البطر والعيث.
[9] . غ: «ثم له كلما ازداد ... زيادة» بدل «ثم كلما ازداد ... زاده» .
[10] . في الأصل: الأربعة. والتصحيح من غ.
[11] . غ: يسلّمه ذلك منه.
[12] . غ: بدون «العثرات» .(1/122)
والدوائر وفحش تسلّط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول. وقد قال الأوّلون منّا: عند حسن الظنّ بالأيّام تحدث الغير. وقد كان من الملوك من يذكّره عزّه الذلّ، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وبطره [السوقة] [1] ، [وقدرته المعجزة] [2] ، ولا حزم إلّا في جميعها.
- «اعلموا أنّ الذي أنتم [100] لاقون بعدي، هو الذي لقيني [3] من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم [بمثل الذي وردت به علىّ] [4] ، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتيانى، وأن منكم من سيركب الملك صعبا فيمنى من شماسه [5] وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به. [6] ومنكم من سيرث الملك عن الكفاة المذلّلين له مركبه، وسيجرى على لسانه ويلقى فيه قلبه [7] أن قد فرع [8] له، وكفى، واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي [9] ، وأنّ من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خصّ بما حرموا، وأعطى ما منعوا، فيكثر أن يقول مسرّا ومعلنا: خصّوا بالعمل وخصصت بالدعة، وقدّموا
__________
[1] . في الأصل: بالسوقة، مهملة، فاعجمناها وحذفنا الباء. في مط أيضا: بالسوقة.
[2] . زيادة من غ. وقدرته المعجزة، فإذا هو قد جمع مهجة ( «بهجة» - رسائل البلغاء) الملوك، وفكرة السوقة ( «وحذر الرعية- رسائل البلغاء) ولا حزم إلّا في جمعها» بدل: «بطره ... جميعها» .
[3] . غ: لقبته.
[4] . زيادة من غ.
[5] . الشماس: الإباء.
[6] . غ: منيت به منه. يقال: منى الله (يمنى منيا) فلانا بكذا. أى ابتلاه وأصابه.
[7] . غ: أمنيته.
[8] . غ: فرغ، بالغين المعجمة. وفرع (بالعين المهملة) الفرس: كبحه.
[9] . غ: في السعى في الملاهي واللعب.(1/123)
قبلي إلى الغرر، وخلّفت في الثقة.
وهذا الباب من الأبواب التي تكسر سكور [1] الفساد، ويهاج بها قربات [2] البلاء، ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك [3] . فإنّا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفىّ المظفر [101] الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف [للشبهة] [4] المبسوط له في العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو [5] صلاح ملكه حياته [6] ، إلّا أن يتشبّه به متشبّه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدّته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير [7] يدرك، أفسد جميع ما قدّم له من الصلاح قبله، ويخلّف المملكة خرابا على من بعده [8] .
- «وقد علمت أنكم ستبلون [9] مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصّحين والمتقربين والمضحكين والمزيّنين [10] : كلّ هؤلاء- إلّا قليلا- أن يأخذ لنفسه أحبّ إليه من أن يعطى منها، وإنّما عمله لسوق يومه وحياة غده. فنصيحته الملوك [11] فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها.
__________
[1] . جمع مفرده السكر: ما يسدّ به النهر ونحوه.
[2] . ر: دواهم، بدل: «قربات» .
[3] . غ: بدل «تكسر ... في ذلك» : يكثر بها فنون البلاء، وتعيى البصر عن لطيف ما يتهتك من الأمور في ذلك» .
[4] . زيادة من غ.
[5] . في الأصل: يعدو.
[6] . حياته: مهملة في الأصل والتصحيح من مط.
[7] . غ: صواب تدبير.
[8] . غ: بدل «أفسد ... من بعده» : أفسد واستفسد جميع ما قدّم له من قبله، وخلّف المملكة خرابا من بعده.
[9] . غ: ستبتلون.
[10] . المزيّن: الحلّاق. غ: المتزيّنين.
[11] . غ: لملوك.(1/124)
يجعل نفسه هي العامّة، والعامّة [1] هي الخاصّة: فإن [2] خصّ بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامّة، وإذا عمّ [102] الناس بالنصر على العدوّ، والعدل في البيضة، والأمن على الحريم، والحفظ للأطراف، والرأفة من الملك، والاستقامة من الملك، ولم يخصص من ذلك بما يرضيه، سمّى تلك النعمة نعمة خاصّة. ثم أكثر شكيّة [3] الدهر، ومذمّة الأمور. يقيم للسلطان سوق المودّة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير والقرين أنّ في التماس الربح على السلطان فساد جميع الأمور [4] ، وقد قال الأوّلون منّا: رشاد الوالي خير للرعيّة من خصب الزمان [5] .
- «واعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان. لا قوام لأحدهما إلّا بصاحبه، لأنّ الدين أسّ الملك وعماده، [6] وصار الملك بعد حارس الدين، فلا بدّ للملك من أسّه، ولا بدّ للدين من حارسه، فإنّ [7] ما لا حارس له ضائع، وإنّ ما [8] لا أسّ له مهدوم. وإنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين [وتلاوته والتفقّه فيه، فتحملكم الثقة بقوّة السلطان] [9] على التهاون بهم [10] ، فتحدث في الدين رئاسات مستسرّات في من قد وترتم [11] وجفوتم [103]
__________
[1] . غ: ويجعل العامة.
[2] . غ: فإذا.
[3] . غ: شكاية.
[4] . غ: بدل «ولا يعلم ذلك الوزير ... فساد جميع الأمور» : «ولا يعلم ذلك الوزير أنّ الوضيعة عنده في التماس الربح على السلطان» .
[5] . في رسائل البلغاء: رشاد الملك. في كامل المبرّد: عدل السلطان.
[6] . غ: بدون «عماده» .
[7] . غ: لأنّ.
[8] . غ: بدون «إنّ» .
[9] . ما بين [] زيادة من ر، غ.
[10] . مط: به.
[11] . وتره: قتل حميمه وأدركه بمكروه.(1/125)
وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة [1] الناس والرعيّة وحشو العامّة، ولم يجتمع [2] رئيس في الدين مسرّ، ورئيس في الملك معلن، في مملكة واحدة قطّ، إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أسّ والملك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع [3] البنيان من صاحب العماد.
- «وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفسير [4] والجماعات بالتفصيل [5] ، والفراغ بالأشغال، كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر [6] ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن. وقد كان من أولئك الملوك من صحّة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر [الجميل [7]] المحمود، أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته.
فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأنّ أرواحهم روح واحدة، يمكّن أوّلهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أوّلهم بجميع أنباء أسلافهم، ومواريث آرائهم [8] ، وصياغات عقولهم، عند الباقي منهم بعدهم، فكأنّهم جلوس [104] معه، يحدّثونه، ويشاورونه [9] ، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان، وغلبة [10] الإسكندر على ما غلب [11] من ملكنا. فكان إفساده أمرنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا، أبلغ له في ما أراد من سفك دمائنا. فلمّا أذن الله في
__________
[1] . السّفلة والسّفلة من الناس: أسافلهم وغوغاؤهم.
[2] . غ: واعلموا أنه لن يجتمع.
[3] . غ: بجميع.
[4] . ر. بالتفتيش.
[5] . مط: والجماعة بالتحصيل.
[6] . الغمر: الحقد والغلّ. نتن العرق.
[7] . زيادة من غ.
[8] . غ: آبائهم.
[9] . غ: ويشاورهم.
[10] . غ: من غلبة.
[11] . غ: غلب عليه.(1/126)
جمع مملكتنا ودولة أحسابنا، كان من ابتعاثه [1] إيّانا ما كان، وبالاعتبار [2] تتّقى الغير، ومن يخلفنا أوجد للاعتبار، منّا، لما استدبروا من أعاجيب ما أتى علينا.
- «واعلموا أنّ سلطانكم إنّما هو على أجساد الرعيّة، وأنّه لا سلطان للملوك على القلوب. واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات [3] أيديهم، فلن تغلبوهم على عقولهم. واعلموا أنّ العاقل [المحروم] [4] سالّ عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإنّ أشدّ ما يضربكم [5] به من لسانه، ما صرف الحيلة فيه إلى الدين: فكأنّ بالدين يحتجّ وللدين- فيما يظهر- يغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، و [6] هو أوجد للتابعين والمصدّقين والمناصحين والمؤازرين [105] منكم. لأنّ بغضة الناس هي موكّلة بالملوك، ومحبّتهم ورحمتهم موكلّة بالضعفاء المغلوبين. وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فانّ العاقل لا تنفعه [جودة] [7] نحيزته [8] إذا صيّر عقله خرابا [مواتا] [9] ، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك، فيسمّونهم المبتدعين.
فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم. ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك [والمتبتّلين] [10] أن يكونوا أولى بالدين، ولا أحدب [11] عليه، ولا أغضب له منه. ولا ينبغي للملك أن يدع
__________
[1] . غ: ابتعاث الله.
[2] . غ: العثار.
[3] . غ: ما في.
[4] . زيادة من غ.
[5] . غ: ما يضرّكم.
[6] . غ: «ثم» بدل «و» .
[7] . زيادة من غ.
[8] . النحيزة: الطبيعة.
[9] . زيادة من غ.
[10] . زيادة من غ.
[11] . حدب عليه: عطف.(1/127)
النسّاك بغير الأمر والنهى لهم في نسكهم [ودينهم] [1] فإنّ خروج النساك وغير النسّاك من الأمر والنهى عيب على الملوك وعيب على المملكة. وثلمة يتسنّمها الناس بنيّة [2] الضرر للملك ولمن بعده.
- «واعلموا أنّ مصير الوالي إلى [3] غير أخدانه، وتقريبه غير وزرائه، فتح لأبواب [الأنباء] [4] المحجوب [5] عنه علمها. وقد قيل: إذا استوحش الوالي ممّن لم [106] يوطّن [6] نفسه عليه، أطبقت عليه ظلم الجهالة [7] ، وقيل: أخوف ما تكون العامّة آمن ما يكون الوزراء.
- «اعلموا أنّ دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد أدبكم [8] . ولن يزال حريمكم من الأمم محروسا، ودينكم من غلبة الأديان محفوظا، ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحّى عنهم، ولا المحبّة لهم بالمحبّة لكل ما يحبّون. ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله، ومحبّتهم محبّة إصابتهم، وحكاية الصواب عنهم.
__________
[1] . زيادة من غ.
[2] . غ: بينة الضرر.
[3] . مط: على.
[4] . الأنباء: زيادة من غ.
[5] . ر: لأبواب محجوب.
[6] . ص: مما يوطّن.
[7] . قس هذه السطور بما جاء في رسائل البلغاء: «وإذا أذن الملك للعقلاء من مناصحى دولته، في إنهاء ما يتجدّد عندهم من النصائح التي لا يعلمها خواصه، أو يعلمونها ويكتمونها، انفتحت له أبواب من الأخبار المحجوبة عنه، فيحذر وزراؤه وخواصه من الاتفاق على أمر يكرهه، خوفا من أن يطالع به، فيأمن مكايدهم، وتسلم الرعية من ظلمهم، ومن غلبت عليه خواصه، حتى منعوا عنه الناس، فلا يصل إليه إلّا من يحبّون، أطبقت ظلم الجهالة عليه» .
[8] . ص: رأيكم.(1/128)
- «واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلّا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: أحدهما باب رقّة ورحمة [ورأفة وتضرّع وبذل وتحنّن وإلطاف ومواساة ومؤانسة] [1] وبشر وتهلل [وعفو] [2] وانبساط وانشراح، والآخر: باب غلظة وخشية [3] وتعنّت [107] وتسدّد وإمساك ومباعدة وإقصاء ومخالفة ومنع وقطوب [4] وانقباض [وتضييق وعقوبة] [5] ومحقرة إلى أن يبلغ القتل. واعلموا انّى لم أسمّ [هذين البابين] [6] باب رفق وباب عنف، ولكنّى [سمّيتهما] [7] جميعا «بابى رفق» ، لأنّ [8] فتح باب المكروه مع باب السرور هو أو شك لغلقه [9] ، حتّى لا يبتلى به أحد. و [10] في الرعيّة من الأهواء الغالبة للرأى والفجور المستثقل للدين والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد، ما لا بدّ معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل، وقد يفسد الوالي بعض الرعيّة من حرصه على صلاحها، ويغلظ [11] عليها من رقّته لها [12] ، ويقتل [13] فيها من حرصه على حياتها.
- «واعلموا أنّ قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيّتكم، ليس بحفظ، ولكنّه إضاعة. وكيف يجاهد العدوّ
__________
[1] . زيادة من غ.
[2] . زيادة من غ.
[3] . غ: وخشنة وتعصب وتشديد وجفاء، بدل «وخشية وتعنّت وتسدد وإمساك» .
[4] . غ: «عبوس» بدل «قطوب» .
[5] . زيادة من غ.
[6] . في الأصل: هذا الباب، والتصحيح من غ.
[7] . في الأصل: سميتها، والتصحيح من غ.
[8] . غ: واعلموا أنّ.
[9] . غ: لإغلاقه.
[10] . غ: واعلموا أنّ.
[11] . غ: وقد يغلط.
[12] . غ: من شدة رأفته بها.
[13] . غ: وقد يقتل.(1/129)
بقلوب مختلفة، وأيد متعادية. وقد علمتم أنّ الذي بنى عليه الناس، [108] وجبلت عليه الطباع [1] ، حبّ الحياة وبغض الموت، [وأنّ الحرب تباعد من الحياة وتدنى من الموت] [2] ، فلا دفع ولا منع [3] ولا صبر ولا محاماة مع هذا، إلّا بأحد وجهين: إمّا بنيّة، والنيّة ما لن يقدر على الوالي عند الناس بعد النيّة التي تكون في أوّل الدولة، وإمّا بحسن الأدب وإصابة السياسة.
«واعلموا أنّ بدء ذهاب الدول [4] من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة، ولا أعمال معلومة. فإذا فشى الفراغ [في الناس] [5] ، تولّد منه النظر في الأمور، والفكر في الأصول. فإذا نظروا في ذلك، نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولّد من اختلاف مذاهبهم، تعاديهم وتضاغنهم وتطاعنهم [6] ، وهم في ذلك مجتمعون- في اختلافهم- على بغض الملوك، لأنّ كل صنف منهم إنما يجرى إلى فجيعة الملك بملكه، ولكنهم لا يجدون سلّما إلى ذلك [7] أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعا، ولا أعزّ امتناعا، ولا أشدّ على الناس صبرا [8] . ثم يتولّد من تعاديهم [109] أنّ الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد، فإذا انفرد ببعضهم، فهو عدوّ بقيّتهم، ثم تتولّد من عداوتهم [للملك] [9] كثرتهم، فإنّ من شأن العامّة الاجتماع على استثقال الولاة والنفاسة [10] عليهم. لأنّ في
__________
[1] . غ: الطبائع.
[2] . ما في [] زيادة من غ.
[3] . ليس في غ: فلا دفع ولا منع.
[4] . غ: واعلموا أنّ ذهاب الدول يبدو.
[5] . زيادة من غ.
[6] . غ: بدون «تطاعنهم» .
[7] . غ: مع ذلك مجمعون.
[8] . غ: صوابا.
[9] . زيادة من غ.
[10] . النفاسة: الحسد.(1/130)
الرعيّة المحروم، والمضروب، والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعزّ الملك الذلّ في نفسه وخاصّته. فكلّ هؤلاء يجرى إلى متابعة أعداء الملك. ثمّ يتولّد من كثرتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم، فإنّ إقدام الملك على جميع الرعيّة تغرير [1] بملكه ونفسه، ويتولّد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأمم من ذوى الدين والبأس، لأنّ الملك إن سدّ الثغور بخاصّته المناصحين له، وخلت [2] به العامّة الحاسدة المعادية [3] ، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب، وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو [وأضرّه، وأحنقه] [4] ، وأحضره، وأخلقه بالظفر، ولا بدّ من استطراد [110] هذا كله إذا ضيّع أوّله.
- «فمن ألفى منكم الرعيّة بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة التي هي: أصحاب الدين، والحرب، والتدبير، والخدمة- من ذلك:
الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجّمون والأطبّاء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف- فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات [5] ، ولا يكوننّ لانتقاله عن الملك بأجزع منه من انتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته. لأنّ تنقّل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه: إمّا إلى
__________
[1] . غرر به: عرّضه للهلكة.
[2] . خلت به: خادعته.
[3] . غ: المعادية المنافسة، وإن التمس سدّ الثور بالعامة الحاسدة ولم يعد.
[4] . زيادة من غ.
[5] . الدخلات: النيات. دخلة الأمر: بطانته. الدخلة: المذهب.(1/131)
خلع، وإمّا إلى فتك. فلا يكوننّ من شيء من الأشياء أوحش بتّة [1] من رأس صار ذنبا، أو ذنب صار رأسا، أو يد مشغولة أحدثت فراغا، أو كريم ضرير، أو لئيم مرح. فانّه يتولّد من تنقّل الناس عن حالاتهم، أن يلتمس كلّ امرئ منهم أشياء فوق مرتبته. [111] فإذا انتقل أو شك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه، فيغبط وينافس. وقد علمتم أنّ من الرعيّة أقواما هم أقرب الناس من الملوك حالا. وفي تنقّل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك.
- «ومن ألفى منكم الرعيّة وقد أضيع [2] أوّل أمرها، فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف [3] من المراتب، وضياع من العامّة، وكانت به على المكاثرة قوّة، فليكاثر [4] بقوّته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه [5] ، ولا يقولنّ:
أخاف العسف [6] . فإنّما يخاف العسف من يخاف جريرة العسف على نفسه، فأمّا إذا كان العسف لبعض الرعيّة صلاحا لبقيّتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعيّة، من النغل [7] والدغل والفساد، فلا يكوننّ إلى شيء بأسرع منه إلى [112] ذلك، فإنّه ليس نفسه ولا أهل موافقته يعسف، ولكنّما [8] يعسف عدوّه.
- «ومن ألفى منكم الرعيّة في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها
__________
[1] . بتّة: قطعا. غ: منه بدل: بتّة. مط: نية.
[2] . غ: ضاع.
[3] . غ: واختلال.
[4] . كاثره: غالبه بالكثرة.
[5] . أخذ بكظمه: كربه وغمّه.
[6] . العسف: الظلم.
[7] . النغل: الإفساد بين القوم. نغلت نيته: ساءت.
[8] . غ: ولكنه.(1/132)
قوّة في [إ] صلاحها [1] ، فلا يكوننّ لقميص قمل [2] بأسرع خلعا منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار- إذا أتاه- وهو غير مذكور بشؤم، ولا منوّه به في دنياه [3] ، ولا مهتوك به ستر ما في يديه.
- «واعلموا أنّ فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة، ثم يديم من ذلك ما يورثه خلقا وعادة. فيكون ذلك لقاح جدّ لا لهو فيه، وتعب لا خفض [4] فيه [5] ، مع الهجنة في الرأى والفضيحة في الذكر. وقد قال الأولون منّا: لهو رعيّة الصدق بتقريظ الملوك، ولهو ملوك الصدق بالتودّد إلى الرعيّة.
- «واعلموا أنّ من شاء منكم ألّا يسير بسيرة إلّا [6] قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم تكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منه بعيبه.
- «ثم إنه ليس منكم [113] ملك إلّا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده، ومن فساد الرعيّة [7] نشر أمور ولاة العهود، فإنّ في ذلك من الفساد أنّ أوّله دخول عداوة ممضّة [8] بين الملك، وولى عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشدّ من أن يسعى كلّ واحد منهما في قطع سؤل [9] صاحبه. وهكذا الملك، وولى عهده: لا يسرّ الأرفع أن يعطى الأوضع سؤله في فنائه. ولا يسرّ هذا الأوضع أن يعطى الآخر سؤله في البقاء، ومتى يكن فرح أحدهما في الراحة من صاحبه،
__________
[1] . الهمزة، زدناها.
[2] . القميص قمل إذا كثر عليه القمل.
[3] . غ: دناءة.
[4] . الخفض: لين العيش وسعته.
[5] . غ: معه.
[6] . مط: بدون «إلّا» .
[7] . غ: الملك.
[8] . أمضّه الأمر: أخرقه وشقّ عليه.
[9] . غ: شوكة.(1/133)
تدخل كل واحد منهما وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تداينا [1] بالتهمة، يتّخذ كلّ واحد منهما [أحبّاء وأخدانا وأهلا، ثم يدخل كلّ واحد منهما] [2] وغر [3] على أحبّاء صاحبه. ثم تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما لما لا بدّ منه من الفناء، فتفضى الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس، يرى أنه موتور إن لم يحرمهم ويضعهم، وينزل بهم التي كانوا يريدون إنزالها به لو ولوا.
فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضا على هذه الجهة، [114] تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعيّة، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي. ولكن ليختر الوالي منكم لله، ثم للرعيّة، ثم لنفسه، وليّا للعهد من بعده، ثمّ ليكتب اسمه في أربع صحائف، فيختمها بخاتمه، فيضعها عند أربعة نفر [4] من خيار أهل المملكة. ثم لا يكوننّ [5] منه في سرّ ولا في علانية أمر يستدلّ به على ولىّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكّب يستراب له، وليتّق ذلك في اللحظة والكلمة. فإذا هلك، جمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة، إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعا، ثم نوّه بالذي وضع اسمه في جميعهن. فيلقى الملك- إذا لقيه- بحداثة عهده بحال السوقة [6] ، فلبس ذلك الملك- إذا لبسه- ببصر السوقة، وسمعها، ورأيها. فإنّ في سكر السلطان الذي
__________
[1] . تداينا: تحاكما.
[2] . زيادة من غ.
[3] . الوغر والوغر: الحقد والضغن والعداوة.
[4] . النفر: الجماعة من الرجال من ثلاثة إلى عشرة أنفار. ويقال: ثلاثة نفر، أو: ثلاثة أنفار.
[5] . في الأصل: لا يكون. ونون التأكيد من غ.
[6] . السوقة للمفرد والجمع: الرعية، ويقال للجمع: سوق كغرف.(1/134)
سيناله [1] ، ما يكتفى به له [2] من سكر ولاية العهد مع سكر الملك.
فيصمّ ويعمى قبل لقاء الملك لصمم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك، فيزيده صمما وعمى مع ما يلقى في ولاية [115] العهد من بطر السلطان، وحيلة العتاة، وبغى الكذّابين و [ترقية] [3] النمّامين وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه.
- «ثم اعلموا أنّه ليس للملك [أن يبخل، لأنه لا يخاف الفقر، وليس له] [4] أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب، لأنّ الغضب والعداوة لقاح الشرّ والندامة، وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأنّ العبث واللعب من عمل الفرّاغ، وليس له أن يفرغ، لأنّ الفراغ من أمر السّوق، وليس له أن يحسد إلّا ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأنّ الخوف من المعور [5] ، وليس له أن يتسلّط، إذ هو معور [6] .
- «واعلموا أنّ زين الملوك، في استقامة الحال: أن لا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة، وساعات الفراغ والدعة، وساعات الركوب والنزهة، فإنّ اختلافها منه خفّة، وليس للملك أن يخفّ.
- «اعلموا أنّكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم [7] على أن تجعلوا القبيح حسنا [116] .
__________
[1] . غ: «بينّاه» ، بدل «سيناله» . مط: نسبنا له.
[2] . غ: بدون «له» .
[3] . رقى في الحديث: زاد فيه. مط: «وتتبع الكذابين» بدل «وترقية النمامين» .
[4] . ما بين [] زيادة من غ، ورسائل البلغاء.
[5] . مط: المعوز. غ: من أمر المعور. رجل معور: قبيح السيرة. أعور الرجل والمرأة: بدت عورتهما.
[6] . غ: إن هو أعور. مط: إذ هو معوز.
[7] . غ: لكم.(1/135)
- «واعلموا أنّ لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحرىّ أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا.
وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليس السوقة كذلك.
- «واعلموا أنّه يحقّ على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظرا، أعظم ما يكون خطرا، وألّا يذهب حسن أثره في الرعيّة خوفه لها، وألّا يستغنى بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشدّ من حذره للمباعدين، وأن يتّقى بطانة السوء أشدّ من اتّقائه عامّة السوء، ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامّة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصّة.
- «واعلموا أنّ لكل ملك بطانة، وأنّ لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكلّ امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع في ذلك [جميع] [1] أهل المملكة! فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب، أقام كل امرئ منهم بطانته [117] على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة.
- «اعلموا أنّ الملك منكم قد تهون عليه العيوب، لأنّه لا يستقبل بها إن [2] عملها حتى يرى أنّ الناس يتكاتمونها بينهم كمكاتمتهم إيّاه تلك العيوب. وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته، فإذا غلب الهوى اشتدّ علاجه من السوقة المغلوب [3] فضلا عن الملك الغالب.
- «اتّقوا بابا واحدا طالما أمنته فضرّنى، وحذرته فنفعني: احذروا
__________
[1] . ما في [] زيادة من غ.
[2] . في الأصل: وإن (بزيادة الواو) .
[3] . يبدو أنّ تذكير الصفة باعتبار معنى «السوقة» المفرد. في مط أيضا: المغلوب.(1/136)
إفشاء السرّ عند الصغار من أهليكم وخدمكم، فانّه لا يصغر أحد منهم [عن] [1] حمل ذلك السرّ كاملا! لا يقول منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون، إمّا سقطا وإما غشّا [2] ، والسقط أكثر ذلك. اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم [3] لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه وزينه وشينه. [118] «واعلموا أنّ صحة الظنون مفاتيح اليقين، وأنكم ستستيقنون من بعض رعيّتكم بخير وشرّ، وستظنّون ببعضهم خيرا وشرّا، فمن استيقنتم منه بالخير والشرّ، فليستيقن منكم بهما، ومن ظننتموهما به [4] ، فليظنّهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظنّ فيغتبط [5] ، ومن المسيء إساءته، فيصدق الظنّ به فيندم.
«واعلموا أنّ للشيطان في ساعات من الدهر طمعا في السلطان عليكم، منها: ساعات الغضب والحرص والزهو، فلا تكونوا له في شيء من ساعات الدهر أشدّ قتالا منكم عندهنّ حتّى يتقشّعن.
وكان يقال: اتّق مقارنة الحريص الغادر، فإنّه إن رءاك في القرب، رأى منك أخبث حالاتك، وإن رءاك في الفضول، لم يدعك وفضولك.
أسعدوا [6] الرأى على الهوى، فإنّ ذلك تمليك للرأى. واعلموا أنّ
__________
[1] . في الأصل: «على» ولم نجد لها وجها من الصحة.
[2] . الغشّ: اسم للغش.
[3] . الحباء: العطاء.
[4] . مط: منه.
[5] . مط: فيسقط.
[6] . أسعدوا: ساعدوا. غ: استعدوا: استعينوا. (الأول من الإسعاد والثاني من الاستعداء) .(1/137)
من شأن الرأى الاستخذاء [1] للهوى، إذا جرى الهوى على عادته.
وقد عرفنا [119] رجالا كان الرجل منهم يؤنس من قوّة طباعه، ونبالة رأيه ما تريه نفسه أنّه على إزاحة الهوى عنه، وإن جرى على عادته، ومعاودته الرأى، وإن طال به عهده قادر، لثقة يجدها بقوّة الرأى. فإذا تمكّن الهوى منه، فسخ عزم رأيه، حتى يسمّيه كثير من الناس ناقصا في العقل. فأمّا البصراء فيستبينون من عقله عند غلبة الهوى عليه ما يستبان من الأرض الطيّبة الموات.
- «واعلموا أنّ في الرعية صنفا من الناس هم بإساءة الوالي أفرح منهم بإحسانه، وإن كان الوالي لم يترهم، وكان الزمان لم ينكبهم، وذلك لاستطراف حادثات الأخبار، فإنّ استطراف الأخبار معروف من أخلاق حشو الناس. ثمّ لا طرفة عندهم فيما اشتهر، فجمعوا في ذلك سرور كلّ عدو لهم ولعامّتهم مع ما وتروا به أنفسهم وولاتهم.
فلا دواء لأولئك إلّا بالأشغال. وفي الرعية صنف وتروا [2] الناس [120] كلّهم وهم الذين قووا على جفوة الولاة، ومن قوى على جفوتهم فهو غير سادّ ثغرا ولا مناصح [3] إماما، ومن غشّ الإمام فقد غشّ العامّة وإن ظنّ أنه للعامة مناصح، وكان يقال: لم ينصح عملا من غشّ عامله.
- «وفي الرعيّة صنف تركوا إتيان الملوك من قبل أبوابهم وأتوهم من قبل وزرائهم. فليعلم الملك منكم أنّ من أتاه من قبل بابه فقد آثره بنصيحته [4] إن كانت عنده، ومن أتاه من قبل وزرائه فهو موثر للوزير على الملك في جميع ما يقول ويفعل.
__________
[1] . استخذى له: انقاد واتّضع.
[2] . غ: ضروب وتروا.
[3] . غ: بدون «لا» .
[4] . غ: بنصيحة.(1/138)
- «وفي الرعيّة صنف دعوا إلى أنفسهم الجاه، بالإباء والردّ له، ووجدوا ذلك عند المغفّلين نافقا [1] ، وربّما قرّب الملك الرجل من أولئك لغير نبل في رأى، ولا إجزاء [2] في العمل، ولكن الإباء والردّ أغرياه به [3] .
- «وفي الرعيّة صنف أظهروا التواضع، واستشعروا الكبر.
فالرجل منهم يعظ الملوك زاريا عليهم بالموعظة، يجد ذلك أسهل طريقي طعنه عليهم [121] ويسمّى هو ذلك- وكثير ممن معه- تحرّيا [4] للدين. فإن أراد الملك هو انهم لم يعرف لهم ذنبا يهانون عليه [5] ، وإن أراد إكرامهم فهي منزلة حبوا بها أنفسهم على رغم الملوك، وإن أراد إسكاتهم كان السماع في ذلك أنّه استثقل ما عندهم من حفظ الدين، وإن أمروا بالكلام قالوا [ما يفسد ولا يصلح] [6] . فأولئك أعداء الدول وآفات الملوك. فالرأى للملوك تقريبهم من الدنيا، فإنّهم إليها أجروا [7] ، وفيها [8] عملوا، ولها سعوا، وإيّاها أرادوا. فإذا تلوّثوا [9] فيها بدت فضائحهم، وإلّا فإنّ فيما يحدثون ما يجعل للملوك سلّما إلى سفك دمائهم. وكان بعض الملوك يقول: القتل أقلّ للقتل.
- «وفي الرعيّة صنف أتوا الملوك من قبل النصائح لهم، والتمسوا صلاح منازلهم بإفساد منازل الناس. فأولئك أعداء الناس وأعداء
__________
[1] . مط: نافعا. نفقت السوق: قامت وراجت تجارتها.
[2] . الإجزاء: الكفاية والإغناء.
[3] . به: الأصل مطموس، والمثبت من غ.
[4] . غ: محرزا.
[5] . وفي غ: به.
[6] . الضبط من غ، وفي الأصل: إنما نفسد ولا نصلح. وفي رسائل البلغاء: وإن أطلق لسانه، قال بوعظه بين الملأ ما أفسد حال الدولة.
[7] . أجرى إلى الشيء: قصده.
[8] . غ: لها.
[9] . مط: تكونوا.(1/139)
الملوك، ومن عادى الملوك وجميع الرعيّة، فقد عادى نفسه.
- «واعلموا أنّ الدهر [122] حاملكم على طبقات، منهنّ: حال السخاء حتى تدنو من السرف، ومنهن: حال التقتير [1] حتى تقرب من البخل، ومنهنّ: حال الأناة، حتى تصير إلى البلادة، ومنهنّ: حال المناهزة للفرصة حتى تدنو من الخفّة، ومنهنّ حال الطلّاقة في اللسان حتى تدنو من الهذر، ومنهنّ: حال الأخذ بحكم الصمت حتى تدنو من العىّ، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كلّ طبقة في محاسنها حدّها، فإذا وقف على الحدود التي ما وراءها سرف، ألجم نفسه عمّا وراءها.
- «واعلموا أنّ الملك منكم ستعرض له شهوات في غير ساعاتها. والملك إذا قدّر ساعة العمل، وساعة الفراغ، وساعة المطعم، وساعة المشرب، وساعة الفضيلة [2] ، وساعة اللهو، كان جديرا ألّا يعرف منه [3] الاستقدام بالأمور، ولا الاستيخار عن ساعاتها. فإنّ اختلاف ذلك يورث مضرّتين: إحداهما السخف، وهي أشدّ الأمرين، [123] والأخرى نقص الجسد، بنقص أقواته وحركاته.
- «واعلموا أنّ من ملوككم من سيقول: لى الفضل على من كان قبلي من آبائي وعمومتي ومن ورثت عنه هذا الأمر، لبعض الإحسان يكون منه. فإذا قال ذلك، سوعد [4] عليه بالمتابعة [5] له.
__________
[1] . غ: حال الإقتصاد. قتّر على عياله: بخل، وضيّق عليهم في النفقة.
[2] . غ: الفضلة.
[3] . مط: بدون «منه» .
[4] . غ: وسوعد.
[5] . مط: بالمبايعة.(1/140)
فليعلم ذلك الملك والمتابعون [1] : إنما [2] وضعوا أيديهم وألسنتهم في قصب [3] آبائه من الملوك وهم لا يشعرون. ولبالحرىّ أن يشعر بعض المتابعين له فيغمّض [4] على ما لا يحزنه من ذلك.
- «واعلموا أنّ ابن الملك وأخاه وعمّه [5] وابن عمّه كلّهم يقول:
كدت أن أكون ملكا، وبالحرىّ ألّا أموت حتى أكون ملكا، فإذا قال ذلك، قال ما لا يسرّ الملك. فإن كتمه، فالداء في كلّ مكتوم، وإن أظهره كلم [6] في قلب الملك كلما [7] يكون لقاحا للتباين والتعادي.
وستجدون [8] القائل ذلك من المتابعين والمحتملين [9] والمتمنّين، ما تمنّى لنفسه ما يريده [10] ، إلّا [11] [124] ما اشتاق إليه شوقا. فإذا تمكّن في صدره الأمل، لم يرج النيل له، إلّا في اضطراب من الحبل [12] ، وزعزعة تدخل على الملك وأهل المملكة. فإذا تمنّى ذلك فقد جعل الفساد سلّما إلى الصلاح، ولم يكن الفساد سلّما إلى صلاح قطّ. وقد رسمت لكم في ذلك مثالا لا مخرج لكم منه إلّا به.
اجعلوا أولاد الملك من بنات عمومتهم. ثمّ لا يصلح من أولاد بنات الأعمام، إلّا كامل غير سخيف العقل، ولا عازب الرأى، ولا ناقص الجوارح، ولا معيوب عليه في الدين. فإنّكم إذا فعلتم ذلك، قلّ طلّاب الملك، وإذا قلّ طلّابه استراح كلّ امرئ على جديلته، وعرف
__________
[1] . مط: المبالغون.
[2] . مط: بدون «إنما» .
[3] . قصبه: شتمه.
[4] . غ: فيغضى.
[5] . مط: «وابن أخى الملك» بدل «عمه وابن عمه» .
[6] . الكلم: الجرح.
[7] . غ: كلّ ما.
[8] . في الأصل: وستجد. غ: وستجدون.
[9] . غ: «والمخيلين له» بدل «المحتملين والمتمنين» .
[10] . غ: ما يزيده.
[11] . في الأصل ومط: إلى، والتصحيح من غ.
[12] . الحبل: العهد والذمة.(1/141)
حاله [1] ، وغضّ بصره، ورضى بمعيشته واستطاب زمانه.
- «واعلموا أنّه سيقول قائل من عرض [2] رعيّتكم، أو من ذوى قرابتكم: ما لأحد علىّ فضل و [3] لو كان لى ملك..، فإذا قال ذلك فإنّه قد تمنّى الملك [125] [4] وهو لا يشعر، ويوشك أن يتمنّاه بعد ذلك وهو يشعر. فلا يرى ذلك من رأيه خطلا [5] ، ولا من فعله زللا، وإنّما يستخرج ذلك فراغ القلب واللسان ممّا يكلّف أهل الدين والكتّاب والحسّاب، أو فراغ اليد ممّا يكلّف الأساورة، أو فراغ البدن مما يكلّف التجّار، والمهنة، والخدم. واعلموا أنّ الملك ورعيّته جميعا يحقّ عليهم ألّا يكون للفراغ عندهم موضع، فإنّ التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فراغ الرعيّة.
- «واعلموا أنّا على فضل قوّتنا، وإجابة الأمور إيّانا، وحدّة دولتنا، وشدة بأس أنصارنا، وحسن نيّة وزرائنا، لم نستطع إحكام تفتيش الناس، حتى بلغنا من الرعيّة مكروهها، ومن أنفسنا مجهودها.
- «واعلموا أنّه لا بدّ من سخط سيحدث منكم على بعض أعوانكم المعروفين بالنصيحة لكم، ولا بدّ من رضى سيحدث لكم من بعض أعدائكم المعروفين بالغشّ لكم، فلا تحدثوا، عند ما يكون من ذلك، انقباضا عن المعروف [126] بالنصيحة، ولا استرسالا إلى
__________
[1] . غ: «واقتصر على ما يليه، واستكثر كل امرئ حاله» بدل «على جديلته وعرف حاله» . الجديلة:
الطريقة، والشاكلة.
[2] . هو من عرض الناس: من العامة.
[3] . غ: بدون «و» .
[4] . حصل تقديم وتأثير بين صفحتي 125 و 126 من مصورة ليدن، فصححناه.
[5] . الخطل: الحمق. المنطق المضطرب الفاسد. الكلام الكثير الفاسد. الطول والاضطراب يكون في الإنسان والرمح والفرس.(1/142)
المعروف بالغشّ.
- «قد خلّفت لكم رأيى، إذ لم أستطع تخليف بدني، وقد حبوتكم بما حبوت به نفسي وقضيت حقّكم فيما آسيتكم به من رأى.
فاقضوا حقّى بالتشفيع لى في صلاح أنفسكم والتمسك بعهدي إليكم. فإنّى قد عهدت إليكم عهدي، وفيه صلاح جميع ملوككم وعامّتكم وخاصّتكم. ولن تضيعوا ما احتفظتم بما رسمت لكم ما لم تصنعوا [1] غيره. فإذا تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم ما بقي الدهر.
- «ولولا اليقين بالبوار النازل على رأس الألف من السنين [2] ، لظننت أنّى قد خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم الدهر. ولكن القضاء إذا جاءت أيّامه، أطعتم أهواءكم، واستثقلتم ولاتكم، وأمنتم وتنقّلتم عن مراتبكم وعصيتم خياركم [وأطعتم شراركم] [3] ، وكان أصغر ما تخطئون فيه سلّما إلى أكبر منه حتى تفتقوا ما رتقنا، [وتوهوا ما وثّقنا] [4] ، وتضيعوا ما حفظنا. والحقّ [5] علينا وعليكم [127] ألّا نكون [6] للبوار أغراضا، وفي الشؤم أعلاما. فإنّ الدهر إذا أتى بالذي تنتظرون، اكتفى بوحدته [7] . ونحن ندعو الله لكم بنماء المنزلة، وبقاء الدولة، دعوة لا يفنيها فناء قائلها حتّى المنقلب [8] ، ونسأل الله الذي عجّل بنا وخلّفكم، أن يرعاكم رعاية يرعى بها ما تحت أيديكم [وأن يرفعكم رفعة يضع بها من
__________
[1] . مط: ما لم تضعوا.
[2] . غ: ألف سنة.
[3] . زيادة من غ.
[4] . زيادة من غ.
[5] . غ: ويحق.
[6] . نكون: من غ. وفي الأصل: ألّا تكونوا.
[7] . غ: حدّته (بالتشديد) .
[8] . المنقلب: المعاد.(1/143)
عاداكم] [1] ، ويكرمكم كرامة يهين بها من ناوأكم. ونستودعكم الله وديعة يكفيكم بها الدهر الذي يسلّمكم إلى [2] زياله [3] وغيره [وعثراته] [4] وعداوته، والسلام على أهل الموافقة ممّن يأتى عليه العهد [5] من الأمم الكائنة بعدي [6] .»
ثم انتهى الملك إلى سابور بن أردشير [7]
فمن وجوه المكائد الغريبة [8] ما تمّ على رجل من الجرامقة [9] يقال له:
الساطرون، وهو الذي تسمّيه العرب: الضيزن، وكان ينزل بجبال تكريت بين دجلة والفرات في مدينة يقال لها: الحضر [10] . وزعم هشام بن الكلبي أنّه من العرب من قضاعة، وأنّه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من قبائل قضاعة [128] ما لا يحصى، وبلغ ملكه الشام.
ثم إنه تطرّف [11] بعض السواد في غيبة لسابور إلى ناحية خراسان. فلمّا قدم من غيبته، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصّن الضيزن، كما قال الأعشى ميمون بن قيس، سنتين، لا يقدر سابور على الوصول إليه، وهو قوله:
ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى، وهل خالد من نعم
__________
[1] . زيادة من غ.
[2] . من مط. وما في الأصل: إلّا.
[3] . غ: زواله. الزيال: الفراق.
[4] . زيادة من غ.
[5] . غ: هذا العهد.
[6] . غ: بعدي إلى يوم القيامة.
[7] . أنظر الطبري (2: 823) .
[8] . في الأصل ومط: «القريبة» .
[9] . جمع مفرده: الجرمقانى. قوم من العجم هبطوا الموصل أوائل الإسلام.
[10] . الحضر: باليونانية حترا (هترا) : شيّدها الفرتيّون على بعد أربعة كيلو مترات من وادي الثرثار بين دجلة والفرات في القرن الأول، كانت حصنا دفاعيا لهم ضد التوسع الرومانى ومركزا تجاريا (لج، مع، أم) .
[11] . مط: تطرق. في الطبري: تطرّف السواد.(1/144)
أقام به شاهبور الجنو ... د [1] حولين يضرب فيه القدم [2]
وكان للضيزن هذا ابنة يقال لها: النضيرة، عركت [3] فأخرجت إلى ربض المدينة- وكذلك كان يفعل بالنساء إذا عركن- وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان سابور أيضا من أجمل رجال زمانه. فاطّلعت عليه يوما، فرأته، فعشقته، وأرسلت إليه:
- «ما تجعل لى، إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة، وتقتل أبى؟» قال:
- «حكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصّك بنفسي دونهن» .
فاحتالت للحرس حتى سقتهم الخمر وصرعتهم، وأظهرت علامة ذلك لسابور.
فنصب للسور حتى [تسوّر] [4] وفتحها عنوة [129] ، وقتل الحرس والضيزن، وأباد قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، وأخرب سابور المدينة، وفي ذلك يقول عمرو بن إله:
ألم يحزنك والأنباء تنمى ... بما لاقت سراة بنى العبيد
ومصرع ضيزن وبنى أبيه ... وأحلاس الكتائب من تزيد [5]
أتاهم بالفيول مجلّلات ... وبالأبطال سابور الجنود
فهدّم من أواسى الحصن صخرا ... كأنّ ثفاله زبر الحديد
__________
[1] . والعرب تلقّبه: سابور الجنود (المسعودي 1: 113) .
[2] . في بعض الأصول: القمم. والأبيات تجدها ستة في الطبري (2: 828) .
[3] . عركت: حاضت.
[4] . في الأصل غموض، وما أثبتناه من مط. تسوّر السور أو الحائط: صعد عليه.
[5] . من تزيد بن حلوان (الطبري 2: 829) .(1/145)
واحتمل سابور النضيرة بنت الضيزن، فأعرس بها بعين التمر. فذكر أنّها لم تنم، وتضوّرت [1] ليلتها من خشونة فرشها وهي من حرير محشوّة بالقزّ. فالتمس ما كان يؤذيها. فإذا ورقة آس، ملتزقة بعكنة [2] من عكنها قد أثّرت فيها من لين بشرتها.
فقال لها سابور: «ويحك! بأىّ شيء كان يغذوك أبوك؟» فقالت: «بالزبد، والمخّ، وشهد الأبكار من النحل، وصفو الخمر.» قال: «وأبيك لأنا أحدث عهدا بك، وأوتر [3] لك من أبيك، الذي غذّاك بما تذكرين.» فأمر رجلا، فركب فرسا جموحا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها، فقطّعها قطعا. [130] وقد أكثر الشعراء في ذكر الضيزن هذا، وإيّاه عنى عدىّ بن زيد بقوله:
وأخو الحضر [4] ، إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه، والخابور
شاده مرمرا، وجلّله كل ... سا، فللطّير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه، فبابه مهجور [5]
توالى ستة ملوك
ومضت أيّام سابور، وهي ثلاثون سنة، حميدة. وفي أيّامه ظهر مانى
__________
[1] . تضوّر: تلوّى وصاح من وجع الضرب والجوع ونحوهما.
[2] . العكنة: ما انطوى تثنى من لحم البطن.
[3] . الطبري: أوثر، آثر.
[4] . مط: الحصن.
[5] . تجد الأبيات في الطبري (2: 830) ، وفي الوفيات (7: 245) ، وفي ديوان عدىّ: (84) .(1/146)
الزنديق، [1] وكذلك أيّام ابنه هرمز الملقّب بالبطل والجريء. وكان عظيم الخلق جريئا. له حكايات عظيمة جدّا، وكوّر مدينة «رامهرمز» وملك سنة. ثم مضت أيّام ابنه بهرام بن هرمز كذلك، وقتل مانى وسلخه. ومضت أيّام ابنه بهرام بن بهرام، ثمّ [أيّام] [2] ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، ثم [أيّام] [3] نرسى بن بهرام أخى [4] بهرام الثالث، ثم أيّام هرمز بن نرسى، وكان فظّا، إلّا أنّه رفق بالرعيّة، وسار بأعدل سيرة فيهم، وحرص على العمارة وانتعاش الضعفاء، ثم هلك وببعض نسائه حبل. فبعض الناس يزعم أنه وصّى بالملك لذلك الحمل في بطن أمّه، وبعضهم زعم أنّ الناس لما شقّ عليهم موت هرمز، سألوا عن نسائه. فلمّا عرفوا [131] أنّ ببعضهنّ حبلا، عقدوا التاج عليه في بطن أمّه، ثم ولد:
سابور الملقّب بذي الأكتاف [5]
وهو سابور بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق، ووجّه البرد إلى الأطراف، وقلّد الوزراء والكتّاب، والعمّال، الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه.
فممّا حدث في أيّامه: أنّ خبره لمّا فشا وشاع، وعلم أصحاب الأطراف أنّ ملك الفرس صبىّ يدبّر، ولا يدرى ما يكون منه، طمع فيهم وفي مملكتهم الروم، والترك، والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى فارس بلاد العرب، وكانوا من
__________
[1] . الزنديق: المخالف لأوامر زند و پازند (بق) . بالفهلوية.LZandik في المانوية: فاسد العقيدة. في الأفستائية: قاطع الطريق، الساحر، ناقض العهد، الخادع. وفي العربية: المرتد، الدهري، من لا دين له (حب) .
[2] . ما في [] تكملة منّا.
[3] . ما في [] تكملة منّا. وتجد أخبار هؤلاء الملوك في الطبري (2: 831- 836) .
[4] . في الأصل: أخو بهرام.
[5] . لقبه: هوبه سنبا (البيروني: 121، والطبري 2: 836، والمسعودي 1: 279) .(1/147)
أحوج الأمم إلى تناول شيء من المعايش، لسوء حالهم وشظف عيشهم. فسار جمع عظيم منهم في البحر، من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة [1] ، حتى أناخوا براشهر [2] وسواحل أردشير خرّه، وأسياف [3] فارس، وغلبوا أهلها على [132] مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، ومكثوا بذلك حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لقلّة الهيبة، وانتشار الأمر، وكثرة المدبّرين، ولأنّ الملك طفل، حتى ترعرع سابور، وجعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود التي في الثغور، ووردت الأخبار بأنّ أكثرهم قد أحلّ. وعظّموا عليه الأمر بعد الأمر. وكان ممّن عرض عليه، أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء، وأنّ الأخبار وردت بإحلال أكثرهم. وهوّلوا عليه الخطب في ذلك.
فقال لهم سابور: «لا يكبرنّ عليكم هذا، فانّ الحيلة فيه يسيرة» ، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود بأنه:
- «انتهى إلىّ طول مكثكم في النواحي التي أنتم فيها، وعظم غناءكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحبّ منهم الانصراف إلى أهله، فلينصرف مأذونا له في ذلك، ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف له ذلك.» وتقدّم إلى من اختار الانصراف، في لزوم أهله وبلاده إلى وقت [133] الحاجة إليه.
فلمّا سمع الوزراء ذلك من قوله ورأيه، استحسنوه وقالوا: «لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود، ما زاد رأيه على ما سمعنا منه.» ثم تتابعت آراؤه في تقويم أصحابه وقمع أعدائه، حتى إذا تمّت له ست عشرة سنة، وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتدّ عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده،
__________
[1] . كاظمة: جوّ على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة، بينها وبين البصرة مرحلتان (مع) .
[2] . راشهر (ريشهر) : مدينة إزاء بوشهر (لج) . ناحية من كورة أرجان (مع) .
[3] . الأسياف: جمع مفرده السيف: ساحل البحر، ساحل الوادي.(1/148)
ثمّ قام فيهم خطيبا. فذكر الله عزّ وجلّ، وذكر ما أنعم به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من إربهم، ونفوا من أعدائهم، وما اختلّ من أمورهم في الأيّام التي مضت من أيّام صباه، وأعلمهم: أنّه يستأنف العمل في الذبّ عن البيضة، وأنّه يقدّر الشخوص [1] إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأنّ عدّة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل. فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجّه القواد والجنود ليكفوه ما قدّر من الشخوص فيه. فأبى أن يجيبهم إلى المقام.
فسألوه الإزدياد على العدة التي ذكرها، فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد [134] جنده وأبطالهم وأغنيائهم، وتقدّم إليهم في المضىّ لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على العرب وعلى من لقوا منهم، ووصّاهم ألّا يعرّجوا [2] على مال ولا غنيمة ولا يلتفتوا إليه.
ثم سار بهم، حتى أوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارّون [3] . فقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيّتهم. ثم قطع البحر في أصحابه فورد الخطّ [4] ، واستبرى بلاد البحرين. فجعل يقتل أهلها ولا يقبل فداء ولا يعرّج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر [5] وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس. فسفك فيهم من الدماء سفكا سالت كسيل المطر، حتى كان الهارب منهم يرى أن لن ينجيه غار ولا جبل ولا بحر ولا جزيرة. ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلّا من هرب منهم. فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة [6] ،
__________
[1] . يقدّر الشخوص: ينوي الخروج.
[2] . عرّج: مال.
[3] . مط: غازون. الغارّون: الغافلون.
[4] . أرض تنسب إليها الرماح، وهو خطّ عمان في سيف البحرين، والسيف كلّه الخطّ، وفيه: القطيف، والعقير، وقطر (مع) .
[5] . هجر: ناحية البحرين، وقيل: مدينة هي قاعدة البحرين (مع) .
[6] . اليمامة: بلد كبير فيه قرى وحصون ونخل، وكان اسمها أولا جوّا (مع) .(1/149)
فقتل بها مثل تلك المقتلة. ولم يمرّ بماء من مياه العرب إلّا عوّره [1] ولا جبّ من جبابهم إلّا طمّه. ثمّ أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر. ثمّ عطف نحو [135] بلاد بكر وتغلب وفيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام. فقتل من وجد بها من العرب وسبى وطمّ مياههم.
ثمّ أسكن قوما من بنى تغلب ومن سكن منهم البحرين، دارين [2] والخطّ، ومن كان من عبد القيس وطوائف تميم، هجر، ومن كان من بكر بن وائل، كرمان،- وهم الذين يدعون بكر إياد- ومن كان منهم من بنى حنظلة، بالرميلة من بلاد الأهواز. وبنى بالسواد مدينة بزرج سابور [3] ، وبنى الأنبار، وبنى السوس والكرخ. وغزا بعد ذلك أرض الروم، فسبى سبيا كثيرا. وبنى بخراسان نيسابور.
ثمّ هادن قسطنطين [4] ملك الروم الذي بنى قسطنطينيّة [5] ، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الروم.
ذكر حيلة لقسطنطين
كان قسطنطين لمّا ملك الروم كبرت سنّه، وساء خلقه، وظهر به وضح.
فأرادت الروم خلعه، وكاشفته وقالت:
__________
[1] . عوّر: عيون المياه: طمّها، دفنها، سدها، كبسها بالتراب.
[2] . فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند فينسب إليها (مع) .
[3] . بزرج سابور: من طساسيج بغداد، حدّه من أعلى العلث من شرقى دجلة (مع) .
.Constantinus. [4]
[5] . قسطنطينيّة Constantinople اسطنبول، إستانبول (تغيّر هذا الاسم في العصر العثماني إلى إسلامبول، أى: مدينة الإسلام، وإلى الآستانة) ، وهو معرّب من الأصل اليوناني Eistenbolin:أو من اليوناني البيزنطى.Estinbolin:أى: إلى المدينة. بوزنطيا، بوزنطة، بيزنطه، من الأصل اليوناني Byzantion:لا.، إنجل،Byzantioum:.فر.Byzance:ويطلق هذا الاسم، من باب تسمية الكل بالجزء (العاصمة) ، على امبراطورية الروم الشرقية التي تأسّست في الفترة الواقعة بين 330 إلى 395 م. في القطاع الشرقي من الامبراطورية الرومية الكبرى ودامت حتى عام 1461 م (لد، فم. (Col.NewAgeEnc.،(1/150)
- «اعتزل الملك، فإنّ لك من المال ما لا تفقد معه شيئا ممّا أنت فيه من نعمتك.» فشاور نصحاءه [136] فقالوا له:
- «لا طاقة لك بالقوم، فقد اجتمعت كلمتهم على خلعك.» قال: «بما الحيلة؟» قالوا: «تحتال بالدين- وكانت النصرانية قد ظهرت وهي خفيّة- وذلك بأن تستأذن في زيارة بيت المقدس، وتستمهلهم مدّة ما تعود. فإذا حصلت بها دخلت في هذا الدين النصراني تحمل الناس عليه، فانّهم يفترقون فرقتين، فتقاتل بمن أطاعك من عصاك، وما قاتل قوم على دين قط إلّا غلبوا.» ففعل قسطنطين ذلك، فظفر بالروم. فأحرق كتبهم وحكمتهم، وبنى البيع، وحمل الناس على النصرانية، ونقلهم من الرومية وكانت دار مملكتهم، وبنى قسطنطينية ولم يزل الملك محروسا بالنصرانية، وغلب على الشام، إلى أن ظهر الإسلام.
ثم ملك من الروم لليانوس [1]
وكان يدين بملة اليونانية القديمة [2] التي كانت قبل النصرانية. فلمّا ملك، أظهر ملّته، وأعادها كهيئتها، وأمر بهدم البيع، وجمع جموعا من الروم والخزر ومن كان في مملكته من العرب. [137]
عاقبة سرف سابور في القتل
فكان من عاقبة ذلك السرف الذي أقدم عليه سابور من قتل العرب: أن اجتمع
__________
[1] . لليانوس،LJulian:جوليان، يوليان (المفصّل 2: 642) .
[2] . في الطبري بملّة الروم القديمة (2: 840) .(1/151)
في عسكر لليانوس من العرب مائة وسبعون ألف مقاتل. فوجّههم مع بطريق [1] له في مقدمته. وأقدموا على فارس حنقين موتورين. وذلك أنّ سابور لم يقتصر على الانتقام ممّن أذنب وتجاوز حدّه، حتى قتل البريء، وسفك من الدماء ما لا يحصى.
فلما انتهى إلى سابور كثرة من مع لليانوس من الجنود، وشدّة بصائرهم، وحنق العرب، وعدد الروم والخزر، هاله ذلك، ووجّه عيونا تأتيه بأخبارهم، ومبلغ عددهم، وشجاعتهم، وعدّتهم. فاختلفت عليه أقاويل العيون في ما أتوه من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكّر سابور، وسار في ثقاته ليعاين عسكرهم.
تخلّصه بحسن الاتّفاق
فكان مما جنى فيه على نفسه وتخلّص منه بحسن الاتفاق: أنّه لمّا قرب من عسكر البطريق الذي كان على المقدمة وكان اسمه [138] يوسانوس [2] ومعه العرب والخزر، وجّه قوما ليتجسّسوا الأخبار ويأتوه بحقائقها. فنذرت [3] بهم الروم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس. فأقرّ من جملتهم رجل واحد، وأخبر بالقصة على وجهها وبمكان سابور، وسأله أن يوجّه معه جندا فيدفع إليهم سابور.
فأرسل يوسانوس رجلا من بطانته إلى سابور يعلمه [4] ما ألقى إليه من أمره وينذره. وإنّما فعل ذلك لميله إلى النصرانية التي قصدها لليانوس. فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه وصار إلى عسكره. ثم زحف لليانوس بمسألة العرب إيّاه، فقاتل سابور وفضّ جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب سابور في من
__________
[1] . بطريق: معرّب أصله اليوناني البيزنطى،Patrikios:معناه بالرومية: أمير الجيش، وفي المسيحية:
القسيس، باللاتينية) patricus:لد، فم) .
[2] . مط: بوسابوس. وهو) LJovian المفصّل 2: 642) .
[3] . نذر به: علمه، فحذره.
[4] . في الأصل ومط: ويعلمه. فحذفنا الواو، كما يتطلّبه السياق.(1/152)
بقي من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلّة سابور، وظفر ببيوت أمواله وخزائنه فيها. ثم اجتمع إلى سابور من آفاق بلاده جنوده، وحارب لليانوس، واستنقذ منه طيسبون، واختلفت الرّسل بينه وبين لليانوس.
سوء تحفّظ لليانوس
فكان من سوء تحفّظ لليانوس في تلك الحال واسترساله: [139] أن كان يوما جالسا في حجرة من فسطاطه، والرسل تختلف بينه وبين سابور، فجاءه سهم غرب فأصاب مقتله من فؤاده، فسقط ومات، وأسقط [1] في روع جنده وهالهم ما نزل به، ويئسوا من التقصّى في بلاد فارس، فصاروا نشرا لا ملك عليهم. فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولّى الملك لهم ليملّكوه عليهم. فأبى ذلك، وألحّوا عليه، فأعلمهم أنّه على ملّة النصرانية، وأنّه لا يلي قوما هم له مخالفون في دينه.
فأخبرتهم الروم أنّهم على ملّته، وأنّهم كتموها مخافة لليانوس. فأجابهم حينئذ، فلمّا ملّكوه [2] أظهروا النصرانية.
ثم إنّ سابور لما علم بهلاك لليانوس، أرسل إلى قوّاد جنوده الروم يقول:
- «إنّ الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، ونرجو أن تهلكوا ببلادنا جوعا من غير أن نهزّ لقتالكم سيفا، أو نشرع له رمحا، فسرّحوا إلينا رئيسا إن كنتم رأستموه عليكم.» فعزم يوسانوس على إتيان سابور لما كان بينه وبينه، لما أنذره ومن عليه. فلم يتابعه أحد [140] من قوّاد جنده. فاستبدّ برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه. فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقّاه، وتساجدا، فعانقه سابور شكرا لما كان منه في أمره، وطعم عنده
__________
[1] . أسقط في روعهم: فزعوا، خافوا.
[2] . في الأصل ومط: ملّكوا بدون «هـ» .(1/153)
يومئذ ونعم. وإنّ سابور أرسل إلى قوّاد جند الروم وذوى الرئاسة فيهم يعلمهم:
أنّهم لو ملّكوا غير يوسانوس، لجرى هلاكهم في بلاد فارس، ولكن تمليكهم إيّاه ينجيهم من سطوته. ثم قوّى أمر يوسانوس بكلّ جهد، وقال له عند منصرفه:
- «إنّ الروم قد شنّوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرا كثيرا، وقطّعوا بأرض السواد من الشجر والنخل ما كان بها، وخرّبوا عمرانها، فإمّا أن تدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخرّبوا، وإمّا أن تعوّضونا من ذلك نصيبين وحيّزها.» فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصيبين. فبلغ ذلك أهلها، فجلوا عنها إلى مدن للروم، خوفا على أنفسهم من ملك مخالف ملّتهم. فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف [141] أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر، من بلاده إلى نصيبين، فأسكنهم إيّاها. وانصرف يوسانوس إلى الروم وملكها يسيرا ثم هلك.
وضرى سابور على قتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم زمانا طويلا، فسمّته العرب «ذا الأكتاف» . ثم إنّه استصلح العرب وأسكن من بعض تغلب وعبد القيس وبكر، كرمان وتوّج [1] والأهواز. وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان [2] ، ونقل طبيبا من الهند، فأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس.
وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه.
أردشير بن هرمز [3]
وقام بالملك بعد سابور، أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلمّا استقرّ به الملك ظهر منه شرّ، وقتل
__________
[1] . مط: نوخ. وتوّج: مدينة بفارس على شاطئ نهر سابور خربت في القرن السادس (لج: 280) .
[2] . سجستان سگستان سيستان (لج: 385) .
[3] . انظر الطبري 2: 846.(1/154)
[من] [1] ذوى الرئاسة والعظماء خلقا كثيرا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه، وملّكوا:
سابور بن سابور ذى الأكتاف
فاستبشرت الرعية به وبرجوع ملك أبيه إليه. فأحسن السيرة ورفق بالرعية، إلى أن سقط عليه فسطاط كان ضرب عليه، فمات وملّك بعده [142] أخوه:
بهرام بن سابور ذى الأكتاف
وكان يلقّب بكرمان شاه، لأن سابور ولّاه «كرمان» ، فمضت أيّامه محمودة، وكان جميل السياسة محبّبا [2] . ثم قام بالملك:
يزدجرد المعروف بالأثيم ابن بهرام بن سابور ذى الأكتاف [3]
ومن الفرس من يقول: هو أخو بهرام وهو يزدجرد بن سابور ذى الأكتاف.
وكان فظّا غليظا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كانا فيه، غير موضعهما. وذلك أنّه كان كثير الرؤية في الضارّ [4] من الأمور، واستعمل علمه الذي أوتيه، في الدهاء والختل، واستخفّ بكلّ علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم واستطال بما عنده، وكان من ذلك معجبا، غلقا، سيئ الخلق، ردىء الطعمة [5] ، حتى بلغ من شدة غلقه وحدّته أن يستعظم صغير الزلّات ولا يرضى في عقوبتها إلّا بما لا يستطاع أن يبلغ مثلها. ثم لم يقدر أحد من بطانته- وإن كان لطيف المنزلة منه- أن يشفع لمن ابتلى به، وإن كان ذنب
__________
[1] . ما في [] تكملة من مط.
[2] . مط: مجيبا.
[3] . أنظر الطبري 2: 847.
[4] . مط: الصغار من الأمور.
[5] . ردىء الطعمة: ردىء السيرة في الأكل.(1/155)
المبتلى [143] به يسيرا. ولم يكن يأتمن أحدا على شيء من الأشياء. ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من العرف إذا أولاه ويستجزل ذلك. فإن جسر على كلامه أحد في أمر قال له:
- «ما قدر جعالتك [1] في هذا الأمر الذي كلّمتنا فيه، وما الذي بذل لك؟» وما أشبه ذلك. فلقى الناس منه عنتا. فلما اشتدّت بليّته، وكثر إهانته للعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، اجتمعوا وتضرّعوا إلى ربّهم في تعجيل إنقاذهم منه.
فتزعم الفرس: أنه كان مطّلعا من قصره ذات يوم إذ رأى فرسا عائرا [2] لم ير مثله قطّ في الخيل، حسن صورة وتمام خلق، حتى وقف على بابه، فتعجّب الناس منه، لأنه كان متجاوز الأمر [3] . فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه. فحاول ساسته وأصحاب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكّن أحدا منهم من نفسه. فخرج بنفسه إلى الموضع الذي فيه الفرس، فألجمه بيده وأسرجه ولّينه [4] فلم يتحرّك، فلمّا استدار به [144] ورفع ذنبه ليثفره [5] ، رمحه الفرس على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. فأكثرت الفرس في حديثه وظنّت الظنون. وكان أحسنهم مذهبا من قال: «إنما استجاب الله دعاءنا» .
ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه:
بهرام جور [6]
وكان أسلمه يزدجرد إلى المنذر بن النعمان ليربّيه في ظهر الحيرة، لصحّة
__________
[1] . مط: جمعا إنك! بدل: جعالتك.
[2] . عار: ذهب وجاء متردّدا.
[3] . في الطبري: متجاوز الحال.
[4] . مط: وكتبه!
[5] . أثفر الدابة: شدها بالثفر: سير في مؤخر السرج يشدّ على عجز الدابة تحت ذنبها.
[6] . أنظر الطبري 2: 845.(1/156)
التربة والهواء، وليتعلّم هناك الفروسية. وتكفّله النعمان وعظّم يزدجرد المنذر بن النعمان وشرّفه، وملّكه على العرب، وسار به المنذر، فربّاه، واستدعى له الحواضن من الفرس والعرب، ثم أحضره المؤدّبين، وحرص بهرام على الأدب.
فتحكى عنه حكايات من النجابة في صغره، فمنها أنّه قال للمنذر بن النعمان وهو ابن خمس سنين:
- «أحضرنى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية.» فقال له المنذر: «إنّك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد.» فقال له بهرام: «أما تعلم أيّها الرجل، أنّى من ولد الملوك، وأنّ الملك [145] صائر إلىّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه، صالح العلم، لأنّه زين لهم وركن، وبه يفوقون؟ أما تعلم أنّ كلّ ما يتقدّم في طلبه ينال وقته، وما لا يتقدّم فيه، بل يطلب في وقته، ينال في غير وقته، وما يفرّط فيه وفي طلبه، يفوت فلا ينال؟ عجّل علىّ بما سألتك!» فوجّه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام، إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلّمين والفقهاء ومعلّمى الرمى والفروسية، وجمع له حكماء الروم وفارس ومحدّثى العرب، فألزمهم إيّاه، ووقف أوقاتا لكل قوم منهم. فتفرّغ بهرام لتعلّم كل ما سأل أن يعلّم، واستمع من أهل الحكمة، ووعى ما سمع، وثقف كل ما علّم بأيسر سعى، وبلغ أربع عشرة سنة وقد فاق معلّميه، واستفاد كل ما أفيد وحفظ وفاق. ثمّ حرص على انتخاب الأفراس العربيّة وركوبها وإحضارها والرمى عليها، فبرع في ذلك. وتحكى الفرس عنه حكايات عظيمة جدّا [1] .
ثمّ أعلم المنذر أنّه على الإلمام بأبيه، فشخص، [146] وكان أبوه لا يحفل بولد له، فاتّخذ بهرام للخدمة، ولقى بهرام من ذلك عنتا. واتفق أن ورد على يزدجرد
__________
[1] . أنظر الطبري (2: 856) والثعالبي: 539 وابن الأثير (1: 401) .(1/157)
وفد من قيصر- وفيهم أخو قيصر- في طلب الصلح والهدنة، فسأله بهرام أن يكلّم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر. فأذن له أبوه وانصرف إلى بلاد العرب وقد عرّض بأبيه ورأى قلّة نفاق [1] أدبه عليه، ولقى شدّة وهوانا. فأقبل على التنعم والتلذّذ، إلى أن هلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب.
فتعاقد قوم من العظماء ألّا يملّكوا أحدا من نسل يزدجرد، وأظهروا: أنّ ولد يزدجرد لا يحتملون الملك، وليس فيهم نجيب غير بهرام، وبهرام لم يتأدّب بأدب الفرس، وإنّما أدبه أدب العرب، وأخلاقه أخلاقهم، لنشئه في ما بينهم وبين أظهرهم، واجتمعت كلمة العامّة معهم على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك يقال له:
كسرى
فملّكوه، وانتهى هلاك يزدجرد وما كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام. [147] فدعا بالمنذر وبالنعمان ابنه وناس من علية العرب. فذكّرهم إحسان والده إليهم وإنعامه عليهم مع فظاظته وشدّته على الفرس، وأخبرهم بموت والده وما كان من الفرس من تمليك غيره، ومنّاهم من نفسه ووعدهم بما أنسوا به. فقال المنذر:
- «لا يهولنّك ذلك حتى ألطف للحيلة.» ثمّ إنّ المنذر جهّز عشرة آلاف من فرسان العرب مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير [2] مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبا منهما، وأن يغير على ما والاهما، وإن تحرّك أحد لقتاله قاتله. وأذن له في الأسر والسبي، ونهاه عن لقتل.
__________
[1] . كذا في مط والأصل: «قلّة نفاق» . والظاهر أنّ إحدى الكلمتين زائدة لأنّ النفاق بمعنى النفاد، والفناء، والقلّة.
[2] . مهملة في الأصل وأعجمناها كما في مط والطبري. أصلها: ويه أرتخشر. صور التعريب: بهرسير، بردسير، بردشير، گواشير، جواسير، جواشير، وبهادرشير هي كرمان (لج: 325) .(1/158)
فسار النعمان حتى نزل قريبا من المدينتين، ووجّه طلائعه إليهما واستعظم قتال الفرس. فاجتمع رأى العظماء وأهل البيوتات على إنفاذ حواى [1] على تأدية رسالة- وحواى هذا صاحب رسائل يزدجرد- إلى المنذر ويستكفونه أمر النعمان ابنه، ويخوّفونه من عقبى جنايته عليه.
فلمّا ورد حواى على المنذر قال له: «الق الملك بهرام.» [148] ووجّه معه من يوصله إليه. فلمّا دخل عليه راعه منظر بهرام وما رأى من وسامته. فكلّمه بهرام ووعده ومنّاه وردّه إلى المنذر، ورسم له أن يجيب عمّا كتب إليه.
فقال المنذر لحواى: «قد تدبّرت ما جئتني به، وقرأت الكتاب ولست صاحب النعمان، وإنّما صاحبه الملك بهرام، وهو الذي وجّهه إلى ناحيتكم، ورسم له ما هو لا محالة متمثّلة، لأنّ الملك صار له بعد أبيه، ولا حظّ لغيره فيه.» فلمّا سمع حواى مقالته، وتذكّر ما عاين من بهاء بهرام وروائه [2] وحسن كلامه، علم أنّ جميع من يشاور في صرف الملك عنه مخصوم [3] محجوج. فقال للمنذر:
- «إنى لست محيرا [4] جوابا، ولكن سر- إن رأيت- إلى محلّة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وأت في الأمر ما يجمل، فانّهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به.» فردّ المنذر حواى، واستعدّ وسار بعده بيوم مع بهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب [149] وذوى البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك. فلمّا
__________
[1] . حوابى، في الطبري: جوانى، جوابي، حواني (2: 859) .
[2] . الرواء: حسن المنظر.
[3] . المخصوم: المغلوب في الخصومة، والمحجوج: المغلوب في الحجة.
[4] . أحار الجواب: ردّه، ومنه: لم يحر جوابا.(1/159)
وردهما، جمع الناس وجلس بهرام على منبر من ذهب مكلّل بالجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلّم عظماء الفرس، وفرشوا [1] للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد كانت [2] وسوء سيرته [3] ، وأنّه أخرب الأرض وأكثر القتل ظلما حتى قلّ الناس. وذكروا أمورا فظيعة، وذكروا أنّهم إنّما تعاقدوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك. وسألوا المنذر ألّا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.
فقال المنذر لبهرام:
- «أنت أولى بإجابة القوم.» فقال بهرام:
- «إنى لست أكذّبكم في شيء مما نسبتم إلى يزدجرد لما استقرّ عندي من ذلك. ولقد كنت منكرا سوء هديه متنكّبا طريقته، ولم أزل أسأل الله أن يفضى بالملك إلىّ فأصلح كلّ ما أفسد، وأرأب ما صدع، وسأعيد الأمور بمشيئة الله إلى أتمّ ما كانت عليه في وقت من الأوقات انتظاما، وأعمر البلاد، وأرفّه الرعيّة، [150] وأوسع لهم، وأوطّئ جانبي [4] ، وأدرّ أرزاق الجنود وأهل الطاعة، وأسدّ الثغور، وأنفى أهل الفساد. فإن أتت لملكى سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت عليكم، تبرّأت من الملك طائعا، وأشهد الله بذلك وملائكته وموبذان موبذ.» فسمع أكثر الناس ورضوا، وتكلّمت طائفة كان رأيها مع كسرى.
فقال بهرام:
- «فإنّى على ما ضمنته لكم، واستيجابى [5] للملك، وأنّه حقّ لى. قد رضيت
__________
[1] . فرشوا: بسطوا: شرحوا.
[2] . كذا في مط والطبري.
[3] . ابن الأثير: فذكروا فظاظة يزدجرد أبى بهرام وسوء سيرته (1: 403) .
[4] . مط: بدون «جانبي» . وطأ جانبه: كان سهل الأخلاق، كريما، مضيافا.
[5] . كذا في مط. وما في الأصل غير واضح.(1/160)
أن يوضع التاج والزينة بين أسدين مشبلين، فمن تناوله فهو الملك.»
بهرام يتناول التاج والزينة من بين أسدين مشبلين
فلمّا سمع القوم هذه المقالة، مع ما وعد من نفسه، سكنوا، وأظهروا الاستبشار والرضاية، وقالوا:
- «إنّا إن تمّمنا صرف الملك عن بهرام، لم نأمن هلاك الفرس على يده بمن يرى رأيه ولكثرة من استجاش من العرب. وقد عرض علينا ما لم يدعه إليه أحد، لولا ثقته ببطشه وجرأته. فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس الرأى إلّا تسليم الملك إليه والسمع والطاعة، [151] وإن يهلك ضعفا وعجزا فنحن برءاء منه، آمنون لشرّه وغائلته.» فتفرّقوا على هذا الرأى، وجلس بهرام من الغد في مثل مجلسه بالأمس، وحضر من كان يحادّه فقال:
- «إمّا أن تجيبوني عمّا تكلّمت به أمس، وإمّا أن تسكتوا باخعين لى بالطاعة.» فقال القوم: «قد رضينا بحكمك، وأن يوضع التاج والزينة بين الأسدين كما ذكرت بحيث رسمت، وتنازعاهما أنت وكسرى.» فأتى بالتاج والزينة، وتولّى موبذان موبذ الذي كان يعقد التاج على رأس كلّ ملك يملك، فوضعهما ناحية، وجاء إصبهبذ مع ثقات القوم بأسدين ضاريين مجوّعين مشبلين. فوقف أحدهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما.
ثم قال بهرام لكسرى:
- «دونك التاج والزينة!» فقال كسرى:
- «أنت أولى بالبدء منّى، لأنّك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه دخيل.»(1/161)
ولم يكره بهرام قوله لثقته بنفسه، وحمل جرزا وتوجّه نحو التاج والزينة.
فقال له موبذان موبذ:
- «استماتتك في هذا الأمر الذي تقدم عليه [152] هو تطوع منك، لا عن رأيى، ولا عن رأى أحد من الفرس، ونحن برءاء إلى الله من إتلافك نفسك.» فقال بهرام:
- «نعم أنتم برءاء، ولا وزر عليكم.» ثم أسرع نحو الأسدين. فلمّا رأى موبذان موبذ جدّه، هتف به وقال:
- «بح بذنوبك وتب منها، ثمّ أقدم إن كنت لا محالة مقدما.» فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبذر أحدهما، فلمّا دنا من بهرام، وثب وثبة، فإذا هو على ظهر الأسد، وعصر جنبي الأسد بفخذيه حتى أثخنه [1] ، فجعل يضرب على رأسه بالجرز، ثم قرب من الأسد الآخر. فلمّا تمكّن منه قبض على أذنيه وعركهما [2] بكلتي يديه، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان ركب ظهره، حتى دمغهما، ثمّ قتلهما ضربا على رأسهما بالجرز، وذلك كلّه بمشهد من جميع من حضر ذلك الموضع وبمرأى من كسرى. فتناول بهرام التاج والزينة، وكان كسرى أوّل من هتف به وقال:
- «عمّرك الله بهرام، الذي يسمع له من حوله ويطيع، ورزقه الله ملك [153] أقاليم الأرض السبعة.» ثم هتف الناس وجميع من حضر ذلك المجلس، وقالوا:
- «أذعنّا للملك بهرام ورضينا به ملكا.» وكثر الدعاء والضجيج.
ولقى الرؤساء المنذر بعد ذلك وسألوه أن يكلّم بهرام في التغمّد لاساءتهم
__________
[1] . أثخنه: تكاثر عليه وغلبه.
[2] . عرك الشيء: حكّه حتى محاه.(1/162)
والصفح عنهم. فسأله المنذر وأسعفه الملك. ثم جلس بهرام- وهو ابن عشرين سنة- سبعة أيّام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضهم على تقوى الله وطاعته، وغبر زمانا يحسن السيرة ويعمر البلاد ويدرّ الأرزاق.
ثم آثر اللهو على ذلك، وكثرت خلواته بأصحاب الملاهي والجواري، حتى كثرت ملامة رعيّته إيّاه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده والغلبة على بلاده.
خاقان يغزو بهرام
وكان أوّل من سبق إلى مكاثرته ومغالبته خاقان ملك الترك. فإنّه غزاه في مائتين وخمسين ألفا من الأتراك. فبلغ الفرس إقبال خاقان في هذا الجمع العظيم فهالهم وتعاظمهم، ودخل إليه من عظمائهم قوم من أهل الرأى [154] فقالوا:
- «أيّها الملك، قد أزفك [1] من بائقة [2] هذا العدوّ ما يشغلك عمّا أنت فيه من اللهو والتلذّذ، فتأهّب له، كي لا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار.» فكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه، يجيب القوم: بأن الله ربّنا قوى ونحن أولياؤه، ثم يقبل على المثابرة واللزوم لما فيه من اللهو والصيد.
حيلة بهرام جور على خاقان [3]
إلى أن أظهر ذات يوم التجهّز إلى آذربيجان لينسك في بيت نارها ويتوجّه منها إلى أرمينية ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره، في سبعة رهط من العلماء وأهل البيوتات وثلاثمائة رجل من رابطته، ذوى بأس ونجدة. واستخلف أخا له يقال له: «نرسى» ، على ما كان يدبّر من ملكه. فلم يشكّ الناس حين بلغهم
__________
[1] . أزف: اقترب ودنا، ومنه أزفت الآزفة، وأزفت الساعة.
[2] . البائقة: الشرّ.
[3] . أنظر الطبري 2: 863.(1/163)
مسير بهرام في من سار بهم، واستخلافه أخاه على ما استخلف، في أنّ ذلك هرب من عدوّه، وإسلام لملكه. وتوامروا [1] في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإقرار له [155] بالخراج، ومخافة منه، لاستباحة بلادهم، واصطلامه [2] مقاتلتهم ووجوههم، إن هم لم يفعلوا ذلك ويبادروا إليه. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع. فأمنهم وتودّع وترك كثيرا من الجدّ والاستعداد، وآثر جنده أيضا ذلك. وأتى بهرام عين له من جهة خاقان، فأخبره بحاله، وحال جنده وفتورهم عن الجدّ الذي كانوا عليه.
فسار بهرام في العدّة الذين كانوا معه، فبيّت خاقان وقتله بيده، وانهزم من سلم من القتل منهم، وخلّفوا عسكرهم وأثقالهم. فأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم، ويحوى الغنائم ويسبى الذرارىّ، وانصرف هو وجنده سالمين، وظفر بتاج خاقان وإكليله، وبخع له أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه، بالطاعة. وسألوه أن يحدّ لهم حدّا بينه وبينهم فلا يتعدّوه.
ثم بعث قائدا له إلى ما وراء النهر، فأثخنهم وأقروا له بالعبوديّة وأداء الجزية.
وانصرف بهرام بالغنائم العظيمة والتاج والإكليل [156] وما فيهما من الياقوت الأحمر وسائر الجواهر فنحلها [3] بيت النار بآذربيجان.
ورفع الخراج عن الناس ثلاث سنين، وقسم في الفقراء مالا عظيما، وفي البيوتات وأهل الأحساب عشرين ألف ألف [000 بن 000 بن 20] درهم.
وكتب كتبا إلى الآفاق يذكر فيها أنّ الخبر كان ورد عليه بورود خاقان بلاده وأنه مجّد الله وتوكّل عليه، وسار في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلاثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق آذربيجان، وجبل القبق [4] ، حتى نفذ إلى براري خوارزم ومفاوزها، وأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر في الكتاب ما وضعه عن
__________
[1] . توامروا تآمروا.
[2] . اصطلمه: استأصله. صلمه: قطعه من أصله.
[3] . نحل: أعطى وتبرّع.
[4] . جبال قفقاز (لد) .(1/164)
الناس من الخراج، وهذا الكتاب كان بليغا، والفرس يحفظونه.
ويقال: إنّ بهرام ترك من حقّ بيت المال من الخراج سبعين ألف ألف [000 بن 000 بن 70] درهم بقسط تلك السنة، وكان هذا مقدار ما بقي منه، ثمّ [أمر بترك] [1] الخراج ثلاث سنين أخر.
قصده الهند والروم والسند والسودان
ثم إنّ بهرام لما انصرف من غزوه خاقان مظفّرا قصد الهند، فيحكى له حكايات عظيمة وأمور كبار تولّاها، وغلب عليها، وزوّجه [157] ملك الهند ابنته ونحله الديبل [2] ومكران وما يليها، فضمّها بهرام إلى أرض الفرس، وحمل خراجها إلى بهرام.
ثم أغزى بهرام «مهرنرسى» إلى بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها. فتوجّه مهرنرسى في تلك العدّة، ودخل قسطنطينية، ومقامه مشهور هناك، فهادنه ملك الروم، وانصرف بجميع ما أراد بهرام- وكان مهرنرسى هذا من ولد بهمن بن اسفندياذ بن بشتاسف، وربما خفّف اسمه، فقيل: «نرسى» - وبلغ مبلغا، وكلّ ذلك بهيبة بهرام وما تمكّن له في قلوب الملوك وأهل الأطراف والجند من جودة الرأى وحسن التدبير والشجاعة ونفاذ العزيمة، وقلّة الاتّكال على غيره.
وذكر أنّ بهرام بعد فراغه من أمر خاقان وأمر ملوك الروم والسند، مضى إلى بلاد السودان [3] من ناحية اليمن، فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى منهم خلقا، وانصرف إلى مملكته.
__________
[1] . كلمة مطموسة في الأصل، وما أثبتناه من مط.
[2] . ديبل: كرسي ارمينية في الحكم الإسلامى (لج: 196) . أنظر الطبري 2: 868، وابن الأثير 1: 406.
[3] . ما في الأصل يشبه «السردان» ، وما أثبتناه يؤيده مط والطبري 2: 871.(1/165)
ارتطام بهرام في سبخة
وهلك بعد ذلك في «ماه» [1] وذلك أنه توجّه إليها للصيد [158] فشدّ على عير وأمعن في طلبه فارتطم في ماء في سبخة [2] وغرق هناك. فسارت والدته إلى ذلك الموضع بأموال عظيمة، فأقامت قريبة منها، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه. فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة، وجمعوا منه إكاما عظاما، ولم يقدروا على جثة بهرام. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده:
يزدجرد بن بهرام جور
فكان يسير بسيرة أبيه ولم يزل قامعا لعدوّه رؤوفا برعيّته وجنوده. وكان له ابنان: أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. فغلب هرمز على الملك بعد أبيه يزدجرد، وهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة [3] ، وأخبر ملكها بقصّته وقصّة أخيه هرمز، وأنّه أولى بالملك منه، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل بهم أخاه. فأبى عليه ملك الهياطلة وقال:
- «سأعلم علمه، ثم أمدّك إن كنت صادقا.» فلما عرف ملك الهياطلة أنّ هرمز ملك ظلوم غشوم، قال:
- «إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسة، ولا
__________
[1] . بالفارسية القديمة.Mada:بالفهلوية:May:البلاد، بلاد ماد (ميد) ، عراق العجم وآذربيجان، أرض الجبل (حب) . ماه البصرة: الدينور. ماه الكوفة: نهاوند (حب، نقلا عن جماهر البيروني: 205) .
[2] . السبخة: أرض ذات سباخ، والسباخ ما يعلو الماء من طحلب ونحوه.
[3] . الهياطلة: المنسوبون إلى هيطل وهو معرّب LHeptal أو.LHeftal وفي بندهش) Heftalan:انكساريا:
215) . بالفارسية: هيتال (حب) .(1/166)
يحترف [1] [159] الناس في ملك الملك الجائر إلّا بالجور، وفي هذا هلاك الناس وخراب الأرض.» فأمدّ فيروز، ودفع إليه الطالقان [2] . فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان [3] وطوائف خراسان [4] ، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد وهو بالرىّ، وكانت أمّهما واحدة، وكانت بالمدائن تدبّر ما يليها من الملك، فظفر فيروز بأخيه، فحبسه وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن، إلّا أنّه كان محارفا [5] مشؤوما على رعيته، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن فيها إلى الناس، وقسم ما في بيوت الأموال وكفّ عن الجباية، وساسهم أحسن سياسة.
ويقال: إنّ الأنهار غارت في مدّة هذه السبع السنين، وكذلك القنىّ والعيون، وقحلت [6] الأشجار والغياض [7] ، وتماوتت الوحوش والطيور، وجاعت الأنعام والدوابّ، حتى كانت لا تطيق أن تحمل حمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد [8] والمجاعة.
حسن سياسة من فيروز
فبلغ من حسن سياسة فيروز لذلك الأمر [160] أن كتب إلى جميع أهل رعيّته: أنّه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنّه قد ملّكهم أنفسهم وأمرهم
__________
[1] . مط: لا يحترق.
[2] . الطالقان مدينة على ثلاث منازل من مرو الروذ من جهة بلخ، وكانت مدينة ذات أهمية في القرن الثالث الهجري (لج: 449) .
[3] . طخارستان: ولاية في شرقى بلخ على الساحل الجنوبي من جيحون تمتد إلى بدخشان (لج: 453) .
[4] . مط: خوارسان.
[5] . المحارف: المجازى على الخير والشرّ.
[6] . قحل: يبس.
[7] . الغيضة: الأجمة: الموضع الذي يكثر فيه الشجر ويلتفّ.
[8] . الجهد: المشقّة والفقر.(1/167)
بالسعي فيما يقوتهم [1] ويصلحهم. ثم كتب إليهم في إخراج الهوى [2] والطعام والمطامير [3] لكلّ من كان يملك شيئا من ذلك مما يقوت [4] الناس، والتآسى فيه، وترك الاستيثار به، وأن يكون حال أهل الفقر والغنى وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدة، وأخبرهم أنّه إن بلغه أن إنسيّا مات جوعا، عاقب أهل تلك المدينة أو القرية أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الإنسى، ونكّل بهم أشدّ النكال.
ويقال: إنّه لم يهلك في تلك اللزبة [5] والمجاعة أحد من رعيّته إلّا رجل من رستاق كورة أردشير خرّة.
ثم إنّ فيروز لما حييت بلاده، وأغاثه الله بالمطر، وعادت المياه، وصلحت الأشجار، واستوسق [6] له الملك، أثخن [7] في الأعداء وقهرهم، وبنى مدنا:
إحداها بالرىّ، والأخرى بين جرجان وصول، [8] والأخرى بناحية آذربيجان.
ثم سار بجنوده نحو خراسان مريدا حرب أخشنواز [9] [161] ملك الهياطلة، لأشياء كانت في نفسه، ولأنّ هؤلاء القوم كانوا يأتون الذكران ويرتكبون الفواحش، فتأوّل بها وسار إليهم. فلما بلغ أخشنواز خبره اشتدّ منه رعبه وعلم أن لا طاقة له به.
حيلة تمت لملك الهياطلة على فيروز
فكان مما تمّ له على فيروز من الحيلة حتى قهره وقتله وقتل عامّة من كان
__________
[1] . مط: يقويهم.
[2] . الهوى: جمع الهوّة: الحفرة، البئر المغطاة.
[3] . المطامير: جمع المطمورة: مكان تحت الأرض قد هيئ ليطمر فيه البرّ والفول ونحوه.
[4] . مط: يفوت! أنظر إلى كاتب مط كيف يعامل مع كلمتين من أصل واحد فيكتبهما: «يقويهم» و «يفوت» .
[5] . اللزبة: الشدة، الأزمة، القحط.
[6] . استوسق: انتظم.
[7] . أثخن في الأعداء: بالغ في قتالهم.
[8] . صول: معرّب «چول» مدينة في بلاد الخزر في نواحي باب الأبواب وهو الدربند (يا) .
[9] . الطبري: أخشنواز، خوشنواز (2: 875) . بالفهلوية) Xshunvaz:فم) .(1/168)
معه: أنّ رجلا من أصحاب أخشنواز، لما علم أنّ ملكه قد بعل [1] ، وأنه قد أشرف على الهلاك هو وأهل بلاده، تنصّح إليه وقال:
- «إنّى رجل كبير السنّ قريب الأجل، وقد فديت الملك وأهل مملكته بنفسي [2] فاقطع يدىّ ورجلىّ وأظهر في جسمي وجنبي آثار السياط والعقوبات، وألقنى في طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي بعدي، فإنّى أكفيك أمر فيروز.» ففعل ذلك أخشنواز بذلك الرجل، وألقاه في طريق فيروز. فلمّا مرّ به أنكر حاله ورأى شيئا فظيعا. فسأله عن أمره، فأخبره: أنّ أخشنواز فعل به ذلك، لأنّه قال له: «لا قوام لك بالملك فيروز وجنوده» ، وأشار عليه بالانقياد [162] له والعبودة.
فرقّ له فيروز، ورحمه، وأمر بحمله معه، فأعلمه على وجه النصح، أو في ما زعم، أنه يدلّه على طريق قريب مختصر لم يدخل أحد منه قطّ إلى أخشنواز على طريق المفازة، وسأله [3] أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك منه وأخذ الأقطع [4] بالقوم في الطريق الذي ذكره له، فلم يزل يقطع بهم مفازة [5] بعد مفازة.
فلما شكوا عطشا أعلمهم أنّهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة، حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على تقدّم ولا تأخر، بيّن لهم أمره.
فقال أصحاب فيروز لفيروز:
- «قد كنّا حذّرناك، أيّها الملك، فلم تحذر، فأمّا الآن فلا بدّ من المضىّ قدما، فإنّه لا سبيل إلى الرجوع، فلعلّك توافى القوم على الحالات كلّها.» فمضوا لوجوههم وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى
__________
[1] . بعل بأمره: دهش وتحيّر.
[2] . مط: بنفسه.
[3] . وسأله ... ومن قطع المفازة: سقطت من مط.
[4] . الأقطع: المقطوع اليد أو الرجل.
[5] . المفازة: الصحراء، المهلكة.(1/169)
عدوّهم. فلمّا أشرفوا عليهم- وهم بأسوأ حال من الضرّ والضعف- دعوا أخشنواز إلى الصلح، على أن يخلّى سبيلهم حتّى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل له فيروز عهد [163] الله وميثاقه ألّا يغزوهم ولا يروم أرضهم ولا يبعث إليه جندا يقاتلونهم، ويجعل بين المملكتين حدّا لا يجوزه. فرضي أخشنواز بذلك، وكتب له كتابا مختوما وأشهد له على نفسه شهودا، ثمّ خلّى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف على معاودة أخشنواز.
عاقبة غدره
فكان من عاقبة غدره: أنّه غزاه بعد أن نهاه وزراؤه وخاصّته عن ذلك، لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبى إلّا ركوب رأيه. وكان في من نهاه عن ذلك رجل يخصّه ويجتبى رأيه يقال له: مربوذ [1] . فلمّا رأى لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها. ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد أخشنواز.
فلمّا بلغ فيروز منارة كان بناها بهرام جور في ما بين تخوم [2] بلاد خراسان وبلاد الترك- لئلّا يجوزها الترك إلى خراسان، لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدّى لها، وكان فيروز عاهد [164] أخشنواز أن لا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة- أمر فيروز فصمد [3] فيها خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجرّت أمامه جرّا واتّبعها، وزعم أنّه يريد بذلك الوفاء، وترك مجاوزة ما عاهد عليه.
فلمّا بلغ أخشنواز ذلك من فعل فيروز، أرسل إليه يقول له:
- «إنّ الله عزّ وجلّ لا يخادع ولا يماكر، فانته عمّا انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه» .
__________
[1] . مط: مرديو. الطبري: مزدبوذ، مربود.
[2] . جمع التخم: الحد الفاصل بين أرضين. الحدّ.
[3] . صمد: قصد.(1/170)
فلم يحفل فيروز لقوله، ولم يكترث برسالته، وجعل يستطعم محاربة أخشنواز ويدعوه إليها، وجعل أخشنواز يمتنع من محاربته ويتكرّهها، لأنّ جلّ محاربة الترك إنّما هو بالخداع والمكر والمكائد.
ثم إنّ أخشنواز أمر فحفر [1] خلف عسكره خندق عرضه [2] عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعا، وغمّى بخشب ضعاف، وألقى عليه التراب، ثم ارتحل في جنده ومضى غير بعيد. فبلغ فيروز رحلة أخشنواز بجنده من معسكره، فلم يشكّ أنّ ذلك هزيمة منهم وأنّه قد انكشف [3] وهرب. فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في [165] طلب أخشنواز وأصحابه وأغذّوا [4] السير. وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلمّا بلغوه اقتحموه على عماية، فتردّى فيها فيروز وعامّة جنده، وهلكوا من آخرهم [5] . وعطف أخشنواز إلى عسكر فيروز واحتوى على كلّ شيء فيه، وأسر موبذان موبذ، وصارت فيروز دخت بنت فيروز في من صار في يده من نساء فيروز.
ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد، ابنه:
بلاش بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور [6]
وكان حسن السيرة، حريصا على العمارة. وبلغ من حسن نظره أنّه كان لا يبلغه أنّ بيتا خرب وجلا أهله عنه، إلّا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت، على تركه إنعاشهم وسدّ فاقتهم، حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم.
__________
[1] . مط: أن يخف!
[2] . مط: عهته!
[3] . انكشف: انهزم في الحرب.
[4] . مط: أعدوا. أغذّ السير: أسرع.
[5] . أنظر الطبري 2: 876.
[6] . نفس المصدر 2: 882.(1/171)
ثم ملك قباذ بن فيروز أخو بلاش [1]
وكان صار إلى خاقان يستنصره على أخيه بلاش ويذكر أنّه أحقّ بالملك منه.
فبقى هناك أربع سنين، ثمّ جهّزه خاقان. فلمّا عاد وبلغ نيسابور [166] بلغه موت أخيه بلاش [2] . وكان في وقت اجتيازه تزوّج ابنة رجل من الأساورة متنكّرا، وواقعها، فحملت بأنوشروان [3] . ولما عاد في هذا الوقت الذي ذكرناه، سأل عن الجارية، فأتى بها وبابنه أنوشروان. فتبرّك به وبها. ولما بلغ حدود فارس والأهواز بنى مدينة أرجان [4] ، وبنى حلوان، وبنى قباذ خرّة [5] ، وعدة مدن أخر.
من آرائه الجيّدة
فكان من آرائه الجيّدة وعزائمه النافذة، قبضه على خاله «سوخرا [6] » . وكان سبب ذلك أنّ فيروز لما جرى عليه ما جرى من الهياطلة كان سوخرا يخلفه على مدينة الملك بالمدائن. فجمع جموعا كثيرة من الفرس، وقصد أخشنواز ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه وتحكّم عليه. وكان وقع في يده دفاتر الديوان الذي صحب فيروز. فتقاضى بجميع ما كان في خزائنه وخزائن قوّاده وأهله، وطلب الوجوه من الأسارى الذين بقوا في يد أخشنواز. ولم يزل يحارب أخشنواز ويكيده ويبلغ منه [167] ما يتحكّم به عليه، حتى استنقذ من يده عامّة الفرس، وأكثر ما احتوى عليه من خزائن فيروز.
__________
[1] . نفس المصدر 2: 883.
[2] . مط: بلاس.
[3] . بالفهلوية.Anoshakruvan:
[4] . أرجان: ولاية في أقصى غربي فارس، خرائبها قريبة من بهبهان (لج: 290) .
[5] . قباذ خرّة: ولاية في فارس، ومدنها: كارزين، قير، أبرز (لج: 274) .
Sukhray. [6] من الأصل الأفستائى: سوخره، وهو في الفارسية «سرخ» أى: الأحمر (وب) .(1/172)
فكان له أثر حسن عند الفرس وعند ابني فيروز، أعنى: بلاش وقباذ. فعظّموه ورفعوا منزلته إلى حيث ليس بينه وبين الملك إلّا مرتبة واحدة. فتولّى سياسة الأمر بحنكة وتجربة، واستوى على الأمر، ومال إليه الناس واستخفّوا بقباذ، وتهاونوا به. فلم يحتمل قباذ ذلك، وكتب إلى سابور الرازي [1]- الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان اصبهبذ البلاد- في القدوم عليه في من قبله من الجند، فقدم بهم سابور، فواضعه قتال خاله سوخرا، وأمره فيه بأمره، على لطف وكتمان شديد خفىّ. فغدا سابور على قباذ، فوجد عنده سوخرا جالسا. فمشى نحو قباذ مجاوزا له، وتغفّل سوخرا. فلم يأبه سوخرا لإرب سابور، حتى ألقى وهقا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه، فأخرجه، وأوثقه، واستودعه السجن. فحينئذ ضربت الفرس المثل بأن قالوا:
- «نقصت ريح سوخرا، وهبّت ريح مهران» .
ثم قتل قباذ سوخرا. فكان هذا رأيا تمّ على سكون، ولم يضطرب فيه أمر.
[168]
سوء تدبير قباذ عند ظهور مزدك وزوال ملكه
وكان ممّا أساء فيه التدبير والرأى حتّى اجتمعت كلمة موبذان موبذ وجماعة الفرس على حبسه وإزالة ملكه عنه. أنّه اتّبع رجلا يقال له «مزدك» ، مع أصحاب له يقال لهم: «العدليّة» .
قالوا: «إنّ الله جعل الأرزاق في الأرض مبسوطة ليقسمها عباده بينهم بالتآسى، ولكن الناس تظالموا.»
__________
[1] . مط: بدون «الرازي» .(1/173)
وزعموا: أنّهم يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردّون من المكثرين على المقلّين، وأنّه من كان عنده فضل في المال والقوت، أو النساء والأمتعة، فليس هو أولى به من غيره.
فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه حتى قوى أمرهم.
فكانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على ماله ونسائه، فلا يستطيعون الامتناع منهم. وقوّاهم قبول الملك رأيهم، ودخوله معهم. فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى صار الرجل لا يعرف أباه، ولا الأب ولده، ولا يملك أحد شيئا ممّا يتّسع به.
وصيّروا قباذ في مكان لا يصل إليه غيرهم فيه. فأجمعت الفرس- حين رأوا فساد الملك- على تمليك أخيه جاماسف بن فيروز.
وقد حكى أيضا: أنّ المزدكيّة [169] هم الذين أجلسوا جاماسف ليكون الملك من قبلهم لا منّة لغيرهم عليهم، إلّا أنّ الحكاية الأولى أشبه بالحقّ.
ذكر حيلة تمّت لأخت قباذ حتّى أخرجته من الحبس
ثم إنّ أختا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ. فحاولت الدخول إليه، فمنعها الموكّل الذي كان ثقة عليه، وطمع أن يفضحها بذلك السبب وألقى طمعه فيها.
فأخبرته أنّها غير مخالفة له في شيء مما يهواه منها. فأذن لها حتّى دخلت السجن وأقامت عند قباذ يوما. ثم أمرت فلفّ قباذ في بساط، وحمل على عاتق غلام قوىّ ضابط كان معه في الحبس. فلمّا مرّ الغلام بوالي الحبس، سأله عمّا يحمله. فأفحم، فاضطرب. فلحقته أخت قباذ فأخبرته أنّه فراش كانت افرشته في عراكها [1] ، وأنّها إنّما خرجت لتتطهر وتنصرف. فصدّقها ولم يمس البساط، ولم يدن منه استقذارا له على مذهبهم، وخلّى عن الغلام الحامل لقباذ. فمضى به،
__________
[1] . العراك: الحيض.(1/174)
وخرجت في أثره، وهرب قباذ، فلحق بأرض [170] الهياطلة، ليستمدّ ملكها فيحارب من يخالفه.
فيقال: إنّه نزل في مسيره ب «أبرشهر [1] » على رجل من عظمائها. فتزوّج ابنة له معصرا [2] ، وإنّها أمّ كسرى أنوشروان وإنّ نكاحه لأم أنوشروان في سفره هذا. ثمّ إنّ قباذ رجع من سفره هذا بابنه أنوشروان. وغلب أخاه جاماسف بعد أن ملك اخوه ستّ سنين. ثم غزا الروم وافتتح آمد [3] وبنى مدنا منها: أرجان وغيرها، وملّك ابنه كسرى أنوشروان وأعطاه خاتمه.
وهلك قباذ وكان ملكه بسنى ملك [4] أخيه ثلاثا وأربعين سنة.
سبب هلاك قباذ
وكان سبب هلاكه سوء رأيه، وفساد عقيدته، وضعف ملكه. وذلك أنّه لمّا التقى الحارث بن عمرو بن حجر الكندي والنعمان بن المنذر بن إمرئ القيس، قتله، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك النعمان. فبعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنّه:
- «قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وإنّى أحبّ لقاءك» . [171] وكان قباذ زنديقا يظهر الخير، ويكره سفك الدماء، ويدارى أعداءه في ما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس.
فخرج إليه الحارث بن عمرو في عدد وعدّة، حتى التقيا بقنطرة الفيّوم. فأمر
__________
[1] . مط: ايرانشهر. وأبرشهر اسم لنيسابور في أوائل الحكم الإسلامي، وكان يقال لها ايرانشهر أيضا (لج:
409) .
[2] . أعصرت المرأة: أدركت وكأنّها دخلت شبابها فهي معصر.
[3] . آمد: أكبر مدن ديار بكر على الدجلة العليا (لج: 93) .
[4] . الأصل ومط: بملك سنى أخيه. والباء بمعنى مع. أنظر الطبري 2: 888. وابن الأثير 1: 414.(1/175)
قباذ بطبق من تمر، فنزع نواه، وأمر بطبق آخر، فجعل فيه تمر بنواه. ثم وضعا بين أيديهما، وجعل الذي فيه النوى بين يدي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه بين يدي الملك قباذ. فكان الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، والملك يأكل التمر ولا يحتاج إلى إلقاء النوى.
فقال الحارث: «ما لك لا تأكل كما آكل؟» فقال الحارث: «إنّما يأكل النوى إبلنا وغنمنا.» وعلم أنّ قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح وعلى أن لا يتجاوز الحارث وأصحابه الفرات.
إلّا أنّ الحارث استضعفه وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يعبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد. فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن، فقال:
- «هذا من تحت كنف ملكهم» .
ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو: أنّ لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد [172] وأنه يحبّ لقاءه.
فلقيه، فقال قباذ كالعاتب:
- «لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك.» فطمع الحارث في لين كلامه فقال:
- «ما علمت ولا شعرت، ولا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كلّ العرب تحت طاعتي، وما أتمكّن منهم إلّا بالمال والجنود.» فقال له قباذ: «فما الذي تريد؟» قال: «أريد أن تطعمني من السواد ما أتّخذ به سلاحا [1] .» فأمر له بما يلي جانب الغرب من أسفل الفرات وهي ستّة طساسيج.
__________
[1] . مط: ملاجا!(1/176)
فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبّع وهو باليمن:
- «إنّى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستّة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل، فانّه ليس دون ملكهم شيء، لأنّ الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحلّ هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك، فبادر بعدّتك وجندك.» فجمع تبّع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشقّ له نهرا إلى النجف، ففعل وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجّه ابن أخيه [1] شمرا ذا الجناح [173] إلى قباذ. فقاتله، فهزمه شمر، حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله.
ذكر ما تمّ لتبّع وابن أخيه شمر وابنه حسّان بعد احتوائهم على مملكة الفرس
ثمّ إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح إلى خراسان، ووجّه ابنه حسّان إلى السغد [2] وقال:
- «أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها.» وكان كلّ واحد منهما في جيش عظيم يقال: إنهما كانا ستمائة ألف وأربعين ألفا. وبعث ابن أخيه الآخر واسمه: «يعفر» إلى الروم.
فأمّا يعفر فإنّه سار حتى أتى قسطنطينية. فأعطوه الطاعة والإتاوة. ثم مضى إلى روميّة فحاصرها. ثم أصابهم جوع، ووقع فيهم طاعون فرقّوا [3] . وعلم الروم بذلك، فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
وأمّا شمر ذو الجناح فانّه سار حتّى انتهى إلى سمرقند، فحصرها، فلم يظفر
__________
[1] . مط: ابن أخته.
[2] . مط: السفه. الطبري: الصغد.
[3] . رقّ: نحف ولطف.(1/177)
منها بشيء. فلمّا رأى ذلك، أطاف [1] بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها، فاستمال بقلبه، ثم سأله عن المدينة وملكها.
فقال: «أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الشرب والأكل والجماع، ولكن له بنت [174] هي التي تقضى أمر الناس.» فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه. ثم بعث معه هديّة إليها وقال:
- «أخبرها أنّى إنّما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها، لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وأنّى لم أجئ التماس المال، وأنّ معى من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لى الأرض، كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها.» فلمّا انتهت رسالته إليها قالت:
- «قد أجبته، فليبعث بالمال.» فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، وفي كلّ تابوت رجلان. وكان لسمرقند أربعة أبواب، على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل. وتقدّم في ذلك إلى رسله الذين وجّه معهم. فلمّا صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل. فخرجوا، فأخذوا بالأبواب ونهد [2] شمر في الناس فدخل المدينة، وقتل أهلها وحوى ما فيها [3] .
ثم سار إلى الصين. فلقى زحوف الترك [175] فهزمهم، وانتهى إلى الصين.
فوجد حسّان [بن] [4] تبّع قد كان سبقه إليها ثلاث سنين. فأقاما بها- في بعض الروايات- حتى ماتا، وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. وفي بعض الروايات- وهو المجمع عليه-: أنّ شمرا وحسّانا انصرفا في الطريق التي كانا أخذا فيه،
__________
[1] . مط: أطاق. أطاف بالشيء: ألمّ به، وأحاط به. طرقه ليلا.
[2] . نهد: نهض ومضى. نهد لعدوه: صمد، وشرع في قتاله.
[3] . أنظر الطبري 2: 890.
[4] . زيادة من الطبري 2: 892.(1/178)
حتّى قدما على تبّع بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطيب والسبي، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم. وذلك أنّه كانت همّة ملوك العرب الغزو والغنيمة ولم يطمعوا في الملك الثابت. وكان أحدهم إذا ملأ يده من الغنائم وأرضى جنده وظفروا بما في نفوسهم، انكفأوا إلى بلادهم.
وكانت وفاة تبع باليمن ولم يخرج أحد من ملوك اليمن بعده غازيا إلى شيء من البلاد. وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة.
وأمّا في الرواية الأخرى: فإنّه أقام تبّع وواطأ ابن أخيه شمرا وابنه حسّانا أن يملكا الصين، ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار. فكان إذا حدث [176] حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر في ليلة. وكان جعل آية ما بينه وبينهم [أنه] [1] :
- «إن أنا أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثا فهو هلاك تبّع. وإن كانت من عندهم نار فهو هلاك حسّان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما» .
فمكثوا بذلك. ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثا فكان هلاك تبّع.
وقد ذكر بعض الرواة: أنّ الذي سار إلى المشرق من التبابعة، تبّع الآخر وهو:
تبّع تبان أسعد أبو بكر بن مليكيكرب بن زيد بن عمرو ذى الأذعار وهو أبو حسّان.
وقام بالملك بعد قباذ ابنه كسرى أنوشروان
فاستقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأى، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر ثم الاستشارة. فجدّد سيرة أردشير، ونظر في عهده [2] ، وأخذ
__________
[1] . تكملة يقتضيها السياق. وفي الطبري: أن إذا أوقدت.
[2] . أنظر العهد في ص 122- 144.(1/179)
نفسه به، وأدّب به رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم، واستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر في تدابير [1] أسلافه المستحسنة [177] فاقتدى بها.
وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرداشت الثاني الذي كان من أهل فسّا، وكان ممّن دعا إليها مزدك بن فامارد [2] ، وكان ممّا آمن به الناس- لما زيّنه لهم وحثّهم عليه- التآسى في أموالهم وأهاليهم. وذكر أنّ ذلك من البرّ الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنّه لو لم يكن الذي أمرهم به من الدين، لكان مكرمة في الفعال ورضى في التفاوض. فحضّ السفلة بذلك على الأشراف واختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهّل سبيل الظلمة إلى الظلم، والعهّار [3] إلى قضاء نهمتهم وإلى الوصول إلى الكرائم. فشمل الناس بلاء عظيم.
فلما أبطل الملك أنوشروان ملّة هذين، وقتل عليه بشرا كثيرا، وسفك من الدماء ما لا يحصى كثرة ممن لا ينتهى، وقتل قوما من المانوية وثبت ملة المجوسية القديمة، كتب [4] في ذلك كتبا بليغة إلى أصحاب الولايات والاصبهبذين، وقوّى الملك بعد ضعفه بإدامة النظر، وهجر الملاذ وترك اللهو إلّا في أوقات، [178] حتى نظّم أموره وقوّى جنوده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، وحفظ الأموال، وفرّق منها ما لا يسع حفظه من الأرزاق والصلات
__________
[1] . في الأصل ومط: تدبير. فأثبتناها «تدابير» لظهور كون «المستحسنة» صفة ل «تدابير» لا ل «الأسلاف» .
[2] . كذا في مط: مزدك بن فامارد. بالفهلوية.LMazdak:في الطبري: مزدق بن بامذاد (2: 893) . في البيروني: مژدك بن همدادان من أهل نسا (الآثار: 209) . وقيل: هو من إصطخر فارس، ونسا بن Nesa من نواحي شيراز، تغير اسمها إلى بيضاء، لقلعة بيضاء كانت فيها على حد قول الاصطخرى (فم) . وعلى ما في الطبري: كان من مدريه Madhraya أى كوت العمارة حاليا. دعا إلى دين زردشت بونده (بوندس) المسمى «دريست دين» والذي كان في إصلاح الدين المانوى. وزردشت بونده (الزرادشت الثاني- مسكويه) كان من أهل فسّا (معرّب Pasa وهي ناحية في فارس شرقى شيراز مركزها مدينة بنفس الاسم- فم) . كان ظهور زردشت بونده قبل ظهور مزدك بقرنين،LC.R.K) والطبري 2: 885، 893) .
[3] . أى سبيل العهّار.
[4] . في الأصل ومط: «وكتب» فحذفنا الواو.(1/180)
الموضوعة مواضعها، وسدّ الثغور، وردّ كثيرا من الأطراف التي غلب عليها الأمم بعلل وأسباب شتّى، منها: السّند، والرّخج [1] ، وزابلستان، وطخارستان [2] ، ودروستان [3] وغيرها. وقتل أمّة يقال لها: البافرز [4] واستبقى منهم من فرّقهم واستعبدهم واستعان بهم في حروبه. وأسرت له أمّة يقال لهم: صول، وقدم بهم عليه، فقتلهم واستبقى ثمانين رجلا من كماتهم، وعمل أعمالا عظيمة منها: بنيانه الحصون والآطام [5] والمعاقل لأهل بلاده، يكون حرزا لهم يلجأون إليها من عدوّ إن دهمهم.
من ثمرة أعماله
فكان من ثمرة هذه الأعمال: أنّ خاقان- واسمه سنحوا [6]- كان في ذلك الوقت أمنع الترك وأشجعهم. وهو الذي قاتل «ورز [7] » ملك الهياطلة، غير هائب كثرة الهياطلة ومنعتهم، وبأسهم. [179] فقتل ورز [8] وعامّة جنده، وغنم أموالهم واحتوى على بلادهم إلّا ما كان كسرى غلب عليه منها. وأقبل في جموعه من أمم استمالهم، وهم: أبجر، وبنجر، وبلنجر. وبلغت عدّة الجميع مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل أنجاد.
فأرسل إلى كسرى يتوعّده ويطلب منه أموالا، وأنّه إن لم يجعل بالبعثة إليه ما سأله، وطئ بلاده وناجزه [9] . فلم يحفل كسرى به ولم يجبه إلى ما سأل، لتحصينه
__________
[1] . مط: الزنج. والرخج ولاية في أطراف قندهار وشرقىّ بست (لج: 371) .
[2] . طخارستان: ولاية واسعة في شرقى بلخ (لج: 453) .
[3] . في الطبري وحواشيه: دردستان، دروستان، دورستان. مط: روستان.
[4] . الطبري: البامرز، البارز.
[5] . الآطام: جمع مفرده الأطم، والأطم: الحصن.
[6] . مط: مسحوا! في الطبري: سنجبوا، سحنوا سحبوا (2: 895) .
[7] . مط: وزر. في الطبري: ورز، ورد.
[8] . مط: وزرة.
[9] . مط: فاخره.(1/181)
نواحيه لا سيما ناحية صول التي أقبل منها خاقان، ولمناعة السبل والفجاج، ولمعرفته بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية. فأقدم خاقان على ناحية صول من نواحي جرجان، فرأى من الحصون والرجال الذين أعدّهم كسرى ما لا حيلة له فيه، فانصرف خائبا.
فأما تدبيره للمزدكية وردّه المظالم وما دبّر في أمر النساء المغلوبات على أنفسهن وتدابيره الأخرى
فإنّه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسم أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم وأهاليهم ممن عرف، [180] وردّ الأموال إلى أربابها، وأمر بكل مولود اختلف فيه، أن يلحق بمن هو في سيما ذلك منهم إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبا من مال الرجل الذي يسند إليه، إن قبله الرجل، وبكلّ امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضى أهلها، ثم تخيّر المرأة بين الاقامة عليه وبين تزويج غيره، إلّا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ إليه. وأمر بكل من كان أضرّ برجل في ماله، أو ركب أحدا بمظلمة أن يؤخذ منه الحقّ ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. أمر بعيال ذوى الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف، وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله. وخير نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن [1] في الإجراء أمثالهن، أو تبتغى لهن أكفاؤهن من البعولة. وأمر بكرى الأنهار وحفر القنىّ [181] وإسلاف [أصحاب] [2] العمارات وتقويتهم. وأمر بإعادة كلّ جسر أو
__________
[1] . في الطبري: ويصرن في الأجر أمثالهن (2: 897) .
[2] . مزيد من الطبري.(1/182)
قنطرة خرّبت أن تردّ إلى أحسن ما كانت عليه. وأمر بتسهيل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمّال وتقدّم [1] إلى من ولّى منهم أبلغ التقدّم، وتقدّم بكتب سير أردشير ووصاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها [2] .
فتوح أنوشروان
فلما انتظمت له هذه الأمور واستوسق ملكه ووثق بجنده وقوّته، سار نحو أنطاكية فافتتحها وأمر أن تصوّر له المدينة على ذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن يبنى على صورتها له مدينة إلى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالروميّة.
ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إيّاها. فلمّا دخلوا باب المدينة مضى أهل كلّ بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الاسكندرية، وأذعن له قيصر، وحمل إليه الفدية.
ثم انصرف من الروم وأخذ نحو الخزر، فأدرك فيهم تبله [3] ، وما كانوا وتروه به [182] في رعيّته، ثم نحو عدن، فسكر [4] هناك ناحية من البحر بين [5] جبلين بالصخور وعمد الحديد. ثم سار إلى الهياطلة مطالبا لهم بدم فيروز، بعد أن صاهر خاقان واستعان به. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة [6] . ثم انصرف إلى المدائن، وبعث قوما إلى الحبشة في جند من الديلم. فقتلوا مسروقا الحبشي باليمن. وأقام مظفّرا منصورا
__________
[1] . تقدم إليه: أمره.
[2] . ومن وصاياه، وعهده الذي تركه للملوك الآتين بعده. أنظر: ص 122 إلى 144.
[3] . التبل: الحقد والعداوة.
[4] . سكره: سدّه.
[5] . في الطبري: بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل (2:
898) .
[6] . فرغانة: ولاية على ساحل جيحون (لج: 519) .(1/183)
يهابه جميع أمرائهم، ويحضر بابه وفود الترك والصين والخزر ونظرائهم. وكان مكرما للعلماء. وقد كان غزا برجان [1] . ثم رجع فبنى الباب [2] والأبواب.
وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي- صلّى الله عليه وسلّم-. والنبي أيضا- عليه السلام- وملك ثماني [3] وأربعين سنة. أمّا عبد الله بن عبد المطلب فانّه ولد لأربع وعشرين سنة من ملكه. وبعث إلى المنذر بن النعمان- وأمّه ماء السماء امرأة من اليمن [4]- فملّكه الحيرة وما كان يليه آل الحارث بن عمرو، وردّ الأمر إلى نصابه.
تدابير أنوشروان لاستغزار الأموال وتثميرها
ومن أحسن ما دبّره أنوشروان في استغزار الأموال وتثميرها [183] أنّه بعد فراغه من الثغور وملوك الأطراف، وتوظيفه الوظائف على أقاصى الملوك من الترك والخزر والهند وغيرهم، وبيعه مدن الشام ومصر والروم على ملك الروم بأموال عظيمة، وإلزامه جزية يحملها في كلّ سنة على ألّا يغزو بلاده، نظر في الخراج وأبواب المال التي كان يستأديها الملوك قبله من بلاده. فإذا رسوم الناس كانت جارية على الثلث من الارتفاع خراجا، ومن بعض الكور الربع، ومن بعضها الخمس، ومن بعضها السدس، على حسب شربها [5] وعمارتها، ومن جزية الجماجم [6] شيئا معلوما.
وكان الملك قباذ بن فيروز تقدّم- في آخر ملكه- بمسح الأرض سهلها
__________
[1] . في مط: «عمر بن خان» بدل «غزابرجان» ! برجان، بالفهلوية:LVarjan:بلد من نواحي الجزر (مع) ، والجزر: مصحّف الجرز، والجرز: معرّب گرج. بالفارسية: گرجستان (مت) .
[2] . الباب والأبواب، باب الأبواب، الدربند، دربند نوشروان: مدينة على بحر الخزر (مع) .
[3] . في الطبري: سبعا (2: 899) .
[4] . في الطبري: من النمر.
[5] . الشرب: الماء. النصيب من الماء. وقت الشرب.
[6] . الجماجم: جمع مفرده الجمجمة: البئر تحفر في السبخة، أو ضرب من المكاييل (مو) .(1/184)
وجبلها، ليصحّ الخراج عليها، فمسحت. غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة. فلمّا ملك أنوشروان أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم. ثم أمر الكتّاب فأخرجوا جمل ذلك غير مفصّلة، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ [184] عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم. فقرأ ذلك عليهم.
ثم قال لهم كسرى:
- «إنّا رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة ومن النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها [1] في السنة في ثلاثة أنجم. ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور، أو طرف من الأطراف، فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالا، كانت الأموال عندنا معدّة موجودة، ولم نرد استيناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون في ما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟» فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة ولم ينبس بكلمة. فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات.
فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى:
- «أتضع أيّها الملك- عمّرك الله خالدا- من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج [2] ، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟» فقال له كسرى: «يا ذا الكفلة المشؤوم! من أىّ طبقات الناس أنت؟» قال: «أنا رجل من الكتّاب.» [185] فقال كسرى: «اضربوه بالدوىّ [3] حتى يموت.» فضربوه بها الكتّاب خاصّة تبرّيا منه إلى كسرى من رأيه وما جاء منه حتّى
__________
[1] . الإنجام: تعيين مواقيت تأدية الدّين. والنجم: الوقت المضروب، أو القسط من الدّين (مو) .
[2] . يهيج: ييبس ويصفر.
[3] . الدوىّ جمع الدواة: المحبرة.(1/185)
قتلوه.
وقال الناس:
- «نحن راضون أيّها الملك بما أنت ملزمنا من خراج.» وإنّ كسرى اختار رجالا من أهل الرأى والنصيحة. فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدد النخل والزيتون ورؤوس الجزية، ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أنّ فيه صلاح الرعية ورفاغة [1] معايشهم، ورفع ذلك إليه.
فتكلّم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك وفي قدر الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم وهو:
الحنطة، والشعير، والأرز، والكرم، والرطاب [2] ، والنخل، والزيتون.
وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهما، وعلى كل جريب كرم ثمانية دراهم، وعلى كلّ جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كلّ [186] أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كلّ ست نخلات دقل [3] مثل ذلك، وعلى كلّ ستّة أصول زيتون مثل ذلك. ولم يضعوا إلّا على كلّ نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذّ [4] ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلّات السبع.
__________
[1] . مط: رفاهة. في الطبري: رفاغة. نقطة الغين مطموسة في الأصل. الرفاغة: لين العيش وسعتها وبهذا المعنى تلائم ما في مط (رفاهة) .
[2] . الرطاب: جمع رطبة (رطب) : ما نضج من البسر قبل أن يصير تمرا. كل ما يؤكل من النبات غضّا طريّا.
[3] . الدقل: أردأ التمر.
[4] . الشاذّ: المنفرد الخارج عن الجماعة.(1/186)
فقوى الناس في معايشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والهرابذة، والكتّاب، ومن كان في خدمة الملك. وصيّروها على طبقات:
اثنى عشر درهما، وثمانية، وستّة، وأربعة، على قدر إكثار الرجل وإقلاله. ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين، أو فوق الخمسين.
عمر يقتدى بوضائع كسرى
ورفعوا هذه الوضائع إلى كسرى. فرضيها، وأمر بإمضائها، والاجتباء عليها في ثلاثة أنجم كلّ سنة، وسمّاها «أبراسيار» [1]- وتأويله: الأمر المتراضى به- وهي الوضائع التي اقتدى عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- بها حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء الناس من أهل الذمّة عليها. إلّا أنّه وضع على كلّ جريب [2] غامر [3] على قدر احتماله مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، [187] وزاد على كلّ جريب أرض- مزارع حنطة أو شعير- قفيزا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف بالعراق خاصّة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه في معايش الناس.
__________
[1] . أبراسيار: مهملة في الأصل ومط، والإعجام من الطبري. في هامش الطبري: ابن ابسار، ابرسيار (2:
962) . أبراسيار تحريف للكلمة الفارسية «همداستانى» [أى: اتفاق النظر والتصميم] ، ويؤيّد ذلك أن الكلمة وردت في ترجمة البلعمي (ص 250) بمعنى التراضي والإصلاح الضرائبى من قبل أنوشروان.
أنظر الدكتور محمدي: «نظرة في المرجع» ، الدراسات الأدبية، السنة الخامسة، العدد الثاني، ص 112، الحاشية 2.
[2] . الجريب: معرب «گرى» عشرة آلاف ذراع (حب) .
[3] . أعجمنا العين كما في الطبري: غامر. والغامر خلاف العامر. الأرض الخراب.(1/187)
ذكر قطعة من سيرة أنوشروان وسياساته كتبتها على ما حكاه أنوشروان نفسه في كتاب [1] عمله في سيرته وما ساس به مملكته
وقرأت فيما كتب أنوشروان من سيرة نفسه قال:
رجل اخترط السيف وأراد الوثوب علينا
«كنت يوما جالسا بالدّسكرة [2] وأنا سائر إلى همذان لنصيف هناك وقد أعدّ طعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان، والهياطلة، والصين، وقيصر، وبغبور، إذ دخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل إلى الستر [3] . فقطع الستر في ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن، والوثوب علينا. فأشار علىّ بعض خدمي أن أخرج إليه بسيفي. فعلمت أنّه إن كان إنّما هو رجل واحد، فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فانّ سيفي لا يغنى شيئا، فلم أخف ولم أتحرّك من مكاني. فأخذه بعض الحرس، فإذا هو رجل رازى من حشمنا وخاصتنا [188] فلم يشكّوا أنّ من هو على رأيه كثير، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر الشرب في جماعة حتى أستبين الأمر. فلم أجبهم إلى ذلك لئلّا يرى الرسل منّى جبنا،
__________
[1] . هو نفس ما ذكره ابن النديم باسم: «كتاب التاج في سيرة أنوشروان» أو: «الكارنامج في سيرة أنوشروان» نقله ابن المقفع من الفهلوية إلى العربية (الفهرست: 118، 305، مت: 43) .
[2] . الدسكرة دستگرد Dastgard دستگرد خسرويه، دسكرة الملك: على طريق طيسفون- همدان (حب) على 107 كم. من الشمالي الشرقي لطيسفون،LC.I.S) مت: 53) .
[3] . الستر: ما كان يسدل بين الملك والندامى (التاج: 48) .(1/188)
فخرجت لشربى، فلمّا فرغنا هدّدت الرازي بقطع اليمين والعقوبات، وسألت أن يصدقني عن الذي حمله على ذلك، وأنّه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك. فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنّه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أن قتله- إن قتلني- يدخله الجنّة. فلمّا فحصت عن ذلك وجدته حقّا، فأمرت بتخلية الرازي وبردّ ما أخذ منه من المال، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين انتحلوا الدين، وأشاروا به عليه حتّى لم أدع منهم أحدا.» وقال أنوشروان:
استحلال قتلى
«إنّى لمّا أحضرت القوم الذين اختلفوا [1] في الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت في إظهار [دينهم] [2] الخبيث، حتّى إنّى سألت أفضلهم رجلا، على رؤوس الناس، عن استحلاله [189] قتلى فقال:
- «نعم! أستحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا.» «فلم آمر بقتله حتّى إذا حضر وقت الغذاء، أمرت أن يحتبس للغداء، وأرسلت إليه بظرف من الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عنّى: أنّ بقائى أنفع له ممّا ذكر. فأجاب رسولي:
- «أنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه ذات نفسي ولا أكتمه
__________
[1] . اختلفوا في الدين: سقطت من مط.
[2] . دينهم من مط، والأصل غير واضح.(1/189)
شيئا مما أدين به، وإنّما أدين بما أخذته من مؤدّبى [1] .» وقال أنوشروان:
تصدّقت على مساكين الروم
«لمّا غدر بى قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إلىّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت [2] على مساكين الروم وضعفاء مزارعيها مما بعث إلىّ قصير بعشرة آلاف دينار، وذلك في ما وطئته من أرض الروم دون غيرها.» وقال:
تخفيف الخراج لعمارة الأراضى
«لما هممت بتصفّح أمر الرعية بنفسي، ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج- فإنّ فيه مع الأجر تزيين المملكة، وغناهم، وقدرة الوالي على ما يجب أن يستخرج منهم، إن هو احتاج إلى ذلك، وقد كان في آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج [190] عنهم للسنة والسنتين والتخفيف أحيانا، ممّا يقوّيهم على عمارة أرضيهم- فجمعت العمال ومن يؤدّى الخراج، فرأيت من تخليطهم ما لم أر له حيلة إلّا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل، واستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة في نفسي، وجعلت في كلّ بلد مع كلّ عامل أمناء يحفظون عليه، وولّيت قاضى كلّ كورة النظر في أهل كورته،
__________
[1] . مؤدّبى: الباء ليست واضحة في الأصل. مط: مودى. وهو من الإيداء بمعنى المحسن والمنعم.
[2] . في الأصل: «صدقت» وما أثبتناه من مط.(1/190)
وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون إلى رفعه إلينا، إلى القاضي الذي ولّيته أمر كورهم، حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضي، وأن يعطى به البراءة [1] ، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يراد الخراج ممن لم يدرك [2] من الأحداث، وأن يرفع القاضي وكاتب الكورة وأمين أهل البلد والعامل، محاسبتهم إلى ديواننا، وفرّقت الكتب بذلك.» وقال:
ما رفع إلينا موبذان موبذ
«رفع إلينا موبذان موبذ: أنّ قوما سمّاهم من ذوى الشرف- بعضهم بالباب كان شاهدا [3] [191] وبعضهم ببلاد أخر- دينهم مخالف لما ورثنا عن نبّينا وعلمائنا، وأنّهم يتكلّمون بدينهم سرّا ويدعون إليه الناس، وأنّ ذلك مفسدة للملك، حيث لا تقوم الرعيّة على هوى واحد: فيحرّمون جميعهم ما يحرّم الملك ويستحلّون ما يستحلّ الملك في دينه، فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك، قوى جنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فاستظهر على قتال الأعداء.
فأحضرت أولئك المختلفين في الأهواء [ثمّ أمرت] [4] أن يخاصموا [5] حتّى يقفوا على الحقّ ويقرّروا [6] به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتي وعن بلادي ومملكتي، وبتتبّع كلّ من هو على هواهم،
__________
[1] . الهمزة في «البراءة» من مط. وفي الأصل: البراة.
[2] . أدرك الصبى: أدرك الحلم.
[3] . مط: محاضرا.
[4] . ما بين [] لم يكن لا في الأصل ولا في مط، فزدناه بوحي السياق.
[5] . خاصمه: جادله، ونازعه.
[6] . تقرير الإنسان بالشيء: جعله في قراره.(1/191)
فيفعل به ذلك.» وقال:
ما سألته الترك ومسيرنا إلى باب صول
«إنّ الترك الذين في ناحية الشمال، كتبوا إلينا بما قد أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا- إن لم نعطهم شيئا- من أن يغزونا، وسألوا خصالا، أحدها: أن نتّخذهم في جندنا ونجري عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكنج [1] وبلنجر [2] وتلك الناحية، ما يتعيّشون منه. فرأيت أن أسير في ذلك الطريق إلى باب صول [3] ، [192] وأحببت أن تعرف الملوك من قبلنا هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة [4] الملوك، وكثرة الجنود، وتمام العدّة، وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا إليه، وأحببنا- بمسيرنا- أن يجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان [5] والقرب من المجلس واللطف في الكلام، ليزيدهم ذلك مودّة لنا، ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا. وأحببت أيضا التعهّد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم في مسيرنا، فسرت في طريق همذان وآذربيجان. فلمّا بلغت باب الصول ومدينة فيروز
__________
[1] . الكنج: معرّب «گنجه» : مدينة عظيمة هي قصبة بلاد أرّان، وأهل الأدب يسمّونها: جنزة (مع) .
[2] . بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف الباب والأبواب (مع) .
[3] . صول: مدينة في بلاد الخزر في الباب والأبواب (مع) .
[4] . في الأصل: هيئة. وهو تصحيف.
[5] . الحملان: ما يحمل عليه من الدوابّ في الهبة خاصة.(1/192)
خسره [1] ، رمّمت تلك المدائن العتيقة والحدود، وأمرت ببناء حصون أخر.
«فلمّا بلغ خاقان الخزر نزولنا هناك، تخوّف أن نغزوه. فكتب:
أنّه لم يزل- منذ ملكت- يحبّ موادعتى، وأنّه يرى الدخول في طاعتي سعادة، ورأى بعض قوّاده لما شاهد حاله تركه، فأتانا في [193] ألفين من أصحابه، فقبلناه، وأنزلناه مع أساورتنا في تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلّموا من دخل في طاعتنا من الترك، ما في طاعة الولاة من المنفعة العاجلة في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحّة والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا. وأقمت لهم في تلك التخوم [2] الأسواق وأصلحت طرقهم، وقوّمت السكك، ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال، فإذا بحيث لو كان في وسط فارس، لكان منزلنا بها فاضلا.» قال:
تجديد النظر في أمر المملكة
«ولمّا أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت [3] النظر في أمر
__________
[1] . كذا في الأصل ومط. وفيروز خسرو: مدينة بالقرب من باب الأبواب باسم فيروز قباد. بنى هناك أنوشروان قصرا وسمّاه باب فيروز قباد (يا) . وبعد أن بنى هناك كسرى قصرا وعمرها سمّيت باسمه:
فيروز خسرو، ثمّ غلب عليه الاسم الأوّل: فيروز قباد (مت: 64) .
[2] . مط: النجوم.
[3] . في الأصل: حدّدت. ونقطة الجيم من مط.(1/193)
المملكة والعدل على الرعية، والنظر في أمرهم وإحصاء مظالمهم وإنصافهم، وأمرت موبذ كلّ [ثغر] [1] ومدينة وبلد وجند [2] بإنهاء ذلك إلىّ، وأمرت بعرض الجند من كان منهم بالباب، [194] بمشهد منّى، ومن غاب في الثغور والأطراف، بمشهد القائد وباذوسبان [3] والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها، مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه إلى كلّ مصر ومدينة، حيث أولئك [الغلمان و] [4] العمال وأهل الأرض، ليجمعوا بينهم وبين أهل أرضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه: [فما] [5] نفذ فيه لهم أمر- لو صحّ فيه القضاء ورضى به أهله- فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه [6] إلىّ. وبلغ
__________
[1] . الكلمة غير واضحة في الأصل فأثبتناها حسب مط.
[2] . جند: معرّب «گند» سمى المسلمون كل صقع جندا، بجند عيّنوا له يقبضون أعطياتهم فيه منه. فكانوا يقولون: هؤلاء جند كذا، حتى غلب عليهم وعلى الناحية (يا) والجند معرب:Gond إحدى وحدات الجيش الساسانى، ورئيسها «گُند سالار» ، ويليها «درفش،LDrafsh «ثم «وشت LVasht «بالواو الفارسية (مت. (C.I.S.,P.205 66:
[3] . باذوسبان، پادوسبان، پادگسپان:Padgospan درجة من درجات أصحاب المناصب. وقد كان هذا اللقب يختلف ارتفاعا وانخفاضا حسب العصور المختلفة. ففي بعضها، كان البادوسبان معاونا لحاكم القضاء، وكان تابعا للإصفهبذ، وفي بعضها الآخر، كانت للباذوسبان صلاحية المرزبان. وكان كل ناحية من نواحي الشمال والجنوب والشرق والغرب تسمى في بعض العصور پادگش،Padgosh (C.I.S ,.P.46) ودام هذا الترتيب إلى أوائل حكم أنوشروان، إلّا أنّ أنوشروان استبدل الباذوسبانين الأربعة، بأربعة إصفهبذين (مت: 67) .
[4] . ما بين [] تكملة من مط.
[5] . ما في الأصل ومط: «فيما» وهو خطأ نظرا لسياق العبارة.
[6] . ما في الأصل ومط: «ورفعوه» بالواو، فرأيناها زائدة مقحمة فحذفناها بوحي من السياق.(1/194)
اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أدارى من الأعداء والثغور، لباشرت أمر الخراج والرعيّة بنفسي قرية قرية، حتى أتعهّدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتي، غير أنّى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، والأمر الذي لا يغنى فيه غنائى [195] ولا يقدر على إحكامه غيرى، ولا يكفينيه كاف، مع الذي في الشخوص إلى قرية قرية، ومن المؤونة على الرعيّة من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إشخاصه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا، مع تخوّفنا أن يشغل أهل الخراج عن عمارة أرضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة في تكلف السير إلى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهّده في السنة كلّها في أوقات العمارة.
ففعلنا ذلك بهم، ووكّلنا موبذان موبذ وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به ورجونا أن يجرى مجرانا، وشخّصنا وقلّدناه ذلك.» قال:
جلوسنا مع أهل الكور للفحص عن الرعيّة وأمناء الخراج
«ولمّا آمن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء. فلم يبق منهم إلّا نحو من ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصنهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص من الرعيّة وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج، وكان بلغنا أنّ أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في ذلك، فأمرت بالكتب [196] إلى قاضى كورة كورة: أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم، فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه، ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل(1/195)
رجل منهم، ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ، ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون في من يشخص، بعض سفلتهم أيضا، فعل ذلك.
«فلمّا حضروا جلست للناس وأذنت بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم، وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت في تلك الكتب والمظالم. فأيّة مظلمة كانت من العمّال ومن وكلائنا، أو من وكلاء وكلائنا، ونسائنا، وأهل بيتنا، حططنا عنهم بغير بيّنة، لعلمنا بضعف أهل الخراج عنهم وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأية مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح [1] ، وما أشكل، أو وجب الفحص عنه، بشهود البلد [197] وقاضيها، سرّحت معه أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، فإنّ من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّة وقوّة. فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من حاوروه [2] إلّا أن تكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل. فدعانا الذي اطّلعنا عليه من ظلم أولئك، إلى أن لا نطلب البيّنة عليهم في ما ادّعى قبلهم، ولم نرد ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، ومنيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فانّ الحق واسع للضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، ولكنّا لمّا أشكلت الأمور في
__________
[1] . برح المكان براحا: زال عنه وغادره.
[2] . في مط: حاوزوه. حاوروه: جادلوه.(1/196)
ذلك علينا، كان الحمل على خواصّنا وخدمنا، أحبّ إلينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم وأهل الفاقة والحاجة منهم.
وعلمنا أنّ أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا [198] وعلمنا مع ذلك أنّ [الذين] [1] أعدينا [2] عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا إلى ما لا يرجع إليه أولئك الضغفاء.
ولعمري، إنّ أحبّ خواصّنا إلينا، وأبرّ خدمنا في أنفسنا، الذين يحفظون سيرتنا في الرعيّة، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة، وينصفونهم، فإنّه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمّتنا التي هي حرزهم وملجأهم.» قال:
ما كتبه إلينا أربعة أصناف من ترك الخزر
«ثم كتب إلينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكلّ صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظّ في عبودتنا، وسألوا أن نأذن لهم في القدوم بأصحابهم لخدمتنا والعمل بما نأمرهم به، ولا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنّا سنرى في كلّ ما نأمرهم به من قتال وغيره، كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا.
«فرأيت في قبولي إيّاهم عدّة منافع، منها: [199] جلدهم وبأسهم، ومنها: أنّى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو
__________
[1] . في الأصل ومط: الذي.
[2] . أعدينا عليهم: ظلمناهم.(1/197)
بعض الملوك فيقووا بهم علينا. وقد كان في ما سلف يستأجر قيصر منهم لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة، فكان لهم في ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك، ولأنّ الترك ليس عندهم لذّة الحياة، فهو الذي [1] يجرّيهم مع شقاء معيشتهم على الموت.
فكتبت إليهم: أنّا نقبل من دخل في طاعتنا ولا نبخل على أحد بما عندنا. وكتبت إلى مرزبان الباب آمره أن يدخلهم أوّلا فأولا.
«فكتب إلىّ أنّه: قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالاتهم، وأتاه من رؤسائهم ثلاثة آلاف بأهل بيتهم ونسائهم وأولادهم وعيالاتهم.
«ولمّا بلغني ذلك أحببت أن أقرّبهم إلىّ، ليعرفوا إحسانى إليهم في ما أكرمهم به وأعطيهم، وليطمئنّوا إلى قوّادنا حتّى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا، كان كلّ واحد بصاحبه واثقا. فشخصت إلى آذربيجان. فلما نزلت آذربيجان أذنت لهم في القدوم، وأتانى عند [200] ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور [2] ، وكابل شاه، وصاحب سرنديب [3] ، وصاحب كله [4] ، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا في يوم واحد، وانتهيت إلى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين الألف، فأمرت أن يصفّفوا هناك، وركبت
__________
[1] . فهو الذي: كذا في الأصل ومط.
[2] . الداور: ولاية واسعة مجاورة لولاية رخج وبست والغور، وهي ثغر الغور من ناحية سجستان. ومدينة الداورتل وغور، وهما على نهر الهندمند (مع) .
[3] . سرنديب: جزيرة عظيمة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند. (مع) .
[4] . كله: فرضة بالهند، وهي منتصف الطريق بين عمان والصين في وسط خطّ الاستواء (مع) من جزر الخليج الثاني من بحر الهند (لد) .(1/198)
لذلك، فكان يومئذ من أصحابى، ومن قدم عليّ، ومن دخل في طاعتي وعبودتى، من لم يسعهم مرج كان طوله نحو عشرة فراسخ.
فحمدت الله كثيرا، وأمرت أن يصنّف أولئك الأتراك في أهل بيوتاتهم على سبع مراتب ورأّست عليهم منهم، وأقطعتهم، وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لى ببرجان، وبعضهم مع قائد لى باللّان [1] ، وبعضهم بآذربيجان، وقسمتهم في كلّ ما احتجنا إليه من الثغور، وضممتهم إلى المرزبان. فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم في ما نوجههم له، ما [201] يسرّنا في جميع المدائن والثغور وغيرها.»
خاقان الأكبر يعتذر إلىّ ويسأل التجاوز
«وكتب إلىّ خاقان الأكبر يعتذر إلىّ من بعض غدراته، ويسأل المراجعة والتجاوز، وذكر في كتابه ورسالته: إنّ الذي حمله على عداوتي وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدني الله أن أتجاوز عنه، ويوثّق لى بما أطمئن إليه، وذكر أنّ قيصر قد أرسل إليه، وزعم أنّه يستأذننى في قبول رسله، وأنّه لا يعمل في قبول رسل أحد إلّا بما أمرته، ولا يجاوز أمرى، ولا يرغب في الأموال ولا في المودّات لأحد إلّا برضاي. وكان دسيس لى في الترك كاتبني بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إيّاى.
«فأجبته: إنّى لعمري لا أبالى أبطبيعة نفسك وغريزتك غدرت
__________
[1] . اللّان (أرّان، أران) : بلاد واسعة منها كنجه، بينها وبين آذربيجان نهر الرس [أرس] (مع) .(1/199)
بنا، أم أطعت غيرك في غدرك بنا، وما ذنبك في طاعة من أطعت في ذلك إلّا كذنبك في ما فعلته برأى نفسك، وإنّك قد استحققت أشدّ العقوبة.- وكتبت [1] :- إنّى لا أظنّ شيئا مما وجب بيني وبينكم إلّا وقد كنت صنعته، ولا أظنّ شيئا من الوثيقة بقي لكم إلّا وقد وثّقت [202] لنا [2] به قبل اليوم ثمّ غدرتم، فكيف نطمئنّ إليك ونثق بقولك، ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب في اليمين؟ وذكرت أنّ رسل قيصر عندك، ووقفنا على استيذانك إيّانا فيهم، وإنّى لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنّى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه، وأحببت أن أعلمه أنّى لا أبالى بشيء ممّا يجرى بينهما، «ثمّ سرّحت لمرمّة المدائن والحصون التي بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف إليها ما يحتاج إليه الجند، وأمرتهم أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان في المرّة الأولى وهم على حال الصلح.» قال:
المقاتلة وأهل العمارة سواء
«وكان شكرى لله تعالى لمّا وهب لى وأعطانى متّصلا بنعمه الأول [3] التي وهبها لى في أوّل خلقه إيّاى، فإنّما الشكر والنعم عدلان ككفّتى الميزان، أيّهما رجح بصاحبه احتاج [4] الأخفّ إلى
__________
[1] . الكلمة مطموسة في الأصل قرأناها بقرينة ما في مط.
[2] . لنا به: في الأصل غموض وما في مط: لما به.
[3] . مط: الأولى.
[4] . احتاج.. صاحبه: سقطت من مط.(1/200)
أن يزاد فيه حتّى يعادل صاحبه. فإذا كانت النعم كثيرة والشكر [203] قليلا، انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ [1] الحامل. فكثير النعم يحتاج [2] صاحبها إلى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولمّا وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، نظرت في أحبّ الأعمال إليه، فوجدته الشيء الذي به أقام السماوات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار، وبرأ به البريّة، وذلك الحقّ والعدل فلزمته، ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التي بها معاش الناس والدوابّ والطير وسكّان الأرض.
«ولمّا نظرت في ذلك، وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، ووجدت أيضا أهل العمارة أجراء للمقاتلة. وأمّا المقاتلة فإنّهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكّان البلدان لمدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم. فحقّ على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم. فإنّ عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أوهنوهم، فقوى عدوّهم. فرأيت من الحقّ [204] على أهل الخراج ألّا يكون لهم من عمارتهم إلّا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم. ورأيت أن لا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن [3] والمقاتلة، فإنّى إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج، وذلك أنّه إذا فسد العامر فسد المعمور، وذاك أهل الأرض والأرض، فإنّه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم، هلكت المقاتلة الذين
__________
[1] . الكلمة غير واضحة في الأصل وخاصة في الحرف الأخير منها بحيث يمكن أن نقرأها «استم» لولا قرينة ما في مط: «استمر» .
[2] . يحتاج ... كثير الشكر: سقطت من مط.
[3] . مط: للخزان.(1/201)
قوّتهم بعمارة الأرض وأهل العمارة. فلا عمارة للأرض إلّا بفضل ما في يد أهل الخراج، فمن الإحسان إلى المقاتلة، والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم وأدع لهم فضلا في معايشهم.
فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند، وقوّتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوّتهم.
«ولقد فكّرت وميّزت ذلك جهدي وطاقتي، فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على أولئك ولا أولئك على هؤلاء، إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين [1] ، وكالرِجلين المترافدتين. ولعمري ما أعفى أهل [205] الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج، ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على الخراج والبلاد إبقاء الرجل ضيعته التي منها معيشته وحياته وقوّته. ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثارا للمقاتلة على أنفسهم.» قال:
أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن
«ولمّا فرغنا [2] من إصلاح العامّة والخاصّة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة، وكان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذي به دبّر الله العظيم خلائقه، وشكرت الله على نعمه في أداء حقّه على مواهبه، وأحكمنا أمور المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن. ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم نفعا لنا والأكبر
__________
[1] . في الأصل ومط: المتعاونين، المترادفين. فأنّثناهما.
[2] . مط: ما عرفنا.(1/202)
فالأكبر عائدة على جندنا ورعيّتنا. ونظرنا في سير آبائنا من لدن بشتاسف، إلى ملك قباذ أقرب آبائنا منّا، ثم لم نترك صلاحا في شيء إلّا أخذناه، ولا فسادا إلّا أعرضنا عنه، [206] ولم يدعنا إلى قبول ما لا خير فيه من السنن حبّ الآباء، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته.
«ولمّا فرغنا من النظر في سير آبائنا- وبدأنا بهم وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع حقّا إلّا أكثرناه، ووجدنا الحقّ أقرب القرابة- نظرنا في سير أهل الروم والهند، فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار ذلك عقولنا، وميّزناه بأحلامنا [1] ، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنّة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه، وتقدمنا إليهم فيه، غير أنّا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته ولم نحسدهم ما قبلنا، ولا مع ذلك أنفنا من تعلّم ما عندهم، فإنّ الإقرار بمعرفة الحق والعلم، والإتّباع له، من أعظم ما تزيّنت به الملوك، ومن أعظم المضرّة على الملوك الأنفة من التعلّم، والحميّة من طلب العلم، ولا يكون عالما من لا يتعلّم.
[207] «ولمّا استقصيت ما عند هاتين الأمّتين من حكمة التدبير والسياسة، وصلت [2] بين مكارم أسلافى، وما أحدثته برأيى، وأخذت به نفسي، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منّا وثبتّ على الأمر الذي نلت به الظفر والخير. ورفضت سائر الأمم، لأنّى لم
__________
[1] . جمع مفرده الحلم: العقل.
[2] . في الأصل ومط: «ووصلت» بواو العطف. فحذفنا الواو لوجود «لما» في بداية الجملة.(1/203)
أجد عندهم رأيا ولا عقولا، ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلّة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ بها نعمة.» [1]
وقرأت مع هذه السيرة في آخر هذا الكتاب، الذي كتبه أنوشروان في سيرة نفسه، أنّ أنوشروان لمّا فرغ من أمور المملكة وهذّبها، جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنسّاك والموابذة وأماثل الناس معهم، فخطبهم فقال:
خطبة أنوشروان
«أيّها الناس! أحضرونى فهمكم، وأرعونى [2] أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، [208] فانّى لم أزل واضعا سيفي على عنقي- منذ وليت عليكم- غرضا للسيوف والأسنّة، كل ذلك للمدافعة عنكم والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى المشرق، وتارة في آخر المغرب، وأخرى في ناحية الجنوب، ومثلها في جانب الشمال.
ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع في بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطينية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه [3] بعد سهولة، وأصبر على
__________
[1] . قال ابن الأثير، بعد ذكر كلمات من أنوشروان في الحكمة وإصلاح أمر الخراج: فانظر إلى هذا الكلام الذي يدلّ على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس، ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة (1: 475) .
[2] . أرعونى: أرعى فلانا سمعه: أصغى إليه واستمع لكلامه.
[3] . الحزون: جمع الحزن: ما غلظ من الأرض.(1/204)
المخمصة والمخافة، وأكابد البرد والحرّ، وأركب هول البحر وخطر المفازة، إرادة هذا الأمر الذي قد أتمّه الله لكم من الإثخان في الأعداء، والتمكين في البلاد، والسعة في المعاش ودرك العزّ، وبلاغ ما نلتم. فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتلهم. فهم بين مقتول هالك، وحىّ مطيع لكم سامع.
«وقد بقي لكم عدوّ عددهم [1] قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم [209] عظيمة، وهؤلاء الذين بقوا، أخوف عندي عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم، من الذين غلبتموهم من أعدائكم أصحاب السيوف والرماح والخيول. فإن أنتم- أيّها الناس- غلبتم عدوّكم هذا [2] الثاني غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة وتمّ لكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والنصيحة والسلامة. وإن كنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدو بكم، فإنّ الظفر الذي كان منكم على عدوّكم بالمغرب والمشرق وفي الجنوب والشمال، لم يكن ظفرا منكم. فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقي مثل الذي قتلتم من ذلك العدوّ الماضي، وليكن جدّكم في هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصحّ وأسدّ. فإنّ أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة وأشدّهم شوكة، وليس الذي كنتم تخافون من عدوّكم الذي قاتلتم، بقريب [210] من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن. فاطلبوه، وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر،
__________
[1] . عدو عددهم: بضمير الجمع.
[2] . مط: «هذا الآتي عليكم لعدوكم الذين قاتلتم» بدل «هذا الثاني غلبتكم لعدوكم الذين قاتلتم.»(1/205)
وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وحزما وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد. فإنّ ذلك اجتماع صلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة في الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه في الآخرة.
«ثم اعلموا أنّ عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم، لم يكونوا ليبلغوا منكم- إن ظهروا عليكم وغلبوكم- مثل الذي يبلغ هذا العدوّ منكم، إن غلبكم وظهر عليكم، فإنّ بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ.
«يا أيّها الناس، إنّى قد نصبت [1] لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرمح والمفاوز والبحار والسهولة [2] والجبال أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرع إليكم هذا التضرع في قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة في طلب الجدّ والاجتهاد والاحتفال [211] والاحتشاد [3] ، وإنّما فعلت هذا اليوم لعظم خطره، وشدّة شوكته ومخافة صولته بكم، وإن أنا- أيّها الناس- لم أغلب هذا العدوّ وأنفه [4] عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها. فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار [5] منكم. فأنشدكم الله- أيّها الناس- لمّا أعنتمونى عليه حتى أنفيه عنكم وأخرجه من بين أظهركم، فيتمّ بلائي عندكم، وبلاء الله فيكم عندي، وتتمّ النعمة علىّ وعليكم، والكرامة من الله لى ولكم، ويتمّ هذا العزّ [6] والنصر وهذا
__________
[1] . نصب نصبا: أعيا وتعب.
[2] . السهولة: جمع السهل.
[3] . الكلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من مط.
[4] . الكلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من مط.
[5] . مط: القريب الداني.
[6] . كذا في مط: العز، وفي الأصل غموض.(1/206)
الشرف والتمكين، وهذا الثروة والمنزلة.
«يا أيّها الناس! إنّى تفكّرت بعد فراغي من كتابي [1] هذا وما وصفت من نعمة الله علينا في الأمر الذي، لما غلب «دارا» الملوك والأمم، وقهرها واستولى على بلادها، ثم لما لم يحكم أمر هذا العدو، هلك [بسببه] [2] وهلكت جنوده، بعد السلامة والظفر والنصر والغلبة. وذلك أنّه لم يرض بالأمر الذي تمّ له به الملك، واشتدّ به له السلطان وقوى به على [212] الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتيل له بوجوه النميمة: البغي، فدعا البغي، والحسد، فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بعض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف. ثم أتاهم الإسكندر على ذلك من تفرق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء، وقوة العداوة فيما بينهم، والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذي شمل قلوب العامّة من الشرّ والضغينة، وثبت فيها من العداوة والفرقة، فكفى الإسكندر مؤنة نفسه. وقد اتّعظت بذلك اليوم فذكرته.
«يا أيّها الناس! فلا أسمعنّ في هذه النعمة تفرّقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا ولا وشاية ولا سعاية، فإنّ الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا وأكرم عنه ولايتنا. وما نلت ما نلته- بنعمة ربنا وحمده- بشيء من هذه الأمور الخبيثة التي نفتها العلماء، وعافتها الحكماء، ولكنّى نلت هذه الرتب [213] بالصحّة والسلامة، والحبّ للرعيّة، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنّما تركنا أن نأخذ عن
__________
[1] . أصبحت الخطبة كتابا بعد تدوينه.
[2] . تكملة اقتضاها السياق، فأضفناها.(1/207)
هذه الأمم التي سميناها أعنى: من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم مثل ما أخذنا عن الهند والروم، لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولم تصلح أمّة قطّ ولا ملكها على ظهور هذه الأخلاق فيها. وإنّ أول ما أنا ناف وتارك من هذه الأمور، هذه الأخلاق التي هي أعدى أعداءكم.
«أيّها الناس! إنّ فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح، غنى لنا عمّا نطلب بهذه الأخلاق المردية المشؤومة.
فاكفوني في ذلك أنفسكم فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إلىّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فامّا أنا- يا أيّها الناس- فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم، لا حاجة لى بما فيها، ولا بالذي علىّ منها، فطيبوا أنفسا بالذي طبت [214] به نفسا منكم.
«يا أيها الناس! إنّى قد أحببت أن أنفى عنكم عدوّكم الباطن والظاهر، فأمّا الظاهر منهما، فإنّا بحمد الله ونعمته، قد نفيناه وأعاننا الله عليه وخضد [1] لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم. فافعلوا في هذا العدوّ كما فعلتم في ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذي عملتم في ذلك، واحفظوا عنى ما أوصيكم به، فانّى شفيق عليكم ناصح لكم.
«أيّها الناس! من أحيى هذه الأمور فينا، فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإنّ هذه أكثر مضرّة وأشدّ شوكة وأعظم بليّة وأضر تبعة. اعلموا أنّ خيركم- يا أيّها الناس! - من
__________
[1] . خضد الشيء: كسره من غير فصل، خضد الشجر: نزع الشوك عنه.(1/208)
جمع إلى بلاءه السالف عندنا، المعونة لنا على نفسه في هذا الغابر.
واعلموا أنّ من غلبه هذا غلب عليه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك. وذلك أن بالسلامة، والألفة، والمودّة، والاجتماع، والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة [215] والسلطان، ومع التحاسد، والبغي، والنميمة، والتشتّت، يكون ذهاب العزّ وانقطاع القوّة، وهلاك الدنيا والآخرة. فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا قوّة إلّا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة وضيافة السائلة. وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل من الأمم فيكم، فإنّهم في ذمّتى. لا تجبهوهم [1] ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإنّ الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق. فإنّا لم نر سلطانا قطّ ولا أمّة هلكوا إلّا بترك هذه الأخلاق، ولا صلحوا إلّا معها. وبالله ثقتنا في الأمور كلّها.» ثم هلك أنوشروان بعد ثمان [2] وأربعين سنة من ملكه، وملك أبنه:
هرمز بن أنوشروان
[216] وكانت أمّه بنت خاقان الأكبر، وكان كثير الأدب، حسن النيّة في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، إلّا أنّه كان يحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، فعلم بذلك منهم، فكان في نفسه منهم مثل ما في أنفسهم منه.
__________
[1] . لا تجبهوهم: لا تقابلوهم بما يكرهون.
[2] . في الأصل ومط: ثمانية.(1/209)
من سيرته المرتضاة
وكان من سيرته المرتضاة: أنّه تحرّى الخير والعدل على الرعيّة، وتشدّد على العظماء المستطيلين على الضعفاء، وبلغ من عدله أنّه كان يسير إلى ال «ماه» ليصيف هناك، فأمر فنودي في مسيره ذلك في مواضع الحروث أن يتحامى، ولا يسير فيها الراكب لئلّا يضرّوا بأحد ووكّل بتعهّد ما يجرى في عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره، وتغريمه عوضا لصاحب الحرث.
وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار [1] مركب من مراكبه، ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه، فرتع فيها، وأفسد منها. فأخذ ذلك المركب، ورفع إلى الرجل الذي وكّله هرمز بمعاقبة من أفسد [217] هو أو دابّته شيئا من المحارث وتغريمه، ولم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى ابنه، ولا أحد من حشمه. فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمره أن يجدع [2] أذنيه، ويبتّر ذنبه، ويغرّم كسرى. فخرج الرجل لإنقاذ الأمر. فدسّ له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب [3] في أمره، فلقوه وكلّموه في ذلك، فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخّر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلّموه. فأمر بالكفّ عنه، ففعل. فلقى أولئك الرهط هرمز، وأعلموه أنّ بذلك [4] [المركب] [5] الذي عار، زعارة، وأنّه أخذ للوقت. وسألوه أن يأمر بالكفّ عن جدعه وتبتيره لما فيه من سوء الطيرة. فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب، فجدع أذناه وبتّر ذنبه وغرّم كسرى كما يغرّم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل.
__________
[1] . عار يعير عيرا: ذهب وجاء مترددا.
[2] . جدعه: قطع أنفه أو طرفا من أطرافه.
[3] . غبّب فلان في الأمر: لم يبالغ فيه.
[4] . مط: أنّ بتلك الدابة التي غارت غازة وأنه أخذ للوقت!
[5] . في الأصل: «الدابة» فاستبدلناها ب «المركب» مراعاة لتذكير ما يرتبط به من موصول وضمير.(1/210)
وأيضا: ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط [1] المدائن [218] وكان ممرّه على بساتين وكروم. فاظّلع [2] بعض أساورته في كرم، فرأى فيه حصرما فأصاب منها عناقيد، ودفعها إلى غلامه وقال:
- «اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحم، واتخذ منها مرقة، فانّها نافعة في هذا الإبّان.» فأتاه حافظ ذلك الكرم، فلزمه وصرخ. فبلغ اشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم، أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة [3] محلّاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأه [4] من كرمه، وافتدى بها نفسه، ورأى أنّ قبض الحافظ إيّاها منه، وتخليته عنه، منّة من بها عليه [5] .
فهذه كانت سيرة هرمز في العدل والضبط والهيبة، وكان مظفّرا منصورا لا يمدّ يده إلى شيء إلّا وأتاه، وكان مع ذلك أديبا، داهيا، إلّا عرقا قد نزعه [6] أخواله من الترك. فكان لذلك مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء.
وقيل: إنّه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل. ولم يكن [له رأى] [7] إلّا في [تألّف] [8] السفلة واستصلاحهم. وحبس خلقا من العظماء، وحطّ [219] مراتب خلق، وقصّر [9] بالأساورة، [ففسدت] [10] عليه نيات جنده من الكبراء، [واتصل] [11] ذلك بما جناه على بهرام شوبين مما سنحكيه. فكان ذلك سبب
__________
[1] . ساباط: قرية كانت قريبة من المدائن وهي- حسب معجم البلدان- ساباط كسرى، بناها الملك بلاش (ولاش) ، ولذلك قد يسمى: بلاش آباذ.
[2] . اظّلع: مال. وفي مط والطبري: اطّلع.
[3] . المنطقة والمنطق: ما يشدّ به الوسط.
[4] . رزأه ماله: أصاب منه شيئا فنقصه.
[5] . أنظر الطبري 2: 990.
[6] . نزعه عرق: أشبه أصله.
[7] . الأصل غير واضح وما أثبتناه من مط.
[8] . الأصل غير واضح، وقرأناه بصعوبة. مط: ألف السلفة! تألفه: تكلّف ألفته وداراه.
[9] . قصّر عن الأمر: تركه. قصّر في الأمر: تهاون فيه. قصّر في العطيّة: قلّلها.
[10] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه من مط.
[11] . الأصل غير واضح وما أثبتناه من مط.(1/211)
هلاكه.
ذكر سوء اختياره جنده وبهرام جوبين [1] حتى هلك
خرج على هرمز خوارج منها: «شابة [2] ملك الترك الأعظم في ثلاثمائة ألف مقاتل. وصار إلى باذغيس [3] ، وذلك بعد إحدى عشر سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وخرج عليه ملك الخزر حتى صار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق نزلوا في شاطئ الفرات، وشنّوا الغارة على أهل السواد واجترأ عليه أعداؤه، وغزوا [4] بلاده.
فأمّا شابة ملك الترك فإنّه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء الفرس يؤذنهم بإقباله ويقول:
- «رمّوا لى قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كلّ نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، فإنّى مجمع على [220] المسير إليها من بلادكم.
فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، فشاور فيه، فأجمع له على قصد ملك الترك وصرف العناية إليه. فوجّه إليه رجلا من أهل الرىّ يقال له: بهرام بن بهرام جشنس [5] ويعرف ب «جوبين» . فاختار بهرام من الجند اثنى عشر ألف رجل على عينيه من الكهول دون الشباب، وكانت عدّة من يشتمل عليه الديوان سبعين ألف
__________
[1] . بالفارسية: چوبين. وقد تكرر هذا الاسم في النص، فتارة ورد «جوبين» وأخرى «شوبين» فوحدناهما في الإثبات على الصورة الأولى: جوبين.
[2] . مط: شانه.
[3] . باذغيس، بادغيس. بالفهلوية:LVatgis:ولاية بين هراة ومرو الرود (لج) .
[4] . أنظر الطبري (2: 991) .
[5] . جشنس: معرّب گشنس، وهو مخفف گشنسب، بالفهلوية) Vushnasp ,Gushnasp:حب) .(1/212)
مقاتل.
فمضى بهرام بجدّ وإغذاذ، حتى حاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا. فجرت بينهما حروب ورسائل، إلى أن قتل بهرام شابة برمية رماها إيّاه، فاستباح عسكره، وأقام موضعه، فوافاه برموذة [1] بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه، فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجّهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة.
فيقال: إنّه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة ممّا غنمه وقر مائتين وخمسين ألف بعير في مدّة تلك الأيّام. فشكره هرمز على [221] ذلك، إلّا أنّه أراد منه أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك، وكاتبه في ذلك، فلم ير بهرام ذلك صوابا. ثم خاف بهرام سطوة هرمز، وحكى له: أنّ الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم في جنب ما وصل إليه وأنّه يقول في مجالسه:
- «بهرام قد ترفّه، واستطاب الدعة» .
وبلغ ذلك الجند، فخافوا مثل خوفه.
فيقال: إنّ بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره، فأجلسهم على مراتبهم، ثم خرج عليهم في زىّ النساء، وبيده مغزل وقطن، حتى جلس في موضعه، وحمل لكلّ واحد من أولئك القوم مغزل وقطن، فوضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه. فقال بهرام:
«إنّ كتاب الملك ورد علىّ بذلك، ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين.» فأظهروا أنفة وحميّة، وخلعوا هرمز، وأظهروا أنّ ابنه أبرويز [2] أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممّن كان بحضرة هرمز.
وأنفذ هرمز جيشا كثيفا مع آذينجشنس لمحاربة بهرام، وأشفق أبرويز من
__________
[1] . مط: رموز بن شانه.
[2] . بالفهلوية:Aparvej:المنتصر (حب) .(1/213)
الحديث وخاف سطوة [222] بهرام، فهرب إلى آذربيجان. فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة والإصفهبذين، فأعطوه بيعتهم. ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل آذينجشنس الموجّه لمحاربة بهرام جوبين، وانفضاض الجمع الذي معه، واضطراب أمر أبيه هرمز.
وكتبت إليه أخت آذينجشنس- وكانت تربه- تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أنّ العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أنّ جوبين- إن سبقه إلى المدائن- احتوى على الملك. ولمتلبث العظماء بذلك أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه [1] وبسطام خالا أبرويز. فخلعوه وسملوا عينيه وتركوه تحرّجا من قتله. فلمّا بلغ ذلك أبرويز، بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين، وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس لهم على سريره، ومنّاهم ووعدهم وقال:
- «إنّ هرمز كان لهم قاضيا عادلا، ومن نيّتنا البرّ والإحسان، فعليكم بالسمع والطاعة.» فاستبشر له الناس، ودعوا له.
فلمّا كان اليوم [223] الثاني، أتى أباه، فسجد له وقال:
- «عمّرك الله أيّها الملك، إنّك تعلم أنّى بريء مما آتاه إليك المنافقون، وإنّما هربت خوفا منك.» فصدّقه هرمز وقال له:
- «يا بنىّ! لى إليك حاجتان، فأسعفنى بهما: إحداهما أن تنتقم ممّن عاون على خلعى والسمل لعيني، ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى أن تؤنسني كلّ يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأى، وتأذن لهم في [الوصول] [2] إلىّ.»
__________
[1] . في الطبري: بندى.
[2] . الأصل غير واضح. مط والطبري: في الدخول علىّ (2: 996) .(1/214)
فتواضع له أبرويز وقال:
- «عمّرك الله أيّها الملك، إنّ المارق بهرام قد أظلّنا [1] ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى، فإنّهم وجوه أصحابك. ولكن إن أدالنى الله من المنافق، فأنا خليفتك وطوع أمرك.»
ذكر الحيلة التي تمّت لأبرويز حتّى أفلت من بهرام بعد ظفره به ورجوعه بعد ذلك وقتله إيّاه ببلاد الترك واستيلائه على الملك
إنّ أبرويز خرج إلى النهروان لما وردها بهرام، وواقفه [2] وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير [3] ، كلّ ذلك يدور على استصلاح بهرام، فلا يردّ [224] عليه بهرام إلّا ما يسوءه، حتّى يئس منه وأجمع على حربه. ولهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها: أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلثة نفر من الأتراك كانوا وثّقوا بهرام من أبرويز، وضمن لهم عليه مالا عظيما، وكان هؤلاء الثلاثة من أشدّ الأتراك وأعظمهم أجساما وشجاعة. ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا وحرّض أصحابه فتبيّن منهم فشلا. فصار إلى أبيه وشاوره، فرأى له المصير إلى ملك الروم فأحرز نساءه وشخص في عدّة يسيرة فيهم: بندويه، وبسطام، وكردى [4] أخو بهرام. لأنّ كردى هذا كان ماقتا لأخيه، معاديا له، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلمّا خرجوا، من المدائن خاف القوم من بهرام وأشفقوا أن يردّ هرمز إلى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز في ردّهم فيتلفوا. فأعلموا أبرويز ذلك واستأذنوا في إتلاف هرمز فلم يحر [5] جوابا. فانصرف بندويه وبسطام
__________
[1] . أظلنا: دنا منّا. أقبل علينا، غشينا.
[2] . واقفه في حرب أو خصومة: وقف معه.
[3] . أنظر الطبري 2: 996.
[4] . أنظر الطبري 2: 998.
[5] . أحار الجواب: ردّه.(1/215)
وطائفة معهما إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا [225] إلى كسرى وقالوا:
- «سر على خير طائر.» فحثّوا دوابّهم، وصاروا إلى الفرات، فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة، بدلالة رجل يقال له: خرشيذان [1] ، وصاروا إلى بعض الديارات في أطراف العمارة. فلمّا أوطنوا الراحة، لحقتهم خيل بهرام. فلمّا نذروا بهم، أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له:
- «احتل لنفسك، فإنّ القوم قد أظلّوك.» فقال كسرى: «ما عندي حيلة.» فقال بندويه: «فإنّى سأحتال لك بأن أبذل نفسي دونك.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: تدفع إلىّ بزّتك [2] وزينتك لأعلوا الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإنّ القوم إذا وصلوا إلىّ ورأوا هيئتك علىّ، اشتغلوا عن غيرى وطاولتهم [3] حتى تفوتهم.» ففعلوا ذلك وبادروهم حتى تواروا بالجبل. ثمّ وافاهم خيل بهرام وعليهم قائد له يقال له: بهرام بن سياوش. فاطّلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه بزّة أبرويز، وأوهمه أنّه هو، وسأله أن ينظره [4] إلى غد ليصير في [226] يده سلما، ويصير به إلى بهرام جوبين. فأمسك عنه وحفظ الدير بالحرس ليلته.
فلمّا أصبح اطّلع عليه في بزّته وحليته وقال:
- «إنّ علىّ وعلى أصحابى بقيّة شغل من استعداد لصلوات وعبادات، فأمهلنا.»
__________
[1] . مط: خرشندان.
[2] . البزة: الثياب، السلاح، الهيئة. البزّ: السلاح، الثياب من الكتّان والقطن.
[3] . طاولتهم: ما طلتهم.
[4] . أنظره: أمهله.(1/216)
ولم يزل يدافع حتّى مضى عامّة النهار. وأمعن أبرويز وعلم أنّه قد فاتهم. ففتح الباب حينئذ، وأعلم بهرام بأمره. فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يد بهرام بن سياوش.
فأمّا بهرام جوبين فإنّه دخل المدائن، وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء، فخطبهم وذمّ أبرويز، ودار بينهم كلام. فكان كلّهم منصرفا عنه إلّا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا.
ثمّ إنّ بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين وظهر [1] جوبين على ذلك فقتله، وأفلت بندويه ولحق آذريبجان. وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب ملك الروم منها [2] وراسله بجماعة ممّن كان معه، وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك [227] وانساقت الأمور بالمقادير، إلى أن زوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ب «تياذوس» [3] أخيه ومعه ستّون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له:
سرجس [4] يتولّى تدبير أمرهم، ورجل آخر يقال له: «الكمىّ» [5]- كان يعدل بألف رجل- معظّم في الروم، وسأله ترك الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم، إذا هو ملّك. فاغتبط بهم أبرويز، وأراحهم خمسة أيّام، ثم عرضهم [6] وعرّف [7] عليهم العرفاء، وفي القوم تياذوس، وسرجس، والكمىّ الذي وصفناه، وسار بهم حتى نزل من آذربيجان في صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من إصبهبذى الناحية- ويقال له: موسيل- في أربعين ألف مقاتل وانفضّ
__________
[1] . ظهر على الأمر: اطّلع عليه.
[2] . في الأصل ومط: عنها، والتصحيح من الطبري (2: 996) .
[3] . تياذوس: كذا في الطبري. (C.I.S) Theodosius 999:2
. (C.I.S) Sergius. [4]
[5] . الكمىّ: الشجاع، أو لابس السلاح لأنه يكمى نفسه أى يسترها بالدرع والبيضة.
[6] . عرض الجند: أمرّهم عليه، واحدا واحدا.
[7] . عرّف عليهم عريفا (أى سيدا، قيّما) : أقامه ليعرف فيهم من صالح أو طالح.(1/217)
إليه الناس بالخيل من إصبهان وخراسان وفارس، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكمىّ الرومي [1] بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه، فقدّ رأسه ويده، وعار [2] فرسه بنصف بدنه الباقي إلى معركة أبرويز ومعسكره، [228] فاستضحك أبرويز، وعظم ذلك على الروم حتى كثر الكلام فيه، وعوتب أبرويز، وقيل له:
- «هذا جزاؤنا منك، يقتل كميّنا وواحد عصره في طاعتك، وبين يديك، فتضحك؟» فاعتذر بأن قال:
- «إنى والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ علىّ أن فقدت مثله أكثر ممّا شقّ عليكم، ولكنّى رأيتكم تستصغرون شأن بهرام جوبين، وتنكرون هربي منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن، وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة وأثرها على هذا الكمىّ تعذروننى وتعلمون يقينا أنّ هربي إنّما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم في الأبطال.» ويقال: إنّ أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو بهرام، وبندويه وبسطام حربا شديدة وصل فيها بعضهم إلى بعض، والمجوس تحكى حكايات عظيمة لا فائدة في ذكرها مع امتناعها، وجملتها: أنّ أبرويز استظهر استظهارا أيس معه بهرام جوبين، [229] وعلم أنّه لا حيلة له فيه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرّق في الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم إلى ملك الروم.
ولبث بهرام في الترك مكرّما عند الملك، حتى احتال عليه أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز: إلى الترك بجوهر نفيس وغيره، حتى احتال لخاتون امرأة
__________
[1] . أنظر الطبري 2: 1000.
[2] . مط: عاد فرسه.(1/218)
الملك، ولاطفها بذلك الجوهر وغيره من الهدايا حتى دسّت لبهرام من قتله. فاغتمّ خاقان لموته، وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمها [1] بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسأل أن يتزوّجها وطلّق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا ليّنا، وضمّت من كان مع أخيها من المقاتلة إليها، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس فأتّبعها ملك الترك أخاه بطرا [2] في اثنى عشر ألف فارس.
فيقال: إنّ كردية قاتلت، وقتلت بطرا بيدها، ومضت لوجهها [230] ، حتى تلقّتها خيول الفرس من الحدود. وكتبت إلى أخيها كردى، فأخذ لها أمانا من أبرويز. فلمّا قدمت عليه اغتبط بها، وتزوّج بها أبرويز.
ذكر سوء سياسة اتّفق على أبرويز في جنده حتى ظهر الروم عليه
لم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم. الذي كان نصره، ويهاديه [3] ، إلى أن وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه، فقتلوه وملّكوا غيره. فبلغ ذلك أبرويز، فامتعض، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن الملك المقتول اللاجئ إليه، وتوّجه، وملّكه على الروم، ووجّه معه جنودا كثيفة مع شهر براز [4] ، فدوّخ بهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس، وأخذ خشبة الصليب، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين سنة من ملكه. ثم احتوى على مصر، والإسكندرية، وبلاد نوبة، وبعث مفاتيح مدينة الإسكندرية إلى كسرى في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وقصد قسطنطينية، فأناخ على ضفّة الخليج القريب منها، وخيّم [5] هناك. فأمر كسرى فخرّب بلاد الروم، غضبا مما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ولم يخضع لابن
__________
[1] . كذا في مط والطبري: يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه (2: 1001) .
[2] . كذا في مط: بطر. نظر، بطو.
[3] . يهاديه: يهادنه (مل) .
[4] . مط: شهريرار.I.S) Shahrvaraz.حب) .
[5] . مط: وجشم.(1/219)
ملكهم [231] المقتول أحد، ولا منحوا الطاعة، غير أنّهم قتلوا الملك الذي ملّكوه بعد أبيه المسمّى فوقا [1] لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملّكوا عليهم رجلا يقال له: هرقل [2] . فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إيّاها، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريّهم، واستباحتهم أموالهم، تضرّع إلى الله، وأكثر الدعاء والإبتهال.
فيقال: إنّه رأى في منامه رجلا ضخم الجثّة رفيع المجلس، عليه [بزّة، قائما في ناحية عنه] [3] ، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل:
- «إنى قد سلّمته في يدك.» فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثاله. فرأى بعض لياليه: كأنّ رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع عليه [4] ، ثم دفعه إليه وقال له:
- «ها قد دفعت إليك كسرى برمّته.» فلمّا تتابعت هذه الأحلام، قصّها على عظماء الروم وذوى العلم منهم، فأشاروا [232] عليه أن يغزوه. فاستعدّ هرقل، واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذي فيه شهريار صاحب كسرى، وسار حتى وغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى قد استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأمّا شهربراز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به [وترك البراح منه] [5] . ثم بلغ
__________
[1] . في الأصل والطبري: قوفا، وما أثبتناه من مط. وهو معرّب. (C.I.S) LPhocas
.Heraclius. [2]
[3] . العبارة سقطت من الأصل، فأضفناها من الطبري.
[4] . الرفيع عليه: كذا في الأصل ومط.
[5] . في الأصل ومط: «ونزل البراح» وما أثبتناه من الطبري.(1/220)
كسرى تساقط [1] هرقل في جنوده إلى نصيبين. فوجّه لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزاذ [2] ، في اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى- وهي التي تدعى الآن الموصل- على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها.
وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وأنّه مغذّ، وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك. فنفذ راهزاذ لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر، إلى الناحية التي كان فيها جند فارس. فأذكى راهزاذ [233] العيون عليه، فانصرفوا إليه، فأخبروه أنّه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاذ ومن معه من الجند، أنّهم عاجزون عن مناهضته. فكتب إلى كسرى غير مرّة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدّتهم. كل ذلك يجيبه كسرى بأنّه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقتالهم [3] وبذل دمائهم في طاعته.
فلمّا تتابعت على راهزاذ جوابات كسرى بذلك، عبّى جنده وناهض الروم بهم. فقتلت الروم راهزاذ وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيّتهم وهربوا على وجوههم. وبلغ كسرى قتل الروم راهزاذ وما نال هرقل من الظفر، فهدّه ذلك، وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصّن بها لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتّى كان قريبا من المدائن. فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعدّ لقتاله انصرف إلى أرض الروم. وكتب كسرى إلى قوّاد الجند الذين انهزموا، يأمرهم أن يدلّوه [234] على كلّ رجل منهم ومن أصحابه، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأمر بأن يعاقب بحسب ما استوجب. فأحوجهم [4] بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه. وكتب إلى شهربراز
__________
[1] . تساقط وسقط إليه القوم: نزلوا.
[2] . في الطبري: راهزار (2: 1004) .
[3] . مط: استقبالهم.
[4] . في الطبري: فأخرجهم.(1/221)
يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف له ما نال هرقل منه ومن بلاده [1] .
وقد حكى: أنّ كسرى عرف امرأة في فارس لا تلد إلّا الملوك الأبطال، فدعاها وقال:
- «إنى أريد أن أبعث إلى الروم جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيرى علىّ: أيّهم أستعمل؟» فوصفت أولادها فقالت:
- «هذا فرّخان أنفذ من سنان، وهذا شهربراز أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا.» فاستعمل شهربراز. فسار إلى الروم، فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم.
فلمّا ظهرت فارس على الروم، جلس فرّخان يشرب، فقال لأصحابه:
- «لقد رأيت كأنى جالس على سرير كسرى.» [235] فبلغت كسرى، وكتب إلى شهربراز:
- «إذا أتاك كتابي هذا، فابعث إلىّ برأس فرّخان.» فكتب إليه:
- «أيّها الملك، إنّك لن تجد مثل فرّخان، فانّ له نكاية في العدوّ وصوتا، فلا تفعل.» فكتب إليه:
- «إنّ في رجال فارس خلفا منه، فعجّل علىّ برأسه.» فراجعه، فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس:
- «إنى قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرّخان.» ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال:
__________
[1] . مظانّ نزول «آلم، غلبت الروم ... » أنظر الطبري 2: 1005.(1/222)
- «إذا ولى فرّخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه.» فلما قرأ شهر براز الكتاب قال:
- «سمعا وطاعة.» ونزل عن السرير، وجلس فرّخان، ودفع الصحيفة إليه، فقال:
- «ايتوني بشهربراز.» فقدّمه ليضرب عنقه، فقال:
- «لا تعجل، حتى أكتب وصيّتى.» قال: «افعل!» فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال:
- «كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد!» فردّ الملك على أخيه.
فكتب شهربراز إلى قيصر [236] ملك الروم:
- «إنّ لى حاجة لا تحملها البرد ولا تبلّغها الصحف. فالقنى، ولا تلقني إلّا في خمسين روميا، فإنّى [1] أيضا ألقاك في خمسين فارسيا.» فأقبل قيصر في خمسمائة رومىّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتّى أتاه عيونه أنه: ليس معه إلّا خمسون رجلا. ثمّ بسط لهما، والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا بينهما.
فقال شهربراز:
- «إنّ الذين خرّبوا مدينتك، وبلغوا منك ومن جندك [2] ما بلغوا أنا وأخى بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا، فأراد أن أقتل أخى فأبيت، ثمّ أمر أخى أن
__________
[1] . فإنّى ... فارسيا: سقطت من مط.
[2] . مط: جدك.(1/223)
يقتلني. فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله معك.» قال: «قد أصبتما ووفّقتما.» ثمّ أشار أحدهما [1] إلى صاحبه: أنّ السرّ إنّما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا.
قال صاحبه: «أجل!» فقاما جميعا إلى الترجمان بسكّينهما، فقتلاه! واتّفقا على قتال كسرى. [237]
فممّا اتفق في أيّام كسرى من الحوادث التي تستفاد منها تجربة ما كان من يوم ذى قار وحرب العرب والفرس
وكان سبب ذلك قتل النعمان بن المنذر اللخمي، قتله كسرى لأسباب نذكر جملها إن شاء الله:
كان عدىّ بن زيد العبادىّ وابنه زيد بن عدىّ سبب ولاية النعمان وسبب هلاكه جميعا.
قتل النعمان بن المنذر وأسبابه
وذلك أنّ عديّا وأخويه- وهما: عمار، وعمرو، ويعرف عمار ب «أبىّ» ، وعمرو ب «سمىّ» - كانوا في خدمة الأكاسرة [2] ، ولهم من جهتهم قطائع. وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى أبرويز بعدىّ بن زيد وأخويه، ليكونوا في كتّابه يترجمون له.
فلمّا مات المنذر بن المنذر ترك من أولاده اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب،
__________
[1] . أحدهما ... صاحبه: غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه من مط.
[2] . في الطبري: ... وكان عدىّ من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز (2: 1016) .(1/224)
سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى:
فبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ... يمشون غدوة كالسيوف [1]
فجعل المنذر ابنه النعمان في حجر [2] عدىّ، وجعل ابنه الأسود في حجر رجل [238] يقال له: عدىّ بن أوس بن مرينا. وبنو مرينا قوم لهم شرف وهم من لخم، وبنو المنذر الباقون، وهم عشرة، مستقلّون بأنفسهم.
وكان المنذر جعل على أمره كلّه، إياس بن قبيصة الطائي، فكان في مكانه أشهرا يدبّر أمر العرب كلّه. وطلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عدىّ بن زيد فقال له:
- «من بقي من بنى المنذر، وما هم، وهل فيهم خير؟» فقال: «بقيتهم من ولد هذا الميت- يعنى المنذر بن المنذر- وهم رجال نجباء.» فكتب إليهم، فقدموا عليه، فأنزلهم على عدىّ بن زيد. فكان عدىّ يفضّل اخوة النعمان عليه في النزل [3] ، ويريهم أنّه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم:
- «إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلّا النعمان.» وقال للنعمان:
- «إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم فإنّى عن غيره أعجز.» وكان عدىّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا. فكان يوصى الأسود بن المنذر ويقول له:
__________
[1] . في الطبري: بالسيوف (2: 1017) .
[2] . في حجره: في كنفه وحمايته.
[3] . مط: المنزل.(1/225)
- «قد عرفت [239] أنّى لك راج، وأنّ طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عدىّ بن زيد في ما يشير به عليك، فإنّه والله لا ينصح لك أبدا.» فلم يلتفت الأسود إلى قوله. فلمّا أمر كسرى عدىّ بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا فيكلّمه. فكان الملك كسرى يرى رجالا قلّ ما رأى مثلهم. فإذا سألهم:
- «هل تكفوننى ما كنتم [1] تلون؟» قالوا: «نكفيك العرب إلّا النعمان.» فلمّا دخل النعمان عليه، رأى رجلا دميما [2] قصيرا أحمر، فكلّمه، وقال:
- «أتستطيع أن تكفيني العرب؟» قال: «نعم.» قال: «وكيف تصنع بإخوتك؟» قال: «أيّها الملك، إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز.» فملّكه، وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم فيه اللؤلؤ، والذهب. فلمّا خرج وهو ملك على العرب، قال عدىّ بن أوس بن مرينا للأسود:
- «دونك، فإنّك خالفت الرأى.» ثم إنّ عدىّ بن زيد صنع طعاما في بيعة، وأرسل إلى ابن مرينا أن: ائتنى مع من أحببت، فإنّ لى حاجة. فأتاه في ناس، فتغدّوا في البيعة غداءهم المعدّ، وشربوا. [240] فقال عدىّ بن زيد لعدىّ بن أوس:
- «يا عدىّ! إنّ أحقّ من عرف الحقّ ثمّ لم يلم عليه، من كان مثلك. إنّى عرفت أنّ صاحبك الأسود بن المنذر كان أحبّ إليك من أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد علىّ شيئا لو قدرت
__________
[1] . مط: ما كنت تكون!
[2] . مط: ذميما، والدميم: قبيح الوجه.(1/226)
عليه ركبته، وأحبّ أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإنّ نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك.» فقام عدىّ بن زيد إلى البيعة، فحلف ألّا يهجوه، ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوى عنه خيرا. فلمّا فرغ عدىّ بن زيد، قام ابن مرينا فحلف على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه [1] أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي.
وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة كما ذكرت.
حيلة لعدىّ بن أوس على عدىّ بن زيد
فقال عدىّ بن مرينا للأسود:
- «وإذا لم تظفر [2] ، فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّى الذي عمل بك ما عمل. فقد كنت أخبرك أنّ معدّا لا ينام مكرها، وأمرت أن تخالفه فعصيتني.» قال: «فما تريد؟» قال: «أريد أن لا [241] تأتيك فائدة من مائك وأرضك إلّا عرضتها علىّ.» ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال واسع الضيعة. فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه إلى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثر عند النعمان هدايا ابن مرينا صار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضى في ملكه شيئا إلّا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عدىّ بن زيد عنده أحسن ابن مرينا الثناء عليه، وذكر فضله وقال:
- «إنّه لا يصلح المعدىّ إلّا أن يكون فيه مكر وخديعة.» فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده، لزموه وتابعوه [3] ، فجعل
__________
[1] . في الأصل ومط: «ألّا يزال يهجوه» ، في الطبري: ألّا يهجوه (2: 1019) .
[2] . غير واضح في الأصل، وما أثبتناه يؤيده ما في مط والطبري: (2: 1019) .
[3] . مط: وبايعوه.(1/227)
يقول لمن يثق به من أصحابه:
- «إذا رأيتمونى أذكر عدىّ بن زيد عند الملك بخير، فقولوا: إنّه لكما يقول، ولكنّه لا يسلم عليه أحد، وإنّه يقول: إنّ الملك- يعنى النعمان- إنّما هو عامله، وإنّه هو الذي ولّاه ما ولّاه.» ولم يزالوا بهذا وأشباهه، حتى أضغنوه عليه. ثمّ إنّهم كتبوا كتابا عن عدىّ إلى قهرمان [1] كان له، ودسّوا له حتّى أخذ الكتاب، وأتى به النعمان، فقرأه وأغضبه.
[242] فأرسل إلى عدىّ بن زيد:
- «عزمت عليك إلّا زرتنى، فإنّى قد اشتقت إليك.» وهو عند كسرى.
فاستأذن كسرى، فأذن له. فلمّا أتاه، لم ينظر إليه، حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. فجعل عدىّ بن زيد يقول الشعر، ويبلغه النعمان، وكان أوّل ما قاله في السجن:
ليت شعري عن الهمام ويأتي ... ك بخبر الأنباء عطف السّؤال [2]
وقال أشعارا كثيرة [3] ، وكان كلما قال عدىّ من الشعر شيئا بلغ النعمان وسمعه، فندم على حبسه إيّاه، وعلم أنّه كيد فيه. فكان يرسل إليه، ويعده ويمنّيه، ويفرق [4] أن يرسله [5] فيبغيه الغوائل. فلمّا طال سجن عدىّ وأعياه التضرّع إلى النعمان بالأشعار التي يستعطفه فيها مرّة ويخبره فيها بما كيد به مرّة، ومرّة يذكّره
__________
[1] . القهرمان: أمين الملك ووكيله الخاص بتدبير دخله وخرجه.
[2] . تجد البيت عند الطبري 2: 1020، وفي أيّام العرب: 15.
[3] . أنظر الطبري 2: 1019، وأيام العرب: 14.
[4] . يفرق: يخاف، يفزع.
[5] . يرسله: يطلقه من السجن.(1/228)
بالموت، ويخبره بهلاك من هلك قبله، كتب إلى أخيه أبىّ وهو مع كسرى:
أبلّغ [1] أبيّا على نأيه ... فهل ينفع المرء ما قد علم [243]
بأنّ أخاك شقيق الفؤا ... د كنت به واثقا [2] ما سلم
لدى ملك موثق في الحدي ... د إمّا بحقّ وإمّا ظلم
فلا أعرفنك كذات الغلا ... م [3] ما [4] لم تجد عارما [5] تعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم
فكتب إليه أخوه:
إن يكن خانك الزّمان فلا عا ... جز قوم ولا ألفّ [6] ضعيف
ويمين الإله لو أنّ جأوا [7] ... ء طحونا [8] تضيء فيها السيوف
ذات رزّ [9] مجتابة غمرة المو ... ت صحيح سربالها [10] مكفوف [11]
__________
[1] . في الأصل والنصوص المختلفة وكذلك في أيّام العرب: «أبلغ» وما في مط: «أبلّغ» بتشديد اللّام من باب التفعيل. فالهمزة إذن للنداء بتقدير المنادى، أى: «أصاحبي بلّغ» من باب «يا ترى» أى: «يا رجل هل ترى» وهذا أوفق للوزن.
[2] . الطبري: والها.
[3] . ذات الغلام: الأمّ المرضع.
[4] . مط والأصل: «إذا لم تجد» وما أثبتناه من الطبري.
[5] . العارم: الراضع، يقال: اعترمت المرأة: تبغت من يعرمها أو يمصّ ثديها، والمراد: إن لم تجد من ترضعه درّت هي فحلبت ثديها. قال ابن الأعرابى: يقال هذا لمن يتكلّف ما ليس من شأنه.
[6] . الألفّ: البطيء الثقيل.
[7] . الجأواء: الكتيبة التي يعلو لونها السواد لكثرة الدروع.
[8] . الطحون: التي تطحن ما لقيت.
[9] . الرزّ: الصوت.
[10] . السربال: القميص.
[11] . المكفوف: الثوب الذي خطّت حاشيته، ولعلّه يريد أنّها كتيبة سالمة.(1/229)
كنت في حميها لجئتك أسعى ... فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف [1]
إن تفتني والله ألف جزوعا ... لا يعفّيك ما يصوت الخريف
فلعمرى لئن جزعت عليه ... لجزوع على الصّديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائى ... لقليل شرواك [2] في ما أطوف
كسرى يكتب في إرسال عدىّ وعدىّ يقتل
ويقال: إنّ عديّا لما كاتب أبيّا، قام أبىّ، فدخل على كسرى، فكلّمه، فكتب له وبعث معه رجلا، وأذن له في المسير لاستنقاذ أخيه. فكتب خليفة النعمان المقيم بباب الملك إليه أنّه: قد كتب إليك في أمر عدىّ. فأتاه أعداء [244] عدىّ من غسّان، فأشاروا على النعمان بقتل عدىّ.
وقالوا: «افرغ منه الساعة.» فأبى عليهم، وجاء الرجل، وكان تقدّم أخو عدىّ إليه فرشاه، وأمره أن يبدأ بعدىّ. فدخل عليه وهو محبوس وكان قال له:
- «ابدأ بالدخول إليه في الحبس فانظر ما يأمرك به.» فلمّا دخل الرسول على عدىّ قال له:
- «إنّى قد جئتك بإرسالك [3] فما عندك؟» قال: «عندي الذي تحبّ.» ووعده، وسأله ألّا يخرج من عنده، وقال:
- «أعطنى الكتاب حتى أرسل به أنا، فإنّك إن خرجت من عندي، قتلت.» فقال الرسول: «لا أستطيع إلّا أن آتى النعمان بالكتاب فأوصله بنفسي إليه.»
__________
[1] . تستضيف: تستجير.
[2] . شرواك: مثلك. شرح الأبيات من أيّام العرب: 17.
[3] . بإرسالك: بإطلاقك.(1/230)
فانطلق مخبر [1] ، فأتى النعمان، فقال:
- «إنّ رسول كسرى قد دخل على عدىّ وهو ذاهب به، وإن فعل لم يستبق [2] منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك.» فبعث إليه النعمان بأعدائه، فغمّوه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب.
فقال: «نعم وكرامة وسمعا وطاعة.» وبعث إلى الرسول بأربعة آلاف مثقال [245] ذهبا، وجارية، وقال له:
- «إذا أصبحت فادخل عليه وأخرجه أنت بنفسك.» فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس:
- «إنّه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك النعمان فرقا منه، لعلمنا بكراهيته لذلك.» فرجع الرسول إلى النعمان فقال:
- «إنّى كنت بدأت به، فدخلت إليه وهو حىّ.» فقال النعمان: «يبعثك الملك إلىّ فتدخل إليه قبلي! كذبت ولكنّك أردت الرشوة والخبث.» وتهدّده. ثمّ إنه استدعاه بعد ذلك، وزاده جائزة وكسوة، وأكرمه واستوثق منه أن لا يخبر الملك، إلّا أنّه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال:
- «إنه مات قبل أن أدخل عليه.»
__________
[1] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه من الطبري. مط: بخبر.
[2] . مط: لم يسبق أحد.(1/231)
زيد بن عدىّ يخلف أباه عند كسرى
وندم النعمان على قتل عدىّ ندامة شديدة، واجترأ أعداء عدىّ على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقى ابنا لعدىّ يقال له: زيد. فلمّا رآه عرف شبهه، فقال:
- «من أنت؟» فقال: «أنا زيد بن عدىّ بن زيد.» فكلّمه، فإذا [246] غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقرّبه، واعتذر إليه من أمر أبيه، ثمّ جهّزه وكتب إلى كسرى:
«إنّ عديّا كان ممّن أعين به الملك في نصحه ولبّه، فأصابه ما لا بدّ منه وانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي، وأمّا الملك فلم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا لما عظم الله من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه وقد سرّحته إلى الملك. فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل.» فكان هو الذي يلي ما يكتب إلى أرض العرب وخاصّة الملك، وكانت له من العرب وظيفة في كلّ سنة من الأفراس المهارة [1] ، ومن الكمأة الرطبة واليابسة، والأقط [2] ، والأدم، وسائر تجارات العرب. وكذلك كان عدىّ بن زيد له هذه الرسوم.
فلمّا وقع عند الملك هذا الموقع سأل عن النعمان، فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى وكان يكثر الدخول إليه.
__________
[1] . المهارة: جمع المهر: ولد الفرس.
[2] . الأقط: الجبن.(1/232)
فرصة انتهزها زيد
فلمّا كان بعض [247] دخلاته على كسرى جرى حديث النساء [1] ، وطلب الملك امرأة لها صفات ونعوت مكتوبة عند الملوك. وكان من رسم الملوك أن يطلب لهم جارية تجمع تلك النعوت في ممالكهم، فكتبت تلك الصفة. فدخل زيد على كسرى فكلّمه في ما دخل فيه، ثم قال:
- «إنّى رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وأنا خبير بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة.» قال: «فكتب فيهنّ.» فقال: «أيّها الملك، إنّ شرّ شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرّمون- زعموا في أنفسهم- عن العجم. فأنا أكره أن يغيّبهنّ، وإن قدمت أنا عليه على معرفتي، لم يقدر على تغييبهنّ، فابعثني وابعث معى رجلا يفقه العربية.» فبعث معه رجلا جلدا حصيفا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلمّا دخل عليه، أعظم الملك وقال:
- «إنّه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك [248] وبعث إليك.
فقال: «وما هؤلاء النسوة؟» فقال: «هذه صفتهنّ قد جئنا بها.»
صفة جارية أهداها المنذر الأكبر إلى أنوشروان
وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها لمّا
__________
[1] . أنظر الطبري 2: 1025.(1/233)
أغار على الحارث الأكبر الغسانىّ ابن أبى شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له:
«هي معتدلة الخلق، نقيّة اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء [1] ، دعجاء [2] حوراء [3] ، عيناء [4] ، قنواء [5] ، شمّاء [6] ، زجّاء [7] ، برجاء [8] ، أسيلة الخدّ [9] [شهيّة المقبّل] [10] جثلة [11] الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء [12] ، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة [13] المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة [14] البنان، لطيفة طىّ البطن، خميصة [15] الخصر، غرثى [16] الوشاح، رداح [17] القبل، رابية الكفل، مفعمة الساق، لفّاء [18] الفخذين، ريّا [19] الروادف، ضخمة المأكمتين [20] ، عظيمة الركبة، مشبعة [21] الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف [22] المشي، مكسال [23]
__________
[1] . الوطفاء: غزيرة الأهداب وشعر الحاجبين.
[2] . الدعج: شدّة سواد العين، وشدّة بياض بياضها.
[3] . الحور: اسوداد العين كلها مثل الظباء.
[4] . العيناء: هي المرأة التي عظم سواد عينها في سعة مشهودة.
[5] . القناء: ارتفاع في أعلى الأنف، واحد يدأب في وسطه، وسبوغ في أعلاه.
[6] . الشمم: ارتفاع القصبة في الأنف.
[7] . الزجّاء: دقيقة الحاجبين في طول.
[8] . البرجاء: جميلة العين. والتي بياض عينها محدق بالسواد كله.
[9] . الخد الأسيل: اللين الأملس الطويل المسترسل.
[10] . زيادة من الطبري وابن الأثير.
[11] . الجثل من الشعر: الكثيف الأسود.
[12] . العيطاء: الطويلة العنق.
[13] . المشاشة: رأس العظم الممكن المضغ.
[14] . سبطة البنان: الكريمة.
[15] . خميصة الخصر: من خصرها ضامر دقيق.
[16] . الغرثى: الجوعى، وغرثى الوشاح: دقيقة الخصر.
[17] . الرداح: العجزاء الثقيلة الأوراك التامة الخلق، والقبل: ما استقبلك من مشرف.
[18] . اللفّاء: مكتنزة الفخذين.
[19] . ريّا الروادف: من كثر لحم أرادفها.
[20] . المأكمتان: اللحمتان اللتان على رؤوس الوركين. [وفي ابن الأثير: المنكبين] .
[21] . مشبعة الخلخال: كناية عن السمن.
[22] . قطوف المشي: تقارب الخطو.
[23] . المكسال: المرأة التي لا تكاد تبرح مجلسها وهو مدح عندهم!(1/234)
الضحى، بضّة [1] المتجرّد، شموع [2] للسيّد، ليست بخنساء [3] ولا سعفاء [4] ذليلة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حييّة، وزينة، حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون [249] جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب في الأدب، فرأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة اللسان [5] ، رهوة [6] الصوت، تزين البيت وتشين العدوّ، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها وتبادرك الوثبة» .
فقبلها أنوشروان، وأمر بإثبات هذه الصفة في ديوانه، فلم يزالوا يتوارثونها حتّى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز.
فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشقّ عليه، فقال لزيد وللرسول:
- «أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم!» فقال الرسول لزيد: «ما العين؟» فقال: «البقر.» فقال زيد للنعمان: «إنّما أراد كرامتك، ولو علم أنّه يشقّ عليك لم يكتب به إليك.» فأنزلهما يومين، ثمّ كتب إلى كسرى:
__________
[1] . البضّة: الناعمة.
[2] . الشموع: المزّاحة الضحوك اللعوب.
[3] . الخنس: قريب من الفطس.
[4] . السعفاء: السوداء.
[5] . ليست سليطة.
[6] . رهوة الصوت: رقيقة الصوت. (جلّ هذه الشروح منقولة عن أيّام العرب) .(1/235)
- «إنّ الذي طلب الملك ليس عندي.» وقال لزيد:
- «اعذرنى عنده.» فلما رجعا إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه:
- أصدق الملك، الذي سمعت منه، فإنّى سأحدّثه بحديثك، ولا أخالفك فيه.» فلمّا دخلا [250] على كسرى قال زيد: «هذا كتابه.» فقرأه عليه.
فقال كسرى: «فأين ما كنت خبّرتنى به؟» فقال: «قد كنت أخبرتك بضنّهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم:
اختيارهم الجوع والعرى على الشبع والرياش، واختيارهم السّموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنّهم ليسمّونها السجن، فسل هذا الرسول معى عن الذي قال، فإنّى أكره أن أحكى للملك قوله أو أردّ عليه ألفاظه.» فقال للرسول: «ما قال؟» قال: «انّه قال- أيّها الملك-: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟» فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنّه قال:
- «ربّ عبد قد قال هذا، فصار أمره إلى التباب.»
كسرى يدعو النعمان وهو يحمل السلاح
وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعدّ ويتوقّع حتّى أتاه كتابه أن:
- «أقبل، فإنّ للملك إليك حاجة.» فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه، ثمّ لحق بجبلي طيّء، وكانت عنده فرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم [251] وقد ولدت له رجلا وكانت(1/236)
عنده أيضا زينب بنت أوس بن حارثة. فأراد النعمان طيّئا على أن يدخلوه ويمنعوه، فأبوا ذلك وقالوا:
- «لولا صهرك لقاتلناك، فإنّه لا حاجة لنا في معاداة كسرى.» فأقبل ليس أحد من الناس يقبله، حتى نزل بذي قار، في بنى شيبان سرّا، فلقى هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وكان سيّدا منيعا، وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلّة. فكره النعمان لذلك أن يدفع إليه أهله، وعلم أنّ هانئا مانعه ممّا يمنع منه نفسه، فأودعه سلاحه، وتوجّه بنفسه إلى كسرى، فلقى زيد بن عدىّ على قنطرة ساباط.
فقال: «انج نعيم!» فقال: «أنت يا زيد فعلت هذا، أما والله لئن انفلتّ لأفعلنّ بك ولأصنعنّ.» فقال له زيد: «امض نعيم! فقد- والله- وضعت لك عنده آخيّة [1] لا يقلعها المهر [2] الأرن [3] .
فلما بلغ كسرى أنه بالباب، بعث إليه، فقيّده، وأنفذه إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون، فمات فيه، والناس يظنّون أنّه [252] مات بساباط، لبيت [4] قاله الأعشى. والصحيح ما قلناه.
إياس وما أدّى إلى يوم ذى قار
وأمر كسرى إياس بن قبيصة الطائي أن يضمّ ما كان النعمان ينظر فيه، ويجمع ماله ويبعث به إليه. فبعث إياس إلى هانئ أن:
__________
[1] . الآخية: عروة تثبت في الأرض أو الحائط لربط الدابة بها. الحرمة والذمة.
[2] . المهر: أول ما ينتج من الخيل والحمر الأهلية وغيرها.
[3] . الأرن: النشط. يقال: شددت له آخية لا يحلّها المهر الأرن.
[4] . والبيت كما في الطبري (2: 1028) :
فذاك وما أنجى من الموت ربّه بساباط، حتّى مات وهو محرزق(1/237)
- «أرسل ما استودعك النعمان من السلاح وغيره.» وكان ثمانمائة درع. فأبى هانئ أن يسلّم خفارته.
فلمّا منعها هانئ غضب كسرى، وأظهر أنّه يستأصل بكر بن وائل وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي- وهو يحبّ هلاك بكر بن وائل- فقال لكسرى:
- «يا خير الملوك، أدلّك على غرّة بكر بن وائل؟» قال: «نعم.» قال: «أمهلها حتّى تقيظ [1] ، فإنّهم يجتمعون إلى مآلهم يقال له: ذو قار، فيتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فتأخذهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم.» فترجم له، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل، فنزلت حنو ذى قار، وهو على ليلة من ذى قار [2] . فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة أن: اختاروا واحدا من ثلاث خصال. فنزل النعمان على هانئ وقال:
«أنا رسول الملك إليكم، أخيّركم في ثلاث [253] خصال: إمّا أن تعطوا بأيديكم فيحكم الملك فيكم بما شاء، وإمّا أن تدعوا الديار، وإمّا أن تأذنوا بحرب.» فتآمروا، فولّوا أمورهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى، وكانوا يتيمّنون به، فقال:
- «لا أرى إلّا القتال، لأنّكم إن أعطيتم بأيديكم، قتلتم، وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقّاكم تميم فتهلككم، فآذنوا الملك بحرب.» فبعث الملك كسرى إلى إياس، وإلى الهامرز [3] التستري، وكان مسلحه [4]
__________
[1] . قاظ اليوم: اشتدّ حره. قاظ القوم بالمكان: أقاموا به أيام الحرّ.
[2] . ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة (مع) .
.Hamerz. [3]
[4] . المسلح، والمسلحة: كلّ موضع مخافة يقف فيه الجند بالسلاح للمراقبة والمحافظة. القوم المسلّحون(1/238)
بالقطقطانية [1] وإلى جلابزين [2] وكان مسلحه ببارق. وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذى الجدّين- وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان [3]- أن يوافوا إياسا، فإذا اجتمعوا، فإياس على الناس. وجاءت الفرس ومعها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي- صلّى الله عليه وسلّم-.
فقال- عليه السلام-:
- «اليوم انتصفت العرب من العجم [4] .» فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة.
رأى جيّد رآه قيس بن مسعود لهانئ [254]
لمّا دنت جيوش الفرس بمن معهم انسلّ قيس بن مسعود ليلا، فأتى هانئا فقال:
- «أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لنفوسهم وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردّوه عليك.» ففعل، وقسم الدروع والسلاح في ذوى القوى والجلد من قومه، فلمّا دنا الجمع من بكر بن وائل، قال لهم هانئ:
- «يا معشر بكر، إنّه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة.» فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيّار. فقال:
__________
[ () ] في ثغر، أو مخفر للمحافظة. ترجمة لكلمة «زينستان» الفارسية المركبة من «زين» (بالفهلوية:
(Zenأى السلاح، و «ستان» أى المكان (حب) .
[1] . القطقطانية: موضع قرب الكوفة (مع) .
[2] . ما في الأصل ومط غير واضح وما أثبتناه يوافق الطبري (2: 1030) .
[3] . طفّ سفوان: ماء على قدر مرحلة من المربد بالبصرة به ماء كثير (مع) .
[4] . أنظر الطبري (2: 1031) ، والعقد (5: 262) .(1/239)
- «إنّما أراد نجاتنا، فلم يزد على أن ألقانا في الهلكة.» فردّ الناس، وقطع وضن الهوادج لئلّا تستطيع بكر أن تسوق نساءها إن هربوا [1] ، فسمّى: «مقطّع الوضن [2] .» فضرب حنظلة على نفسه قبّة ببطحاء ذى قار، وآلى: لا يفرّ حتى تفرّ القبّة.
فمضى من مضى من الناس ورجع أكثرهم، واستقرى [3] ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، ولم تقم لمحاصرتهم فهربت إلى الجبابات [4] فتبعتهم [5] بكر وعجل أوائل بكر، [255] فتقدّمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمّت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل. ثمّ حملت بكر، فوجدت عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة تقول:
إن يظفروا يجوّزوا [6] فينا الغرل [7] ... إيها [8] فداء لكم بنى عجل
وتقول أيضا:
إن تهزموا نعانق ... ونفرش النّمارق [9]
__________
[1] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه يؤيده مط والطبري.
[2] . في الطبري (2: 1031) : الوضن: حزم الرحال. ويقال: مقطّع البطن. والبطن: حزم الأقتاب.
[3] . مط: واستقى. في الطبري: واستقوا.
[4] . الجبابات: موضع قريب من ذى قار كان بها يوم العرب (مع) .
[5] . مط والطبري: وتبعتهم.
[6] . في الطبري: يحرّزوا.
[7] . الغرل: جمع غرلة: جلدة الصبى التي تقطع في الختان.
[8] . إيها: اسم فعل معناه: لا تحدّث. وقد ترد بمعنى التصديق والرضا بالشيء. إيه: اسم فعل معناه الاستزادة من حديث أو عمل. أو الإسكات والكفّ بمعنى: حسبك.
[9] . النمارق: جمع النمرقة، وهي الوسادة الصغيرة، أو الطنفسة فوق الرحل.(1/240)
أو تهربوا نفارق ... فراق غير وامق [1]
فقاتلوهم بالجبابات يوما، فعطش العجم، فمالوا إلى بطحاء ذى قار.
فأرسلت إياد إلى بكر سرّا- وكانوا مع إياس عونا على بكر-:
- «أىّ الأمرين أعجب إليكم: أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم، ونفرّ حين تتلاقون؟» قالوا: «بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم.» فصبّحتهم بكر بن وائل والظعن [2] واقفة يذمرن [3] الرجال على القتل. فقال يزيد بن حمار السكوني وكان حليفا لبنى شيبان:
- «يا بنى شيبان، أطيعونى واكمنوا [4] لهم كمينا.» ففعلوا، فكمنوا في مكان من ذى قار يسمّى إلى اليوم «الخبء [5] .» فاجتلدوا على [6] ميمنة إياس بن قبيصة وفيها [7] الهامرز، وعلى ميسرته وفيها [8] الجلابزين [256] ، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيبانى، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى وحنظلة يرتجز ويقول:
قد شاع أشياعكم فجدّوا ... ما علّتى وأنا شيخ جلد [9]
__________
[1] . الوامق: المحبّ.
[2] . الظعن: جمع الظعينة: الراحلة، الهودج، الزوجة!
[3] . ذمر: حضّ على الأمر.
[4] . الأصل ومط والطبري: «واكمنونى لهم» فحذفنا «نى» وفقا لابن الأثير (1: 490) .
[5] . في الطبري: الجبّ، الحب. مط: حب. وفي الأصول: الخبئ.
[6] . في الطبري: وعلى.
[7] . فيها: سقطت من الطبري.
[8] . فيها: أيضا سقطت من الطبري.
[9] . في الطبري: مؤد. أى: ذو أداة من السلاح تامة، أى: لا عذر لى.(1/241)
والقوس فيها وتر عردّ [1] ... مثل ذراع البكر أو أشدّ
ثمّ صيّروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة. فمال إلى مارية ابنته وهي أمّ عشرة نفر، فقطع وضينها، فوقعت على الأرض، وقطع وضن النساء، فوقعن على الأرض.
ونادت بنت القرين الشيبانيّة حين وقعت النساء إلى الأرض:
ويها بنى شيبان صفّا بعد صفّ ... إن تهزموا يصبّغوا [2] فينا القلف [3]
فقطع سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من قبل مناكبهم، لتخفّ أيديهم بالضرب، فجالدوهم، ونادى الهامرز لمّا رأى جدّ القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت:
- «مرد ومرد!» فقال برد بن حارثة اليشكري: «ما يقول؟» قال: «يدعو إلى البراز ويقول: رجل ورجل.» فقال: «وأبيكم لقد أنصف.» [257] وبرز له برد، فلم يلبث برد أن تمكّن من الهامرز فقتله، ونادى حنظلة بن ثعلبة:
- «يا قوم، لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشّاب.»
__________
[1] . عردّ: صلب شديد.
[2] . مط: «يصنعوا» وقد زالت نقطتا الياء. ما في الأصل: «يضيّعوا» وقد يكون له معنى!. وما أثبتناه من الطبري (2: 1033) ، وابن الأثير (1: 490) .
[3] . القلف: جمع القلفة: الجلدة التي يقطعها الخاتن من ذكر الصبى. وقوله: يصبّغوا فينا القلف، أى: إن هزمتم افتضّوا أبكارنا.(1/242)
فحملت ميسرة بكر- وعليها حنظلة- على ميمنة الجيش، وقد قتل الهامرز رئيسهم، قتله برد، وحملت ميمنة بكر- وعليها يزيد بن مسهر- على ميسرة الجيش، وعليهم الجلابزين، وخرج الكمين من خبء ذى قار من ورائهم [وعليهم] [1] يزيد بن حمار، فشدّوا على قلب الجيش، وفيهم إياس بن قبيصة وولّت إياد منهزمة كما وعدتهم. وانهزمت الفرس واتّبعوهم يسعون، لم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتّى تعارفوا «بأدم» - موضع قريب من ذى قار- فوجد ثلاثون فارسا، من عجل ومن سائر بكر ستون فارسا وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة، وذلّت الفرس بعد ذلك، وذلّ أمرهم.
ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم
كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة أصحابه في جيش جرّار إلى بلاد الروم [258] فنكا فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدرب في آثارهم فعظم أمره وخافه أبرويز. فكاتبه بكتابين أمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنّه لما تدبّر أمره وأجال الرأى، لم يجد من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل، إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له:
- «أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم، فإن خفّ لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة، فاسكت عليه أيّاما، ثمّ أعلمه أنّ الكتاب الثاني ورد عليك، وأوصله إليه ليقيم بموضعه.» فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب إليه، فلمّا قرأه قال:
__________
[1] . في الأصل ومط: «من ورائهم الجلابزين» فحذفنا «الجلابزين» وأثبتنا مكانها «وعليهم» كما في الطبري.(1/243)
- «إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لى وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في بحر العدوّ.» فدعا الأصحاب وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام، أوصل الكتاب الثاني بالمقام، وأوهمه أنّ رسولا [259] ورد به، فلمّا قرأه قال: «هذا تخليط.» ولم يقع منه موقعا، ودسّ إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما، على أن يخلّى الطريق لملك الروم، حتّى يدخل بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما تغلّب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس.
فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحّى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتّى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسياء [1] ، وكسرى غير معدّ، وجنده متفرّقون في أعماله. فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال:
- «هذا وقت حيلة لا وقت شدّة.» وجعل ينكت في الأرض مليّا. ثمّ دعا برقّ، وكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه:
- «قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم، وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتّى إذا تولّج في بلادنا أخذته من أمامه وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تمّ في هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك [260] في الإيقاع به يوم كذا!» ثمّ دعا راهبا كان في دير بجانب مدينته وقال له:
- «أىّ جار كنت لك؟»
__________
[1] . في الأصل: قرقيسا. وقرقيسياء: بلد على الخابور عند مصبّه، وهي على الفرات، جانب منها على الخابور، وجانب آخر فوق رحبة مالك بن طوق (مع. (C.I.S) Circesium ((1/244)
قال: «أفضل جار.» قال: «قد بدت لنا إليك حاجة.» قال الراهب: «الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك.» قال كسرى: «تحمل لى كتابا إلى فلان صاحبي؟» قال: «نعم.» قال كسرى: «فإنّك تجتاز بأصحابك النصارى، فأخفه.» قال: «نعم.» فلمّا ولّى عنه الراهب قال له كسرى:
- «أعلمت ما في الكتاب؟» قال: «لا.» قال: «فلا تحمله حتّى تعلم ما فيه.» فلمّا قرأه أدخله في جيبه ثمّ مضى.
فلمّا صار في عسكر الروم ونظر إلى الصلبان والقسيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلبه لهم وأشفق ممّا خاف أن يقع بهم. وقال في نفسه:
- «أنا شرّ الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق.» فصاح: «أنا لم يحمّلنى كسرى رسالة ولا معى كتاب.» فأخذوه ووجدوا الكتاب معه.
وقد كان كسرى وجّه رسولا قبل ذلك اختصر الطريق حتّى مرّ بعسكر الروم وكأنّه رسول إلى كسرى [261] من صاحبه الذي طابق [1] ملك الروم ومعه كتاب
__________
[1] . طابق: وافق، عاون.(1/245)
فيه:
«إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلّى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه، وآخذه أنا من خلفه وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامى وقت خروجه إليه.» فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال:
- «قد عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن [1] على كسرى.» ووافاه أبرويز في من أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا، فاتّبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم، فأحبّ أن يجلّى نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبّر، فخرج خلف الروم الهاربين، فلم يسلم منهم إلّا القليل [2] .
ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله
كان سبب هلاك أبرويز وقتله تجبّره، واحتقاره العظماء، وعتوّه. وذاك أنّه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم. [262] وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وإفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر، والآلات والأوانى ما يليق بذلك. وأمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وسائر أبواب المال سنة ثماني عشرة من ملكه. فرفع إليه: أنّ الذي اجتبى في تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب ستمائة ألف ألف [000 بن 000 بن 600] درهم. وأمر فحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسبون، من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن
__________
[1] . أدهن: أظهر خلاف ما أضمر، أو خدع وغشّ. أدهن عليه: أبقى. أدهن فلانا: داراه ولاينه.
[2] . إنّ ما ذكره مسكويه تحت عنوان «حيلة لأبرويز» لم نعثر على ذكر له عند كلّ من الطبري، والمسعودي، والدينوري، والثعالبي، وابن الأثير.(1/246)
فيروز اثنتا عشرة ألف [000 بن 12] بدرة في أنواع من الجواهر والكسىّ وغير ذلك. فعتا واستهان بالناس والأحرار.
وبلغ من جرأته أنّه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاصّة يقال له:
زاذانفروخ، أن يقتل كلّ مقيّد في سجن من سجونه. فأحصوا، فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا. فلم يقدم زاذانفروخ على قتلهم، وتقدّم بالتوقّف عمّا أمر به كسرى وأعدّ عللا له في ما أمر [263] به فيهم.
فكان هذا أحد ما كسب به كسرى عداوة أهل مملكته.
والثاني: احتقاره إيّاهم واستخفافه بعظمائهم.
والثالث: أنّه سلّط علجا [1] يقال له «الفرّخان زاذ» عليهم، حتّى استخرج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما، فسلّطه على الناس.
والرابع: إجماعه على قتل الفلّ [2] الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل.
فمضى قوم من العظماء إلى عقر بابل وفيه شيرى [3] بن أبرويز مع إخوته بها، وقد وكّل بهم مؤدّبون وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخلوا مدينة بهرسير ليلا. فخلّى عمّن كان في سجونها وأخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا عملوا بأمر كسرى بقتلهم. فنادوا:
- «قباذ شاهنشاه» ، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس من قصر أبرويز، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره يدعى: «باغ الهندوان» فارّا [4] .
فأخذ وحبس خارجا [264] عن دار المملكة في دار رجل يقال له: مارسفند [5] .
__________
[1] . العلج: الجافّ الشديد.
[2] . الفلّ: المنهزم. (للواحد والجمع) .
[3] . شيرى شيرويه، واسمه قباذ (الطبري 2: 1043، 1045) قباذ الثاني. (LC.I.S)
[4] . مط: هاربا.
[5] . مط: ماراسفند.(1/247)
إلى ان قتل، بعد حديث طويل [1] ومراسلات بينه وبين شيرى بمواطأة العظماء، وبعد تقريع كثير وتوبيخ على ما كان منه في أشياء عدّدوها عليه. فأجاب عن الكلّ بجوابات مقنعة صحيحة لم نذكرها لخروجها عما بنينا عليه غرض هذا الكتاب.
وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة، ولمضىّ اثنين وثلاثين سنة وخمسة عشر يوما من ملكه، هاجر النبي- صلى الله عليه- من مكّة إلى المدينة.
وخلّف في بيت المال يوم قتل من الورق أربعمائة ألف [000 بن 400] بدرة، سوى الكنوز والذخائر والجواهر وآلات الملك، وفي تلك الكنوز «كنزباذ آورد» [2] .
ثمّ ملك شيرويه بن أبرويز.
ذكر عاقبة شيرويه بن أبرويز
قتل شيرويه أباه، وقتل سبعة عشر أخا له ذوى آداب وشجاعة، [265] بمشورة وزرائه، فابتلى بالأسقام، وانتقض عليه بدنه، فلم يلتذّ بشيء من لذّات الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا، وكان يبكى إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وكان الطاعون فشا في أيّامه، فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر.
__________
[1] . أنظر الطبري 2: 1044.
[2] . گنج ى واذ آورد، گنج باد آورد. (LC.I.S) وگنج باد آورد [أى كنز أتت به الريح] اسم للحن من ألحان باربد. قيل: إنّ الموسيقار باربد (LBarbad) لحّنه بعد أن أتى أبرويز بذلك الكنز (فم) .(1/248)
ثم ملك أردشير بن شيرويه
وكان طفلا، وقيل: إنّه كان ابن سبع سنين، لأنّه لم يوجد غيره من أهل بيت المملكة، وحضنه رجل يقال له: مهاذر جشنس [1] ، فأحسن سياسة الملك فبلغ من إحكامه ذلك أنه: لم يحسّ بحداثة أردشير سوى أنّه غلط في أمر شهربراز المقيم بثغر الروم.
ذكر غلطه في ذلك واستهانته بأمره حتى كان سبب هلاكه
كان شهربراز في جند ضمّهم إليه كسرى، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمّهما ويستشيرانه. فلمّا لم يشاوره عظماء [266] الفرس في تمليك أردشير، ولم يكاتبه أيضا مهاذرجشنس، تعنّت الفرس، وتبغّى عليهم، وبسط يده، وجعله سببا للطّمع في الملك، واستطال، واحتقر أردشير لحداثة سنّه، ودعا الناس إلى التشاور في الملك. ثمّ أقبل بجنده وقد عمد مهاذرجشنس، فحصّن سور مدينة طيسبون وأبوابها، وحوّل أردشير ومن بقي من نسل الملوك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من مال وخزائن وكراع، إلى مدينة طيسبون.
فلما ورد شهربراز أناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها، ونصب المجانيق عليها، فلم يصل إليها. فلمّا رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلا يقال له: نيوخسرو [2] ، ورجلا كان اصبهبذ نيمروزكان [3] ، حتى فتحا له باب المدينة، فدخلها، وأخذ جماعة من الرؤساء،
__________
[1] . وجاء في الطبري: كانت مرتبته رئاسة أصحاب المائدة (2: 1062) .
[2] . الأصل مهمل النقط. في الطبري: نيوخسرو. كان رئيس حرس أردشير (2: 1062) .
[3] . في الأصل: نيمروذكان، بالذال المعجمة. في الطبري: نامدار جشنس بن آذرجشنس اصبهبذ نيمروز(1/249)
فقتلهم، واستصفى أموالهم، وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة وستة أشهر.
[267]
ثم ملك شهربراز
ولم يكن من أهل بيت المملكة ودعا نفسه ملكا، ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنّه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بالطّست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ في وجهه ما ستره، فتبّرز في الطّست! ثم امتعض رجل يقال له «بسفرّوخ [1] » وأخوين له، من قتل شهربراز أردشير بن شيرويه، وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع، والبيض، والترسة، والسيوف، وبأيديهم الرماح، فإذا حاذاهم الملك وضع كل رجل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثمّ وضع جبهته عليه كهيئة السجود. وإنّ شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام، فوقف له بسفرّوخ، ثم طعنه أخواه، فسقط عن دابته، [268] فشدّوا في رجله حبلا وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم قوم من العظماء وقتلوا عدّة عاونوا في الفتك بأردشير، وملّكوا بوران بنت كسرى. وكان جميع ما ملك شهربراز أربعين يوما.
وملكت بوران بنت كسرى أبرويز
فأحسنت السيرة، وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت إلى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هي عليه
__________
[ () ] (نفس الصفحة) .
[1] . في الطبري: فسفرّوخ بن ماه خرشيدان. (LC.I.S) PusFarrukh (1063:2)(1/250)
من الإحسان، وأنّها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر، وتطفأ النوائر، ولكنّ ذلك كلّه بالله عزّ وجلّ، وحسن النيّة، واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. [269]
ثم ملك بعدها رجل يقال له: جشنسبنده [1]
وكان ملكه أقلّ من شهر، ولم يظهر له أثر تستفاد منه تجربة.
ثم ملكت آزرمى دخت ابنة كسرى أبرويز
كانت آزرمى دخت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ «فرّخ هرمز» إصهبذ خراسان، وأرسل إليها: يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت إليه:
- «إنّ التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أنّ إربك فيما ذهبت إليه، قضاء حاجتك منّى، فصر إلىّ ليلة كذا وكذا.» ففعل [فرّخ هرمز] [2] ، وركب إليها في تلك الليلة، وتقدّمت آزرمى دخت إلى صاحب حرسها أن يترصّده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها، حتّى يقتله. فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمر به فجرّ برجله، وطرح في رحبة دار المملكة. فلمّا أصبح الناس ورأوه، علموا أنّه لم يقتل إلّا لعظيمة. فأمرت بجثّته فغيّبت.
وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا عظيم البأس قويّا في نفسه وهو [270] رستم صاحب القادسية الذي تولّى قتال العرب من قبل يزدجرد في ما بعد، وسنحكى
__________
[1] . في الطبري: جشنسده (2: 1064) ، وابن الأثير: خشنشبنده (1: 449) ، والصحيح: جشنسبنده، معرّب گشنسب بندك.GusnaspBandak وجاء في بعض الأصول: جشنسفنده.
[2] . في الأصل: «خره هرمز» وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط.(1/251)
خبره هناك. فلمّا بلغه ما صنع بأبيه، أقبل في جند عظيم، حتى نزلوا المدائن، وسمل عيني آزرمى دخت، وقتلها، وكان ملكها ستة أشهر. واختلف [1] فيمن ملك بعد آزرمى دخت، فقيل: أتى برجل من عقب أردشير بن بابك، كان ينزل الأهواز يقال له:
كسرى بن مهرجشنس
فلبس التاج وقتل بعد أيّام. ويقال: بل كان رجلا يسكن ميسان [2] يقال له:
فيروز
فلملّكوه كرها، وكان ضخم الرأس. فلما توّج قال:
- «ما أضيق هذا التاج!» فتطيّر العظماء من افتتاح كلامه بالضيق، وقتلوه. [3] ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان لجأ إلى موضع من المغرب قريب من نصيبين يقال له: «حصن الحجارة» حين قتل شيرويه بن كسرى، يقال له:
فرّخ باذخسرو [4]
فانقاد له الناس طوعا زمنا يسيرا، ثم استعصوا عليه وخالفوه [271] وكان
__________
[1] . أنظر الطبري (2: 1065) .
[2] . كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط قصبتها ميسان (مع) .
[3] . وقتلوه بعد أن ملك أياما (الطبري 2: 1067) .
[4] . يذكر هذا الإسم هنا في ثلاثة مواضع. ففي مط: فرخ باذ خسرو، فرخ زاد خسرو، خره داد خسرو، في الطبري (2: 1066) : فرخ زاد خسروا (في المواضع الثلاثة) . وأما عند البيروني وحسب الجداول الأربعة: فرخ زاد خسرو، خرّه زاد خسرو، خره داذ خسرو، فرخزاد خسرو (ص 112- 128) - وأما في الأصل فكما يراه القارئ. لأننا آثرنا إثباتها كما هي مع العلم بأنّ الصحيح هو أحد هذه الأشكال.(1/252)
ملكه ستة أشهر، وكان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز بإصطخر، قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته، فلمّا بلغ عظماء إصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا فرّخ زادخسرو، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى: «بيت نار أردشير» ، فتوّجوه هناك وملّكوه وكان حدثا. ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا «خرّه داد خسرو» بحيل احتالوها له وساغ الملك ليزدجرد.
ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز
فملك يزدجرد. غير أنّ ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال وكالحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبّرون ملكه لحداثة سنّه، وكان أشدّهم نباهة في وزرائه [1] وأذكاهم رئيس الخول [2] . وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كلّ وجوه، وتطرّفوا [3] بلاده، وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضى من ملكه ثلاث أو أربع سنين، [272] وكان عمره كلّه إلى أن قتل بمرو عشرين سنة.
وله أحاديث وسير، سنذكرها بعد فراغنا من الأحوال التي تمّت من جهة الرأى والتدبير في أيام النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم- والخلفاء من بعده، إلى أن يتصل بذكر يزدجرد، وما كان منه [4] .
__________
[1] . في الأصل: «وزارته» وما أثبتناه من مط والطبري.
[2] . الخول: عطية الله من النعم، والعبيد، والإماء، وغيرهم من الأتباع والحشم.
[3] . في الطبري أيضا: تطرّفوا. مط: تطرّقوا.
[4] . أنظر الطبري 2: 1067.(1/253)
عصر النبىّ - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين(1/255)
ممّا جرى في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تدابيره البشرية في غزوة الخندق
فممّا جرى في غزوات رسول الله- صلّى الله عليه- من التدابير البشرية والحيل الإنسانية [1] ما كان منه- عليه السلام- في غزوة الخندق. وذلك أنّ النبي- صلى الله عليه- لمّا أجلى اليهود من بنى النضير عن ديارهم، اجتمع رؤساؤهم، وفيهم سلام بن أبى الحقيق وحيىّ بن أخطب وغيرهما، فقدموا مكّة، ودعوهم إلى حرب رسول الله- صلّى الله عليه- وحزّبوا الأحزاب التي ذكرها الله تعالى وطمعوا في استيصال النبىّ- صلّى الله عليه- فنشطت قريش لذلك، وتذكّروا أحقادهم ببدر، فخرجوا وقائدهم أبو سفيان بن حرب. وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن [273] بن حذيفة بن بدر، وبنو فزارة [2] وغيرهم من الأحزاب.
فأشار سلمان على رسول الله- صلّى الله عليه- لمّا رآه يهمّ بالمقام بالمدينة، ويدبّر [3] أن يتركهم [4] حتّى يردوا، ثمّ يحاربهم على المدينة وفي طرقها، أن
__________
[1] . فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: «شيء تحبّ أن نصنعه، أم شيء أمرك الله به، أم شيء تصنعه لنا؟» قال: «بل [أصنعه] لكم، والله ما أصنع ذلك إلّا أنّى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ... » (الطبري 3: 1474، ابن الأثير 2: 181) .
[2] . مط: بنو قراوة.
[3] . مط: بدو!
[4] . مط: بتركهم!(1/257)
يخندق. ففعل ذلك، ووردت قريش بعددها وعدّتها، ووردت الأحزاب، وكثر الناس والأعداء على رسول الله- صلى الله عليه- وكان قد وادع بنى قريظة وهم أصحاب حصون بالمدينة، وصاحب عقدهم وعهدهم كعب بن أسد القرظىّ.
احتيال حيىّ بن أخطب لكعب بن أسد
فاحتال حيىّ بن أخطب لكعب بن أسد، حتى وصل إلى حصنه، فأغلق كعب دونه باب الحصن، وقال:
- «بيني وبين محمّد عقد، ولن أنقض ما بيني وبينه.» قال: «افتح الباب أكلّمك.» فقال: «ما أنا بفاعل.» فقال: «والله إن أغلقت دوني الباب إلّا على جشيشتك [1] أن آكل معك منها.» فأحفظ [2] الرجل حتى فتح له. فقال:
- «ويحك يا كعب! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنختهم بالمدينة.
وجئتك [274] بغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني ألّا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.» فتأبّى كعب، ولم يزل به، يفتله [3] في الذروة والغارب، حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا أن يكون معه. ونقض كعب ما بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه- وبرئ مما كان عليه له [4] .
__________
[1] . الجشيشة: طعام مطبوخ من الحنطة المطحونة طحنا جليلا، بلحم أو تمر.
[2] . أحفظه: أغضبه.
[3] . مط: يقبله! قوله: «لم يزل به يفتله في الذروة والغارب» أى ما زال يخادعه ويتلطّفه حتى أجابه. وأصله أن الرجل إذا أراد تأليف البعير الصعب يمرّ يده عليه ويمسح غاربه ويفتل وبره حتى يستأنس ويوضع فيه الزمام (أيام العرب: 60) .
[4] . مط: عليه وله.(1/258)
فلما صحّ عند رسول الله- صلى الله عليه- ذلك، ضاق ذرعا وخشي أن يفتّ ذلك في أعضاد المسلمين. فعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ونجم النفاق من المؤمنين، وكثر الخوض. [1]
ما كان من نعيم بن مسعود من تخذيل وخداع
وأقام رسول الله- صلى الله عليه- وأصحابه في ما وصف الله من الخوف والشدّة، لتظاهر الأعداء عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى أتاه نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف [2] بن ثعلبة الغطفاني مسلما، فقال:
- «يا رسول الله، إنّى قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامى، فأمرنى بما شئت، أنته إليه.» فقال رسول الله [275]- صلى الله عليه-:
- «إنّما أنت رجل واحد فينا، وإنّما غناؤك [3] أن تخذّل [4] عنّا ما استطعت، وعليك بالخداع، فإنّ الحرب خدعة.» فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بنى قريظة وكان نديما لهم، فقال:
- «يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم.» قالوا: «صدقت، لست عندنا بمتّهم.» فقال لهم:
- «إنّ قريشا وغطفان ومن التفّ معهم، جاءوا لحرب محمد، فإن ظاهرتموهم
__________
[1] . الخوض: التفاوض في الحديث.
[2] . مط: أسف.
[3] . غناؤك: نفعك وكفايتك.
[4] . مط: تخدل. تخذّل عنّا: أى تدخل بينهم حتى يخذل بعضهم بعضا.(1/259)
عليه، فليسوا [كهيئتكم] [1] ، وذاك أنّ البلد بلدكم، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحوّلوا إلى غيره. فأمّا قريش وغطفان فإنّ أموالهم وأبناءهم ونساءهم ببلاد غير بلادكم، فإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل، والرجل [2] ببلادكم لا طاقة لكم به إن [3] خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه [4] .» قالوا: «لقد أشرت علينا [276] برأى ونصح.» ثمّ خرج حتى أتى قريشا. فقال لأبى سفيان بن حرب ومن معه:
- يا معشر قريش! قد عرفتم ودّى إيّاكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت حقّا علىّ أن أبلغكم، نصحا لكم، فاكتموا علىّ.» قالوا: «نفعل.» قال: «اعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما صنعنا [5] ، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين:
من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم وكبرائهم ونعطيكم [6] فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك [7] على من بقي منهم. فإن بعثت إليك [8] يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.» فوقع ذلك من القوم.
__________
[1] . مط: كهيئاتهم، وفي بعض الأصول: فليسوا مثلكم. ابن الأثير (2: 183) : ليسوا كأنتم. في الأصل:
«كهيئتهم» وصححناها كما في الطبري 3: 148.
[2] . والرجل: غير موجود في مط.
[3] . في الأصل: وإن. والواو ليست لا في مط ولا في الطبري.
[4] . مط: تناجزوه. المناجزة: المنازلة والمقاتلة.
[5] . وفي الأصل: «ما صنعوا» وما أثبتناه من مط.
[6] . مط: ونعطيك إياهم.
[7] . مط: معكم.
[8] . مط: تبعث إليكم.(1/260)
وخرج حتّى أتى غطفان. فقال:
- «يا معشر غطفان! أنتم أصلى وعشيرتي، وأحبّ الناس إلىّ، ولا أراكم تتّهمونى.» قالوا: «صدقت.» قال: «فاكتموا علىّ.» قالوا: «نفعل.» ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذّرهم مثل ما حذّرهم.
اتّفاق جيّد
فكان من الاتّفاق الجيّد [277] أن أرسل بعد ذلك أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل في نفر من قريش وغطفان. فقال لهم:
- «إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر [1] ، فاغدوا [2] للقتال حتّى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه.» فأرسلوا إليه:
- «إنّ اليوم السبت- وكان اتّفق ذلك- وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ومع ذلك فلسنا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتّى نناجز محمدا، فإنّا نخشى- إن ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال- أن تشمّروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد.» فلمّا رجعت الرسل بالذي قالت بنو [3] قريظة، قالت قريش وغطفان:
- «والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ.» فأرسلوا إلى بن قريظة:
- «إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا. فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.»
__________
[1] . الخفّ والحافر: الإبل والخيل (لع) .
[2] . في الأصل: «فأعدّوا» في مط والطبري: فاغدوا.
[3] . «بنو» : سقطت من الأصل ومط.(1/261)
فقالت بنو قريظة [1] حين أدّت إليهم الرسل:
- «إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود [278] لحقّ. ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا.
فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا [2] إلى بلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل.» فأرسلوا إلى القوم:
- «إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا.» وتخاذل القوم. واتّهم بعضهم بعضا، وذلك في زمن شات [3] وليال باردة كثيرة الرياح تطرح [4] أبنيتهم، وتكفأ [5] قدورهم. وضاق ذرع القوم وبلغ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اختلاف القوم وما هم فيه من الجهد. فدعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. فذهب حذيفة بن اليمان، حتّى دخل في القوم. قال حذيفة: فذهبت فرأيت من الرياح أمرا هائلا لا يقرّ لهم نارا ولا بناء.
فقام أبو سفيان ابن حرب، فقال:
- «يا معشر قريش، لينظر امرؤ جليسه.» قال: فبادرت وأخذت بيد الرجل الذي إلى جانبي، فقلت: «من أنت؟» قال:
«أنا فلان بن فلان.» ثم قال أبو سفيان:
- «إنكم يا قوم ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع [6] والخفّ، وأخلفتنا [279] بنو قريظة، وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من الجهد والشدّة وهذه الريح ما
__________
[1] . وفي الأصل: «بنو قريظ» وما أثبتناه يوافق مط.
[2] . مط: تشمّروا.
[3] . شتا اليوم، أو الشتاء: اشتدّ برده.
[4] . مط: طرح.
[5] . تكفأ: تقلب.
[6] . الكراع: الخيل.(1/262)
ترون. فارتحلوا، فإنّى مرتحل.» ثم قام إلى جمله، وقام الناس معه. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانصرفوا إلى بلادهم، وتفرّق ذلك الجمع من غير قتال، إلّا ما كان من عدّة يسيرة اتّفقوا على الهجوم على الخندق، يحكى أن فيهم عمرو بن عبد ودّ، فقتلوا. أما عمرو فقتله علىّ بن أبى طالب مبارزة لما اقتحم [1] عليه الخندق. وانتقض ذلك الجمع والتدبير كلّه.
ومن ذلك ما كان يوم حنين وفيه ذكر لدريد بن الصّمّة وبعض آرائه
ومن ذلك أنّه لما افتتح رسول الله- صلى الله عليه- مكّة، وأقام خمسة عشر يوما، جاءت هوازن وثقيف لمحاربته، فنزلوا بحنين. وذاك أنّهم كانوا قبل ذلك قد جمعوا له حين سمعوا بمخرجه من المدينة، وظنّوا أنه يريدهم. فلمّا قصد مكّة أقبلوا عامدين إليه، ومعهم الأموال والنساء والصبيان، ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف. وأقبلت معهم ثقيف، ونصر [2] ، وجشم. [280] ولم يشهد معهم من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمّة [وهو] [3] شيخ كبير، لا شيء فيه إلّا أنّهم يتيمّنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته بها.
فلما نزل بأوطاس، اجتمع الناس إلى رئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمّة يقاد به وهو في شجار له. فقال:
- «بأىّ واد أنتم؟» قالوا: «بأوطاس.»
__________
[1] . كذا في مط: «اقتحم عليه الخندق» . (أنظر: الطبري 3: 1475) .
[2] . مط: مضر!
[3] . ما بين [] تطلّبه السياق فزدناه.(1/263)
قال: «نعم، مجال الخيل، لا حزن [1] ضرس، ولا سهل دهس [2] . ما لي أسمع رغاء [3] البعير، ونهاق الحمير، ويعار [4] الشاء، وبكاء الصغير؟» فقالوا له: «ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم.» فقال: «أين مالك؟» فدعى له، فقال:
- «يا مالك، إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟» قال: «سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم.» قال: «ولم؟» قال: «أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وولده وماله، ليقاتل عنهم.» قال: فأنقض [5] به. ثم قال:
- «راعى ضأن [281] والله. ويحك! هل يردّ المنهرم شيء؟ إنّها إن كانت لك، لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟» قالوا: «لم يشهدها منهم أحد.» قال: «غاب الجدّ والحدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب.
فمن شهدها منكم؟»
__________
[1] . الحزن من الأرض ما غلظ وخشن. والضرس منها ما فيه الحجارة كأنها أضراس.
[2] . الدهس والدهس: المكان اللين ليس برمل ولا تراب ولا طين (لع) .
[3] . الرغاء: صوت الإبل.
[4] . وفي مط والأصل: النعار، وهو تصحيف وما أثبتناه هو من سائر الأصول، اليعار: صوت الغنم أو المعزى وقيل: الشديد من أصوات الشاء (لع) ، والنعار: التصويت بالخيشوم.
[5] . فأنقض به: زجره، من الانقاض، وهو أن تلصق لسانك بالحنك الأعلى، ثم تصوت في حافتيه من غير أن ترفع طرفه عن موضعه.(1/264)
قالوا: «عمرو بن عامر، وعوف بن عامر.» قال: « [ذانك] [1] الجذعان من بنى عامر لا ينفعان ولا يضرّان. يا مالك إنّك لن تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم [2] ، ثمّ الق هؤلاء الصبّاء [3] على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك قد أحرزت أهلك ومالك.» قال: [والله لا أفعل ذلك، إنّك قد كبرت وكبر علمك] [4] ، والله لتطيعنّى يا معشر هوازن، أو لأتّكئنّ على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري» .
وكره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأى.
فقال دريد: «هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.»
يا ليتني فيها جذع [282] ... أخبّ فيها وأضع [5]
أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع [6]
وكان دريد رئيس قومه بنى جشم وسيّدهم وأوسطهم مع شجاعته ودربته وتجاربه، ولكن السنّ أدركته حتى فنى.
ثم قال مالك للناس:
__________
[1] . في النص وفي مط: «ذلك» وهو خطأ. وما أثبتناه من الطبري.
[2] . مط: وعلياء قريهم.
[3] . الصبّاء: جمع الصابئ. يريد المسلمين، كانوا يسمونهم بهذا الاسم لأنهم عندهم صبئوا عن دينهم، أى خرجوا من دين الجاهلية إلى الإسلام (العقد الفريد 1: 133- الحاشية) .
[4] . تكملة من الطبري والعقد.
[5] . الجذع: الشاب، أخبّ: أعدو، أضع: أسرع في سيرى.
[6] . الوطفاء: الطويلة الشعر، والزمع: الشعر الذي فوق مربط قيد الدابة، يريد فرسا صفتها هكذا، والشاة (هنا) : الوعل، والصدع من الأوعال والظباء والحمر: الفتى الشاب القوى (العقد 1: 133- الحاشية) .(1/265)
- «إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون [1] سيوفكم، وشدّوا شدّة رجل واحد عليهم.» فلمّا استقبل خيل رسول الله، صلّى الله عليه- وكان يومئذ اثنى عشر ألفا، منهم عشرة آلاف فتحوا مكة، وألفان ممن أسلم وانضاف إليهم بوادي حنين- انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف، إنّما ينحدرون [2] فيه انحدارا، وذلك في عماية [3] من الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي [4] ، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وتهيّئوا وأعدّوا. فما راع خيل رسول الله- عليه السلام- وهم منحطّون، إلّا الكتائب، قد شدّت عليهم، فانشمروا [5] لا يلوى أحد على أحد.
وانحاز رسول الله- صلى الله عليه- ذات اليمين وصاح:
- «أيّها الناس، أين؟ هلمّوا إلىّ، أنا رسول الله، [283] أنا محمد بن عبد الله.» وبقي مع النبىّ- صلى الله عليه- نفر من أهل بيته، فيهم علىّ بن أبى طالب، والعباس، وابنه الفضل، وجماعة من المهاجرين [6] .
فقال رسول الله- صلى الله عليه- للعباس:
- «اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة [7] .» فأجابوه من كل ناحية وحملوا على الناس فكانت إيّاها. [8] وقتل علىّ بن أبى طالب- عليه السلام- صاحب الراية، وقتل خيل مالك بن عوف كلّ مقتلة، وغنم المسلمون تلك الأموال، وسبوا النساء والأولاد، وقتل دريد. وكان عدّة السبي يومئذ من هوازن ستّة آلاف من النساء والأولاد.
فلمّا قدمت وفود هوازن على النبىّ- عليه السلام- مسلمين، أعتق لهم
__________
[1] . الجفون: جمع الجفن والجفن، أى: الغمد.
[2] . مط: انحدورا.
[3] . في عماية من الصبح: في ظلام منه.
[4] . مط: واد.
[5] . انشمر: مرّ جادّا ومضى: هرب.
[6] . وفي بعض الأصول: والأنصار.
[7] . مط: الشجرة. والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية.
[8] . الضمير في «كانت» يرجع إلى «الحملة» المفهومة من «حملوا» أى كانت هي هي، وانتهى كلّ شيء (أنظر اللسان، «إيّا» ) .(1/266)
أبناءهم ونساءهم كلّهم، في حديث طويل.
ومن ذلك ما كان بعد ظهور العنسىّ الكذّاب
ومن ذلك: أنّه لما ظهر الأسود العنسي الكذّاب متنبّئا باليمن وحضرموت وصنعاء، حاربه شهر بن باذام [1] ، وكان رسول الله- صلى الله عليه- استخلفه بعد أبيه باذام على الأبناء [2] وعلى بعض أعمال [284] أبيه. فهزمه الأسود، وفرّق الأبناء عنه، وظفر به بعد، فقتله وغلب على صنعاء، وهرب عمّال رسول الله- صلى الله عليه- وجعل أمر الأسود الكذّاب يعلو ويستطير استطارة الحريق.
وكان جعل عمرو بن معديكرب خليفته في مذحج بعد أن ارتدّ عمرو، وجعل أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي ودادويه، وكان شهر قد تزوّج بنت عمّ فيروز، وكانت جميلة، فلمّا قتل شهر تزوّج بها الأسود.
فأنفذ رسول الله- صلى الله عليه- إلى فيروز، وإلى جشنس، وغيره من الأبناء يأمرهم بالقيام على دينهم، وأن ينهضوا في الحرب والعمل في الأسود، إما غيلة وإمّا مصادمة. فألقى كتاب [3] رسول الله- صلى الله عليه- إلى أصحابه، تغيّر [4]
__________
[1] . مط: بالخام! وباذام (باذان) كان عامل كسرى على اليمن وأسلم في السنة العاشرة من الهجرة.
[2] . الأبناء: أبناء فارس، أو أبناء اليمن، اسم أطلق على أخلاف جنود الفرس الذين بعثهم أنوشروان إلى اليمن، ليدفعوا الأحباش من الساحل الجنوبي للجزيرة العربية، ثم أقاموا في اليمن بأمر من أنوشروان.
[3] . غير واضح في الأصل وفي مط أيضا.
[4] . مط: «بغير» ! وفي الطبري: قال عبيد الله عن جشيش بن الديلمي (كذا) قال: قدم علينا وبر بن يحنّس بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا فيه بالقيام على ديننا والنهوض في الحرب والعمل في الأسود إمّا غيلة وإمّا مصادمة، وأن نبلغ عنه من رأينا أن عنده نجدة ودينا. فعملنا في ذلك، فرأينا أمرا كثيفا ورأيناه قد تغيّر لقيس بن عبد يغوث وكان على جنده، فقلنا: يخاف على دمه، فهو لأوّل دعوة، وأنبأناه الشأن وأبلغناه عن النبىّ - صلى الله عليه وسلم - فكأنما وقعنا عليه من السماء وكان في غمّ وضيق، فأجابنا إلى ما أحببنا..» (الطبري 4: 1856) .(1/267)
الأسود لقيس بن عبد يغوث.
فقال أصحاب [1] رسول الله- عليه السلام-:
- «إنّ قيسا يخاف على دمه، وهو لأوّل دعوة، فهلمّ ندعوه [2] .» فاجتمعوا لذلك [285] ثم دعوه، وأبثّوه أمرهم، وأبلغوه عن النبىّ- صلّى الله عليه- وكأنّما وقعوا عليه من السماء، لأنّه كان في غمّ وضيق بأمره، فأجابهم إلى ما أحبّوا.
ثمّ إنّ عامر بن شهر بن باذام [3] اعترض [4] في قوم منهم: ذو مرّان، وذو الكلاع، وذو ظليم. فكاتبوا أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- وبذلوا لهم النصر.
وكان النبىّ- صلى الله عليه- قد كاتبهم، فكان أصحاب النبىّ في سرّ قد اتّفقوا عليه، فأجابوا القوم بالتوقّف. وذاك أنّ الأمر كان استتبّ للأسود واستفحل، فهابوه هيبة شديدة.
ثمّ إنّه دخل جشنس الديلمي على آزاذ- وهي امرأة الأسود التي خلف عليها شهر بن باذام- فقال:
- «يا ابنة عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك. قتل زوجك وطأطأ [5] في قومك القتل، وسفك بالإباحة [6] دماء من بقي منهم، وفضح النساء، فهل عندك
__________
[1] . مط: «فقال رسول الله» بدون «أصحاب» .
[2] . والكلمة مهملة في كلتا النسختين وقرأناها حسب السياق.
[3] . مط: «بالخام» وهو خطأ.
[4] . وفي الطبري: ... إذ جاءنا اعتراض ذى زود، وذى الكلاع، وذى ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر ...
(4: 1857) .
[5] . طأطأ في قتلهم: بالغ فيه.
[6] . مط: بالاجابة!(1/268)
ممالأة [1] عليه؟» فقالت: «وعلى أىّ أمره؟» قال جشنس: فقلت: «إخراجه.» فقالت: «أو قتله؟» قلت: [286] «أو قتله.» قالت: «نعم. والله، ما خلق الله شخصا أبغض إلىّ منه، ما ينتهى عن حرمة لله [2] . فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر.» قال جشنس:
فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظرانى، وإذا قيس قد دعاه الأسود، فدخل إليه في عشرة من مذحج وهمدان.
فقال له الأسود: «يا قيس! ألم أفعل بك، ألم أصنع؟» يعتدّ عليه بنعمته.
فقال: «بلى.» قال: «فإنّه يقول- يعنى الشيطان الذي معه-:
- «إنّ قيسا على الغدر بك، إيه، يا سوءة، يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا.» حتى ظنّ أنه قاتله. فقال:
- «كذبك وذى الخمار، فإمّا قتلتني، فإنّها موتة مريحة أهون علىّ من موتات أموت بها كلّ يوم، خوفا وفرقا، وإمّا صدّقتنى. فوالله لأنت أهيب وأجلّ في نفسي، من أن أحدّثها بغدر لك.» فرقّ له، وأخرجه.
__________
[1] . الممالأة: المعاونة والمساعدة.
[2] . في الطبري: ما يقوم لله على حقّ، ولا ينتهى له عن حرمة (4: 1858) .(1/269)
قال:
فخرج قيس علينا وطوانا، غير أنّه قال: [287]- «اعملوا عملكم.» ثمّ خرج الأسود علينا، فقمنا مثولا بين يديه بالباب، فقال:
- «يا فيروز، أحقّ ما بلغني عنك؟ - وهيّأ له الحربة- لقد هممت أن أنحرك.» فقال فيروز:
- «اخترتنا أيّها الملك لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، ولو لم تكن نبيّا ما بعنا نصيبك ونصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة وأولى، لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك، فإنّا بحيث تحبّ.» ثمّ ذبح الأسود مائة من بين بقرة وبعير غير محبّسة ولا معقّلة، بحربته، وقال لفيروز:
- «اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هاهنا.» قال فيروز [1] :
ففعلت هذا ولحقته قبل أن يصل إلى داره، فإذا رجل يسعى إليه بى، فأستمع له وهو يقول:
- «أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علىّ.» ثمّ التفت فإذا هو بفيروز، فقال:
- «مه؟»
__________
[1] . وفي الطبري مكان «قال فيروز» إلى «بعزيمتنا» : «فاجتمع إلىّ أهل صنعاء، وجعلت آمر للرهط بالجزور، ولأهل البيت بالبقرة، ولأهل النخلة بعدّة، حتى أخذ كلّ ناحية بقسطهم. فلحق به قبل أن يصل إلى داره وهو واقف على رجل يسعى إليه بفيروز. فاستمع له، واستمع له فيروز وهو يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه فاغد علىّ. ثم التفت فإذا به. فقال: مه! فأخبره بالذي صنع. ثم ضرب دابته داخلا. فرجع إلينا.
فأخبرنا الخبر. فأرسلنا إلى قيس فجاءنا، فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة، فأخبرها بعزيمتنا ... » (الطبري 4: 60- 1859) .(1/270)
قال: «قد قسمتها كما أمرتنى.» قال: «أحسنت» .
وضرب دابّته ودخل. فرجع فيروز إلى أصحابه، فأخبرهم بالخبر.
قال جشنس:
فأرسلنا إلى قيس فجاءنا. فاجتمع [288] ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتشير علينا برأيها. فأتيت المرأة وقلت:
- «ما عندك؟» قالت: «هو متحرّز محترس، وليس من القصر شيء إلّا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإنّ ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس، وليس دون قتله شيء.» وقالت: «إنّكم ستجدون فيه سلاحا وسراجا وهو علامة لكم.» فخرجت من عندها وتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله، فقال:
- «ما أدخلك علىّ؟» ووجأ رأسى حتى سقطت، وكان شديدا، وصاحت المرأة- فأدهشته عنّى، ولولا ذلك لقتلني- وقالت:
- «ابن عمّى جاءني زائرا، فقصّرت بى.» فقال: «اسكتي لا أبا لك! فقد وهبته لك.» فتحاملت وأتيت أصحابى فقلت:
- «النجاء، الهرب.» وأخبرتهم الخبر. فإنّا على ذلك حيارى إذا جاءني رسولها يقول:
- «لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإنّى لم أزل به حتى اطمأن [289] واعتذر.» فقلنا لفيروز: «ايتها وتثبّت، فأمّا أنا فلا سبيل لى إلى الدخول بعد النهى.» ففعل. وكان فيروز أفطن منّا، فلما أخبرته الخبر قال:(1/271)
- «وكيف ننقب [1] على بيوت مبطّنة الأبواب؟ ينبغي لنا أن نقلع بطانة الباب.» فدخلا، فاقتلعا البطانة، ثمّ أغلقاه وجلسا عندها كالزائر. فدخل عليها فاستخفّته غيرة، وأخبرته برضاع وقرابة مثلها [2] محرّم. فصاح به وأخرجه وجاء بالخبر. فلمّا أمسينا عملنا في أمرنا وقد كنّا واطأنا أشياعنا، ولكن عجّلنا عن مراسلتهم. فنقبنا البيت من خارج، ثمّ دخلناه، وفيه سراج تحت جفنة [3] ، واتّقينا بفيروز لأنّه كان أنجدنا وأشدّنا، فقلنا:
- «انظر ماذا ترى وأين موضعه؟» فدخل ونحن بينه وبين الحرس الذين معه في مقصورته. فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة. فلمّا قام على الباب فتح عينيه فقال أيضا:
- «ما لي ومالك يا فيروز!» فخشي أن يرجع لأخذ السلاح وإعلامنا فنهلك وتهلك المرأة. فعاجله- وكان مثل الجمل- فأخذ برأسه فدقّ [عنقه] [4] [290] ووضع ركبته في ظهره فدقّه، ثم قام ليخرج. فأخذت بثوبه وهي ترى أنّه لم يقتله، وقالت:
- «أين تدعني؟» قال: «لا بأس، أخبر أصحابى وأعود معهم.» فأتانا وقمنا معه فأردنا حزّ رأسه. فتحرّك واضطرب فلم نضبطه، فقلت:
- «اجلسوا على صدره.» فجلس الإثنان على صدره وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة، فألجمته
__________
[1] . مط: «ينقب» .
[2] . في الطبري: منها.
[3] . نقطة الجيم غير واضحة. فتقرأ «جفنة» و «حفنة» مط: «حفته» ! وما أثبتناه يؤيده الطبري.
[4] . في الأصل: فدقّ، في مط: فدقة. و «عنقه» من ابن الأثير.(1/272)
بميلاة [1] ، وأمرّ الشفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار من ثور سمعته قطّ.
فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة:
- «ما هذا، ما هذا؟» فقالت المرأة: «النّبى يوحى إليه، اهدأوا!» [فخمد [2]] . ثم سهرنا [3] ليلتنا ونحن نأتمر: كيف نخبر أشياعنا ليس [4] غيرنا ثلاثتنا: أنا وفيروز وقيس. فأجمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا، ثم ننادي الأذان. فلما طلع الفجر فعلنا ذلك، فتجمّع الحرس فناديتهم:
- «أشهد أنّ محمدا رسول الله وأنّ عبهلة كذّاب.» وألقينا إليهم برأسه، وخلصت صنعاء والجند [5] ، وأعزّ الله الإسلام، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- إلى أعمالهم [291] فاصطلحوا على معاذ، فكان يصلّى بنا. وكتبنا إلى رسول الله- صلى الله عليه- بالخبر، وذلك في حياته فقدمت رسلنا وقد مات النبىّ- صلى الله عليه- صبيحة الليلة التي فتكنا فيها بالأسود فأجابنا أبو بكر رضى الله عنه.
أسماء كتّاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم
كان علىّ بن أبى طالب وعثمان بن عفّان يكتبان الوحى، فإن غابا كتبه أبىّ بن
__________
[1] . مط: ميلاه. المئلاة: خرقة الحائض: الخرقة تمسكها النائحة وتشير بها.
[2] . في الأصل ومط: «فحمد» بالهاء المهملة. في الطبري: «فخمد» بالخاء المعجمة. وما لا يناسب السياق:
«فخمدوا» كما في ابن الأثير 2: 340.
[3] . «سهرنا» من مط. وفي الأصل «شمّرنا» . شمّر للشيء: تهيّأ، وفي الطبري: «سمرنا» أى: لم ننم وتحدثنا ليلا.
[4] . مط: «ليس ثلاثتنا» وما أثبتناه يوافق الطبري (4: 1862) .
[5] . أعمال اليمن في الإسلام مقسومة على ثلاثة ولاة: فوال على الجند ومخاليفها، ووال على صنعاء ومخاليفها، ووال على حضرموت ومخاليفها (يا) .(1/273)
كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد هؤلاء كتبه سائر الكتّاب، وهم: عمر بن الخطّاب، وطلحة، وخالد بن سعيد، ويزيد بن أبى سفيان، والعلاء الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن أبى سرح، وحويطب بن عبد العزّى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية، وعثمان، وأبان: ابنا سعيد، وحاطب بن عمرو، وجهيم بن الصلت.
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان بين الناس وينوبان عن خالد ومعاوية، إذا غابا. وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب [292] إلى الملوك عن النبي- عليه السلام. وكان زيد بن ثابت مع ما يكتبه من الوحى، يكتب إلى الملوك، وكان يحسن بالفارسية وبالرومية وبالحبشية. وكان حنظلة بن الربيع خليفة كلّ كاتب من كتّاب النبىّ- عليه السلام- غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب من بينهم. وكان النبىّ- عليه السلام- يضع عنده خاتمه، وقال له:
- «الزمنى وأذكرنى بكلّ شيء لثالثة.» فكان لا يأتى على مال ولا حاجة ثلاثة أيام إلّا ذكّره به، فلا يبيت- عليه السلام- وعنده منه شيء. فأمّا عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فإنّه ارتدّ بعد كتابته للنبيّ- عليه السلام.
وكان يتكلّم، فسمعه رجل من الأنصار، فحلف بالله: لئن أمكنه الله منه ليضربنّه بالسيف. فلمّا كان يوم فتح مكة، جاء به عثمان- وكان بينهما رضاع- فقال:
- «يا رسول الله، هذا عبد الله، أقبل تائبا.» فأعرض عنه، والأنصارى حاضر بيده السيف. فأعاد عليه عثمان القول، فأعرض عنه. فلمّا أعاد الثالثة مدّ- صلى الله عليه- يده، فبايعه وقال للأنصارى:(1/274)
- «لقد تلوّمت [1] أن توفّى بنذرك.» فقال: «فهلّا [293] أو مضت [2] إلىّ؟» فقال: «إنّه لا ينبغي للنبيّ أن يومض.»
__________
[1] . تلوّم على الأمر وفيه: تلبّث عليه وانتظر وتمكّث (مو) .
[2] . أومض: أومأ. أشار إشارة خفيّة رمزا أو غمزا. أو مضت المرأة: سارقت النظر.(1/275)
مما حدث في خلافة أبى بكر
ومن صرامة الرأى وحصافته ما كان من أبى بكر رضى الله عنه
وذلك أنّه لمّا مات النبي- صلى الله عليه- ارتدّت العرب واضطرمت الأرض واشتغل الناس بالمرتدّين وتروخى [1] عن مسيلمة وطليحة. فاستغلظ أمرهما وارتدّت من كل قبيلة عامّة وخاصّة إلّا قريشا وثقيفا. فتشدّد أبو بكر وكان فيه لين، إلّا أنّه حزم وحصف وخالف الناس، وكانوا أشاروا عليه بالمقاومة. وذلك أنّ أسامة بن زيد كان غائبا بالجيش الذي جهّزه رسول الله- عليه السلام- معه إلى حيث قتل فيه أبوه زيد، وكان أهل المدينة في قلّة، وكان طليحة قد قوى بأسد وغطفان وطيّء. فبعثوا وفودا إلى أبى بكر- رضى الله عنه- من كلّ قبيلة، ونزلوا على وجوه الناس على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فجرّد أبو بكر العزيمة وقال:
- «لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه.» [2] فرجعوا فأخبروا عشائرهم [294] بقلّة من [3] أهل المدينة وأطمعوهم فيها.
فكان من حصافة أبى بكر أن جعل على أنقاب المدينة بعد خروج الوفد عليّا
__________
[1] . في الطبري: وتوحّى مسيلمة وطليحة (4: 1871) . وتوحّى: أسرع.
[2] . ويضيف الطبري هنا: وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة (4: 1872) .
[3] . مط: بدون «من» .(1/277)
والزبير وطلحة ونفرا معهم. وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، وقال لهم:
- «إنّ الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلّة، وإنّكم لا تدرون أليلا تؤتون، أم نهارا؟ وأدناهم منكم على بريد [1] وقد كان القوم يأملون أن نوادعهم، ونقبل منهم وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم [2] فاستعدّوا وأعدّوا.» فما لبثوا إلّا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارّة [3] مع الليل وخلّفوا ردءا [4] لهم بذي حسى، فوافوا الأنقاب [5] وعليها المقاتلة ودونهم أقوام [6] يدرجون.
فنهنهوهم [7] وأرسلوا إلى أبى بكر بالخبر. فخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانهزموا واتّبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسى. فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها [8] بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحى في طوله [9] فنفرت الإبل إبل المسلمين وهم عليها، ولا تنفر [295] من شيء نفارها من الأنحاء. فعاجت بهم ما يملكونها [10] حتى دخلت بهم المدينة، إلّا أنّه لم يصرع مسلم ولم يصب، وظنّ القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى الناس بالخبر فقدموا عليهم أعمارا [11] .
وبات أبو بكر ليلته يتهيّأ، فعبّى الناس، ثم خرج في تعبئته من أعجاز [12] ليلته يمشى، فما طلع الفجر إلّا وهم مع العدوّ في صعيد واحد. فما سمعوا لأحد من
__________
[1] . البريد: الرسول، ثم استعمل في المسافة التي يقطعها بين كل منزلين وهي اثنا عشر ميلا (الأقرب) أنظر تعاليقنا على ص 53.
[2] . نبذ إلى العدو: رمى إليه بالعهد.
[3] . في مط والطبري (4: 1874) غارة. ويمكن أن نقرأ ما في الأصل «غارّه» أو «عارّه» .
[4] . مط: أزدا. والردء: العون والناصر.
[5] . الأنقاب: جمع مفرده النقب: الطريق في الجبل.
[6] . مط: بدون «أقوام» .
[7] . نهنهه: كفّه وزجره. نهنه الدابة: صاح به لتكفّ.
[8] . دهدهه: دحرجه. تدهده: تدحرج.
[9] . الطول: الحبل يربط في وتد ونحوه للدابة، فترعى مقيدة (مو) .
[10] . في الأصل ومط: «ما يملكوها» .
[11] . جاء عمرا: جاء بطيئا. في الطبري: اعتمادا في الذين. في حاشيته: اعتمارا في الدين.
[12] . وفي الطبري: ثم خرج على تعبئة من أعجاز ليلته.(1/278)
المسلمين همسا ولا حسّا حتّى وضعوا فيهم السيوف. فما ذرّ [1] قرن الشمس حتّى ولّوهم الأدبار وغلبوهم على عامّة ظهرهم، وقتل رئيسهم حبال وكان صاحب طليحة، واتبعهم أبو بكر- فكان أول فتح- فلما بلغ ذا القصة وضع بها النعمان بن مقرّن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذلّ المشركون وعزّ المسلمون بوقعة أبى بكر- رضى الله عنه- فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كلّ قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم. فحلف أبو بكر ليقتلنّ في كل قبيلة قتلة من قتلوا وليزيدنّ وليفعلنّ وليصنعنّ [2] .
فوفى بذلك، فازداد المسلمون ثباتا على دينهم وتفرّق [296] أمر المشركين، وطرقت المدينة صدقات صفوان والزبرقان وعدىّ. فاستبشر لذلك أبو بكر والمسلمون، وذلك لستّين يوما من خروج أسامة.
ثم قدم أسامة واستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: «أريحوا واستريحوا.» ثم خرج بنفسه مع الذين كانوا على الأنقاب، فقال له المسلمون:
- «ننشدك الله أن تعرّض نفسك، فإنّك إن تصب لم يكن للناس نظام. ومقامك أشدّ على العدوّ. فابعث رجلا إن أصيب أمّرت آخر.» فقال: «لا والله حتّى أواسيكم بنفسي.» فخرج في تعبئته إلى ذى القصة والنعمان وأصحابه على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق. فاقتتلوا، فهزم القوم وأخذ الحطيئة أسيرا، وطارت عبس وبنو بكر. فأقام أبو بكر على الأبرق أيّاما وقد غلب بنى ذبيان على البلاد، وقال:
- «حرام على بنى ذبيان البلاد أن يطأوها بعد أن غنّمناها الله.»
__________
[1] . فما ذرّ قرن الشمس: فما طلعت.
[2] . مط: ولينصحنّ.(1/279)
فلمّا غلب أهل الردّة ودخلوا فيما خرجوا منه، جاءت بنو ثعلبة ومن كان ينازلهم. فمنعوا منها فأتوه في المدينة [297] فقالوا:
- «علام نمنع من لزوم بلادنا؟» فقال: «كذبتم، ليست لكم ببلاد.»
عقد أحد عشر لواء لمحاربة أهل الردة
ثمّ حمى بلاد الربذة كلّها لصدقات المسلمين وجاءت الصدقات الكثيرة. فلمّا أراح أسامة وجنوده ظهورهم وجمّوا، عقد أبو بكر أحد عشر لواء وقطع عليها البعوث:
عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن قام له، وعقد لعكرمة بن أبى جهل وأمره بمسيلمة، وعقد للمهاجر بن أبى أمية وأمره بجنود الأسود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد بن العاص وكان قدم من اليمن، وترك عمله، ولعمرو بن العاص إلى جمّاع قضاعة ووديعة والحارث، ولحذيفة بن محصن، وأمره بأهل دبا، ولعرفجة بن هرثمة، وأمره بمهرة، ولشرحبيل بن حسنة على قضاعة، ولطريفة بن حاجز، وأمره ببني سليم وهوازن، ولسويد بن مقرّن وأمره بتهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرمي، وأمره بالبحرين.
ففصل الأمر من ذى القصّة وقد كتب لهم عهدهم، فلحق بكلّ أمير جنده.(1/280)
[298] وكتب إلى جميع المرتدّة كتبا بليغة بالإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، ونفذت الرسل أمام الجنود بالكتب ونفذ خالد إلى طليحة، فهزمه وفضّ خيله.
وكان طليحة ارتدّ في حياة رسول الله- صلى الله عليه- وادعى النبوّة. فوجه النبىّ- صلى الله عليه- ضرار بن الأزور عاملا على بنى أسد وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ فأشجوا طليحة وأخافوا ونقص أمره، حتى لم يبق إلّا أخذه سلما. سوى أنّه كان ضرب ضربة بالجراز، فنبا عنه. فشاعت في الناس وأتى المسلمين- وهم على ذلك- موت نبيّهم. وقال ناس:
- «إنّ السلاح لا يعمل في طليحة.» فقوى أمره ونقص أمر المسلمين لذلك، حتى إنّهم قالوا عرفنا [1] ذلك في أنفسنا يوم ورد علينا الخبر بوفاة رسول الله- صلى الله عليه.
وقام عيينة بن حصين بنصره، وقام في غطفان فقال:
- «ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بنى أسد، وإنّى مجدّد الحلف الذي كان بيننا في الجاهلية، ومتابع [299] طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتبع نبيّا من قريش.» وقد مات رسول الله- صلى الله عليه- وبقي طليحة، فطابقوه على رأيه. فلمّا قوى أمر طليحة واستفحل، هرب ضرار وأصحاب النبي- صلى الله عليه- وطاروا كلّ مطار.
قال ضرار بن الأزور: «فما رأيت أحدا- ليس رسول الله- أملأ لحرب شعواء من أبى بكر، لجعلنا نخبره ولكأنّما نخبره بما له، لا عليه.»
__________
[1] . كذا في مط. وما في الأصل: عرقنا. وفي الطبري (4: 1892) : حتى عرفوا النقصان.(1/281)
صرامة عمر وحصافته في هذا الوقت
ومما ظهر من عمر- رضى الله عنه- في هذا الوقت صرامة وحصافة: أنّ عمرو بن العاص كان بعمان. فلمّا مات رسول الله- صلى الله عليه- أقبل حتى انتهى إلى البحرين، وسار في بنى تميم، وفي بنى عامر، حتّى قدم المدينة، فأطافت به قريش وسألوه. فأخبرهم أنّ العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم. وأخبرهم من اضطراب الإسلام وقوّة الأعداء ما كسرهم. فتفرّقوا وتحلّقوا حلقا. وأقبل عمر بن الخطاب يريد [300] التسليم على عمرو. فمرّ بحلقة وهم في شيء مما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة عثمان وعلىّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد. فلمّا دنا عمر منهم سكتوا.
فقال عمر: «فيم أنتم؟» فلم يخبروه، فقال: «ما أعلمنى بالذي خلوتم له.» فغضب طلحة وقال: «يا ابن الخطاب أتخبرنا بالغيب؟» فقال: «لا يعلم الغيب إلّا الله، ولكن أظنّ أنكم قلتم: ما أخوفنا على قريش، من العرب وأخلقهم ألّا يقرّوا بهذا الأمر.» قالوا: «صدقت.» قال: «فلا تخافوا هذه المنزلة. أنا والله منكم على العرب أخوف منّى عليكم من العرب، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا [1] لدخلته العرب في آثاركم.
فاتقوا الله فيهم.» ثمّ مضى عمر إلى أبى بكر واجتمع مع عمرو.
__________
[1] . في مط: حجرا.(1/282)
إسلام طليحة بعد ارتداده وادّعائه النبوّة
فأمّا طليحة، فإنّه لما هزم أصحابه، هرب حتى نزل على كعب على النقع [1] .
فأسلم، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر. وإنّما أسلم هنالك حتى بلغه أنّ أسدا وغطفان وعامرا قد أسلموا. فلمّا مات أبو بكر، [301] أتى [2] عمر للبيعة، فقال له عمر:
- «أنت قاتل عكاشة وثابت، والله لا أحبّك أبدا.» فقال يا أمير المؤمنين، ما تنقم علىّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهنّى بأيديهما.» فبايعه عمر. ثم قال له خريم [3] :
- «ما بقي من كهانتك؟» قال: «نفخة أو نفختان بالكير [4] .» ثم رجع إلى دار قومه، وأقام بها حتى خرج إلى العراق.
ولما أعطى أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ بأيديهم على الإسلام، لم يقبل خالد من أحد منهم ولا من هوازن وسليم، إلّا على أن يأتوا بالذين حرقوا ومثّلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردّتهم. فأتوه بهم، فقتل منهم إلّا قرّة بن هبيرة ونفرا معه أو ثقتهم، ومثّل بالذين مثّلوا بالمسلمين، وأحرقهم بالنيران، ورضخهم [5] بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم في الآبار، وخرق بعضهم
__________
[1] . مط: المنع.
[2] . ما في الأصل غير واضح، فأثبتنا الكلمة كما في مط.
[3] . مط: حريم.
[4] . الكير: جهاز من جلد أو نحوه يستخدمه الحداد وغيره للنفخ في النار لإشعالها.
[5] . رضخ النوى: كسره بالحجر.(1/283)
بالنبال، وكتب بخبرهم وما صنع، إلى أبى بكر.
فكتب إليه أبو بكر:
«ليزدك الله ما أنعم به عليك خيرا، فاتق الله، ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلّا قتلته ونكلت به غيره، وإن كنت [302] أحييت ممّن حادّ الله وضادّه فاقتله.» فأقام خالد شهرا على بزاخة يصعّد ويصوّب ويرجع في طلب القوم، فمنهم من يحرق، ومنهم من يرضخه، ومنهم من يرمى به من الجبل.
مكيدة للفجاءة تمّت عليه
وقدم الفجاءة [1] بن إياس بن عبد ياليل على أبى بكر، فقال:
- «أعنّى بسلاح، ومرني بما شئت، ومن شئت من أهل البادية.» فأعطاه سلاحا، وأمَره أمْره، فخالفه، وخرج، ونزل الجواء [2] ، وبعث نجبة بن أبى الميثاء [3] ، وأمره بالمسلمين، فشنّها [4] غارة على كلّ مسلم في سليم وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إليه من حاربه بالجواء حربا شديدا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه من أسره وبعث به إلى أبى بكر، فأوقد له في مصلّى المدينة حطب كثير، ثم رمى به في النار مقموطا.
قتل مسيلمة في حديقة الموت ومكيدة لمجّاعة على خالد
ومن وجوه المكائد في الحرب أنّ خالدا لما مضى نحو اليمامة قاصدا مسيلمة، فضرب [بها] [5] عسكره، خرج أهل اليمامة مع المسيلمة. ثمّ التقى
__________
[1] . وفي الأصل ومط: الفجأة. وما في الطبري «الفجاءة» (4: 1903) .
[2] . مط: «وترك الحوى» .
[3] . مط: «محة» في الطبري أيضا: نجبة وفي ابن الأثير (2: 350) : نجبة.
[4] . كذا في النسختين والطبري.
[5] . في الأصل ومط: به.(1/284)
الناس، ولم تلقهم حرب قطّ مثلها [303] من حرب العرب. فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون، وخاضوا إلى فسطاط خالد، فزال خالد عنه، وأسلم امرأته أمّ تميم، فرعبلوا [1] الفسطاط بالسيوف.
ثم إنّ المسلمين تداعوا وتبرّأوا إلى الله ممن انهزم، وجالدوا حتى قتل زيد بن الخطّاب وعدّة من خيار الناس، وخلصوا [2] إلى محكّم اليمامة [3] ، وكان سيّدا فيهم، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل، وزحف المسلمون، واشتدّ القتال. فكانت يومئذ سجالا إنّما يكون مرّة على المسلمين، ومرّة على الكافرين. واستحرّ القتال في المهاجرين والأنصار، وثبت مسيلمة، ودارت رحاهم عليه.
فعرف خالد بن الوليد أنّها لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم. فبرز خالد حتّى إذا كان أمام الصفّ دعا إلى البراز، وانتمى وقال:
- «أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد.» فجعل لا يبرز له أحد إلّا حطّمه وقتله. ودارت عليه رحى المسلمين فطحنت.
ثم دنا خالد من مسيلمة، فدعاه مناديا بأعلى صوته [304] ليطلب غرّته [4] ، وذلك لما علم أنّ الحرب لا تزول إلّا بزواله، فأجابه مسيلمة. فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة، ثم قال له:
- «إن قبلنا النصف، فأىّ الأنصاف تعطينا؟» فكان إذا همّ بجوابه، أعرض عنه مستشيرا شيطانه، فكان شيطانه ينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرّة من ذلك، فركبه خالد فأرهقه، فأدبر، وزالوا، فذمر خالد الناس، وقال:
- «دونكم لا تقيلوهم.»
__________
[1] . رعبل: قطع، مزّق.
[2] . خلص إلى الشيء: وصل.
[3] . وفي الطبري: خلّصوا إلى محكّم اليمامة وهو محكّم بن الطفيل (4: 1943) .
[4] . فدعا مسيلمة طلبا لعورته (الطبري 4: 1948) .(1/285)
فاقتحموا حديقة الموت [1] ، فاقتحم الناس عليهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف، وقتل مسيلمة. قتله وحشىّ بحربته، وأعانه رجل من الأنصار.
وكان خالد ظفر قبل هذه الوقعة بمجّاعة مع نفر معه كانوا خرجوا في سريّة لهم، وكان ظنّ أنّهم استقبلوه. فلمّا سألهم صدقوه. ولو عرفوا خبره لقالوا: إنّما استقبلناك، فسلموا. فعرضهم على السيف، فقتلهم عن آخرهم إلّا مجّاعة، فإنّه استحياه طمعا في الانتفاع به. فلمّا فرغ من قتل مسيلمة وأخبر به أخرج مجّاعة يرسف في الحديد ليدلّه على مسيلمة، [305] فجعل يكشف له القتلى حتّى مرّ بمحكّم اليمامة، وكان وسيما حسنا. فلما رآه خالد قال:
- «هذا صاحبكم؟» قال: «لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكّم اليمامة.» ثم مضى خالد يكشف له القتلى. فإذا رويجل أصفر [2] أخينس، فقال مجّاعة:
- «هذا صاحبكم، قد فرغتم منه.» فقال خالد لمجّاعة: «هذا فعل بكم ما فعل.» قال: «قد كان ذلك يا خالد، وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان الخيل، وإن الحصون لمملوءة رجالا، فهلّم أصالحك على قومي.» يقول ذلك لرجل قد نهكته الحرب، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب، فقد رقّ، وأحبّ الدعة والصلح.
فقال: «هلمّ أصالحك.» فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة [3] ونصف السبي.
ثم قال: «فآتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت.»
__________
[1] . والحديقة: بستان كان لمسيلمة الكذاب، كانوا يسمّونه: «حديقة الرحمان» ، وعنده قتل مسيلمة، فسمّوه: «حديقة الموت» (يا) .
[2] . الطبري: أصيفر (4: 1949) .
[3] . الحلقة: السلاح عامّة والدرع خاصّة.(1/286)
قال: «انطلق إليهم.» فذهب وقال للنساء- وليس في الحصون إلّا النساء والصبيان ومن ليس به طرق [1] من الشيوخ:
- «البسن الحديد، ثمّ أشرفن على الحصون، وانشرن شعوركنّ.» ثم كرّ نحو خالد وقال:
- «أبوا [2] ما صالحتك عليه، ولكن صالحني على ربع السبي لأعزم [3] على [306] القوم.» قال خالد: «قد فعلت.» فسرّحه وقال:
- «أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا ولم تقبلوا، لأنهدنّ إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل.» فكان خالد إذا نظر إلى الحصون رآها مملوءة الحيطان بالسلاح والسواد، فيراها رجالا وإنّما هي النساء.
فلمّا رجع مجّاعة إليهم قال: «فأمّا الآن فاقبلوا.» ورجع إلى خالد، وقال: «بعد شرّ ما، قبلوا [4] ، اكتب كتابك.» فكتب:
«هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة من مرارة وفلانا وفلانا، قاضاهم على الصفراء، والبيضاء، وربع السبي، والحلقة، والكراع، وحائط من كل قرية ومزرعة، على أن تسلموا، ثم أنتم آمنون بأمان الله ولكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمّة أبى بكر خليفة رسول الله- صلى الله عليه- وذمم المسلمين على الوفاء.»
__________
[1] . الطرق: الشحم. القوّة (مو) .
[2] . في الطبري وابن الأثير (2: 365) أيضا: أبوا. مط: ايو. وفي الأصل: آيوا. وهو تصحيف.
[3] . عزم على فلان: أمره وشدد عليه (مو) .
[4] . الطبري. بعد شرّ ما رضوا (4: 1954) .(1/287)
فلمّا فرغ خالد بن الوليد من هذه الوقعة والصلح، فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصبيان! فقال خالد لمجّاعة:
- «ويحك، خدعتني!» قال: «قومي، ولم أستطع إلّا ما صنعت. [1] » ولمّا فرغ خالد من هذه الوقعة أمره [307] أبو بكر بالمسير إلى العراق، وكان ما كان من أمره مع الفرس، ولم أجد في تلك الحروب والوقعات مع عظمها وشدتها موضع حيلة، ولا موقع تدبير تستفاد منه تجربة إلّا اليسير مما سنذكره، وباقيه كلّه جهاد من القوم ونصر من الله واجتهاد من المسلمين، وخذلان للفرس، وانصرام لمدّتهم، وانقضاء لملكهم.
وكان شرطنا في أول الكتاب ألّا نثبت من الأخبار إلّا ما فيه تدبير نافع للمستقبل، أو حيلة تمّت في حرب، أو غيرها، ليكون معتبرا وأدبا لمن يستأنف من الأمر مثله، فلذلك تركنا إثبات هذه الوقائع، وعلى أنّا سنذكر الجمل التي فيها أدنى تنبيه على موضع فائدة، ولأجل ذلك، تركنا ذكر أكثر مغازي رسول الله- صلى الله عليه- ووقعاته، لأنّها كلّها توفيق الله ونصره وخذلان أعدائه، ولا تجربة في هذا، ولا تستفاد منه حيلة، ولا تدبير بشرىّ [2] .
ومن الآراء السديدة ما كان من خالد بالشام يوم اليرموك [3]
[308] وذلك أنّ خالدا افتتح السواد الذي بينه وبين دجلة، وحاز غربىّ دجلة كلّها بوقائع كثيرة وحروب عظيمة، وشغل الفرس عن أمر الملك. فإنّ أردشير بن
__________
[1] . كذا في الطبري: (4: 1953) .
[2] . انتبه إلى الإصرار الذي يبديه مسكويه على منهجه في كتابة التاريخ.
[3] . أنظر الطبري 4: 2090.(1/288)
شيرى مات وقد كان هلك العظماء وأهل بيت كسرى بما أفناهم شيرى، وبغزوات خالد للعظماء، وتفرّغ أبو بكر للشام، وكان أمر خالدا ألّا يقتحم على الفرس، لأنّ مسالح لهم كانت من وراء المسلمين. فخشي أن يؤتوا من ورائهم، وقد كان المسلمون أشرفوا على الهلاك بالشام لكثرة جنود الروم.
فكتب أبو بكر إلى خالد يأمره أن يستخلف على جنده، ويسير في عدد وافر إلى إخوانه المسلمين بالشام. ولما اهتمّ بأمر الشام كتب إلى عمرو بن العاص، وإلى الوليد بن عقبة، وكانا على عمل من الصدقات. أمّا عمرو فكان على صدقات هذيم وعذرة ومن لفّ لفّها. وأمّا الوليد فكان على النصف من صدقات قضاعة. فكتب أبو بكر إليهما يرغّبهما في الجهاد ويخيّرهما بين أعمالهما وما ندبهما إليه، فكتبا بإيثار الجهاد، فكتب [309] أبو بكر بأن يندبا من يليهما، ويستخلفا على أعمالهما.
ثم ندب أبو بكر من كان اجتمع إليه، وقوّى بهم عمرا، وأمّره على فلسطين وأمره بطريق سمّاها له. وولّى الوليد الأردن، وأمدّه ببعض من كان اجتمع إليه.
ودعا يزيد بن أبى سفيان فأمّره على جند عظيم هم جمهور من انتدب له، وفي جنده سهيل بن عمرو، وأشباهه. واستعمل أبا عبيدة وأمّره على حمص مع جند [1] .
وكان قد قدّم خالد سعيد بن العاص، وأمره أن يأتى تيماء، ويقيم بها، فلا تتجاوزها، وينتدب إليه من حوله ويتقوّى به، حتّى تأتيه الجنود. وسمى ليزيد بن أبى سفيان دمشق، ولشرحبيل بن حسنة الأردن.
فتوافى الجند أطراف الشام مع الأمراء الأربعة، وهم سبعة وعشرون ألفا. وأمّر أبو بكر معاوية وشرحبيل على ثلاثة آلاف، وكان عكرمة بن أبى جهل ردءا [2]
__________
[1] . مط: جنده.
[2] . الردء: الذي يتبع غيره معينا له. قال تعالى: فأرسله معى ردءا يصدّقنى.(1/289)
لهم في ستة آلاف. وكان في ثغر الروم أبو عبيدة، فشجى [1] بالروم وكثروا عليه، فكتب إلى [310] أبى بكر يستمدّ، وأمدّهم بخالد بن الوليد من العراق في عشرة آلاف، فكانوا ستة وأربعين ألفا، وكان قتالهم على تساند: كلّ جند وأميرهم، ولا يجمعهم أمير واحد حتّى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق.
تدبير حصيف من خالد
فلمّا قدم خالد، وجد الروم في جمع عظيم وقد استمدوا المستعربة ونصارى العرب ومسالح [2] الفرس، فكانوا في مائتي ألف مقاتل على حنق شديد، وهم يقاتلون بنشاط واجتماع. ورأى المسلمين متساندين يقاتل كل قوم مع أميرهم.
فقال لهم: «هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعزّ الله به الدين، ولا يدخلكم منه نقيصة ولا مكروه؟» قالوا: «وما ذلك؟» قال:
- «إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإنّ هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة على تساند وانتشار فإنّ ذلك لا ينبغي ولا يحلّ، وإنّ من وراءكم لو يعلم علمكم، حال [311] بينكم وبين هذا.
فاعلموا في ما لم تؤمروا به، بالذي ترون أنه الرأى من واليكم ومحبّته.»
__________
[1] . شجى بقرنه: قهره قرنه. اهتمّ وحزن.
[2] . المسالح: جمع مفرده المسلح والمسلحة: كلّ موضع مخافة يقف فيه الجند بالسلاح للمراقبة والمحافظة. القوم المسلّحون في ثغر أو مخفر للمحافظة.(1/290)
قالوا: «هات ما الرأى؟» قال:
- «إنّ [1] أبا بكر لم يبعثنا إلّا وهو يرى أنّا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم. إنّ الذي أنتم فيه أشدّ على المسلمين ممّا غشيهم، وأنفع [2] للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أنّ الدنيا فرّقت بينكم، فالله الله في دينكم، فقد أفرد كلّ رجل ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده أن دانوا له.
إنّ تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، هلمّوا، فإنّ هؤلاء قد تهيّئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددنا القوم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردّهم. وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلمّوا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد حتى يتأمّر كلّنا. دعوني ألكم [3] اليوم.» فأمّروه وهم يرون أنّها كخرجاتهم قبل قدوم خالد [312] وأنّ الأمر طويل والإمارة تصل إلى كلّ واحد منهم.
فخرجت الروم في تعبئة لا يكون أحسن منها، ولم ير المسلمون مثلها قطّ.
وخرج خالد في تعبئة لم تعبّ مثلها العرب. وذلك أنّه لمّا رأى كثرة عدد الروم، قال:
__________
[1] . سقط من مط: «إنّ أبا بكر ... أشدّ على» .
[2] . في الأصل: أنقع. وما أثبتناه مطابق لما في مط والطبري 4: 2092.
[3] . مط والطبري: «أليكم» والصحيح ما في الأصل، لأنّ الفعل [ألى] مجزوم هنا جوابا لشرط متصيّد مما قبل كما يقول النحاة.(1/291)
- «إنّه ليس في التعبئة تعبئة أكثر في رأى العين من الكراديس [1] . فجعل القلب كراديس كثيرة، وأقام فيها أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبى سفيان، وجميعها ستّة وثلاثون كردوسا. وفي الجماعة ألف رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- فيهم نحو من مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يدور ويحرّض الناس.
فقال رجل لخالد: «ما أقلّ المسلمين وأكثر الروم!» فقال خالد: «ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم، إنّما تكثر الجنود بالنصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرجال. والله، لوددت أنّ الأشقر براء من توجّيه [2] ، وأنّهم أضعفوا [3] في العدد.» وكان فرسه قد حفى [4] في مسيره.
ثمّ أنشب القتال والتحم [313] الناس وتطارد الفرسان. فإنّهم على ذلك، إذ قدم البريد من المدينة. فأخذته الجنود، وسألوه الخبر. فلم يخبرهم إلّا بسلامة، وأخبرهم عن أمداد، وإنّما جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره الخبر، وأسرّه إليه، وأخبره بما قال للجند، فقال:
- «أحسنت، فقف.» وأخذ الكتاب، فجعله في كنانته وخاف- إن أظهر ذلك- أن ينتشر أمر الجند.
وجدّ خالد في القتال، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم.
وكان موضعهم الذي اختاروه للقتال واسع المطّرد، وضيّق المهرب. فلمّا وجدت خيلهم مهربا ذهبوا وتركوا رجلهم في مصافّهم، وخرجت خيلهم تشتدّ
__________
[1] . الكراديس: جمع مفرده الكردوس والكردوسة: طائفة عظيمة من الخيل والجيش.
[2] . التوجّى: رقة القدم أو الحافر أو الخفّ من كثرة المشي (مو) .
[3] . أضعفوا: جعلوا ضعفين.
[4] . حفى: مشى بلا نعل ولا خفّ.(1/292)
بهم في الصحراء. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجّهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها. فذهبت متفرّقة في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل، ففضّوهم. فكأنّما هدم بهم حائط، فاقتحموا في خندقهم [314] فاقتحم عليهم فعمدوا إلى الواقوصة [1] حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من جشعت نفسه، فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلّما هوى اثنان كانت البقية أضعف. فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف [000 بن 120] إنسان منهم ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل، وتجلّل أخو ملك الروم وأشراف من أشرافهم برانسهم وقالوا:
- «لا نحبّ أن نرى يوم السوء، إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية.» فأصيبوا في تزمّلهم.
وقد كان عكرمة بن أبى جهل في بعض جولات الروم نزل عن فرسه وقال:
- «قاتلت عن رسول الله صلى الله عليه في كلّ موطن وأفرّ اليوم!» ثمّ نادى:
- «من يبايع على الموت؟» فبايعه ضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه الناس والفرسان، فقاتلوا قدّام فسطاط خالد، حتّى أثبتوا جميعا جراحا، وقتلوا إلّا من [315] برأ ومنهم ضرار.
__________
[1] . الواقوصة: واد بالشام في أرض حوران نزله المسلمون أيام أبى بكر الصدّيق على اليرموك لغزو الروم ...
وفي كتاب أبى حذيفة: أنّ المسلمين أوقعوا بالمشركين يوما باليرموك، فشدّ خالد في سرعان الناس وشدّ المسلمون معه يقتلون كل قتلة، فركب بعضهم بعضا، حتى انتهوا إلى أعلى مكان مشرف على أهوية، فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون وهو يوم ذو ضباب، وقيل كان ذلك بالليل وكان آخرهم لا يعلم بما صار إليه الذي قبله حتى سقط فيها ثمانون ألفا ... وسميت هذه الأهوية بالواقوصة من يومئذ حتى اليوم، لأنهم واقصوا فيها. (يا، والطبري 4: 2099) .(1/293)
وقاتل النساء يومئذ وجرحت جويرية بنت أبى سفيان، وكانت مع زوجها، بعد قتال شديد، وكان الأشتر ممن شهد هذا اليوم- وهو اليرموك- فأبلى بلاءا حسنا.
ولمّا فرغ خالد من حرب القوم نعى إلى الناس أبا بكر وقال:
- «الحمد لله الذي قضى على أبى بكر الموت، وكان أحبّ إلىّ من عمر، والحمد لله الذي ولّى عمرو كان أبغض إلىّ من أبى بكر، ثم ألزمنى طاعته.» وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص، وبلغه قتل أخيه مع الصناديد وعامّة الخيل والرجل، فارتحل وصار الأمر لأبى عبيدة.
من عجيب ما ركبه خالد
ومن عجيب ما ركبه خالد بن الوليد في سفرته هذه التي خرج فيها من العراق لمعاونة أبى عبيدة على الروم، أنّه: لمّا هزمت الروم خالد بن سعيد بن العاص، وقتلوا ابنه وقتلوا الجيش الذي معه، واجتمعت الروم باليرموك، قالوا:
- «والله لنشغلنّ أبا بكر والعرب في أنفسهم عن تورّد بلادنا.» ثم نزلوا الواقوصة [316] مستعلين.
فبلغ ذلك أبا بكر، فقال:
- «والله لأنسينّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.» فكتب إليه أن:
- «سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فانّهم قد شجوا بالروم، وإنّه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك [1] ، ولم ينزع الشجا من الناس نزعك، فلتهنئك [2]- أبا سليمان- النية
__________
[1] . في الأصل ومط: شجيك.
[2] . في الأصل ومط: فلتهنك وما أثبتناه يؤيده الطبري 4: 2110.(1/294)
والحظوة، فأتمم- تمّم الله لك- ولا يدخلنّك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدلّ بعمل، فإنّ الله له المنّ وهو ولىّ الجزاء، فاستخلف المثنّى بن الحارثة بالعراق، فإذا فتح الله على المسلمين الشام فارجع إلى عملك بالعراق.» فقال خالد: «كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الناس.» فجمع الأدلّاء وأهل الخيرة، فكلّهم قالوا:
- «لا نعرف إلّا طريقا لا يحمل جيشا، يأخذه الفذّ والراكب [1] .» ونهوه أن يغرّر بالمسلمين. فعزم عليه، ولم يجبه [317] أحد إلّا رافع بن عميرة على تهيّب شديد. فقام فيهم وقال:
- «يا قوم لا يخلفنّ [2] هديكم، ولا يضعفنّ يقينكم، واعلموا أنّ المؤونة تأتى على قدر النيّة، والأجر على قدر الحسبة.» فأجابه نفر، وقالوا لخالد:
- «أنت رجل مصنوع لك، فشأنك [3] .» فطابقوه ونووا، واحتسبوا.
فقال لهم رافع:
- «تروّوا للشفة لخمس.» فظمّأ كلّ قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفى به، ثم سقوها العلّ بعد النهل، ثمّ صرّوا آذان الإبل وكعّموها وخلّوا أدبارها.
__________
[1] . كذا في مط. وفي الطبري: الفذّ الراكب (4: 2112) .
[2] . كذا في مط، وفي الطبري: لا يختلفنّ.
[3] . وفي الطبري: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك.(1/295)
ثمّ ركبوا من قراقر مفوّزين إلى سوى [1] وهي إلى جانبها الآخر ممّا يلي الشام. فلما ساروا يوما افتظّوا لكل من الخيل كروش عشر من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان. ثمّ سقوا الخيل وشربوا للشفة جرعا، فعلوا ذلك أربعة أيّام. فلمّا نزلوا بسوى وخشي أن يفضحهم حرّ الشمس نادى خالد رافعا:
- «ما عندك يا رافع؟» [318] قال: «خير، أدركتم الرىّ وأنتم على الماء.» وكان يشجعهم وهو متحيّر به رمد.
ثمّ قال: «أيها الناس، انظروا عليمين [2] كأنّهما ثديان.» فأتوا عليهما وقالوا: «علمان.» فقام عليهما فقال: «اضربوا يمنة ويسرة لعوسجة كقعدة الرجل.» فقالوا: «لا نرى شيئا.» فقال: «إنّا لله، هلكتم وهلكت معكم، انظروا.» فنظروا فوجدوا جذمها، فقالوا:
- «جذم [3] ، ولا نرى شجرة.» فقال:
«احتفروا حيث شئتم.» فاستثاروا أوشالا [4] وأحساء [5] رواء [6] . فقال رافع:
__________
[1] . سوى: ماء لبهراء من ناحية السماوة.
[2] . مط والطبري: علمين (4: 2113) . وانظر ابن الأثير (2: 408) .
[3] . الجذم والجذم: الأصل والمنبت.
[4] . الوشل: الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخر ولا يتصل قطره. والوشل أيضا: الماء الكثير- ضدّ.
[5] . والأحساء: جمع مفرده حسى، وحسى وحسى: سهل من الأرض يستنقع فيه الماء، وقيل: غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر وكلّما نزحت دلوا اجتمعت أخرى.
[6] . الرواء: الماء العذب. الكثير المروي.(1/296)
- «أيها الأمير، ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلّا مرّة وأنا غلام مع أبى.» فانحاز خالد من سوى على مضيّح [1] بهراء، وإنّهم لغارّون وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها ومغنّيهم يقول:
ألا علّلانى قبل جيش أبى بكر ... لعلّ منايانا قريب وما ندري
أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... سيطرقكم قبل الصّباح من البشر [2]
فهل لكم في السّير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر
فيزعمون أنّ مغنيهم قتل، وسال دمه في الجفنة عند الغارة. وقال شاعر المسلمين: [319]
لله عينا رافع أنّى اهتدى ... فوّز [3] من قراقر [4] إلى سوى
خمسا [5] إذا ما سارها [6] الجيش بكى ... ما سارها قبلك إنسىّ أرى
فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهله وقد خلّف ثغور الروم وجنودها ممّا يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، ثمّ صمد لهم الطريق حتّى صار إلى
__________
[1] . مضيّح بهراء: ماء بالشام.
[2] . وما في مط: من النشر. والبشر من منازل تغلب بن وائل (الأيام: 208) .
[3] . فوّز الرجل: دخل المفازة.
[4] . قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق، نزله خالد بن الوليد عند قصده الشام. قراقر، حنو قراقر، وحنوذى قار، وذات العجرم، والبطحاء، كلها حول ذى قار (يا) .
[5] . الخمس: من الفلوات ما بعد ماؤها حتى يكون ورد الإبل في اليوم الخامس، والخمس أن ترد الإبل الماء في اليوم الخامس من وردها السابق.
[6] . في الأصل: ما ساره.(1/297)
دمشق، ثمّ مرج الصفر. فلقى غسّان وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم وبعث بالأخماس إلى أبى بكر، ثمّ خرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أوّل مدينة فتحها خالد من الشام بمن معه من جنود العراق، فخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة في عشرة آلاف.
ولما تراءى العسكران بعث القيقلار [1] أخو ملك الروم- وهو صاحب الجيش- رجلا عربيّا من قضاعة وقال له:
- «ادخل في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يوما وليلة، ثمّ ائتني بخبرهم.» فدخل في الناس رجل عربىّ لا ينكر، فأقام فيهم، ثمّ أتاه.
فقال: «مه، ما وراءك؟» قال: «هم رهبان بالليل فرسان [320] بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحدّ.» فقال القيقلار: «لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.»
المثنى بن الحارثة وشهربراز قائد الفرس
فأمّا المثنى بن حارثة، فكان من حديثه بعد خالد بن الوليد: أنّ الفرس اجتمعوا على شهربراز بن أردشير بن شهريار بن أبرويز، ووجدوه بميسان، فوجّه إلى المثنّى جندا عظيما عليهم هرمز المعروف بجاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، فكتبت المسالح بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة، وضمّ إليه المسالح.
وكتب شهربراز إلى المثنّى:
- «إنّى قد بعثت إليك جندا من وحش أهل القرى، إنّما هم رعاة الدجاج
__________
[1] . في الطبري: القبقلار، وفي حواشيه: القنقلال، القنقلار، القيقلان، القلنقار (4: 2125) .(1/298)
والخنازير، ولست أقابلك إلّا بهم.» فأجابه المثنّى:
«من المثنّى إلى شهربراز، إنّما أنت أحد الرجلين: إما باغ، فذلك شرّ لك وخير لنا، وإمّا كاذب، فأعظم الكاذبين فضيحة وعقوبة عند الله والناس الملوك، وأمّا الذي يدلّنا عليه الرأى، فانّكم إنّما اضطررتم إليه، فالحمد لله الذي ردّ كيدكم إلى رعاة الدجاج [321] والخنازير.» فلمّا وقف الفرس على كتابه جزعوا وقالوا:
- «إنّما أتى شهربراز من لؤم منشأته [1] .» وقالوا له: «جرّأت علينا عدوّنا بما كتبت إليه، فإذا كاتبت أحدا فاستشر.» ثمّ التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة [2] الدنيا قتالا شديدا.
ثمّ إنّ المثنى وناسا من المسلمين اعتوروا الفيل، وكان يفرّق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه، وهزموا أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتّى جازوا بهم مسالحهم، وطلبوا الفلّ [3] حتّى بلغوا المدائن. ومات شهربراز منهزم [4] هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس بعده، وأبطأ خبر أبى بكر على المسلمين لمرضه.
فخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردّة- وكان أمر أبو بكر ألّا يستعان بهم- وليخبره أنّه لم يخلّف أحدا أنشط لقتال فارس ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة واستخلف على عسكره بشير بن الخصاصيّة [5] [322] فوجد أبا بكر- رضى الله عنه-
__________
[1] . مط: «متشابه» .
[2] . انظر الطبري (4: 2117) .
[3] . الفلّ: المنهزم، للواحد والجمع. انظر الطبري (4: 18- 2117) .
[4] . أى وقت انهزام هرمز. انظر أيضا الطبري (4: 2119) .
[5] . الأصل: غير واضح. مط: الحصافة. وما أثبتناه يؤيده الطبري (4: 2120) .(1/299)
مريضا مرضه الذي مات فيه، فأخبره الخبر.
فدعا أبو بكر عمر- وكان قد عقد له- فقال:
- «يا عمر، اسمع ما أقول لك، ثم اعمل عليه. إنّى أظنّ أن أموت من يومى هذا- وذلك يوم الإثنين- فإن أنا متّ، فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنّكم مصيبة- وإن عظمت- عن أمر دينكم، ووصية ربّكم، وقد رأيتنى متوفّى [1] رسول الله- صلى الله عليه- وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله. وبالله لو أنّى أنى عن أمر الله لخذلنا ولاضطرمت المدينة نارا. وإن فتح الله على أمرائنا فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنّهم أهله وولاة حدّه، وأهل الضراوة بهم، والجرأة عليهم.» ومات أبو بكر رضى الله عنه مع الليل، وندب عمر الناس مع المثنى. وقال عمر:
- «كأنّ أبا بكر علم أنّه يسوءنى أن أؤمّر خالدا على العراق حين أمرنى بصرف أصحابه، وترك ذكره.» وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد فيما بين خلافة أبى بكر إلى قيام عمر، ورجوع [323] المثنى مع أبى عبيد [2] إلى العراق، وكان جمهور جند العراق بالحيرة بالسيب [3] والغارات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
__________
[1] . أى: حين توفى رسول الله.
[2] . وقد وردت هذه الكنية بكلا الوجهين: ( «أبو عبيد» ، أبو عبيدة» ) في مواضع من النصّ.
[3] . كورة من سواد الكوفة، وهما سيبان: الأعلى والأسفل من طسّوج سورا عند قصر ابن هبيرة (يا) .(1/300)
أسماء كتّاب أبى بكر رضى الله عنه
كتب لأبى بكر رضى الله عنه: عثمان بن عفّان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وحنظلة بن الربيع
.(1/301)
مما حدث في خلافة عمر
عمر يقاسم خالدا ماله
فلمّا استخلف عمر كان أوّل ما تكلّم به عزل خالد بن الوليد. وكتب إلى أبى عبيدة بتأميره عليه، وقال له:
- «أدع خالدا، فإن أكذب نفسه في حديث تكلّم به خالد فهو أمير على ما هو عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير. ثمّ انزع عمامته عن رأسه، وقاسمه ماله نصفين.» [1] فلما ذكر ذلك أبو عبيدة لخالد قال:
- «أنظرنى أستشر في أمرى.» [2] ففعل أبو عبيدة. فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد، وكانت عند الحارث بن هشام، فذكر لها الحديث، فقالت:
- «والله لا يحبّك عمر أبدا، وما يريد إلّا أن تكذب نفسك ثم ينزعك.» فقبّل رأسها وقال:
- «صدقت.» وتمّ على أمره وأبى [324] أن يكذب نفسه.
__________
[1] . تجد الرواية عند الطبري (4: 2148) .
[2] . في الطبري: أنظرنى أستشر أختى في أمرى (4: 2148) .(1/303)
فقام بلال مولى أبى بكر، فقال:
- «ما أمرت به في خالد؟» قال: «أمرت أن أنزع عمامته وأقاسمه ماله.» ففعل، وقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه. فقال أبو عبيدة:
- «إنّ هذا لا يصلح إلّا بهذا.» فقال خالد: «أجل، وما أنا بالذي أعصى أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.» فأخذ نعلا وأحذاه نعلا.
ثم قدم خالد المدينة على عمر. فكان كلّما مرّ بخالد، قال:
- «يا خالد أخرج مال المسلمين من تحت استك.» فيقول: «والله ما عندي مال لهم.» فلمّا أكثر عليه عمر قال له خالد:
- «يا أمير المؤمنين، قيمة ما أصبت في سلطانكم أربعون ألف درهم.» قال عمر: «قد أخذت ذلك منك.» قال: «هو لك» .
قال: «وأخذته.» ولم يكن لخالد مال إلّا عدّة ورقيق. فحسب ذلك، فبلغت ثمانين ألف درهم، فناصفه عمر على ذلك وأعطاه أربعين ألف درهم وأخذ ماله.
فقيل: «يا أمير المؤمنين، لو رددت على خالد ماله.» فقال: «إنّما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أردّه عليه أبدا.» فكان عمر يرى أنّه [325] قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.
من حديث خالد وفتح دمشق
وكان خالد قبل أن ينقضي حرب الروم، على مقدمة خيل أبى عبيدة، وهو(1/304)
الذي فتح دمشق بيت المملكة. وكان من حديثه أن عمر كاتب المسلمين عند ما هزموا الروم باليرموك: أن يقصدوا لدمشق، فانّها مقرّ عزّ الروم، وأن يشغلوا أهل فحل [1] وفلسطين، وأهل حمص بخيل تكون بإزائهم. فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك، وإن تأخّر فتحها حتى تفتح دمشق، فلينصرف أبو عبيدة وخالد الى حمص، وعمرو إلى فلسطين. وكان أبو عبيدة بعث ذا الكلاع ليكون بين دمشق وحمص ردءا. ففعل أبو عبيدة كما أمره، وقدّم خالدا- وهرقل يومئذ بحمص- فحاصر أهل دمشق حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة، وقاتلوهم بالمجانيق وهم معتصمون بالمدينة، يرجون الغياث من هرقل. وجاءت خيول هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها خيول ذى الكلاع وشغلتها عن الناس.
فلمّا أيقن أهل [326] دمشق أنّ الأمداد لا تصل إليهم فشلوا، وطمع فيهم المسلمون، وكانوا يرون أنّها كالغارات قبل ذلك إذا هجم البرد قفل [2] الناس، فسقط النّحم [3] والقوم مقيمون. فعند ذلك انقطع رجاؤهم وندموا على دخول دمشق.
اتّفاق جيّد للمسلمين
وكان من الاتّفاق الجيّد للمسلمين: أن ولد للبطريق الذي على أهل دمشق مولود. فصنع طعاما، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلّا ما كان من خالد، فإنّه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفى عليه
__________
[1] . فحل: موضع بالشام، كانت للمسلمين مع الروم به وقعة، قتل فيها ثمانون ألفا من الروم، وهي مشهورة.
وتسمى «يوم فحل» ، كما تسمّى «يوم الردغة» و «يوم بيسان» (مع) .
[2] . مط: فقتل في الناس. وفي الطبري أيضا: قفل (4: 2152) .
[3] . النحم: السعال. سقط النحم: أقبل. وهذا من قولهم: «سقط الحرّ أو البرد» : أقبل (مو) . وفي الطبري:
النجم (نفس الصفحة) . في مط: فقتل فسقط العجم (!) .(1/305)
شيء من أمورهم، عيونه ذاكية، وجواسيسه مفرّقة، وهو معنىّ بما يليه. وكان كل جانب من المدينة إلى قوم. وكان قد اتّخذ خالد حبالا كهيئة السلاليم وأوهاقا.
فلمّا أمسى ذلك اليوم وعرف خبر القوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم بهم، وتقدّمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدىّ [327] وأمثاله من أصحابه في أوّل نومه وقالوا:
- «إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب.» فلما انتهى إلى الباب الذي يليه هو وأصحابه المتقدمون، رموا بالحبال الشّرف وعلى ظهورهم القرب التي قطعوا بها خندقهم. فلما ثبت لهم وهقان تسلّق فيهما القعقاع ومذعور. ثم لم يدعا أحبولة إلّا أثبتاها والأوهاق بالشّرف، وكان المكان الذي اقتحموا منه أحصن مكان بدمشق، أكثره ماء وأشدّه مدخلا. ولم يبق ممن خرج مع خالد تلك الليلة أحد إلّا رقى أو دنا من الباب، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه وانحدر معهم، وخلّف من يحمى ذلك المكان لمن يرتقى، وأمرهم بالتكبير. فكبّر الذين على السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير فوثبوا فيها. وانتهى خالد إلى أوّل من يليه، فأنامهم، وانحدر إلى الباب، فقتل البوّابين، وثار أهل المدينة، وفزع سائر الناس، فأخذوا مواقفهم ولا يدرون [328] ما الشأن، وتشاغل كل ناحية بما يليهم، وقطع خالد بن الوليد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل، حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلّا أنيم.
ولما شدّ خالد على من يليه، وبلغ منهم ما أراد عنوة، وأرز [1] من أفلت إلى أهل الأبواب التي تلى غيره، دعوا المسلمين إلى الصلح. فأجابوهم وقبلوا منهم ولا يدرون بما كان من خالد. ففتحوا لهم الأبواب وقالوا:
__________
[1] . أرز إلى المكان: لجأ إليه.(1/306)
- «ادخلوا، وامنعونا من أهل ذلك الباب.» فدخل أهل كلّ باب، بصلح [1] من يليهم، ودخل خالد بما يليه عنوة. فالتقى خالد والقوّاد في وسطها، هذا استعراضا وانتهابا، وهذا صلحا وتسكينا. فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح.
ولما فرغ المسلمون من فتح دمشق، ساروا إلى فحل وبيسان، ولاقوا حربا شديدا، وافتتحوها بعد شدائد وبأس كثير.
عمر وانتداب أبى عبيد للخروج إلى فارس
فأمّا خبر فارس، فإن عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة، وقد ذكرنا فيما تقدّم قدوم المثنى على أبى بكر [329] ووصاة [2] أبى بكر عمر به. فلم ينتدب أحد مع المثنى. وذاك أنّ هذا الوجه أعنى فارس كانت أكره الوجوه إلى الناس، لشدّة بأس الفرس وعظم شوكتهم، وقهرهم الأمم.
فكان المثنى يحرّض الناس ويقول:
«أيها الناس، إنّا قد غلبناهم على نصف السواد، وقد ضرى من قبلنا، واجترأنا عليهم، ولنا من بعد ما ينتظره المسلم من الكافر.» وقام عمر في الناس، وخطبهم، وحضّهم وأذكرهم وعد الله في كتابه أن يورثهم الأرض، وقوله عزّ وجلّ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. 9: 33 [3] أين «عباد الله الصالحون؟» [4]
__________
[1] . والعبارة في الطبري: «فدخل أهل كلّ باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة ... » وفي حاشية الطبري: «بصلح ما يليهم.» و «بصلح من يليهم» (4: 2153) .
[2] . مط: وصى. الوصاة: الوصية، جمعها: وصى.
[3] . س 9 التوبة: 33.
[4] . إشارة إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ من بَعْدِ الذِّكْرِ، أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. 21: 105 (س 21 الأنبياء: 105) .(1/307)
فكان أوّل من انتدب أبو عبيد ابن مسعود الثقفي، وقال: «أنا لها.» ثم سليط بن قيس.
فلما اجتمع ذلك البعث قيل لعمر:
- «أمّر عليهم رجلا من المهاجرين والأنصار.» قال: «لا والله لا أفعل. إنّما رفعكم الله بسبقكم إلى الجهاد، وسرعتكم إلى العدو. فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، واثّاقلتم إلى الأرض، فأولى بالرئاسة منكم من سبق إلى الدفع، وأجاب إلى الدعاء. [330] لا والله، لا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم انتدابا.» ثم دعا أبا عبيد وقال له:
- «اسمع من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه-، وأشركهم في الأمر. ولا تسرعنّ حتى يتبيّن. فإنّها الحرب، والحرب لا يصلح لها إلّا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة.» وقال لأبى عبيد:
- «إنّه لم يمنعني أن أؤمّر سليطا إلّا سرعته إلى الحرب، وفي التسرّع إلى الحرب ضياع إلّا عن بيان.»
قدوم أبى عبيد مع المثنّى بعد استخراج الفرس يزدجرد وتتويج بوران رستم
فقدم أبو عبيد ومعه المثنى بن حارثة، وقد استخرج الفرس يزدجرد. وكانت بوران عدلا [1] في ما بينهم، لما افتتنت الفرس وقتل الفرّخزاذ بن البندوان. وكان سياوخش قدم، فقتل آزرمى دخت. وذلك في غيبة المثنى. وكان شغل الفرس
__________
[1] . وفي الطبري (4: 2163) :.. وقد كانت بوران أهدت للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقبل [هديتها] .(1/308)
طول غيبته في ما بينهم. وكانت بوران دعت رستم، وشكت إليه تضعضع فارس، ودعته إلى القيام بأمرهم، وتوّجته.
فقال رستم: «أنا عبد سامع مطيع.» فولّته أمر فارس وحربها، وأمرت فارس أن يسمعوا له ويطيعوا. فقتل رستم سياوخش، ودانت له الفرس، وذلك بعد قدوم أبى عبيد.
ثمّ إنّ عمر [331] لما فصل المثنى وأبا عبيد [1] ، استعجلهما، وقال لهما:
- «النجا، النجا، بمن معكم، فإنّى ممدّكم بالناس.» ثمّ ندب أهل الردّة، وأذن لهم في الغزو، ورمى بهم العراق والشام.
فقدم المثنى قبل أبى عبيد بنصف شهر، ونزل خفّان [2] لئلّا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه. وكتب رستم إلى دهاقين السواد: أن يثوروا بالمسلمين. ودسّ في كل رستاق رجلا ليثور بأهله. وبلغ ذلك المثنى، وعجل جابان، وكان اجتمع إليه بشر كثير، بالنمارق [3] ، ولحق أبو عبيد، فأجمّ الناس، ثم تعبّى: فجعل المثنى على الخيل، وعبّى الميمنة والميسرة. فنزلوا على جابان بالنمارق، فقاتلهم قتالا شديدا، ثمّ انهزم جابان، فأسر. فكان آمنه من أسره، فخلّى عند أبو عبيد. فأخبروه أنه ملك. فأشاروا بقتله. فأبى أبو عبيد، وقال:
- «إنّ المسلمين في التوادّ والتناصر كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلّهم.» قالوا: «إنّه ملك.» قال: «وإن كان، لا أغدر.» فتركه، وقسم الغنائم، وكان فيها مال وعطر [332] كثير، وبعث بالأخماس إلى
__________
[1] . في الأصل: «أبو عبيد» وما أثبتناه يوافق مط.
[2] . خفّان (بالفتح والتشديد) : موضع قرب الكوفة، فوق القادسية (مع) .
[3] . النمارق: موضع قرب الكوفة (مع) .(1/309)
عمر.
السّقاطيّة بكسكر
وثار نرسى بكسكر، وكان رستم أمره بذلك. ونرسى هذا ابن خالة كسرى، وكانت كسكر قطيعة له، وكان النّرسيان له يحميه لا يأكله ولا يشربه ولا يغرسه غير آل كسرى إلّا من أكرموه بشيء منه.
فلما انهزمت الفرس يوم النمارق اجتمعت الفالّة إلى نرسى، وهو في عسكره، ونادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجرّدة:
- «اتّبعوا الفالّة حتى تدخلوهم عسكر نرسى أو تبيدوهم.» ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر- ونرسى يومئذ بأسفل كسكر، والمثنى معه في تعبئته التي قاتل فيها جابان، ونرسى على مجنّبتيه ابنا [1] خاله وهما: ابنا خال كسرى بندويه وتيرويه ابنا بسطام، وأهل باروسما ونهر جوبر والزوابي معه إلى جنده.
وكان قد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان. فبعثوا الجالنوس [2] ، وبلغ ذلك نرسى ومن معه، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر في مكان يدعى السّقاطية، فاقتتلوا في صحارى [3] ملس قتالا [333] شديدا.
ثم انهزم نرسى، وقتل أصحابه، وغلب على عسكره وأرضه، وجمع أبو عبيد
__________
[1] . كذا في مط: ابنا خاله. وانظر أيضا الطبري (4: 2169) .
[2] . في الأصل ومط: فبعثوا الجالنوس. وفي الطبري: فبعثوا إلى الجالنوس.
[3] . في الأصل ومط: «في صحار» فأثبتناها «في صحارى» - كما في الطبري (4: 2169) - بإثبات الياء.
لأن الكلمة ممنوعة من الصرف، فهي مفتوحة في حالة الجر، وغير منوّنة، فلا التقاء لساكنين ولا حذف، ولا يقاس بقولك: «في واد» .(1/310)
الغنائم. وهناك رأى المسلمون من الأطعمة ما لم يروا مثله، وأخذت خزائن نرسى. فلم يكونوا بشيء أفرح منهم بالنّرسيان. لأنّه كان حمى، فاقتسموه، وجعلوا يطعمونه الفلاحين، وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه:
«إنّ الله أطعمنا مطاعم كان الأكاسرة يحمونها، وأحببنا أن تروها، وتشكروا إنعام الله وإفضاله.» وأقام أبو عبيد، وسرّح المثنى إلى باروسما، وعاصما إلى نهر جوبر. فأخربوا، وسبوا، وهرب ذلك الجند إلى الجالنوس. وسار أبو عبيد واستقبله الجالنوس، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين على تعبئته. فهزمهم المسلمون، وهرب الجالنوس، وأقام أبو عبيد [1] قد غلب على تلاك البلاد.
ولما رجع الجالنوس إلى رستم ومن أفلت معه قال رستم:
- «أىّ العجم أشدّ على العرب؟» قال: «بهمن جاذويه.» وهو ذو الحاجب. فوجّهه ومعه فيلة، وردّ معه الجالنوس، وقال له:
- «قدّم الجالنوس، فإن عاد لمثلها [334] فاضرب عنقه.» فأقبل بهمن جاذويه ومعه «درفش كابيان» . وكانت من جلود النمر، عرض ثماني أذرع، وطول اثنى عشر ذراعا. وأقبل أبو عبيد، ونزل المروحة موضع البرج والعاقول.
فبعث إليه بهمن جاذويه: «إمّا أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تدعونا نعبر إليكم.» فقال الناس: «لا تعبر يا با عبيد [2] ! ينهاك عن العبور، قل لهم: فليعبروا!» وكان من أشدّ الناس عليه في ذلك سليط.
__________
[1] . كذا: قد غلب بدون «و» كما في الطبري أيضا (4: 2172) .
[2] . كذا في الأصل ومط، وفي الطبري: يا أبا عبيد (4: 2175) .(1/311)
فلجّ أبو عبيد، وقال: «لا يكونون أجرأ على الموت منّا، بل نعبر إليهم.» فعبروا إليهم في منزل ضيّق المطّرد. فاقتتلوا يوما، حتى إذا كان آخر النهار، واستبطأ رجل من ثقيف الفتح، ألّف بين الناس، فتصافحوا بالسيوف في أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة ولم يبق إلّا الهزيمة. فحمل أبو عبيد على الفيل، وضربه، فخبط الفيل أبا عبيد، وقام عليه، وجال المسلمون جولة، ثم تمّوا [1] عليها وركبهم أهل فارس. [335]
خطأ في الرأى
فكان من خطأ الرأى والعجلة فيه [2] أن بادر رجل من ثقيف الجسر فقطعه.
فانتهى الناس إليه، والسيوف تأخذهم من خلفهم، فتهافتوا في الفرات. فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف بين غريق أو قتيل، وحمى الناس المثنى وعاصم ومذعور، وقد كان سليط- كما قدمنا الخبر عنه- يناشد أبا عبيد مع وجوه الناس، ويقولون [3] :
- «إنّ العرب لم تلق مذ كانوا، مثل جنود فارس، وقد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدّة، بما لم يلقنا به [أحد] قبل، وقد نزلت [4] منزلا لنا فيه مجال ومرجع من فرّة إلى كرّة.» فقال: لا أفعل، جبنت يا سليط.
فقال سليط: «أنا والله أجرأ منك، نفسا، وقد أشرنا عليك بالرأى، فستعلم.»
__________
[1] . كذا في مط والطبري (4: 2175) . وفي الأصل: «نموا» . تمّ على الأمر: استمرّ عليه.
[2] . «فكان ... فيه» سقطت من مط.
[3] . في الطبري (4: 2177) : «.. فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس، وقالوا: إن العرب ... » .
[4] . كذا في الأصل ومط والطبري: وقد نزلت. وربما يكون الصحيح: لو نزلت.(1/312)
رؤيا رأتها امرأة أبى عبيد
وكانت امرأة أبى عبيد رأت رؤيا وهو [1] في المروحة: أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد وابنه وجماعة من أهل بيته.
فأخبرت أبا عبيد، فقال:
- «هذه الشهادة.» وعهد أبو عبيد إلى [336] الناس، فقال:
- «إن قتلت فعلى الناس فلان، فإن قتل فعليكم فلان.» إلى أن أمّر الذين شربوا من الإناء على الولاء.
- ثم قال: «إن قتل أبو القاسم فعليكم المثنى.» ثمّ نهد بالناس وعبر، وعضّلت [2] الأرض بأهلها، والتحمت الحرب. فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل، والخيل عليها التجافيف، والفرسان [3] عليهم الشّعر [4] ، رأت شيئا منكرا لم تر مثله. فجعل المسلمون إذا حملوا لم تقدم خيلهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرّقت بين كراديسهم لا تقوم لها الخيل إلّا على نفار. وخرقهم الفرس بالنشّاب، وعض المسلمين الألم، وترجّل أبو عبيد، وترجّل معه الناس، فصافحوهم بالسيوف، فصارت الفيلة إذا حملت دفعتهم.
فنادى أبو عبيد:
__________
[1] . كذا في الأصل ومط: وهو. وفي الطبري: وهي (4: 2178) .
[2] . في مط: غصّت. عضّلت: غصّت.
[3] . الكلمة غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه من مط ويؤيده الطبري.
[4] . «الشعر» غير مشكولة في الأصل وضبطناها حسب الطبري. وجاء ضبطها في بعض الأصول «الشّعر» أيضا.(1/313)
- «احتوشوا الفيلة وقطّعوا بطنها [1] ، واقلبوا عنها أهلها.» وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلّق ببطانه فقطّعه، ووقع الذين عليه. وفعل القوم مثل ذلك: فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله وقتلوا [337] أصحابه. وأهوى الفيل لأبى عبيد، فنفح مشفره بالسيف، فاتقاه الفيل بيده ووقع، فخبطه الفيل. وأخذ اللواء، الذي كان أمّره بعده. فقاتل الفيل حتى تنحّى عنه، فاجترّه إلى المسلمين، وأحرزوا شلوه. ثمّ تجرثم الفيل فاتّقاه بيده، دأب أبى عبيد، وخبطه وقام عليه.
وتتابع سبعة من ثقيف كلّهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت. ثمّ أخذ اللواء المثنى وهرب عنه الناس.
فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفىّ ما يصنع الناس، بادرهم الجسر، فقطعه. فلما توافاه الناس تهافتوا في الفرات، فغرق من لم يصبر، وقتل من صبر. وهذا الخبر تصديق لدريد حيث قال: «إنّ المنهزم لا يردّه شيء.» ونادى:
- «أيّها الناس! أنا دونكم، فاعبروا.» وعقد لهم الجسر وقال:
- «لا تدهشوا اعبروا على هينتكم، فإنّا لن ندع الموضع ولن نزايل حتى نراكم من ذاك الجانب.» وأتى بعبد الله بن مرثد، وكان يمنع الناس من العبور. فضربه المثنى وقال:
- «ما حملك على ما فعلت؟» قال: «ليقاتلوا.» فلمّا ضمّت السفن، وعبر الناس كان آخر [338] من قتل عند الجسر سليط بن قيس. وعبر المثنى، وحمى جانبه، واضطرب عسكره، وارفضّ عنه أهل المدينة، حتى لحقوا بالمدينة، وتركها بعضهم فنزلوا البوادي، وبقي المثنى في قلّة.
__________
[1] . وفي بعض الأصول: وضنها. والبطن جمع مفرده: البطان: حزام يشدّ على البطن. وأما الوضن فمفرده:
الوضين: البطان العريض المنسوج من سيور أو شعر، وقيل: إنّ الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج.(1/314)
ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم لاعتراض الفرات، وقطع الجسر.
وهلك يومئذ من المسلمين أربعة آلاف من بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي مع المثنى ثلاثة آلاف، فكأنّ الجميع كانوا تسعة آلاف. وجرح المثنى جراحة شديدة، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهنّ الرمح [1] .
ولما بلغ عمر ما صنعه أهل المدينة، وأخبر عمّن سار في البلاد استحياء من الهزيمة اشتدّ عليه، ورحمهم، وقال:
«اللهم إنّ كلّ مسلم في حلّ منّى، أنا فئة لكل مسلم، يرحم الله أبا عبيد، لو انحاز إلىّ لكنت فئة له.» فبينا ذو الحاجب يروم أن يعبر إلى المسلمين أتاه الخبر باضطراب الفرس.
فرجع بعد أن ارفضّ عنه جنده، وأتاه الخبر أنّ الناس في المدائن ثاروا برستم، ونقضوا ما بينهم وبينه، وصاروا فرقتين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان. [339] ثمّ إنّ جابان ومردانشاه خرجا حتى أخذا بالطريق وهم يرون أنّهم سيرفضّون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس.
وبلغ المثنى فعلة جابان ومردانشاه. فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج في جريدة خيل يريدهما وظنّا أنه هارب، فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس [2] على أصحابهما، فأتوه بهم أسرى، وعقد المثنى لهم بها ذمّة وقدّمهما وضرب أعناقهما وأعناق الأسرى، ثم رجع إلى عسكره. وكان جرير بن عبد الله البجلي يسأل قديما في بجيلة أن تلتقط من القبائل، وكان النبىّ- صلى الله عليه- وعده ذلك، فلمّا ولى عمر دعاه بالبيّنة، فأقامها. فكتب له إلى عمّاله في العرب
__________
[1] . انظر الطبري 4: 2180.
[2] . أليس، مصغّر على وزن فليس: موضع في أول أرض العراق من ناحية البادية وقيل: قرية من قرى الأنبار وهي بتشديد اللام (مع) ، وانظر الطبري (4: 2182) .(1/315)
كلّها ممن كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام بغير ذلك فأخرجوه إلى جرير. فلما أعطى جرير حاجته في استخراج بجيلة من الناس وجمعهم، أخرجوا إلى المثنى مددا له. وكتب عمر يستنفر الناس من أهل الردّة وغيرهم، فلم يرد عليه أحد إلّا رمى به المثنى. [340]
يوم البويب ويسمّى يوم الأعشار
وبعث المثنى بعد الجسر في من يليه من الممدّين، فتوافوا إليه في جمع عظيم.
وبلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به، وبما ينتظرون من الأمداد، فاجتمعا على أن يبعثا بمهران الهمذاني حتى يريا من رأيهما ويجتمع أمرهما. فخرج مهران في الخيول، وأمره [1] بالحيرة. وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بين القادسية وخفّان في الذين أمدّوه من العرب. فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير وعصمة، وإلى كلّ قائد أظلّه أنّه:
- «جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجّلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.» [2] وسلك المثنى وسط السواد، وسلك جرير على الجوف ومن كان معه، حتى انتهوا إلى المثنى وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، وكان عمر عهد إليهم ألّا يعبروا بحرا ولا جسرا إلّا بعد ظفر. فاجتمعوا بالبويب، واجتمع العسكر على شاطئ البويب الشرقىّ. وكان البويب مغيضا للفرات أيام المدود أزمان فارس يصبّ [3] في الجوف [341] .
__________
[1] . في الطبري (4: 2184) : فأمراه. وفي حواشيه: وأمره، وأمراؤه.
[2] . والبويب نهر بالعراق يأخذ من الفرات، وقد يسمى يوم مهران، ويوم الأعشار. كان على المسلمين المثنى بن حارثة، وعلى الفرس مهران الهمداني وذلك سنة 13 هـ.
[3] . مط والطبري أيضا (4: 2187) : يصبّ.(1/316)
وقدم على عمر غزاة بنى كنانة، والأزد، فأمّر على بنى كنانة غالب بن عبد الله، وعلى الأزد عرفجة بن هرثمة، وأمرهم بالعراق. فقدموا على المثنى، وقدم عليه هلال بن علّفة فيما اجتمع إليه من الرياب [1] . فأمره عمر وسرّحه، فقدم على المثنّى، وكذلك فعل بغزاة كلّ قبيلة من جشم وخثعم وبنى حنظلة وبنى ضبّة وغيرهم. فاجتمعوا عند المثنى.
واجتمع رستم والفيرزان معا، واستأذنا بوران- وكذلك كانا يعملان إذا أرادا شيئا استأذنا من حجّابها فكلّماها به- فأخبراها بعدد الجيش وكثرة الذين ينفذون مع مهران، وكانت فارس لا تكثر البعوث.
فقالت بوران: «ما بال فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟» قالا: «إنّ الهيبة كانت قبل اليوم مع عدوّنا وإنّها اليوم فينا.» فعرفت رأيهم واستصوبته.
ولما نزل مهران في جنده وراء الفرات- والفرات بينهما- قال:
- «إمّا أن تعبروا إلينا، وإمّا أن نعبر إليكم.» فقال المسلمون: «اعبروا إلينا.» فعبروا، وأقبلوا إلى المسلمين [342] في صفوف ثلاثة مع كلّ صفّ فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا لهم زجل. فقال المثنى للمسلمين:
- «إنّ هذا الزجل وجل!» قالوا: «أجل.»
__________
[1] . مط: الرياب. وفي الطبري أيضا الرباب. وكان مجراه إلى موضع دار صالح بن على بالكوفة، ومصبه في الجوف العتيق، وكان مغيضا للفرات أيام المدود ليزيدوا به الجوف تحصينا، وقد كانوا فعلوا ذلك الجوف حتى كانت السفن ترفأ إلى الجوف (يا) .(1/317)
قال: «فالزموا الصمت وائتمروا [1] همسا.» فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بنى سليم اليوم. فلما دنوا زحفوا، وركب المثنى فرسه الشموس، وكان لا يركبه إلّا إذا قاتل. ودعى الشموس [2] للين عريكته وطهارته. فوقف على الرايات يحضّهم ويذكر أحسن ما فيهم ويقول:
- «إنى أرجو ألّا يؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله ما يسرّنى اليوم لنفسي شيء إلّا وهو يسرّنى لعامّتكم.» فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى بالقول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا.
ثم قال:
- «إنى مكبّر ثلاثا، فتهيّأوا، ثم احملوا مع الرابعة.» فلما كبّروا أوّل تكبيرة أعجلهم فارس، فعاجلوهم وخالطوهم مع أوّل تكبيرة.
وركدت الحرب مليّا. فرأى المثنى خللا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم:
- «الأمير يقرأ [343] السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم.» فقالوا: «نعم.» واعتدلوا.
وكانوا يرونه قبل ذلك وهو يمدّ بلحيته لما يرى منهم! فلمّا أعتبوه رأوه يضحك فرحا.
فلمّا طال القتال، نظر المثنى إلى نفر من الثعلبيّين نصارى وفيهم جلّاب خيل قدموا مع أنس بن هليل. فقال:
__________
[1] . مط: واهتمروا. في الأصل: واتمروا. وفي الطبري (4: 2190) : ائتمروا، كما أثبتناه.
[2] . والمعروف أنّ «الشموس» معرّب أصله الفارسي: «چموش» ومعناه في اللغتين: الفرس الذي لا يمكّن أحدا من ظهره، ولا من الإسراج والإلجام، ولا يكاد يستقرّ (حب، قب) . فكيف يمكن القول: دعى الشموس «للين عريكته» !(1/318)
- «يا أنس، إنّك امرؤ عربىّ وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران، فاحمل معى.» وقال لابن [مردى] [1] الفهر مثل ذلك. فأجابوه إليه. فحمل المثنى على مهران حتى أزاله، فدخل في ميمنته. ثمّ خالطوهم واجتمع القلبان، وثار الغبار والمجنّبات تقتتل، لا يفرغون لنصر أمرائهم، ولا يستطيعون ذلك، لا المشركون ولا المسلمون. وقتل غلام تغلبىّ نصراني مهران. ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر وقد فنى قلب [2] المشركين. فأما المجنّبات فهي بحالها، فجعل المثنى يدعو لهم، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول:
- «المثنى [يقول] [3] : عادتكم في أمثالهم!» حتى هزموهم. فسابقهم المثنّى إلى الجسر، فسبقهم وأخذ الأعاجم [344] يفترقون بشاطئ الفرات مصعدين ومصوّبين، واعتورتهم خيول المسلمين فجعلهم جثاء.
فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمّة منها، كانوا يحرزونها [4] مائة ألف، وما عفى عليها إلّا ادّفان البيوت [5] .
فيحكى أهل تلك الناحية: أنهم كانوا يأتون البويب، فيرون في ما بين موضع السكون اليوم وبنى سليم عظاما بيضا تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم، يعتبر بها.
وسمّى يوم البويب يوم الأعشار: أحصى مائة رجل قتل كل واحد منهم عشرة يومئذ.
__________
[1] . مط: «مودن» والأصل غير واضح (مودى؟ نودى؟ نوبن؟) وما أثبتناه من الطبري (4: 2192) .
[2] . مط: غالب المشركين.
[3] . ما بين [] تكملة زيدت عن الطبري (4: 2194) .
[4] . حرزه: قدّره بالحدس، وخمّنه. ليس في مط: «كانوا يحرزونها مائة ألف» .
[5] . كذا في الأصل. في مط: ادفان البويب. وفي الطبري: وما عفى عليها حتى دفنها ادفان البيوت (4:
2193) وفي موطن آخر: وكانت وقعة البويب رمضان سنة ثلاث عشر، قتل الله عليه مهران وجيشه، وأفعموا جنبتي البويب عظاما حتى استوى وما عفّى عليها إلّا التراب أزمان الفتنة. (4: 2199) .(1/319)
وندم المثنى على أخذه الجسر، وقال:
- «قد عجزت عجزة وقى الله شرّها بمسابقتى القوم إلى الجسر حتى أحرجتهم وإنّى غير عائد. فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس، فإنّها كانت زلّة، ولا ينبغي إحراج أحد إلّا من لا يقوى على امتناع.» وكان المثنى أصاب نزل مهران غنما، وبقرا، ودقيقا، فبعثوا إلى عيالات الناس، وكانوا خلّفوهنّ بالقوادس مع عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة. فلما رفعوا للنساء [345] فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة. فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد. فقال عمرو:
- «هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش أن يكنّ.» وبشّرهنّ بالفلح [1] .
وعقد المثنى الجسر، وسرّح في طلب المنهزمين أصحاب الجسر، فأصابوا غنائم كثيرة وتبعوهم. وكتب القوّاد والرؤساء منهم إلى المثنى:
- «إنّ الله سلّم ووجّه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، أفتأذن لنا في الإقدام.» فأذن لهم. فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصّن منهم أهل ساباط، واستمكنوا من الغارة على من بينهم وبين دجلة، ومخروها لا يخافون كيدا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم، واعتصموا بساباط.
المثنّى يغير على قرية بغداد غارة
ثمّ إنّ المثنى بلغه خبر قرية [2] يأتيها تجّار مدائن كسرى والسواد، ويجتمعون بها في كل سنة مرّة ومعهم فيها من الأموال كبيت المال، وتلك أيّام سوقهم.
فاستدعى المثنى من وثق به من أهل الحيرة فاستشاره.
__________
[1] . مط: الفلاح. والطبري: الفتح (4: 2197) .
[2] . أنظر الطبري 4: 2203.(1/320)
فقال له:
- «إن أنت قدرت أن تغير عليهم وهم لا يشعرون، أصبت فيها مالا فيه غنى المسلمين دهرهم وقووا على أعدائهم أبدا.» قال: «وكم بينها وبين مدائن كسرى؟» [346] قال: «بعض يوم أو عامّة يوم.» قال: «فكيف لى بها؟» قالوا: نشير عليك أن تأخذ طريق البرّ حتى تنتهي إلى الخنافس، فإنّ أهل الأنبار يضربون إليها ويخبرونك فيأمنون، وتأخذ دهاقين الأنبار بالأدلّاء، وتسير سواد ليلتك حتى تأتيهم صبحا، فتصبّحهم غارة.» ففعل المثنى ذلك، فلما انتهى إلى الأنبار، تحصّن منه صاحبها وهو لا يدرى من هو، وذلك ليلا. فلمّا عرفه نزل إليه، فأطعمه المثنى واستكتمه وسأله الأدلّاء إلى بغداد حتى يعبر منها إلى المدائن.
قال: «أنا أجيء معك.» قال: لا أريدك معى، ابعث معى من هو أدلّ منك.» فزوّدهم الأطعمة والأعلاف، وبعث معهم الأدلّاء، فساروا.
فلما كانوا بالنصف، قال المثنى:
- «كم بيني وبين هذه القرية بغداد؟» قال: «خمسة فراسخ.» فندب من أصحابه جماعة للحرس، وبعث طلائع فحسبوا الناس لئلّا يسبق الخبر وقال:
- «أيّها الناس، أطعموا وتوضّئوا وتهيّئوا.» ثم سرى آخر الليل فصبّحهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فأخذوا ما شاءوا.(1/321)
وقال المثنى:
- «لا تأخذوا إلّا الذهب [347] والفضة والحرّ من كل شيء.» ثمّ انكفأ راجعا حتى نزل بنهر السّيلحين [1] بالأنبار، فسمع همسا في ما بين الناس:
- «ما أسرع القوم في طلبنا.» فخطبهم وقال:
«أيها الناس، احمدوا الله وتناجوا بالبرّ والتقوى، ولا تناجوا بالإثم والعدوان، [2] انظروا في الأمور وقدّروها، ثم تكلّموا. ما بلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم إنّ للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل. ولو طلبكم المحامير من رأى العين ما أدركوكم وأنتم على العراب، حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم، ولو أدركوكم لقاتلتهم ورجوت النصر والأجر. فثقوا بالله، وأحسنوا به الظنّ، فقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة وهم أعدّ منكم، وسأخبركم عنّى أنّ أبا بكر أوصانا أن نقلّل العرجة ونسرع الكرّة في الغارات» .
ثمّ أقبل بهم ومعهم الأدلّاء حتى انتهى بهم إلى الأنبار.
ثمّ إنّ المثنى أغار على حىّ من تغلب على دجلة، وعلى قوم كانوا بتكريت، وأصابوا ما شاءوا [348] من النعم.
__________
[1] . السيلحين: طسوج قرب بغداد بينه وبينها ثلاثة فراسخ. وقرية وراء عقرقوف تسميها العامة «الصالحين» وهي التي بات بها المثنى بن حارثة، وصبح فأغار على سوق بغداد (مع) .
[2] . انظر: س 58 المجادلة: 9.(1/322)
القادسية وأيّامها [1]
فقال أهل فارس لرستم والفيرزان:
- «إنّه لم يبرح منكما الاختلاف حتى أوهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم، ولم يبلغ من خطركما أن نقرّكما على هذا الرأى وأن تعرّضا فارس للهلكة. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلّا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأنّ بكما قبل أن يشمت شامت، ونشفينّ نفوسنا منكما.»
تمليك يزدجرد
فاجتمع رستم والفيرزان عند بوران وقالا [2] لها:
- «اكتبى لنا نساء كسرى وسراريّه.» - ففعلت.
فأرسلوا في طلبهنّ، فلم تبق امرأة إلّا أتوا بها، فأخذوهنّ بالرجال، ووضعوا عليهنّ العذاب يستدلّون على ذكر من أبناء كسرى. فلم يوجد عندهنّ أحد.
فقالت إحداهنّ:
- «لم يبق إلّا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن أبرويز، وأمّه من أهل بادوريا [3] .»
__________
[1] . انظر: الطبري (4: 2208) . أيام القادسية أربعة: الأول يوم أرماث، والثاني يوم أغواث، والثالث يوم عماس، والرابع: يوم القادسية (يا) والليلة التي تلت يوم أرماث تسمى ليلة الهدأة، والليلة التي تلت يوم أغواث تسمى ليلة السواد عند المؤرخين كما سيأتي ذكره.
[2] . وفي الأصل ومط: قالوا.
[3] . بادريا (بادريا، بادورياء) : طسّوج من كورة الاستان بالجانب الغربي من بغداد (يا) .(1/323)
فأرسلوا إليها، فأخذوها به، وكانت قد أنزلته [في أيام شيرى] [1] حين جمعهنّ في القصر الأبيض، وقتل الذكور إلى أخواله وكانت واعدتهم، ثم دلّته إليهم في زبيل [2] . فلما أخذت أمّه به، دلّتهم عليه، فأرسلوا، فجاؤوا به، فملّكوه وهو ابن إحدى [349] وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأنّت فارس، واستوسقوا، وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته. فسمّى الجنود لكلّ مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر. فسمّى جند الحيرة وجند الأنبار والأبلّة والمسالح، وأظهروا الجدّ والنصيحة.
وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون منهم. فلم يصل الكتاب إلى عمر، حتى كفر أهل السواد كلهم: من كان له عهد ومن لم يكن له عهد.
فكتب عمر إليهم:
- «فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم، وتفرّقوا في المياه التي تليهم على حدود أرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحدا ولا مضر ولا حلفاءهم من أهل النجدات، ولا فارسا، إلّا اجتلبتموه، فإن جاء طائعا، وإلّا حشرتموه. احملوا العرب على الجدّ إذا جدّ العجم.» فنزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالحلّ، وبشراف إلى غضىّ- وغضىّ جبل [3] البصرة- فكان في أمواه
__________
[1] . تكملة زيدت عن الطبري (4: 2211) .
[2] . في الطبري ومط: «زبيل. وفي بعض الأصول: «زنبيل» . والزبيل بمعنى الزنبيل.
[3] . مط: حدّ البصرة. الطبري: حيال البصرة. وفي حواشي الطبري: جبل البصرة، جبال البصرة (4:
2211) .(1/324)
العرب [1] من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويعين بعضهم بعضا إن كان كون. وذلك في ذى العقدة من سنة ثلاث عشرة [350] للهجرة.
وكتب عمر إلى عمّال العرب على الكور والقبائل أن:
- «لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة إلّا انتخبتموه، ثم وجّهتموهم إلىّ، والعجل العجل [2] .» فمضت الرسل، ووافاه هذا الضرب من القبائل، وأخبروه عمّن وراءهم بالحثّ والجدّ.
وخرج عمر في أول يوم من المحرّم سنة أربع عشرة حتى نزل ما يدعى صرارا، فعسكر به ولا يدرى الناس ما يريد. وكان عثمان أجرأ عليه، فقال له:
- «ما بلغك؟ ما الذي تريد؟» فنادى: «الصلوة جامعة.» فاجتمع إليه الناس، فأخبرهم الخبر، ثمّ نظر ما يقول الناس.
فقام العامّة: سر وسر بنا معك!» فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعه حتى يخرجهم منه في رفق، فقال:
- «استعدّوا، فانّى سائر، إلّا أن يجيء رأى هو أمثل من ذلك.» ثم جمع أهل الرأى ووجوه أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- فقال:
- «أحضرونى الرأى.» فأجمع ملأهم أن يقيم، ويبعث رجلا من أصحاب رسول الله، ويرميه بالجنود.
فنادى عمر: «الصلوة جامعة.»
__________
[1] . مط: أقواه العرب! الطبري: أمواه العراق، وفي حواشيه: أمواه العرب (4: 2211) .
[2] . هذا الكتاب «أول ما عمل به عمر حين بلغه أنّ فارس قد ملّكوا يزدجرد» (الطبري 4: 2211) .(1/325)
فاجتمع إليه الناس. فأرسل إلى علىّ، وكان استخلفه [351] على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة، وكان على مقدمته، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمان بن عوف، وكانا في المجنّبتين.
ثم قام فيهم، فقال:
- «إنّ الله جمع على الإسلام أهله، فألّف بين القلوب وجعلهم فيه إخوانا، فالمسلمون فيما بينهم كالجسد، لا يخلو منه شيء مما أصاب غيره، وكذلك يحقّ عليهم أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم.
فالناس تبع لمن قام لهذا الأمر ما اجتمعوا عليه، ورضوا به، وما رءاه أولوا الرأى لزم الناس، وكانوا له تبعا، فمن قام بهذا الأمر فهو تبع لأولى الرأى. أيّها الناس! إنّى كنت كرجل منكم، حتى صرفني ذوو الرأى عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا وقد أحضرت هذا الأمر من قدّمت ومن خلّفت.» فكان طلحة ممن تابع وعبد الرحمان ممن نهاه وقال:
- «بأبى أنت وأمّى ... » قال عبد الرحمان: فما فديت أحدا بأبى وأمّى بعد النبي صلّى الله عليه غيره [1] ، وقلت:
- «.. اجعل عجزها بى [2] ، وأقم، وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك فإن يهزم جيشك [352] فليس كهزيمتك، وإنّك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت على المسلمين.»
__________
[1] . انظر الطبري (4: 2214) .
[2] . كذا في مط والطبري. وفي حواشيه: «لى» (نفس الصفحة) .(1/326)
قال عمر:
- «فأشيروا علىّ برجل!» قال عبد الرحمان: «وجدته.» وكان ورد كتاب سعد بن أبى وقاص وهم في تلك الحال، جوابا عن كتاب عمر:
- «إنّى قد انتخبت لك ألف فارس [1] كامل كلّهم له نجدة ورأى وصاحب حيطة يحوط حريم قومه ويمنع ذمارهم، إليه [2] انتهت أحسابهم ورأيهم فشأنك بهم.» ووافق كتابه مشورتهم.
وقال عبد الرحمان: «وجدته لك [3] .» قال: «من؟» قال: «الأسد عاديا، سعد بن مالك.» فأرسل إليه، فقدم، فأمّره على حرب العراق، وأوصاه، وقال:
- «يا سعد سعد بنى وهيب! لا يغرّنّك من الله أن قيل: خال رسول الله! ليس بينه وبين أحد نسب إلّا طاعته. فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء: الله ربّهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله- صلى الله عليه- منذ بعث إلى أن فارقنا- عليه، فالزمه، فإنّه الأمر.
__________
[1] . الطبري: ألف فارس مؤد (4: 2216) .
[2] . كذا في الأصل ومط: إليه. وفي الطبري (4: 2216) : إليهم.
[3] . الطبري: فقالوا: قد وجدت بدون «لك» .(1/327)
[353] [1] هذه [2] عظتى إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.» فسار سعد، ومات المثنى من انتقاض جراحته قبل أن يصل إليه سعد. وذاك أنّ جرحه كان ينتقض ويبرأ حتى مات. وقدم سعد، فأغار في ما يليه، ولم يزل كذلك، إلى أن ألحّ يزدجرد على رستم، وقال:
- «لا بدّ أن تلى حرب العرب بنفسك.» فخرج رستم في العدّة والعديد والخيول والفيول، وراسله سعد بالمغيرة بن شعبة وغيره من دهاة العرب وأصحابه من ذوى الهيئات والآراء، فجرت بينهم مخاطبات، لا تجربة فيها ولا فائدة في المستأنف، فتركنا ذكرها.
إلى أن صافّهم رستم وعبر إليهم. وكان في القلب الذي فيه رستم ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال، وفي المجنّبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.
تدبيره دبّره يزدجرد للإسراع في تسلّم أنباء الحرب
وكان يزدجرد وضع بينه وبين رستم رجالا: فأوّلهم على باب إيوانه والآخر [354] [3] على دعوة منه، بحيث يسمعه، والآخر كذلك إلى أن انتظم بينه وبين
__________
[1] . حصل تقديم وتأخير في الأصل بين الصحفتين 353 و 354 فصححناه. أنظر الطبري 4: 2217، السطر الثاني.
[2] . كذا في الأصل ومط: «بعده» . وفي الطبري: «هذه» كما هو الصحيح.
[3] . أنظر: الحاشية الخاصة بالصفحة 353 من الأصل.(1/328)
رستم بالرجال. فلما نزل رستم بساباط قال الرجل الذي بساباط: «نزل!» وقال الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يقوله من يلي الإيوان ويسمعه يزدجرد. فكان كلّما ارتحل، أو نزل، أو حدث أمر، جرى الأمر فيه على ما شرحته، وترك البرد.
وكان ذلك شأنه إلى أن انقضى الحرب.
وكان بسعد حبون [1] وخراجات يومئذ لا يستطيع أن يركب. فإنّما هو على وجهه، في صدره وسادة وهو مكبّ عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرّقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة، وكان الصف إلى جانب القصر.
فشغّب قوم من وجوه الناس على سعد، ولم يرضوا بما صنع خالد. فهمّ بهم سعد وشتمهم. ثم خطبهم، واعتذر إليهم، فرضوا، وأمر الرؤساء حتى خطبوا في من يلونهم، ففعلوا، وتحاضّوا وتواصوا.
فأما الفرس فإنّهم تعاهدوا، وتواصوا، واقترنوا بالسلاسل. فكان المقترنون ثلاثين ألفا، وجملتهم مائة وعشرون ألفا، وثلاثون فيلا عليها المقاتلة، [355] وفيلة عليها الملوك وقوف لا تقاتل.
يوم أرماث
وأمر سعد فقرئ سورة الجهاد. وقال سعد:
- «إنى مكبّر، فإذا سمعتم التكبيرة الأولى فشدّوا شسوع نعالكم، فإذا كبّرت الثانية فتهيّأوا، فإذا كبّرت الثالثة فشدّوا النواجذ على الأضراس واحملوا.» فلمّا فرغ القرّاء، كبّر سعد وكبّر الناس، ثم ثنّى فتهيّأ الناس، ثمّ ثلّث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال.
__________
[1] . مط: «جنون» - وهو خطأ- و «جراحات» . وفي حواشي الطبري: حبوب، جنون! (4: 2287) .
والحبون جمع مفرده الحبن: الدمّلة المقيّحة. والخراجات ومفردها الخراجة: كل ما يخرج بالبدن كالدّمّل.(1/329)
وخرج أمثالهم من أهل فارس، فاعتوروا الضرب والطعن. وخرج هرمز إلى غالب بن عبد الله- وكان هرمز من ملوك الباب متوّجا- فأسره غالب أسرا، وجاء به إلى سعد، فأدخل، وانصرف إلى المطاردة. فبينا الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة، قام صاحب رجّالة بنى نهد، فقال:
- «يا بنى نهد، إنّما سمّيتم نهدا لتفعلوا.» فبعث إليه سعد خالد بن عرفطة:
- «والله لتكفّنّ، أو لأوّلينّ عملك غيرك.» ولما تطاردت الفرسان خرج رجل ينادى:
- «مرد ومرد» . [1] فانتدب له عمرو بن معدى كرب، فرماه الفارسي بنشّابة، فما أخطأت سئة [2] قوسه- وكان متنكّبها- فحمل عليه [356] عمرو، فاعتنقه، ثم أخذ منطقته فاحتمله فوضعه بين يديه. ثم جاء به حتى إذا دنا منّا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه.
ثم قال: «أنا هكذا، فاصنعوا بهم، إنّما الفارسي إذا فقد قوسه تيس!» فقلنا: «يا با ثور [3] من يستطيع أن يصنع كما تصنع؟» وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فبارزه، فما لبّثه طليحة أن قتله. وقام الأشعث بن قيس، فقال:
- «يا معشر كندة! لله درّ بنى أسد، أىّ فرى يفرون [4] ، وأىّ هذّ يهذّون!» وكذلك كانوا، لأنّهم حبسوا الفيلة بالضرب والطعن.
__________
[1] . كذا في مط والطبري. مرد: رجل. أى: رجل ورجل [يتبارزان] .
[2] . الأصل غير واضح. وفي مط: سئة. والعبارة في الطبري (5: 2297) : فما أخطأت «سية» قوسه «وهو» متنكبها. سئة القوس وسؤتها: طرفها المعطوف المعرقب (لع: «سأى» .)
[3] . أى: يا أبا ثور.
[4] . مط: أىّ فرّ يفرّون، وأىّ هدّ يهدّون.(1/330)
- «.. يا معشر كندة! أراكم تنتظرون من يكفيكم الناس. العرب منذ اليوم يقاتلون وأنتم جثاة على الرّكب تنتظرون.» فوثب إليه عدّة، وقالوا:
- «عثر جدّك إنّك لتؤبّخنا [1] ونحن أحسن الناس موقفا، ها نحن معك.» فنهد ونهدوا فأزالوا من بإزائهم. ولما رأى فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد، رموهم بحدّهم كلّه، وبدروا الشدّة على المسلمين عليهم ذو الحاجب والجالنوس والمسلمون ينتظرون [357] التكبيرة الرابعة من سعد. فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم الفيلة قد ثبتوا لهم. وكبّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر، فقال:
- «يا معشر بنى تميم. ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما لكم لهذه الفيلة من حيلة؟» قالوا: «بلى والله.» ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين أهل ثقافة، فقال لهم:
- «يا معشر الرماة، ذبّوا ركبان الفيلة بالنّبل.» وقال: «يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة، فقطعوا وضنها.» وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد. وأقدم أصحاب عاصم بن عمرو على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وأذناب توابيتها، فقطّعوا وضنها وارتفعت عن ظهورها. فما بقي لهم يومئذ فيل إلّا عرّى وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، فردّوا عنهم فارس إلى مواقفهم، ولم يزالوا [358]
__________
[1] . في الطبري (5: 2300) ، عثّر الله جدّك، إنّك لتؤيسنا. وفي حواشي الطبري: لتويسنا، لتوبسنا، لبؤسنا.(1/331)
يقتتلون حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهب هدأة من الليل. ثم رجع هؤلاء ورجع هؤلاء، وأصيب في أسد تلك العشيّة خمسمائة، وكانوا ردءا للناس. وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم. فهذا يومها الأوّل وهو يوم أرماث.
يوم أغواث [1]
ولما أصبح القوم على تعبئة من غد وقفوا. ووكّل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب، وإسلام الرثيث إلى النساء، يقمن عليهم، والناس ينتظرون بالجملة نقل الرثيث. فلمّا استقلّت بهم الإبل، وتوجّهت بهم نحو العذيب، طلعت بوادي الخيل من الشام، الذين صرفهم عمر بعد دمشق إلى العراق. وكان أبو عبيدة، لما قدم عليه كتاب عمر: أن يصرف أهل العراق أصحاب خالد بن الوليد ولم يذكر خالدا، ضنّ بخالد، واحتبسه عنده، وسرّح الجيش- وهم ستّة آلاف-[359] وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فعجّله أمامه، فانجذب القعقاع وطوى وتعجّل، فتقدّم على الناس يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه وهم ألف، أن يتقطّعوا أعشارا: فكلما بلغ عشرة مدى البصر، سرّحوا في آثارهم عشرة. فتقدّم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس، فسلّم عليهم، وبشّرهم بالجنود، وقال:
- «أيها الناس! إنّى قد جئتكم في قوم والله لو كانوا بمكانكم ثمّ أحسّوكم، لحسدوكم بحظوتها، وحالوا أن يظفروا [2] بها دونكم. فاصنعوا كما أصنع.» فنادى: «من يبارز؟» فسكن الناس، وتذاكروا قول أبى بكر فيه: «لا يهزم جيش فيه مثل هذا.» فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع:
__________
[1] . أنظر الطبري 5: 2303.
[2] . في الطبري: أن يطيروا.(1/332)
- «من أنت؟» قال: «أنا بهمن جاذويه.» فنادى: «يا لثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب الجسر.» ثم اجتلدا، فقتله القعقاع.
وجعلت خيل القعقاع ترد قطعا إلى الليل وينشط الناس، فكأن لم يكن بالأمس [360] مصيبة، وكأنّها استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع، وانكسرت الفرس لذلك.
ونادى القعقاع أيضا: «من ينازل؟» فخرج إليه رجلان أحدهما الفيرزان والآخر البندوان. فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، فبادر القعقاع الفيرزان فضربه، فإذا رأسه مطروح، وبادر ابن ظبيان البندوان فضربه، فإذا رأسه كذلك، وتورّدهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول:
- «يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنّما يحصد الناس بها.» فتواصى الناس واجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئا مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، لأنّ توابيتها تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا، فلم ترتفع حتى كان من الغد. وفي هذا اليوم حمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة من الرجّالة على إبل قد ألبسوها، فهي مجلّلة مبرقعة، [361] وأطافت بهم خيولهم فحموهم، وأمرهم أن يحملوها على خيلهم بين الصفّين يتشبّهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث. فجعلت الإبل لا تصمد لقليل ولا كثير إلّا نفرت خيلهم، وركبتهم سيوف [1] المسلمين. فلمّا رأوا ذلك استنّوا بهم، فلقى أهل
__________
[1] . مط: خيول المسلمين. الطبري: إلّا نفرت «بهم» خيلهم وركبتهم «خيول» المسلمين (5: 2309) .(1/333)
فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وجعل رجل من بنى تميم يتعرّض للشهادة، فأبطأت عليه حتى تعرّض لرستم يريده، فأصيب دونه.
وخرج رجل من فارس ينادى: «من يبارز؟» فبرز له علباء [1] ، فأسجده ونفحه الفارسي فأمعاه، فلم يستطع القيام، فعالجها، فلم يتأتّ له حتى مرّ به رجل من المسلمين، فقال:
- «يا هذا أعنّى على بطني.» فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صفّ فارس ما يلتفت على المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صفّ فارس، وقال:
أرجو بها من ربّنا ثوابا ... قد كنت [ممّن] [2] أحسن الضّرابا [362]
وخرج رجل من أهل فارس ينادى [3] : «من يبارز؟» فبرز له الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر من فارس فقتله، ثم برز آخر فقتله، فأحاطت به فوارس منهم، فصرعوه، وندر سلاحه عنه، فأخذوه، فجعل يغبّر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه وقال:
[و] [4] إن تأخذوا بزّى، فإنّى مجرّب [5] ... خروج من الغمّاء، محتضر النّصر
__________
[1] . الطبري: علباء بن جحش العجلى فأسحره فنفحه الفارسي.. (5: 2310) .
[2] . الأصل «كنت مما» ، مط: «كنت ما» وما أثبتناه من الطبري (نفس الصفحة) .
[3] . الأصل: فينادى. فحذفنا الفاء كما في مط.
[4] . الأصل ومط بدون «و» فزدناها كما في الطبري (5: 2310) .
[5] . وفي بعض الأصول: محرب.(1/334)
وإنّى لحام من وراء عشيرتي ... ركوب لآثار الهوى محفل الأمر
وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة من الخيل حمل حملة فيصيب فيها. فقتل في يوم أغواث ثلاثين فارسا، وكان آخرهم بزرجمهر الهمداني، وقال القعقاع فيه:
حبوته جيّاشة بالنّفس ... هدّارة مثل شعاع الشّمس
في يوم أغواث قليل [1] الفرس ... أنخس بالقوم أشدّ النّخس
حتى تفيظ [2] معشرى ونفسي [363]
واقتتل الناس صتيتا حتى انتصف الليل. فكانت ليلة أرماث تدعى «الهداة» ، وليلة أغواث تدعى «السواد» . ولم يزل المسلمون يرون الظفر يوم أغواث في القادسية، وقتلوا عامّة أعلامهم، وجالت فيهم خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أنّ خيلهم كرّت، لأخذ رستم أخذا. وانتمى المسلمون لدن [3] أمسوا. فلمّا أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده:
- «إن تمّ الناس على الانتماء فلا توقظنى، فإنّهم أقوياء على عدوّهم، فإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظنى، فإنّهم على السواء، وإن سمعتهم ينتمون، فأيقظنى، فإنّ انتماءهم لشرّ.»
__________
[1] . في الأصل ومط: «قليل» ، وفي الطبري (5: 2311) : «فليل» مجرورا. الفليل: الجماعة.
[2] . في الطبري ومط: تفيض. تفيظ: تموت.
[3] . في الأصل: لدى. في الطبري: لدن أمسوا. مط: الذين أمسوا.(1/335)
قصّة أبى محجن مع سلمى وسعد
فلمّا اشتدّ القتال بالسواد، سأل أبو محجن سلمى بنت خصفة، وكان محبوسا مقيّدا في القصر. فقال:
- «يا ابنة خصفة، هل لك إلى خير؟» قالت: «وما ذاك؟» قال: «تخلّين عنّى وتعيريننى البلقاء. فلله علىّ، إن سلّمنى الله أرجع إليك حتى أضع رجلىّ في قيدي.» ! فقالت: «وما أنا وذاك؟» فجعل يرسف في قيده وقال: [364]
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علىّ وثاقيا
إذا قمت عنّانى [1] الحديد وغلّقت ... مصاريع من دوني تصمّ المناديا
قالت سلمى: «إنّى استخرت الله، ورضيت بعهدك.» فأطلقته وقالت:
- «أمّا الفرس فلا أعيرها.» فرجعت.
«فاقتادها رويدا، وأخرجها من باب القصر، فركبها. ثم دبّ عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة. ثم حمل على الميسرة ميسرة الفرس، يلعب برمحه وسلاحه بين الصفّين- وقد حكى أنّ الفرس كانت عريا، وحكى أنّها كانت بسرجها- ثم رجع من خلف صفّ المسلمين إلى الميسرة، فكبّر، وحمل على ميمنة القوم، يلعب بين
__________
[1] . الأصل «غنّانى» وما أثبتناه يؤيده مط والطبري (5: 2313) .(1/336)
الصّفين برمحه وسلاحه. ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب، فبدر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفّين برمحه وسلاحه. فكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا، وتعجّب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالنهار.
فقال بعض الناس: «هذا من أوائل أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه.» [365] وانتبه سعد وهو منكبّ مشرف من فوق القصر، فقال:
- «والله لولا محبس أبى محجن لقلت: إنّه هو وهذه البلقاء.» وقال بعض الناس: «إن كان الخضر يشهد الحروب فهذا الخضر.» وقال بعضهم: «لولا أنّ الملائكة لا تباشر [القتال] [1] لقلنا: ملك بيننا!» فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر من حيث خرج منه، ووضع عن نفسه وعن دابّته، وأعاد رجليه في قيده، وقال في أبيات:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنّا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنّا وفدهم في كلّ يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا [2]
وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا
وإنّما حبس في أبيات قالها وهي:
__________
[1] . كلمة «القتال» مأخوذة من الطبري 5: 2314.
[2] . البيت تكملة من الطبري 5: 2315.(1/337)
إذا متّ، فادفنّى إلى أصل كرمة............... [1]
فلمّا أصبحت سلمى أتت سعدا، وكانت مغاضبة له، وصالحته وأخبرته [366] خبرها مع أبى محجن. فدعا به، وأطلقه، وقال:
- «اذهب، فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله، حتى تفعله.» قال: «لا جرم والله، لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا.»
يوم عماس
أصبح الناس اليوم الثالث على مواقفهم وبينهم كالرّجلة الحمراء ميل في عرض الصفّين، وقد قتل من المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف، وكان أهل الدين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر ويبلّغون الرثيث إلى النساء والصبيان، و [النساء و] [2] الصبيان يحرفون القبور في اليومين: يوم أغواث ويوم أرماث. وبات القعقاع ليلته كلها يسرّب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم بالأمس. ثم قال لهم:
- «إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة، كلّما توارت مائة فليتّبعها مائة. فإن جاء هاشم فذاك، وإلّا جدّدتم للناس رجاء وجدّا.» ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد.
__________
[1] . والأبيات كما في الطبري (5: 2316) هي:
إذا متّ فادفنّى إلى أصل كرمة تروّى عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفنّنى بالفلاة فإنّنى أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها وتروى بخمر الحصّ لحدي فإنّنى أسير لها من بعد ما قد أسوقها
[2] . تكملة من الطبري.(1/338)
فأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم: فأمّا [367] قتلى المشركين فقد أضيعوا، لأنّهم لا يعرضون لأمواتهم، وكان ذلك مما صنع الله للمسلمين مكيدة ليشدّ بها أعضادهم.
فلمّا ذرّ قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل طلعت نواصيها. فكبّر، وكبّر الناس وقالوا: «جاء المدد» وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها. فجاؤوا من قبل خفّان. فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى لهم هاشم في سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع في يوميه، فعبّى أصحابه سبعين سبعين.
فلما نجز [1] أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بن هبيرة، حتى إذا خالط القلب كبّروا، وقد أخذ المسلمين الفرح [2] ، فكبّروا جميعا وقد أصلح المشركون توابيت الفيلة معها الرجّالة يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجّالة فرسان يحمونهم، إذا رأوا كتيبة دلفوا إليها بفيل واتباعه لينفروا به الخيل.
فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأنّ الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد، كان أوحش [368] وأهول، وإذا طاف به الناس كان آنس. فكان القتال كذلك. وكان يوم عماس من أوّله إلى آخره شديدا، العجم والعرب فيه سواء، ولا يكون بينهم لفظة [3] إلّا تعاورها الرجال حتى تبلغ يزدجرد، فكان يبعث إليهم بأهل النجدات ممن بقي عنده فيقوون بهم، وتجيئهم الأمداد على البرد. فلولا الذي صنع القعقاع في اليومين، ومجيء هاشم بعقبه كسر ذلك المسلمين، وما كان عامّة جنن المسلمين إلّا براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، ومن لم تكن له وقاية
__________
[1] . كذا في الأصل. مط: نحر. وفي حواشي الطبري: نجر، نجز، وفي الطبري: «فلما جاء آخر أصحاب القعقاع» (5: 2319) .
[2] . مط: وتداخل المسلمون الفرح! وفي الأصل: وقد أخلى المسلمون الفرخ (الفرج؟) وفي عبارة الأصل غموض، وما أثبتناه كان مكتوبا على هامش الأصل فرجّحناه.
[3] . مط: لقطة. في الطبري: نقطة، وفي هامشه: بقطة.(1/339)
لرأسه، عصّب رأسه بالأنساع. وأبلى يومئذ قيس بن هبيرة بن مكشوح.
وقال عمرو بن معدى كرب:
- «إنى حامل على الفيل بازائهم، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخّرتم فقدتم أبا ثور، وأين لكم مثل أبى ثور، وإن أدركتمونى وجدتمونى وفي يدي السيف.» ! فحمل، فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار. فقال أصحابه:
- «ما تنتظرون؟ ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم.» فحلموا، فأفرج [369] المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإنّ سيفه لفي يده يضاربهم به، وقد طعن فرسه. فلمّا انفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس عليه فارسي، فحرّكه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت إلى عمرو، فهمّ به، فغشيه المسلمون. فنزل عنه، وحاضر إلى الفرس [1] ، وقال عمرو لأصحابه:
- «أمكنونى من لجامه.» فأمكنوه منه فركبه.
اتّفاق جرى يوم عماس ويحذر أن يقع مثله
ومن الاتفاق الذي جرى في يوم عماس ويحذر أن يقع مثله: أنّ رجلا من الفرس خرج بين الصفّين فهدر وشقشق ودعا إلى البراز.
قال: فبرز رجل منّا يقال له: شبر بن علقمة، وكان قصيرا دميما، وقال:
- «يا معشر المسلمين! قد أنصفكم الرجل.» فلم يجبه ولم يخرج إليه أحد.
__________
[1] . الطبري: وحاضر إلى أصحابه (5: 2323) . وضبط الأصل: الفرس.(1/340)
فقال: «أما والله، لولا أن يزدرونى لخرجت إليه.» فلمّا رأى أنّ المسلمين لا يمنعونه أخذ سيفه وحجفته، وتقدّم. فلمّا رآه الفارسي نزل إليه، فاحتمله، وجلس على صدره وأخذ سيفه ليذبحه وقد كان شدّ مقود فرسه بمنطقته. فلمّا سلّ السيف [370] حاص الفرس حيصة، فجذبه المقود، فقلبه عنه. فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه. وجعل أصحابه يصيحون به، فقال:
- «صيحوا ما بدا لكم، فوالله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه.» فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال:
- «إذا كان حين الظهر فائتني.» فوافاه، فحمد سعد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
- «إنى قد رأيت أن أنفّله إيّاه، وكلّ من سلب سلبا فهو له.» فباعه باثنى عشر ألفا.
ما جرى في يوم عماس أيضا
ولما عادت الفيلة لفعلها يوم أرماث تفرّق بين الكتائب، راسل قوما ممن أسلموا من الفرس، فدخلوا عليه، فسألهم عن الفيلة: «هل لها مقاتل؟» قالوا: «نعم! المشافر والعيون. لا ينتفع بها بعدها.» فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابني مذعور: «اكفياني الأبيض.» وذاك أنّ الفيلة كانت تألفه، وكان بإزائهما، وأرسل إلى حمّال والربّيل: «اكفيانى الأجرب» - وكان بازائهما.
فأما القعقاع وعاصم فانّهما أخذا رمحين أصمّين ليّنين، ثم دبّا في خيل ورجل، وقالا:
- «اكتنفوه لتحيّروه.»(1/341)
فنظر الفيل يمنة ويسرة وهما يريدان أن يخبط [1] . فحمل القعقاع وعاصم- والفيل متشاغل بمن حوله- فوضعا رمحيهما [371] في عيني الفيل الأبيض، فقبع، ونفض رأسه، فطرح ساسته، ودلّى مشفره، فبادره القعقاع، فنفحه بالسيف، فرمى به، وأقعى الفيل، فقتلوا من كان عليه.
وأما حمّال والربّيل فانّهما قالا:
- «يا معشر المسلمين، أىّ الموت أشدّ؟» قالوا: «أن تشدّا على هذا الفيل.» قال: «فنزّقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بازائهم. فطعن أحدهما عينه فوطئ الفيل من خلفه، ويضرب الآخر مشفره، فيضربه سائس الفيل ضربة شانئة في وجهه بالطبرزين، فأفلت بها هو والربّيل [2] ، فبقى الفيل متلدّدا بين الصفّين كلّما أتى صفّ المسلمين وخزوه، وإذا أتى صفّ المشركين نخسوه، وصاح الفيلان صياحا عظيما. ثم ولّى الأجرب الذي عوّر، فوثب في العتيق فاتّبعته الفيلة فخرقت صفّ الأعاجم، وعبرت العتيق في إثره، فبيّتت [3] المدائن في توابيتها، وهلك من فيها، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظلّ، فتزاحفوا، واجتلدوا بالسيوف حتى أمسوا. فلمّا طعنوا في الليل اشتدّ القتال [372] وصبر الفريقان، ولم يسمع إلّا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسمّيت «ليلة الهرير» لم يكن بعدها قتال بليل بالقادسيّة.
ثمّ إنّ سعدا وجّه طليحة وعمرو بن معدى كرب إلى مخاضة كانت أسفل منهم، وخشي أن يؤتى المسلمون منها بعبور الفرس، ووصّاهما أن يقفا هناك، فإن أحسّا بكيد أنذرا المسلمين. فانتهيا إلى هناك، فلم يجدا أحدا. فأمّا طليحة فرأى
__________
[1] . في الأصل: يخبط. في الطبري (5: 2325) : يتخبّطا.
[2] . الأصل ومط: بها وهو الربّيل بتقديم «و» على «هو» وما أثبتناه يؤيده الطبري (5: 2325) .
[3] . وفي الطبري: فأتت المدائن، وفي حواشيه: فبيّتت (5: 2326) .(1/342)
أن يعبر، وأمّا عمرو فقال: «ما أمرنا بذلك.» فعبر طليحة حتى إذا صار وراء صفّ المشركين كبّر ثلاث تكبيرات، فدهش القوم، وكفّوا عن الحرب لينظروا ما هو، وطلبوه فلم يدروا أين سلك! وسفل حتى غاص، وأقبل إلى العسكر فأتى سعدا خبره، فاشتدّ ذلك على الفرس، وفرح المسلمون. وقال طليحة للفرس:
- «لا تعدموا أمرا ضعضعكم.» ثم إنّهم عادوا، وجدّدوا تعبئة، وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة والمسلمون على تعبيتهم، فطاردهم فرسان العرب، فإذا القوم لا يشدّون، ولا يريدون إلّا الزحف [373] فقدّموا صفا له أذنان، وأتبعوا آخر وآخر حتى تمّ صفوفهم ثلاثة عشر صفّا في القلب والمجنّبتين. فرماهم فرسان العسكر فلم يعطفهم ذلك. ثم لحقت بالفرسان الكتائب، فحمل القعقاع على ناحيته التي رمى بها مزدلفا. فقاموا على ساق والناس على راياتهم، بغير إذن سعد.
فقال سعد: «اللهمّ اغفرها له وانصره، وا تميماه سائر الليلة.» ثم قال: «إنّ الرأى ما رءاه القعقاع. فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا.» فلمّا كبّروا [1] واحدة حملت أسد، فقال: اللهمّ اغفرها لهم وانصرهم. وا أسداه سائر الليلة.» ثم حمل الناس وعصوا سعدا. فقام قيس بن المكشوح في من يليه- ولم يشهد شيئا من لياليها إلّا تلك الليلة، لأنّه كان آخر من ورد مع هاشم- فقال:
- «إنّ عدوّكم قد أبى إلّا المزاحفة، والرأى رأى أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجل.» قال القوم: «إذا زحفوا وطاردهم عدوّهم على الخيل لا رجال معهم عفّروا [2]
__________
[1] . في الأصل: كبّروا، وما أثبتناه من مط.
[2] . في الأصل: عفروا. وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط (5: 2331) .(1/343)
بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم. تيسّروا للحملة، وانتظروا التكبير.» - وإنّ نشّاب الأعاجم لتجوز [374] صفّ المسلمين.» فتكلّم الرؤساء. فقال دريد بن كعب النخعي- وكان معه لواء النخع-:
- «إنّ المسلمين قد تهيّئوا للمزاحفة، فاستبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد، نافسوهم الشهادة، وطيبوا نفسا بالموت، فإنّه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلّا فالآخرة ما أردتم.» وتكلّم الأشعث بن قيس، فقال:
- «لا ينبغي أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت منّا، ولا أسخى نفسا عن الدنيا، لا تجزعوا من القتل، فإنّه أمانىّ الكرام، ومنايا الشهداء.» وترجّل وتكلّم طليحة فقال مثل ذلك، وتكلّم غالب وحمّال وأهل النجدات، فقالوا قريبا من ذلك، وفعلوا فعلهم. وقامت حربهم على ساق، حتى الصباح.
فتلك ليلة الهرير.
وحكى أنس بن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قطّ، وانقطعت الأصوات عن رستم وسعد. فبعث سعد نجّارا [1]- وهو [375] غلام- إلى الصفّ لم يجد رسولا، فقال:
- «أنظر ما ترى من حالهم.» فرجع، فقال: «ما رأيت يا بنىّ؟» قال: «رأيت قوما يلعبون ويجدّون.» فأوّل شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الأخير،
__________
[1] . الأصل: مهمل النقط مع تشديد الثاني. في مط: زالت نقطة النون. وفي الطبري: بجاد، وفي حاشيته:
نجار (5: 2334) .(1/344)
صوت القعقاع بن عمرو، وهو يقول:
نحن قتلنا معشرا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا
تحسب [1] فوق اللّبد [2] الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت شاهدا [3]
الله ربّى واحتردت [4] جاهدا
وأصبحوا ليلة القادسية- وهي ليلة الهرير. سمّيت بليلة القادسية من بين تلك الليالي والأيّام- والناس حسرى لم يغمّضوا ليلتهم كلّها. فسار القعقاع في الناس، فقال:
- «إنّ الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم، فاصبروا فإنّ النصر مع الصبر.» فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه.
ولمّا رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث المكشوح، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدى كرب، وأشباههم، فحضّوا الناس وحرّضوا.
[376] فكان أوّل من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبندوان [5] ، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا. وانفرج القلب، وركد عليهم النقع، وهبّت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق وهي دبور، ومال الغبار عليهم. وانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير، فعبروا به، وقد قام رستم حين طارت الريح بالطيارة إلى
__________
[1] . كذا في الأصل وحواشي الطبري: تحسب، وفي الطبري ومط: «نحسب» .
[2] . اللّبد: بساط من صوف، أو ما يجعل على الفرس تحت السرج.
[3] . الطبري: جاهدا، وفي حواشيه: شاهدا.
[4] . الأصل: «اجتردت» بقرينة مط، لأن نقطة الجيم فيه زائلة تقريبا. في الطبري: «احترزت عامدا» وفي حواشيه: «احتردت جاهدا» .
[5] . وفي الطبري: «البيرزان» (5: 2336) .(1/345)
بغال قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة. فاستظلّ في ظلّ بغل وحمله. فقصده هلال بن علّفة، وولّى عنه رستم، فاتبعه هلال، فرماه رستم، فشكّ قدمه في الركاب، وقال بالفارسية:
- «بباى [1] .» - يقول: «كما أنت ارفق.» فحمل عليه هلال، فضربه ضربة نفحت مسكا. ومضى رستم نحو العتيق، فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقدم عام وهلال قائم. فأخذ رجله، ثم خرج به، وضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين يدي رحله وأرجل البغال، وأخذ سلبه، ثم صعد السرير، ونادى:
- «قتلت رستم وربّ الكعبة، إلىّ إلىّ!» فأطافوا به، وكبّروا وما يحسون السرير، ولا يرونه، وانهزم المشركون. [377] وقام الجالنوس على الردم ونادى أهل فارس إلى العبور، وأسفر الغبار. فأما المقترنون فإنّهم جشعوا. فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون ألفا.
درفش الكابيان وغيره من الأسلاب
وأخذ ضرار بن الخطّاب درفش الكابيان، فعوّض منها ثلاثين ألفا، [000، 30] وكانت قيمتها ألفى ألف ومائتي ألف [000، 200، 2] . وجمعت الأسلاب والأموال، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده.
وأرسل سعد إلى هلال، فدعى، فقال:
__________
[1] . بباى بپاى: فعل أمر من المصدر الفارسي: «پاييدن» والباء زائدة في صيغة الأمر. ومعناه: انتبه! (وفي هذا المعنى تشدّد الباء الفارسية، أى حرفه الثاني) أو: ابق، دم، أو: قاوم، أو: أرصد، وفي الطبري: فشكّها في الركاب وقال بپايه. وفي الهامش: «بيايه، بيابه، ببايه» ، أى: اصبر. (5: 2343) . وفيه أيضا:
«فشكها» ورستم يقول بالفارسية: «بپايه» أى: كما أنت، وفي الحاشية: «كما أتت» (5: 2356) .(1/346)
- «أين صاحبك؟» قال: «رميت به تحت أبغل كانت هنالك.» قال: «اذهب، وجئ به.» فأمضى له سلبه. وبعث زهرة بن الحويّة [1] يتبع الجالنوس ومن لحق به، وأمر القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا. وأمر بدفن الشهداء. فخرج زهرة بن الحويّة في آثارهم. فلمّا انتهى إلى الردم وجده مبثوقا، ليمنعوهم من الطلب. فقال زهرة:
- «يا بكير- وكان معه- أقدم فرسك!» وكان بكير يقاتل على الإناث، وقال:
- «ثبى أطلال!» فتجمّعت ووثبت. وأوثب زهرة فرسه [378]- وكان على حصان- فاتبعه وتتابع على ذلك ثلاثمائة فارس. ونادى زهرة حين كاعت [2] الخيل:
- «خذوا أيها الناس على القنطرة فعارضونا!» ففعل الناس ذلك ومضى زهرة، فلحق الفرس، وقد نزلوا الخرّارة وطمعوا، وهم يتعجّبون من رميهم وأنّه لم يعمل في العرب. وكان الجالنوس قد رفع له كرة [3] ، فهو يرميها ويشكّها بالنشّاب. فشدّ زهرة على الجالنوس، فقتله، وانهزمت الفرس.
وقد قيل: إنّ الجالنوس كان راكبا يحمى الفرس حين لحقهم زهرة، فشاوله، واختلفا ضربتين سبقه زهرة، فقتله.
وأمّا القعقاع وشرحبيل فإنّهما خرجا في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كلّ قرية وأجمة وشاطئ نهر، وراجعوا. فتوافوا عند صلاة الظهر، وهنّأ الناس
__________
[1] . في الطبري: الحويّه (5: 2338) . مط: الجويّه.
[2] . كاعت الخيل: مشت وتمايلت على أكواعها. من شدّة الحرّ، أو لأنها عقرت. الكاع: طرف الزند الذي يلي الإبهام.
[3] . وفي الطبري: الكرة وفي حواشيه: الكرّة (5: 2342، 2357) .(1/347)
بعضهم بعضا، وأثنى سعد على كلّ حىّ، وذكر خيرا.
وتدرّع زهرة ما كان على الجالنوس، فبلغ بضعة وسبعين ألفا. فلمّا رجع إلى سعد نزع سلبه وقال:
- «ألا انتظرت إذنى؟» فكتب عمر إلى سعد:
- «تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به [379] وقد بقي من حربك ما بقي، تكسر قوّته [1] ، وتفسد قلبه! أمض له سلبه، وفضّله عند العطاء بخمسمائة.» وقد حكى أنّ عامة من شهد القادسية فضّلوا عند العطاء بخمسمائة. وأمّا أهل الأيّام، فإنّهم فضّلوا على أهل القادسية، فإنّهم فرض لهم على ثلاثة آلاف.
فقيل لعمر:
- «لو ألحقت بهم أهل القادسية، أو فضّلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه.» فقال: «كيف أفضّلهم وهم شجى [2] العدوّ، فهلّا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوهم بفنائهم مثل هذا.» فحكى عن رجل من عبس قال:
أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما لم يصب الناس قبلهم. لقد كان الرجل من المسلمين يدعو الفارس منهم وعليه السلاح التامّ، فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه ويأخذ سلاحه، وربما قتله بسلاحه، وربما أمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدّة. وكان ممن هرب: الهرمزان، وقارن، وأهود.
وكان ممن استقتل: شهريار بن كنارا، وابن الهربذ، والفرّخان، وخسروشنوم [3] .
[380] وباع هلال بن علّفة سلب رستم- وكان تخفّف لما وقع في الماء- بسبعين
__________
[1] . الطبري: تكسر قرنه (5: 2342) .
[2] . الطبري: شجن العدو (5: 2343) .
[3] . مهمل النقط وبدون الواو الأولى في الأصل ومط، وما أثبتناه هو من الطبري (5: 2356) .(1/348)
ألفا، وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف [000، 100] لو ظفر بها.
وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فقالوا:
- «أيها الأمير، رأينا جسد رستم على باب قصرك، وعليه رأس غيره.» وكان الضرب قد شوّهه، فضحك.
ومن أنباء الشام
وأما جند الشام فإنّ حمص افتتحت، وتوجّه علقمة إلى غزّة، وتوجّه معاوية إلى قيساريّة، وصمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون [1] بأجنادين، وكان الأرطبون أدهى الروم، أبعدها غورا، وأذكاها فعلا، وكان على الروم، وقد وضع بالرملة جندا عظيما [2] ، وكتب عمرو إلى عمر [بالخبر] [3] .
فقال عمر:
- «قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمّا تنفرج.»
ذكر خديعة عمرو لأرطبون
وجعل عمرو ينفذ إلى الأرطبون رسلا فلا يشفونه [4] . ولا يقدرون من أرطبون على سقطة. فعزم على أن يتولّاه بنفسه، فدخل عليه كأنّه رسول. فأبلغه ما [381] يريد، وسمع كلامه، وتأمّل حصونه حتى عرف ما أراد.
وقال أرطبون في نفسه:
- «والله إنّ هذا لعمرو، أو الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأعظم عليهم من قتله.»
__________
[1] . أرطيون، بالياء المثنّاة (لد) . وفي الطبري أيضا بالباء الموحدة (5: 2398) .
[2] . وزاد في الطبري: وبايلياء جندا عظيما.
[3] . تكملة من الطبري.
[4] . وفي الطبري: فلا تشفيه الرسل (5: 2399) .(1/349)
ثمّ دعا حرسيّا، فسارّه بقتله، وقال:
- «اخرج بمكان كذا وكذا، فإذا مرّ بك هذا فاقتله.» وفطن له عمرو فقال:
- «قد سمعت منّى وسمعت منك. فأمّا ما قلت فقد وقع منّى موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطّاب مع هذا الوالي لنكاتفه ويشهدنا أموره. فأرجع، فآتيك بهم الآن. فإذا رأوا في الذي عرضت مثل رأيى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك.» فقال: «نعم.» ودعا رجلا، فسارّه وقال:
- «اذهب إلى فلان فردّه إلىّ.» فرجع الرجل. وقال لعمرو:
- «انطلق، فجئ بأصحابك.» فخرج عمرو ورأى ألّا يعود لمثلها، وعلم الرومي أنّه قد خدعه. فقال:
- «خدعني الرجل. هذا أدهى الخلق.» فبلغت عمر فقال:
- «خدعه عمرو وغلبه. لله عمرو. [1] »
سعد بن أبى وقّاص يقدّم زهرة إلى بهرسير
ثم إنّ سعد بن أبى وقاص [382] قدّم زهرة بهرسير [2] . فمضى زهرة من كوثى في المقدّمات حتى نزل بهرسير، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزى.
__________
[1] . تجد التفاصيل عند الطبري (5: 2400) .
[2] . في الأصل ومط: نهرسير. وبهرسير من نواحي بغداد قرب المدائن ويقال: «بهرسير الرومقان» ، وقال حمزة: هي إحدى المدائن السبعة التي سميت بالمدائن وهي غربي دجلة (مع) .(1/350)
فأمضاه إلى سعد، فأقبل معه وتبعته المجنّبات. وخرج هاشم وخرج سعد في إثره وقد فلّ زهرة كتيبة كسرى بوران [حول] [1] المظلم [2] ، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط، ووقف لسعد حتى لحق به، وكانت به كتائب كسرى تدعى: «الأسود» ، يحلفون بالله كلّ يوم:
- «لا يزول ملك فارس ما عشنا.» فتنادوا ورئيسهم المقرّط. وقال المقرّط:
- «إلىّ إلىّ.» وذلك لما انتهى إليه. فنزل إليه هاشم فقتله. فقبّل سعد رأس هاشم، وقبّل هاشم قدم سعد. وقدم سعد إلى بهرسير، فنزل إلى المظلم وقرأ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ من قَبْلُ ما لَكُمْ من زَوالٍ. 14: 44 [3] ثم ارتحل فنزل بهرسير. وجعل المسلمون كلّما قامت طائفة على بهرسير، وقفوا، ثمّ كبّروا كذلك، حتى انجرّ [4] آخر من مع سعد، فكان مقامه على بهرسير شهرين. وعبروا في الثالث، وذلك أنّهم أقاموا شهرين يرمونهم بالمجانيق، ويدبّون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة. وكان [383] سعد استصنع شيرزاد عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها. وكانت العرب مطيفة ببهرسير والعجم متحصّنة فيها. وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في العدّة والعديد لقتال المسلمين، فلا يقومون لهم. فكان آخر ما خرجوا في رجّالة، وناشبة تجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون ولم يلبّثوهم [5] ، فكذبوا وتولّوا.
__________
[1] . تكملة من الطبري.
[2] . المظلم: مظلم ساباط: موضع مضاف إلى ساباط التي بقرب المدائن (مع) .
[3] . س 14 إبراهيم: 46.
[4] . الطبري: «نجز» وفي حواشيه: «أنجز» . (1، 2425) .
[5] . الطبري: «ولم يثبتوا لهم» (5: 2428) .(1/351)
ذكر استهانة في الحرب عادت بهلكة
هكذا وجدت في التاريخ وهو سهو، لأنّ زهرة بن الحويّة عاش بعد هذا، وشهد مواقف كثيرة، وسيرد جميعه على الأثر. ولعلّ هذا زهرة بن خالد، فلينظر في ذلك.
كان في ذلك اليوم على زهرة بن الحويّة درع مفصومة، فقيل له:
- «لو أمرت بهذا الفصم فسرد.» فقال: «ولم؟» قال: «نخاف عليك منه.» قال: «إنّى لكريم على الله، إن ترك سهم فارس [1] الجند كلّهم، ثمّ أتانى من هذا الفصم حتى يثبت في.» فكان أول رجل من المسلمين يومئذ أصيب هو [384] بنشّابة ثبتت فيه من ذلك الفصم.
فقال بعضهم: «انزعوها عنه.» فقال: «دعوني، فإن نفسي معى ما دامت في، لعلّى أصيب منهم بطعنة، أو ضربة، أو خطوة.» فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل، وانكشفوا. وتنادى أهل بهرسير، فعبروا. فلمّا رآهم سعد والمسلمون يعبرون، زحفوا إلى السور والمجانيق تأخذه. فناداهم رجل:
- «الأمان» .
فآمنوه، فقال:
__________
[1] . كذا ضبط في الأصل «فارس» ، والضبط عند الطبري: «فارس» (5: 2428) .(1/352)
- «أىّ شيء ترمون؟ ما بقي في المدينة أحد.» فتسوّروا، ودخلوا بهرسير، وفتحوا أبوابها، وتحوّل العسكر إليها، وحاولوا العبور، فوجدوهم قد ضمّوا السفن إليهم في ما بين البطائح وتكريت.
بهرسير [1] وأبيض كسرى
ولما دخل المسلمون بهرسير لاح لهم الأبيض. فقال ضرار بن الخطّاب:
- «الله أكبر، هذا ما وعد الله ورسوله: أبيض كسرى.» والله لتتابعوا بالتكبير حتى أصبحوا. وخبّرهم ذلك الرجل الذي نادى بالأمان:
أنّكم حصرتم القوم حتى أكلوا الكلاب والسنانير.
ولمّا نزل سعد بهرسير- وهي المدينة التي كان فيها منزل كسرى- طلب السفن [385] ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شيء، وأقام أيّاما يصعّد ويصوّب. فأتاه أعلاج يدلّونه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وأبقى على المسلمين وفجئهم المدّ، فرأوا أمرا هائلا في سنة جود صيفها [2] متتابع.
فجمع سعد الناس وخطبهم وقال بعد حمد الله:
- «إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم. وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدوّ
__________
[1] . وهي المدينة الدنيا (الطبري 5: 2432) .
[2] . في الأصل: «في سنة جود صيفيها متتابع» ولكنّا أثبتناه كما في الطبري (5: 2432) الجود: المطر الغزير.(1/353)
بنيّاتكم قبل أن تحصدكم [1] الدنيا، ألا إنّى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.» فقالوا جميعا:
- «عزم الله لنا ولك على الرشد.» فندب سعد الناس إلى العبور، فقال:
- «من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى لا يتلاحقوا [2] ويلحق الناس، فلا يمنعوا من الخروج من الماء؟» .
فانتدب له عاصم بن عمرو وجماعة من ذوى البأس. ثمّ انتدب بعدهم ستمائة من أهل [386] النجدات. فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة، وقال:
- «من ينتدب معى لمنع الفراض من عدوّكم لنحميكم حتى تعبروا؟» فانتدب له ستون، فجعل نصفهم على خيول إناث، ونصفهم على ذكورة. ثمّ اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم. فكان أول من فصل من الستمائة، رجل يعرف بأصمّ التيم وشرحبيل وعدّة من معه.
فلمّا رآهم الفرس وما صنعوا، أعدّوا للخيل التي عبرت مثلها، فاقتحموا دجلة فأعاموها إليهم. فقال عاصم وقد لقوه في السرعان وقد دنا من الفرضة:
- «الرماح، الرماح أشرعوها، وتوخّوا بها العيون» .
فالتقوا، وتوخّى المسلمون عيونهم. فولّوا بأجمعهم والمسلمون يشمّصون [3] بهم خيلهم ما يملك رجالها منع شيء منها، فلحقوهم في الجدّ فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم الخيل، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين
__________
[1] . في الطبري: تحصركم، تحصدكم، تخضدكم.
[2] . في الأصل ومط: لا يتلاحقون.
[3] . الطبري: يشمسون (5: 2433) .(1/354)
غير متعتعين، وأذن سعد للناس في الاقتحام وأمرهم بالاقتران، فتلاحق عظم الجند، فركبوا من دجلة اللجّة وإنّها لترمى بالزبد [387] وهي مسودّة، وإنّ الناس ليتحدّثون في عومهم، وقد اقترنوا ما يكترثون، كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض. ففجئوا [1] أهل فارس بما لم يكن في حسابهم، فأعجلوهم عن جمهور أموالهم.
وكان يزدجرد قد قدّم عياله وما خفّ من ذخائره معهم حين نزل المسلمون بهر سير إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا. جاءه بالخبر بعض الأعلاج [2] وقال:
- «ما تنتظر إذا كان بعد ثلاث لم يبق بالمدائن مال لكسرى، ولا لأهله» .
فكان ذلك مما هيّج سعدا وحمله على ما فعل. فكان قرين سعد الذي يسايره في الماء سلمان الفارسىّ، وكان سفيرهم، والمترجم لهم وعنهم.
وحكى: أنّ ذلك الخيل عبر بأجمعه، وقد اسودّت منه دجلة حتى ما يرى الماء، فسلموا بأجمعهم، ما فقدوا رجلا واحدا، ولا أداة. غير أنّ رجلا كانت له علاقة في قدح رثّة، فانقطعت، وذهب القدح في الماء، والتقطه رجل من الماء كان أسفل، تناوله برمحه، وجاء به إلى العسكر يعرّفه، فأخذه صاحبه.
وزال رجل من بارق يومئذ [388] يدعى غرقدة عن ظهر فرس له شقراء، فنظر إليها المسلمون عريا [3] تنفض أعرافها والغريق طاف، فثنّى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده، وجرّه حتى عبر، وكان البارقىّ من أشدّ الناس، فقال: أعجزت الأخوات [4] أن يلدن مثلك يا قعقاع؟» - وكان للقعقاع فيهم
__________
[1] . وفي مط: فعجبوا. في الطبري أيضا: ففجئوا: (5: 2434) .
[2] . جمع العلج: العير، الحمار، حمار الوحش السمين القوى، الرجل الضخم القوى من كفار العجم، وبعضهم يطلقه على الكافر عموما.
[3] . مهملة في مط والأصل. فرس عرى: غير مسرج، ويقال: خيل أعراء. قيل: ولا يقال: فرس عريان، كما لا يقال: رجل عرى (قب) .
[4] . والضبط في الأصل: أعجزت الأخوات.(1/355)
خؤولة.
وما زالت حماة فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال:
- «علام تقاتلون، ولم تقتلون أنفسكم؟ فوالله ما في المدائن أحد.»
مبادرة يزدجرد إلى حلوان
وبادر يزدجرد إلى حلوان، وخلّف مهران الرازي والنخيرجان [1]- وكان على بيت المال بالنهروان- وخرجت الفرس بما قدرت عليه من حرّ المتاع وخفيفه وبالنساء والذرارىّ، وتركوا في الخزائن من الثياب، والأمتعة والآنية، والفضول، والألطاف، والعطر، ما لا يدرى: ما قيمته. وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من الأطعمة، والأشربة، وأصناف المأكول والحيوان من البقر، والغنم.
دخول المدائن
فدخل المسلمون المدائن، وأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه، إلّا من كان في القصر الأبيض. فأحيط بهم [389] ودعوهم. وكانوا قد اتعظوا بأهل بهرسير. وذلك أنّ المسلمين لما نزلوا عليهم أجّلوهم ثلاثا، ودعوهم إلى ثلاث خصال: إمّا الإسلام، وإمّا الجزية، وإمّا الحرب. فلما لم يجيبوا في [اليوم] الثالث أبادوهم. ولما دعوا أهل القصر الأبيض إلى مثل ذلك اختاروا الجزية. وكان المخاطب لهم سلمان الفارسي.
وملك المسلمون الغنائم، واحتوى سعد على بيوت المال، فوجد فيها ثلاثة آلاف ألف ألف [000، 000، 3000] . فنزل سعد القصر الأبيض، واتّخذ الإيوان مصلّى. وقدّم جيشا إلى النهروان، عليهم زهرة، وتراجع إلى المدائن أهلها على
__________
[1] . الأصل ومط: الكلمة مهملة إلّا في النون الأخيرة. في الطبري: النخيرجان (5: 2439) .(1/356)
الأمان والرضا بالجزية.
ووجدوا بالمدائن قبابا تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، قالوا: فما حسبناها إلّا طعاما من حلواء، فإذا هي آنية الذهب والفضّة! وقسمت بعد في الناس.
قال حبيب: لقد رأيت رجلا يطوف ويقول:
- «من معه بيضاء بصفراء.» ولقد أتينا على كافور كثير. فما حسبناه إلّا ملحا، فجعلنا نعجّن به الدقيق حتى وجدنا مرارته في الخبز! ولما انتهى زهرة في المقدمة إلى النهروان [390] وجدهم قد ازدحموا، فوقع بغل في الماء كلبوا عليه. فقال زهرة:
- «إنى أقسم بالله انّ لهذا البغل لشأنا ما كلب عليه القوم، ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لأمر.» وإذا الذي عليه خرزات كسرى ووشائحه، وعليها من الجواهر ما لا تعرف قيمته، وكان يجلس فيها يوم المباهاة.
فترجّل زهرة يومئذ حتى أزاحهم عن البغل، فاحتمله هو وأصحابه، وجاءوا بما عليه إلى صاحب الأقباض، لا يدرون ما عليه حتى فتح هناك.
تاج كسرى وأدراعه
وحكى هبيرة بن الأشعث عن جدّه قال:
كنت ممن خرج في الطلب، فإذا ببغلين فذاد راكباهما عنهما بالنشّاب [1] ، ونظرت، وإذا لم يبق معهما غير نشّابين. فألححت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما
__________
[1] . مط: مكان «فذاد» إلى «بالنشّاب» : «قد أدركناهما عنهما بالنشاب» وفي الطبري: قد ردّا (ذبّا) الخيل عنهما بالنشاب (5: 2446) .(1/357)
لصاحبه:
- «على ما أرى، ارمه وأحميك، أو أرميه واحمنى!» فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثمّ إنّى حملت عليهما، فقتلتهما، وجئت بالبغلين ما أدرى ما عليهما، حتى أتيت بهما صاحب الأقباض وإذا هو يكتب ما يأتى به الناس وما يجمع من الخزائن والدور، فقال:
- «على [391] رسلك حتى ننظر ما معك!» فأطلت الوقوف بعد ما حصلت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا [1] ، وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان، وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى منسوجة بالذهب المنظوم بالجوهر.
وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسىّ يحمى الناس، فاقتتلا، فقتله، وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان، وفي أحد الغلافين خمسة أسياف [2] ، وفي الآخر ستة أسياف [3] ، وإذا في إحدى العيبتين أدراع: درع كسرى، ومغافره، وساقاه، وساعده، ودرع هرقل، وفي الآخر درع سياوخش، ودرع خاقان، ودرع داهر [4] ، ودرع بهرام شوبين، ودرع النعمان، وكان الفرس استلبوها من أربابها أيام خالفوا كسرى.
وحكى عاصم بن الحارث قال:
خرجت في الطلب. فأخذت طريقا مسلوكا، وإذا حمار. فلمّا رآني صاحبه حثّه، فلحق بآخر أمامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر [392] جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثمّ تفرّقا ورمانى أحدهما، فألظظت [5] حتى
__________
[1] . كذا في الطبري (5: 2446) ، وفي مط: منسّجا.
[2] . مط: أشياف!
[3] . مط: أيضا: أشياف!
[4] . كذا في مط والطبري، وفي الأصل: كلمة مطموسة لا تقرأ.
[5] . ألظّ في الحرب: ألحّ.(1/358)
قتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض.
فنظرنا، فإذا على أحدهما سفطان، في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضّة، على ثفره ولببه الياقوت والزمرّد منظوما على الفضّة، ولجامه كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب، ولهما [1] شناق أو زمام من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالجوهر، وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالياقوت كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج.
وحكى غيره: أنّ رجلا أقبل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه:
- «ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه.» ثمّ سألوه عن نفسه، فأبى أن يخبرهم، وقال:
- «لا والله، لا أخبركم لتحمدونى، ولا لتقرّظونى، ولكنّى أحمد الله وأرضى بثوابه.» وقال سعد:
- «لولا ما سبق به أهل بدر [2] ، لقلت: إنكم أفضل منهم وأكرم [393] وأيم الله، لقد تتبّعت من أهل بدر هنات وهنات فيما أحرزوا، وما أحسّها [3] ولا أسمعها من هؤلاء القوم.
وقال جابر بن عبد الله:
- «والله الذي لا إله إلّا هو، ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية أنّه يريد الدنيا مع الآخرة. ولقد اتّهمنا ثلاثة أنفس فما رأينا كأمانتهم وزهدهم وورعهم: طليحة
__________
[1] . كذا في مط: لهما. وفي الطبري، لها (5: 2448) .
[2] . كلمة مطموسة في الأصل، وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط.
[3] . كذا في مط: أحسها، وفي الطبري: أحسبها، وفي حواشيه، أحسّها (5: 2449) .(1/359)
بن خويلد، وعمرو بن معدى كرب، وقيس بن المكشوح.»
عمر وتاج كسرى
ولما قدم على عمر بن الخطّاب بتاج كسرى وبزّته، وزبرجه، ومنطقته، وسلاحه، قال:
- «إنّ قوما أدّوا هذا لذو أمانة.» فقال علىّ صلوات الله عليه:
- «إنّك عففت فعفّت الرعيّة.» ولما قسم سعد الفيء أصاب الفارس اثنا عشر ألف درهم، وكلّهم كان فارسا يوم المدائن، وليس فيهم راجل، وكانت الجنائب كثيرة. ولما نزل سعد المدائن بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء، وحلوان، وتكريت، والموصل. ثم تحوّلوا إلى الكوفة.
بساط يساوى جريبا
ولما قسم سعد الفيء أخذ يسأل بعد القسم وإخراج الخمس [394] [عن] [1] القطف، فلم تعدل قيمته، فقال للمسلمين:
- «هل لكم في أن نطيب نفسا عن أربعة أخماسه ونبعث به إلى عمر، فيضعه حيث يرى، فانّا لا نراه ينفق بيننا؟» فقالوا: «نعم، هاء [2] الله إذا.» فبعث. وكان ستّين ذراعا في ستّين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب، فيه:
طرق كالصور، وفصوص كالأنهار، وخلال ذلك كالدير، وفي حافاته كالأرض
__________
[1] . تكملة منّا. والعبارة في الطبري: «وفضل بعد القسم ... القطف فلم يعتدل قسمته» (5: 2452) .
[2] . هاء بالكسر: هات: أى أعط الله. هاء بالفتح: خذ. وضبط في الطبري: هاء الله ولم أنته إلى وجه له.(1/360)
المزروعة المبقلة بالنبات، وعليه ما كانوا يعدّونه في الشتاء، إذا ذهبت الرياحين، وكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه، وكأنّهم في رياض، لأنّ الأرض- أرض البساط- مذهّب، ووشيه فصوص، وعليه قضبان الذهب، عليها أنوار من الذهب والفضة، وأوراق كذلك من حرير قد أجرى فيه ماء الذهب، وكانت العرب تسميه القطف [1] .
فلما قدم به على عمر جمع الناس، وخطبهم، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره. فاختلف عليه الناس، فمن مشير بقبضه وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق.
فقام علىّ عليه السلام فقال:- «لم تجعل [395] علمك جهلا، ويقينك شكّا؟ إنّك إن تقبله على هذا، اليوم، لم تعدم في غد من يستحلّ به ما ليس له.» فقال: «صدقتني ونصحتني.» فقطعه وقسمه. وأصاب عليّا قطعة منه باعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع [2] .
__________
[1] . وفي الطبري: القطف، القطيفة (5: 2453) .
[2] . وعند الطبري روايتان:
الاولى: ثمّ قسم [عمر] الخمس في مواضعه، ثم قال: أشيروا علىّ في هذا القطف! فأجمع ملأهم على أن قالوا: «قد جعلوا ذلك لك، فر رأيك» ، إلّا ما كان من علىّ، فإنّه قال: «الأمر كما قالوا، ولم يبق إلّا التروية، إنّك إن تقبله على هذا، اليوم، لم تعدم في غد من يستحقّ به ما ليس له» ، قال: «صدقتني ونصحتني» ، فقطعه بينهم. والثانية: فقام علىّ- حين رأى عمر يأبى- حتى انتهى إليه، فقال: «لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا؟
إنه ليس من الدنيا إلّا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت» ، قال: «صدقتني ونصحتني» ، فقطعه، فقسمه بين الناس، فأصاب عليّا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع. (الطبري 5: 2452) .(1/361)
زىّ كسرى على محلّم
ولما عرض على عمر- رضى الله عنه- حلىّ كسرى وزيّه في المباهاة- وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زىّ- قال:
- «علىّ بمحلّم.» وكان أجسم عربىّ يومئذ بالمدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس. فنظر إليه عمر والناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها. ثم أقيم عن ذلك، وألبس زيّه الآخر، فنظروا إليه، ثم كذلك في غير نوع حتى أتى عليها كلّها، ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك.
فقال عمر:
- «إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة.» قال: «أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا، هل يبلغنّ مغرور منها إلّا دون هذا؟ وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيما يضرّه ولا ينفعه. إنّ [396] كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه، ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلّا حصلت للثلاثة بعده، وأحمق من جمع لهم أو لعدوّ جارف.»
وقعة جلولاء
ثمّ إنّ سعدا أتاه الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء [1] وخندق عليه، وأنّ أهل
__________
[1] . في الأصل وفي مط وفي بعض أبيات الشعر بالقصر أى بدون الهمزة فصححنا الأصل استنادا إلى ياقوت والطبري (5: 3456) . جلولاء بالمدّ: طسوج من طساسيج السواد بينها وبين خانقين سبعة(1/362)
الموصل قد عسكروا بتكريت. وكتب إلى عمر بذلك. فكتب إليه عمر:
- «قدّم هاشما إلى جلولاء في اثنى عشر ألفا من وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ، ومن لم يرتدّ، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو.» وكان الفرس لما انتهوا بعد الحرب من المدائن إلى جلولاء، رأوا الطريق يفترق بأهل آذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس. فتذامروا، وقال بعضهم لبعض:
- «يا معشر الفرس، إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، هذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا، فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم بجميع عزائمنا. فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى، [397] كنّا قد أبلينا العذر.» فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه، على مهران، ونفذ يزدجرد إلى حلوان، ورماهم بالرجال، وخلّف فيهم الأموال. فأقاموا في خندقهم وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلّا طرقهم.
فلمّا قدم هاشم أحاط بهم، وطاولهم أهل فارس، وكانوا لا يخرجون إلّا إذا أرادوا. وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا كلّ ينصر المسلمون، ويغلب المشركون، حتى غلبوهم على حسك الخشب، فاتخذوا حسك الحديد، وتركوا للمجال وجها. فخرجوا على المسلمين منه، واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير، إلّا أنّه كان أكمش وأعجل، ولم ير المسلمون ولا المشركون مثله في موطن قطّ حتى أنفذوا النبل، وقصفوا الرماح، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات، فكانوا بذلك إلى بين الصلاتين، وصلّى الناس إيماء.
ثمّ خنست كتيبة للمشركين وجاءت أخرى، فوقفت مكانها، ثمّ كذلك، فكسر المسلمين ما رأوا.
فقال القعقاع بن عمرو:
__________
[ () ] فراسخ (يا) . كان فتح جلولاء في ذى القعدة سنة 16 في أوله، بينها وبين المدائن تسعة أشهر (الطبري 5: 2470) .(1/363)
- «أيها الناس، أهالتكم [398] هذه؟» فقالوا: «وكيف لا يهولنا ونحن مكلّون وهم مريحون.» فقال القعقاع: «اصبروا إلى الساعة، فإنّى حامل عليهم، فاحتملوا معى ولا يكذّبنّ [1] أحد حتى يحكم الله بيننا.» ثمّ حمل، وحمل معه الناس، وانتهى بالقعقاع وجهه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذه. وأمر مناديا فنادى:
- «يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق وأخذ به، فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله.» وإنّما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، ولئلّا يتحاجزوا. فحمل المسلمون ولا يشكّون إلّا أنّ هاشما في الخندق. فلم يقم لحملتهم شيء، حتى انتهوا إلى باب الخندق فإذا هم بالقعقاع قد أخذ به، والمشركون يمنة ويسرة على المجال الذي بحيال خندقهم. فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين من الحسك، وعقرت دوابّهم وعادوا رجّالة، ويتّبعهم المسلمون. فلم يفلت إلّا من لا يعدّ، وقتل منهم يومئذ مائة ألف أو يزيدون، فجلّلت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت: «جلولاء الوقيعة» . [399] واقتسم الناس في جلولاء مثل ما اقتسموا في المدائن. ويقال: إنّهم اقتسموا على ثلاثين ألف ألف، [000، 000، 30] وكان الخمس منه ستة ألف ألف [000، 000، 6] . واقتسم السبايا، فاتخذن، وولدن في المسلمين.
استيذان عمر في الإنسياح
ولما بلغت الهزيمة يزدجرد، سار من حلوان نحو الجبل، وقدم القعقاع حلوان.
__________
[1] . لا يكذّبنّ أحد: لا يحجمنّ عن الحملة هيبة. كذّب عن أمر: أحجم عنه هيبة. وفي مط: لا يكدّين. وأيّد قراءتنا للأصل ما في الطبري (5: 2462) .(1/364)
وكوتب عمر بفتح جلولاء ونزول القعقاع حلوان، واستأذنوه في اتّباعهم، فقال:
- «وددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم. حسبنا من الريف السواد. إنى قد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.» وبعث بالأخماس مع جماعة فيهم زياد بن أبى سفيان، وكان هو الذي يكتب للناس ويدوّنهم.
فلمّا قدموا على عمر، كلّم زياد عمر فيما جاء له من الاستيذان في التقدّم، ووصف له الحال.
فقال عمر: «هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلّمتنى به؟» فقال: «والله، ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى [400] على هذا من غيرك!» فقام في الناس بما أصابوا، وبما صنعوا، وبجميع ما يستأذنون فيه من الإنسياح في البلاد.
فقال عمر: «هذا الخطيب المصقع.» وقال: «إنّ جندنا بالفعال أطلقوا ألسنتنا بالمقال.» [1] ثمّ إنّ عمر لما نظر إلى الأخماس المحمولة من جلولاء قال:
- «والله، لا يحمّنّه سقف بيت حتّى أقسمه.» فبات عبد الرحمان بن عوف، وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في سقف المسجد.
فلمّا أصبح جاء في الناس، فكشف عنه الأنطاع. فلمّا نظر إلى ياقوته، وزبرجده، وجوهره، بكى.
فقال له عبد الرحمان:
- «ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله، إنّ هذا لموطن شكر وسرور.»
__________
[1] . وفي الطبري: إنّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا (5: 2466) .(1/365)
فقال عمر: «ماذا يبكيني؟ والله، ما أعطى الله هذا قوما إلّا تحاسدوا، وتباغضوا. ولا تحاسدوا إلّا وقع بأسهم بينهم.» ولما فرض عمر العطاء، قال قائل:
- «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال عدّة لكون إن كان.» فقال: «كلمة ألقاها الشيطان على فيك، وقاني الله [401] شرّها، وهي فتنة لمن بعدي. بل أعدّ لهم ما أعدّ الله ورسوله. طاعة الله ورسوله، فهما عدّتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون.»
ما عامل به عمر خالد بن الوليد
وفي سنة سبع عشرة، أدرب [1] خالد بن الوليد وعياض، وكان خالد على قنّسرين من تحت يد أبى عبيدة، فأصابوا أموالا عظيمة. فانتجع خالدا رجال.
وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه بخروج من خرج من تلك الغزاة من الشام، وبجائزة من أجيز.
فدعا البريد وكتب معه إلى أبى عبيدة:
أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث: أمن ماله، أم من إصابة، فإن زعم أنّها من إصابة أصابها، فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنّها من ماله، فقد أسرف، فاعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله.
__________
[1] . أدرب القوم: دخلوا أرض العدوّ.(1/366)
فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه. ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام [402] البريد، فقال:
- «يا خالد! أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من إصابة؟» فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا.
فقال بلال بعد أن قام إليه:
- «إنّ أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا.» وتناول عمامته فنقضها [1] ، لا يمنعه سمعا وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه، فعقله بعمامته وقال:
- «ما تقول، أمن مالك، أم من أصابة؟» قال: «لا. بل من مالي.» فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثمّ عممه بيده وقال:
- «نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا.» وأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيما ولا يخبره. فلمّا طال على عمر أن يقدم خالد، ظنّ الذي كان.
فكتب إليه بالإقبال.
فأتى خالد أبا عبيدة، فقال:
- «رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت؟ كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعرفه قبل اليوم.» فقال أبو عبيدة:
- «إنّى والله ما كنت لأروعك: ما وجدت بدّا، وقد علمت أنّ ذلك يروعك.» فرجع [403] خالد إلى قنّسرين فخطب أهل عمله، وودّعهم، وتحمّل، ثم
__________
[1] . في الأصل: فنفضها. وصححناه بما في مط.(1/367)
خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه، وقال:
- «لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله، إنّك في أمرى غير مجمل يا عمر.» فقال له عمر:
- «من أين هذا الثراء؟» قال: «من الأنفال والسّهمان.» ثمّ أخذ منه عشرين ألف درهم، فأدخلها بيت المال. ثمّ قال:
- «يا خالد، والله إنّك علىّ لكريم، وإنّك إلىّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.» وكتب عمر في الأمصار:
- «إنّى لم أعزل خالدا عن سخط ولا خيانة ولكنّ المسلمين فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا [به] [1] وأحببت أن تعلموا أنّ الله هو الصانع، وألّا نكون بعرض فتنة.» [2] وحجّ عمر في هذه السنة، وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها.
علاء بن الحضرمي وعاقبة عصيانه
وكان علاء بن الحضرمي بالبحرين واليا من قبل أبى بكر ثمّ من قبل عمر [404] وكان يبارى [3] سعدا، فطال [4] العلاء على سعد في الردّة بالفضل. فلمّا
__________
[1] . تكملة من الطبري.
[2] . راجع الطبري (5: 28- 2526) .
[3] . الكلمة مطموسة في الأصل وأثبتناها كما في مط والطبري (5: 2546) .
[4] . كذا في الأصل ومط: فطال، وفي الطبري: فطار.(1/368)
ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة، وأخذ حدود ما يلي السواد وغيرها، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، أحبّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، ورجا أن يدال كما قد أديل.
ولم ينظر العلاء في ما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ. وكان عمر لما ولّاه نهاه عن البحر، فلم يفكّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، وطمع في فارس من جهته.
فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا: على أحدها الجاورد بن المعلّى، وعلى الآخر السوار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جماعة الناس. فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر وبازائهم أهل فارس وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم.
فقام خليد في الناس فقال:
- «أمّا بعد، فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير [405] حتى يصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنّما جئتم لمحاربتهم والأرض والسفن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة.» فأجابوه إلى ذلك وصلّوا الظهر، ثم ناهدوهم في موضع يقال له: طاؤوس.
فقتل جماعة من المسلمين فيهم السوار والمنذر بن الجارود. وتزجّل خليد بن(1/369)
المنذر وارتجز:
يال تميم [1] جمّعوا النزول ... قد كاد [2] جيش عمر يزول
وكلّكم يعلم ما أقول
- «وانزلوا!» فنزلوا، فقاتلوا القوم، فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها، وهزم الباقون. ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت سفنهم ولم يجدوا إلى الرجوع سبيلا. فوجدوا سهرك [3] قد أخذ على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم ذلك.
وبلغ عمر ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر، فألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إليه بعزله، وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وقال له:
- «الحق بسعد بن أبى وقّاص في من قبلك، فهو [406] أمير عليك.» فخرج بمن معه نحو سعد.
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان:
- «انّ العلاء بن الحضرمي حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنّه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم ألّا ينصروا، وأن يغلبوا، وينشبوا. فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا.»
__________
[1] . الطبري: «يال تميم أجمعوا» . (يال يا آل) . وفي الأصل: يالتميم.
[2] . الطبري: «وكاد» (5: 2548) .
[3] . كذا في مط: سهرك. وفي الطبري: شهرك، سهرك (5: 2548) .(1/370)
فندب عتبة الناس إليهم وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة وجماعة يجرون مجراهم كالأحنف بن قيس، وسعد بن أبى العرجاء، وصعصعة بن معاوية، فخرجوا في اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم. فسار أبو سبرة بالناس وساحل لا يلقاه أحد ولا تعرّض له حتى التقى مع خليد، بحيث أخذ عليهم الطريق غبّ وقعة القوم بطاؤوس، وإنّما كان ولى قتالهم أهل إصطخر والشذّاذ من غيرهم، وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا بالطرق على المسلمين وأنشبوهم، استصرخوا أهل فارس كلهم، فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة.
فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاؤوس وقد توافت إلى [407] المسلمين أمدادهم، وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين سهرك. فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا، وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا.
وكتب إليهم عتبة بالحثّ وقلّة العرجة، فانضمّوا إليه بالبصرة، وقبل ذلك فتح عتبة الأهواز، وقاتل فيها الهرمزان حتى ظفر به بتستر بعد وقعات أسر في آخرها الهرمزان وأعطى بيده على الرضا بحكم عمر. وقتل الهرمزان بيده البراء بن مالك [1] ومجزأة بن ثور.
إرسال الهرمزان إلى المدينة
ووفد أبو سبرة وفدا فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس. فأرسل الهرمزان معهم فقدموا [2] مع أبى موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة.
__________
[1] . في الأصل: ثور، وهو خطأ، وما أثبتناه يؤيده مط والطبري (5: 2556) .
[2] . كذا في مط: فقدموا. والأصل غير واضح.(1/371)
فلما دخلوها هيّأوا الهرمزان في هيأته [1] ، وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى ال «آذين» مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته كي ما يراه عمر والمسلمون. ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله، فلم يجدوه. فسألوا عنه، [408] فقيل لهم: «جلس [2] في المسجد.» ولم يروه. فلمّا انصرفوا، مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون.
فقالوا لهم:
- «ما تلدّدكم [3] ، تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسّد برنسه. [4] » وكان عمر جلس لوفد الكوفة في برنس. فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه، نزع برنسه، ثمّ توسّده فنام.
فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرّة في يده معلّقها [5] .
فقال الهرمزان: «أين عمر؟» قالوا: «ها هو ذا!» وجعل الوفد يشيرون إلى الناس: أن اسكتوا عنه. وأصغى الهرمزان إلى الوفد.
فقال: «أين حرسه وحجّابه عنه؟» قالوا: «ليس له حاجب ولا حارس ولا كاتب ولا ديوان.»
__________
[1] . وفي الأصل: هيآته. وما أثبتناه يؤيده مط الطبري.
[2] . كذا في مط والطبري (5: 2557) ، والأصل مطموس.
[3] . مط: ما تلدّدهم، والطبري: ما تلدّدكم. والأصل غير واضح، وما أثبتناه عن الطبري: تلدّد: تلفّت يمينا وشمالا.
[4] . قلنسوة طويلة كانت تلبس في صدر الإسلام. كلّ ثوب يكون غطاء الرأس جزءا منه متّصلا به.
[5] . كذا في الأصل ومط. وفي الطبري: والدّرة في يده معلّقة. والدرّة: السوط يضرب به.(1/372)
قال: «فينبغي أن يكون نبيّا.» فقالوا: «لا، ولكنّه يعمل عمل الأنبياء.» وكثر الناس وكلامهم، فاستيقظ عمر بالجلبة [1] ، فاستوى جالسا. ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: «الهرمزان؟» فقالوا: «نعم!» فتأمله، وتأمّل ما عليه، ثم قال:
- «أعوذ بالله من النار، الحمد لله الذي أذلّ بالإسلام هذا وأشياعه. يا معشر المسلمين! تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا [409] بهدى نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا، فإنّها غرّارة.» فقال الوفد: «هذا ملك الأهواز، فكلّمه!» قال: «لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.» فرمى عنه بكلّ شيء إلّا ما يستره، فألبسوه ثوبا صفيقا.
فقال عمر: «هي يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟» فقال: «يا عمر! إنّا وإيّاكم في الجاهلية كان الله خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا صار معكم غلبتمونا.» فقال عمر: «إنّما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرّقنا.»
ذكر خديعة للهرمزان وحيلة له حتى آمنه عمر
ثم قال عمر: «ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟» فقال: «أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.»
__________
[1] . كذا في الطبري. وفي الأصل ومط غموض. الجلبة: اختلاط الأصوات والصياح.(1/373)
قال: «لا تخف ذلك.» واستسقى ماء، فأتى به في قدح. فقال:
- «لو متّ عطشا لم أستطع الشرب في مثل هذا.» فأتى به في إناء يرضاه. فجعلت يده ترعد، وقال:
- «إنّى أخاف أن أقتل وأنا أشرب.» فقال له عمر: «لا تخف، فلا بأس عليك حتى تشربه.» فألقاه. فقال عمر:
- «أعيدوا عليه، ولا [410] تجمعوا عليه القتل والعطش.» فقال: «لا حاجة لى في الماء، إنّما أردت أن أستأمن به.» ! فقال له عمر: «إنّى قاتلك.» قال: «قد آمنتنى.» فقال: «كذبت.» فقال أنس: «صدق يا أمير المؤمنين» ! فقال: «ويحك! أنا أومن قاتل مجزأة والبراء؟ لتأتينّى [1] بمخرج ما قتلت!» قال: «قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني. وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه.» وقال جلّة الصحابة ممن حوله مثل ذلك.
فأقبل على الهرمزان وقال: «تكلّم بحجّتك.» قال: «كلام حىّ أم كلام ميّت؟» قال: «بل كلام حىّ.» قال: «قد آمنتنى ثالثة.»
__________
[1] . وفي الطبري: «والله لتأتينّ بمخرج، أو لأعاقبنّك، قال: قلت له..» (5: 2559) .(1/374)
قال عمر: «خدعتني! لا والله، لا أومنك إلّا أن تسلم.» فقيل له: «أسلم! وإلّا قتلت.» فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.
عمر واللغة الفارسية
وكان المغيرة بن شعبة يترجم بينهما إلى أن حضر الترجمان.
فقال عمر للمغيرة: «سله: من أيّة أرض أنت؟» فقال المغيرة: «أز كذام أرضيه؟» فقال: «مهرجانىّ.» وكان المغيرة يفقه شيئا [من الفارسيّة] [1] .
فقال له عمر: «ما أراك حاذقا بها. ما أحسنها منكم أحد إلّا خبّ [2] ، وما خبّ إلّا دقّ. إيّاكم وإيّاها [3] ، فإنّها تنقص [4] الإعراب.» وأقبل زيد بعد ذلك، فجعل يترجم بينهما. [411]
ذكر رأى صحيح للأحنف بن قيس
وقال عمر للوفد: «لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى، أو بأمور لها ما ينتقضون بكم.» فقالوا: «ما نعلم إلّا حسن ملكة.» قال: «فكيف هذا؟»
__________
[1] . ما في [] تكملة من الطبري (5: 2560) .
[2] . وفي الطبري: خبّ، وفي حواشيه: حبّ.
[3] . مط: أباكم وأباهم!
[4] . كذا في مط. وفي الطبري: فإنّها تنقض الإعراب. وفي حواشيه: فإنّها تنقص الأعراف (5: 2560) .(1/375)
فلم يجد عند أحد ما يشفيه ويبصر به مما [1] يقولون، إلّا ما كان من الأحنف فإنّه قال:
- «يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الإنسياح [2] في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وأنّ ملك فارس حىّ بين أظهرهم، وأنّهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان حتى يفنى أحدهما صاحبه. وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلّا بانبعاثهم مرّة بعد مرّة، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم. ولا يزالون هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح [3] في بلادهم، حتى نزيله عن بلادهم، ونخرجه من مملكته وعزّ أمّته [4] ، فهناك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربوا [5] جأشا.» فقال عمر: «صدقتني والله، وشرحت لى الأمر عن حقّه.» فكان هذا سبب إذنه لهم في الإنسياح.
يزدجرد يمضى إلى إصطخر وسياه يشترط للإسلام
ومضى يزدجرد بمشورة الموبذ إلى إصطخر فينزلها، لأنّها دار المملكة [412] ويوجّه الجنود. فلمّا بلغ إصبهان أقام أياما وقدم سياه لينتخب من كلّ بلدة مرّ بها
__________
[1] . مط: «ينصر ما يقولون» . في الأصل: «وينصر به ما يقولون» وكلاهما تحريف، فأثبتنا العبارة حسب الطبري: «ويبصر به مما يقولون» (5: 2560) .
[2] . مط: الانسباح.
[3] . وفي الطبري: فلنسح (5: 2561) . مط: فنسبح. ونقطتا الياء مطموستان في الأصل.
[4] . كذا في الطبري أيضا. وفي حواشيه: «وعرامته» ، «وعن أمته» (5: 2561) .
[5] . في الأصل: «يضربوا» وهو خطأ. وأضرب جأشا لأمر كذا: وطّن نفسه عليه (مد) .(1/376)
من أحبّ. فمضى سياه واتبعه يزدجرد حتى نزلوا بإصطخر، ووجّه سياه [1] إلى السوس. ولم يزل كذلك حتى قدم عمار بن ياسر وأبو موسى يومئذ بتستر.
سياه يرى الدخول في الإسلام
فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من إصبهان، وقال:
- «قد علمتم أنّا كنّا نتحدّث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس، سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في أبواب إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيلهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلّا فتحوه.
فانظروا لأنفسكم.» قالوا: «رأينا رأيك.» قال: «فليكفنى كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإنّى أرى أن ندخل في دينهم.» ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبى موسى يأخذ لهم شروطا على أن يدخلوا في الإسلام.
فقدم شيرويه على أبى موسى فقال:
- «إنّا قد رغبنا في دينكم على أن نقاتل معكم العجم ولا نقاتل معكم [413] العرب، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم،
__________
[1] . وصرف الاسم في بعض الأصول فقيل: «سياها» ، و «سياه» ، أنظر الطبري 5: 2562.(1/377)
وننزل حيث شئنا، ونكون في من شئنا منكم، وتلحقوننا بأشرف [1] العطاء، يعقد لنا بذلك الأمر، الذي هو فوقك.» فقال أبو موسى: «لكم ما لنا، وعليكم ما علينا.» قالوا: «لا نرضى.» وكتب أبو موسى إلى عمر بذلك. فقال: «أعطهم ما سألوك.» فكتب لهم أبو موسى فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر. فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية.
فقال لسياه: «يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى قبل اليوم!» قال: «لسنا مثلكم في هذا الدين، ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهنّ، ولم تلحقونا بأشرف العطاء، ولنا سلاح وكراع وأنتم حسّر.» فكتب أبو موسى في ذلك إلى عمر. فكتب إليه عمر أن:
- «ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء، وأكثر شيء أخذه أحد من العرب.» ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين وخمسمائة: لسياه وخسرو- ولقبه مقلاص- وشهريار، وشيرويه، وسارويه، وأفريذون [2] . [414]
ذكر مكيدة في فتح حصن
فأمّا سياه فمشى إلى حصن. ويقال: إنّه تستر في زىّ العجم، حتى رمى بنفسه
__________
[1] . وفي الطبري: بأشراف العطاء.
[2] . في الطبري: «شهرويه وأفروذين» بدل «سارويه وأفريذون» . وفيه أيضا:
[و] لما رأى الفاروق حسن بلائهم وكان بما يأتى من الأمر أبصرا فمنّ لهم ألفين فرضا، وقد رأى ثلاث مئين فرض عكّ وحميرا(1/378)
إلى جنب الحصن ونضح [1] ثيابه بالدم. فأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوه منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا. ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون. وأمّا خسرو فمشى إلى حصن آخر حاصروه، فأشرف عليه رجل رئيس منهم، فكلّمه، ثمّ رماه خسرو بنشّابة فقتله.
ذكر حيلة قوم في الحصار خرجوا بها من حصارهم وسياسة لعمر
وأما جنديسابور فإنّ أبا سبرة لمّا فرغ من السوس خرج في جنده حتى نزل عليها، وحاصرهم أيّاما يغادونه ويراوحونه القتال. فرمى إليهم بأمان من عسكر المسلمين وفتح بابها. فلم يفجأ المسلمين إلّا أبوابها [2] تفتح. ثم خرج السرح [3] وخرجت الأسواق وانبثّ أهلها.
فأرسل المسلمون [415] أن: «مالكم؟» قالوا: «رميتم إلينا بالأمان فقبلناه وأقررنا لكم بالجزى على أن تمنعونا.» فقالوا: «ما فعلنا.» فقالوا: «ما كذبنا.» فتساءل المسلمون بينهم، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها هو الذي كتب لهم.
فقالوا: «إنّما هو عبد.» فقالوا: «نحن لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاءنا أمان، فنحن عليه، قد
__________
[1] . وفي الطبري: «نضخ» ، «نضح» (5: 2564) . وكلاهما صحيح، فهما مشتركان في المعنى الملائم هنا:
نضح البيت بالماء: رشّه، نضح الجلد: بلّه كي لا يتكسّر، ونضخ الشيء: رشّه. بلّه.
[2] . وفي الطبري: إلّا وأبوابها، إلّا بأبوابها.
[3] . السرح: الماشية.(1/379)
قبلناه ولم نبدّل. فإن شئتم فاغدروا.» فأمسكوا عنهم وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب إليهم:
- «لم تكونوا أوفياء، حتى تفوا على الشكّ، أجيزوهم وفوا لهم.» [1] ثم عمل عمر برأى الأحنف، وعقد الأولوية للأمراء والجنود من أهل الكوفة وأهل البصرة. فكان لواء الأحنف على خراسان.
يوم نهاوند: فتح الفتوح
ولما خرج يزدجرد من الجبل، وصار إلى مرو، وكاتب الجيوش بالأطراف، فكتب إلى أهل الجبال، ممّن بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحرّكوا وتكاتبوا وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ثمّ يبرموا فيها أمورهم. فتوافى إليها من بين حلوان [416] وخراسان ومن بين الباب وحلوان، ومن بين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج وأهل الجبال وهم مائة وخمسون ألفا.
ثم تآمر الرؤساء عند الفيرزان وكان عليهم، فقالوا:
- «إنّ محمدا الذي جاء العرب بالدين [2] لم يعرض عرضنا [3] . ثم ملكهم أبو بكر من بعده، فلم يعرض عرض [4] فارس إلّا في غارة تعرض [5] لهم فيها، وإلّا في ما يلي ديارهم. ثمّ ملك عمر فطال ملكه وعرض [6] حتى تناولكم، وأخذ السواد كلّه، والأهواز. ثم لم
__________
[1] . انظر الطبري (5: 2568) .
[2] . مط: الكلمة ساقطة من مط.
[3] . مط: «عرضا» وفي الطبري: «لم يغرض غرضنا» .
[4] . وفي الطبري: «فلم يغرض غرض فارس» .
[5] . كذا في الطبري: تعرض.
[6] . كذا في الطبري: وعرض (5: 2608) . والأصل غير مشكول في كلّ ذلك.(1/380)
يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم وهو آتيكم إن لم تأتوه. وقد أخرب بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقطعوا [1] هذين المصرين وتشغلوه في بلاده وقراره.» فتعاهدوا وتواثقوا. وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا [2] عليه.
وبلغ الخبر سعدا، وخرج إلى عمر ليشافهه بذلك، ولأنّ قوما من جنده شغبوا عليه، وسعوا به إلى عمر، فاستخلف عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فكتب [417] عبد الله بن عبد الله إلى عمر أنّه:
«قد تجمّعت الفرس مائة وخمسين ألفا مقاتلة مستميتين، فإن جاءونا قبل أن تبدرهم الشدّة ازدادوا جرأة وقوّة، وإن نحن عاجلناهم كان ذلك لنا عليهم.» وكان الرسول بذلك قريب بن ظفر. ولما قدم الرسول بالكتاب على عمر وبالخبر قرأه، وسمع منه، وقال:
- «ما اسمك؟» قال: «قريب.» قال: «ابن من؟» قال: «ابن ظفر.» فتفأّل بذلك وقال:
- «ظفر قريب، إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله.»
__________
[1] . كذا في مط: تقطعوا، وفي الطبري: تقلعوا. (5: 2609) .
[2] . في الأصل ومط: «تمالوا» ، وفي الطبري: «تمالئوا» .(1/381)
ذكر آراء صحّ منها واحد
ونودى في الناس: «الصلاة جامعة.» فاجتمع الناس ووافاه سعد فقال:
- «إلىّ سعد بن مالك!» وقام عمر على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر، واستشارهم، وقال:
- «هذا يوم له ما بعده، فاسمعوا لى، ثمّ أجيبونى، وأوجزوا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ 8: 46 [1] ، ولا تكثروا ولا تطيلوا فتفشغ لكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأى، إنّى قد رأيت أن أسير [418] في من قبلي [2] ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا من هذين المصرين وسطا، ثم أستنفرهم، ثم أكون لهم ردءا، حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب.» فقام طلحة بن عبيد الله فقال:
- «يا أمير المؤمنين، قد أحكمتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك.» في كلام طويل يشبه هذا، ثم جلس.
فعاد عمر فقال:
- «هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلّموا.» فقام عثمان بن عفّان، فتشهّد، وقال:
__________
[1] . س 8 الأنفال: 46.
[2] . تكرّرت: «قبلي» فحذفنا إحداهما.(1/382)
- «أرى- يا أمير المؤمنين- أن تكتب إلى أهل اليمن، فيسيروا من يمنهم، وإلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وتسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة، فتلقى جميع المشركين بجميع المسلمين، فإنّك إذا سرت بمن معك وعندك، قلّ في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعزّ عزّا. يا أمير المؤمنين، إنّك لا تستبقى من نفسك بعد العرب باقية، ولا تمتنع [1] من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام [فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه] [2] ، فتكلّموا.» فقام علىّ عليه السلام فقال:
- «أما بعد، فإنّك [419] إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريّهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريّهم، وإنّك إن أشخصت أهل الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى تكون ما تدع وراءك، أهمّ إليك مما بين يديك من العورات والعيالات. أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة، فليفترقوا ثلاث فرق: فلتقم فرقة في أهل عهدهم لئلّا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، لأنّ الأعاجم إن ينظروا إليك ويقولوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، كان أشدّ لكلبهم، وألّبتهم عليك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم، فإنّ الله هو أكره لمسيرهم منك، ولهو أقدر على تغيير ما
__________
[1] . كذا في مط: تمتنع. وفي الطبري: لا تمنع، لا تمتنع (5: 2612) .
[2] . ما بين [] تكملة عن الطبري.(1/383)
يكره، وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنّا كنّا نقاتلهم بالنصر.» فقال عمر:
- «أجل، هذا الرأى. والله أين سرت لينتقضنّ علىّ الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت [420] إلىّ الأعاجم لا يفارقوا العرصة وليمدّنّهم من لم يمدّهم، وليقولنّ: هذا أصل العرب، فإن اقتطعتموه فقد اقتطعتم أصل العرب. فأشيروا علىّ برجل أولّه ذلك الثغر، واجعلوه عراقيّا.» فقالوا: «أنت أعلم يا- أمير المؤمنين- بجندك وأهل عراقك، فقد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلّمتهم.»
ابتداء وقعة نهاوند
وكان النعمان بن مقرّن على كسكر، ولّاه سعد الخراج بها. فكتب إلى عمر:
- «إنّ مثلي ومثل كسكر مثل رجل شابّ إلى جنبه مؤمسة تلوّن له وتعطّر، فأنشدك الله لمّا عزلتني وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين.» فلمّا كان هذا اليوم الذي خطب فيه عمر، وجرى ما جرى مما كتبته، قال عمر:
- «أما والله لأولّينّ أمرهم رجلا ليكوننّ أول الأسنّة إذا لقيها غدا.» فقيل: «من، يا أمير المؤمنين؟» فقال: «النعمان بن مقرّن» .
قالوا: «هو لها.»(1/384)
فكتب إليه عمر أن: «ائت نهاوند، فأنت على الناس بها.» فلمّا التقوا كان أول قتيل. وسنحكى خبره في موضعه.
وردّ عمر [421] قريب بن ظفر، وردّ معه السائب الأقرع وكان السائب يومئذ مندوبا للأمانة وقسمة الفيء، لأنّه كان كاتبا حاسبا، كما كان محمد بن مسلمة مندوبا لتتبع العمال والطواف عليهم.
وقال عمر للأقرع:
- «إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم، ولا تخدعني، ولا ترفع إلىّ باطلا، وإن نكب القوم، فلا تراني ولا أراك، فبطن الأرض خير لك من ظهرها.» فقدما الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث. وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظّا [1] .
ذكر خديعة للهرمزان لم تتمّ له وما جرى بعد ذلك
كان عمر بن الخطّاب استدعى الهرمزان حين آمنه، فقال:
- «انصح لى فقد آمنتك.» قال: «نعم. إنّ الفرس اليوم رأس وجناحان.» قال: «فأين الرأس.» قال: «بنهاوند مع بندار، ومعه أساورة كسرى وأهل إصبهان.» قال: «فأين الجناحان؟» فذكر مكانا. قال الهرمزان:
- «فاقطع الجناحين يهن [422] الرأس.»
__________
[1] . أنظر الطبري 5: 2616.(1/385)
فقال عمر: «كذبت يا عدوّ الله بل أعمد إلى الرأس، فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يقبض عليه الجناحان.» فكتب إلى أبى موسى أن: سر بأهل البصرة، وإلى حذيفة أن: سر بأهل الكوفة.
وبعث بعثا من المدينة فيهم ابنه عبد الله بن عمر، وفيهم المهاجرون والأنصار، وقال:
- «إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرّن.» فخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم بن مقرّن حتى قدموا على النعمان بالطزر [1] وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النّسير، وقد كتب عمر إلى سلمى بن القين وحرملة وزرّ بن كليب وقوّاد المسلمين الذين كانوا بين فارس والأهواز أن:
- «اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمّتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين الأهواز وفارس حتى يأتيكم أمرى.» وبعث مجاشع بن مسعود السلمىّ إلى الأهواز، وقال له: انصل منها على ماه.
فلما صار بغضي شجر ناحية مرج القلعة، أمره النعمان أن يقيم بمكانه [423] ونصل سلمىّ وحرملة وزرّ، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن نهاوند الأمداد من فارس.
وورد على النعمان، وهو بطزر، كتاب عمر:
- «إنّ معك حدّ العرب ورجالهم فاستعن بهم وبرأيهم، وسل طليحة وعمرا، ولا تولّهم شيئا» .
فبعث من بطزر طليحة وعمرا، وعمرو بن أبى سلمى ليؤاتوه بالخبر. فأما عمرو وعمرو فإنّهما رجعا من الطريق آخر الليل.
فقال طليحة: «ما الذي يرجعكما؟»
__________
[1] . كذا بالأصل والطبري (5: 2616) ، وفي مط وحواشي الطبري: الطرز.(1/386)
قالا: «سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا، وخفنا أن يؤخذ علينا بالطريق.» ولم يحفل بهما [1] . ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبينها وبين الطزر بضعة وعشرون فرسخا.
فقال الناس: «ارتدّ الثانية.» فلما علم طليحة علم القوم، رجع، حتّى إذا انتهى إلى الجمهور كبّر الناس.
وقال: «ما شأن القوم؟» فأخبروه بالذي خافوا عليه.
فقال: «والله لو لم يكن [دين] [2] [424] إلّا العربية فقط، ما كنت لأجزر هذه العرب العاربة لهذه العجم الطماطمة.» فأتى النعمان، فدخل إليه، وأخبره أن ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه.
فنادى النعمان بالرحيل وعبّأهم، وجعل على المجرّدة القعقاع بن عمرو، وكذلك جعل على ميمنته وميسرته ومقدمته أهل النجدات.
إرسال المغيرة بن شعبة إلى الفرس
فلما اجتمعوا بنهاوند أرسل إليهم الفرس أن: أرسلوا رجلا نكلّمه. فأرسلوا المغيرة بن شعبة.
فلما رجع سألوه عما جرى.
فقال: وجدت العلج قد استشار أصحابه: [3]- «بأى شيء تأذنون لهذا العربىّ، بالشارة والبهجة أو بتقشّف له؟» فاجتمع رأيهم على أفضل ما يكون من الشارة والعدّة. فتهيّأوا بها. فلمّا أتيناهم كادت تلك الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، وإذا هم على رأسه مثل الشياطين،
__________
[1] . كذا في مط والطبري (5: 2617) ، وما في الأصل: لهما.
[2] . تكملة عن الطبري.
[3] . أنظر الطبري 5: 2642.(1/387)
وإذا هو على سرير من ذهب، على رأسه التاج.
قال: فمضيت كما أنا، ونكّست رأسى. فدفعت، ونهيت.
فقلت: «الرسل لا يفعل بهم هذا!» [425] فقالوا: «إنّما أنت كلب.» فقلت: «معاذ الله، لأنا في قومي أشرف من في قومه» .
فانتهرونى وقالوا:
- «اجلس!» .
فأجلسونى، ثم قال- وترجم لى قوله-:
- «إنّكم معشر العرب أبعد الناس من كلّ خير، أطول الناس جوعا، وأشقاهم شقاء، وأقذرهم قذرا، وأبعدهم دارا، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم من النشاب بمثل شوك القنفذ، إلّا تنجّسا لجيفكم، فإنّكم أرجاس. فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأبوا، نركم مصارعكم.» قال: فحمدت الله وأثنيت عليه، ثمّ قلت:
- «والله، ما أخطأت من صفتنا شيئا. إن كنّا لكذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنّة في الآخرة. فوالله ما زلنا نتعرّف من ربّنا، منذ جاء رسوله، الفتح والنصر حتى أتيناكم. وإنّا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا، حتى نغلبكم على ما في أيديكم، أو نقتل بأرضكم.» فقال: «والله لقد صدقكم الأعور ما في نفسه.» فقمت [426] وقد أرعبت العلج. فأرسل إلينا العلج:
- «إمّا أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم.»(1/388)
فقال النعمان: «اعبروا» .
وكانوا قد انتهوا إلى الإسبيذهان وهم وقوف دون وادي خرد على تعبيتهم، وأمرهم إلى الفيرزان، وقد جعل بهمن جاذويه مكان ذى الحاجب، فهو على مجنبته، وقد توافى إليه كلّ من غاب عن القادسية والأيّام من أهل الثغور، وأمرائها، وأعلامهم. وأنشب النعمان بعد ما حطّ الأثقال وضرب الفسطاط القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس وهم كأنّهم جبال الحديد، وقد تواثقوا ألّا يفرّوا من العرب وألقوا حسك الحديد خلفهم وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك [1] الحديد.
فقال المغيرة حين رأى كثرتهم:
- «لم أر كاليوم فشلا، إن عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أم والله لو أنّ الأمر إلىّ لأعجلتهم» .
وكان النعمان رجلا ليّنا، فقال:
- «قد كان الله يشهدك أمثالها، فلا يخزيك. إنّه والله ما منعني من المناجزة إلّا شيء شهدته [427] من رسول الله- صلى الله عليه- إذا غزا فلم يقاتل أول النهار، ولم يعجل حتى تحضر الصلاة وتهبّ الأرواح ويطيب القتال، فما منعني إلّا ذلك.
اللهمّ إنّى أسألك أن تقرّ عيني بفتح يكون فيه عزّ الإسلام وذلّ الكفار، ثمّ اقبضنى إليك على الشهادة. ائمنوا [2] يرحمكم الله.» فأمنّا وبكينا. ثمّ أقدم بعد الصلاة للقتال.
قال: ولمّا كان يوم الجمعة انجحروا [3] في خنادقهم، وذلك لما رأوا صبرنا أنّا لا نبرح العرصة فصبروا معنا. ثمّ إنّهم لم يصبروا، فحصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلّا إذا أرادوا. فاشتدّ ذلك على
__________
[1] . الحسك: الشوك.
[2] . في الأصل: أمنوا. وفي مط: وأمنوا.
[3] . من قولهم: انجحر الضبّ أو السبع: دخل جحره.(1/389)
المسلمين حدّا، وخافوا أن يطول أمرهم.
ذكر آراء صحّ أحدها على طريق المكيدة
حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع، تجمّع أهل الرأى من المسلمين، فتكلّموا، وأتوا النعمان، وقالوا:
«نراهم بالخيار والقوّة» [1] .
وهو يروّى فيما روّوا فيه. فقال:
- «على رسلكم، لا تبرحوا» .
وبعث إلى من بقي من أهل النجدات [428] والرأى في الحرب، فتوافوا إليه.
فتكلّم النعمان فقال:
- «قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنّهم لا يخرجون إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وابتعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق الذي هم فيه وعليه من الخروج. فما الرأى الذي به نحمشهم [2] ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟» فتكلّم عمرو بن أبى سلمى وكان أسنّ القوم، فقال:
- «التحصّن أشدّ عليهم من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم.» فردّوا جميعا رأيه، وقالوا:
- «إنّا على يقين من إنجاز ربّنا وعده لنا.» وتكلّم عمرو بن معدى كرب، فقال:
__________
[1] . كذا في مط، وفي الأصل: «ألقوه» وهو تصحيف.
[2] . أى: نغضبهم ونهيجهم.(1/390)
- «ناهدهم ولا تخف وكاثرهم.» فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: [1]- «إنما نناطح الجدران.» وتكلّم طليحة فقال:
- «قد قالا ولم يصيبا تفسير ما أرادا. فأمّا أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية [2] فيحدقوا بهم، ثمّ يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم، فإذا استحمشوهم واختلطوا بهم [429] وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم إلى اليوم، فإنّهم إذا أرادوا ذلك طمعوا في هزيمتنا ولم يشكّوا فيها، وخرجوا، فجادّونا، وجاددناهم حتى يقضى الله بيننا.» فأمر النعمان بن عمرو، وكان على المجرّدة بذلك، ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، وأنغضهم. فلمّا خرجوا نكص، ثم نكص، واغتنمها العجم.
ففعلوا كما ظنّ طليحة، وقالوا: «هي، هي» [3] . فخرجوا، فلم يبق أحد إلّا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع والنعمان بن مقرّن والمسلمون على تعبئتهم.
وفي يوم جمعة وفي صدر النهار، وقد عهد النعمان عهده وقال: إن أصبت ففلان، فإن أصيب ففلان. وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم.
ففعلوا واستتروا [4] بالحجف [5] من الرمى، وجعل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك [430] إلى بعض ثم قالوا للنعمان:
__________
[1] . في الأصل: «قال» فصححناه كما في مط.
[2] . في الأصل ومط: موذنة. آذن فلانا: أعلمه. وآذن الولد: عرك أذنه. وما أثبتناه عن الطبري (5: 2621) وهو الصحيح. آدى إيداءا: قوى وتهيأ، أو: تسلح بشكّة السلاح (متن اللغة) أى بالسلاح التامّ.
[3] . كذا في الأصل. وما في الطبري غير مشكول، وفي حواشيه: «هي هيه» (5: 2- 2621) .
[4] . مط: واستقرّوا.
[5] . والحجفة: المجنّ.(1/391)
- «ألا ترى ما نحن فيه؟ ائذن لنا في الحملة.» فقال لهم النعمان: «رويدا رويدا.» قالوا ذلك مرارا، فأجابهم بمثل ذلك.
فقال المغيرة: «لو إلىّ هذا الأمر، علمت ما أصنع.» فقال: رويدا، ترى [1] أمرك وقد كنت تلى الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إيّاك، ونحن نرجو في المكث مثل ما ترجو في الحثّ.» وانتظر النعمان أحبّ الأوقات كان إلى رسول الله- صلى الله عليه.
فلمّا كان قريبا من تلك الساعة وهي الزوال، سار فوقف على الرايات، ومدحهم، وحضّهم. ثمّ عاد إلى موقفه [2] ، وكبّر الأولى والثانية والثالثة والناس على غاية السمع والطاعة. وحمل النعمان والناس معه، فالتقوا بالسيوف، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة قطّ كانت أشدّ منها، لا يوم القادسية لا غيرها مما تقدّم، قتلوا فيها من الفرس فيما بين الزوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة وما يزلق فيه الناس والدواب، وزلق بالنعمان فرسه وصرع، فأصيب.
وتناول [431] الراية أخوه نعيم بن مقرّن، وسجّى النعمان بثوب، وأتى [3] حذيفة بالراية، وكان عهد إليه بعده، فأقام اللواء. وقال المغيرة:
- «اكتموا مصاب أميركم حتى تنظروا ما يصنع الله فينا لكيلا يهن الناس، واقتتلوا.» فلما أظلم الليل انكشف المشركون، وتركوا قصدهم، وأخذوا نحو اللهب [4] الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان. فوقعوا فيه، وجعل لا يهوى فيه أحد إلّا قال:
__________
[1] . مط: نرى. وفي الطبري أيضا: ترى (5: 2622) .
[2] . كذا في مط: موقفه، والميم في الأصل مطموسة.
[3] . ما في الأصل ومط غير واضح، فأثبتناه حسب الطبري (5: 2625) .
[4] . اللهب: الفرجة والمهواة بين الجبلين أو الصدع في الجبل.(1/392)
«واى خرد» [1] ، فسمّى بذلك «وايه خرد» إلى اليوم. فمات فيه منهم نحو مائة ألف، وقتل في المعركة أعدادهم، ولم يفلت إلّا الشريد. ونجا الفيرزان من الصرعى في المعركة، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد، فاتّبعه نعيم بن مقرّن، وقدّم القعقاع قدّامه، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان، وكانت الثنية مشحونة من بغال وحمير موقّرة عسلا، فحبسته الدوابّ على أجله. فلما غشيه القعقاع وهو لا يجد طريقا فتوقّل [2] في الجبل، وتوقّل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلّال حتى انتهوا إلى مدينه همذان والخيل [432] في آثارهم، فدخلوها. وسمّيت الثنية: ثنية العسل، وقال المسلمون:
- «إنّ لله جنودا من عسل.» واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال.
دخول نهاوند
ودخل المسلمون بعد هزيمة الفرس نهاوند، [3] واحتووا على ما فيها، وجمعوا الأسلاب إلى صاحب الأقباض السائب الأقرع. فبيناهم كذلك، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على إتان، فأبلغ حذيفة؟
فقال: «أتؤمننى على أن أخبرك بما أعلم؟» قال: «نعم!» فقال: «إنّ النخيرجان وضع عندي ذخيرة كسرى، وأنا مخرجها لك على أمانى وأمان [4] من شئت.»
__________
[1] . وفي الطبري: «وايه خرد» (نفس الصفحة) .
[2] . مط: «فتوغل» وهو خطأ. توقل في الجبل: صعّد فيه.
[3] . والعبارة في الطبري: «ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند، مدينة نهاوند (5: 2626) .
[4] . وفي الطبري: أمان، أتان (5: 2627) .(1/393)
سفطان ملؤهما اليواقيت واللؤلؤ
فأعطاه ذلك، وأخرج له الذخيرة سفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اليواقيت واللؤلؤ. فلمّا فرغ السائب من قسمة الأموال اجتمع رأى المسلمين على دفعهما [1] إلى عمر.
قال السائب: فأصاب سهم الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان. فلمّا فرغت قدمت على عمر ومعى السفطان، فقال:
- «ما وراءك يا سائب!» فقلت: «خير، يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك- فأعظم الفتح- واستشهد النعمان بن مقرّن.» [433] فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [2] .
ثم بكى فنشج [3] حتى إنّى لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده [4] » .
قال: فلمّا رأيت ما لقى قلت:
- «يا أمير المؤمنين، ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه.» فقال: «المستضعفون من المؤمنين، لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم، وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة ابن أمّ عمر.» ثم قام ليدخل، فقلت:
- «إنّ معى مالا عظيما جئت به.» ثمّ أخبرته الخبر عن السفطين، فقال:
- «أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك.» قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعا إلى الكوفة، وبات تلك الليلة التي
__________
[1] . وفي الأصل: دفعها.
[2] . س 2 البقرة: 156.
[3] . نشج الباكي: غصّ من غير انتحاب.
[4] . الكتد والكتد: مجتمع الكتفين من الإنسان.(1/394)
خرجت فيها. فلما أصبح بعث أثرى رسولا، فوالله ما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبى بعيري، وقال:
- «الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك ولم أقدر عليك إلّا الآن.» قال: قلت: «ويلك! ولماذا؟» قال: «لا أدرى والله.» فركبت معه حتى قدمت عليه. فلما رآني قال:
- «ما لي ولابن أمّ السائب، بل ما لابن السائب وما لى!» قال: قلت: [434]- «وما ذاك يا أمير المؤمنين؟» قال: «ويحك! والله، إن هو إلّا نمت في تلك الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة الله تسحبنى إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إنّى سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عنّى لا أبا لك، فالحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم.» قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة وغشيني [التجار [1]] فابتاعهما منّى عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف [000، 000، 2] درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعها بأربعة آلاف ألف [000، 000، 4] درهم.
فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد.
وقسم حذيفة لأهل المسالح جميعا في نهاوند، مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنّهم كانوا ردءا للمسلمين لئلّا يؤتوا من وجه من الوجوه، وكان خلّف قوما على قلاع يحاصرون من فيها لئلّا ينزلوا فيؤتى المسلمون من قبلهم، فقسم لهم أيضا.
وسمّى يوم نهاوند فتح الفتوح [2] ولم تكن للفرس بعد قائمة.
__________
[1] . في الأصل: النجار وما أثبتناه عن مط.
[2] . افتتحت مدينة نهاوند أول سنة 19 لسبع سنين من إمارة عمر (الطبري 5: 2632) .(1/395)
ومن عجيب ما مرّ في حصار نهاوند أنّ رجلا [435] يقال له: جعفر بن راشد، قال لطليحة:
- «لقد أخذتنا خلّة [1] ، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟» فقال: «كما أنتم، حتى أنظر.» فأخذ كساء، فتقنّع به غير كثير، ثم قال:
- «البيان، البيان، غنم الدقّان [2] في البستان، مكان أرونان [3] .» فدخلوا البستان، فوجدوا الغنم مسمنة.
ثم جاء دينار إلى حذيفة، فصالحه عن ماه، فنسب إليه ماه [4] . فكان يوافى الكوفة كل سنة. فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس جميعا، فقال:
- «يا معشر أهل الكوفة، إنّكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فغبرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيّرتم وفشت فيكم خلال أربع: بخل، وخبّ [5] ، وغدر، وضيق، لم تكن فيكم واحدة منهنّ. فنظرت في ذلك، فإذا ذلك في مولّديكم، فعلمت من أين أتى، فإذا الخبّ من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز.»
فتح الرىّ
ثم إنّ نعيم بن مقرّن فتح همذان، وسار إلى الرىّ، وكان بالرىّ يومئذ سياوخش ملكا عليها وهو سياوخش [436] بن مهران بن بهرام شوبين.
[فاستمدّ] [6] أهل دنباوند، وطبرستان، وقومس، وجرجان، وقال:
__________
[1] . الخلّة: الجوع والفقر.
[2] . في مط: «الدفّان» بالفاء. وفي الطبري (5: 2630) : «الدهقان» ، وفي حواشيه: «الدوان» ، «الربان» .
[3] . لا إعجام في الأصل إلّا في النون الأخيرة. في مط: أروبان بالباء الموحدة. في الطبري: «أرونان» وفي حواشيه: «اونان» . والأرونان: الصعب الشديد من كلّ شيء.
[4] . فقيل: «ماه دينار» (الطبري 5: 2628) .
[5] . الخبّ: الخدعة والغشّ.
[6] . فاستمدّ: مطموسة في الأصل، فأخذناه عن مط.(1/396)
- «قد علمتم أنّ هؤلاء إن حلّوا بالرىّ إنّه لا مقام لكم.» فاحتشدوا له. فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الرىّ إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به. وكان الزينبىّ متوحّشا من سياوخش، فكاتب نعيم بن مقرّن، وصالحه وعاونه، وكان الزينبىّ قال لنعيم:
- «إنّ القوم كثير وأنت في قلّة، فابعث معى رجلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنّهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لذلك.» فبعث معه خيلا من الليل عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو. فأدخلهم الزينبىّ المدينة ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتا، فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا، وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثم إنّهم انهزموا فقتلوا مقتلة عظيمة، فأفاء الله على المسلمين بالرىّ نحوا من فيء المدائن، وصالحه الزينبىّ على أهل الرىّ ومرزبه [1] عليهم. [437] وكتب نعيم بالفتح وبعث بالأخماس إلى عمر.
توجّه بكير إلى آذربيجان
وكان بكير بن عبد الله قد توجه إلى آذربيجان، فأمدّه نعيم بعد فتح الرىّ بسماك بن خرشة الأنصارى.
مردانشاه يراسل نعيما في الصلح
فأما المصمغان- وهو مردانشاه صاحب دنباوند والخزر والأرز والسرو [2]- فإنّه راسل نعيما في الصلح على شيء يفتدى منه به، من غير أن يسأله النصر والمنعة. فقبل منه، وكتب على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم.
__________
[1] . مرزبه: جعله عليهم مرزبانا.
[2] . مط: السرد.(1/397)
فتح قومس
وقدّم سويد بن مقرّن أخاه بأمر عمر إلى قومس، فلم يقم له أحد، وأخذها سلما، وكتب لهم أمانا، وقبل جزيتهم.
فتح جرجان وطبرستان وآذربيجان
ثم كاتب ملك جرجان رزبان [1] صول. ثم صار إليها، فبادره بالصلح، وتلقّاه، فدخل معه جرجان، وعسكر بها، وجبى إليه الخراج، وسمّى له فروجها، فسدّها بترك دهستان. فرفع الجزى عمن أقام بمنعتها، وأخذ الخراج من باقى أهلها، وكتب بينهم كتابا [2] بالأمان وقبول الجزية ما نصحوا وقروا المسلمين، وعلى أنّ من سبّ مسلما [438] بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. وراسله الإصبهبذ في الصلح أن يتوادعا ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد. فكتب له بذلك كتابا على ألّا يؤووا للمسلمين بغية [3] ، ولا يسلّوا لهم [4] إلى عدوّ، ولا يدخل
__________
[1] . في الأصل ومط: ررمان، من دون نقط. وما أثبتناه عن الطبري (5: 2658) .
[2] . والكتاب كما جاء في الطبري (5: 3658) :
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان [روزيان، رزبار، رربان؟] وأهل دهستان، وسائر أهل جرجان، أنّ لكم الذمّة، وعلينا المنعة، على أنّ عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم، فله جزاءه في معونته عوضا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم، ومللهم، وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك، هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل، ونصحوا، وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل، ولا غل، ومن أقام فيهم، فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، وعلى أنّ من سبّ مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه. شهد سواد بن قطبة وهند بن عمرو وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهّاس. وكتب في سنة 18.» وأضاف الطبري: «وأما المدائني فإنّه قال في ما أنبأنا أبو زيد عنه: فتحت جرجان في زمن عثمان سنة 30» .
[3] . مط: تبعة.
[4] . مط: بهم.(1/398)
عليه إلّا بإذنه، وكذلك سبيلهم.
وكان بكير سار حين بعث إلى آذربيجان حتى إذا طلع بجبال خرشدان [1] طلع عليهم اسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزوما من واج رود. فكان أول قتاله لقيه بآذربيجان، فاقتتلوا، فهزمه، وأخذ بكير اسفندياذ أسيرا.
فقال له اسفندياذ:
- «الصلح على آذربيجان أحبّ إليك أم الحرب؟» قال: «بل الصلح.» قال: «فأمسكنى عندك. فإنّ أهل آذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجئ لم يقيموا، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم. ومن كان على التحصن تحصّن إلى يوم ما.» فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلّا ما كان من حصن.
وقدم عليه سماك بن خرشة، وقد صار اسفندياذ في إساره. [439] وفتح عتبة بن فرقد من جهته ما يليه.
فقال بكير لسماك بن خرشة كالممازح:
- «ما الذي أصنع بك وبعتبة؟ أريد أن أمضى قدما فأخلّفكما، فإن شئت فاذهب معى، وإن شئت أتيت عتبة، فقد أذنت لك.» وكاتب عمر في ذلك. فكتب إليه في الإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله. فاستخلف عتبة على ما افتتح. ومضى قدما، وقدّم إسفندياذ إلى عتبة، وأقرّ عتبة سماك بن خرشة، وليس بأبى دجانة، على عمل بكير الذي كان افتتح.
__________
[1] . مط: «خر شدن» !(1/399)
وجمع عمر آذربيجان كلّها لعتبة، وقد كان بهرام بن الفرّخان أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فهزمه عتبة وهرب بهرام.
فلما بلغ خبر هزيمته إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال:
- «الآن تمّ الصلح وطفئت الحرب وعادت آذربيجان سلما.» فبعث بالأخماس. وكان بكير سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. فكتب عتبة بينه وبين أهل آذربيجان كتابا- حيث جمع له عمر بكير إلى عمله-[440] بالأمان وشروط الجزية وقرى المسلمين وغير ذلك.
فتح الباب والفتوح التي كانت بعده
وأنفذ عمر سراقة بن عمرو- وكان يكنّى ذا النون [1]- إلى الباب وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة، وسمى لإحدى مجنّبتيه حذيفة بن أسد، وسمى للأخرى بكير بن عبيد الله الليثي، وهو الذي كان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه. فلمّا قدم سراقة قدّم بكيرا في أدانى الباب، فدخل بكير بلاد الباب والملك يومئذ شهربراز [2] الذي أفسد بنى إسرائيل وأعرى [3] الشام منهم.
فكاتب عبد الرحمن شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه. ففعل، فأتاه، فقال له:
- «إنى بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوى الأحساب [4] والأصول، وذو الحسب قريب ذى الحسب حيث كان، ولست من الأرمن في
__________
[1] . في الطبري (5: 2663) : ذا النور.
[2] . وزاد في الطبري: رجل من أهل فارس، وكان على ذلك الفرج، وكان أصله من أهل شهربراز [كذا] (5:
2663) .
[3] . في مط: أغز. في الطبري أيضا: أعرى. وفي حواشيه أغرى، أغزى.
[4] . في الأصل: ذوو الحسب. فصححناه.(1/400)
شيء ولا من القبق [1] ، وإنّكم قد غلبتم على بلادي وأمّتى، وأنا اليوم منكم، ويدي مع أيديكم، وصفوي معكم، وجزيتنا إليكم، والنصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية [441] فتوهنونا لعدوكم.» فقال عبد الرحمن: «فوقى أمير قد أظلّك، فسر إليه.» فجوّزه فسار إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك.
فقال سراقة: «قد قبلت ذلك ممن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزى ممن يقيم ولا ينهض.» فقبل ذلك، وكتب سراقة إلى عمر بن الخطّاب بذلك، فأجازه، وحسّنه، وصارت سنّة فيمن يحارب العدو من المشركين وفيمن لم يكن عنده الجزى أن يستنفروا، ثمّ يوضع عنهم جزى تلك السنة.
ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسد، وسلمان بن ربيعة إلى الجبال المطيفة بأرمينية، ووجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبمن وجّه من هؤلاء النفر. فأتى عمر بن الخطّاب أمر لم يكن يرى انّه يستمر بتلك السرعة بغير مؤونة. فلما استوسق الأمر بتلك الناحية واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة.
فأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك. فخرج [442] عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب.
فقال له شهربراز: «ما تريد أن [تصنع] [2] ؟» قال: «أريد بلنجر.» قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب.»
__________
[1] . في الطبري: القبج.
[2] . بياض في الأصل، وما أثبتناه عن مط.(1/401)
قال: «لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم. والله إنّ معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم.» قال: «وما هم؟» قال: «قوم صحبوا رسول الله- صلى الله عليه- ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم أمر، أو يلفتوا عن حالهم بمن يغيّرهم.» فغزا بلنجر- غزاه في زمن عمر- لم تئم فيها امرأة، ولا يتم فيها صبىّ. وبلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم أيضا، وغزا [غزوات] [1] في زمن عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان، لما استعمل من كان ارتدّ واستعان بهم، فساد من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى كان يتمثل:
وكنت وعمرا [2] كالمسمّن كلبه ... فخدّشه أنيابه وأظافره [443]
وكان عبد الرحمن بن ربيعة لما غزا الترك، قالوا:
- «ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعهم الملائكة يمنعهم من الموت» .
فتحصّنوا منه، وهربوا. فرجع بالغنم.
فلمّا كان بعد ذلك غزا تلك الغزوات الأخر على تلك العادة، حتى إذا كان في زمن عثمان بعد السنين الستّ منه، غزا غزوة. وكان من الترك طائفة في الغياض مختفين، فرمى رجل منهم مسلما على غرّة، فقتله وهرب عنه أصحابه، فتجاسروا
__________
[1] . تكملة من الطبري.
[2] . في الأصل: وكنت وعمرو. في مط: وكتب عمرو! فصححناه كما في الطبري (5: 2668) .(1/402)
بعد ذلك وتنادوا.
فأمّا عبد الرحمن فقتل، واشتدّ القتال، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، وخرج بالناس على جيلان إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها، ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
ما جرى بين يزدجرد وآبان جاذويه في الرىّ
ولما انتهى يزدجرد في مسيره بعد جلولاء إلى الرىّ كان عليها آبان جاذويه، فوثب عليه، فأخذه فقال:
- «يا آبان جاذويه، تغدر بى؟» قال: «ولكنّك تركت ملكك وصار في يد غيرك وأريد أن أكتتب على ما كان لى من شيء، وما أردت من غير ذلك [1] .» وأخذ خاتم يزدجرد [444] وكتب الصكاك على الأدم، وسجّل السجلّات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها، وردّ الخاتم. ثمّ أتى بعد سعدا فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. واستوحش يزدجرد من آبان وكرهه. فخرج هاربا إلى أصبهان ومعه النار [2] ، وأراد كرمان. ثم عزم على خراسان ليستمدّ الترك والصين وهو قريب منهم. فأتى مرو، فنزلها، وبنى للنار بيتا، واطمأنّ في نفسه.
غزو خراسان وهزيمة يزدجرد في بلخ
وخرج عبد الله بن عامر من البصرة في هذه السنة، وهي سنة إحدى وثلاثين، غازيا إلى خراسان. ففتح نيسابور وطوس ونسّا، حتى بلغ سرخس، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس. فلقيه الهياطلة، وهم أهل هراة، فهزمهم الأحنف، فبعثه
__________
[1] . وفي مط: من غيرك.
[2] . وفي الطبري (5: 2682) : فأراد أن يضعها في كرمان.(1/403)
ابن عامر إلى طخارستان. فلمّا دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ، فنزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد إلى خاقان من مرو الروذ يستمدّه، وكتب إلى ملك الصغد يستمدّه. فخرج رسوله إليهما، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
وخرج الأحنف [445] من مرو الشاهجان، واستخلف عليه بعد ما لحقته الأمداد من أهل الكوفة قاصدا مرو الروذ. فلمّا بلغ مسيره يزدجرد خرج إلى بلخ.
ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة، فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزم يزدجرد، وتوجّه في أهل فارس إلى النهر، فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتحوا بلخ، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ.
وكتب عمر إلى الأحنف:
«أمّا بعد، فلا تجوزوا النهر، واقتصروا على ما دونه.» وبلغ رسولا يزدجرد خاقان وعارك [1] ، فلم يستتبّ لهم [2] إنجاده، حتّى عبر إليهم النهر مهزوما. فأنجده خاقان، فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد، حتّى خرج بهم راجعا إلى خراسان. فعبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ، إلى الأحنف.
ذكر رأى صحيح في وقت شدّة
فاستشار الأحنف المسلمين. فاختلفوا، فبين قائل يقول: «نرجع إلى أبرشهر» [3] [446] ، وقائل يقول: «نقيم ونستمدّ.» وقائل يقول: «نناجزهم.»
__________
[1] . مط: عادل. في الطبري (5: 2685) : «غوزك» وفي حواشيه: عورك، على زل.
[2] . في الطبري: لهما.
[3] . قرأنا ما في الأصل «أبر شهر» مع غموض فيه. وما في مط: «ايرانشهر» . وهما أى: أبر شهر Abarshahr(1/404)
وخرج المشركون من بلخ حتّى نزلوا على الأحنف مرو الرّوذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان نهر بلخ غازيا له، خرج في عسكره ليلا يتسمّع: هل يسمع برأى ينتفع به؟ فلمّا خرج مرّ برجلين ينقّيان علفا، إمّا تبنا، وإمّا شعيرا، وأحدهما يقول لصاحبه:
- «الرأى للأمير أن يلقى العدوّ حيث لقيهم أوّلا، فإنّه أرعب لهم.» فقال له صاحبه:
- «أخطأت الرأى، إن لقى العدوّ مصحرا في بلادهم لقى جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا. ولكنّ الرأى للأمير أن يسندنا إلى هذا الجبل، ليكون النهر بيننا وبين عدونا خندقا، وكان الجبل في ظهورنا، نأمن أن نؤتى من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد، [و] [1] رجونا أن ينصرنا الله.» فرجع، واجتزأ بها. وذلك في ليلة مظلمة. فلما أصبح جمع الناس، ثم قال:
- «إنكم قليل، وعدوّكم كثير، فلا يهولنّكم: ف كَمْ من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ 2: 249 [2] . ارتحلوا من مكانكم، فاستندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه [447] في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوه من وجه واحد.» ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم في عشرة آلاف من أهل البصرة، وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن اجتلبت من الصغد وغيرهم حتى نزلوا بهم. فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحّون عنهم بالليل ما شاء الله.
وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل. فخرج ليلة بعد ما علم علمهم طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان، فوقف. فلما كان في وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه، وضرب بطبله، ووقف من العسكر موقفا يقفه مثله.
__________
[ () ] وايرانشهر اسمان كانا يطلقان على نيسابور في أوائل الإسلام (لسترنج: 409) .
[1] . تكملة اقتضاها السياق.
[2] . س 2 البقرة: 249.(1/405)
فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين سبقه الأحنف، فقتله. قال الأحنف:
فارتجزت:
إنّ على الرئيس حقّا حقّا ... أن يخضب الصعدة أو تندقّا
ثم وقف موقف التركي، وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف، فقتله. ثم وقف موقف التركىّ الثاني. [448] قال الأحنف: فارتجزت:
إنّ الرئيس يرتبى ويطلع ... ويمنع الحلاء [1] إمّا أربعوا
وأخذ طوق التركىّ، ثم خرج ثالث، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فقتله، قال: وارتجزت:
جرى الشموس ناجزا بناجز ... محتفل في جريه [2] مشارز
ثم انصرف إلى عسكره ولا يعلم بذلك أحد. وكان من شيمة الترك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من كبرائهم وفرسانهم يضربون بالطبول، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث على فرسانهم مقتّلين. فتشاءموا، وتشاءم خاقان وتطيّر وقال:
- «قد طال مقامنا وأصيب هؤلاء القوم بمكان لم يصب بمثله أحد منّا، مالنا
__________
[1] . كذا في الأصل: الحلاء. في مط: الحلا. وفي الطبري: الحلّاء، وفي حواشيه: الجلّاء.
[2] . في الطبري (5: 2687) : محتفلا في جريه، وفي حواشيه: محتفل بحربه.(1/406)
في قتال هؤلاء القوم من خير، انصرفوا بنا.» فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا. وأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ، وقد كان يزدجرد [449] ترك خاقان بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان فتحصّن منه حارثة بن النعمان خليفة الأحنف، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان ببلخ ينتظره مقيم له.
فقال المسلمون: «نحن نتبع خاقان.» فقال: «بل أقيموا مكانكم.» ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو وأعجل عنه، وأراد أن يستقلّ منها، حاول أمرا عظيما من خزائن أهل فارس، وكان أراد اللحاق بخاقان.
فقال أهل فارس: «ما تريد أن تصنع؟» قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين.» فقالوا له: «مهلا، فإنّ هذا رأى سوء. إنّك إنّما تأتى قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم، فإنّهم أوفياء وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإنّ عدوّا يلينا في بلادنا أحبّ إلينا من عدوّ يلينا في بلاده، ولا دين لهم، فلا ندري ما وفاءهم.» فأبى عليهم، فأبوا عليه. قالوا:
- «فدع خزائننا نردّها إلى بلادنا ومن يليها، [450] لا تخرجها من بلادنا إلى غيرها.» فأبى. فقالوا: «فإنّا لا ندعك.» فاعتزلوا وتركوه في حاشيته. ثم اقتتلوا، فهزموه، وأخذوا الخزائن واستولوا عليها، ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر. فاعترضهم المسلمون والمشركون بمرو، فقاتلوه، وأصابوه في آخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال ومضى حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك، فلم يزل مقيما زمان عمر كلّه يكاتبهم ويكاتبونه إلى(1/407)
زمان عثمان.
فأقبل أهل فارس إلى الأحنف، فصالحوه، وعاقدوه، ودفعوا الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة.
فكانوا كأنّهم في ملكهم. إلّا أنّ المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم.
وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.
ولما سمع خاقان ما لقى يزدجرد وخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر، وأقبل الأحنف حتى نزل [451] بلخ، وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ، فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس. ووفد الوفود إليه.
حوار بين خاقان ورسول يزدجرد
ولما عبر خاقان النهر، وعبر معه حاشية آل كسرى مع يزدجرد لقوا رسول يزدجرد الذي كان نفذ إلى ملك الصين، فسألوه عما وراءه.
فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون.- وأراهم هديته وجوابه عن كتاب يزدجرد إليه- قال لى:
- «قد علمت أنّ حقّا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لى صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإنّى أراك، تذكر قلّة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف [منكم [1]] معما أسمع من كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم.» فقلت: «سلني عما أحببت أخبرك.» قال: «أيوفون بالعهد؟» [452]
__________
[1] . في الأصل: معكم، فصححناه بما في الطبري (5: 2691) ، وفي مط: بدون «منكم» .(1/408)
قلت: «نعم.» قال: «وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟» قلت: «يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.» قال: «فكيف طاعتهم أمراءهم؟» قلت: «أطوع قوم لمرشدهم.» قال: «فما يحرّمون وما يحلّون؟» فأخبرته.
قال: «أفيحلّون [1] ما حرّم عليهم، أو يحرّمون [2] ما حلّل لهم؟» قلت: «لا.» قال: «فإنّ هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يبدّلوا.» ثم قال: «أخبرنى عن لباسهم» . فأخبرته، «وعن مطاياهم» فقلت:
- «الخيل العراب.» ووصفتها.
فقال: «نعمت الحصون هذه.» ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها.
فقال: «هذه صفة دوابّ طوال الأعناق.» وكتب معه إلى يزدجرد:
«إنّه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوّله بمرو، وآخره بالصين، الجهالة بما يحق علىّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لى رسولك صفتهم، لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلّى سربهم أزالونى
__________
[1] . في مط: أفتحلّون.
[2] . في مط: أفتحرّمون.(1/409)
ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك.» [453] وأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة معهم عهد بخاقان. ثم جرى ما جرى من قبل عمر، رضى الله عنه.
ذكر كتّاب عمر وجمل من سياسته
كان يكتب لعمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة، وأبو حبيرة بن الضحّاك الأنصارى على ديوان الكوفة. فأمّا زيد بن ثابت فإنّه كان كاتب النبىّ- صلى الله عليه- فكان يخلو به عمر. فقال له يوما:
- «إنّى استصحبتك لكتب أسرارى الذي رأيت رسول الله- صلى الله عليه- يفعله بك. فأخبرنى عن كتبه كيف كانت إلى الملوك وغيرهم.» فقال زيد: «اعفني يا أمير المؤمنين.» فقال له: «ممّ ذاك؟» قال زيد: «إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لى: يا زيد! إنّى انتخبتك، فاحفظ أسرارى، واكتم ما استحفظتك. فضمنت له ذلك.» فأمسك عمر عن معاودته، لكن كان يملى عليه ويستعين برأيه. وكان زيد ذا رأى [454] ونفاذ.
وكان عمر يقول لكتّابه ويكتب إلى عمّاله:
- «إنّ القوة على العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنّكم إذا فعلتم ذلك تداكّت الأعمال عليكم، فلا تدرون بأيّها تبدأون، وأيّها تؤخّرون.»(1/410)
تدوينه الدواوين
وكان عمر أول من دوّن الدواوين من العرب. وكان سبب ذلك أنّ أبا هريرة قدم عليه من البحرين ومعه مال، فلقى عمر. فقال له عمر:
- «ماذا جبيت؟» قال: «خمسمائة ألف درهم.» فقال عمر: «أتدرى ما تقول؟» قال: «نعم، مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف.» فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
- «أيّها الناس، قد جاء مال عظيم، فإن شئتم كلنا كيلا، وإن شئتم أن يعدّ عددنا.» فقام رجل فقال: «يا أمير المؤمنين، هؤلاء الأعاجم يضبطون هذا بالديوان.» قال: «فدوّنوا الدواوين.» وكان عمر بعث بعثا بعد أن آمن الفيرزان [1] وحضره فقال:
- «يا أمير المؤمنين، هذا البعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف منهم رجل وأخلّ [455] بمكانه ما يدرى صاحبك به؟» وأشار عليه بالديوان وفسّره له، فوضع عمر الديوان.
وكان أبو موسى الأشعرى كتب إلى عمر رضى الله عنه:
- «انّ المال كثر وكثر من يأخذه، فلسنا نحصيه إلّا بالأعاجم، فاكتب إلينا برأيك.» فكتب إليه عمر: «لا تعدهم في شيء سلبهم الله إياه، أنزلوهم حيث أنزلهم الله
__________
[1] . كذا في الأصل: الفيرزان. في مط: الهرمزان. لم نجده عند الطبري. أنظر (5: 2749) .(1/411)
وتعلّموا.» فاستكتب أبو موسى زيادا، وكتب عمر إلى أبى موسى يستقدمه. فاستخلف زياد عمران بن حصين وقدم عليه. فقال عمر:
- «لئن كان أبو موسى استخلف حدثا لقد استخلف الحدث كهلا.» ثمّ دعا بزياد وقال: «أكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به.» فكتب إليه كتابا ودفعه إلى عمر، فنظر فيه، ثم قال: «أعد» ، فكتب غيره، ثم قال: «أعد» ، فكتب الثالث.
فقال عمر بعد ذلك:
- «لقد بلغ ما أردت في الكتاب الأول، ولكنّى ظننت أنّه قد روّى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت، فكرهت أن أعلمه ذلك لئلّا يدخله العجب، فوضعت منه [456] لئلّا يهلك» .
وكان عمر يملى على كاتب بين يديه وزياد حاضر. فكتب الكاتب غير ما قال عمر.
فقال له زياد: «يا أمير المؤمنين، إنه يكتب غير ما قلت له.» فقال عمر: «أنّى علمت هذا.» فقال: «رأيت رجع فيك وخطّه، فرأيت ما أجارت كفه غير ما رجعت به شفتيك.» فاستحسنه عمر.
ثم قال له يوما: «يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبى موسى في عزلك عن كتابته؟» قال: «نعم، يا أمير المؤمنين. ولكن أعن عجز أم خيانة؟» قال: «لا عن واحد منهما، ولكنّى أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعيّة.»(1/412)
وضعه التأريخ
وكان عمر أول من كتب التاريخ من الهجرة، لأنّ أبا موسى كتب إليه أنه:
«تأتينا منك كتب ليس فيها تاريخ.» - وكانت العرب تؤرّخ بعام الفيل. فجمع عمر الناس للمشهورة.
فأشار بعضهم: أن يؤرّخ بمبعث النبي- صلى الله عليه.
وقال بعضهم: «بمهاجرته.» .. فأرّخ به. وكان ذلك في سنة سبع عشرة، أو ثماني عشر من الهجرة.
ثم قالوا: «بأىّ الشهور نبدأ؟» [457] فقال بعضهم: «بشهر رمضان.» فقال عمر:
- «بل بالمحرّم، فهو منصرف الناس من حجّهم، وهو شهر حرام.» فأجمعوا على المحرّم.
ودخل كاتب لعمرو بن العاص على عمر، فحاوره فأحسن الكلام، فقال عمر:
- «ألست ابن القين بمكة؟» فقال: بلى.
فقال عمر: «لا يلبث القلم، أو يبلغ بصاحبه.» [1] وكان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا، وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار واشترط عليه ألّا يركب برذونا، ولا يأكل ما لا يقدر عليه أوساط رعيّته، ولا يلبس رقيقا، ولا يتّخذ بابا دون حاجات الناس.
__________
[1] . كذا في مط. وفي الأصل غموض.(1/413)
أنتم المؤمنون وأنا أميركم
وهو أول من خوطب ب «أمير المؤمنين» وذاك أنّ أبا بكر خوطب ب «خليفة رسول الله» - صلى الله عليه- فلما خلف عمر خوطب ب «خليفة خليفة رسول الله» .
قال عمر: «أمر يطول. إذا جاء خليفة آخر قلتم: «خليفة خليفة خليفة رسول الله» ، بل أنتم «المؤمنون» وأنا «أميركم» .
وهو أول من جمع الناس على إمام [يصلّى بهم التراويح] [1] [458] في شهر رمضان، وكتب به إلى البلدان وأمرهم بذلك، وزاد في مصابيح المساجد.
وهو أول من حمل الدرّة وضرب بها.
فمن ذلك ما رويناه أنّ عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- أتى بمال، فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه. فأقبل سعد بن أبى وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرّة، وقال:
- «إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض. فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لا يهابك.» ورأت الشفاء بنت عبد الله قوما يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدا.
فقالت: «ما هذا؟» قالوا: «نسّاك.» فقالت: «كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. هو والله الناسك حقّا.» وذكر قوم رجلا بين يدي عمر، ووصفوه وقالوا:
__________
[1] . كذا في مط، والأصل مطموس.(1/414)
- «هو فاضل لا يعرف الشرّ.» قال: «أجدر له أن يقع فيه.» واستعمل عمر عتبة بن أبى سفيان على كنانة، فقدم عليه بمال. فقال عمر:
- «ما هذا يا عتبة؟» قال: «هذا مال خرجت به معى فتجرت فيه.» قال: «ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه، فصيّره في بيت المال.» فلمّا ولى عثمان [459] قال لأبى سفيان:
- «إن طلبت ما أخذ عمر من عتبة رددته عليك.» فقال أبو سفيان: إنّك إن خالفت صاحبك الذي تقدّمك ساء رأى الناس فيك، إياك أن تردّ على من قبلك فيردّ عليك من يجيء بعدك.
كان معجبا بسياسات ملوك العجم
وكان عمر يكثر الخلوة بقوم من الفرس يقرأون عليه سياسات الملوك وسيّما ملوك العجم الفضلاء، وسيّما أنوشروان، فإنّه كان معجبا بها، كثير الاقتداء بها. وكان أنوشروان مقتديا بسيرة أردشير آخذا نفسه بها، وبعهده الذي كتبناه فيما مضى، مطالبا به غيره. وكان أردشير متبعا لبهمن وكورس، مقتديا [1] بهما. فهؤلاء جلّة ملوك الفرس وفضلاؤهم الذين ينبغي أن يقتدى بأفعالهم وسيرهم وتتعلّم سياساتهم ويتشبّه بهم.
وروينا عن عمران بن سوادة أنه قال: دخلت على عمر، فذكرت أشياء مما عابه [2] بها الناس فأصغى إلىّ: وضع رأس درّته في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه يستمع إلى ما أقول، إلى أن قلت:
__________
[1] . في مط: مقيدا.
[2] . عابت أمتك فيك أربعا ... (الطبري 5: 3- 2772) .(1/415)
- «وإنّ الرعيّة يشكون منك عنف السياق.» فشرع الدرّة، ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال:
- «أم والله، إنّى لأرتع فأشبع، وأسقى فأروى، وأنهز [1] [460] العروض وأؤدّب [2] (أؤرب؟) قدري، وأزجر اللقوف [3] ، وأسوق خطري [4] ، وأضمّ الهيوب [5] ، وألحق العطوف [6] ، وأكثر الزجر، وأقلّ الضرب، وأشهر العصا، وأدفع باليد [7] .» فبلغ ذلك معاوية بعد، فقال: «كان والله عالما برعيّته.»
__________
[1] . مط: أنهر. في الطبري: أنهز اللفوت.
[2] . مط: أؤرب قدري. في الطبري: أذبّ قدري.
[3] . مط: أزجر اللفوت.
[4] . مط كذا في مط: أسوق خطري. في الطبري: أسوق خطوي.
[5] . في الطبري: أضمّ العنود.
[6] . في الطبري: وألحق القطوف.
[7] . وزاد في الطبري: «لولا ذلك لأعذرت.»(1/416)
خلافة عثمان بن عفّان
ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب لما قتل عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- قيل له حين طعن:
- «استخلف.» فأبى أن يسمّى رجلا بعينه وقال:
- «عليكم هؤلاء الرهط الذين توفّى رسول الله، صلى الله عليه، وهو عنهم راض: علىّ، وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمان، وسعد خالا رسول الله- صلى الله عليه- والزبير بن العوام حوارىّ رسول الله- صلى الله عليه- وابن عمّته، وطلحة الخير. فليختاروا رجلا منهم، ويشاوروا ثلاثة أيام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الثالث إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم.» [461] وقال لأبى طلحة الأنصارى: «إنّ الله تعالى طال ما أعزّ الإسلام بكم، فاختر(1/417)
خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا.» وقال لصهيب:
- «صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليّا، وعثمان، والزبير، وسعدا، وعبد الرحمان بن عوف، وطلحة- إن قدم- وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة ورضوا واحدا منهم وأبى واحد فاشدخ رأسه واضرب رأسه بالسيف، وإن اتّفق أربعة فرضوا واحدا وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضى ثلاثة منهم رجلا واحدا وثلاثة رجلا منهم فحكّموا عبد الله بن عمر، فأىّ الفريقين حكم فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.» فخرجوا من عنده، فقال لعلىّ قوم كانوا معه من قريش [1] : «ما ترى؟» فقال علىّ: «إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمّروا أبدا.» [2] وتلقّاه العباس، فقال له علىّ: «عدلت عنّا» .
قال: «وما علمك؟» [3] قال:
- «قرن بى عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان
__________
[1] . في الطبري (5: 2780) : «من بنى هاشم.»
[2] . كذا في الطبري أيضا: «إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمّروا أبدا.»
[3] . كذا في الأصل: «وما علمك» والضبط في الطبري: «وما علّمك» .(1/418)
رجلا [1] [462] ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمان، وعبد الرحمان صهر عثمان لا يختلفون: فيولّيها عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمان، فلو كان الآخران معى لم ينفعانى، بله أنّى لا أرجو إلّا أحدهما.» فقال العباس:
- «لم أدفعك في شيء إلّا رجعت إلىّ مستأخرا بما [2] أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله- صلى الله عليه- أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، ثمّ أشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر، فأبيت، ثمّ أشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم، فأبيت.
احفظ عنّى واحدة: كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا، وأيم الله، لا نناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير.» فأجابه علىّ بما سمع بعضه ولم يسمع بعضه، وتمثّل بأبيات [3] . والتفت، فرأى أبا طلحة، فكره مكانه. فقال أبو طلحة:
__________
[1] . «فقال له علىّ ... فإن رضى رجلان رجلا» : سقطت من مط.
[2] . في الأصل: لما. والتصحيح من الطبري.
[3] . في الطبري (5: 2781) :
حلفت بربّ الراقصات عشيّة ... غدون خفافا فابتدرن المحصّبا
ليختلين رهط ابن يعمر مارئا ... نجيعا بنو الشدّاخ وردا مصلّبا(1/419)
- «لم ترع [1] أبالحسن» .
وكان خلع عبد الرحمان نفسه، ورضوا أن يكون هو الذي يختار للمسلمين، [463] وقد كان جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والقوم في البيت يتشاورون، فجلسا بالباب فحصبهما [2] سعد وأقامهما.
ولما كان اليوم الرابع صعد عبد الرحمان المنبر في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله- صلى الله عليه- ثم قال:
«أيّها الناس، إنّى قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد الرجلين: إما علىّ وإما عثمان. فقم إلىّ يا علىّ!» فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمان بيده، فقال:
- «هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر؟» قال: «اللهم لا، ولكن على جهدي وطاقتي.» قال:
فأرسل يده، ثم نادى: «قم يا عثمان!» فأخذ بيده وهو في موقف علىّ الذي كان فيه، فقال:
- «هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر؟» قال: «اللهم نعم.» فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال:
- «اللهم اسمع واشهد، اللهمّ اسمع واشهد: إنّى جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.» فازدحم الناس يبايعون عثمان، وكان عبد الرحمان [464] قعد مقعد النبىّ- صلى الله عليه- من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية.
__________
[1] . الأصل والطبري: لم ترع. في الأصول الأخرى: لن ترع، لن تراع.
[2] . حصبهما: رماهما بالحصباء.(1/420)
قال:
وجعل الناس يبايعونه، وتلكّأ علىّ، فقال عبد الرحمان: فَمَنْ [1] نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. 48: 10 فرجع علىّ يشقّ الناس حتّى بايع عثمان وهو يقول:
- «خدعة وأيّما خدعة» .
ذكر هذه الخدعة
كان سبب قول علىّ: «خدعة.» أن عمرو بن العاص كان لقى عليّا في ليالي الشورى فقال:
- «إنّى أحبّك وأريد نصحك: إنّ عبد الرحمان رجل مجتهد، ومتى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك، فلا تظهر كلّ الرغبة، ولا تبذل له من نفسك إلّا الجهد والطاقة، ولا تضمن له كلّ ما يسألك وأوم إلى التواضع.» [2] ثمّ أتى عثمان، فقال له:
- «إنّ عبد الرحمان ليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل ما يعطيك، وأعطه ما يسألك.» فلذلك قال علىّ: «خدعة.» وقد قيل: إنّ عليّا قال ذلك لأجل ما ذكرناه من اقتران عثمان وعبد الرحمان.
قال: ثمّ انصرف عثمان [465] إلى بيت فاطمة بنت قيس، والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبا، فقال:
- «يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفّقك. ما كان لنا غير عثمان- وعلىّ جالس.
فقال عبد الرحمان:
__________
[1] . في الأصل، مط، والطبري: ومن نكث. وفي التنزيل، فمن نكث ... (س 48 الفتح: 10) .
[2] . لم نجد الرواية في الطبري.(1/421)
- «يا ابن الدبّاغ، ما أنت وذاك، والله ما كنت أبايع أحدا من هؤلاء إلّا قلت فيه هذه المقالة.
وكان أول ما كتبه عثمان إلى أمراء الأجناد في الفروج:
«أما بعد، فانّكم حماة المسلمين، وذادتهم، وقد وضع عنكم عمر ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملأ منّا، فلا يبلغنّى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم.» وكتب إلى عمّال الخراج كتابا يحضّهم فيه على العدل، وكتابا إلى العامّة يأمرهم فيه بالطاعة والاقتداء وترك الإبتداع.
مقتل يزدجرد وما تمّ عليه من الاتفاقات الطريفة
إنّ يزدجرد لما وقع إلى أرض فارس بقي سنين. ثم أتى كرمان، فأقام بها مثل ذلك. فطلب إليه دهقان كرمان شيئا، فلم يجبه إليه، فطرده عن [466] بلاده. ثم أجمع أن ينزل خراسان، فأتى سجستان، فأقام بها، ثم سار إلى مرو، ومعه الرهن من أولاد الدهاقين، ومعه من رؤسائهم فرّخزاد.
فلمّا قدم مرو، واستغاث منها الملوك، وكتب إليهم يستمدّهم مثل صاحب الصين، وملك فرغانة، وملك كابل، وملك الخزر، كان الدهقان بمرو ماهويه، وكان له ابن يسمّى نزار، فوكّل ماهويه ابنه نزار [1] بمدينة مرو، وتقدّم إليه وإلى أهل المدينة ألّا يفتحوا الباب ليزدجرد، وقال لهم:
- «ليس هذا لكم بملك لأنّه قد سلّم بلاده وجاءكم مفلولا مجروحا، ومرو لا تحتمل ما تحتمل غيرها من الكور. فإذا جئتكم غدا فلا تفتحوا الباب.» فلمّا أتاهم فعلوا ذلك.
__________
[1] . الأصل هنا: من دون نقط وفي المواضع الأخرى: نزار. مط: بزاز، وفي الطبري (1: 2876) وابن الأثير (3- 121- 123) : براز- ولعلّه هو الصحيح- وفي حواشيهما: نزار، بران، بزاز.(1/422)
وانصرف [فرّخزاذ] [1] ، فجثا بين يدي يزدجرد وقال:
- «استصعبت عليك مرو، وهذه العرب قد أتتك.» قال: «فما الرأى؟» قال: «أن تلحق ببلاد الترك، فتقيم بها، حتى يتبيّن لنا أمر العرب. فإنّهم لا يدعون بلدة إلّا دخلوها.» قال: «لست أفعل، ولكن أرجع عودي على بدئي.» فعصاه ولم يقبل رأيه. فسار يزدجرد، [وأتى نزار دهقان مرو] [2] ، وأجمع على صرف الدهقنة عن [467] ابنه نزار إلى سنجان [3] ابن أخيه.
فبلغ ذلك ماهويه وهو أبو نزار وعمل في هلاك يزدجرد، وكتب إلى نيزك طرخان يخبره أن يزدجرد وقع إليه مفلولا، ودعاه إلى القدوم عليه، ليكون أيديهما معا في أخذه والاستيثاق منه، فيقتلوه، ويصالحوا عليه العرب، وجعل له في كلّ يوم ألف درهم، وسأله أن يكتب إلى يزدجرد مما كرا له لينحّى عامّة جنده، ويحصل في طائفة من خواصّه، فيكون أضعف لركنه وأهون لشوكته، وقال:
- «تعلمه في كتابك إليه الذي عزمت عليه في مناصحته ومعونته على العرب:
أن يشتقّ لك اسما من أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادما عليه حتى تنحّى عنه فرّخزاد.» فكتب نيزك بذلك إلى يزدجرد، فلمّا ورد عليه كتابه بعث إلى عظماء مرو، فاستشارهم.
فقال له سنجان: «لست أرى أن تنحّى عنك أصحابك ولا فرّخزاد لشيء.»
__________
[1] . في الأصل ومط: خرّزاذ، حرزاذ، وما أثبتناه يؤيده السياق والطبري (1: 2877) .
[2] . التكملة من الطبري.
[3] . الطبري: سنجان، سنحان (5: 2877) . وهو قريب الى الصحة. وفي موضعين من الأصل: صنجان، وفي سائر المواضع: سنجان فوحّدنا الضبط.(1/423)
وقال نزار: «بل أرى أن تبايعه [1] يعنى نيزك- وتجيبه إلى ما سأل.» فقبل رأيه، وفرّق عنه جنوده، وأمر [468] فرّخزاد [أن يأتى] [2] لأجمة سرخس، فصاح فرّخزاد، وشق جيبه وتناول عمودا بين يديه يريد ضرب نزار به، وقال:
- «يا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنّكم قاتلي.» هذا، ولم يبرح فرّخزاذ. حتى كتب له يزدجرد كتابا بخطّ يده، نسخته:
«هذا كتاب لفرخزاذ: إنك قد أسلمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما معه، إلى ماهويه دهقان مرو.» وأشهد عليه بذلك.
فأقبل نيزك إلى موضع من مرو يقال له حلبندان [3] . فلما أجمع يزدجرد على لقائه والمسير إليه، أشار عليه أبو نزار ألّا يلقاه في السلاح فيرتاب به وينفر عنه، ولكن يلقاه بالملاهي والمزامير. ففعل، وسار إليه كذلك، وتقاعس عنه أبو نزار، وكردس نيزك أصحابه كراديس.
فلما تدانيا استقبله نيزك ماشيا ويزدجرد على فرس له. فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه، فركبها، فتوسط عسكره، فتواقفا.
فقال له نيزك في ما يقول: «زوّجنى إحدى بناتك لأناصحك وأقاتل معك عدوّك.» فقال له يزدجرد: «علىّ تجترئ يا كلب!» فعلاه نيزك بمخفقته. وصاح يزدجرد: [469]- «غدر الغادر.»
__________
[1] . كذا في مط: «أن تبايعه» ، وفي الأصل طموس.
[2] . كذا في مط: «أن تأتى» ، وفي الأصل طموس.
[3] . مط: خلسدان. والأصل مهمل إلّا في النون، وكذلك الطبري (5: 2897) وفي حواشيه، حلبندار.(1/424)
وركض منهزما، ووضع أصحاب نيزك سيوفهم فيهم، فأكثروا القتلى.
يزدجرد والطحّان
وانتهى يزدجرد في هزيمته إلى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحّان، مكث فيه ثلاثة أيام.
فقال له الطحان: «أيها الشقىّ، اخرج فاطعم شيئا فإنّك جائع منذ ثلاث.» قال: «لست أصل إلى ذلك إلّا بزمزمة.» وكان رجل من زمامة مرو قريبا منه، فأتاه الطحّان، وسأله أن يزمزم [1] عليه ليأكل. ففعل ذلك. فلما انصرف إلى مرو سمع أبا نزار يذكر يزدجرد ويطلبه، فأتاه، فسأله وأصحابه عن حليته. فوصفوه. فأخبرهم أنّه رءاه في بيت طحان وهو رجل جعد مقرون حسن الثنايا مقرّط مسوّر.
فوجه إليه رجلا من الأساورة، وأمره أن يخنقه بوتر ويطرحه في نهر مرو.
فلقوا الطحان، فضربوه ليدلّ عليه، فلم يفعل وجحدهم أن يعرف أين يتوجّه. فلما أرادوا الانصراف عنه، قال رجل منهم:
- «إنى أجد ريح المسك فلو تتبّعته.» فنظر إلى طرف ثوب من ديباج في الماء، فاجتذبه إليه، فإذا هو يزدجرد، فسأله ألّا يقتله ولا يدلّ عليه: [470] ويجعل له خاتمه وسواره ومنطقته.
فقال: «أعطنى أربعة دراهم [2] وأخلّى عنك.» قال: «ويحك! خاتمي لك وثمنه لا يحصى!» فأبى عليه.
__________
[1] . زمزم المغني: ترنّم. زمزم العلوج: تراطنوا عند الأكل وهم لا يستعملون اللسان ولا الشفة في كلامهم لكنه صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض.
[2] . وفي الأصل أربعة درهم.(1/425)
قال يزدجرد: «قد كنت أخبرت أنّى سأحتاج إلى أربعة دراهم، وأضطرّ إلى أن يكون أكلى أكل الهرّ، فقد عانيته.» ثمّ انتزع أحد قرطيه، وأعطاه الطحّان مكافأة لكتمانه عليه، ودنا منه كأنّه يكلّمه بشيء، فأنذر الرجل أصحابه، وأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألّا يقتلوه، وخوّفهم ما عليهم من دينهم من ذاك [1] . وقال:
- «آتوني الدهقان أو سرّحونى إلى العرب، فإنّهم يستحيون مثلي من الملوك.» فأخذوا ما كان عليه من الحلىّ، فجعلوه في جراب، وختموا عليه، ثمّ خنقوه بوتر، وطرحوه في نهر مرو، فجرى به الماء حتّى انتهى إلى فوهة الدريق [2] ، فتعلّق بعود، فأخذ من هناك. ثم تفقّد أبو نزار أحد قرطيه، فأخذ الذي دلّ عليه، فضربه حتّى أتى على نفسه، وبعث بما أصيب له إلى الخليفة يومئذ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود.
رواية أخرى في ذلك
وقد حكى في رواية أخرى: أنّ نزار وسنجان كانا متباغضين [471] متحاسدين، وخصّ به نزار فحسده سنجان، فظهر ذلك لنزار، فجعل يوغر صدر يزدجرد ويسعى في قتله، ولم يزل يغرى يزدجرد بسنجان حتّى عزم على قتله، وأفشى ما كان عليه عزم من ذلك إلى امرأة من نسائه كان نزار واطأها. فأرسلت إلى نزار [3] تبشّر بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا الحديث وبلغ سنجان.
فجمع جموعا وتوجّه نحو القصر الذي فيه يزدجرد، وبلغ ذلك نزار، فنكص عن سنجان لكثرة جمعه، وأرعب ذلك يزدجرد. فخرج ذاهبا على وجهه راجلا ينجو
__________
[1] . أنظر الطبري (5: 2881) .
[2] . مط: الدريو. وفي الطبري: الرزيق، وفي حواشيه: الزريق (5: 2881) .
[3] . الأصل: نزارا، فمنعناه من الصرف. كما في سائر المواطن من الأصل.(1/426)
بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حتى وقع إلى رحى من ماء، فدخل بيت الرحى، فجلس فيه كالّا لغبا، فرآه صاحب الرحى ذا هيئة، وطرّة، وبزّة كريمة. ففرش له وأتاه بطعام. فطعم ومكث عنده يوما وليلة. فسأله صاحب الرحى أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقته، وكانت مكلّلة بجوهر. فأبى صاحب الرحى أن يقبلها وقال:
- «إنما يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم آكل بها وأشرب» .
فأخبره ألّا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحى حتى إذا [472] أغفى، قام إليه بفأس، فضرب بها هامته، فقتله، وأخذ ما كان عليه من ثياب وحلىّ، وألقى جيفته في النهر وبقر بطنه، فأدخل فيه من أصول طرفاء كانت نابتة على النهر ليحبس [1] جثته في الموضع الذي ألقاها فيه، فلا ينتقل [2] فيعرف ويطلب وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه.
وبلغ قتل يزدجرد رجلا من الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له: إيليا، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال:
- «إنّ ملك الفرس قتل وهو ابن شهريار بن كسرى وإنّما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها وكانت بنت قيصر. ثم لهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جدّه من الشرف، حتى بنى لهم البيع، وشدّ [3] ملّتهم، فينبغي أن نجزى هذا الملك بقدر طاقتنا من الكرامة، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا وأحمل جثّته في كرامة، حتى أجعلها فيه.» فقال النصارى: «أمرنا لأمرك تبع.» فأمر المطران، فبنى له في جوف بستانه بمرو ناووس، ومضى بنفسه ومعه نصارى [473] مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد، وكفّنها في تابوت، وحمله ومن
__________
[1] . مط: فحبس.
[2] . الطبري: فلا يسفل (5: 2883) .
[3] . الطبري: سدّد (5: 2883) .(1/427)
كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس، وواروه فيه، وردموا بابه.
وقيل: بل حمله إلى إصطخر فوضع في الناووس هناك. وذلك في سنة إحدى وثلاثين للهجرة.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة منها أربع سنين في دعة وستّ عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه، ومحنته بهم، وغلظتهم عليه. وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب.
ما جرى في خلافة عثمان مما تستفاد منه تجربة
وقد كنّا ذكرنا ما يجب ذكره من خلافة عثمان- رضى الله عنه- وما تمّ منه على الوجه الذي اقتصصناه.
ثم جرى بعد ذلك مما تستفاد منه تجربة أنّ قوما من المسلمين أنكروا منه أشياء، فكانوا يتذاكرونها بينهم، وذلك بالعراق خاصّة وبالمدينة دون غيرهما. ثم انتشر منهم طائفة في سائر الأعمال ينعون [1] على عثمان أمورا ويشنّعون عليه.
فسيّر عثمان منهم نفرا إلى الشام ليذلّهم بمعاوية، وجرى لهم معه خطب طويل. ثم تكاتبوا [474] بعد ذلك، وجميع ذلك شبيه بالسرّ [2] .
إلى أن شرب الوليد بن عقبة، وهو وال على الكوفة خمرا وشهد عليه به من لم يمكن ردّ شهادته، فاستقدمه عثمان المدينة وجلده الحدّ، وردّ مكانه سعيد بن العاص، فورد سعيد، وأمر بغسل المنبر من مقامه، فكلّمه في ذلك قوم من قريش، فأبى عليهم، وغسل الموضع ودارى الناس، فلم يتمّ له ما أراد، وشغّب عليه الناس.
__________
[1] . النعي على الرجل: إظهار عيبه وتشهيره.
[2] . مط: بالستر.(1/428)
ثم أجمع رأى الناس على أن يبعثوا إلى عثمان رجلا يكلّمه ويخبره بأحداثه.
فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس التيمي، وكان يعدّ من النسّاك. فأتاه فدخل عليه فقال:
- «إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله، وتب إليه، وانزع عنها.» فقال عثمان: «انظروا إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ، ثم يجئ فيكلّمنى في المحقّرات [1] ويزعم أنها عظائم، فوالله ما يدرى أين الله.» قال عامر: «أنا لا أدرى أين الله؟» قال: «نعم، والله لا تدرى أين الله.» قال عامر: «بلى والله، إنى لأدرى أنّ الله لك لبالمرصاد.» فأرسل عثمان إلى معاوية [475] بن أبى سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص وأمثالهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه. فلما اجتمعوا عنده قال:
- «إنّ لكل امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم وزرائى ونصحائى وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم، وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالى وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون. فاجتهدوا لى رأيكم ثم أشيروا علىّ.» فقال عبد الله بن عامر:
- «رأيى لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبر دابّته وقمل فروته.» ثم أقبل على سعيد بن العاص فقال: «ما رأيك؟»
__________
[1] . أنظر ابن الأثير 3: 148، والطبري 6: 2931.(1/429)
قال: «يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنّا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل، واعمل برأيى.» قال: «وما هو؟» قال: «إنّ لكلّ قوم قادة متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر.» فقال عثمان: «إنّ هذا الرأى لولا ما فيه.» ثم أقبل على معاوية، فقال: «ما رأيك؟» قال: «رأيى يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على [476] الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لما قبلي.» ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: «ما رأيك؟» قال: «يا أمير المؤمنين، الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.
ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال: «ما رأيك؟» قال: «أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإنّك قد ولّيت الناس بنى أميّة وحملتهم على أرقابهم، فاعتزل، فإن أبيت فامض قدما.» فقال له عثمان: «مالك، قمل فروك مذ عزلتك، أهذا الجدّ منك؟» فسكت عنه عمرو حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو:
- «لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ علىّ من ذلك، ولكن قد علمت أنّ الناس قد علموا أنّك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كلّ رجل منّا. فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا [1] بى لأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا.» فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير [2] الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
__________
[1] . مط: فيتقونى.
[2] . كذا في الطبري: بتجمير الناس (6: 2934) مط: بتجهيز الناس وكذلك ابن الأثير: بتجهيز الناس (3:(1/430)
وردّ سعيد بن العاص أميرا على الكوفة.
أهل الكوفة يردّون سعيد بن العاص
فخرج أهل الكوفة [477] عليهم السلاح يقدمهم مالك بن الحارث الأشتر، فتلقّوه وردّوه وقالوا:
- «لا، والله، لا تلى [1] علينا حكما، ولا تدخلها علينا ما حملنا سيوفنا.» فرجع سعيد وقال للناس:
- «أما اختلفتم إلّا لى؟ إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وتضعوا لى رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل؟» ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره الخبر.
فقال عثمان: «ما يريدون، أخلعوا يدا [2] عن الطاعة؟» قال: «أظهروا أنّهم يريدون البدل.» قال: «فمن يريدون؟» قال: «أبا موسى.» قال: «أثبتنا أبا موسى عليهم. والله لا نجعل لأحد منهم عذرا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصيرنّ كما أمرنا حتى يبلغ الله ما يريد.» وكان يزيد بن قيس لما استغوى [3] الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر قبيح [4] لعثمان. فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه.
__________
[ () ] 150) . والأصل غير واضح.
[1] . مط: إن تلى. وفي الطبري: لا يلي ... ولا يدخلها (6: 2934) .
[2] . مط: ما تريدون اخلعوا أبدا!
[3] . كذا في الأصل ومط. استغوى: أضلّ، وفي الطبري: استعوى: استغاث. نعق بهم إلى الفتنة.
[4] . في مط: ذكر فتح لعثمان. وقد جعل عنوانا وبحرف أحمر. الطبري: ذكر لعثمان، بدون «قبيح» (6:
2935) .(1/431)
فقال: «ما تريد يا قعقاع، ألك علينا في أن نستعفى سبيل؟» قال: «وهل إلّا ذاك؟» قال: «لا.» وإنما قال ذلك لما لم يتمّ له جميع ما يريد- فقال له [478] القعقاع:
- «فأمسك عن الكلام واستعف كيف شئت.»
كثر الناس على عثمان وكلّموا عليّا فيه
فلما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- بعضهم إلى بعض أن: «اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد.» وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون، ليس منهم أحد يذبّ ولا ينهى.
فاجتمع الناس فكلّموا علىّ بن أبى طالب، عليه السلام. فدخل علىّ على عثمان فقال:
- «إنّ الناس ورائي، وقد كلّمونى فيك، وو الله ما أدرى ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه وما خصصنا بأمر دونك. قد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله- صلى الله عليه- ونلت صهره، وما ابن أبى قحافة بأولى بعمل الحقّ منك، ولا ابن الخطّاب بأولى بشيء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله، صلى الله عليه، رحما. فالله الله في نفسك. فإنّك والله ما تبصّر من عمى ولا تعلّم من جهل، [479] وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة. تعلم يا عثمان، أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدى، واستقام وأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة(1/432)
معلومة. فوالله إنّ كلّا لبيّن، وإنّ السنن لقائمة لها أعلام، وإنّ البدعة لقائمة لها أعلام. وإنّى أحذّرك الله وسطوته ونقماته، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمّة الذي سمعنا به، فإنّه كان يقال: [1] يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح [2] به عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس عليهم أمورهم، ويتركهم شيعا لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا.» قال عثمان: «قد والله علمت أنّك تقول [الذي قالوه] [3] أما والله لو كنت بمكاني ما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، وإنّى ما جئت منكرا [4] إن وصلت رحما، وسددت خلّة، وأويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان يولّى عمر.
أنشدك الله يا على، هل تعلم أنّ مغيرة بن شعبة ليس هناك؟
قال: «نعم.» قال: «فتعلم أنّ عمر ولّاه.» قال: «نعم.» قال: «فلم تلومني أن [480] ولّيت عبد الله بن عامر في رحمه وقرابته؟» قال علىّ: «سأخبرك. إنّ عمر كان كلّ من ولّى فانّما يطأ على صماخه، إن بلغه حرف خلعه [5] ، ثم بلغ أقصى الغاية، وأنت لا تفعل. ضعفت ورققت على أقربائك.»
__________
[1] . مط: «بدون «يقال» .
[2] . مط: يفتح الله به. انظر الطبري 6: 2938. والكامل 3: 151.
[3] . الذي قالوه: غير واضحة في الأصل فصححناها بمقتضى السياق وما في الطبري. في مط: الذي قلت.
[4] . إنى ما جئت منكرا: العبارة غير واضحة في الأصل، فقرأناها في ضوء ما في مط والطبري.
[5] . الطبري: جلبه، (5: 2939) .(1/433)
قال عثمان: «هم أقرباؤك أيضا.» قال علىّ: «أجل. لعمري إنّ رحمهم منّى لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.» قال: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها، فقد ولّيته.» قال على: «أنشدك الله، هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر، من يرفأ غلام عمر، منه؟» قال: «نعم.» قال علىّ: «فإنّ معاوية يقطع الأمر [1] دونك، وأنت تعلم، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك، فلا تغيّر على معاوية.» ثمّ خرج علىّ من عنده وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فقال:
أما بعد، فإنّ لكلّ شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون يرونكم ما تحبون ويسرّون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون [481] إلّا تبرّضا [2] ولا يردون إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، قد أعيتهم الأمور، وتعذّرت عليهم المكاسب، ألا! والله عبتم علىّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، ووطّأت لكم كنفى، وكففت يدي ولساني، فاجترأتم علىّ. أما والله، لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا وأقمن. إن قلت: هلمّ، أتى إلىّ، [3] ولقد أعددت لكم
__________
[1] . الطبري: يقتطع الأمور.
[2] . وفي الطبري: نغصا، بعضا. تبرّض الماء: ترشّفه. نغصه: حرّكه.
[3] . الأصل: هلمّ إلىّ، إلىّ. مط: هل إلىّ إلىّ! وما أثبتناه يؤيده الطبري (6: 2940) ، وكذلك ابن الأثير (3:(1/434)
أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم [منّى] [1] خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به. فكفّوا عليكم [2] ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فقد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا، فما تفقدون من حقّكم. والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال. فما لى لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما؟» فقام مروان بن الحكم فتكلّم، فقال عثمان:
- «اسكت لا سكتّ [3] ، [482] دعني وأصحابى، ما منطقك في هذا، ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق بحرف؟» فسكت مروان ونزل عثمان.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين فيها كان ظهور السبائيّة [4] وخروج أهل مصر إلى المدينة لقتل عثمان
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبا كان يهوديّا من أهل صنعاء، وأمّه سوداء.
فأسلم أيام عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول بدعة. فبدأ بالحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام. فلم يجتمع له أمر على ما يريد، فمضى نحو مصر.
__________
[ () ] 152) .
[1] . التكملة من الطبري (6: 2940) .
[2] . في الأصل والطبري (6: 2940) : عليكم. وفي حواشي الطبري: عنّى.
[3] . في الطبري: لا سكّتّ، لا أسكتّ (6: 2941) .
[4] . أنظر الطبري (6: 2941) . وابن الأثير (3: 154) .(1/435)
فلمّا أتاها، قال لأهلها في ما يقول:
- «أنا أعجب ممن يصدّق بأنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمدا لا يرجع، وقد قال الله: «إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد.» [1] فمحمد أحقّ بالرجوع.» فوضع لهم الرجعة.
ثم قال: «ما من نبىّ إلّا وله وصىّ، وعلىّ وصىّ محمّد.
ثم قال: «من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله- صلى الله عليه- ووثب على حقّ ليس له، وتناول [أمر] [2] الأمة؟» ثم قال: «هذا عثمان قد غصب عليّا، وغيّر وبدّل، وكان وكان، فانهضوا [483] في الأمر، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واطعنوا على أمرائكم تجدوا مقالا، وادعوا إلى هذا الأمر.» وبثّ دعاة في الأمصار، وكاتب من استفسده في الأمصار وكاتبوه. ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، وتكاتب أهل الأمصار، حتى أوسعوا الأرض إذاعة، وتناولوا المدينة.
فدخل قوم على عثمان، فقالوا:
- «يا أمير المؤمنين، أيأتيك ما يأتينا؟» قال: «لا، ما جاءني إلّا السلامة.» قالوا: «فإنّا قد أتانا كيت وكيت.» قال: «فأشيروا علىّ.» قالوا: «نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.» فدعا جماعة من وجوه الصحابة فيهم عمار بن ياسر، فأرسل أحدهم إلى
__________
[1] . س 28 القصص: 85.
[2] . تكملة من الطبري.(1/436)
الكوفة، وأرسل آخر إلى البصرة، وأرسل عمارا إلى مصر، وأرسل ابن عمر إلى الشام، وفرّق الباقين في البلاد. فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا:
- «أيها الناس، ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين، ولا عوامّهم، والناس ساكتون [484] قارّون.» فاستبطأ الناس عمّارا، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله بن أبى سرح يخبرهم:
أنّ عمارا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وسودان بن حمران، وفلان وفلان.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار:
«أما بعد، فإنّى آخذ العمّال بموافاتي في كلّ موسم، فاقدموا علىّ.» فقدم عليه عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد، وأدخل في المشورة سعدا وعمرا. فقال:
- «ويحكم! ما هذه الشكاة، وما هذه الإذاعة؟ إنّى والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بى.» فقالوا: «لا والله، ما صدقوا ولا برّوا، ولا يجلّ الأخذ بها، والانتهاء إليها.» قال: «فأشيروا علىّ.» قالوا: «هذا أمر يصنع في السرّ، ثم يلقى إلى غير ذى المعرفة، فيخبر به، فيتحدّث به الناس في مجالسهم.» قال: «فما دواء ذلك؟» قالوا: «طلب هؤلاء القوم، ثم قتل الذين يخرج هذا من عندهم.» وقال معاوية: «ولّيتنى، فولّيت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير.» قال: «فما الرأى؟» قال: «حسن الأدب.» قال: «فما ترى [485] يا عمرو؟»(1/437)
قال: «أرى أنك قد لنت لهم، وأرخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تصنع كما كان يصنع عمر.» فتكلّم عثمان بكلام ليّن ونفّر، فشخص معاوية وعبد الله بن سعد، ورجع ابن عامر وسعيد معه، وردّ سائر الأمراء إلى أعمالهم.
وكان معاوية قد قال لعثمان غداة ودّعه:
- «يا أمير المؤمنين، انطلق معى إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشام على الأمر، لم يزولوا.» فقال: «أنا أبيع جوار رسول الله- صلى الله عليه- وإن كان فيه قطع خيط عنقي؟» قال: «فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهرانىّ أهل المدينة لنائبة إن نابت.» قال: «أنا أقتّر على جيران رسول الله- صلى الله عليه- الأرزاق بجند يساكنهم وأضيّق على دار الهجرة والنصرة!» قال: «والله يا أمير المؤمنين لتقاتلنّ [1] ، ولتغزينّ.» قال: «حسبي الله ونعم الوكيل.» فقال معاوية: «يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور!» ثم خرج.
ثمّ إنّ السبائية كاتبوا أهل الأمصار أن يتوافوا المدينة لينظروا في ما يريدون، وأظهروا [486] أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء لتطير [2] في الناس، ولتحقّق عليه. فتوافوا المدينة، وأرسل عثمان رجلين فقال:
- «انظرا [3] ما يريدون، واعلما علمهم.» فأتياهم وداخلاهم حتى أمنوهما، فأخبروهما بما يريدون، فقالا:
__________
[1] . الطبري: لتغتالنّ ولتغزينّ (6: 2949) .
[2] . مط: لتظهر.
[3] . وفي الأصل: انظروا.(1/438)
- «من معكم من أهل المدينة؟» قالوا: «ثلاثة نفر.» قالا: « [فهل إلّا؟] » [1] قالوا: «لا.» قالا: «فكيف تريدون أن تصنعوا؟» قالوا: «نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنقول: إنّا قرّرناه بها. فلم يخرج منها ولم يتب [2] ، ثم نخرج بعد ذلك كأنّا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنختلعه، فإن أبى قتلناه فكانت إيّاها.» فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال:
- «اللهم سلّم هؤلاء النفر [3] ، أما عمّار فحمل علىّ ذنب غيرى وعركه [4] بى، وأمّا محمد بن أبى بكر، فإنه رجل معجب يرى أنّ الحقوق لا تلزمه، وأما ابن [سهله] [5] فإنّه يتعرض للبلاء.» ثم خطب عثمان، فجمع أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، وخبّرهم بما جاء به الرجلان، واعتذر مما تجنى الناس عليه، واستشارهم. فأشار قوم بقتلهم، ولان عثمان، فأبى أولئك إلّا قتلهم، وأبى إلّا تركهم. [487] فرجعوا إلى بلادهم وفي نيّاتهم أن يغزوه مع الحجّاج كالحجّاج. فتكاتبوا وقالوا: موعدهم في ضواحي المدينة في شوال. فلمّا كان ذلك الوقت اجتمعوا، فنزلوا قرب المدينة- وذلك سنة خمس وثلاثين- وعدّتهم ألفا رجل، ينقصون
__________
[1] . الأصل غير واضح وما أثبتناه هو من الطبري (6: 2950) . مط: فهل قالوا لا، قال فكيف تريدون.
[2] . كذا، وما أثبتناه يؤيده الطبري. مط: ولم يثبت.
[3] . وزاد في الطبري: فإنّك إن لم تسلّمهم شقوا (6: 2951) .
[4] . مط: وغدر بى. وفي الطبري: وأما عمار فحمل على عباس بن عتبة بن أبى لهب وعركه (6: 2951) .
[5] . غير واضحة في الأصل. مط: سار. وفي بعض الأصول: ساره، وما أثبتناه من الطبري.(1/439)
قليلا أو يزيدون، من أهل البصرة والكوفة. وخرج أهل مصر ومعهم ابن السوداء، وكنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وفي أهل الكوفة زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وفي أهل البصرة حكيم بن جبلة وبشر بن شريح وأميرهم حرقوص بن زهير، ثم تلاحق بهم الناس.
فأمّا أهل مصر فإنّهم كانوا يشتهون عليّا، وأمّا أهل البصرة فإنّهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنّهم كانوا يشتهون الزبير [1] . وكان خروجهم جميعا، وقلوبهم شتى في من يختارون، ولا تشكّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة، فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر وتركوا عامّتهم [488] بذي المروة، وقالوا:
- «لا تعجلوا ولا تعجلونا! حتى ندخل المدينة ونرتاد، فإنّه بلغنا أنّهم قد عسكروا لنا. فوالله إن كان أهل المدينة استحلّوا قتالنا، وهم لم يعلموا علمنا [2] لهم إذا علموا علمنا أشدّ، وإنّ أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلّوا قتالنا، ووجدنا الذي بلغنا باطلا لنرجعنّ إليكم بالخبر.» قالوا: «فاذهبوا!» فدخل رجلان، فلقيا أزواج النبىّ- صلى الله عليه- وطلحة، والزبير، وعليّا، وقالوا:
- «إنّما نؤمّ هذا البيت، ونستعفى هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك.» [واستأذناهم] [3] للناس بالدخول، فكلّهم أبى ونهى [4] .
__________
[1] . أنظر الطبري (6: 2955) .
[2] . مط: علمنا لهم. والطبري: علمنا فهم ...
[3] . في الأصل ومط: فاستأذنوهم. وما أثبتناه عن الطبري.
[4] . وزاد في الطبري: وقال بيض ما يفرخنّ (6: 2956) .(1/440)
فاجتمع قوم من أهل مصر، فأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة، فأتوا الزبير.
فأما المصريّون فانّهم لما أتوا عليّا وجدوه في عسكر عند أحجار الزيت [1] ، فسلّم المصريّون على علىّ وعرّضوا، فصاح بهم، وطردهم، وقال:
- «ارجعوا لا صحبكم الله.» فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى حيث [489] هو، وقد أرسل ابنيه إلى عثمان. فسلّم البصريّون عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وطردهم، وقال قريبا مما قال علىّ.
وأتى الكوفيّون الزبير وهو في جماعة وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلّموا عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وقال مثل ما قال صاحباه.
فانصرف القوم إلى عساكرهم وهي على ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرّوا راجعين. فافترق أهل المدينة وكرّوا راجعين. فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم. وأحاطوا بعثمان وقالوا:
- «من كفّ يده فهو آمن.» وصلّى عثمان بالناس أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا من الكلام.
فأتاهم الناس فكلّموهم وفيهم علىّ. فقال:
- «ما ردّكم بعد ذهابكم؟» قالوا: «أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا.»
__________
[1] . وزاد في الطبري: عليه حلّة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية متقلّد السيف، ليس عليه قميص وقد سرّح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فالحسن جالس عند عثمان وعلىّ عند أحجار الزيت. فسلّم عليه المصريّون ... (6: 2957) .(1/441)
وأتاهم طلحه، فقالوا له مثل ذلك. وأتاهم الزبير فقالوا له مثل ذلك. وأجمعوا على أن يعتزل عثمان، وهو في ذلك يصلّى بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى [490] عثمان من شاء وهم في عينه أدقّ من التراب.
وكتب إلى أهل الأمصار يستمدّهم، ويشكو ما يلقى، بكتاب [1] بليغ. فأتاهم الكتاب، وخرجوا على الصعب والذلول. فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج السكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان بالكوفة جماعة يحضّضون على إغاثة أهل المدينة مثل حنظلة بن الربيع وأشباهه من أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- فكانوا يطوفون على مجالسها ويقولون:
- «يا أيها الناس، إنّ الكلام اليوم وليس به غدا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدا، انهضوا إلى نصرة خليفتكم.» وقام بالبصرة عمران بن الحصين وأنس بن مالك في أمثالهما من أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- يقولون مثل ذلك، وقام بالشام عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء في أمثالهما من أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- يقولون مثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له.
ولما جاءت الجمعة التي [على] [2] أثر [نزول] [3] المصريّين مسجد الرسول [491] خرج عثمان، فصلّى بالناس، ثم قام على المنبر، فقال:
- «الله الله يا معشر الغزّى [4] ! فامحوا الخطأ بالصواب.»
__________
[1] . أنظر الطبري (6: 2958) .
[2، 3] . الكلمتان من الطبري (6: 2960) ، والعبارة في الأصل ومط: التي أثر فيها نزول المصريين.
[4] . كذا في الأصل. وفي مط: العزى. الطبري: العدى، العذي، الغزا، الغزّاء (6: 2960) . وفي الكامل: يا هؤلاء (3: 161) .(1/442)
فقام محمد بن مسلمة فقال: «أنا أشهد بذلك.» فأخذه حكيم بن جبلة، فأقعده.
فقام زيد بن ثابت، فقال: «أبغنى [1] الكتاب.» فثار إليه محمد بن أبى بكر فنتره [2] وأقعده وقال: «اقطع!» وقام الناس بأجمعهم ثائرين بأهل المدينة، فحصبوهم، حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فاحتمل وأدخل داره.
وكان المصريّون لا يطمعون في مساعدة أحد من أهل المدينة إلّا في ثلاثة فإنّهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبى بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.
وسار ناس مستقتلين منهم: سعد بن مالك، والحسن [3] بن علىّ، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا، فانصرفوا.
وأقبل علىّ وطلحة والزبير حتى دخلوا على عثمان يعودونه [492] من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم. وكان الناس قبل ذلك وافقوه على أشياء وجد فيها اعتذارا، وعلى أشياء لم يجد فيها مقالا [4] ، فقال:
- «أستغفر الله وأتوب إليه.» وأخذوا ميثاقه وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألّا يشقّوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم.
ثم قالوا: «نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنّما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد.»
__________
[1] . الطبري: ابغنى الكتاب.
[2] . في الطبري: محمد بن أبى قتيرة فأقعده وقال فأفظع وثار القوم. (نفس الصفحتين) . نتره: جذبه بشدّة.
[3] . وفي بعض الأصول: الحسين بن على (حواشي الطبري 1: 2961) .
[4] . لم تكن العبارة واضحة تماما في الأصل. انظر الطبري 6: 2964.(1/443)
فرضوا، وأقبلوا معه حتى خطب عثمان، وقال:
«ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحلب، ألا! إنّه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد، صلّى الله عليه.» فغضب الناس وقالوا:
- «هذا مكر بنى أميّة.»
راكب له شأن
ورجع وفد المصريين راضين، فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض، فمرّة يرونه، ومرّة يغيب عنهم، فقالوا: «إنّ لهذا الرجل لشأنا.» فأخذوه، وقرّروه، فقال: «أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر.» ففتشوه فإذا هم بكتاب [493] على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر، قد جعل في إداوة [يابسة] [1] يأمر بأن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يصلبهم.
فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا:
- «ألم تر إلى عدوّ الله! إنّه كتب فينا بكذا وكذا، بعد الميثاق الذي بيننا وبينه، وإنّ الله قد أحلّ لنا دمه، قم معنا إليه.» قال: «والله لا أقوم معكم!» قالوا: «فلم كتبت إلينا؟» قال: «والله ما كتبت إليكم كتابا قطّ.» فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض:
__________
[1] . الكلمة غير واضحة في الأصل.(1/444)
- «ألهذا تقاتلون؟ أم لهذا تغضبون؟» فخرج علىّ من المدينة إلى قرية، وانطلق القوم حتى دخلوا على عثمان، فقالوا:
- «كتبت فينا بكذا وكذا.» فقال عثمان: «إنّما هما ثنتان: إمّا أن تقيموا علىّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله، الذي لا إله إلّا هو، ما كتبت، ولا أمللت، ولا علمت. وقد علمتم أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم.» فقالوا: «لئن كنت كاذبا في يمينك فقد أحلّ الله دمك، ولئن كنت صادقا لقد ضعفت عن الأمر، حين لا تضبط [494] من أمرك هذا المقدار.» وقد حاصروه، وقد ذكر الناس في هذه الروايات أشياء شنعة لم نذكرها.
وقد كان عثمان لما أحسّ بانصراف المصريين إليه من الطريق، أتى عليّا في منزله، فقال:
- «يا ابن عمّ! إنّه ليس منزل، وإنّ قرابتي قريبة، ولى حقّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبّحىّ، وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرا، وأنّهم يستمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم، فتردّهم عنّى. فإنّى لا أحبّ أن يدخلوا علىّ، فإنّ تلك جرأة منهم علىّ، ويسمع بذلك غيرهم.» فقال علىّ: «على م أردّهم؟» قال: «على أن أصير إلى ما أشرت به علىّ، ورأيته لى، ولست أخرج من يديك.» فقال علىّ: «إنّى قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرّة، وكل ذلك تخرج فتتكلّم وتقول وتقول، وذلك كلّه فعل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، ومعاوية، تطيعهم وتعصينى.» قال: وأمر الناس المهاجرين والأنصار، فركبوا معه. وأرسل عثمان إلى عمار(1/445)
بن ياسر، فكلّمه أن يركب مع علىّ، فأبى. ومضى علىّ في [495] المهاجرين والأنصار، وهم ثلاثون رجلا. فكلّمهم علىّ ومحمد بن مسلمة حتى رجعوا.
فلما رجع علىّ إلى عثمان وأعلمه أنهم رجعوا، وكلّمه علىّ كلاما كان في نفسه، وخرج إلى بيته، مكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان بن الحكم، فقال له:
- «تكلّم، وأعلم الناس أن أهل مصر علموا أنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا، وقد رجعوا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب [1] الناس عليك من أمصارهم، فيأتيك أمر لا تستطيع دفعه.» [فأبى] [2] عثمان، ولم يزل به مروان حتى خرج، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
- «أما بعد، فإنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما تيقّنوا أنه باطل رجعوا إلى بلادهم.» فقال له عمرو بن العاص:
- «اتق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير [3] وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك.» فناداه عثمان: «وإنّك هناك يا ابن النابغة قملت جبّتك منذ عزلتك عن العمل.» فنودي من ناحية أخرى: «أظهر [496] التوبة يا عثمان يكفّ الناس عنك.» ونودى من ناحية اخرى بمثل ذلك.
فرفع عثمان يده واستقبل القبلة، فقال:
- «اللهمّ إنّى أول تائب إليك.»
__________
[1] . كذا في الطبري (6: 2972) . وفي مط: يجتلب.
[2] . الأصل مطموس في هذه الكلمة، فأخذناها من مط.
[3] . جمع مفرده نهبور ونهبورة: المهلكة.(1/446)
ورجع إلى منزله.
ثمّ إنّ عليّا جاءه، فقال له:
- «تكلّم كلاما يسمعه الناس عامّة ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن ركبا آخر يقدمون من الكوفة أو البصرة، فتقول لى: اركب إليهم، فلا أركب، ولا أسمع لك عذرا، وتراني قد قطعت رحمك واستخففت بحقّك.» فخرج عثمان، فخطب الخطبة المشهورة التي يقول فيها:
- «إنى نزعت وتبت مما فعلت، إذ التوبة خير من التمادي في الهلكة، والله أيها الناس، لئن ردّنى الحق عبدا، لأذلّنّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن عتق شكر. فليأتنى وجوهكم. فوالله لأنزلنّ عند رأيكم، ولأنتهينّ إلى حكمكم.» فرقّ له الناس وبكى من بكى منهم، وعلت الأصوات بالنشيج.
فقال له سعيد بن زيد:
«اتقّ الله [497] يا أمير المؤمنين في نفسك، وأتمم على ما قلت.» فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان، وسعدا، ونفرا من بنى أميّة لم يشهدوا الخطبة.
قال مروان: «يا أمير المؤمنين، أتكلّم، أم أصمت؟» فقال بعض أهله: «لا، بل اصمت، فأنتم والله قاتلوه، إنّه قال مقالة مشهورة لا ينبغي أن ينزع عنها.» فأقبل عليها [1] مروان بكلام قبيح إلى أن سكّتها عثمان. ثم قال مروان:
«أتكلّم، أم أصمت؟»
__________
[1] . في الأصل ومط: عليه. فصححناها بالطبرى.(1/447)
قال: «بل تكلّم.» فقال مروان: «بأبى وأمّى، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع، وكنت أول من رضى بها، وأعان عليها، ولكنّك قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وحين أعطى الخطّة الغليظة [1] الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر منها، أجمل من توبة تجبر عليها، وقد اجتمع بالباب مثل الجبل من الناس.» فقال عثمان: «فاخرج إليهم، فكلّمهم، فإنّى أستحى أن أكلّمهم.» فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال:
- «ما شأنكم؟ [498] قد اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب، كلّ إنسان آخذ [2] بأذن صاحبه، شاهت الوجوه، ألا، من أريد؟ جئتم أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنّا، أما والله لئن رمتمونا لتلقون ما لا يسرّكم ارجعوا، فوالله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا.» فرجع الناس إلى علىّ يشكون إليه. فجاء علىّ مغضبا حتى دخل على عثمان، فقال:
- «أما رضيت من مروان ولا رضى منك، إلّا بإخراجك عن دينك وعقلك، مثل جمل الظعينة، يقاد حيث شاء ربّته [3] ؟. والله ما مروان بذي رأى في دينه، ولا في نفسه، وإنّى لأراه سيوردك ولا يصدرك، وما أنا بعائد بعد هذا لمعاتبتك، فقد أكثرت وأكثرت. أذهب [4] شرفك وغلبت على أمرك.» فلما خرج علىّ دخل إليه بعض أهله فقال:
- «إنى سمعت قول علىّ لك، وإنه ليس يعاودك، فقد خالفته مرارا وأطعت مروان.»
__________
[1] . وفي الطبري: الخطة الذليلة الذليل.
[2] . كذا في الطبري (6: 2975) .
[3] . في الطبري حيث يسار به (6: 2976) . مط: «حيث ساريته» . والظعينة: الهودج، أو المرأة التي فيه.
[4] . في الطبري: أذهبت.(1/448)
قال: «فما أصنع؟» قال: «تتقى الله وحده وتطيعه يرشدك، فإنّ مروان ليس له [499] عند الناس قدر، ولا هيبة، ولا محبّة، وأراه سيقتلك، فأرسل إلى علىّ واستصلحه، فإنّه يعطف عليك ولا يعصى، وقوله مقبول.» فأرسل عثمان إلى علىّ، فأبى أن يأتيه وقال:
- «قد أعلمته أنّى غير عائد إليه.» ومكث عثمان لا يخرج ثلاثة أيام حياءا من الناس. ثم ذهب عثمان بنفسه حتى أتى عليّا في منزله ليلا، وجعل يقول:
- «إنى غير عائد، وإنّى فاعل، وإنّى فاعل [1] .» فقال له علىّ: «أبعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله- صلى الله عليه- وأعطيت من نفسك، وبكيت حتى اخضلّت لحيتك بالدمع، وأبكيت الناس، ودخلت منزلك. وخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك، ويتلقّاهم بما يكرهونه؟» وانصرف من عند علىّ، ولم يزل علىّ متنكّبا عنه، لا يفعل ما كان يفعل، إلّا أنّه لما منع الماء وحصر امتعض له وغضب غضبا شديدا، وكلّم طلحة وغيره حتى دخلت الروايا إلى عثمان.
ولما رأى عثمان ما نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية، وهو بالشام. يسأله أن يبعث له مقاتلة الشام على كلّ صعب وذلول. [500] فلما جاء معاوية كتابه تربّص، وكره إظهار مخالفة أصحاب النبي- صلى الله عليه- فلمّا أبطأ نصره على عثمان كتب إلى أهل الشام يستنفرهم، ويعظّم حقّه، ويذكر
__________
[1] . التكرار من النص في «وإنّى فاعل» . ويضيف الطبري هنا: وهو يقول: قطعت رحمي، وخذلتني، وجرّأت الناس، فقلت: [والقائل علىّ] والله إنّى لأذبّ الناس عنك، ولكنى كلما جئتك بهنة أظنها لك رضى جاء بأخرى، فسمعت قول مروان علىّ واستدخلت مروان (6: 2979) .(1/449)
أمر الخلفاء، وما أمر الله به من طاعتهم ويقول:
- «والعجل، العجل، فإنّ القوم معاجلىّ.» فقام قوم يحضّضون على نصره، وانتدب خلق كثير.
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بالبصرة: أن اندب إلىّ أهل البصرة، وكتب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى الشام. فقامت الخطباء من أهل البصرة بحضرة عبد الله بن عامر يحضّون على نصر [1] عثمان، وعلى المسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود، وهو يومئذ سيّد قيس في البصرة. فتسارع الناس، وكان أشار مروان على عثمان بمقاربة من حوله من أهل مصر وغيرهم حتى يقوى، وقال له:
- «أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، وأرسل إلى علىّ يكلّمهم.» فراسل عليّا وقال:
- «إنّ الأمر بلغ القتل، فاردد الناس عنّى، فإنّ الله لهم أن أعتبهم من كلّ ما يكرهون، وأعطيهم الحقّ من نفسي وغيرى، وإن كان في ذلك سفك دمى.» فراسله علىّ بأنّ:
- «الناس إلى عدلك! أحوج منهم [501] إلى قتلك، وإنّى لأرى قوما لا يرضون إلّا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في المرة الأولى من العهود ما نقضته، ولم تف به لهم.» فقال عثمان: «أعطهم اليوم ما يحبّون، فوالله لأفينّ.» فخرج علىّ إلى الناس، فقال:
- «أيها الناس! إنّكم إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه. إنّ عثمان يزعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه.» قال الناس:
__________
[1] . نصر: سقطت من مط.(1/450)
- «قد قبلنا، فاستوثق لنا، فإنّا لا نرضى بقول دون فعل.» فقال علىّ: «ذلك لكم.» وأخبر عثمان الخبر، فقال عثمان: «اضرب بيني وبينهم أجلا تكون لى فيه مهلة، فإنّى لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد.» فقال علىّ: «ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب، فأجله وصول أمرك.» قال: «نعم، ولكن أجّلنى في ما في المدينة ثلاثة أيام.» فقال علىّ: «نعم.» فخرج علىّ، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا على الأجل، شرط فيه أن يردّ كل مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهه المسلمون، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد أو ميثاق، وأشهد ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار. [502] فكفّ المسلمون عنه، ورجوا أن يفي لهم بما أعطاهم.
يوم الدار
فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسلاح، وكان اتّخذ جندا عظيما من رقيق الخمس. فلمّا انقضت الأيام الثلاثة، وهو على حاله، لم يغيّر شيئا مما كرهوه، ولا عزل عاملا ثار به الناس وهجموا. فدخلوا يومئذ وما سلّموا عليه بالخلافة، وقالوا:
- «سلام عليكم.» فقال من حضره: «عليكم السلام.» فتكلّم الناس، وذكروا ما صنع عبد الله بن سعد بمصر من استيثاره بغنائم المسلمين، وتحامله عليهم وعلى أهل الذمّة، فإذا قيل له في ذلك، قال:
- «هذا كتاب أمير المؤمنين.» ثم ذكروا ما أحدثه بالمدينة وأطالوا، وقالوا:(1/451)
- «إنّا رحلنا من مصر، لا نريد إلّا دمك أو تنزع الخلافة، فردّنا علىّ ومحمد بن مسلمة، وضمنّا له [1] النزوع عن كل ما تكلّمنا فيه.. (ثم أقبلوا على محمد وقالوا: «هل قلت [2] لنا ذلك؟» قال محمد: «نعم» ) .. فرجعنا إلى بلادنا حتى إذا كنّا بالبويب، أخذنا غلامك على راحلة من صدقات المسلمين ومعه كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد تأمره فينا بجلد ظهورنا والمثلة بنا بالقطع والحبس الطويل، [503] وهذا كتابك، ثم فعلت وفعلت.» فحمد الله عثمان وأثنى عليه وقال: «والله ما كتبت ولا أمرت ولا شوورت [3] .» قالوا: «فمن كتبه؟» قال: «لا أدرى.» قالوا: «فيجترأ عليك، ويبعث بغلامك، وجمل من صدقات المسلمين، وينقش [4] خاتمك، ويكتب إلى عاملك في إعلام المسلمين بهذه العظائم وأنت لا تعلم! ليس مثلك [5] من يلي الخلافة، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه.» فأبى وقال: «لا أنزع قميصا ألبسنيه الله، ولكنّى أتوب من كلّ ما تكرهون.» قالوا: «قد فعلت ذلك وكذبت، وقد وقعت عليك التهمة مع ما بلونا منك في مرات كثيرة، من الجور في الحكم والأثرة في القسم، والعقوبة لمن أمر بالمعروف، وإظهارك التوبة مرة بعد مرة، ثم رجوعك إلى كلّ منكر. ولقد كنّا رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من نرضاه، ومن لم نجرّب عليه ما جرّبناه عليك، فاردد خلافتنا.»
__________
[1] . كذا في الأصل: ضمنّا له. وما في مط: ضمنا لنا. ولكلا الضبطين وجه من الصحة.
[2] . في مط: هل أنت قلت.
[3] . في مط: ولا شاورت.
[4] . في مط: فيفتق.
[5] . في مط: منك.(1/452)
فأجابهم عثمان بجوابه الأول، فآذنوه [1] بالحرب، وشدّدوا عليه الحصار.
فصعد بعض عبيد [504] عثمان إلى سطح داره، فدلّى منه حجرا، فقتل رجلا يقال له: دينار.
فأرسلوا إلى عثمان أن:
- «أمكنّا من قاتله.» فقال عثمان: «والله ما أعرف قاتله [2] .» فباتوا تلك الليلة. فلمّا أصبحوا، وهو يوم الجمعة، أحضروا نارا ونفطا، ودخلوا من ناحية الحرم [3] ، فأضرموا جوانب الدار، فاحترقت.
فقال عثمان لأصحابه:
- «ما بعد الحريق شيء، فمن كانت لى عليه طاعة فليمسك يده، فإنّما يريدني القوم، ولو كنت في أقصاكم لتخطّوكم إلىّ، ولو وجدوني في أدناكم ما تخطّونى إليكم.» فأبى مروان وقال: «والله لا وصلوا إليك وفي روح.» وخرج إلى الناس بسيفه وعليه درع. فناوشوه القتال. ثمّ خرج إليه غلام شابّ طوال، فضربه مروان على ساقه، وضرب الغلام مروان على رقبته، فسقط لا ينبض منه عرق، وقتل المغيرة بن الأخنس، وجرح عبد الله بن الزبير، وانهزم من في الدار، وخرجوا هرّابا في طرق المدينة، وخلص إلى عثمان، فقتل قبل أن يلحقه الغوث من الأمصار.
أسماء كتّاب عثمان [505]
كتب له مروان بن الحكم، وكتب له عبد الملك بن مروان على ديوان المدينة،
__________
[1] . في مط: فأذنوه بالحرب.
[2] . في مط: ما أعرف قاتل (!)
[3] . مط: من ناحية إلى الحرم.(1/453)
وأبو جبيرة على ديوان الكوفة، وعبد الله بن الأرقم على بيت المال، وكتب أهيب مولاه [1] ، وكتب له حمران مولاه، فأنكر عليه شيئا، فنفاه إلى البصرة، فلم يزل بها حتى قتل عثمان.
سبب سقوط هذا الكاتب من عين عثمان
وكان سبب نفيه إيّاه أنّ عثمان اشتكى شكاة، فقال له:
- «اكتب العهد بعدي لعبد الرحمان بن عوف.» فانطلق حمران إلى عبد الرحمان بن عوف فقال له:
- «البشرى!» فقال: «لك البشرى، فماذا؟» فأخبره الخبر. فصار عبد الرحمان إلى عثمان، فأخبره بما قال حمران، فقلق عثمان، وخاف أن يشيع، فنفاه لذلك.
ذكر تدبير تمّ لعثمان بمعاونة علىّ رضى الله عنه [2] ورأيه لما حصر عثمان الحصار الأول
كان علىّ بخيبر، فلمّا قدم أرسل إليه عثمان. فذهب إليه، فكلّمه عثمان، وأذكره بحقّه من الإسلام والقرابة والصهر، وماله في عنقه من العهد. ثم قال له:
- «ولو لم يكن من هذا شيء، ثمّ كنّا نحن [506] في جاهليّة، لكان عيبا على عبد مناف أن يبتزّهم أخو بنى تيم ملكهم [3] » .
يعنى طلحة، وقد كان اجتمع إلى طلحة قوم وطمع فيها.
فتكلّم علىّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
__________
[1] . وكتب أهيب مولاه: سقطت من مط.
[2] . في الأصل: رضى الله عنه، وفي مط بدونها.
[3] . في الأصل: مالهم. ولعلّه تصحيف. في مط: ملكهم.(1/454)
- «أما بعد، فكلّ ما ذكرت من حقّك علىّ كما ذكرت، وأما قولك: لو كنّا في جاهلية لكان عيبا على عبد مناف أن يبتزّهم أخو بنى تيم، فصدقت وسيأتيك الخبر.» ثم خرج فدخل المسجد، فرأى أسامة جالسا، فدعاه، واعتمد عليه، وخرج يمشى إلى طلحة، فلمّا دخل عليه، وجد داره ممتلئة بالرجال، فقام عليه وقال:
- «يا طلحة! ما هذا الأمر الذي وقفت فيه؟» فقال: «يا أبا الحسن، أبعد ما مسّ الحزام الطبيين؟» فسكت علىّ وانصرف حتى أتى بيت المال، فقال:
- «افتحوا هذا الباب.» فلم يقدر على المفاتيح، وتأخّر عنه صاحب المفاتيح، فقال:
«اكسروه.» فكسر باب بيت المال، وقال:
- «أخرجوا المال.» وجعل يعطى الناس. فبلغ الذين في دار طلحة ما صنع علىّ، فجعلوا يتسلّلون إليه، حتى ترك طلحة وحده، وبلغ الخبر عثمان، فسرّ به، ثم أقبل طلحة [507] عامدا إلى دار عثمان. فقال بعض الصحابة:
- «والله لأنظرنّ ما يقول هذا.» قال:
فتبعته، فاستأذن على عثمان. فلمّا دخل عليه، قال:
- «يا أمير المؤمنين، أستغفر الله وأتوب إليه. أردت أمرا، فحال الله بيني وبينه.» فقال عثمان:
- «إنّك والله، ما جئت تائبا، ولكنّك جئت مغلوبا. الله حسيبك يا طلحة.»(1/455)
خلافة الإمام على
ذكر بيعة علىّ بن أبى طالب عليه السلام
لمّا قتل عثمان اجتمع عامة المهاجرين والأنصار على علىّ [1] ، فأتوه، فتأبّى عليهم، وقال:
- «أنا وزيرا خير لكم منّى أميرا [2] .» فارتدّ الناس عنه وأتوا طلحة والزبير فتكلّما في قتل عثمان بما ظنّوه توعّدا، فقالوا لطلحة والزبير:
- «إنّ كلامكما لوعيد.» ثم انصرفوا عنهما وقال بعضهم لبعض:
- «إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعد قائم بهذا الأمر، لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة.» فعادوا إلى علىّ وخاطبوه. فأخذ الأشتر بيد علىّ، فقبضها علىّ.
فقال الأشتر: «ما لك تتعسّر، [508] وأنت ترى ما فيه الناس؟» فقال علىّ: «أبعد ثلاثة؟»
__________
[1] . في الأصل: رضى الله عنه، وفي مط: عليه السلام.
[2] . في الأصل ومط: «أنا وزير خير لكم من أمير.» وفي الطبري (6: 3066) : «إنّى أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا.»(1/457)
فقال له الأشتر: «أما والله لئن تركتها لتعصرنّ عينيك عليها حينا.» فبايعوه. وفي ما رواه صاحب التاريخ، قال: اجتمع أهل الأمصار وقالوا:
- «دونكم يا أهل المدينة، فقد أجّلناكم ثلاثا [1] ، فو الله لئن لم تفرغوا لنفعلنّ ولنفعلنّ.» فغشى الناس عليّا وقالوا:
- «ترى ما نزل بالناس وما ابتلينا به من بين تلك القرى؟» فقال علىّ: «دعوني والتمسوا غيرى، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه. لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول.» فقالوا: «ننشدك بالله. ألا ترى ما نرى؟، ألا ترى الفتنة؟ أما تخاف الله؟» قال: «اعلموا أنّى- إن أجبتكم- ركبت بكم [2] ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، ألا، إنّى أسمعكم، وأطوعكم لمن ولّيتموه.» فافترقوا على ذلك، واتّعدوا لغد، وتشاور الناس في ما بينهم، وقالوا:
- «إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت.» فبعث المصريّون بصريّا إلى الزبير وقالوا: «احذر لا تحابه. [3] » - وكان رسولهم حكيم بن جبلة في نفر- فجاؤوا يحدونه بالسيف. وبعثوا إلى طلحة [509] كوفيّا وقالوا: «احذر لا تحابه.» وبعثوا بنفر، فجاؤوا يحدونه بالسيف.
وبعثوا الأشتر إلى علىّ، وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبيهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد صار أهل الكوفة والبصرة كالأتباع، وهم جشعون.
فلما أصبحوا يوم الجمعة حضر الناس المسجد. وجاء علىّ حتى صعد المنبر،
__________
[1] . كذا في مط، وفي الأصل شطب واضطراب في الرسم.
[2] . مط: رأيت ما بكم!
[3] . مط: لا تخافه (وكذلك في الموضع الآتي) .(1/458)
فقال:
- «يا أيها الناس، عن ملأ وإذن، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من رضيتم وأمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أحد على أحد.» قالوا: «نحن على ما افترقنا عليه بالأمس.» وقام الأشتر، فقدّم طلحة، وقال له:
- «بايع.» فقال: «أمهلنى أنظر.» فجرّد سيفه وقال: «لتبايعنّ، أو لأضعنّه بين عينيك.» فقال طلحة: «وأين المذهب [1] عن أبى حسن.» فصعد المنبر، فبايعه. فنظر رجل من بعيد يقتاف، فقال:
- «إنّا لله، أول يد [2] بايعت أمير المؤمنين يد شلّاء، لا يتمّ هذا الأمر أبدا.» وكان طلحة وقى رسول الله بيده حين رأى سهما أقبل نحو وجهه، فأصاب السهم يده، وشلّت يده.
ثمّ قدّم الزبير، [510] فبايع، وفي الزبير خلاف، ثم تتابع الناس بالبيعة لا يكرهها أحد، وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين.
وخطب على- رضى الله عنه- خطبته المشهورة [3] ، واجتمع إلى علىّ عدة من الصحابة فيهم طلحة والزبير، فقالوا:
- «يا علىّ، إنّا اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل، وأحلّوا [4] بأنفسهم.»
__________
[1] . وفي الطبري (6: 3069) : «أين المهرب منه.» وفي مط: «فقال طلحة واذهب (!) عن أبى حسن.»
[2] . يد: سقطت من مط.
[3] . أنظر الطبري 6: 3078.
[4] . كذا في الأصل والطبري: «وأحلّوا» بالهاء المهملة وفي مط: «وأخلّوا» بالخاء المعجمة.(1/459)
فقال لهم: «يا إخوتاه، إنّى لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم. ها هم هؤلاء، وقد ثارت معهم عبيدكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم، يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟» قالوا: «لا.» قال: «فإنّى والله لا أرى إلّا رأيا ترونه، إلّا أن يشاء الله. إنّ الناس من هذا الأمر- إن حرّك- على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة لا ترى ما ترون، وفرقة لا ترى لا هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق.
فاهدأوا [1] عنّى، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا.» [511] ثمّ إنّ بنى أمية تهاربت وخرجت عن المدينة. فاشتدّ علىّ- عليه السلام- على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها تلك.
ثم خرج علىّ في اليوم الثاني فقال:
- «يا أيها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب.» وقال:
- «يا أيها الأعراب، الحقوا بمياهكم.» فأبت السبائية، وأطاعهم الأعراب. ودخل علىّ بيته، ودخل عليه عدة من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- فيهم طلحة والزبير.
فقال لهم علىّ: «دونكم ثأركم، فاقتلوه.» فقالوا: «قد عسوا [2] عن ذلك.» فقال لهم: «هم والله بعد اليوم أعسى [3] .» وتمثّل:
ولو أنّ قومي طاوعتنى سراتهم ... أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا
__________
[1] . مط: فاهدوا.
[2، 3] . كذا في الأصل، وفي مط: عصوا، أعصى. وفي الطبري: عتوا، أعتى (6: 3081) . عسى: جفّ وغلظ.(1/460)
وقال طلحة: «تدعني، فآتى البصرة، فلا يفجأوك إلّا وأنا في خيل.» وقال الزبير: «آتى الكوفة، فلا يفجأوك إلّا وأنا في خيل.» فقال: «حتى أنظر.» وسمع المغيرة بذلك المجلس.
ذكر رأى جيّد للمغيرة
فجاء المغيرة حتى دخل على علىّ- عليه السلام- فقال:
- «إنّ حولك من يشير ويرى، ولك علىّ حقّ الطاعة، وأنّ النصح رخيص، وأنت بقية الناس، [512] وأنا لك ناصح. واعلم أنّ الرأى اليوم تحوز [1] به ما في غد، وأن الضياع اليوم يضيع به ما في غد. أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، واردد عمّال عثمان عامك هذا، واكتب بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأنّ الأمر عزلت من أحببت، وأقررت من أحببت.» فقال علىّ: «والله، لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيى [2] ، ولا ولّيت أمثال هؤلاء [ولا مثلهم يولّى [3]] ، وما كنت متخذ المضلّين عضدا [4] .» فقال المغيرة: «فإذ قد أبيت فاترك معاوية، فإنّ له جرأة، وأهل الشام يطيعونه، ولك حجّة في إثباته، كان عمر بن الخطّاب قد ولّاه الشام كلّها.» فقال علىّ: «لا والله لا أستعمله يومين.» فقام المغيرة وانصرف، ثم عاد إليه بعد ذلك، فقال:
__________
[1] . وفي الأصل ومط: تحور. وفي الطبري: تحرز (6: 3082) فأعجمنا الحرف الأخير بأمارة ما في الطبري.
[2] . مط: رأيا.
[3] . تكملة تطلّبها السياق وهي من الطبري 6: 3083.
[4] . س 11 الكهف: 18.(1/461)
- «إنّى أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت، وخالفتني. ثم رأيت بعد ذلك رأيا، وأنا الآن أرى أن تصنع الذي رأيت، فتنزعهم، وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله أمرهم، وهم أهون شوكة من ذاك.»
رأى لابن عباس وما أشار به على علىّ
وخرج المغيرة، وتلقّاه ابن عباس خارجا. فدخل إلى علىّ، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، أخبرنى [513] عن شأن المغيرة، ولم خلا بك؟» قال: «إنّه جاءني بعد مقتل عثمان بثلاثة أيام وقال: أخلنى. ففعلت. فقال: كيت وكيت. فأجبته بكيت وكيت. فانصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنّه يرى أنّى مخطئ. ثم عاد إلىّ الآن، فقال: كيت وكيت.
فقال ابن عباس: «أمّا في المرة الاولى فقد نصحك، وأمّا في المرة الأخرى فقد غشّك.» قال له: «وكيف نصحنى؟» قال ابن عباس: «لأنّك تعلم أنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم، لا يبالون من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم، يقولوا: أخذ الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، وحمّلك ما قدر عليه من الذنب، فتنتقض عليك الشام. ولا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك.» فقال علىّ: «أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق، والمعرفة بعمّال عثمان، فوالله لا أولّى منهم أحدا أبدا، فإن أقبلوا فذلك خير، وإن أدبروا بذلت لهم السيف.» قال ابن عباس: «فأطعنى، وادخل دارك، والحق بما لك بينبع، وأغلق بابك، فإنّ العرب تجول [514] جولة وتضطرب، ولا تجد غيرك. فإنّك والله لو نهضت مع هؤلاء القوم ليحمّلنّك الناس غدا دم عثمان.»(1/462)
فأبى علىّ وقال لابن عباس:
- «سر إلى الشام، فقد ولّيتكها.» فقال ابن عباس: «ما هذا والله برأى. معاوية رجل من بنى أمية، وهو ابن عمّ عثمان، وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم علىّ.» قال علىّ: «ولم تظنّ ذلك؟» قال: لقرابة ما بيني وبينك، ولأنّ كلّ ما عليك فهو علىّ، ولكن اكتب إلى معاوية، فمنّه، وعده.» فقال علىّ: «إنّ هذا ما لا يكون أبدا.» وتمثّل:
فما ميتة، إن متّها غير عاجز ... بعار، إذا ما غالت النفس غولها
فقال ابن عباس: «أنت- يا أمير المؤمنين- رجل شجاع، ولست بأرب في الحرب. أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه- يقول: الحرب خدعة؟» قال: «بلى.» قال ابن عباس: «أنا والله، لئن أطعتنى لأصدرنّ بهم بعد ورد، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الأمور، ولا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم [515] لك.» فقال علىّ: «يا ابن عباس، لست من هنيّاتك وهنيّات [1] معاوية في شيء، تشير علىّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعنى.» فقال ابن عباس: «أفعل، إنّ أيسر ما لك عندي السمع والطاعة.»
__________
[1] . والضبط في الطبري (6: 3086) : «هنيآتك وهنيآت معاوية» والأصل واحد. وفي مط: «هيئاتك وهيئات معاوية» .(1/463)
علىّ يفرّق عمّاله على الأمصار
وفرّق علىّ- عليه السلام- عمّاله في سنة ست وثلاثين. فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل، فإنّه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل.
فقالوا: «من أنت؟» قال: «أمير [1] على الشام.» فردّوه، ولم يدعوه يتجاوزها.
وأما قيس بن سعد، فإنّه لما انتهى إلى أيلة، لقيته خيل.» فقالوا: «من أنت؟» فقال: «من فالّة عثمان، أطلب من آوى إليه، وأنتصر به.» قالوا: «فمن أنت؟» قال: «قيس بن سعد.» قالوا: «امض.» فدخل مصر فافترق الناس: فبعضهم دخل في الجماعة وكانوا معه، وفرقة اعتزلت وقالت:
- «إن قتل قتلة عثمان [فنحن معكم] [2] ، وإلّا فنحن على جديلتنا.» وأمّا عثمان بن حنيف، فإنّه سار، ولم يردّه أحد عن دخول البصرة، ولم يوجد لابن عامر في ذلك رأى ولا تدبير، [516] وافترق الناس بالبصرة كما افترقوا بمصر.
__________
[1] . ويضيف الطبري هنا: قالوا: على أىّ شيء؟ قال: ... (6: 3087) .
[2] . تكملة أوردناها عن الطبري 6: 3088.(1/464)
وأما عمارة، فلمّا صار بزبالة، لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بدم عثمان. وقال له:
- «ارجع، فإنّ الناس لا يريدون بأميرهم بدلا، وإن أبيت ضربت عنقك.» فرجع وهو يقول: «أحرز الخطر ما تماسّك الشرّ خير من شرّ منه» [1]- فصار مثلا.
وعلقه عمار بن ياسر إلى أن قتل.
وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن. فجمع يعلى بن أميّة كلّ ما كان جباه، وخرج وسار على حاميته إلى مكة، فقدمها بالمال.
فدعا علىّ طلحة والزبير فقال:
- «إنّ الذي كنت أحدّثكم به قد وقع، وإنّما هي فتنة كالنار، كلما سعّرت ازدادت واستثارت.» فقالا له: «ائذن لنا نخرج من المدينة.» فقال: «سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بدّا فآخر الداء الكىّ.» وكتب إلى أبى موسى، وهو بالكوفة، وإلى معاوية، وهو بالشام. فأمّا أبو موسى فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة، وبيّن الكاره منهم لما كان، والراضي بما كان، حتى كان علىّ على الواضحة [2] من أمر أهل الكوفة. [517] وأمّا معاوية فلم يكتب بشيء، ولم يجب الرسول، وجعل يردّده. وكان كلّما تنجّزه تمثّل بشعر [3] لا يحصل منه على بيّنة، حتى أحكم أمر نفسه، وواطأ من أراد. وأتى على الرسول ثلاثة أشهر. ثم دعا بأحد ثقاته، ووصاه، ودفع طومارا مختوما إليه، عنوانه: «من معاوية إلى علىّ.»
__________
[1] . وفي الطبري: احذر الخطر ما يماسّك الشرّ خير من شرّ منه (6: 3088) .
[2] . كذا في مط: الواضحة، وفي الطبري (6: 3089) : «المواجهة» .
[3] . تجد الشعر عند الطبري (6: 3090) .(1/465)
وقال: «إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار ليقرأ الناس العنوان.» ثم أوصاه بأشياء يفعلها، ويقولها، وسرّح رسول علىّ معه.
فلما دخلا المدينة رفع رسول معاوية الطومار، فتفرّق الناس إلى منازلهم وقد علموا أنّ معاوية ممتنع، ومضى الرسول حتى دخل على علىّ، فدفع إليه الطومار، ففضّ خاتمه، فلم تجد في جوفه كتابا.
فقال للرسول: «ما وراءك؟» قال: «آمن أنا؟» قال: «نعم، لعمري إنّ الرسل لآمنة.» قال: «ورائي أنى تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود.» قال: «ممن؟» قال: «من خيط رقبتك، ولقد تركت ستين شيخا يبكى تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق.» فقال: «منى يطلبون دم عثمان، ألست موتورا [518] كترة عثمان؟ اللهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان، نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله، فإنّه إذا أراد أمرا أمضاه، اخرج.» قال: «وأنا آمن؟» قال: «وأنت آمن.» فخرج وصاحب السبائية واقف، فقالوا:
- «هذا الكلب وافد الكلاب، اقتلوه.» فنادى: «يا آل مضر، يا آل قيس [1] ، الخيل والنبل! أحلف بالله ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصىّ، فانظروا كم الفحولة والركّاب.»
__________
[1] . وضبط في الطبري: يال مضر، يال قيس (يا آل مضر، يا آل قيس) وفي الأصل: يا لمضر، يا لقيس، فأرجعنا الرسم إلى أصله.(1/466)
فتغاووا [1] عليه، ومنعته مضر، وجعلوا يقولون له:
- «اسكت لا أبا لك.» فيقول: «والله، لا أسكت، فلقد أتاهم ما يوعدون.» فيقولون له: «اسكت.» فيقول: «لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمارهم، ذهبت والله ريحهم.» ولم يزل بذلك حتى تبيّن الذلّ فيهم، وتمّ لمعاوية تدبيره هذا.
علىّ يدبّر لقتال أهل الفرقة بالشام
واستأذن طلحة والزبير في العمرة، فأذن علىّ لهما، فلحقا بمكة، وأحبّ أهل المدينة [أن يعلموا] [2] ما رأى علىّ في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة، أيقدم عليه، أم يجزع منه. وكان بلغهم أنّ الحسن ابنه دخل عليه، وحذّره، ودعاه إلى القعود وترك الناس. فدسّوا [519] زياد بن حنظلة التميمي، وكان منقطعا إلى علىّ، فدخل عليه وجلس إليه ساعة. ثم قال له علىّ:
- «يا زياد، تيسّر.» قال: «لأىّ شيء؟» قال: «لغزو الشام.» قال زياد: «الأناة والرفق أمثل» ، وقال:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
فتمثّل علىّ وكأنّه لا يريده:
__________
[1] . في مط وفي الطبري: تعادوا. وفي الكامل (3: 203) : تعاونوا.
[2] . الأصل ومط بدون «أن يعلموا» والتكملة من الطبري (6: 3091) .(1/467)
متى تجمع القلب الذكىّ وصارما ... وأنفا حميّا تجتنبك المظالم
فخرج زياد على الناس وهم ينتظرونه، فقالوا:
- «ما وراءك؟» قال: «السيف يا قوم.» فعرفوا رأى علىّ.
ودعا علىّ محمد بن الحنفية، فدفع إليه اللواء، وولّى عبيد الله بن عباس، ميمنته، وعمر بن أبى سلمة ميسرته، وجعل على مقدمته عمر بن الجرّاح ابن أخى أبى عبيدة بن الجراح، ولم يولّ أحدا ممن خرج على عثمان.
واستخلف على المدينة قثمّ بن العباس، وكتب إلى أبى موسى، وإلى قيس بن سعد، وإلى عثمان بن حنيف أن يندبوا الناس إلى الشام، وأقبل يتجهّز، وخطب الناس، فدعاهم [520] إلى النهوض، وحضّهم على قتال أهل الفرقة.
ابتداء وقعة الجمل طلحة والزبير يريدان البصرة للإصلاح
فبينا هو على ذلك، إذ أتاه من مكة عن عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير شيء آخر بخلاف ما هو فيه. ثم أتاه عنهم أنّهم يريدون البصرة للإصلاح. فقال:
- «إن فعلوا فقد انقطع نظام المسلمين، وما كان عليهم في المقام [فينا مؤونة] [1] ولا إكراه.» فتعبّأ [2] للخروج نحوهم، وخطب وندب الناس، فتثاقلوا.
ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس على علىّ انتدب وقال:
__________
[1] . التكملة من الطبري (1: 3093) .
[2] . مط: فتبعا.(1/468)
- «من تثاقل عنك يا أمير المؤمنين، فإنّا نقاتل معك ونخفّ بين يديك ما حملت أيدينا سيوفنا.» وأجابه رجلان من أعلام الأنصار.
عائشة تريد طلحة
ولمّا هرب بنو أمية لحقوا بمكّة، فاجتمعوا إلى عائشة، وكانوا ينتظرون أن يلي الأمر طلحة، لأن هوى عائشة كان معه، وكانت من قبل تشنّع على عثمان، وتحضّ عليه، وتخرج راكبة بغلة رسول الله- صلى الله عليه- ومعها قميصه وتقول:
- «هذا قميص رسول الله، صلى الله عليه، ما بلى وقد بلى دينه، اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا.» فلما صار [521] الأمر إلى علىّ كرهته وعادت إلى مكة بعد أن كانت متوجّهة إلى المدينة، ونادت:
- «ألا، إنّ الخليفة قتل مظلوما، فاطلبوا بدم عثمان.»
من استجاب لعائشة ومن اعتزل
فأوّل من استجاب لها عبد الله بن عامر، ثم قام سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بنى أمية. وكان قدم عبد الله بن عامر قريبا، ويعلى بن أمية من اليمن، واجتمع رأيهم بعد نظر طويل، وخطاب كثير، على البصرة، وقالوا:
- «معاوية قد كفاكم الشام.» وكان مع يعلى ستمائة بعير، وستمائة ألف درهم، فأنفقهما في ذلك الوجه، وشتموا عبد الله بن عامر، وقالوا:
- «لا أنت مسالم ولا أنت محارب، هلّا أقمت بالبصرة فمنعت حوزتك كما(1/469)
منع معاوية، أو هلّا أرفدتنا اليوم بمالك كما فعل يعلى بن أمية.» فتكلّم بما لم يرضوه في جوابهم. وسأل الناس غير عائشة من أزواج النبىّ- صلى الله عليه- فأرادت حفصة الخروج، فأتاه عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فطلب إليها أن تقعد، فقعدت. وبعثت أمّ الفضل بنت الحارث بن عبد المطّلب رجلا من جهينة، واستأجرته على أن يطوى ويأتى عليّا بكتابها، فقدم من جهتها بالخبر على علىّ. [522] فأما المغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص، فإنّهما خرجا من مكة مرحلة مع القوم، ثم تشاوروا. فقال المغيرة:
- «عندي أنّ الرأى لنا أن نعتزل الجميع، فأيّهم أظفره الله أتيناه وقلنا: كان هوانا معك وصغونا إليك.» فاعتزلا وعادا إلى مكة ومعهما غيرهما.
موقف آخر لسعيد بن العاص
ويقال: إنّ سعيد بن العاص أتى طلحة والزبير فقال:
- «إن ظفرتما، لمن يكون الأمر؟» قالا: «لأحدنا، أيّنا رضيه المسلمون.» قال: «لا، بل اجعلوه لولد عثمان، فإنكم خرجتم تطلبون بدمه.» قالا: لا والله، ما ندع مشايخ المهاجرين والأنصار ونجعل الخلافة في أبنائهم.» فقال: «ما أرانى أسعى إلّا في إخراجها من ولد عبد مناف.»
سؤال وتنازع حول الإمرة
فرجع مع من رجع، واستمرّ بالقوم المسير. فلما نزلوا ذات عرق أذّن مروان، ثم جاء حتى وقف عليهما، فقال:(1/470)
- «على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذّن بالصلاة؟» فقال ابن الزبير: «على أبى.» وقال ابن طلحة: «على أبى.» وتنازعا. فأرسلت عائشة إلى مروان:
- «ما لك يا مروان! تريد أن تفرّق جماعتنا، ليصلّ ابن أختى بالناس.» فكان يصلّى بهم عبد الله بن الزبير حتى قدموا [523] البصرة. فكانوا يقولون:
- «لو ظفرنا لافتتنّا [1] ، وما كان ليخلّى الزبيريّون الأمر لطلحة، ولا الطلحيون الأمر للزبير.» وإنّ عليّا تجهّز في من خفّ معه، يبادرهم ليعترض عليهم دون البصرة، وخرج معه تسعمائة رجل في التعبئة التي كان تعبّأ بها إلى الشام، حتى انتهى إلى الربذة، وبلغه ممرّهم وقد فاتوه. فأقام هناك يأتمر.
اتّفاق في ذلك الوجه
فمما اتفق في ذلك الوجه، أنّ صاحب الجمل- الذي يقال له: «عسكر» وخبره مشهور- حكى أنه: لما اشترى منه الجمل بحكمه وركبته عائشة سألوه عن الطريق، وهل هو خبر؟
قال، فقلت: «أنا أهدى من القطا [2] .» فأعطونى دنانير، وتقدّمتهم، وكانوا يسألوننى عن كلّ ماء، حتى نزلوا الحوءب [3] ، فكان الحديث المشهور، فبينا نحن كذلك، إذا بابن الزبير يركض وينادى:
__________
[1] . مط: لا بتلينا. ابن الأثير: لاقتتلنا (3: 209) .
[2] . «أهدى من القطا» مثل يضرب لمن يجيد معرفة الطرق والمسالك في المجاهل والمفازات. وتجد حكاية صاحب الجمل هذا عند الطبري 6: 3109.
[3] . الحوءب، موضع في طريق البصرة وماء من مياههم (يا) .(1/471)
- «أدرككم علىّ بن أبى طالب، النجا النجا.» وشتموني ورحلوا، وانصرفت. فما سرت إلّا قليلا حتى لقيت علىّ بن أبى طالب ومعه ركب، فقال:
«علىّ بالراكب.» فأتيته.
فقال: «أين لقيت الظعينة؟» فقلت: [524] «مكان كذا، وقد بعتهم جملي وأعطونى ناقتها وهي هذه تحتي، وأعطونى كيت وكيت.» قال: «وقد ركبته؟» قلت: «نعم. وسرت معهم إلى الحوءب وكان من أمرهم كذا وكذا، وارتحلوا وأقبلت.» قال علىّ: «فهل لك دلالة بذي قار؟» قلت: «نعم.» قال: «سر معنا.»
علىّ يستشير الناس والحسن يذكر له ما كان قد أشار به عليه قبل
فسرنا حتى نزلنا بذي قار. فأمر علىّ بجوالقين، فضمّ أحدهما إلى صاحبه، ثم جيء برحل، فوضع عليه، ثم صعد عليه، وخطب الناس وأعلمهم الخبر. ثم استشارهم، فقام الحسن، فبكى، وقال:
- «أشرت عليك فعصيتني، فتقتل غدا بمضيعة [1] لا ناصر لك.»
__________
[1] . كذا في الأصل. وفي الطبري: بمصبعة (6: 3110) . وفي الكامل: بمضبعة، بمعصية (3: 222) .(1/472)
فقال له علىّ: «إنّك لا تزال تحنّ [1] حنين الجارية، وما الذي أشرت به علىّ فعصيتك؟ تكلّم به ليسمعه الناس.» قال: «كنت قلت لك يوم أحيط بعثمان: أن تخرج من المدينة فلا تشهد قتله فأبيت. وقلت لك يوم قتل: لا تبايع حتى يأتيك وفود العرب وبيعة أهل الأمصار، فأبيت. ثم قلت لك حين فعل الرجلان ما فعلا أن: تجلس في بيتك حتى يصطلح الناس، فإن كان فساد كان على يدي غيرك [525] فعصيتني في ذلك كلّه.» فقال: «أى بنىّ! أمّا قولك: لو خرجت من المدينة، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به.
- «وأمّا قولك: انتظره حتى يأتيك الوفود وأهل الأمصار، فإنّ الأمر أمر أهل المدينة، وعقدهم جائز على المسلمين، وكرهنا أن نضيع هذا الأمر فتكون فتنة.» - «وأمّا قولك حين خرج طلحة والزبير أن اجلس في بيتك، فإنّ ذلك كان وهنا على أهل الإسلام لو فعلته. وو الله ما زلت مقهورا منذ ولدت، منقوصا لا أصل إلى حقّى، ولا إلى شيء مما ينبغي لى.» - «وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لى بما لزمني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال [2] : داب داب، أمّ عامر ليست هاهنا، حتى يحلّ عرقوباها.
إذا لم أنظر في ما لزمني ويعنيني فمن ينظر فيه.» فكفّ عليك يا بنىّ. إنّ النبىّ- صلى الله عليه- قبض وما أرى أحقّ بهذا الأمر منّى، فبايع الناس أبا بكر، فبايعت كما بايعوا. ثم هلك أبو بكر وما أرى أحقّ بهذا الأمر منّى، فبايع الناس عمر، فبايعت [526] كما بايعوا. ثم هلك عمر وما أرى أحقّ بهذا الأمر منّى، فجعلني سهما من ستة أسهم. ثم عدل عنّى إلى عثمان، فبايعت كما بايع الناس. ثم سار الناس إلى عثمان، فقتلوه، وأتونى طائعين غير
__________
[1] . ابن الأثير: «تخنّ خنين (3: 222) والأصل يطابق الطبري (6: 3110) .
[2] . ابن الأثير: ويقال ليست هاهنا حتى يحلّ عرقوباها حتى تخرج (3: 223) .(1/473)
مكرهين، فبايعوني. فأنا مقاتل بمن اتبعنى من خالفني حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.» ولما قربت عائشة ومن معها من البصرة قدّمت عبد الله بن عامر وقالت:
- «أنت لك صنائع فاذهب إلى صنائعك، فليلقوا [1] الناس.» وكتبت إلى رجال البصرة كالأحنف بن قيس وضبرة [2] بن شيمان ووجوه الناس، وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
عثمان بن حنيف يبعث رسولين إلى عائشة وطلحة والزبير
ولما بلغ الخبر البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين، وكان رجل عامة، وأبا الأسود الدئلي وكان رجل خاصّة وقال:
- «انطلقا إلى هذه المرأة واعلما علمها وعلم من معها.» فانتهيا إليها والناس بالحفير، واستأذنا فأذن لهما، فسلّما وقالا:
- «إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟» فقالت: «والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يمئى [3] لبنيه الخبر، [إنّ الغوغاء] ، [527] ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله، ونالوا من قتل الامام، ما استحقّوا به لعنة الله، وفعلوا وفعلوا. فخرجت في المسلمين إلى هذا المصر، لأعلمهم ما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم بأن يأتوه من الإصلاح، وقرأت: لا
__________
[1] . كذا في الأصل والطبري، وفي مط: فليقوا.
[2] . كذا في الأصل. وفي الطبري (6: 3115) صبرة.
[3] . كذا في الأصل: «لا يمئى» ، وما في القواميس: «مأى، مأيا» بفتح العين. والمأى: النميمة، الاغتياب، الفساد بين الناس، ضرب بعضهم ببعض، المبالغة في الشيء. وفي مط: ولا يمشى لبنيه الخمر، وفي بعض الأصول: «الحمر» . وفي الطبري: «ولا يغطى لبنيه الخبر» (6: 3116) . وفي الكامل: «لا يعطى ... » (3: 211) .(1/474)
خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة، أو إصلاح بين النّاس [1] ، فهذا شأننا، نأمركم بالمعروف ونحضّكم عليه، وننهاكم عن منكر، ونحثّكم على تغييره.» فخرجا من عندها، وأتيا طلحة، فقالا ما قالا لعائشة وسألاه: ما الذي أقدمه؟
قال: «الطلب بدم عثمان.» قالا [2] : «ألم تبايع عليّا؟» قال: «بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا، إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان.» ثم أتيا الزبير، فقالا: «ما أقدمك؟» قال: «الطلب بدم عثمان.» قالا: «ألم تبايع عليّا؟» قال: «بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا إن لم يحام على قتلة عثمان.» ومضى الرجلان، حتى دخلا على عثمان بن حنيف. فبدر أبو الأسود عمران وأنشد:
يا بن حنيف قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر [528]
وابرز لهم مستلئما وشمّر
فقال عثمان بن حنيف: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [3] 2: 156. دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة. فانظر أىّ زيفان تزيف.» فقال عمران: «إى والله، لتعركنّكم عركا طويلا.» قال: «فأشر علىّ يا عمران.»
__________
[1] . س 4 النساء: 114.
[2] . في الأصل ومط: «قال» فصححناها.
[3] . س 2 البقرة: 156.(1/475)
قال: «إنّى قاعد، فاقعد.» قال: «بل أمنعهم حتى يأتى أمير المؤمنين.» فانصرف عمران، وقام عثمان في أمره، ونادى في الناس، وأمرهم بالتهيؤ.
فلبسوا السلاح، واجتمعوا في المسجد الجامع، وأقبل عثمان بن حنيف على الكيد.
كيد كاد به عثمان بن حنيف
فمما كاد به لينظر ما رأى الناس: أن دسّ رجلا إلى الناس كوفيّا قيسيّا يقال له: قيس به العقدية، فقام وقال:
- «أيها الناس، إنّ هؤلاء القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوا خائفين، فقد جاءوا من مكان بعيد يأمن فيه الطير، وإن جاءوا يطلبون بدم عثمان، فما نحن بقتلة عثمان. أطيعونى في هؤلاء القوم، فردّوهم من حيث جاءوا.» فقال الأسود بن سريع:
- «أو زعموا أنّا قتلة عثمان. إنما فزعوا إلينا [529] يستعينون [1] بنا على قتلة عثمان منّا ومن غيرنا.» فتكلّم القيسىّ فحصبه الناس. فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا ممن معه، فكسره ذلك.
انتهاء عائشة ومن معها إلى المربد
وأقبلت عائشة في من معها، حتى انتهوا إلى المربد [2] ، فدخلوا من أعلاه،
__________
[1] . كذا في مط. وفي الطبري: يستعينوا (6: 3118) .
[2] . المربد: مربد البصرة. كانت محلّة من محال البصرة، وهي اليوم كالبلدة المنفردة عن البصرة، بينهما ثلاثة أميال. كانت متصلة بها، فخرب ما بينهما، فصارت منفردة، وبها كانت مجالس الخطباء والشعراء (مع، يا) .(1/476)
ووقفوا حتى خرج عثمان في من معه، وخرج إليها من أراد أن يكون معها.
واجتمع الناس بالمربد، وجعلوا يتوثّبون، واغتصّ المكان بالناس.
فتكلّم طلحة وهو في ميمنة المربد، وعثمان في زهو [1] ميسرته، فأنصتوا، فذكر فضل عثمان، والبلد، وما استحلّوا منه، وعظّم ما أتى إليه، ودعا إلى الطلب بدمه، وقال في آخر كلامه:
- «إنّه حدّ من حدود الله، فإن فعلتم أصبتم، وعاد أمركم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام.» فقال من في ميمنة المربد: «صدقا وبرّا» .
وقال من في الميسرة: «فجرا وغدرا. قد بايعا، ثم جاءا يقولان ما يقولان.» وتحاصب الناس، وتكلّموا. فتكلّمت عائشة. وكانت جهيرة الصوت، فحضّت [530] على الطلب بدم عثمان والأخذ بالكتاب الذي يدعون إليه. وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال:
- «يا أمّ المؤمنين، لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك عرضة للسلاح.
فقد كان لك ستر من الله وحرمة: فهتكت سترك، وأبحت حرمتك، إنّ من رأى قتالك فهو يرى قتلك. فإن كنت خرجت طائعة فارجعى إلى بيتك، وإن خرجت كارهة فاستعيني بالناس.» وخرج رئيس كل طائفة، فتكلّم فقال بعضهم:
- «أمّا أنت يا زبير، فحوارىّ رسول الله- صلى الله عليه-، وأمّا أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أمّكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟» قالا: «لا.» قال: «فما أنا منكما.»
__________
[1] . في مط والطبري (6: 3118) والكامل (3: 206) : «في ميسرته» ، (بدون «زهو» ) .(1/477)
واعتزل.
قتال وتوادع
وأقبل حكيم بن جبلة فأنشب القتال، فاقتتلوا إلى الليل، وقتل خلق. ثم إنهم توادعوا على أن يكتبوا إلى المدينة، ويستعلموا [1] الناس: هل بايعا مكرهين؟
فإن بايعا مكرهين خرج عثمان بن حنيف، وإن كانا بايعا طائعين خرج طلحة [531] والزبير.
فجرى خطب طويل بالمدينة لما ورد الرسول من البصرة، ليس لذكره وجه في ما نحن بسبيله.
وكان الناس كتبوا بينهم كتابا شرط فيه ألّا يضارّ أحد بأحد في سوق ولا طريق إلى أن تعود الرسل. إلّا أن محمد بن طلحة قام يوما في المسجد مقام عثمان بن حنيف، فتعرض له عثمان، وجاء بعض الحرس، فنحّاه، وظنّ أنه جاء في شرّ.
ووصل كتاب عثمان بن حنيف إلى علىّ بما كان من الناس. فكتب علىّ- رضى الله عنه- يعجّزه ويقول:
- «ما أكرها على فرقة، وإنّما أكرها على جماعة، فإن كانا يريدان الخلع، فلا عذر لهما. [2] »
ما جرى على عثمان بن حنيف
فقدم الكتاب على عثمان، واتّفق أن تأخّر ابن حنيف عن الصلاة، فقدّما
__________
[1] . مط: ويستعظمون!
[2] . وزاد في الطبري: وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا (6: 3125) . وانظر أيضا الكامل (3: 215) .(1/478)
عبد الرحمان بن عتّاب، فشهر الزطّ [1] السلاح ومنعوه. ثمّ اقتتلوا في المسجد، وصبر الرجّالة لهم، فقتلوهم عن آخرهم وهم أربعون رجلا. وأدخلوا الرجال على عثمان، فما وصل إليه إلّا بعد أن لحقه مكروه عظيم. [532] وأرسلوا إلى عائشة يستشيرونها في أمره. فأمرت بقتله، فناشدها قوم فيه، وأذكروها بصحبته رسول الله- صلى الله عليه- فأشار مجاشع بن مسعود بضربه فضربوه أسواطا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه حتى حاجبيه وعينيه، وأشفار عينيه.
ثم حبسوه. فغضب له قوم، وثار حكيم بن جبلة، وأصبح بيت المال والحرس في يدي طلحة والزبير.
وقال حكيم بن جبلة: «لست أخاف الله إن لم أنصر عثمان بن حنيف.» فجاء في جماعة من عبد القيس وبكر بن وائل، فأتى ابن الزبير في مدينة الرزق. فقال:
- «ما لك يا حكيم، ما تريد؟» قال: «أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تحلّوا عثمان، فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علىّ. وأيم الله لو أجد أعوانا لألحقنّكم بمن قتلتم. فقد أحلّ الله لنا دماءكم بمن قتلتم من إخواننا. أما تخافون الله، بم تستحلّون سفك الدماء؟» قال: «بدم عثمان.» قال: «فالذين قتلتموهم قتلة عثمان! أما تخافون [533] الله ومقته وعقوبته؟» فقال ابن الزبير: «لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلّى سبيل عثمان بن حنيف حتى نخلع عليّا.» قال حكيم: «اللهمّ إنّك حكم عدل.» ثم قال لأصحابه: «إنّى لست في شكّ من قتال هؤلاء القوم.»
__________
[1] . وفي الطبري وابن الأثير الزطّ والسيابجة (نفس الصفحتين) .(1/479)
قتال شديد ضرب فيه رجل ساق حكيم
فاقتتلوا قتالا شديدا. وضرب رجل ساق حكيم، فقطعها. فأخذ حكيم ساقه ورماه بها، فأصاب عنقه، فصرعه. ثم حبا إليه فقتله واتكى عليه، فانتهى إليه رجل وقال له: «من قتلك؟» قال: «وسادتى.» وقتل سبعون رجلا من عبد القيس.
وقال حكيم حين قطعت رجله:
يا فخذ لن تراعى ... إنّ معى ذراعي
[أحمى بها كراعى] [1]
فاحتمل الرجل حكيما وضمّه في ستين من أصحابه. فتكلّم يومئذ وإنّه لقائم على رجل- وإنّ السيوف لتأخذهم- لا يتعتع:
- «إنّا خلّفنا هذين، وقد بايعا عليّا، وأعطياه الطاعة، ثم أقبلا مخالفين يطلبان بدم عثمان، وهما كاذبان، وإنّما أراغا [2] المال والإمرة.» وأخذته السيوف، فأنيم، وأنيم أصحابه، وأفلت حرقوص بن زهير وحده.
ونادى منادى عائشة:
- «ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا [534] المدينة، فليأتنا بهم.» فجيء بهم كما يجاء بالكلاب، فقتلوا. فما أفلت منهم غير حرقوص. فخشّنوا صدور بنى سعد، وإنهم لعثمانية، حتى انفردوا. وغضب عبد القيس لمن قتل منهم بعد الوقعة، ثم أمرا للناس بأعطياتهم، وفضّلا أهل السمع.
فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل. فبادروا إلى بيت المال، وركبهم
__________
[1] . تكلمة من الطبري (6: 3130) . وله رواية أخرى أيضا. أنظر (6: 3136) .
[2] . مط: أرادا المال. أراغا: أرادا بالمكر والحيلة.(1/480)
الناس، وخرجوا حتى نزلوا على طريق علىّ، وأقام طلحة والزبير بالبصرة ليس معهما مخالف.
وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا، وقصّوا القصة وأطالوا، وذكروا أنّهم أقاموا حدّ الله، وأنهم قد أعذروا، وقضوا ما عليهم، فنناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به. وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثل ذلك، وإلى أهل اليمامة بمثله.
وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة كتابا بليغا طويلا تحضّهم على إقامة كتاب الله، وتذكر لهم ما صنعوا بالبصرة. وكتبت إلى رجال بأسمائهم وقالت:
- «ثبّطوا الناس عن نصرة هؤلاء القوم، والزموا بيوتكم» .
ولما قتلوا حكيما وأصحابه همّوا بقتل عثمان بن حنيف [535] فقال لهم عثمان:
- «ما شئتم، إن أخى سهلا بالمدينة مع علىّ، وهو وال بها، فإن قتلتموني انتصر.» فخلّوا عنه، وصلّى بالناس عبد الله بن الزبير.
وكتبت عائشة بنت أبى بكر إلى زيد بن صوحان:
«من عائشة أم المؤمنين وحبيبة الرسول إلى ابنه الخالص زيد بن صوحان.
أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم وانصرنا على أمرنا، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن علىّ بن أبى طالب.» فكتب إليها زيد بن صوحان:
«إلى عائشة بنت أبى بكر. أمّا بعد، فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت من هذا الأمر، ورجعت إلى بيتك، وإلّا فأنا أوّل من نابذك.» وقال: «رحم الله عائشة. أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به، وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.» وكان علىّ- عليه السلام- حين انتهى إلى الربذة، أقام، وأرسل إلى أهل(1/481)
الكوفة، وكاتبهم، واستدعى من المدينة ما أحبّ من سلاح وغيره. وقدم عثمان بن حنيف الربذة على علىّ منتوف شعر الوجه كلّه، وقال:
- «يا أمير المؤمنين [536] بعثتني ذا لحية، وجئتك أمرد.» قال: «أصبت خيرا وأجرا. اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما، وأرهما المساءة في ما عملا. [1] »
ماذا جرى في الكوفة؟
فأمّا أهل الكوفة، فلمّا انتهى إليهم رسول علىّ استشاروا أبا موسى. فقال لهم:
- «إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا.» وجعل يثبّط الناس. إلى أن أنفذ علىّ- عليه السلام- ابن عباس والأشتر، فلم يغنيا، وكان بعث بهاشم بن عتبة إلى أبى موسى يستنفر الناس. فكتب إليه هاشم:
- «إنى قدمت على رجل مشاقّ ظاهر الغلّ.» فبعث علىّ الحسن وعمارا، وكتب إلى أبى موسى:
- «أما بعد، فكنت أرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعل الله لك فيه نصيبا سيمنعك من ردّ أمرى. وقد بعثت الحسن بن علىّ، وعمار بن ياسر، وبعثت قرطة بن كعب واليا. فاعتزل عملنا مذموما مدحورا.» فقدم الحسن بن علىّ وعمار بن ياسر. فلطف الحسن وقال:
- «أيها الناس! أجيبوا أميركم، وسيروا إلى إخوانكم. فإنّه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه. فوالله أن يليه أهل [537] النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم.» فقام زيد بن صوحان فقال:
__________
[1] . أنظر الطبري 6: 3144.(1/482)
- «يا قوم! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين.» فقام القعقاع بن عمرو، فقال:
- «أيها الناس! إنّى لكم ناصح وعليكم شفيق، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، إنّه لا بدّ لنا من إمارة تنظم الناس، وتردع الظالم، وتعزّ المظلوم، وهذا علىّ ولى ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا، وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.» ثم تكلّم سيحان، وقال مثل قول القعقاع، وتكلّم عدىّ بن حاتم في قومه لمّا بلغه كلام الحسن وجواب الناس وقال:
- «قد بايعنا هذا الرجل، ودعانا إلى أمر جميل، ونحن سائرون.» وتكلّم هند بن عمرو، وحجر بن عدىّ، والأشتر، وقالوا مثل ذلك. وقال الحسن:
- «أيها الناس! إنّى غاد، فمن شاء منكم أن يخرج معى على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء.» فنفر معه تسعة آلاف رجل، وروى أيضا أنهم كانوا اثنى عشر ألفا، [538] وأخرج أبو موسى من القصر، وشدّد عليه الأشتر.
علىّ يرسل القعقاع إلى أهل البصرة
فلمّا وردوا على علىّ ذا قار، تلقّاهم علىّ، فرحّب بهم، وأثنى عليهم. ثم دعا القعقاع بن عمرو، فأرسله إلى أهل البصرة، وقال:
- «الق هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة.» ووصاه بما أراد.
ثم قال له:
«كيف أنت صانع في ما جاءك منهم مما ليس عندك وصاة منّى؟»(1/483)
قال: «نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاءنا أمر ليس عندنا منك فيه وصاة اجتهدنا الرأى، وكلّمناهم على قدر ما نسمع منهم ونرى أنّه ينبغي.» قال: «أنت لها.» فخرج القعقاع حتى قدم البصرة. فبدأ بعائشة، فسلّم عليها، ثم قال:
- «أى أمّه! ما أشخصك. وما أقدمك؟» قالت: «أى بنىّ! الإصلاح [1] بين الناس.» قال: «فابعثى إلى طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما.» فبعثت إليهما، فجاءا. فقال: سألت أم المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت:
- «الإصلاح [2] بين الناس.» [فقلت] : «فما تقولان أنتما: متابعان، أم مخالفان؟» قالا: «متابعان.» قال: [539] فأخبرانى ما وجه هذا الصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحنّ [3] ، وإن أنكرناه لا نصلح.» [4] قالا: «قتلة عثمان. فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، وإن عمل به كان إحياءا للقرآن.» قال: «قد قتلتم بالبصرة من زعمتم أنهم قتلة عثمان، وأنتم كنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلا فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الواحد الذي أفلت- يعنى
__________
[1] . في الأصل: صلاح.
[2] . في الأصل: لصلاح.
[3] . في الأصل: ليصلحنّ.
[4] . في الأصل لا يصلح. وما أثبتناه يوافق الطبري (6: 3156) والكامل (3: 233) .(1/484)
حرقوص بن زهير- فمنعه ستة آلاف وهم على رجل [1] . فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوا فأديلوا عليكم، فالذي حذرتم وقوّيتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم أحميتم مضر وربيعة من أهل هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير.» قال: أقول: «إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن احتلجوا. فإن أنتم تابعتمونا فعلامة [540] خير، وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية لهذه الأمة. وإن أبيتم إلّا مكاثرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وفناء هذه الأمة. فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم تكونون، ولا تتعرّضوا للبلاء ولا نتعرض له فيصرعكم ويصرعنا. إنّ هذا الأمر الذي أنتم فيه، أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل.» فقالوا: «إذا أحسنت وأصبت المقالة. فارجع، فإن قدم علىّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.» فرجع إلى علىّ، فأخبره الخبر، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود البصرة نحو علىّ حين نزل بذي قار.
فجاء وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أىّ حال نهضوا [إليهم] [2] وليعلمو [3] هم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر قتالهم على بالهم.
فلما لقوا عشائرهم [541] من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل
__________
[1] . مط: دخل. وضبطه الطبري «رجل» (6: 3157) . وضبط في الأصل «رجل» .
[2] . تكملة من الطبري (6: 3158) .
[3] . في الأصل ومط: وليعلمهم. فصححنا حسب الطبري.(1/485)
البصرة، وقالوا لهم مثل مقالتهم، فأدخلوهم إلى علىّ، فأخبروه بخبرهم. فسأل علىّ جرير بن شرس عن طلحة والزبير، وعن نياتهما، فأخبره بدقيق أمرهما وجليله، وحتى تمثّل له [طلحة] [1] :
ألا أبلغ بنى بكر رسولا ... فليس إلى بنى كعب رسول
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين له فضول
فتمثّل علىّ عندها:
ألم تعلم أبا سمعان أنّا ... نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع
ونذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم، فيستجيب بغير [2] داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر [3] ... وما بك يا سراقة من دفاع
وتحدّث الناس بهذه الأبيات، وتداولوها، لأنّ طلحة كان يديم إنشاد البيتين الأوّلين.
ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم. فجمع علىّ الناس، ثم قام على الغرائر، فخطب، وذكر الجاهلية وشقاءها [542] والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة، وحضّ الناس على الألفة. ثم قال:
- «إنّ قوما حسدوا هذه الأمة التي أفاء الله عليها ما أفاءه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأمور على أدبارها، والله مصيب أمره، وبالغ ما أراد. ألا وإنّى راحل
__________
[1] . تكملة من ابن الأثير 3: 234.
[2] . وفي الطبري: لغير.
[3] . وضبط المصراع في الطبري أيضا: فدافع عن خزاعة جمع بكر (6: 3158) وما في الأصل: «فدافع..
جمع..» .(1/486)
غدا، فارتحلوا. ولا يرحلنّ أحد أعان على عثمان بشيء، في شيء من أمور الناس، وليغن سفهاؤهم عنّى أنفسهم.»
ذكر السبب في نقض ما أشرف عليه القوم من الإصلاح
فاجتمع نفر منهم: علباء بن الهيثم، وعدىّ بن حاتم، وشريح بن أوفى، والأشتر، وغيرهم من طبقتهم ممن سار إلى عثمان، أو رضى بسير من سار.
وجاءهم ابن السوداء، وخالد بن ملجم، ومعهم المصريّون، فتشاوروا.
ذكر آراء هؤلاء، وما تقرّر عليه الرأى في ما اجتمعوا عليه، ودبّوا [1] له من الحيلة في نقض الصلح
فقال القوم: «هذا والله علىّ، وهو أعلم وأبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم، والقليل من غيرهم. [543] فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، ورأوا قلّتنا في كثرتهم. أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى [2] من شيء.» فقال الأشتر:
- «أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما. وأما علىّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأى الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا مع علىّ فعلى دمائنا. فهلمّوا نتوثب على علىّ [3] فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكوت.» فقال عبد الله بن السوداء:
__________
[1] . في مط: «ذبّوا» بالذال المعجمة.
[2] . في مط: وما أنتم فتعود ما بحى! وفي الطبري أيضا بأنجى (6: 3163) . وفي الكامل: بالحىّ (3: 235) .
[3] . وفي الطبري (6: 3164) وفي الكامل أيضا: «على علىّ فنلحقه بعثمان» وفي بعض الأصول: «على علىّ وطلحة ونلحقهما بعثمان» (3: 235) .(1/487)
- «بئس الرأى رأيت. أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا ابن الحنظليّة في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارق [1] على ظلعك.» وقال علباء بن الهيثم:
- «انصرفوا بنا ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان، وامتنعوا من الناس.» فقال ابن السوداء:
- «بئس ما رأيت، ودّ- والله- الناس أنكم على جديلة، ولم تكونوا مع قوم برءاء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطّفكم كلّ شيء.» فقال عدىّ بن حاتم:
- «والله ما رضيت، ولا كرهت. ولقد عجبت [544] من تردّد من تردّد عن قتله في خوض الحديث. فأما إذا وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عناقا من خيول، وسلاحا محمولا. فإن أقدمتم أقدمنا، وإن أمسكتم أمسكنا.» فقال ابن السوداء: «أحسنت.» وقال سالم بن ثعلبة:
- «من كان أراد بما أتى الدنيا، فإنّى لم أرد ذلك. والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شيء [2] ، ولئن طال بقائى إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور [3] . وأحلف بالله، إنكم لتفرقون السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف.» فقال ابن السوداء: «قد قال قولا.»
__________
[1] . ارق (أو إرقأ، أو: اربع) على ظلعك: انته عما لا تطيقه. أو: لا تجاوز حدّك في وعيدك وأبصر نقصك وعجزك، واسكت على ما فيك من العيب.
[2] . في الطبري: إلى بيتي. وفي حواشيه: إلى شيء (6: 3165) .
[3] . في الطبري: لا يزد على جزر جزور (نفس الصفحة) . وفي الأصل: لا يردّ علىّ.(1/488)
وقال شريح بن أوفى:
- «أبرموا أموركم، ولا تؤخّروا أمرا ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجّلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره، فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدرى ما الناس صانعون غدا إذا هم التقوا.» وتكلّم عبد الله بن السوداء فقال:
- «يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم. وإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر الطويل. فإنّ من أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع ويشغل الله عليّا وطلحة والزبير، ومن رأى رأيهم، عما تكرهون، [545] فأبصروا الرأى وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون.» وأصبح علىّ على ظهر. فمضى ومضى الناس حتى انتهى إلى عبد القيس فنزل بهم والناس يتلاحقون به وقد قطعهم. ولما بلغ أهل البصرة نزول علىّ حيث نزل اجتمعوا إلى طلحة والزبير، وأشاروا عليهما أن يبعثا خيلا فتبيّت [1] عليّا قبل أن يجتمع الناس إليه.
فنهى الزبير وقال:
- «نرجو الصلح، وقد رددنا وافدهم- يعنى القعقاع- على أمر، وأرجو أن يتمّ.» فقام ضبرة بن شيمان إلى طلحة فقال:
- «يا طلحة! أيتهزّأ بنا هذا الرجل؟ إنّ الرأى في الحرب خير من الشدّة.» فقال:
- «يا ضبرة! إنّا وهم مسلمون، وهذا أمر حدث، ولم يكن قبل اليوم، ولسنا ننتظر نزول قرآن فيه، ولا فيه من رسول الله- صلى الله عليه- سنّة، وهو علىّ
__________
[1] . في الطبري: فيمسّوا هذا الرجل ويصبّحوه قبل أن يوافى أصحابه (6: 3165) .(1/489)
ومن معه.» فأما أصحاب علىّ فتحركوا. وقام [1] علىّ فقال:
- «إنّ الذي ندعو إليه من إقرار هؤلاء هو شرّ، وهو خير من شرّ منه وهو كامن، وقد كاد يبين لنا، وجاءت الأحكام من المسلمين بإيثار أعمّهما منفعة وأحوطهما.» وأقبل [546] كعب بن سور، فقال:
- «ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم؟ اقطعوا هذا من العنق.
فقالوا:
- «يا كعب! إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، وإنّ الشيء يحسن عندنا اليوم، ويقبح عند إخواننا. فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم، وإنّا لنحتجّ عليهم بالحجة، فلا يرونها حجة، ثم يحتجون بها على أمثالنا. ونحن نرجو الصلح إن أجابونا إليه، وإلّا فإنّ آخر الداء الكىّ.»
ذكر فتوى لعلىّ بن أبى طالب عليه السلام في تلك الحال
وقام إلى علىّ- عليه السلام- جماعة من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، وسألوه: ما الذي يرى.
فقال علىّ: «الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا، ويضع حربهم. فقد أجابونى.» قالوا: «فإن لم يجيبوا؟» قال: «تركناهم ما تركونا.»
__________
[1] . في الأصل: قاموا علىّ! فصححناه.(1/490)
قالوا: «فإن لم يتركونا؟» قال: «دفعناهم عن أنفسنا.» وقام إليه أبو سلامة الدلاني [1] فقال:
- «أترى لهؤلاء القوم حجّة [547] في ما اجتمعوا له وطلبوه من هذا الدم؟» قال: «نعم.» قال: «فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟» قال: «نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك، فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعا.» فقال: «ما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟» قال: «إنّى لأرجو ألّا يقتل أحد منّا ومنهم تقىّ [2] قلبه لله بما يصنع، إلّا دخل الجنة. [3] »
علىّ يخطب سائلا كفّ الألسن والأيدى
وقام علىّ فخطب وقال:
- «أيها الناس! كفّوا ألسنتكم عن هؤلاء وأيديكم، فإنهم إخوانكم، وإياكم أن تسبقونا. فإنّ المخصوم من خصم اليوم.» ثم ارتحل على تعبئة، حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم:
- «إن كنتم على ما فارقتم القعقاع بن عمرو، فكفّوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر.»
__________
[1] . وفي مط: الدلاى (الدلامى؟) ، وفي الطبري: الدالاني (6: 3167) ، كما في الكامل (3: 237) . وفي الأصل إهمال وقد أعجمنا النون بإمارة ما في الطبري.
[2] . في الطبري: نقى قلبه (6: 3167) .
[3] . وأضاف الطبري هنا: وقام إليه مالك بن حبيب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أنّ الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر. فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلّا القتال، فصدع لا يلتئم. قال:
فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عزّ وجلّ نفعه ذلك وكان نجاءه (6: 3167) .(1/491)
فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال.
قال:
فكنّا نرسل إليهم وندعوهم. وبعث علىّ تلك العشيّة عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير. وبعثا هما من العشىّ محمد بن طلحة إلى علىّ وأن [1] يكلّم كل واحد صاحبه.
فأرسل علىّ إلى رؤساء أصحابه ما خلا أولئك الذين ساروا إلى عثمان، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما [548] وباتوا على الصلح بليلة لم يبيتوا بمثلها سرورا بالعافية مما أشرفوا عليه، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إمضاء ما كانوا همّوا به من إنشاب [2] الحرب في السرّ، واستسرّوا به خوفا من أن يفطن لهم. فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم. فانسلّوا انسلالا وعليهم ظلمة. فخرج مضريّهم إلى مضريّهم، وربعيّهم إلى ربعيّهم، ويمانيّهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فتنادى أهل البصرة، وثار كلّ قوم في وجوه أصحابهم الذين نهنهوهم.
وخرج طلحة والزبير، ووجوه الناس من مضر، وبعثا إلى الميمنة والميسرة فعبّوهما، وقالا:
- «ما هذا؟» قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا.
فقالا: «قد علمنا أنّ عليّا غير منته حتى يسفك الدماء ويستحلّ الحرمة، وأنه لن يطاوعنا.»
__________
[1] . كذا في الطبري: وان يكلم.. (6: 3167) .
[2] . في الأصل: إنشاء. والتصحيح من الطبري (6: 3182) .(1/492)
ورجعا بأهل البصرة [وقصف أهل البصرة أولئك] [1] حتى ردّوهم إلى عسكرهم. فسمع علىّ وأهل الكوفة الصوت. وقد كان ابن السوداء، والأشتر، وأصحابهما قد وضعوا رجلا قريبا [549] من علىّ، ووصّوه بما يريدون. وقالوا:
- «إذا سمعت عليّا يسأل عن الخبر، فتقدّم وقل كيت وكيت.» فلما قال على: «ما هذا؟» قال ذلك الرجل:
- «ما فجئنا إلّا وقوم منهم قد بيّتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رجل فركبوا وثار الناس.» وقال علىّ لصاحب ميمنته: «ايت الميمنة.» وقال لصاحب ميسرته: «ايت الميسرة.» وقال: «فلقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدم ويستحلّا الحرمة، وأنهما لن يطاوعانا.» والسبائية لا تفتر [إنشابا [2]] .
فنادى علىّ: «يا أيها الناس كفّوا، فلا شيء!» وكان يحبّ أن يبدأ لتكون الحجّة على القوم.
وخرج الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين قد بعثوا حرقوص بن زهير إلى علىّ، فقال:
- «يا علىّ، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غدا، إنّك تقتل رجالهم وتسبى نساءهم.» فقال: «ما مثلي يخاف هذا منه. فهل أنت مغن عنى قومك؟» قال: «نعم. واختر منى واحدا من اثنين: إما أن آتيك، فأكون معك بنفسي، وإما أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف.»
__________
[1] . تكملة من الطبري (6: 3182) .
[2] . تكملة من الطبري (6: 3183) وهي ساقطة من الأصل ومط.(1/493)
قال: «بل اكفف عنّى عشرة آلاف سيف.» فرجع، [550] ودعا قومه إلى القعود والكفّ، ففعلوا.
ما جرى بين علىّ وطلحة والزبير من حديث
ثم إن الزبير خرج على فرس له، على سلاح، فقيل لعلىّ:
- «هذا الزبير.» قال: «أما إنه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر.» وخرج طلحة، فخرج إليهما علىّ، ودنا منهما حتى اختلف أعناق دوابّهما فقال علىّ:
- «لعمري لقد أعددتما سلاحا، وخيلا، ورجالا إن كنتما أعددتما عذرا عند الله فاتقيا الله، ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها من بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً 16: 92 [1] ألم أكن أخا لكما في دينكما تحرّمان دمى وأحرّم دمكما؟ فهل من حدث أحلّ لكما دمى؟» قال طلحة: «ألّبت على عثمان.» قال علىّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ 24: 25 [2] . يا طلحة، تطلب بدم عثمان، فلعن الله أشدّنا كان عليه. يا زبير! أتذكر يوم مررت مع رسول الله- صلى الله عليه- في بنى غنم، فنظر إلىّ وضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبى طالب زهوه، فقال لك رسول الله: مه! إنّه ليس كذلك، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم؟» فقال: «اللهم نعم. ولو ذكرت، ما سرت مسيري هذا. والله لا أقاتلك أبدا.» [551] فانصرف علىّ، وحكى ذلك لأصحابه. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها:
__________
[1] . س 16 النحل: 92.
[2] . س 24 النور: 25.(1/494)
- «ما كنت في موطن مذ عقلت وأنا أعرف فيه أمرى غير موطني هذا.» قالت: «ما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أدعهم وأذهب.» قال له ابنه عبد الله: «جمعت هذين الغارّين حتى إذا جرّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب. أحسست رايات بن أبى طالب وعلمت أنها فتية أنجاد.» فغضب الزبير حتى أرعد، ثم قال:
- «ويحك! إنّى قد حلفت ألّا أقاتله.» قال: كفّر عن يمينك.
فدعا غلاما له يقال له: مكحول، فأعتقه. فقال عبد الله بن سليمان التيمىّ:
لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفّر الأيمان
بالعتق في معصية الرحمان
وإنّما حكينا هذه الحكاية، لأنّ فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب ذلك على قوم، فإنّا ننبّه عليه، وذلك أنّ المحنق ربما سكّن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتّى من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه. [552]
ما يحفظ من كلام الأحنف في الاعتزال وحضّ الناس عليه
إنّه لما رجع من عند علىّ لقيه هلال بن وكيع، وهو سيّد رهطه، فقال:
- «ما رأيك؟» قال: «مكاتفة أمّ المؤمنين. أفتدعنا؟ وتعزل عنّا؟ وأنت سيّدنا؟» قال: «إنّما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت.»(1/495)
فقال هلال: «سبحان الله، تقول هذا وأنت شيخنا؟» فقال: «أنا الشيخ المعصىّ وأنت الشابّ المطاع.» ولما ابتدأ القتال قال علىّ لأصحابه:
ابتداء القتال- «أيكم يعرض عليهم هذا المصحف ويدعوهم إلى ما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، فإن قطعت أخذه بأسنانه؟» فقال فتى شابّ: «أنا.» فطاف على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذاك الفتى.
فقال له علىّ:
- «اعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، فالله الله في دمائنا ودمائكم.» فحمل القوم على الفتى وبيده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل. فقال علىّ لأصحابه:
- «قد طاب لكم الضراب.» فقاتلوهم، فالتحمت الحرب، واشتدّ القتال إلى العصر. ثم انهزم أصحاب الجمل وعائشة يومئذ في هودجها على الجمل الذي يقال له: [553] «عسكر» . وانهزم الزبير نحو وادي السباع، وتشاغل الناس عنه، واتبعه قوم. فلما رأى الفرسان تتبعه، كرّ عليهم. فلما عرفوه رجعوا عنه، وتركوه. وكان علىّ وصّاهم ألّا يتبعوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح.
وأصاب طلحة سهم، فشكّ ركبته بصفحة الفرس، فامتلأ موزجه دما وضعف.
فانتهى إلى القعقاع في نفر وهو يقول:
- «إلىّ عباد الله! الصبر الصبر.»(1/496)
فقال له:
- «يا با محمد! إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات.» فقال: «يا غلام! أدخلنى، وأبغنى مكانا.» فأدخل ومعه غلام ورجلان. واقتتل الناس بعده، وأقبل الناس في هزيمتهم.
فلما انتهوا إلى الجمل، عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا، وعادوا في أمر جديد، ووقفت الميمنة والميسرة.
وقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ خطام الجمل:
- «يا كعب: خلّ عن البعير، وتقدّم بكتاب الله، فادعهم إليه.» ودفعت إليهم مصحفا. فاستقبلهم بالمصحف.
وكانت السبائية أمام الناس يخافون أن يجرى الصلح. فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلىّ يزعهم، ويأبون إلّا إقداما، فرشقوا كعبا رشقا [554] واحدا، فقتلوه، ورموا الهودج. فجعلت عائشة تنادى:
- «البقية، البقية يا نبىّ الله!» فيأبون إلّا إقداما.
أول ما أحدثته عائشة
فكان أول ما أحدثته عائشة حين رأت الناس يأبون إلّا قتالها أن قالت:
«أيها الناس! العنوا قتلة عثمان وأشياعهم.» وأقبلت تدعو، وضجّ أهل البصرة بالدعاء. وسمع علىّ الدعاء، فقال:
- «ما هذه الضجّة؟» قالوا: «عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان.» فأقبل علىّ يدعو ويقول:
- «اللهمّ العن قتلة عثمان وأشياعهم.»(1/497)
وذمرت [1] عائشة الناس لما رأت أنّ الناس لا يريدون غيرها ولا يكفّون.
فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علىّ. فكانت الحرب صبيحة هذا اليوم مع طلحة والزبير، فلما انهزم الزبير، وأصيب طلحة، وذلك بعد الظهر، صارت الحرب مع عائشة.
قال محمد بن الحنفية: دفع أبى إلىّ اللواء، وقال:
- «احمل!» فحملت حتى لم أر موضعا لحملة- وقد كان زوحم علىّ.
فنخس علىّ قفا محمد، وقال: «تقدّم!» وقال: فلم أجد متقدما إلّا على سنان فقلت:
- «لا أجد متقدّما.» [555] فتناول الرمح من يدي متناول لا أدرى من هو. فنظرت، فإذا أبى بين يدىّ. و [اقتتلت] [2] المجنّبتان حين تزاحفتا قتالا يشبه ما فيه القلبان، وارتجز الفرسان، وكثر القتلى وتنادى الكماة في عسكر علىّ وعسكر عائشة، لما رأوا الصبر الشديد:
- «يا أيها الناس! طرّفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر.» فجعلوا يتوخّون [3] الأطراف: الأيدى والأرجل، فما رأيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا سمع بها، أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها، لا يدرى صاحبها.
فكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب بشيء من أطرافه استقتل [إلى أن يقتل] [4] .
__________
[1] . مط: وبرت.
[2] . مط والأصل: وأقبلت. وما أثبتناه يؤيده الطبري (6: 3193) .
[3] . في الطبري: يتوجّون (6: 3194) .
[4] . في الأصل: إلّا أن لا يقتل. وفي مط: إلى أن لا يقتل. وصححناه حسب الطبري (6: 3195) .(1/498)
ونادت عائشة من هودجها بصوت عال فيه كسرة [1] :
- «إيه، لله أنتم. جالدوا جلادا يتفادى منه، بخّ بخّ، سيوف أبطحية، وسيوف قرشية.» ونادت بنو ضبّة: «ويها جمرة الجمرات.» وأحدقوا بجملها حتى أسرع فيهم القتل ورقّوا. وكانت عائشة تقول:
- «ما زال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي.» وضربوا ضربا ليس بالتقدير، حتى إذا كثر القتلى وظهر في العسكر التطريف كره بعضهم بعضا، وارتدّت [556] المجنّبتان، فصارتا في القلب. ثم تلاقوا جميعا بقلبيهم. فأخذ ابن يثربى برأس الجمل، وارتجز وادّعى قتل علباء بن الهيثم، وزيد بن صوحان، وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرنى ابن يثربى ... قاتل علباء وهند الجمل
وزيد صوحان على دين علىّ
فناداه عمار: «لقد لذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إلىّ.» فترك الزمام، وبرز حتى كان بين صفّ عائشة وصفّ علىّ، وأقبل إليه عمار، وهو يومئذ ابن تسعين سنة وقد شدّ وسطه بحبل، وعليه فرو. فضربه ابن يثربى فنحا [2] له درقته، فنشب السيف فيها، وأسفّ عمار لرجليه، فضربه فقطعما، فوقع على استه، وحماه [3] أصحابه فارتثّ [4] بعد، فأتى به علىّ بن أبى طالب. فقال:
__________
[1] . مط: كدرة.
[2] . في الطبري: فنحنى له درقته (6: 3199) . والدرقة: الترس إذا كان من جلد. في رواية أخرى من الطبري: فاتقاه عمار بدرقته (6: 3196) .
[3] . في الطبري: وحمله أصحابه (6: 3197) .
[4] . حمل من المعركة رثيثا أى جريحا.(1/499)
- «استبقني يا أمير المؤمنين.» فقال: «بعد ثلاثة تضرب وجوههم بسيفك؟» وأمر به، فضربت عنقه.
وتتابع الناس على زمام الجمل حتى قتل أربعون رجلا يرتجزون ويأخذون [557] الخطام فيقتلون. فحدّث عبد الله بن الزبير قال:
أمسيت يوم الجمل وبى سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة، وما رأيت مثل يوم الجمل قطّ، ما ينهزم منّا أحد وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل.
فأخذت بالخطام، فقالت عائشة:
- «من أنت؟» قلت: «ابن الزبير.» قالت: «وثكل أسماء.» ومرّ بى الأشتر، فعرفته، وعانقته، وسقطنا جميعا، وناديت:
- «اقتلوني ومالكا.» فجاء ناس منّا، فقاتلوا عنّا حتى تحاجزنا، وضاع منّى الخطام. فسمعت عليّا وهو ينادى:
- «اعقروا الجمل، فإنّه إن عقر تفرّقوا.» فضربه رجل، فسقط، فما سمعت قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وفي رواية أبى بكر بن عيّاش عن علقمة أنه قال:
قلت للأشتر: «قد كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بالبصرة؟» قال: «إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا، وكان ابن الزبير هو الذي هزّ عائشة على(1/500)
الخروج، فكنت أدعو الله أن يلقّينيه، فلقيني كفّة لكفّة [1] . فما رضيت لشدّة ساعدي أن قمت في الركاب، فضربته ضربة على رأسه فصرعته.» قلت: «فهو القائل: اقتلوني ومالكا؟» قال: «لا. ما تركته وفي نفسي منه شيء. [558] ذاك عبد الرحمان بن عتّاب بن أسيد، لقيني، فاختلفنا ضربتين، فصرعنى وصرعته، فجعل يقول: نحن مصطرعون، اقتلوني ومالكا، والناس لا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني.» ثم قال أبو بكر بن عيّاش: «هذا كأنك شاهده.» [2] وتحدّث عوف بن أبى رجاء قال: رأيت رجلا قد اصطلمت أذنه فقلت:
- «أخلقة، أم شيء أصابك؟» قال: «أحدّثك: بينا أنا امشى بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ... ولم ننصرف إلّا ونحن رواء [3]
قال: قلت: «يا عبد الله قل: لا إله إلّا الله.» قال: «أدن منّى، ولقّنّى، فإنّ في أذنى وقرا.» قال: فدنوت منه، فقال لى:
- «ممن أنت؟» قلت: «رجل من أهل الكوفة.» قال:
__________
[1] . مط كفة كفة. وفي الطبري أيضا: كفة لكفة (6: 3200) .
[2] . في الطبري: «هذا كتابك شاهده!» (6: 3200) . وفي مط: مشاهده.
[3] . كذا في مط والطبري. ولكن الأصل يشبه أن يكون «رداء» .(1/501)
فوثب علىّ، واصطلم أذنى كما ترى وقال:
- «إذا رجعت إلى أمّك، فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبّى فعل بك هذا.» وتمام أبيات عمير بن الأهلب:
أطعنا بنى تيم بن مرّة شقوة ... وهل تيم إلّا أعبد وإماء
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ... وشيعتها مندوحة وغناء [559]
وروى عن الصعب بن عطيّة قال: كان منّا رجل يدعى الحارث، قال يومئذ:
- «يا آل مضر، علام نقتل بعضنا بعضا؟» فنادوا: «لا ندري، إلّا أنّا إلى قضاء.» وما يكفّون.
وقال القعقاع بعد ذلك: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين. لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا، ونتكئ على أزجّتنا [1] ، وهم مثل ذلك، حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم.
وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى [فنيت] [2] وتطاعنّا بالرماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت. ثم قال علىّ:
- «السيوف يا أبناء المهاجرين.» قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد بالبصرة وسمعت صوت القصّارين يضربون إلّا ذكرت ذلك اليوم، وما شبّهت هودج عائشة إلّا بالقنفذ.
__________
[1] . جمع مفرده الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح، ويقابله السنان، أو: نصل السهم. أو: الرمح من باب تسمية الكل باسم الجزء.
[2] . كذا في مط، والأصل غير واضح.(1/502)
حمل الهودج من بين القتلى
ثم أمر علىّ عليه السلام، بحمل الهودج من بين القتلى. وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير. فأقبل محمد بن أبى بكر ومعه عمّار حتى احتملاه، وأدخل محمد يده.
فقالت: [560] «من أنت، ويلك؟» قال: «أنا أخوك محمد.» قالت: «بل مذمّم!» قال: «يا أخيّة! هل أصابك شيء؟» قالت: «ما أنت من ذاك؟» قال: «فمن إذا الضّلّال؟» قالت: «بل الهداة.» وانتهى إليها علىّ فقال: «كيف أنت أمّه؟» قالت: «بخير.» قال: «يغفر الله لك.» قالت: «ولك.» وأما الزبير فإنه تبعه ابن جرموز فقتله. وأما الأحنف فقصد عليّا ومعه ابن جرموز.
فقال علىّ للأحنف: «تربّصت.» فقال: «ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى،(1/503)
واستصف مودّتى، ولا تقولنّ مثل هذا. فإنّى لم أزل لك ناصحا. [1] » وحملت عائشة إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي. وكان عبد الله هذا قتل يوم الجمعة مع عائشة، وقتل عثمان أخوه مع علىّ. وأما الجرحى فإنهم انسلّوا في جوف الليل، ودخلوا البصرة من كان يطيق الانبعاث.
وسألت عائشة عن عدة ممن كانوا معها وممن كانوا عليها. فكلّما نعى واحد منهم قالت: «رحمه الله.» فأما علىّ فصلّى على قتلى هؤلاء، وجمع الأسلاب إلى [561] المسجد بالبصرة، ونادى: «من عرف شيئا فليأخذه، إلّا سلاحا كان في الخزائن عليها سمة السلطان.» وصلّى علىّ في المسجد، ثم دخل البصرة، فأتاه الناس. ثم راح إلى عائشة على بغلته، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة. فوجدوا النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وصفيّة بنت الحارث مختمرة تبكى، فلمّا رأته قالت:
- «يا علىّ، يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله.» فلم يردّ عليها شيئا، ولم يزل على حاله، حتى دخل على عائشة. فسلّم عليها، وقعد عندها. ثم قال:
- «جبهتنا صفيّة. أما إنى لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم.» فلما خرج علىّ أقبلت عليه، فأعادت عليه الكلام. فكفّ بغلته ثم قال:
«لهممت- وأشار إلى باب من أبواب الدار- أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه، ثم هذا، وأقتل من فيه.» وكان ناس من الجرحى لجأوا إلى عائشة. فأخبر علىّ بمكانهم فتغافل عنهم.
__________
[1] . أنظر الطبري 6: 3218.(1/504)
فسكتت صفيّة، وخرج علىّ.
فقال له رجل من الأزد: «ما تفلتنا هذه المرأة.» فغضب وقال: «مه! لا تهتكنّ سترا، [562] ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعاف. ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، وإنّ الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضرب، فيعيّر به عقبه من بعده. فلا يبلغنّى عن أحد عرض لامرأة، فأنكّل به شرار الناس.» [1] ومضى علىّ، فلحق به رجل فقال: «يا أمير المؤمنين، قام رجلان ممن لقيت على الباب فتناولا من هو أمضّ لك شتيمة من صفيّة.» قال: «ويحك، لعلّها عائشة!» قال: «نعم.» فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب. فأقبل بمن كان عليه. فأحالوا على رجلين.
فقال: «أضرب أعناقهما..» ثم قال: «بل أنهكهما عقوبة..» ثم قال: «لا، بل أضربهما مائة أخرجهما من ثيابهما.» ثم بايع أهل البصرة حتى الجرحى والمستأمنة. فلما فرغ من بيعتهم نظر في بيت المال، فإذا فيه ستمائة ألف. فقسمها على من شهد معه. فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة.
فقال لهم: «لكم إن أظفركم الله بالشام، مثلها إلى أعطياتكم.» فخاض في ذلك السبائية وطعنوا على علىّ من وراء وراء.
__________
[1] . أنظر الطبري 6: 3225.(1/505)
سيرة علىّ في من قاتل يوم الجمل
وكان من سيرة علىّ ألّا يقتل مدبرا، ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف سترا، [563] ولا يأخذ مالا.
فقال قوم يومئذ:
- «ما يحلّ لنا دماءهم، ويحرّم علينا أموالهم؟» فقال علىّ: «القوم أمثالكم. من صفح عنّا فهو منّا ونحن منه، ومن لجّ حتّى يصاب فقتاله منّى على الصدر والنحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى.» فيومئذ تكلّمت الخوارج.
وكتب كتاب البشارة إلى عامله بالمدينة. وكان زياد بن أبى سفيان ممّن اعتزل. فلمّا انجلت الحرب، ذكره علىّ، واستبطأه. فقال ابن أخيه عبد الرحمان بن أبى بكرة، وكان ورد مستأمنا:
- «هو مستأمن يا أمير المؤمنين.» فقال: «امش أمامى، فاهدني إليه.» ففعل. فلمّا دخل عليه قال: «تقاعدت وتربّصت.» فاعتذر زياد. فقبل عذره، واستشاره في من يولّيه البصرة، وأراده عليها.
فقال: «يا أمير المؤمنين، رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس، فإنّه أجدر أن يطمئنّوا إليه، وسأكفيه وأشير عليه.» فافترقا على ابن عبّاس، وولّى زيادا الخراج وبيت المال.
السبائيّة ترتحل بغير إذن علىّ
وأعجلت السبائية عليّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه. فارتحل على آثارهم ليقطع عنهم أمرا إن كانوا أرادوه. وقد كان له مقام لولاهم. [564](1/506)
وكان عدّة القتلى يوم الجمل عشرة آلاف من الفريقين.
وتحدّث الناس:
إنّ أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس، وفيه كان القتال، وذلك من نسر مرّ بماء حول المدينة معه شيء متعلّق، فتأمّله الناس، فوقع، فإذا كفّ فيها خاتم نقشه: «عبد الرحمان بن عتّاب» . ثم جعل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد، قد علموا بالوقعة مما تنقل إليهم النسور من الأيدى والأقدام.
تجهيز علىّ عائشة
وجهّز علىّ عائشة لغرّة رجب سنة ستّ وثلاثين بكلّ شيء ينبغي لها، وأخرج معها كلّ من نجا ممن خرج معها إلّا من أحبّ المقام. واختار من نساء البصرة المعروفات أربعين امرأة، وأمر أخاها محمدا بالخروج معها، وخرج في تشييعها أميالا، وسرّح بنيه معها يوما.
ما جرى بين معاوية وقيس
وكان علىّ بن أبى طالب ولّى قيس بن سعد بن عبادة مصر لما قتل عثمان، فسار إليها، وبايع أهلها لعلىّ بن أبى طالب، ودارى الناس. فاستجاب له أهل مصر إلّا أهل قرية يقال لها: «خرنبا [1] » ، فإنّ أهلها أعظموا قتل عثمان، وكانوا نحو عشرة آلاف رجل من الوجوه الفرسان [565] فكره قيس أن يهيّجهم، فراسلهم قيس وراسلوه يقولون:
- «إنّا لا نقاتلك، فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن دعنا على حالنا حتى
__________
[1] . مط: حرننا. وفي الطبري: خربتا (6: 3238) .(1/507)
ننظر إلى ما يصير أمر الناس.» فأمسك عنهم، وأرسل إليهم عمّاله، فجباهم، ثم توثّب عليه قوم بمصر، فداراهم. وكان قيس ذا حزم ورأى. فجبى الخراج لا ينازعه أحد.
وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى أرض الكوفة من البصرة وهو بمكانه. فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام مخافة أن يقبل إليه علىّ في أهل العراق ويقبل إليه قيس في أهل مصر فيقع معاوية بينهما.
فكتب إليه معاوية وعلىّ بن أبى طالب بالكوفة يومئذ، يعظّم عليه قتل عثمان، ويذكر له أنّ صاحبه أغرى به الناس، وحملهم على قتله، ويحمل قيسا على متابعته، ويضمن له سلطان العراقين إذا ظهر، ما بقي [1] ، ويشترط له سلطان الحجاز يولّيه من شاء من أهله، ويقول له بعد ذلك:
- «وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألنى شيئا إلّا أجبتك إليه.» فأجابه قيس بالاعتذار من قتل عثمان، وأنّه لم يشهده [566] ولا صاحبه أمير المؤمنين، ولا رضيه، واستمهله مما عرض عليه من متابعته، وقال:
- «لى فيه نظر ورأى.» فلما نظر في كتابه معاوية وقرأه لم يره إلّا مباعدا [2] ، ولم يأمن أن يكون مكايدا، فكتب كتابا آخر يقول له:
- «لم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولم أرك تباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي من يصانع بالخداع [3] ومعى أعنّة الخيل، وعدد الرجال.» فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة [4] ، أظهر له ذات نفسه
__________
[1] . في كتاب معاوية: « ... ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ... » (الطبري 6: 3238- 3239) .
[2] . في الطبري: مقاربا مباعدا (6: 3240) .
[3] . في الطبري: من يصانع المخادع (نفس الصفحة) .
[4] . في الطبري: المدافعة والمماطلة.(1/508)
وكتب إليه:
- «العجب من اغترارك بى وطمعك في واستسقاطك رأيى، تسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحقّ، وأقربهم إلى الرسول، وأهداهم سبيلا، وتأمرنى بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلّهم سبيلا، وأبعدهم من الله ورسوله وسبيله، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس، فأما قولك: إنّى مالئ عليك [1] خيلا ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك، إنّك لذو جدّ والسلام.» [567] فلما أتى معاوية كتاب قيس بن سعد هذا. يئس منه، وثقل عليه مكانه، وأخذ في طريق الحيلة عليه، والمكيدة له.
ذكر مكيدة معاوية لقيس وما تمّ له عليه
فأخذ معاوية يكيد قيسا من قبل علىّ، فيظهر مرة كتابا يفتعله من قيس إليه بأنه: منكر لقتل عثمان، تائب إلى الله منه، وأنّ هواه وميله معه، في أشياء تشبه هذا الكلام، ومرة يظهر رسولا يزعم: أنّه من قبله ويلقّنه وما يقوّى به قلوب شيعته من أهل الشام، ومرة يقول لثقاته: لا تسبّوا قيس بن سعد، فإنّه لنا شيعة [2] تأتينا نصيحته سرّا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم من أهل حزبنا يجرى عليهم أرزاقهم. ويؤمن سربهم ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم؟
فسمع جواسيس أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب وعيونه ذلك، فكتبوا إليه به.
ولم يزل معاوية بأمثال هذا المكائد حتى اتهم علىّ قيسا، وجمع ثقاته، وقال لهم ما كتب إليه من أمر قيس، فقالوا:
- «يا أمير المؤمنين [568] ما يريبك إلى ما لا يريبك [3] . اعزل قيسا، وابعث
__________
[1] . عليك مصر ... (الطبري 6: 3241) .
[2] . كذا في مط.
[3] . سقط من مط: «إلى ما لا يريبك» .(1/509)
بثقتك مكانه.» فقال علىّ: «إنّى والله ما أصدّق هذا على قيس.» فقال عبد الله بن جعفر: «اعزله يا أمير المؤمنين، فوالله، لئن كان هذا حقّا لا يعتزل لك.» فبينا هم كذلك إذ جاء كتاب من قيس بن سعد يخبره:
- «إنّ رجالا قد سألونى أن أكفّ عنهم وأدعهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويروا، فرأيت أن أكفّ [1] عنهم، وألّا أتعجّل حربهم، فلعلّ الله يعطف بقلوبهم [2] » فقال عبد الله بن جعفر: «يا أمير المؤمنين، ما أخوفنى أن يكون هذا ممالأة منه لهم. فمره بقتالهم.» فكتب إليه علىّ:
- «أما بعد، فسر إلى القوم الذين ذكرت، فإن دخلوا في ما دخل فيه المسلمون، وإلّا فناجزهم، والسلام.» فلما أتى قيس بن سعد الكتاب، لم يتمالك أن كتب:
- «أما بعد، يا أمير المؤمنين، فقد عجبت لأمرك بقتال قوم كافّين عنك مفرّغيك لقتال عدوّك، وإنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك. فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإنّ الرأى تركهم.» فلما أتى عليّا كتاب قيس قرأه على أصحابه. فقال عبد الله بن جعفر:
- «ابعث محمد بن أبى بكر [569] على مصر يكفك، فقد بلغني عن قيس هنات وأقوال.» [3] يعنى ما كان يشيعه معاوية عنه.
فكتب علىّ عهد محمد بن أبى بكر على مصر. فلما قدم محمد مصر، خرج
__________
[1] . وفي الأصل: «أن أكفف» ! وفي مط: «أن أكفّهم» .
[2] . تجد نص الكتاب عند الطبري (6: 3244) .
[3] . أنظر نفس المصدر.(1/510)
قيس، فلحق بالمدينة. فأخافه مروان والأسود بن البختري حتى إذا خاف أن يقتل، ركب راحلته وطمر [1] إلى علىّ. وبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى مروان والأسود يتغيّظ عليهما ويقول:
- «أمددتما عليّا بقيس بن سعد ورأيه ومكانته، والله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لى من إخراجكما قيس بن سعد إلى علىّ.» ولما قدم قيس على علىّ وباثّه، ثم جاءهم قتل محمد بن أبى بكر، عرف أنّ قيس بن سعد كان يدارى أمورا عظاما من المكاره، وأنّ من كان يحمله على عزل قيس لم يكن ينصح له. فأطاع علىّ قيس بن سعد بعد ذلك في الأمر [2] كلّه.
ابتداء وقعة صفّين قميص عثمان وأصابع نائلة
وكان أهل الشام قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضّبا بدمه، وبأصابع زوجته «نائلة» ، مقطوعة البراجم [3] : إصبعان منها مع شيء من الكفّ، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما، ونصف [570] الإبهام. فكان معاوية يضع القميص على المنبر، ويعلّق منه الأصابع، ويشنّع به، ويكاتب الأجناد. فثاب إليه الناس وبكوا سنة والقميص بتلك الحال. وآلى رجال من أهل الشام ألّا يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء للغسل إلّا من الاحتلام، ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض [4] دونهم بشيء، أو تفنى أرواحهم.
__________
[1] . في مط: ظهر. وفي الطبري: ظهر، طمر، وتصحيفات شتى (6: 3246) . طمر: وثب. ظهر: سار في الظهيرة.
[2] . كذا في مط. وفي الطبري: «في الأمر» (نفس الصفحة) .
[3] . البراجم: جمع مفرده البرجمة: مفاصل الأصابع أو العظام الصغار في اليد والرجل.
[4] . مط: يعرض.(1/511)
خروج علىّ بن أبى طالب إلى صفّين
وبلغ عليّا خبر معاوية وما يصنعه، فبعث إليه برسل، وخرج من الكوفة، فعسكر بالنخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس، بمن نهض معه من البصرة، وتهيّأ منها إلى صفّين، واستشار الناس. فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم، وأشار آخرون بالمسير، فأبى إلّا المباشرة. فجهّز الناس.
وبلغ الخبر معاوية، فدعا عمرو بن العاص واستشاره.
فقال: «إذا بلغك أنه يسير فسر بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك.» قال معاوية: «فجهّز الناس.» فخرج عمرو إلى الناس، وحضّضهم وضعّف عليّا وأصحابه وقال:
- «إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم [571] وقطعوا حدّهم. ثمّ إنّ أهل البصرة مخالفون لعلىّ وقد قتلهم، ووترهم، وتفانت صناديدهم يوم الجمل، وإنما سار علىّ في شرذمة قليلة، منهم من قتل خليفتكم، فالله في حقّكم أن تضيّعوه، وفي دمكم أن تبطلوه.» وبعث علىّ بن أبى طالب زياد بن النضر طليعة في ثمانية آلاف و [بعث معه] [1] شريح بن هانئ، ووجّه من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه، وسار بنفسه حتى انتهى إلى الرقّة، وقال لأهلها:
- «اجسروا لى جسرا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشام.» فأبوا. وكانوا ضمّوا إليهم السفن. فنهض علىّ من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، ورحل ليمضى بالناس ويعبر بهم.
__________
[1] . تكملة من الطبري (6: 3259) .(1/512)
فنادى الأشتر: «يا أهل هذا الحصن، إلىّ، إنّى أقسم بالله، لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم جسرا حتى يعبر، لأجرّدنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال، وأخر بنّ الديار، ولأنهبنّ الأموال.» فلقى بعضهم بعضا، فقالوا: «هو الأشتر، ويفي بما حلف عليه، ويأتى بما هو شرّ منه.» فنادوه: «نعم، إنّا ناصبون لكم جسرا، فأقبلوا.» فجاء علىّ، فنصبوا له الجسر، فعبر علىّ بالأثقال [572] والرجال. ثمّ أمر علىّ الأشتر، فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم عبر آخر الناس رجلا.
فأما زياد بن النضر وشريح بن هانئ، فسارا أمام علىّ- كما ذكرنا- من الكوفة، آخذين على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة، حتى بلغا عانات، فبلغهما [أخذ علىّ] على طريق الجزيرة [1] ، وإنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشام، فقالا:
- «والله ما هذا لنا برأى: أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر، ومالنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلّة من معنا منقطعين من المدد.
فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن. فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت [2] ، ثمّ لحقوا عليّا، فقال عليه السلام:
- مقدّمتى تأتينى من ورائي!» فتقدّم إليه زياد وشريح، وأخبراه بما رأيا. فقال: «سدّدتما.»
__________
[1] . في الأصل ومط: «فبلغهما علىّ آخذا على طريق الجزيرة» وهي مضطربة، فأثبتناها كما في الطبري (6: 3259) .
[2] . هناك ثلاثة مواضع مسماة ب «هيت» : الأول: بلدة على الفرات من نواحي بغداد. والثاني: دحل تحت عارض جبل باليمامة. والثالث: من قرى حوران من ناحية اللوى من أعمال دمشق (يا) .(1/513)
ثم مضى. فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه. وأرسل معاوية أبا الأعور السّلمى في جند عظيم من أهل الشام، فأرسلا إلى علىّ:
- «إنّا قد لقينا أبا الأعور السّلمى في جمع من أهل الشام ودعوناهم، فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك.» وكان علىّ أمرهما ألّا يبدءا بقتال حتى يدعوا إلى الحقّ، ويكون مبدأ القتال من غيرهما. [573] فأرسل علىّ عليه السلام الأشتر، فقال:
- «يا مال، إنّ زيادا وشريحا أرسلا إلىّ أنهما لقيا أبا الأعور السلمى في جمع من أهل الشام، وأخبرنى الرسول أنهم متواقفون، فالنجا إلى أصحابك النجا، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم، وإياك أن تبدأهم، ولا يجر منّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم مرة بعد مرة، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب الناس، حتى أقدم عليك، فإنّى حثيث [1] السير في أثرك إن شاء الله.» وكتب إلى زياد وشريح بالسمع له والطاعة. فخرج الأشتر، والتقى مع القوم، وكفّ عن القتال إلى أن حمل أبو الأعور، فثبتوا له. ثم انصرف أهل الشام في تلك الليلة لما أدركهم المساء [2] ، وأقبل من الغد، وجاء الأشتر من المكان الذي كان فيه، ولم يزل يزحف حتى وقف في المكان الذي كان فيه بالأمس أبو الأعور.
فقال الأشتر لسنان بن مالك:
- «انطلق إلى أبى الأعور، فادعه إلى المبارزة.» فقال: «إلى مبارزتي، أو إلى مبارزتك؟» فقال الأشتر: «لو أمرتك بمبارزته فعلت؟» قال: «نعم، والله لو أمرتنى أن أعترض صفّهم بسيفي، ما رجعت حتى أضرب
__________
[1] . مط: خشيت!
[2] . مط: الماء!(1/514)
فيهم بسيفي.» فقال له الأشتر: «يا ابن أخى، أطال الله بقاءك، [574] قد- والله- ازددت فيك رغبة. لا، ما أمرتك بمبارزته، وإنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي. إنّه لا يبرز إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت- ولربّك الحمد- من أهل الشرف والكفاءة، غير أنك في حدث السنّ. وليس [هو] بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي.» فأتاه ونادى: «آمنونى، فإنّى رسول.» فأومن حتى جاء إلى أبى الأعور.
قال: فدنوت منه وقلت «إنّ الأشتر يدعوك إلى المبارزة.» قال: فسكت عنّى طويلا ثم قال: «إنّ خفّة الأشتر، وسوء رأيه حمله على إجلاء عمّال عثمان بن عفّان من العراق، ومن خفّة الأشتر أن سار إلى بن عفّان في داره حتى قتله في من قتله، فأصبح متبعا [1] بدمه. ألا، لا حاجة لى في مبارزته.» قال: قلت له: «إنّك قد تكلّمت، فاسمع منّى أجبك.» قال: «لا حاجة لى في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عنّى.» وصاح بن أصحابه، فانصرفت عنه، ولو سمع إلىّ لأجبته بحجّة صاحبي.
فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة. فقال:
- «لنفسه نظر.»
القتال على الماء
وأقمنا متحاجزين يوما ونتحارس ليلتنا. فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد
__________
[1] . أهملت الثانية والثالثة من الكلمة في الأصل، وهي في مط: «متبعا» والضبط في الطبري: «متّبعا» .(1/515)
انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا علىّ غدوة. فقدّم الأشتر في من كان معه في [575] تلك المقدمة. وجاء علىّ في أثره حتى لحق بالأشتر وانتهى إلى معاوية.
قال: فلمّا انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح، قد اختاره قبل قدومنا، إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع كلّه شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها بأبى الأعور يمنعها ويحميها.
قال: فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم، فلم نجدها.
قال: فأتينا عليّا، فأخبرناه بعطش الناس، وقال له الأشتر:
- «إنّ القوم قد سبقوك إلى الشريعة وإلى سهولة المنزل [1] ، فإن رأيت سرنا حتّى نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فننزل في منزلهم، فإنهم يشخصون في إثرنا، فإذا لحقونا نزلنا فكنّا [نحن] [2] وهم على السواء.» فكره ذلك علىّ وقال: «ليس كل الناس يقوى على المسير.» ونزل بهم، فقال علىّ: «قاتلوهم على الماء.» وبعث إلى معاوية برسول يقول:
- «إنّا سرنا إليك، ومن رأينا الكفّ، إلى أن تنظر لنفسك، وننظر، وامتنعنا من قتالك، فبدأتنا، وهذا الماء تمنعنا منه، فخلّ بين الناس وبين الشريعة حتى ننظر [3] ، وإن كان الأعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء، حتى [576] يكون الغالب هو الشارب.» فقال معاوية لأصحابه: «ما ترون؟» فأما أكثر الناس قال: «ولا نعمى عين، نمنعهم الماء كما منعوه عثمان، فإن رجعوا كان ذلك فلّا لهم.»
__________
[1] . في الطبري: إلى سهولة الأرض وسعة المنزل (6: 3264) .
[2] . تكملة من الطبري (6: 3264) .
[3] . مط: حتى تنظروا فان كان..(1/516)
فقال عمرو: «خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا [وأنت ريّان] [1] ولكن بغير الماء، فانظر في ما بينك وبينهم.» فارتفع الصياح من كل جانب:
- «امنعوهم الماء، منعهم الله يوم القيامة.» وكان الرسول صعصعة بن صوحان، فقال صعصعة:
- «إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة، والفسقة شربة الخمر: ضربكم من الناس.» فتوثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه.
فقال معاوية: «كفّوا عن الرجل فإنه رسول.» قال صعصعة: «فخرجت من عنده ومن رأيه منع الماء. فما انتهيت إلى علىّ حتى رأيت الخيل تسرّب إلى أبى الأعور ليكفّنا عن الماء. فأبرز [نا] [2] علىّ إليهم وقال:
- «قاتلوهم على الماء.» فارتمينا، ثم اطّعنّا، ثم تجالدنا بالسيوف، إلى أن انهزموا، وصار الماء في أيدينا.
قال: فقلنا: «لا والله، لا نسقيهموه بعد أن غلبنا عليه بالسيف.» فأرسل إلينا علىّ أن: «خذوا من الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم، فإنّ الله قد نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم.» ثم أقبل علىّ يأمر [577] ذا الشرف من الناس، فيخرج ومعه جماعة، ويخرج معاوية إليه مثله، فيقتتلان في خيلهما، ثم ينصرفان، وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجميع [أهل] [3] العراق أهل الشام لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من
__________
[1] . تكملة من الطبري.
[2] . تكملة من الطبري (6: 3264) .
[3] . تكملة عن مط.(1/517)
الاستيصال والهلاك، إلى أن [تقضّى شهر ذى] [1] الحجة.
فلما دخل المحرّم توادع علىّ ومعاوية إلى انقضائه طمعا في الصلح، وتردّدت الرسل، وطال الكلام بينهما، فما استقام بينهما الصلح. وانقضى المحرّم فأمر علىّ مرثد بن الحارث الجشميّ، فنادى أهل الشام عند غروب الشمس:
- «ألا، إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إنّى استدمتكم [2] لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله، ودعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حقّ، وإنى قد نبذت [3] إليكم على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين.» ففزع [4] أهل الشام إلى أمرائهم، وخرج معاوية وعمرو في الناس يكتّبان الكتائب، ويعبّئان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علىّ ليلته كلّها يعبّئ الناس، ويكتّب الكتائب، ويدور في الناس، ويحرّضهم.
من وصايا علىّ لأصحابه يوم صفّين
وكان في ما يوصّيهم:
- «إذا قاتلتموهم وهزمتموهم، فلا تقتلوا [578] مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلّا بإذن، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلّا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعيفات القوى» .
كان هذا كلامه في يوم الجمل، وصفّين، ويوم النهروان، وكان يحرّض فيقول:
- «عباد الله، غضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلّوا الكلام، ووطّنوا
__________
[1] . مكان «تقضّى شهر ذى» بياض في الأصل وما أثبتناه عن مط.
[2] . مط: أستبدّ منكم!
[3] . مط: نذرت. وفي الطبري أيضا: نبذت.
[4] . فزع إليه. لجأ إليه واستغاثه.(1/518)
أنفسكم على المنازلة والمبارزة، والمبالطة [1] ، والمعانقة، واثبتوا، واذكروا الله كثيرا، لعلّكم تفلحون، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم، واصبروا إنّ الله مع الصابرين [2] ، اللهمّ ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.»
اقتتلوا ولكلّ فئة أحد عشر صفا
ولما أصبح علىّ في ميمنته وميسرته، ومعاوية في مثل ذلك، وبايع رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم. فكان المعقّلون [3] خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون أحد عشر صفا، ويخرج أهل العراق أحد عشر صفا. [579] فخرجوا أول يوم من صفر، واقتتلوا، وعلى من خرج يومئذ من الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا عامة نهارهم. ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. فلما كان اليوم الثاني، خرج هاشم بن المرقال. وخرج إليه أبو الأعور السلمى في خيلهما ورجالهما، فاقتتلوا عامة نهارهم، وصبر بعضهم لبعض. وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر. وخرج إليه عمرو بن العاص في خيلهما ورجلهما فاقتتلوا كأشدّ ما يكون القتال، وكان مع عمار زياد بن النضر [4] على الخيل، فأمره عمار أن يحمل، فحمل في خيله وصبر له الناس، وشدّ عمار في الرجال، فأزال ابن العاص عن موقفه، ثم انصرف كلّ واحد عن صاحبه وتراجع الناس.
وخرج اليوم الرابع محمد بن علىّ، وهو ابن الحنفية، فخرج إليه عبيد الله بن عمر في جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشدّ القتال:
__________
[1] . المبالطة: التحارب بالسيوف.
[2] . س 8 الأنفال: 45، 46.
[3] . مط: معقولون.
[4] . ما في الأصل غير واضح، فأثبتناه كما في مط والطبري (6: 3284) .(1/519)
فأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية، أن: «اخرج إلىّ!» فقال: «نعم!» وخرج يمشى. وبصر به علىّ، فقال: «من هذان المتبارزان؟» فقيل له: «ابنك وعبيد الله بن عمر.» فحرّك دابّته، [580] ثم نادى محمدا، فوقف له.
فقال: «أمسك دابتي!» فأمسكها.
ثم مشى إليه علىّ وقال: «أبرز [لك] [1] ، فهلمّ إلىّ!» فقال: «ليست لى في مبارزتك حاجة.» قال: «بلى، هلمّ!» قال: «لا.» فرجع ابن عمر، وأخذ محمد بن الحنفية يعاتب أباه في منعه، ثم خروجه بنفسه، إلى من ليس [كفؤا له] [2] هو ولا أبوه. فجرى بينهما كلام مذكور [3] . ثم تحاجز الناس.
فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن العباس، وخرج إليه الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودنا ابن العباس من الوليد بن عقبة والوليد يشتم بنى عبد المطلب. فأرسل إليه ابن عباس أن: ابرز لى! فأبى. وقاتل ابن عباس قتالا
__________
[1] . تكملة عن الطبري.
[2] . في الأصل وفي مط: «هناك» فوجدته تحريفا من: «كفؤا له» وهذا مستنبط من المفاضلة الواردة في رواية الطبري التي أوردناها في الحاشية التالية.
[3] . قال الطبري: « ... فرجع ابن عمر، فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: يا أبت لم منعتني من مبارزته؟ فوالله لو تركتني لرجوت أن أقتله. فقال: لو بارزته لرجوت أن تقتله وما كنت آمن أن يقتلك. فقال: يا أبت، أو تبرز لهذا الفاسق؟ والله، لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه. [أى: لفضّلتك عليه] فقال علىّ: يا بنى، لا تقل في أبيه إلّا خيرا. (الطبري 6: 3285) . أنظر أيضا ابن الأثير 3: 295.(1/520)
شديدا، وغشى الناس بنفسه.
وخرج اليوم السادس قيس بن سعد الأنصارى، فخرج إليه ابن ذى الكلاع الحميري، فاقتتلا قتالا شديدا، ثم انصرفا، ذلك بعد قتل كثير في الفريقين.
وخرج الأشتر في اليوم السابع، وعاد إليه حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الثلاثاء، فاقتتلا كأشدّ ما يكون من قتال، ثم انصرفا عند الظهر وكلّ غير غالب.
ثم إنّ عليّا قال: «حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم [581] بأجمعنا؟» فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العصر، فخطبهم فقال:
- «الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، ولو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفّت [1] بيننا في هذا المكان، فلو شاء عجّل النعمة، وكان منه التغيير حتى يكذّب الظالم ويعلم الحقّ أين مصيره، ولكنّه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة هي دار القرار، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. [2] ألا، إنّكم لاقوا [3] القوم غدا، فاطلبوا وجه الله بأعمالكم، وأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين.» فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها. ومرّ بهم كعب بن جعيل التغلبي وهو يقول:
أصبحت الأمّة في أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا صادقا غير كذب ... إنّ غدا يهلك أعلام العرب
__________
[1] . في الأصل ومط: فلف. والصحيح ما أثبتناه كما في الطبري (6: 3286) .
[2] . س 53 النجم: 32.
[3] . في الأصل: لا قوا.(1/521)
ولما كان من الليل، خرج علىّ يعبّئ الناس ليلته كلّها حتى إذا أصبح زحف الناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشام. فجعل علىّ يقول: «من هذه القبيلة» ، و «من هذه الكتيبة؟» [582] فتنسب له، حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم، قال للأزد: «أكفونى الأزد.» وقال لخثعم: «أكفونى خثعم.» وأمر كلّ قبيلة أن تكفيه أختها، وإذا لم يجد لقبيلة منهم أختها سمّى لها قبيلة أخرى. ثم تناهض الناس يوم الأربعاء، فاقتتلوا نهارهم كلّه، وانصرفوا عند المساء وكلّ غير غالب.
حتى إذا كان يوم الخميس، وهو التاسع، صلّى علىّ بغلس [1] ، فيقال: إنه لم يغلّس أشدّ من تغليسه يومئذ. ثم خرج بالناس. وكان علىّ- عليه السلام- يبدأ القوم بالمسير إليهم. فإذا رأوه وقد زحف استقبلوه بوجوههم.
فلما صلّى علىّ، دعا دعاء كثيرا، وقال في آخر دعائه:
«اللهمّ إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي، وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقيّة أصحابى من الفتنة.» ثم خرج وعلى ميمنته عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقرّاء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار بن ياسر، ومع قيس بن سعد، ومع عبد الله بن بديل، والناس على راياتهم وعلىّ في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة وأكثر من معه من أهل المدينة، الأنصار. ثم زحف إليهم بالجمع.
ورفع معاوية قبّة [583] عظيمة وقد ألقى عليها الكرابيس، وبايعه عظم أهل الشام على الموت، وبعث إلى خيل أهل دمشق، فأحاطت بقبّته، وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرّهم إلى قبّة معاوية عند الظهر، وحضّ عبد الله بن بديل
__________
[1] . الغلس: ظلام أول الصبح.(1/522)
أصحابه، وحرّضهم، وذكّرهم بالله، وأثنى عليه، وعضّ من معاوية وسبّه، وقاتل قتالا شديدا، وحضّ علىّ أصحابه.
خطبة في حضّ على حرب ووصايا فيها
فقال:
- «إنّ الله قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم [1] ، وأخبركم أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص [2] فسوّوا صفوفكم، وقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنّه أمور للأسنّة، وغضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم، فلا تميلوها، ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم. أجزأ امرؤ [وقذ] [3] قرنة وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب [584] به لائمة ودناءة، وكيف لا، وهذا يقاتل اثنين وهذا ممسك يده قائما ينظر إليه؟ من يفعل ذلك، يمقته الله. قال الله لقوم: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا [4] ، استعينوا بالصدق والصبر، فإنّ الله ينزل بعد الصبر النصر» .
خطبة يزيد بن قيس الأرحبى
وخطب يزيد بن قيس الأرحبى، فقال بعد حمد الله:
__________
[1] . س 61 الصف: 11.
[2] . س 61 الصف: 4.
[3] . ما بين [] تكملة من الطبري 6: 3290.
[4] . س 33 الأحزاب: 16.(1/523)
- «إنّ هؤلاء القوم، والله، لا يقاتلوننا [1] على إقامة دين رأونا ضيّعناه، وإحياء حقّ رأونا أمتناه، ولن يقاتلونا [2] إلّا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرة فيها ملوكا.
فلو ظهروا عليكم- ولا أراهم الله ذلك- لزموكم بمثل سعيد، والوليد، وعبد الله بن عامر السفيه الضالّ، يجيز أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجدّه، ثم يقول: «هذا لى، ولا إثم علىّ» ! كأنّما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه! وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا. فقاتلوا- عباد الله- القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم، فإنّهم من عرفتم وخبرتم. والله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلّا شرّا.»
ابن بديل ينتهى إلى قبة معاوية
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة حتى انتهى إلى قبّة معاوية. ثم إنّ الذين تبايعوا [585] على الموت، أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل.
وبعث حبيب بن مسلمة في ميسرته، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس، فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلّا ابن بديل في مائتين إلى الثلاثمائة من القرّاء قد أسند بعضهم على بعض ظهره، وانجفل الناس.
فأمر علىّ سهل بن حنيف، فاستقدم في من كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة إلى موقف علىّ في القلب، فمرّ علىّ ومعه بنوه نحو الميسرة.
قال [3] :
فوالله، إنّى لأرى النبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه واحد إلّا يقيه بنفسه، فيتقدّم فيحول بين اهل الشام وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين
__________
[1] . في الأصل: لا يقاتلونا.
[2] . في الأصل: لن يقاتلوننا.
[3] . والقول لزيد بن وهب الجهني نقله أبو مخنف. أنظر الطبري (6: 3293) .(1/524)
يديه أو من ورائه. فبصر به أحمر مولى أبى سفيان أو عثمان، فعرفه.
فقال علىّ: «وربّ الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني.»
كلام بين علىّ والحسن أثناء القتال
فأقبل نحوه، وخرج إليه كيسان مولى علىّ، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى بنى أمية، وينتهزه علىّ، فتقع يده في جيب درعه، فجبذه، ثم حمله على عاتقه. فكأنى أنظر إلى رجليه تختلفان على عنق علىّ، ثم ضرب [586] به الأرض، فكسر منكبه وعضده، وشدّ ابنا علىّ: الحسين ومحمد عليه، فضرباه بأسيافهما، حتى إذا قتلاه، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه.
قال له: «يا بنىّ، ما منعك أن تفعل كما يفعل أخواك؟» فقال: «كفيانى يا أمير المؤمنين!» ثم إن أهل الشام دنوا منه، فوالله ما يزيده قربهم منه سرعة في مشيه.
فقال له الحسن: «ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوّك من أصحابك؟» فقال: «يا بنىّ، إنّ لأبيك يوما لا يعدوه، ولا يبطئ به السعى، ولا يعجل به اليه المشي، وإنّ أباك لا يبالى: وقع على الموت، أو وقع عليه الموت [1] .»
مالك يحضّ المنهزمين على الصمود
ولما أقبل علىّ نحو الميسرة، مرّ به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة.
فقال له علىّ: «يا مال!» قال: «لبيك يا أمير المؤمنين!» قال: «ائت هؤلاء، فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لا تعجزونه، إلى
__________
[1] . في الطبري (6: 3284) : «أو وقع الموت عليه» . والعبارة ساقطة من مط.(1/525)
الحياة التي لا تبقى لكم؟» فمضى، واستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي أمره علىّ بها.
ثم قال: «إلىّ، أيها الناس إلىّ! أنا مالك بن الحارث..» ثم ظنّ أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: «أنا الأشتر، إلىّ، إلىّ!» فأقبلت طائفة إليه [587] وذهبت عنه طائفة، فقال:
- «عضضتم بهَنِ آبائكم [1] ، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! يا أيها الناس، أخلصوا إلى مذحجا.» فأقبلت مذحج، فقال:
- «عضضتم بصمّ الجندل، ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون [2] بثأرهم، ولا تطلّ دماؤهم، ولم تعرفوا في موطن بخسف، فأنتم حدّ أهل مصركم، وما تفعلوا في هذا اليوم فإنّه مأثور بعد اليوم، فاتقوا مأثور الحديث، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإنّ الله مع الصادقين. فو الذي نفس مالك بيده، ما من هؤلاء- وأشار بيده إلى أهل الشام-[رجل] [3] على مثل جناح بعوضة من محمد- صلى الله عليه- إنكم ما أحسنتم القراع، فاجلوا سواد وجهى يرجع في وجهى دمى. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإنّ الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه كما تبع مؤخّر السيل مقدّمه.» قالوا: «خذ بنا حيث أحببت.» فصمد نحو عظمهم مما يلي الميمنة، وأخذ يزحف إليهم ويردّهم، ويستقبله
__________
[1] . في بعض الأصول: بهن أمّكم. (الطبري 6: 3294) . وفي الحديث: «من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنوا» . أى، قولوا له: «اعضض بأير أبيك» ، ولا تكنوا عن الأير بالهن تنكيلا وتأديبا له. (لع 7: 188 «عضض» ) .
[2] . في الأصل: يسبقوا.
[3] . تكملة عن الطبري (6: 3295) .(1/526)
شباب من [588] همدان، وكانت همدان يومئذ ثمانمائة مقاتل. فانهزموا آخر الناس، وكانوا صبروا في الميمنة، حتى أصيب منهم مائة وثمانون رجلا، وقتل منهم أحد عشر رئيسا يتتابعون على الراية. فمرّوا بالأشتر وهم يقولون:
- «ليت لنا عدّتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم، فلا ننصرف حتى نقتل أو نظهر.» فقال لهم الأشتر: «إلىّ، أنا أخالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك.» فأتوه، فوقفوا معه، وزحف الأشتر، وثاب [1] إليه الناس، وأخذ لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها، وبيده صفيحة يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبّا، وإذا رفعها كاد يغشى البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول:
- «الغمرات [2] ثم ينجلينا.» فبصر به الحارث بن جهمان والأشتر مقنّع في الحديد، فلم يعرفه. فدنا منه وقال:
- «جزاك الله خيرا منذ اليوم عن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين.» فعرفه الأشتر فقال: «يا ابن جهمان، إنّ مثلك لا يتخلّف عن مثل مواطنى هذا [الذي أنا فيه] [3] .» فعرفه ابن جهمان لما تكلّم، وكان من أعظم الرجال وأطولهم، فقال له:
- «جعلت فداك، لا والله، ما علمت بمكانك إلّا الساعة [589] ولا أفارقك حتى الموت.» ورآه منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيّان.
__________
[1] . مط: وباءت.
[2] . «الغمرات» مرفوعة في الطبري (6: 3297) ومنصوبة في الأصل.
[3] . تكملة من الطبري (6: 3297) .(1/527)
فقال منقذ لحمير: «ما في العرب مثل هذا إن كان قتاله عن نيّة.» فقال له حمير: «وهل النيّة إلّا ما تراه يصنع.» قال: «إنّى أخاف أن يكون يحاول ملكا.» وحمل الأشتر في بعض حملاته، فكشف أهل الشام حتى ألحقهم بصفوف معاوية، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل، وهو في عصبة من القرّاء بين المائتين إلى الثلاثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جثى، فكشف عنهم أهل الشام، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم.
فقالوا: «ما فعل أمير المؤمنين؟» قالوا: «حىّ صالح يقاتل في الميسرة، ويقاتل الناس أمامه.» فقالوا: «والحمد لله، قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم.»
إبن بديل يعصى مالكا ويقتل
وقال عبد الله بن بديل لأصحابه:
«استقدموا بنا، رحمكم الله!» فأرسل إليه الأشتر أن:
«لا تفعل، أثبت للناس، وقاتل، فإنّه خير لهم، وأبقى لك ولأصحابك.» فعصاه ومضى كما هو نحو معاوية، وحوله كأمثال جبال الحديد، وفي يده سيفان، وقد خرج. فهو أمام أصحابه. فأخذ كلما دنا منه رجل قتله، حتى قتل تسعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس [590] من كلّ جانب، وأحيط به حتى قتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة قد خرجوا منهزمين.
فبعث الأشتر ابن جهمان، فحمل على أهل الشام الذين يتّبعون من كان نجا من أصحاب ابن بديل، حتى نفّسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر. فقال لهم:
- «ألم يكن رأيى خيرا لكم من رأيكم لأنفسكم؟ ألم آمركم أن تثبتوا مع(1/528)
الناس؟» وكان معاوية لما رأى عبد الله بن بديل يضرب قدما، قال:
- «أترونه كبش القوم!» فلما قتل أرسل إليه لينظر: من هو؟ فلم يعرفه أحد. فأقبل إليه حتى وقف عليه، فقال:
- «بلى، هذا عبد الله بن بديل، هذا والله كما قال» :
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت يوما له الحرب شمّرا
ثم إنّ الأشتر حمل حملة أزال أهل الشام عن موقفهم، حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقّلة بالعمائم حول معاوية، ثم شدّ عليهم شدّة أخرى، فصرع الصفوف الأربعة المعقّلين، حتى انتهوا إلى الخامس حول معاوية. فدعا معاوية بفرسه، فركبه.
وكان يقول:
- «أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة: [591]
أبت لى عفّتى، وأبى بلائي [1] ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح [2]
وإجشامى [3] على المكروه نفسي ... وإقدامى على البطل المشيح [4]
__________
[1] . في الطبري: أبت لى عفّتى وحياء نفسي (6: 3300) .
[2] . المصراع للبيت الثاني عند الطبري.
[3] . في الطبري: وإعطائى على المكروه مالي. وعند الأصمعى: وإقدامى على المكروه نفسي!
[4] . عند الأصمعى: وضربي هامة البطل المشيح. والمشيح: المجدّ. والمصراع للبيت الأول عند الطبري.(1/529)
وقولي كلّما جشأت وجاشت [1] ... مكانك، تحمدي، أو تستريحي [2]
فمنعني من الفرار.» [3] [1 بن 2] وإنّ عليّا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافّها، وكشفت من
__________
[1] . عند الأصمعى: جاشت وجاشت. ولعلّه من أخطاء المطبعة أو الكاتب.
[2] . وزاد الأصمعى بيتا آخر هو:
لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمى، بعد، عن عرض صحيح
[3] . وزاد في الكامل (3: 303) : «ونظر إلىّ عمرو وقال: اليوم صبر، وغدا فخر. فقلت: صدقت.» وهذه الزيادة ليست لا في الأصل ولا في الطبري.
نهاية الجزء الأوّل حسب تجزئة مخطوطة أيا صوفيا إلى هنا (أى إلى نهاية قوله: «فمعنى من الفرار.» ينتهى الجزء الأول من أجزاء تجارب الأمم الستّة، حسب تجزئة مخطوطة أيا صوفيا (الأصل) . ولما لم تكن التجزئة منطقيّة، أضفنا إلى الجزء الأول 43 صفحة من صفحات الجزء الثاني، ليكتمل بذلك، هذا الفصل الذي أصبح مبتورا بتلك التجزئة. وأما عبارات الإتمام والفراغ التي سجّلت في نهاية الجزء الأول من المخطوطة، فنثبتها في ما يلي، ليكون ما هو بين يدي القارئ مطابقا تماما للأصل الذي اعتمدنا عليه:
«تمت المجلدة الأولى من كتاب تعاقب الهمم وتجارب الأمم، والحمد لله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلواته على محمد وآله أجمعين. ويتلوه في المجلدة الثانية: وإنّ عليّا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافّها، وكشفت من بإزائها أقبل حتى انتهى إليهم. الحمد لله ربّ العالمين، حمد الشاكرين، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم.» «فرغ من انتساخه محمد بن علىّ بن محمد أبو طاهر البلخي في الربيع الأول سنة خمس وخمسمائة [505 هـ] والحمد لله كثيرا.» «فرغ من انتساخه محمد بن الحسن بخطّه في ذى الحجة سنة ... » [هنا كلمة لا تقرأ] .
ونتيجة لهذا، ننقل البسملة وعبارات الحمد والتصلية التي جاءت في أول الجزء الثاني للمخطوطة، إلى الحاشية لئلّا تخلّ بالسياق، وهي:
«بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين، حمد الشاكرين، وصلواته على محمد النبىّ، وآله الطاهرين.» (أنظر تصديرنا لهذه النشرة.)(1/530)
بإزائها، أقبل حتى انتهى إليهم، فقال:
- «إنّى قد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام [1] ، وأعراب الشام، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمّار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضلّ الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكرّكم بعد انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولّى يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين، ولكن هوّن وجدي، وشفى بعض أحاح [2] نفسي أنّى رأيتكم بأخرة حزتموهم [3] ، كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافّهم كما أزالوكم، تحسّونهم [4] بالسيوف، يركب أولاهم أخراهم، كالإبل المطرودة إليهم. فالآن، فاصبروا، نزلت عليكم السكينة وثبّتكم الله باليقين وإنّ الفارّ لا يزيد في عمره ولا يرضى ربّه، [3] فموت المرء محقّا قبل موجدة [5] الله، والذلّ اللازم، والعار الباقي، واغتصاب الفيء من يده، وفساد العيش، خير من الرضا بالتأنيس [6] لهذه الخصال، والإقرار عليها.» فصبر القوم، وقتل الفرسان من الجانبين. فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر، وتنادت ربيعة- حيث انتهى إليها علىّ- بينها:
- «إن أصيب علىّ فيكم، وقد لجأ إليكم، افتضحتم آخر الدهر، وتشاءم بكم المسلمون.» وقال لهم شقيق بن ثور:
- «يا معشر ربيعة، لا عذر لكم في العرب إن وصل إلى علىّ فيكم ومنكم
__________
[1] . في مط: يحوزكم الجفاء الطعام! وفي الطبري (6: 3301) : الطغاة الجفاة. والطغام (للواحد والجمع) :
أوغاد الناس.
[2] . الأحاح: العطش، الغيظ.
[3] . حزتموهم: سقتموهم.
[4] . تحسّونهم: تقتلونهم باستئصال رؤوسهم، تبيدونهم. وفي مط: تحثونهم!
[5] . الموجدة: الغضب.
[6] . التأنيس: مهملة في الأصل ومط، فأعجمناها حسب الطبري (6: 3301) .(1/531)
رجل حىّ.» فقاتل القوم قتالا شديدا حين جاءهم علىّ، لم يكونوا قاتلوا مثلها. ففي ذلك قال علىّ عليه السلام:
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل: قدّمها حضين، تقدّما
يقدّمها في الموت حتى يردّها [1] ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما
أذقنا ابن هند ضربنا وطعاننا ... بأرماحنا حتّى تولّى وأحجما
جز الله قوما قاتلوا [2] في لقائهم ... لدى الموت، قوما ما أعفّ وأكرما [3] [4]
مّتل عمّار بن ياسر
قال:
وسمعت عمارا يقول:
- «والله، إنّى لأرى قوما يضربونكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وأيم الله، لو ضربونا حتى يبلّغونا سعفات هجر [4] ، لعلمنا أنّا على الحقّ، وأنّهم على الباطل.» ثم حمل حتى وصل إلى عمرو بن العاص، فقال له:
__________
[1] . كذا في الأصل ومط: يردّها، وفي الطبري (6: 3316) : يزيرها.
[2] . في هامش الأصل: «صابروا» .
[3] . ويضيف الطبري بيتين، هما: وأطيب أعبارا، وأكرم شيمة إذا كان أصوات الرّجال تغمغما ربيعة أعنى، إنهم أهل نجدة وبأس، إذا لاقوا جسيما عرمرما تجد الأبيات في الديوان المنسوب إلى الإمام على (ع) ثلاثة عشر بيتا ( «ديوان الإمام على (ع) » تحقيق وترجمة الدكتور أبو القاسم إمامى، ص 566) .
[4] . هجر: مدينة، وهي قاعدة البحرين، وربما قيل: «الهجر» بالألف واللام، وقيل ناحية البحرين كلها، وهو الصواب (ياقوت) .(1/532)
- «لقد قاتلت هذه الراية ثلاثا مع رسول الله- صلى الله عليه- وهذه الرابعة، ما هي بأبّر ولا أتقى.» قال:
ورأيت عمارا جاء إلى هاشم بن عتبة، وهو صاحب راية علىّ، فقال:
- «يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، اليوم، ألقى الأحبة، محمدا وحزبه.» فحملا، ولم يرجعا.
ولما قتل عمار، قال علىّ لربيعة وهمدان:
- «أنتم درعي ورمحي.» فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفا، وتقدّمهم علىّ على بغلته، فحمل وحملوا معه، حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلّا انتقض، وقتلوا كلّ من انتهى إليه، حتى بلغوا معاوية.
علىّ يبارز معاوية
ثم نادى علىّ معاوية:
- «يا معاوية، لم تقتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور.» فقال له عمرو:
- «أنصفك الرجل.» فقال معاوية:
- «ما أنصفت، وإنّك [5] لتعلم أنه لم يبارزه أحد قطّ إلّا قتله.» فقال عمرو:
- «ما يجمل بك إلّا مبارزته.» قال معاوية:(1/533)
- «طمعت فيها بعدي.»
ما دبّره علىّ لإزالة كتيبة
ومرّ علىّ بكتيبة فرءاهم لا يزولون. فحرّض عليهم وقال:
- «إنّ هؤلاء لا يزولون [1] إلّا بضرب دراك [2] يفلق الهام، ويطيح العظام، وتسقط منه المعاصم والأكفّ، وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتثر حواجبهم على الصدور. أين أهل الصبر وطلّاب الأجر؟» فثابت [3] إليه عصابة. فدعا ابنه محمدا، فقال:
- «امش نحو أهل هذه الراية مشيا رويدا على هينتك [4] ، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح، فأمسك حتى يأتيك أمرى.» ففعل، وأعدّ علىّ مثلهم. فلما دنا منهم محمد، فأشرع الرماح في صدورهم، أمر علىّ الذين أعدّهم، فشدّوا عليهم، فنهض محمد بمن معهم في وجوههم، فزالوا عن مواقفهم، وأصابوا منهم. ثم اقتتلوا بعد المغرب قتالا شديدا. فما صلّى أكثر الناس إلّا إيماء.
العالي من جعل المعركة خلف ظهره
وقتل عبد الله بن كعب المرادىّ. فمرّ به الأسود بن قيس المرادىّ، فقال:
- «يا أسود!» فقال: «لبيك.» وعرفه، وكان بآخر رمق. فقال:
__________
[1] . في مط: لا يزلون.
[2] . والضبط في الطبري (6: 3327) : بضرب دراك. والدراك: المتلاحق والمتصل.
[3] . ثابت: ربما يكون ما في الأصل: تابت، وما في مط: ثابت، وكلاهما بمعنى واحد: رجعت.
[4] . كذا في الأصل والطبري: على هينتك، وما في مط: هيبتك.(1/534)
- «عزّ [6] علىّ بمصرعك [1] . أما والله، لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك.» ثم نزل إليه وقال:
- «أما والله، إن كان جارك، ليأمن بوائقك. ولقد [2] كنت من الذاكرين الله كثيرا، أوصنى- رحمك الله.» فقال:
- «أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المحلّين حتى يظهر أو تلحق بالله. وأبلغه عنى السلام، وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنّه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره، كان العالي.» ثم لم يلبث أن مات.
فأقبل الأسود إلى علىّ، فأخبره، فقال:
- «رحمه الله، جاهد فينا عدوّنا في الحياة، ونصح لنا في الوفاة.» واقتتل الناس تلك الليلة كلها حتى الصباح- وهي ليلة الهرير- حتى تقصّفت الرماح، ونفد [3] النبل، وصار الناس إلى السيوف، وأخذ علىّ يسير في ما بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلّ كتيبة من القرّاء [4] أن تقدم على التي تليها، ولم يزل يفعل ذلك ويقوم بهم، حتى إذا أصبح كانت المعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في ميمنة الناس، وابن عباس في الميسرة، وعلىّ في القلب، والناس يقتتلون من كلّ جانب، وذلك يوم الجمعة.
__________
[1] . كذا في الطبري (6: 3326) : بمصرعك، وفي هامش الطبري: لمصرعك، وفي مط: مصرعك.
[2] . في الطبري: وإن كنت. في مط: لقد كنت، كما في الأصل.
[3] . في الأصل: نفذ، وما ضبطناه من مط والطبري 6: 3327.
[4] . مط: القرى. وما في الأصل يؤيده الطبري.(1/535)
الظفر يلوح للأشتر ومعاوية يلتمس حيلة
وكان علىّ يراسل الأشتر ويرفده، وكان الأشتر [7] تولّى القتال عشيّة الخميس وليلة الجمعة كلّها ويوم الجمعة إلى ارتفاع النهار، وقد كلّ الناس، وأخذ يقول لأصحابه:
- «ازحفوا قيد هذا الرمح.» وزحف بهم نحو أهل الشام. فإذا فعلوا، قال:
- «ازحفوا قاب [1] هذا القوس.» فإذا فعلوا، سألهم مثل ذلك، حتى ملّ الناس الإقدام.
فلما رأى الأشتر ذلك، قال:
- «أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم.» ثم دعا بفرسه، وترك رايته مع حيّان بن هوذة [2] ، وخرج يسير في الكتائب ويقول:
- «من يشرى نفسه لله ويقاتل مع الأشتر، حتى يظهر، أو يلحق بالله؟» فلا يزال [3] رجل من [4] الناس قد خرج إليه وحيّان بن هوذة واقف بالراية، فلما اجتمع إليه ناس كثير، أقبل حتى رجع إلى المكان الذي كان فيه من الميمنة.
ثم قال لأصحابه:
- «شدّة- فدى لكم عمّى وخالي- ترضون بها الربّ، وتعزّون بها الدين، إذا شددت، فشدّوا.»
__________
[1] . القاب: المقدار. أو ما بين المقبض والسئة من القوس.
[2] . في مط: حبان، وما في الأصل يطابق الطبري (6: 3328) .
[3] . فلا يزال: الضبط في الأصل «يزال» بفتح الياء، وما في الطبري مضبوط بضم الياء: يزال.
[4] . «من» سقطت من مط.(1/536)
ثم نزل فضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته:
- «أقدم بها.» ثم شدّ على القوم شدّة، وشدّ معه أصحابه. فضرب أهل الشام حتى انتهى إلى عسكرهم. ثم قاتلوه عند العسكر قتالا شديدا، فقتل صاحب رايته، ولاح له الظفر بما اضطرب من صفوف [8] معاوية. ونظر علىّ، فرأى الظفر من قبله، فأخذ يمدّه بالرجال.
فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص، فقال:
- «أما ترى أهل العراق قد استعلوا؟» فقال عمرو: «هذا الهلاك. فهلمّ حيلة.» قال: «قل، ما عندك.»
ذكر مكيدة عمرو بن العاص
قال: «قد رأيت أمرا إن قبلته لا يزيدنا إلّا اجتماعا، ولا يزيدهم إلّا فرقة.» قال: «نعم.» قال: «نرفع المصاحف على الرماح، ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم. فإن أبى بعضهم إلّا القتال، وجدت فيهم من يقول: لا نقاتل حتى ننظر ما يحكم القرآن.
فتقع بينهم الفرقة، فإن قالوا بأجمعهم: نقبل حكم القرآن، رفعنا هذه الحرب، ودافعناها [1] إلى أجل وحين.» فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا:
- «عباد الله! هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهل الشام، من لثغور العراق بعد أهل العراق؟»
__________
[1] . ما في الأصل ومط: «دافعناه» بتذكير ضمير المفعول، فأنثنا الضمير لأنه يرجع إلى «الحرب» .(1/537)
فلما رأى الناس المصاحف، وسمعوا هذا الكلام، رقّت قلوبهم، وقد كان مسّهم النصب والملال. فقالوا:
- «نجيب إلى كتاب الله.» فلما رأى علىّ الفتور في أصحابه بعد الجدّ، صاح بهم:
- «عباد الله، امضوا على حقّكم، وصدقكم، وقتال عدوّكم. فإنّه معاوية، [9] وعمرو بن العاص، وابن أبى سرح، والضحّاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين وقرآن. أنا أعرف بهم منكم، وصحبتهم أطفالا ورجالا. ويحكم! والله [1] ، إنهم ما رفعوا المصاحف. إنهم لا يعرفونها، ولا يعلمون ما فيها، وما رفعوها إلّا خديعة ومكيدة حين علوتموهم.» فقالوا:
- «ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله، فنأبى أن نقبله.» فقال لهم علىّ:
- «ويحكم! فإنّى إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله، ويعملوا بالقرآن، فإنّهم قد عصوا الله في ما أمرهم، ونبذوا كتابه، ونسوا عهده.»
القرّاء يهدّدون عليّا ويطالبون ترك القتال
فقال له مسعر بن فدكي [2] ، وزيد بن حصن الطائي، ثم السّنبسىّ [3] في عصابة معهما من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك:
- «يا علىّ، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلّا دفعناك برمّتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفّان. والله، لتفعلنّها، أو لنفعلنّها بك.»
__________
[1] . والله: الواو في «والله» سقطت من مط.
[2] . في مط: معر بن فدلى، والضبط في الطبري (6: 3330) فدكي.
[3] . في مط: البنسى.(1/538)
قال: «فاحفظوا عنّى مقالي، فإنّى آمركم بالقتال، وإن تعصوني، فافعلوا ما بدا لكم.» قالوا له: «فابعث إلى الأشتر! إمّا لا [1] ، فليأتك.» فأمسك علىّ. فنزل قوم فأحدقوا به.
فبعث إلى الأشتر يزيد بن هانئ السبيعي: أن ائتني. [10] فذهب، فأبلغه.
فقال: «ائته، فقل له: ليس هذه، الساعة، التي ينبغي أن تزيلني فيها عن موقفي.
إنّى قد رجوت أن يفتح الله لى، فلا تعجلني.» قال:
فرجع يزيد بن هانئ إلى علىّ، فأخبره. فما هو إلّا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج [2] ، وعلت الأصوات من قبل الأشتر.
فقال له القوم: «والله ما نراك إلّا أمرته أن يقاتل.» فقال علىّ: «من أين ينبغي أن تروا ذلك؟ رأيتمونى ساررته؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟» قالوا: «فابعث إليه بعزيمتك فليأتك، وإلّا- والله- اعتزلناك.» قال: «ويحك يا يزيد! عد إليه فقل له: أقبل [3] إلينا، فإنّ الفتنة قد وقعت.» فأتاه، فقال له ذلك. فقال الأشتر:
- «ألرفع المصاحف؟» قال: «نعم، أما الله، لقد ظننت حين رفعت، أنها ستوقع اختلافا وفرقة. إنّها مشورة ابن العاهرة. ألا ترى أنّ الفتح قد وقع؟ ألا ترى إلى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟»
__________
[1] . كذا في الأصل والطبري، وما في مط: أمثالا!
[2] . الرهج: الشغب، الفتنة، الجلبة، الشرّ.
[3] . أقبل: الكلمة مطموسة في الأصل، فأثبتناها كما في مط والطبري.(1/539)
قال يزيد بن هانئ: «أتحبّ أنك قد ظهرت هاهنا وأمير المؤمنين يقتل بمكانه، أو يسلّم إلى عدوّه؟» فقال: «لا والله، سبحان الله!» [11] قال: «فإنّهم قد قالوا: لترسلنّ إلى الأشتر، فليأتك، أو لنقتلنّك كما قتلنا ابن عفّان.»
مالك يضع القتال ويقبل، بعد أن رأى النصر
فأقبل معى الأشتر حتى انتهى إليهم، فقال:
- «يا أهل العراق، يا أهل الذلّ والوهن! أحين علوتم القوم ظفرا، وظنّوا أنّكم [1] لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد- والله- تركوا ما أمر الله به فيها، وسنّه من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، يا قوم، أمهلونى عدو الفرس، فإنّى قد رأيت النصر.» قالوا: «إذا ندخل معك في خطيئتك.» قال: «فحدّثونى عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقّين؟:
أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون، أم الآن أنتم محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم، في النار إذا!» قالوا: «دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله، وندع قتالهم لله. إنّا لسنا مطيعيك ولا صاحبك [2] ، فاجتنبنا.» فقال: «خدعتم والله، وانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب بعد أن غلبتم، فأجبتم. يا أصحاب الجباه السود، كنّا نظنّ صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى
__________
[1] . في الأصل: بكم، وما أثبتناه من الطبري (6: 3331) .
[2] . كذا في الأصل، ولعلّه: ولا مطيعي صاحبك. في مط: لسنا بطاعتك ولا صاحبك.(1/540)
لقاء الله! فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت. ألا [12] قبحا [1] لكم. يا أشباه النيب [2] الجلّالة! ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا. فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.» فسبّوه، وسبّهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وأقبل يضرب وجوه دوابهم بسوطه، وصاح بهم علىّ، فكفّوا [3] .
قبول الناس التحكيم، واستعلام معاوية
وتنادى الناس:
- «قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبين هؤلاء القوم حكما.» فجاء الأشعث بن قيس إلى علىّ وقال:
- «ما أرى الناس إلّا قد رضوا، وسرّهم أن تجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن. فإن شئت أتيت معاوية فاستعلمته ما يريد، فنظرت فيه.» قال: «ائته إن شئت، فسله.» فأتاه وقال: «يا معاوية، لأىّ شيء رفعتم المصاحف؟» قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله فيها، تبعثون منكم رجلا ترضون به، ونبعث منّا رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع جميعا ما اتفقا عليه.» فقال له الأشعث: «هذا الحقّ.» ثم انصرف إلى علىّ بما قال معاوية.
فقال الناس: «قد رضينا وقبلنا.»
__________
[1] . قبحا: كذا في الأصل والطبري (6: 3332) ، في مط: فتحا وهو خطأ.
[2] . النيب: جمع مفرده: الناب: الناقة المسنّة. والجلّالة: من الماشية: التي تأكل العذرة والجلّة، (أى: البعر والروث) .
[3] . فكفّوا: ما في الأصل غير واضح، وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط.(1/541)
قال أهل الشام:
- «فإنّا قد اخترنا عمرو بن العاص.» وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج [13] بعد:
- «فإنّا قد رضينا بأبى موسى الأشعرى.»
علىّ لا يرضى بأبى موسى والناس يأبون إلّا إيّاه
قال علىّ: «فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر، فلا تعصوني الآن. إنّى لا أرى أن أولّى أبا موسى.» قال الأشعث وزيد بن حصن الطائي ومسعر بن فدكي [1] :
- «لا نرضى إلّا به، فإنّه قد كان يحذّرنا ما وقعنا فيه.» قال علىّ: «فإنه ليس لى بثقة، قد فارقنى، وخذّل الناس عنّى، ثم هرب منّى حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس، أولّيه ذلك.» قالوا: «والله ما نبالى: أنت كنت، أم ابن عباس. ما نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء.» قال علىّ: «فإنّى أجعله الأشتر.» فقال الأشعث: «وهل سعّر الأرض غير الأشتر، وهل نحن إلّا في حكم الأشتر؟» قال علىّ: «وما حكمه؟» قال: «أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت.» قال: «فقد أبيتم إلّا أبا موسى.» قالوا: «نعم.»
__________
[1] . في مط: فدلى.(1/542)
قال: «فاصنعوا ما بدا لكم.» فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو يعرّض [1] . وأقبل الأشتر حتى جاء إلى علىّ فقال له:
- «ألزّنى [2] بعمرو بن العاص، فوالله الذي لا إله إلّا هو، لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه.» وجاء الأحنف بن قيس، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّك رميت بحجر الأرض، [14] وبمن حارب الله ورسوله أنف الإسلام، وهذا الرجل- يعنى أبا موسى- قد عجمته وحلبت [3] أشطره، فوجدته كليل [4] الشفرة [5] ، قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلّا رجل يدنو منهم، حتى يصير في أكفّهم، ويبعد، حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكما، فاجعلني ثانيا، أو ثالثا، فإنّه لن يعتقد عقدة إلّا حللتها، ولن يحلّ عقدة إلّا عقدت لك أخرى أحكم منها.» فأبى الناس إلّا أبا موسى.
فقال الأحنف: «فإن أبيتم إلّا أبا موسى فادفئوا ظهره بالرجال.» ثم كتبوا: «هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين.» فقال عمرو: «اكتبوا اسمه واسم أبيه. هو أميركم، فأما أميرنا، فلا.»
__________
[1] . في الأصل: يعرّض، وفي مط، يعرض، وما في الطبري (6: 3334) : بعرض. وعرض، بضم أوله، وسكون ثانيه: بلد في بريّة الشام، من أعمال حلب، بين تدمر والرصافة (مع) .
[2] . ألزّ الشيء بالشيء: ألصقه، شدّه، قرنه به.
[3] . حلب أشطره: جرّب أموره: خيرها وشرّها.
[4] . كليل: ما في الأصل غير واضح، وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط.
[5] . في مط: الشفر.(1/543)
ذكر رأى للأحنف
فقال الأحنف: «لا تمح اسم أمارة أمير المؤمنين، فإنّى أتخوّف إن محوتها، لا ترجع إليك، وإن قتل الناس بعضهم بعضا.» فأبى علىّ مليّا من النهار.
ثم إنّ أشعث بن قيس قال: «امح هذا الإسم، نزحه الله [1] .» فمحى، فقال علىّ:
- «الله أكبر، سنّة بسنّة، ومثل بمثل، والله، إنّى لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة، إذ قالوا: لا نشهد لك [15] أنك رسول الله، فامح هذا، واكتب اسمك واسم أبيك.
فكتبه.» فقال عمرو بن العاص: «نشبّه بالكفار ونحن مؤمنون.» فقال له علىّ: «يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّا، وللمسلمين عدوّا، وهل تشبه إلّا أمّا دفعت بك؟» فقام وقال: «لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا بعد هذا اليوم.» فقال علىّ: «وإنّى لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ومن أشباهك.» فقال الأحنف:
- «أيها الرجل، إنّه ما لك ما كان لرسول الله، وإنّا- والله- ما حابيناك ببيعتنا، ولو علمنا أحدا من الناس أحقّ بهذا الأمر منك لبايعناه، ثم قاتلناك، وإنّى أقسم بالله، لئن محوت هذا الإسم عنك، والذي بايعك الناس عليه وقاتلتهم، لا يعود إليك أبدا.» قال الحسن البصرىّ:
__________
[1] . نزحه الله: كذا في الأصل ومط، وفي الطبري (6: 3335) : برّحه الله. وفي حواشيه: ترحه الله! نزحه الله، أى: أبعده، وبرّحه الله: أزاله الله.(1/544)
وكان والله كما قال، وقلّ ما وزن رأيه برأى رجل إلّا رجح به.
مالك يأبى أن يخطّ اسمه في صحيفة التحكيم
وكتب الكتاب [1] ، وشهد فيه نفر من أصحاب علىّ ونفر من أصحاب معاوية.
ودعى له الأشتر، فقال:
- «لا صحبتني يميني، ولا نفعتني شمالي إن خطّ لى في هذه الصحيفة اسم على صلح، ولا موادعة. [16] أو لست على بيّنة من أمرى، ومن ضلال عدوّى؟
أولستم قد رأيتم الظفر، لو لم تجمعوا على الجور؟» فقال له الأشعث بن قيس:
- «إنك والله ما رأيت ظفرا، ولا جورا. هلمّ بك إلينا، فإنّه لا رغبة لك عنّا.» فقال: «بلى والله، الرغبة لى [2] عنك في الدنيا للدنيا، وفي الآخرة للآخرة. ولقد سفك الله بيدي دماء رجال ما أنت عندي خير منهم، ولا أحرم دما.» قال عمارة:
فنظرت إلى ذلك الرجل، وكأنما قصع على أنفه الحمم- يعنى الأشعث.
ثم خرج الأشعث بالكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم، حتى مرّ به عروة بن أذيّه [3]- وهو أخو بلال [4]- فقرأه عليهم.
فقال عروة: «تحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم إلّا لله.» وشدّ بسيفه، فضرب عجز دابته ضربة خفيفة، واندفعت الدابة. فصاح به أصحابه: أن املك يديك. فرجع، وغضب للأشعث أصحابه وقومه. فمشى إليه
__________
[1] . نصّ الكتاب تجده في الطبري (6: 3336) تحت عنوان: «رجع الحديث إلى حديث أبى مخنف.»
[2] . في الأصل: غير واضح، ويشبه أن يكون: الرغبة بى، وفي مط: الرغبة لى: وفي الطبري: لرغبة بى.
[3] . عروة بن أذيّه: كذا في الأصل ومط. وفي الطبري (6: 3339) : عروة بن أديّة، بالدال المهملة.
[4] . وهو أخو بلال: كذا في الأصل ومط، وما في الأصل: أخو أبى بلال.(1/545)
الأحنف بن قيس، ومسعود بن فدكي [1] ، وخلق من بنى تميم، فتنصّلوا إليه واعتذروا. فقبل، وصفح.
ذكر خديعة أجازها معاوية على نفسه وتمّت له
[17] وكان أسر معاوية في أسارى كثيرين، رجلا من أود، يقال له: عمرو بن أوس، قاتل مع علىّ، فهمّ بقتل الجميع.
فقال له عمرو بن أوس: «إنّك خالي، فلا تقتلني.» وقامت بنو أود، فقالوا: «هب لنا أخانا.» فقال: «دعوه. لعمري، لئن كان صادقا، ليستغنينّ عن شفاعتكم، ولئن كان كاذبا لتأتينّ شفاعتكم من ورائه.» فقال له: «من أين صرت خالك، وما كان بيننا وبين أود مصاهرة؟» قال: «فإن أخبرتك [2] ، فهو أمانى عندك؟» قال: «نعم.» قال: «ألست تعلم أنّ أمّ حبيبة بنت أبى سفيان زوج النبىّ- صلى الله عليه- أمّ المؤمنين؟» قال: «بلى.» قال: «فإنّى ابنها، وأنت أخوها، فأنت خالي.» قال معاوية: «ماله لله أبوه، أما كان في هؤلاء، من يفطن لها غيره؟» ثم قال للأوديّين:
- «استغنى عن شفاعتكم، فخلّوا سبيله» .
__________
[1] . مسعود بن مذكى: كذا في الأصل ومط، وما في الطبري مسعر بن فدكىّ (نفس الصفحة) .
[2] . فإن أخبرتك فهو أمانى عندك. كذا في الأصل ومط، وما في الطبري: فإن أخبرتك، فعرفته، فهو أمانى عندك. (نفس الصفحة) .(1/546)
وتمّت لمعاوية، وخوطب: «خال المؤمنين.» وكان عمرو بن العاص أسر أيضا أسارى كثيرة، فراسله معاوية:
- «خلّ سبيل أسرائك، فلولا الأودىّ لوقعنا في قبيح من الأمور.» فما شعر الناس إلّا بأسرائهم قد خلّى سبيلهم.
ما قاله علىّ لأصحابه
فأما علىّ بن أبى طالب فإنّه قال لأصحابه:
- «لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة، وأسقطت [18] منّة [1] ، وأورثت وهنا وذلّة.
ولما كنتم الأعلين، وخاب عدوكم، ورأى الاجتياح، واستحرّ بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفتؤوكم عنها، ويقطعوا الحرب في ما بينكم وبينهم، ويتربّصوا ريب المنون، خديعة، ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوكموه، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتجوروا [2] . وأيم الله، ما أظنّكم بعدها توافقون رشدا، ولا تصيبون باب حزم.» [3]
ذكر حيلة للمغيرة بن شعبة ليعلم: أيجتمع الحكمان، أم يفترقان
كان الحكمان- وهما أبو موسى وعمرو بن العاص، اتفقا على أن يجتمعا
__________
[1] . المنّة: القوّة.
[2] . تجوروا: كذا في الأصل ومط، وما في الطبري (6: 3340) : تجوّزوا. وفي حواشيه عن الأصول الأخرى: «تدهنوا وتجيروا» ، «تذهبوا وتحيروا» (مهملة) .
[3] . ولابن الأثير زيادة في أول هذه الرواية. ومن زيادته بيت أنشده علىّ ضمن كلامه قائلا: وكنت كما قال أخو هوازن: وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد(1/547)
بأذرح [1] ويحضر وجوه أصحاب علىّ، ووجوه أصحاب معاوية، ويحضر علىّ ومعاوية في أربعمائة، ومدّة الأجل إلى أن يفصلا الحكم، ويرفعا ما رفع القرآن، وأن يختارا لأمّة محمد- صلى الله عليه- في ثمانية أشهر، أوّلها النصف من صفر، وآخرها انقضاء شهر رمضان.
فلما اجتمع الحكمان، وافاهم المغيرة بن شعبة في من حضر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، في رجال كثير [19] ووافى معاوية في العدّة المذكورة، وأبى علىّ أن يوافى.
فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوى الرأى من قريش:
- «هل ترون أحدا من الناس برأى يبتدعه، يستطيع أن يعلم: أيجتمع الحكمان، أم يفترقان؟» قالوا: «لا نرى أحدا يعلم ذلك.» قال: «فوالله، إنّى لأظنّ، [أنّى] [2] سأعلمه منهما، [حين] [3] أخلو بهما، وأراجعهما.» فدخل على عمرو بن العاص، وبدأ فقال:
- «يا أبا عبد الله، أخبرنى عما أسألك عنه: كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنّا قد شككنا في الأمر الذي تبيّن لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأنى ونثبّت، حتى تجتمع الأمة.» قال: «أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار في سخط الله.» فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. حتى دخل على أبى موسى، فقال له مثل ما قال لعمرو.
__________
[1] . أذرح: بالذال المعجمة والحاء المهملة، اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة (ياقوت) .
[2] . في الأصل: بل. وما أثبتناه بين المعقوفتين من مط.
[3] . في الأصل: حتى. وما أثبتناه بين المعقوفتين من الطبري 6: 3342.(1/548)
فقال أبو موسى: «أراكم أثبت الناس رأيا، فيكم بقية [1] المسلمين.» فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. فلقى الذين قال لهم ما قال، من ذوى الرأى من قريش، فقال:
- «لا يجتمع هذان أبدا على أمر واحد.» فلما اجتمع الحكمان وتكلّما [20] قال عمرو بن العاص:
- «يا با موسى [2] ، أرأيت أول ما تقضى به من الحقّ أن تقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم.» قال أبو موسى: «وما ذاك؟» قال عمرو: «ألست تعلم أنّ معاوية وفي، وقدم للموعد الذي واعدناه؟» قال: «نعم.» قال: «أكتبها.» فكتبها أبو موسى.
ذكر الخديعة التي خدع بها عمرو أبا موسى
قال عمرو:
- «يا با موسى، أنت على أن تسمّى رجلا يلي أمر هذه الأمة، فسمّ لى، فإنّى أقدر أن أتابعك، منك، على أن تتابعني. [3] » قال أبو موسى:
- «أسمّى لك عبد الله بن عمر.» وكان ابن عمر في من اعتزله.
__________
[1] . كذا في الأصل ومط والطبري (نفس الصفحة) : بقيّة المسلمين، وفي حواشي الطبري عن بعض الأصول: بغية المسلمين.
[2] . كذا: «يا با موسى» .
[3] . فإنّى أقدر ... أن تتابعني: كذا في الأصل، وفي مط: فإنّى أقدر أن نبايعك، منك على أن تبايعنى. والعبارة في الطبري (6: 3342) : فإن أقدر على أن أتابعك، فلك علىّ أن أتابعك، وإلّا، فلي عليك أن تتابعني.(1/549)
فقال عمرو:
- «فأنا أسمّى لك معاوية بن أبى سفيان.» [1]
رواية أخرى في ذلك
وفي رواية أخرى: أنّ عمرا قال لأبى موسى:
- «ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما؟» قال: «أشهد.» قال: «ألست تعلم أنّ معاوية ولىّ دم عثمان؟» فقال: «بلى.» قال: «فإنّ الله قال: ومن قتل مظلوما، فقد جعلنا لوليّه سلطانا.» [2] فما يمنعك من معاوية ولىّ دم عثمان، وهو من عرفت بيته في قريش، وهو الحسن السياسة، الصحيح التدبير، وهو أخو أمّ حبيبة، أمّ المؤمنين، وهو أحد الصحابة وكاتب الوحى.» فقال له أبو موسى: «أما ذكرت من شرفه وبيته، فإنّ [21] هذا الأمر ليس بالشرف يولّاه أهله، ولو كان بالشرف، كان لآل أبرهة بن الصباح، إنما هو لأجل الدين والفضل.»
__________
[1] . هنا، زاد في الطبري: فلم يبرحا مجلسهما حتى استبّا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى:
- «إنّى وجدت مثل عمرو، مثل الذين قال الله عزّ وجلّ: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها.» [س 7 الأعراف، 174] فلما سكت أبو موسى، تكلّم عمرو، فقال:
- «أيها الناس، إنى وجدت مثل أبى موسى، كمثل الذين قال الله عزّ وجلّ: «مثل الّذين حمّلوا التّوراة، ثمّ لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفارا.» [س 62 الجمعة: 5] وكتب كلّ واحد منهما، مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار. (أنظر الطبري 6: 3343) .
[2] . س 17 الإسراء: 33.(1/550)
قال: «فاخلع صاحبك، حتى أخلع صاحبي، ثم نتّفق.» فاجتمعا على ذلك، وخرجا إلى الناس، وقالا:
- قد اتّفقنا.
فقال أبو موسى لعمرو: «تقدّم، فاخلع صاحبك بحضرة الناس.» فقال عمرو: «سبحان الله! أتقدّم عليك وأنت في موضعك وسنّك وفضلك؟
تقدّم أنت.» فقدّمه، فقال أبو موسى:
- «إنّا- والله، أيها الناس- قد اجتهدنا رأينا، ولم نأل [1] الإسلام وأهله خيرا، ولم نر أصلح لهذه الأمة من خلع هذين الرجلين، وقد خلعت عليّا ومعاوية كخلع خاتمي هذا.» فقام عمرو، فقال:
- «لكنّى خلعت صاحبه عليّا كما خلع، وأثبتّ معاوية.» فلم يبرحا حتى استبّا.
ذكر من خالف علىّ بن أبى طالب في رأيه، وأشار بالحرب عليه، وما كان من جوابه واعتذاره
لما انصرف علىّ بن أبى طالب من صفّين، كثر خوض الناس، وخالفه القوم الذين صاروا خوارج، وكانوا طول طريقهم يتدافعون، ويتضاربون بالسياط. فلما صاروا إلى النّخيلة [2] ورأوا سور الكوفة لقيه عبد الله بن وديعة الأنصارى، ودنا منه، وسلّم عليه، وسايره، [22] فقال له:
- «ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟»
__________
[1] . لم نأل: لم نعط. وذلك من قولهم: «ألا (يألو، ألوا وأليّا) فلانا الشيء: أعطاه إيّاه» .
[2] . النخيلة (تصغير نخلة) : موضع قرب الكوفة على سمت الشام (مع) .(1/551)
قال:
- «منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، كما قال الله عزّ وجلّ: ولا يزالون مختلفين، إلّا من رحم ربّك. [1] » فقال له: «فما قول ذى الرأى فيه.» فقال: «أما قول ذى الرأى فيه، فيقولون: إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه، وكان له حصن حصين فهدمه. فحتى متى يبنى ما هدم، وحتى متى يجمع ما فرّق. فلو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك، كان ذلك الحزم.» فقال علىّ:
- «أنا هدمت أم هدموا، أنا فرّقت أم فرّقوا؟ أما قولهم: إنّه لو كان مضى بمن أطاعه إذا عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك كان ذلك الحزم، فوالله ما غبي [2] ذلك علىّ، وإنّى كنت سخيّا بنفسي عن الدنيا طيّب النفس بالموت. ولقد هممت بالإقدام على القوم، فنظرت إلى هذين قد ابتدرانى- يعنى الحسن والحسين- ونظرت إلى هذين قد استقدماني- يعنى محمد بن علىّ وعبد الله بن جعفر- فعلمت أنه إن هلكا انقطع نسل محمد، فكرهت ذلك، وأشفقت على هذين أن يهلكا. وأيم الله، لئن لقيتهم بعد يومى هذا [23] لألقينّهم [3] وليس معى أحد منهم.»
__________
[1] . س 11 هود: 118.
[2] . غبي: مطموسة النقط في الأصل ومط، والإعجام من الطبري 6: 3346، والعبارة في الطبري: «فوالله ما غبي عن رأيى ذلك وإن كنت لسخيّا بنفسي عن الدنيا ... » ، وفي بعض الأصول: «.. ما خفى هذا عنّى» .
[3] . في مط: ألاقينهم، والعبارة في الطبري: «لألقينّهم، وليسوا معى في عسكر، ولا دار.»(1/552)
بكاء النساء على القتلى وما قاله علىّ لابن شرحبيل
ثم مضى غير بعيد، فمرّ بالشباميّين [1] ، فسمع رجّة شديدة وبكاءا كثيرا، فوقف، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له علىّ:
- «أيغلبكم [2] نساؤكم؟ ألا تنهنهونهنّ عن هذا الرنين؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، لو كانت دارا أو دارين، قدرنا على ذلك، ولكنّه قتل من هذا الحىّ مائة وثمانون قتيلا، ليس دار إلّا فيها بكاء. فأما نحن معاشر الرجال، فإنّا لا نبكي، ولكننا نفرح، أمّا نفرح بالشهادة.» فقال: «رحم الله قتلاكم وموتاكم» .
فأقبل يمشى معه وعلىّ راكب. فوقف وقال له:
- «إرجع، فإنّ مشى مثلك معى فتنة للوالي، ومذلّة للمؤمن.»
مروره بالناعطيّين، وما قاله فيهم
ثم مضى، حتى مرّ بالناعطيّين، فسمع رجلا منهم يقال له: عبد الرحمان بن مزيد، يقول لآخر:
- «والله ما صنع علىّ شيئا: ذهب، ثم انصرف في غير شيء.» فلما نظروا إلى علىّ أبلسوا [3] ، فقال: «وجوه ما رأوا الشام.» ثم أقبل على أصحابه، فقال:
- «قوم فارقناهم آنفا، خير من هؤلاء.»
__________
[1] . في مط: الشامتين، بدل: الشباميّين.
[2] . أيغلبكم نساؤكم: كذا في الأصل والطبري (6: 3348) ، وفي مط: أتغلبكم نساؤكم.
[3] . أبلس: سكت الحيرة، أو انقطاع حجة.(1/553)
ثم أنشد:
أخوك الذي إن أجرضتك [1] ملمّة ... من الدهر، لم يبرح لبثّك واجما [2]
وليس أخوك بالذي إن تشعّبت ... عليك أمور ظلّ يلحاك دائما [3]
[24] ثم مضى، فلم يزل يذكر الله، حتى دخل القصر.
تشاتم القوم واضطرابهم بالسياط
ثم إنّ القوم الذين كانوا معه يتشاتمون طول طريقهم، ويضطربون بالسياط، ويقول بعضهم لبعض:
- «أدهنتم في أمر الله، وحكّمتم.» ويقول قوم:
- «فرّقتم جماعتنا، وفارقتم إمامنا.»
مفارقة الخوارج عليّا نزولهم بحرورى وعدم دخولهم الكوفة مع علىّ
لم يدخلوا معه الكوفة حتى أتوا حروري [4] ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا.
__________
[1] . كذا في الأصل والطبري: أجرضتك، وفي مط: أجرصتك. أجرضتك ملمّة: جعلتك تجرض بريقك أى تبتلع ريقك بالجهد على همّ وحزن.
[2] . في مط: لثبات واحما. وهو خطأ، وما في الأصل غير واضح، فأثبتناه في ضوء ما في الطبري (6:
3349) ، والبثّ: الحزن الشديد.
[3] . في الطبري: ويلحاك: يلومك ويعذلك. تجد البيتين في ديوانه المنسوب (ص 532) .
[4] . حروري: كذا في الأصل ومط. وما في الطبري (6: 3349) : حروراء (بالمد) : قرية بظاهر الكوفة، وقيل موضع على ميلين منها (مع) .(1/554)
فنادى مناديهم:
- «إنّ أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.»
ما دار بين شيعة علىّ والخوارج عند دخوله الكوفة
ولما دخل علىّ الكوفة، وفارقته الخوارج، وثبت إليه شيعته وقالوا:
- «في أعناقنا لك بيعة ثانية. نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت.» فقال بقيّة الخوارج:
- «استبقتم أنتم وأهل الشام في الكفر، كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّوا وكرهوا، وبايعتم عليّا [على] [1] أنكم أولياء من والى، وأعداء من عادى.» فقال لهم زياد بن النضر [2] :
- «والله يا قوم، ما بسط علىّ يده فبايعناه قطّ، إلّا على كتاب الله وسنّة نبيّه، ولكنّكم لما خالفتموه جاءته شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، [25] وأعداء من عاديت. ونحن كذلك، وهو هاد، ومن خالفه ضالّ.»
ذكر احتجاج الخوارج مع علىّ عليه السلام
أتى علىّ بن أبى طالب رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي [3] وحرقوص بن زهير السعدي، فدخلا عليه، فقالا له:
__________
[1] . على: سقطت من الأصل، وموجودة في مط والطبري 6: 3350.
[2] . في مط: زياد بن النصر (بالصاد المهملة) ، والأصل يوافق الطبري.
[3] . في مط: زرعة بن مرج الطارئى؟ وهو خطأ. وما في الطبري (6: 61- 3360) يوافق الأصل.(1/555)
- «لا حكم إلّا لله.» فقال علىّ: «لا حكم إلّا لله.» فقال حرقوص: «فتب من خطيئتك، وارجع عن قضيّتك، واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، حتى نلقى ربنا.» فقال علىّ: «قد أردتكم على ذلك فعصيتموني. وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إنّ الله يعلم ما تفعلون» [1] فقال له حرقوص: «ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.» فقال علىّ: «ما هو ذنب، ولكنّه عجز من الرأى، وضعف في العقل، وقد تقدّمت فنهيتكم عنه.» فقال له زرعة: «أما والله، يا علىّ، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنّك.» فقال علىّ: «يوسى [2] لك، ما أشقاك [25] كأنّى بك قتيلا تسفى عليك الريح.» قال: «وددت أن قد كان ذاك.» فخرجا من عنده يحكّمان.
صياح أثناء خطبته
ثم إنّ عليّا خطب ذات يوم. فإنّه لفي خطبته، إذ صاح صائح من جانب المسجد:
- «يا علىّ، لا حكم إلّا لله.»
__________
[1] . س 16 النخل: 91.
[2] . في مط: بوس لك.(1/556)
فقال علىّ: «الله أكبر، كلمة حقّ يراد بها باطل. إن سكتوا غممناهم [1] ، وإن تكلّموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم.» فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال:
- «الحمد لله، اللهمّ إنّا نعوذ بك من إعطاء الدنيّة في ديننا. يا علىّ، أبالقتل تخوّفنا؟ أما والله، إنّى لأرجو أن نضربكم بها عما قليل، غير مصفّحات، ثم لنعلم أيّنا أولى بها صليّا. [2] » فقال علىّ:
- «أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم:» «لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.» «ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم فيه مع أيدينا.» «ولا نقاتلكم حتى تبدأونا.» ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته.
وخرج الرجلان يحكّمان، واجتمع معهم قوم. فبعث علىّ عبد الله بن العباس، وقال له:
- «لا تعجل إلى جوابهم حتى آتيك.»
ذكر ما جرى بينهم من الجدال ورجوعهم مع علىّ وهذه الدفعة الأولى من خروجهم
[27] فخرج ابن عباس إليهم، فأقبلوا يكلّمونه. فلم يصبر حتى راجعهم، فقال:
- «ما الذي نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عزّ وجلّ: فابعثوا حكما من أهله
__________
[1] . نقطة الحرف الأوّل غير واضحة في الأصل. ابن الأثير (3: 334) : غممناهم. في الطبري (6: 3361) :
عمناهم.
[2] . وفي التنزيل: «ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّا» . س 19 مريم: 70.(1/557)
وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما [1] ، فكيف بأمّه محمد، صلّى الله عليه؟» فقالت الخوارج: «أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه والإصلاح له، فهو إليكم كما أمر به، وأمّا ما حكم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، وليس لأمثال هذا أن ينظر فيه مخلوق.» قال ابن عباس: «فإنّ الله يقول: يحكم به ذوا عدل منكم. [2] » فقالوا له: «أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟» وقالت الخوارج: «قلنا له، فهذه الآية بيننا وبينك. أعدل عندك ابن العاص، وهو يقاتلنا، ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا عدلا، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا. ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابا جعلتم نيّتكم الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله تعالى الاستفاضة [28] والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، إلّا من أقرّ بالجزية.» ثم خرج علىّ حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال:
- «انته عن كلامهم! ألم أنهك- رحمك الله؟» ثم تكلّم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
- «اللهمّ، إنّ هذا مقام، من فلج [3] فيه، كان أولى بالفلج [4] يوم القيامة، ومن
__________
[1] . س 4 النساء: 35.
[2] . س 5 المائدة: 95.
[3] . فلج: نقطة الجيم زائلة في الأصل، فأثبتناها كما في الطبري 6: 3352، والكامل 3: 328. فلج بحجته:
أحسن الإدلاء بها وغلب خصمه. ويقال: فلجت حجته.
[4] . أيضا في الأصل: الفلح، بالحاء المهملة، فاعجمناها كما في مط والطبري والكامل.(1/558)
نطف [1] فيه، أو وعث [2] ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا [3] .» ثم قال: «من زعيمكم؟» قالوا: «ابن الكوّاء.» قال علىّ: «فمن أخرجكم علينا.» قالوا: «حكومتكم يوم صفّين.» قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبكم [4] إلى كتاب الله، قلت لكم: إنى أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا. امضوا على حقكم وصدقكم. فلما رفع القوم لكم المصاحف خديعة ودهنا [5] ومكيدة، فرددتم علىّ رأيى وقلتم: لا بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي ومعصيتكم إيّاى. فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن. فإن حكما حكم القرآن [29] فليس لنا أن نخالف حكمه، وإن أبينا، فنحن [6] منه برءاء» .
فقالوا له: «فخبّرنا: أتراه [7] عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟» فقال: «إنّا لسنا الرجال حكّمنا، إنّما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق، إنما يتكلّم به الرجال.» قالوا: «فخبّرنا عن الأجل: لم جعلته في ما بينك وبينهم؟»
__________
[1] . نطف: كذا في الأصل ومط. نطف: أتّهم بريبة. وفي الطبري: نطق. وهو تصحيف.
[2] . كذا في الأصل: وعث. وفي مط: أرعث. وعث المتكلّم: عجز عن الكلام، خلّط.
[3] . «فهو ... سبيلا» : اقتباس من س 17 الاسراء: 72.
[4] . كذا في الأصل: فقلتم نجيبكم. وفي مط والطبري: فقلت نجيبهم.
[5] . كذا في الأصل والطبري: دهنا. وما في مط، وابن الأثير: وهنا.
[6] . كذا في الأصل: منه. وفي مط: بدون «منه» . وما في الطبري (6: 3353) : فنحن من حكمهما برءاء.
[7] . في مط: فخيرنا اقراه. وهو خطأ.(1/559)
قال: «ليعلم الجاهل، ويثبت العالم. ولعلّ الله يصلح في هذه المدة هذه الأمة، ادخلوا مصركم، رحمكم الله.» فدخل القوم من عند آخرهم.
ابتداء يوم النهر
ثم اجتمعوا بالكوفة، وتذكروا أمرهم، وكاتبوا إخوانهم بالبصرة، وتواعدوا ليوم يخرجون فيه إلى المدائن، ومنها إلى النهر. ففعلوا ذلك، واستعرضوا الناس، وقتلوا عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ [1] ، وبلغ ذلك عليّا، فسار إليهم. ثم لما اجتمعوا كلّمهم واستعطفهم. فأبوا إلّا قتاله، وجرت بينهم مخاطبات تركت ذكرها.
ثم تنادوا أن:
- «دعوا مخاطبة علىّ وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.» فصاحوا:
- «الرواح الرواح إلى الجنة!»
علىّ يعبّئ ويرفع راية أمان
فعبّى علىّ- عليه السلام- أصحابه، ورفع راية أمان مع أبى أيوب [30] الأنصارى، فناداهم أبو أيوب فقال:
- «من جاء هذه الراية منكم، ممن لا يقتل ولا يستعرض، فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة، أو المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن. إنه لا
__________
[1] . في مط: حباب بن الأدت (بالدال المهملة) . في الأصل: حباب بن الأرت. وفي الأصول: خبّاب بن الأرتّ (بتشديد الباء والتاء) . ذبحته عصابة من الخوارج على ضفة النهر قرب النهروان، وبقروا بطن امرأته، وهي حبلى، كما قتلوا ثلاث نسوة من طيّء، وقتلوا أمّ سنان. (أنظر الطبري 6: 3374، وابن الأثير 3: 340) .(1/560)
حاجة لنا- بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم- في سفك دمائكم.» فقال فروة بن نوفل الأشجعى:
- «والله ما أدرى: على أىّ شيء، أقاتل علىّ بن أبى طالب.» فانصرف في خمسمائة فارس. وخرج إلى علىّ منهم نحو ذلك. وكانوا أربعة آلاف، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي.
وكان علىّ قدّم الخيل دون الرجال، وصفّ الناس وراء الخيل صفّين، وصفّ المرامية أمام الصفّ الأول، وقال لأصحابه:
- «كفّوا عنهم حتى يبدءوكم، فإنّهم لو قد شدّوا عليكم وخلفهم رجال [1] ، لم ينتهوا إليكم إلّا لاغبين [2] ، وأنتم له قارّون حامّون [3] .» فأقبل الخوارج وهم يتنادون:
- «الرواح الرواح إلى الجنّة.» وشدّوا، فلم تثبت خيل علىّ لشدّتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة. وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية [31] وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبّثوهم أن أناموهم عن آخرهم.
قال حكيم بن سعد:
ما هو إلّا أن لقينا أهل النهر، فما لبّثناهم، كأنّما قيل لهم: موتوا! فماتوا.
ولم يقتل من أصحاب علىّ إلّا سبعة، واستخرج ذو الثديّة، على الحكاية المعروفة، وخبره مشهور. وانصرف علىّ إلى معكسره بالنخيلة من ظاهر الكوفة، وأمر الناس أن يسيروا على تعبئتهم إلى الشام.
__________
[1] . كذا في الأصل ومط: وخلفهم رجال. وفي الطبري (6: 3381) : وجلّهم رجال.
[2] . كذا في الأصل والطبري: لاغبين. وفي مط: لاعتين.
[3] . كذا في الأصل ومط: وأنتم له قارّون حامّون. وما في الطبري: رادّون حامون.(1/561)
استبدال الشام بالنهر
وقد كان علىّ همّ بالخروج إلى الشام قبل. فلما عظمت الشوكة من الخوارج، وأخذوا في الاستعراض، وقتلوا الصالحين، قال الناس:
- «يا أمير المؤمنين، علام تخلّف هؤلاء المارقة وراءنا، يخلفوننا في أبنائنا ونساءنا بالقتل، فنبدأ بهم.
ولما انصرف إلى معسكره بالنخيلة، أمرهم أن يوطّنوا أنفسهم على الجهاد، وأن يسيروا إلى عدوهم. فتسلّلوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا قليلا من وجوه الناس، وترك المعسكر.
فلما رأى ذلك علىّ، دخل الكوفة، وانكسر عليه [32] رأيه في المسير، وذلك في سنة ثمان وثلاثين.
ثم جرت بين علىّ وأصحابه خطوب ومخاطبات يستنهضهم ويأبون [1] ، ويخطب فيهم ويستمدّهم، ويستدعى نصرهم، ويستبطئهم، فيتثاقلون، وخطبه مشهورة معروفة.
إلى أن طمع معاوية في العراق، وبثّ دعاته سرّا وجهرا إلى البصرة يطلب دم عثمان، وسرّب خيله في أطراف علىّ- عليه السلام- فأنفذ النعمان بن بشير في ألفى رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب في ألف رجل من قبل علىّ. فلما سمع القوم به، تسلّلوا إلى الكوفة حتى بقي مالك في مائة رجل، وكتب إلى علىّ يخبره، واستمدّه.
فخطب علىّ، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا. فواقعهم مالك في من تبعه، وأمر أصحابه أن يجعلوا حيطان المدينة في ظهورهم ويقاتلوا. وكتب إلى محنف بن
__________
[1] . ويأبون...... ويستبطئهم: سقطت من مط.(1/562)
سليم أن يمدّه وهو قريب منه وقاتلهم ابن كعب في العصابة التي معه أشدّ قتال يكون.
اتفاق جيّد وقع لمالك حتى هزم النعمان ومن معه
[33] ووجّه محنف ابنه إليه، عبد الرحمان [1] ، في خمسين رجلا. فانتهوا إلى مالك وأصحابه وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا. فلما رءاهم أهل الشام، وذلك عند المساء، ظنّوا أنّ لهم مددا، فانهزموا، واتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، ومضوا على وجوههم. فأما غيره من سرايا معاوية، فإنّهم كانوا يظفرون ويقتلون ويغنمون وينصرفون.
وأما من حصل من قبل بالبصرة لأجل التضريب بين الناس، فإنّه بلغ ما أراد، ووقعت الفتنة والعصبية، فطمع أهل فارس، وكرمان في عمّال علىّ، فغلب أهل كلّ ناحية على ما يليهم، فأخرجوا عمّالهم.
فاستشار علىّ أصحابه في من يضبط به فارس وكرمان. فقال ابن عباس:
- «أدلّك على رجل صليب الرأى عالم بالسياسة، كاف، ولىّ.» قال: «من هو؟» قال: «زياد.» قال: «هو لها.» فتوجّه ابن عباس إلى عمله بالبصرة. وكان زياد يخلفه بها. فضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وولّى فارس، فدوّخها حتى استقاموا. [34]
__________
[1] . كذا في الأصل ومط: ابنه إليه عبد الرحمان.(1/563)
ذكر سياسة زياد لهذا الوجه
حدّث قوم من أهل فارس قالوا:
ورد زياد نواحي فارس، وهي تضطرم. فلم يزل يبعث إلى رؤسائها، يعد من نصره ويمنّيه، ويخوّف من خالفه ويوعده، ويضرّب بعضهم ببعض، ويدارى من يرى مداراته، حتى دلّ بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، يقتل بعضها بعضا، حتى صفت له فارس، فلم يلق فيها جمعا، ولا حربا، ولم يقف موقفا واحدا للقتال. وفعل مثل ذلك بكرمان حتى صفت أيضا له.
فقال الناس:
- «ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان، من سيرة هذا العربىّ، في اللين، والمداراة، والعلم بما يأتى.»
دخول بسر بن أرطاة المدينة ومكة وهروب عمّال علىّ
ثم كثرت غارات معاوية على أطراف علىّ، ووجّه بسر بن أرطاة إلى الحجاز.
فدخل المدينة ومكة، وهرب عمال علىّ، وقتل شيعة علىّ. ومضى نحو اليمن، وكان على [35] اليمن عبيد الله بن العباس، فهرب إلى الكوفة، واستخلف عبد الله بن عبد المدان، فأتاه بسر [1] ، فقتله، ولحق ثقل [2] عبد الله وفيه ابنان له صغيران، فقتلهما، وبلغ ذلك عليّا، فوجّه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين.
__________
[1] . في مط: بشر.
[2] . كذا في الأصل: ثقل عبد الله. وفي الطبري (6: 3452) : ثقل عبيد الله. والثقل: المتاع، والشيء النفيس الخطير. وفي مط: قفل عبيد الله. والقفل: القافلة.(1/564)
فسار جارية حتى أتى نجران، وقتل خلقا من شيعة عثمان، وهرب بسر منه، وتبعه حتى دخل مكة والمدينة، وأرجف الناس بموت علىّ. فأخذ الناس ببيعة الحسن بن علىّ، فأبوا، ثم خافوه، فبايعوه، فأقام [1] مدة، ثم انصرف إلى الكوفة.
العراق لعلىّ، والشام لمعاوية
ثم جرت مكاتبات كثيرة بين علىّ- عليه السلام- وبين معاوية، استقرّ آخرها على وضع الحرب بينهما، ويكون لعلىّ العراق، ولمعاوية الشام، لا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش، [ولا غارة] [2] ولا غزوة، وأن يضعا السيف، ولا يريقا دماء المسلمين، فتراضيا على ذلك.
تحالف الخوارج لقتل علىّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص
واجتمع بعد ذلك نفر ممن يرى رأى الخوارج، فتذاكروا أصحاب النهر، وترحّموا عليهم، وعابوا ولاتهم، وقالوا:
- «ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو قتلنا أئمة الضلال، لرجونا الأجر والثواب.» فتحالف عبد الرحمان بن ملجم، والبرك بن عبد الله، [36] وعمرو بن بكر التميمي أن يأتى كلّ واحد منهم واحدا من الأئمة الثلاثة يعنون: عليّا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، فيغتالونهم.
فأمّا ابن ملجم فقال: «أنا أكفيكم علىّ بن أبى طالب.» وكان من أهل مصر.
وقال البرك بن عبد الله: «أنا أكفيكم معاوية.» وقال عمرو بن بكر: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.»
__________
[1] . في الأصل ومط: فأقاموا. والعبارة في الطبري (6: 3452) : فبايعوه، و «أقام» يومه، ثم خرج منصرفا إلى الكوفة..
[2] . ما في [] تكملة من الطبري 6: 3453.(1/565)
فتعاهدوا، وتواثقوا، وأخذوا أسيافهم وسمّوها، واتّعدوا لسبع عشرة من شهر رمضان، أن يثب كلّ واحد منهم على صاحبه الذي توجّه له.
ما جرى بين ابن ملجم وقطام في الكوفة وتعاونهما على قتل علىّ
فأما ابن ملجم، فإنّه دخل الكوفة، ورأى امرأة يقال لها: قطام، وكان علىّ قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال، فالتبست بعقله، ونسى حاجته التي جاء لها، فخطبها، فقالت [1] :
- «لا أتزوّجك حتى تشترط إلىّ.» فقال: «ما شرطك؟» قالت: «ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة [2] ، وقتل علىّ!» قال: «هو لك، وو الله ما وردت إلّا لقتل علىّ.» قالت: «فأنا ألتمس لك من يساعدك على أمرك.» فطلبت له رجلا من قومها، والتمس عبد الرحمان آخر، فصاروا ثلاثة، وأخذوا أسيافهم في الليلة [37] التي واعد عبد الرحمان بن ملجم أصحابه، وجلسوا مقابلي السدّة التي يخرج منها علىّ للصلاة.
فلما خرج، ضربه ابن ملجم، وأقرنه [3] ، وهرب، وتصايح الناس، فأخذ ابن ملجم، وحمل إلى علىّ.
فلما رءاه، قال: «أى عدوّ الله! ألم أحسن إليك؟»
__________
[1] . في الأصل: فقال (بالتذكير) وهو سهو من الكاتب. وفي مط: فقالت.
[2] . القينة: الأمة، صانعة أو غير صانعة، وغلب على المغنّية. والقينة والمقيّنة: الماشطة التي تزيّن النساء.
[3] . أقرنه: أقرنه، وقرنه أى: ضربه على قرني رأسه، وقرن الرجل: حدّ رأسه وجانبه. والعبارة في الطبري (6: 3459) : وضربه ابن ملجم في قرنه بالسيف.(1/566)
قال: «بلى.» قال: «فما حملك على هذا؟» قال: «شحذته أربعين صباحا، فسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه.» فقال علىّ:
- «لا أراك إلّا مقتولا به [1] ، ولا أراك إلّا شرّ خلق الله.» ثم مات علىّ بن أبى طالب- عليه السلام- وذلك في شهر [2] رمضان سنة أربعين.
قتل ابن ملجم وحرقه
وأحضر الحسن بن علىّ بن أبى طالب- عليهما السلام- ابن ملجم. فلما دخل عليه، قال:
- «هل لك في خصلة [3] ؟ إنّى والله ما أعطيت الله عهدا إلّا وفيت به، وكنت أعطيت الله عهدا عند الحطيم [4] أن أقتل معاوية وعليّا، أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بيني وبينه، ولك الله علىّ إن لم أقتله، أو قتلته ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك.» فقال له الحسن:
- «أما والله، حتى تعاين النار فلا!» ثم قدّمه، فضرب عنقه. ثم أخذه الناس، فأدرجوه في بوارىّ [5] ، ثم أحرقوه
__________
[1] . به: ليست في مط.
[2] . في مط: شهر الله رمضان.
[3] . الخصلة: خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رذيلة.
[4] . الحطيم: قال ابن عباس: الحطيم الجدار، بمعنى جدار الكعبة. ابن سيدة: الحطيم حجر مكة مما يلي الميزاب، سمّى بذلك لانحطام الناس عليه، وقيل: إنهم كانوا يحلفون عنده في الجاهلية فيحطم الكاذب وهو ضعيف. الأزهرى: الحطيم: الذي فيه المرزاب، وإنما سمّى حطيما، لأنّ البيت رفع، وترك ذلك محطوما (لع) .
[5] . البوارىّ: جمع مفرده الباري. والبارىّ والباريّة والبارياء والبوريا: الحصير. (فارسي معرّب) .(1/567)
بالنار.
ما كان من أمر برك ومعاوية
وأمّا البرك، فإنّه قعد لمعاوية، فلما [38] خرج للصلاة، ضربه بالسيف، فوقع في أليته [1] ، فأخذ فقال:
- «إنّ عندي خبرا أسرّك به، فإن أخبرتك، أينفعنى ذلك؟» قال: «نعم.» قال: «إنّ عليّا قتله أخ لى في هذه الليلة.» وحدّثه الحديث.
قال: «فلعلّه لم يقدر على ذلك.» قال: «بلى، إنّ عليّا يخرج وحده، وليس معه من يحرسه.» فأمر به معاوية، فضربت عنقه.
ما كان من أمر عمرو بن بكر، وعمرو بن العاص
وأمّا عمرو بن بكر، فجلس لعمرو بن العاص، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن أبى حبيبة، وكان على شرطه، ليصلّى بالناس. فخرج، وشدّ عليه ابن بكر، وهو يرى أنه عمرو، فضربه فقتله. فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو، وسلّموا عليه بالإمرة، فقال:
- «من هذا؟» قالوا [2] : «عمرو.» قال: «فمن قتلت؟»
__________
[1] . الألية: العجيزة، أو ما ركبها من شحم ولحم.
[2] . في الأصل: قال. في مط: قالوا. فأثبتنا ما في مط.(1/568)
قالوا: «خارجة.» قال: «والله يا فاسق، ما ظننته غيرك.» قال عمرو: «أردتنى، وأراد الله خارجة.» وقدّمه عمرو، وقتله.
ما قالته عائشة في قتل علىّ
ولما انتهى إلى عائشة قتل علىّ، قالت:
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وقالت: «من قتله؟» قيل: «رجل من مراد.» قالت: [39]
فإن يك نائيا، فلقد نعاه ... نعاة ليس في فيها التّراب
أسماء كتّاب علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليه
كتب له سعيد بن نمران الهمداني، وكان يكتب له عبد الله بن جعفر أيضا، وعبيد الله بن أبى رافع.
وحكى عن عبيد الله أنه قال: كتبت بين يدي علىّ عليه السلام- فقال:
- «ألق [1] دواتك، وأطل سنّى قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط [2] بين
__________
[1] . ألق: من قولهم: ألاق الدواة: جعل لها ليقة، وأصلح مدادها. والليقة: صوفة الدواة.
[2] . قرمط بين الحروف: جعلها متقاربة.(1/569)
الحروف.» وكنّا ذكرنا أنه استكتب زيادا على خراج البصرة وديوانها لمّا استخلف ابن عباس عليها.
ولزياد سياسات يصلح أن تذكر في هذا الكتاب، فإنّا إنما نذكر كتّاب الخلفاء لأجل ما عزمنا على ذكر سياستهم، ولم يمض إلى هذا الوقت أحد منهم عرفت له سياسة غير زياد، ونحن نذكر ذلك في آخر أيّام معاوية، إن شاء الله
.(1/570)
بيعة الحسن بن علىّ
وبويع الحسن بالخلافة في سنة أربعين [1] ، وأوّل من بايعه قيس بن سعد [2] ، وكان قيس على مقدّمة أهل العراق، ويقال: إنّهم كانوا أربعين ألفا، بايعوا عليّا على الموت.»
نزع قيس وتأمير عبيد الله بن عبّاس
ولمّا قتل علىّ، واستخلف [40] أهل العراق الحسن، كان الحسن لا يريد القتال، ولكنّه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثمّ يدخل في
__________
[1] . أنظر الطبري (7: 1) ، والمسعودي (2: 426) ، وابن الأثير (3: 402) .
[2] . في الطبري (7: 1) : وقيل: إنّ أوّل من بايعه قيس بن سعد، قال له:
- «ابسط يدك أبايعك على كتاب الله، وسنّة نبيّه، وقتال المحلّين.» فقال له الحسن- رضى الله عنه:
- «على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ ذلك يأتى من وراء كلّ شرط.» فبايعه، وسكت، وبايعه الناس. وفي الطبري أيضا: فطفق يشترط عليهم الحسن:
- «إنّكم سامعون، مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت.» فارتاب أهل العراق في أمرهم، حين اشترط عليهم هذا الشرط، وقالوا:
- «ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال ... » (7: 5) .(1/571)
الجماعة. [1] وعرف الحسن أن قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه، فنزعه، وأمر عبيد الله بن عبّاس، وعلم عبيد الله بالذي يريد الحسن أن يأخذ لنفسه. فكتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب، فشرط له ذلك معاوية.
ذكر مكيدة لمعاوية
يقال: إنّ معاوية دسّ إلى عسكر الحسن بن علىّ، حين نزل المدائن، وعلى مقدمته قيس بن سعد في اثنى عشر ألفا، وذلك قبل أن ينزعه، وكان معاوية أقبل من الشام، فنزل مسكن [2] ، فدسّ معاوية من نادى في عسكر الحسن:
- «ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل، فانفروا!» فنفروا بسرادق الحسن، حتّى نازعوه بساطا كان تحته، وجرحوه، فخرج الحسن حتّى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن.
كتاب كتبه الحسن إلى معاوية في الصلح
وكتب حينئذ الحسن بن علىّ إلى معاوية يطلب الأمان، فقال الحسن للحسين وعبد الله بن جعفر:
- «إنّى كتبت إلى معاوية في الصلح.» فقال له الحسين:
__________
[1] . عن الطبري (7: 1) .
[2] . مسكن (على وزن: مسجد) : أصله: موضع السكنى، وذلك يقال له أيضا: مسكن، (بفتح الكاف) ، قال:
وهو موضع من أوانا على نهر دجيل عند دير جاثليق، به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان، ومصعب بن الزبير، وقتل به مصعب، وقبره هناك. قلت [والقائل صاحب المراصد] : مسكن اسم للطسوج الذي منه أوانا من أعمال دجيل، والموضع الذي به قبر مصعب على جانب به الآن، وجبل به الآن قرية، ودير الجاثليق قريب منه (مع) .(1/572)
- «أنشدك الله أن تصدّق [41] أحدوثة معاوية، وتكذّب أحدوثة علىّ.» فقال الحسن:
- «اسكت، فإنّى أعلم بالأمر منك.» واشترط الحسن على معاوية:
على أن يجعل له ما في بيت ماله.
وخراج دارابجرد.
وعلى أن لا يشتم علىّ وهو يسمع.
وكان الذي في بيت المال بالكوفة خمسة آلاف ألف. [000، 000، 5]
ذكر حيلة واتّفاق طريف في هذا الشرط
كان معاوية أرسل قبل أن ترد عليه صحيفة الحسن بالشرط، بصحيفة بيضاء مختوم [1] على أسفلها، وكتب إليه أن:
- «اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك.» ولمّا أتت الحسن هذه الصحيفة، اشترط فيها أضعاف الشروط التي كان سألها قبل ذلك، وأمسكها عنده، وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كان كتبها. فلمّا التقى معاوية والحسن، سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي في السجل الذي ختمه معاوية في أسفله، فأبى معاوية أن يعطيه، وقال:
- «ما لك إلّا ما سألتنيه بخطّك.» فاختلفا، وتنازعا، ولم ينفّذ للحسن من تلك الشروط شيئا.
معاوية يكايد قيس بن سعد
ثمّ إنّ الناس اجتمعوا إلى قيس بن سعد، وتعاقدوا [42] على قتال معاوية.
__________
[1] . كذا في الأصل ومط والطبري (7: 5) : مختوم. وفي حاشية الطبري: مختومة.(1/573)
فلمّا فرغ معاوية من عبيد الله والحسن، خلص إلى مكايدة رجل هو أهمّ إليه، وأبلغ مكيدة، ومعه أربعون ألفا. فراسله يذكّره بالله، ويقول له:
- «على طاعة من تقاتل؟ قد بايعنى الذي أعطيته طاعتك.» وأبى قيس أن يلين له حتّى بعث إليه معاوية بسجلّ ختم في أسفله، وقال:
- «أكتب ما شئت في هذا السجل، فهو لك.» واشترط قيس له ولشيعة علىّ الأمان، على ما أصابوا من الدماء، والأموال، ولم يسأل معاوية في سجلّه ذلك مالا، فأعطاه معاوية ذلك.
الدّهاة الخمسة
وكان قيس يعدّ في الدهاة، وكانوا خمسة يومئذ، وهم: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة ابن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل. وكان قيس [و] [1] عبد الله بن بديل مع علىّ، والمغيرة بن شعبة معتزلا بالطائف، حتّى حكّم الحكمان.
ما قاله الحسن بن علىّ في خطبته بعد الصلح وقبل أن يغادر الكوفة إلى المدينة
ولمّا تمّ الصلح بين الحسن ومعاوية، قام الحسن في الناس خطيبا بالكوفة [2] ، فقال:
- «يا أهل العراق! إنّه سخّى [3] بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبى، وطعنكم إيّاى،
__________
[1] . في الأصل: قيس بن عبد الله بن بديل، وهو سهو من الكاتب، وصححناه كما في مط والطبري (7: 8) .
[2] . وأمّا حسب الطبري (7: 9) فإنّ الخطبة هذه، خطبها الحسن بمسكن، حيث تمّ الصلح، ثمّ دخل الكوفة بمن معه، وبرأ هناك ثمّ تحوّل إلى المدينة.
[3] . في مط: نحّى بنفسه! وما في الطبري كما في الأصل: سخّى بنفسي. سخّى نفسه، وبنفسه عن كذا:(1/574)
وانتهابكم متاعي.» وبرأ الحسن من جراحته، فتحوّل إلى المدينة. وحال أهل البصرة بينه وبين خراج [43] دارابجرد، وقالوا:
- «فيئنا. [1] » ولمّا دخل المدينة [2] ، تلقّاه الناس، فصاحوا:
- «يا مذلّ العرب!»
__________
[ () ] حملها على تركه، وعدم النزوع إليه.
[1] . في الأصل ومط: فينا. والتصحيح من الطبري (7: 9) .
[2] . في الطبري (7: 9) : فلمّا خرج إلى المدينة، تلقّاه ناس بالقادسية، فقالوا:
- «يا مذلّ لعرب!» .(1/575)
[المجلد الثاني]
[تجارب العصر الأموي]
أيّام معاوية بن أبى سفيان
ذكر مماحكة [1] جرت بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص
استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شعبة، فقال:
- «استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة، وأباه عمرا على مصر، تكون أنت بين لحيي [2] الأسد.» فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة، وبلغ عمرا ما قاله المغيرة لمعاوية، فدخل عمرو على معاوية، فقال:
- «أتستعمل المغيرة على خراج الكوفة، فيغتال المال، ويذهب به، فلا تستطيع أن تأخذه منه؟ استعمل على الخراج رجلا يهابك، ويتّقيك.» فعزل المغيرة عن الخراج، واستعمله على الصلاة. فلقى المغيرة عمرا، فبدأ عمرو وقال:
- «أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت، فى عبد الله؟» قال:
- «نعم.» قال:
__________
[1] . المماحكة: اللجاج والمنازعة.
[2] . فى مط: يحى الأسد!. واللحيان: العظمان اللذان فيهما الأسنان.(2/7)
- «فهذه بتلك!»
المغيرة بن شعبة يختار الدعة
ولمّا ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، أتاها، وترك التشدّد، وإثارة الناس عن أهوائهم، وأحبّ السلامة، واختار الدعة، فكان يرى، فيقال له: فلان بن فلان يرى رأى الشيعة، وفلان يرى رأى الخوارج، فكان يقول: [44]- «قضى الله أن لا تزالوا مختلفين، وسيحكم بين عباده.» فأمنه الناس.
فكان عاقبة هذا الفعل منه
أن لقيت الخوارج بعضها بعضا، ورأوا أنّ فى جهاد الناس الفضل والأجر.
ففزعوا [1] إلى رؤسائهم، وتجمّعوا، وتمّت آراؤهم، واجتمع أمرهم، وبايعوا المستورد بن علّفة [2] ، وكان زياد متحصّنا بفارس، قد عمر قلعة إصطخر. فكان معاوية يكاتبه، ويطالبه بالمال، ويستقدمه، فيأبى.
فأرق معاوية ذات ليلة، فلمّا أصبح، دعا بالمغيرة بن شعبة، فقال له:
- «كيف أنت بسرّ أستودعك؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، إن تستودعنى، تستودع ناصحا، شفيقا، ورعا، وثيقا.»
رأى لمعاوية وتدبير صحيح
قال: «ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس، وامتناعه بالقلعة، فلم أنم ليلتي.»
__________
[1] . فى مط: ففرعوا. وما فى الطبري يوافق الأصل: ففزعوا. أى: لجأوا، واستغاثوا.
[2] . فى مط: مستور بن علفة. وضبط اللام فى «علّفة» (الكسر والتشديد) من الطبري (7: 20) ، وابن الأثير (3: 421) . وضبط فى بعض المراجع: «علّفة» بفتح اللام.(2/8)
فأراد المغيرة أن يطأطئ من زياد، فقال:
- «ما زياد هناك، يا أمير المؤمنين.» قال: «بئس الوطاء [1] العجز، داهية العرب معه الأموال، متحصّن بقلاع [45] فارس، يدبّر، ويربّض الخيل [2] . ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعاد الحرب جذعة [3] .» فقال المغيرة: «أتأذن لى، يا أمير المؤمنين، فى إتيانه؟» قال: «نعم، وتلطّف!» كان المغيرة يحفظ يدا لزياد عنده، فأتى المغيرة زيادا. فقال زياد لمّا رءاه:
- «أفلح الزائر.» فقال المغيرة:
- «إليك ينتهى الخبر، أنا المغيرة، إنّ معاوية استخفّه الوجل، حتّى بعثني إليك، ولم يكن يعلم أحدا يمدّ يده إلى هذا الأمر، غير [4] الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغنى معاوية عنك.» قال: «أشر علىّ، وارم الغرض الأقصى، ودع عنك الفضول، فإنّ المستشار مؤتمن.» فقال المغيرة:
- «فى محض الرأى بشاعة [5] ، ولا خير فى التمذيق [6] ، أرى أن يصل حبلك
__________
[1] . فى مط والطبري: الوطأ.
[2] . كذا فى مط: ويريض الخيل. وفى الطبري: يربص الحيل.
[3] . فى مط والطبري (7: 23) : قد أعاد: «الحرب خدعة» . وقوله: «قد أعاد الحرب جذعة» أى: جديدة.
وذلك من قولهم: «أعدت الأمر جذعا» ، أى: جديدا كما بدأ.
[4] . فى مط: «إلّا عين الحسن» ، وفى هامش مط: «عن الحسن» بدل «الأمر غير الحسن» .
[5] . فى مط: شناعة.
[6] . كذا فى الأصل ومط: فى التمذيق. وفى الطبري (7: 24) : المذيق. وفى حاشيته: المتديق. التمذيق:(2/9)
بحبله، وتشخص إليه.» قال: «أرى، ويقضى الله.» وأقام زياد فى القلعة، وجعل يرتأى ويمكر.
ذكر حيلة لزياد على معاوية
فسنح لزياد من الرأى أن دعا بعض ثقاته، وبذل له، ومنّاه ووعده، وقال:
- «امض، حتّى تأتى معاوية، فإنّه سيدعوك، ويسألك عنّى، فقل له: إنّك قد أمهلته، [46] وأضربت عنه، مع ما قد احتجبه [1] من الأموال، وارتكبه من الأمور، حتّى قد شاع فى الناس: أنّك إنما ترخى له الحبل، وتساهله، للنسب بينكما. فإذا قال: وما ذاك؟ فقل: يقول الناس: إنّه أخوك، وإنّك قد عرفت ذاك له.» فذهب الرجل، حتّى أتى معاوية، فجرى بينهما ما لقّنه زياد.
فقال معاوية:
- «أو قد تحدّث الناس بذلك؟» قال:
- «نعم.» فسكت معاوية، وخرج الرجل من عنده، وشاع المجلس، وقال الناس:
- «زياد بن أبى سفيان.» ثمّ كاتب زياد معاوية، وأجابه، واستقرّت المكاتبة بينهما، إلى أن ورد على معاوية، على أن يرفع إليه حسابا بما صار إليه من الأموال، ويصدقه فى ما خرج منه إلى أمير المؤمنين، وما بقي عنده.
فخرج إليه زياد، فأخبره بما حمله إلى علىّ بن أبى طالب- عليه السلام- وما
__________
[ () ] الخلط والمزج. والمذيق: الممزوج، المخلوط.
[1] . فى مط: قد اجتلبه.(2/10)
فرّقه فى الأرزاق، والحمالات [1] ، وبقّى بقيّة، وقال:
- «قد أودعتها عند قوم.» فصدّقه معاوية، ومكث يردّده بذلك.
ثمّ كتب زياد كتبا إلى قوم:
- «قد علمتم ما لى عندكم من الودائع، وهي الأمانة الّتى يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، 33: 72 [47] الآية [2] ، فاحتفظوا بما قبلكم.» وسمّى فى الكتب بالذي أقرّ لمعاوية، ودسّ الكتب مع رسوله، وأمره أن يتعرّض لبعض من يبلغ معاوية، فتعرّض الرسول حتّى أخذ، فأتى به معاوية.
فقال معاوية لزياد:
- «لئن لم تكن مكرت بى، إنّ هذه الكتب لمن حاجتي.» فقرأها، فإذا هي بمثل ما أقرّ به لمعاوية. [3] فقال معاوية:
- «أخاف أن تكون مكرت بى، فصالحنى عليها.» فصالحه على شيء، ممّا ذكر أنّه عنده، فحمله.
ذكر حيلة لعبد الله بن خازم
كان عبد الله بن عامر، واليا على البصرة، من قبل معاوية، فأنفذ إلى خراسان قيس بن الهيثم [4] ، واستبطأه فى بعض الأحوال، وكتب إليه، يستحثّه حمل المال.
__________
[1] . الحمالات: الحاء غير مشكولة فى الأصل، وهي مفتوحة فى الطبري (7: 26) . والحمالة (بالفتح) ، والحمال أيضا بالفتح. حمل الدية، أو الغرامة: ما يحملها قوم عن قوم. والحمالة (بالضمّ) : أجر الحمّال.
[2] . س 33 الأحزاب: 72.
[3] . انظر الطبري (7: 26) .
[4] . فى مط والطبري (7: 66) أيضا: قيس بن الهيثم، ولكن فى الأصل: كلمة مقحمة تقرأ: «سعد بن» ، «سعدى» ؟، وسيأتي الإسم: «قيس بن الهيثم» من دون أىّ إضافة، فى الأسطر الآتية من الأصل ومط.(2/11)
وكان عبد الله بن خازم حاضرا، فقال لابن عامر:
- «إنّك قد وجّهت إلى خراسان رجلا ضعيفا، وإنّى أخاف:- إن لقى حربا- أن ينهزم بالناس، فتهلك خراسان، وتفتضح أخوالك.» قال ابن عامر:
- «فما الرأى؟» قال: «تكتب لى عهدا- إن هو انصرف عن عدوّ- قمت مقامه.» فكتب له، وسار عبد الله بن خازم إلى خراسان فجاشت جماعة من طخارستان فشاور [48] قيس بن الهيثم الناس، فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتّى يجتمع إليه أطرافه، فانصرف. فلمّا سار مرحلة أو مرحلتين، أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقى العدوّ، فهزمهم. وبلغ الخبر المصرين [1] ، والشام، فغضبت القيسيّة وقالوا:
- «خدع قيسا وابن عامر» .
وأكثروا فى ذلك على معاوية، حتّى بعث إلى عبد الله بن خازم، فقدم به واعتذر ممّا قيل فيه.
فقال معاوية:
- «فإذا كان غدا، فقم فى الناس، واعتذر!» فرجع ابن خازم إلى أصحابه، فقال:
- «قد أمرت بالخطبة، ولست صاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلّمت، فصدّقونى.» فقام من الغد، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال:
__________
[1] . المصران: الكوفة والبصرة. قال ابن الأعرابى: قيل لهما «المصران» ، لأنّ عمر- رضى الله عنه- قال:
لا تجعلوا البحر فى ما بيني وبينكم، مصّروها، أى: صيّروها مصرا بين البحر وبيني، أى: حدّا (لع) .(2/12)
- «إنّما يتكلّف الخطبة، إمّا [1] من لا يجد بدّا منها، وإمّا أحمق يهمر [2] رأسه، لا يبالى ما خرج منه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أنّى بصير بالفرص، وثّاب عليها، وقّاف عند المهالك، أنفذ بالسريّة، وأقسم بالسويّة. أنشدكم بالله، من كان يعرف ذلك منّى، لمّا صدّقنى.» فقال أصحابه حول المنبر:
- «صدقت.» فقال: «يا أمير المؤمنين، [إنّك ممّن] [3] نشدتك، قل ما تعلم!» فقال: «صدقت.» [49]
ذكر تدبير نفذ للمغيرة بن شعبة على زياد
قدم زياد الكوفة من عند معاوية، ونزل فى دار سلمى بن ربيعة الباهلىّ ينتظر أمر معاوية، أن يجيبه إمرته على الكوفة. فبلغ المغيرة بن شعبة- وهو أمير على الكوفة- أنّ زيادا ينتظر الإمرة. فدعا قطن بن عبد الله الحارثىّ، فقال:
- «هل فيك من خير: تكفيني المؤونة حتّى آتيك من عند أمير المؤمنين؟» قال: «ما أنا بصاحب ذا.» فدعا عتيبة بن نهّاس [4] ، فعرض عليه ذلك، فقبل.
فخرج المغيرة، فلمّا قدم على معاوية، سأله أن يعزله، وأن يقطع له منازل بقرقيسا بين ظهري قيس. فلمّا سمع معاوية ذلك، خاف بائقته، وقال:
- «والله، لترجعنّ إلى عملك يا با عبد الله.»
__________
[1] . إما من لا يجد: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (7: 66) : إمام لا يجد.
[2] . يهمر رأسه: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: يهمر من رأسه. همر الماء ونحوه (ويهمره، ويهمره) صبّه. همر الكلام، وفى الكلام: أكثر فيه.
[3] . تكملة عن الطبري.
[4] . نهّاس: الكلمة مهملة فى الأصل. فى مط: نهاس. وضبطناها حسب مط والطبري (7: 72) .(2/13)
فأبى عليه، فلم يزده ذلك إلّا تهمة له، فردّه إلى عمله، فطرق المغيرة الكوفة ليلا.
قال معيد بن خالد البجلىّ:
- «فو الله إنّى لفوق القصر أحرسه، إذا قرع الباب [1] ، فأنكرناه، فلمّا خاف أن ندلّى عليه حجرا، تسمّى لنا. فنزلت إليه، وسلّمت، فتمثّل بقول القائل:
بمثلي فاقرعى [2] يا أمّ عمرو ... إذا ما هاجني السفر النّفور [3] [40]
- «اذهب إلى ابن سميّة، فرحّله، حتّى لا يصبح إلّا من وراء الجيش [4] .» فخرجت، فأتيناه، فأخرجناه، حتّى طرحناه، قبل أن يصبح من وراء الجيش.
ذكر سياسة زياد العراق حتّى صلح بعد الفساد
إنّه بلغ معاوية فساد أهل البصرة، وكثرة العيث، وضعف السلطان بها عن ضبط الناس، وكان والى البصرة عبد الله بن عامر، وكان فيه لين وكرم. فكان إذا أشير عليه بقطع السارق، عفا عنه، وإذا أشير بقتل من يستحقّ القتل، قال:
- «أنا أتألّف الناس، وأتحبّب إليهم، فكيف أنظر فى وجه من قتلت أباه، أو أخاه، أو قطعته.» فكثر الفساد بالبصرة، فعزله معاوية، وكتب إليه يستزيره، وولّى حارث بن عبد الله الأزدىّ، فتركه أربعة أشهر، ثمّ عزله بزياد.
__________
[1] . إذا قرع الباب: كذا فى الأصل. وفى مط: اد قرع الباب. وما فى الطبري: فلما قرع الباب.
[2] . كذا فى مط: فاقرعى. فى الطبري: فافزعى. وفى حاشيته: فاقرعى.
[3] . فى الطبري: السفر النعور. فى مط: النفر النفور.
[4] . كذا فى مط: الجيش. وفى الطبري (7: 73) : الجسر (فى كلا الموضعين) .(2/14)
وإنما أراد معاوية أن يولّى زيادا، فولّى الحارث كالفرس المجلّل، فقدم زياد البصرة، فخطب خطبته البتراء [1] ، ثمّ قال:
الخطبة البتراء
- «أمّا بعد، فإنّ الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعجز [2] الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتى سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، [51] ينبت [3] فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، [كأن لم تسمعوا بآى الله، ولم تقرأوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ [4] الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، فى الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون [أنّكم] [5] أحدثتم [6] فى الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه [7] [من ترككم] [8] هذه المواخر [9] المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، فى النهار المبصر، والعدد غير قليل.
__________
[1] . سمّيت بتراء، لأنّه لم يحمد الله فيها، وقيل بل حمد الله، فقال: «الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم، كما رزقتنا نعما، فألهمنا شكرا على نعمتك علينا، أما بعد، ... » أنظر الطبري (7:
73) ، وابن الأثير (3: 447) .
[2] . كذا فى مط، وفى حاشية الطبري: العجز. فى الطبري وابن الأثير: الفجر.
[3] . ينبت: كذا فى الطبري. وفى مط: ببيت. فى حاشية الطبري: يثيب.
[4] . فى الطبري: عدّ الله. وما أثبتناه من ابن الأثير.
[5] . ما بين [] تكملة من الطبري.
[6] . فى الأصل: «فأحدثتم» بدون «إنكم» .
[7] . فى الطبري: به.
[8] . ما بين [] تكملة من الطبري.
[9] . المواخر، والمواخير: كلاهما جمع مفرده: الماخور: مجلس الفسّاق، بيت الريبة والدعارة.(2/15)
- «ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج [1] الليل، وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة وباعدتم [الدين، تعتذرون] [2] بغير العذر، [وتغطّون على المختلس] [3] كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه، صنع من لا يخاف عاقبة، ولا يرجو معادا، فلم يزل بهم ما يرون من قيامكم دونهم، حتّى انتهكوا حرمة الإسلام، ثمّ أطرقوا [4] وراءكم كنوسا فى مكانس الريب. حرام علىّ الطعام والشراب حتّى أسوّيها بالأرض، هدما وإحراقا، فإنّى رأيت آخر هذا الأمر، لا يصلح إلّا بما يصلح أوّله: لين فى غير ضعف وشدّة فى غير جبريّة [وعنف] [5] .
- «وإنّى أقسم بالله، لآخذنّ الولىّ بالولىّ، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد، فقد هلك سعيد، أو تستقيم لى قناتكم. إنّ كذبة المنبر بلقاء [6] مشهورة، فمن تعلّق لى بكذبة، فقد حلّت [7] له معصيتي، من بيّت منكم فأنا ضامن لما [52] ذهب له. إيّاى ودلج الليل! فإنّى لا أوتى بمدلج إلّا سفكت دمه، وقد أجّلتكم فى ذلك بقدر ما يأتى الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإيّاى ودعوى الجاهليّة! فإنّى لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه.
__________
[1] . الدلج: اسم من قولهم: أدلج يدلج إدلاجا: إذا سار أوّل الليل، ومنهم من يجعل الإدلاج لليل كلّه.
[2] . فى الأصل ومط: «الذين يعتذرون» وهو تصحيف. وما أثبتناه يؤيده الطبري وابن الأثير.
[3] . ما بين [] تكملة من الطبري. وما فى ابن الأثير: وتعطفون على المختلس.
[4] . أطرقوا: كذا فى الطبري وابن الأثير. وما فى مط وحواشي الطبري: أطرفوا.
[5] . ما بين [] تكملة من الطبري وابن الأثير.
[6] . بلقاء: كذا فى مط. وفى الطبري: تبقى.
[7] . كذا فى الطبري (7: 74) أيضا: حلّت.(2/16)
- «لقد أحدثتم أحداثا، وقد أحدثنا لها عقوبات [1] فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن حرّق على قوم حرّقناه، ومن نقب على قوم نقبت قلبه، ومن نبش قبرا دفنته حيّا. فكفّوا أيديكم وألسنتكم، أكفف يدي وأذاى. لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه.
- «وقد كانت بيني وبين قوم أحن، فجعلت ذلك دبر أذنى، وتحت قدمي. فمن كان منكم محسنا، فليزد إحسانا، ومن كان مسيئا، فلينزع عن إساءته. إنّى لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السلّ من بغضي، لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتّى يبدى لى صحيفته. فإذا فعل، لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ، ومسرور بقدومنا سيبتئس.
- «أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، [53] نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فى ما أحببنا، ولكم علينا العدل فى ما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم.
- «واعلموا أنّى مهما قصّرت عنه، فإنّى لا أقصّر عن ثلاث:
لست محتجبا عن طالب حاجة منكم، ولو أتانى طارقا، ولا حابسا عطاء عن إبّانه ولا مجمّرا لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمّتكم، فإنّهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا، يصلحوا [2] ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم. ولا تدركوا حاجتكم، مع أنّه لو استجيب لكم،
__________
[1] . كذا فى مط: لها عقوبات. وفى الطبري وابن الأثير: لكلّ ذنب عقوبة.
[2] . فى الأصل: ومتى يصلحوا، تصلحوا. وما أثبتناه يؤيده مط والطبري وابن الأثير.(2/17)
كان شرّا لكم.» - «أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ، وإذا رأيتمونى أنفذ فيكم أمرا، فأنفذوه على إذلاله، وأيم الله إنّ لى فيكم لصرعى كثيرا، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاى.» وأمهل الناس حتّى بلغ الخبر الكوفة، وعاد إليه وصول الخبر منها. فكان يؤخّر العشاء الآخرة حتّى يكون آخر من يصلّى. ثمّ يمهل بقدر ما يرى أنّ الإنسان يبلغ أقصى البصرة من أدناها، [54] ثمّ يأمر صاحب شرطته بالخروج، فلا يرى إنسانا إلّا قتله.
ذكر قتله البريء
فأخذ ذات ليلة أعرابيا، فأتى به زيادا، فقال:
- «هل سمعت النداء؟» قال: «لا، والله، إنّما قدمت بحلوبة لى، وغشيني الليل، فاضطررتها إلى موضع، وأقمت لأصبح، ولا علم لى بما كان من الأمير.» قال: «أظنّك صادقا والله، ولكن فى قتلك صلاح الأمّة» ! ثمّ أمر به فضربت عنقه.
ضبطه البصرة بشدّة وتأكيده الملك لمعاوية
وكان زياد أوّل من سدّد [1] أمر السلطان، وأكّد الملك لمعاوية، بعد أن كادت البصرة خاصّة تخرج عن حدّ الضبط، وتخرج بخروجها الملك كلّه. فتقدّم زياد
__________
[1] . سدّد: كذا فى الأصل ومط وابن الأثير (3: 450) ، وفى الطبري (7: 77) شدّ أمر السلطان، وفى حواشيه: شدّد أمره.(2/18)
فى العقوبة، وجرّد السيف، وأخذ بالظنّة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس خوفا شديدا، حتّى أمن الناس بعضهم بعضا، وحتّى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة، فلا يعرض له أحد، حتّى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة لا تغلق عليها بابها. وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها [1] أحدا قبله، وأدرّ العطاء.
وقيل لزياد:
- «إنّ السبل مخوفة.» فقال: [55]- «لا أعانى شيئا وراء المصر، حتّى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشدّ غلبة.» فلمّا ضبط المصر، تكلّف ما وراء ذلك، فأحكمه.
وكان يقول:
- «لو ضاع حبل بيني وبين خراسان، علمت من أخذه.» وكتّب خمسمائة رجل من مشيخة أهل البصرة فى صحابته، فرزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة، واستعان بعدّة من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه.
وزياد أوّل من سير بين يديه بالحربة، ومشى بين يديه بالعمد الحديد، واتّخذ الحرس رابطة خمسمائة [2] ، فكانوا لا يبرحون المسجد، وجعل خراسان أرباعا، فولّى كلّ ربع رجلا كافيا.
قطع أيدى الحاصبين فى الكوفة
ولمّا مات المغيرة بن شعبة، كتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة، فكان
__________
[1] . فى الأصل ومط: لم يهابوه. وما أثبتناه يؤيّده الطبري.
[2] . واتخذ الحرس رابطة خمسمائة: كذا فى مط والطبري 7: 79.(2/19)
أوّل من جمعت له البصرة والكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، وكان زياد يقيم ستّة أشهر بالبصرة، وستّة أشهر بالكوفة.
فلمّا دخل الكوفة صعد المنبر، وقال فى خطبته:
- «إنى أردت أن أشخص [56] إليكم فى ألفين من شرط البصرة، ثمّ ذكرت أنكم أهل حقّ، وأنّ حقّكم طال ما دمغ الباطل، فأتيتكم فى أهل بيتي.» فلمّا فرغ من خطبته، حصب على المنبر، فجلس، حتّى أمسكوا. ثمّ دعا قوما من خاصّته، فأمرهم أن يأخذوا أبواب المسجد، ثمّ قال:
- «ليأخذ كلّ امرئ منكم جليسه، ولا يقولنّ: لا أدرى من جليسي.» ثمّ أمر بكرسىّ، فوضع له بباب المسجد، فدعا أربعة أربعة، يحلفون باللَّه:
- «ما منّا من حصبك.» فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف، حبسه وعزله، حتّى صار إلى ثمانين [1] ، فقطع أيديهم على المكان.
قال الشعبي: فو الله ما تعلّقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيرا أو شرّا إلّا أنفذه.
ولمّا قدم الكوفة، أتاه عمارة بن عقبة بن أبى معيط، فقال:
- «إنّ عمرو بن الحمق يجمع من شيعة أبى تراب.» فقام إليه عمرو بن الحارث [2] فقال:
- «ما يدعوك إلى رفع ما لا تتيقّنه، ولا تدرى ما عاقبته.» فقال زياد:
__________
[1] . كذا فى مط: ثمانين. وفى الطبري (7: 88) : ثلاثين، ويقال: بل كانوا ثمانين.
[2] . كذا فى الأصل ومط: الحارث (الحرث) . وما فى الطبري: حريث.(2/20)
- «كلاكما لم يصب: أنت حيث تكلّمنى فى هذا علانية، وعمرو حين يردّك عن كلامك. قوما إلى عمرو بن الحمق، فقولا له: ما هذه الزرافات [57] الّتى تجتمع إليك؟ من أرادك، وأردت كلامه، ففي المسجد.»
استخلاف زياد سمرة على الكوفة وتشدّده فى أمر الحروريّة
ثمّ استخلف زياد على الكوفة سمرة بن الجندب، وهو من أصحاب رسول الله- صلّى الله عليه- وخرج زياد إلى البصرة، وعاد إلى الكوفة، وقد قتل سمرة ثمانية آلاف من الناس، فقال له زياد:
- «هل تخاف أن تكون قتلت أحدا بريئا؟» قال:
- «لو قتلت إليهم مثلهم، ما خشيت ذلك.» ! وكان زياد قد تشدّد فى أمر الحروريّة، وأوصى سمرة بذلك، وكان سمرة يخلفه على البصرة، إذا خرج إلى الكوفة، وعلى الكوفة، إذا خرج إلى البصرة، فقتل سمرة منهم خلقا كثيرا.
ذكر حيلة للمهلّب بخراسان
كان زياد ولّى الحكم بن عمرو ناحية من خراسان، وكتب إليه:
- «إنّ أهل ختّل [1] سلاحهم اللّبود، وآنيتهم الذهب.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: ختّل. وفى الطبري (7: 109) : أهل جبل الأشلّ، وفى حاشيته: الأسل. والختّل:
كورة واسعة كثيرة المدن، خلف جيحون، أجلّ من صغانيان، وأوسع خطّة، وأكثر مدنا، وأكثر خيرا، وهي على تخوم السند يقال لقصبتها: هلبك، ولها مدن كثيرة. قال المرادي:
أيّها السائلى عن الحارث النذ ... ل، وعن أهل ودّه الأرجاس
عدّ من ختّل، فختّل أرض ... عرفت بالدوابّ، لا بالناس(2/21)
فغزاهم، حتّى إذا توسّطهم، أخذوا عليه بالشعاب والطرق، وأحدقوا به فعىّ [1] بالأمر، فتولّى المهلّب الحرب، وولى المغيرة بن أبى صفرة أمر العسكر، ولم يزل المهلّب يحتال، حتّى أخذ عظيما من عظماء الأعاجم [58] فقال له:
- «اختر بين أن أقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق.» فقال له:
- «أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، ومر بالأثقال فلتوجّه نحوه، حتّى إذا ظنّ القوم أنّكم قد دخلتم الطريق لتسلكوه، فإنّهم [2] سيجتمعون لكم، ويعرون [3] ما سواه من الطرق، إلّا من لا يبالى به، فبادروهم إلى غيره، فإنّهم لا يدركونكم حتّى تخرجوا منه.» ففعلوا ذلك، ونجوا، وغنموا غنيمة عظيمة، والقوم كانوا أتراكا.
أسماء كتّاب معاوية ومطالبته الهدايا فى النوروز والمهرجان
كتب له على الرسائل عبيد الله بن أوس الغسّانى، ثمّ تولّى له ديوان ما بالعراق من صوافي كسرى وآل كسرى، وكتب له على الخراج سرجون بن منصور الرومىّ.
وكان لمعاوية كاتب يقال له: عبد الرحمان بن الدرّاج، كان من مواليه، فقلّده خراج العراق لمّا قلّد المغيرة الحرب بها، وطالب أهل السواد بأن يهدوا إليه فى النوروز، والمهرجان. ففعلوا ذلك، فبلغ عشرة آلاف ألف [000، 000، 10] درهم
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري: عىّ. وفى مط وحواشي الطبري: عنى. فسعى.
[2] . فى الأصل ومط: فإنّه. وما أثبتناه يؤيّده الطبري.
[3] . كذا فى الأصل ومط: يعرون. وفى الطبري: يعرّون. وفى حواشيه: يعزون.(2/22)
فى سنة.
ثمّ دعا بالدهاقين، فسألهم عمّا كان من صوافي كسرى، فعرّف [59] أنّ الديوان بحلوان، فبعث، فأحضر، ثمّ استخرج ما كان فيه، فكان أوّل ذلك كلواذى للأساورة، والكتّاب، والحاشية.
وكان كسرى لا يقطع الكتّاب أكثر من ثلاثين جريبا. فكتب ابن الدرّاج إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية: أن استصفها، واستخرج ما فيها. ففعل، فبلغت صوافي معاوية على يده خمسين ألف ألف [000، 000، 50] .
وكان عمرو بن سعيد بن العاص يكتب له على ديوان الجند.
معاوية واتخاذ ديوان الخاتم
وكان معاوية أوّل من اتّخذ ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أنّه كتب لعمرو بن الزبير بمائة ألف [000، 100] درهم إلى زياد، وهو عامله على العراق، ففضّ عمرو الكتاب، وجعلها مائتي ألف [000، 200] درهم.
فلما رفع زياد حسابه قال له معاوية:
- «ما كتبت له إلّا مائة ألف.» وقال معاوية:
- «المائة الألف ينبغي أن تؤخذ منه.» فحبسه مروان، فصار عبد الله بن الزبير إلى مروان، وهو على المدينة، فأخبره بقصّته، فقال مروان:
- «فإنّ الخبر كيت وكيت.» فقال عبد الله:
- «أرأيت- إن أعطيناكها- ألك عليه سبيل؟» قال:
- «لا.» قال:(2/23)
- «فابعث، فخذها.» ففعل. [60] واتّخذ [1] معاوية ديوان الخاتم، وقلّده عبد الله بن مجمّر، وكان قاضيا [2] .
من سيرة زياد
وكان زياد يجلس فى كلّ يوم، إلّا يوما فى الجمعة، فيبدأ برسل عمّاله، فينظر فى ما قدموا له، ويسألهم عن بلادهم، ويجيبهم عن كتبهم، ثمّ ينظر فى نفقاته، وفى أعطيات رجاله، ثمّ فى ما دخل من البياعات، وفى الأسعار، ويسأل عن الأخبار، وينظر فى ما يحتاج إليه من حفر نهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عقبة، أو نقل طريق إلى غيره، ثمّ يأخذ فى كتب العمّال، فيمليها بنفسه، فكان معاوية يفعل مثل ذلك سواء، ولا يخالفه حتّى كبر [3] . وكان الضحّاك بن قيس يملى وهو يسمع.
وخلا زياد يوما على كاتبه أسرارا له، وبحضرته عبيد الله ابنه. فنعس زياد، فقام لينام، وقال لعبيد الله:
- «تعهّد هذا، لا يغيّر شيئا ممّا رسمته له.» فعرض لعبيد الله حاجة إلى البول، واشتدّ به ذلك، وكره أن ينبّه أباه، وكره أن يقوم عن الكاتب ويخلّيه، فشدّ إبهاميه بخيط، وختمهما، وقام لحاجته، فاستيقظ زياد قبل عوده. فلمّا نظر إلى الكاتب سأله عن خبره، فأخبره، فأحمد ذلك من فعل عبيد الله.
وأهدى زياد إلى معاوية [61] هدايا كثيرة، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأعجب به معاوية. فلما رأى ذلك زياد، قال له:
__________
[1] . فى مط: أخذ.
[2] . فى مط: قاميا.
[3] . كذا فى الأصل ومط: ولا يخالفه حتّى كبر.(2/24)
- «يا أمير المؤمنين، دوّخت لك العراق، وجبيت لك برّها وبحرها، وغثّها وسمينها، وحملت لك لبّها وقشرها.» فقال له يزيد:
- «أين فعلت ذلك؟ لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عزّ قريش، ومن عبيد إلى أبى سفيان، ومن القلم إلى المنابر، وبعد، فما أمكنك شيء ممّا اعتددت به، إلّا بنا.» فقال معاوية:
- «حسبك! وريت بك زنادي.»
كلّ شيء هالك!
وقلّد معاوية عبد الرحمان بن زياد خراسان بعد موت أبيه، وكان سخيّا، فلم يزل عليها إلى أن ولى يزيد، وقتل الحسين بن علىّ- عليهما السلام- واستخلف على عمله قيس بن الهيثم، وأقبل إلى يزيد، فأنكر قدومه، ثمّ رضى عنه، وسأله عمّا حصل له، فاعترف له بعشرين ألف ألف [000، 000، 20] درهم، فسوّغه إيّاها [1] ، وكان معه من العروض أكثر منها.
فقال يوما لكاتبه إصطفانوس:
- «ويحك! كيف يجيئني النوم وهذا المال عندي؟» فقال له:
- «وكم مبلغه؟» ، فقال:
- «قدّرت منه لمائة سنة، فى كلّ يوم ألف درهم، لا أحتاج منه إلى شراء رقيق، ولا كراع، ولا عرض من الأعراض [2] .» [62]
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: فسوّغه إيّاها.
[2] . كذا بالأصل: عرض من الأعراض (بالعين المهملة) ، وفى مط: غرض من الأغراض (بالغين المعجمة) .(2/25)
فقال له إصطفانوس:
- «أنام الله عينك أيّها الأمير، لا تعجب من نومك وعندك هذا المال، ولكن اعجب من نومك إن ذهب، ثمّ نمت.» قال: والله، لقد ذهب ذلك المال كلّه، أودع بعضه فجحد، وأنفق بعضه، وسرق أسبابه بعضه، فآل أمره إلى أن باع فضّة كانت حلية مصحفه، وكان يركب حمارا صغيرا تنال رجله الأرض عليه.
فلقيه مالك بن زياد [1] ، فقال له:
- «ما فعل المال الذي كنت تقول فيه ما تقول؟» فقال:
- «كلّ شيء هالك، إلّا وجهه [2] ، يا با يحيى!»
تحريض معاوية بين سعيد بن العاص ومروان
وكتب معاوية إلى سعيد بن العاص: أن:
- «اقبض أموال مروان، واهدم داره.» فأمسك سعيد عن ذلك. ثمّ كاتبه فى ذلك ثانيا، فراجعه سعيد، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، قرابته قريبة.» فكتب إليه ثالثا، بقبض أمواله، وهدم داره، فلم يفعل. فعزل سعيدا [3] ، وولّى مروان، وكتب إليه أن:
- «اهدم دار سعيد.» فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فقال له سعيد:
- «يا با عبد الملك، أتهدم دارى؟» قال:
- «نعم! كتب إلىّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك، لفعلت.» قال:
__________
[1] . زياد: كذا فى الأصل، وما فى مط: دينار!
[2] . س 28، القصص: 88.
[3] . أنظر الطبري (7: 164) .(2/26)
- «ما كنت لأفعل.» قال:
- «بلى والله، لو كتب إليك لفعلت.» قال:
- «كلّا، يا با عبد الملك.» [63] وقال لغلامه:
- «انطلق، وجئني بكتب معاوية.» فجاء بها، فقرأها عليه فى ما كتب فى هدم داره.
فقال مروان:
- «يا با عثمان! وردت عليك هذه الكتب فى هدم دارى، فلم تفعل، ولم تعلمني!» قال:
- «ما كنت لأهدم دارك، ولا أمنّ عليك، وإنّما أراد معاوية أن يحرّض بيننا.» فقال مروان:
- «بأبى أنت، والله أكثر منّا ريشا وعقبا.» ورجع ولم يهدم دار سعيد.
بين سعيد ومعاوية
وقدم سعيد على معاوية، فقال:
- «يا با عثمان، كيف تركت أبا عبد الملك؟» قال:
- «تركته ضابطا لأعمالك، منفّذا لأمرك.» قال:
- «إنّه لصاحب الخبزة كفى نضجها، فأكلها.» قال:
- «كلّا، والله يا أمير المؤمنين، إنّه مع قوم لا يجمل [1] بهم السوط، ولا يحلّ [2] لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهم لك، وسهم عليك.» قال:
__________
[1] . لا يجمل: فيها غموض بالأصل، وفى مط: تحمل.
[2] . كذا فى الأصل. وفى مط: تحمل.(2/27)
- «ما الذي باعد بينك وبينه؟» قال:
- «خافني على شرفه، وخفته على شرفى.» قال:
- «فماذا له عندك؟» قال:
- «أسرّه غائبا، وأسوؤه شاهدا.» قال:
- «تركتني يا با عثمان، فى هذه الهنات؟» قال:
- «إنّك تحمّلت الثقل، وكفيت الحرم [1] ، وكنت قريبا، فلو دعوت لأجبت، ولو وهيت لرقعت [2] .» [64]
كلام واقع ارتفع به صاحبه
ومن الكلام الواقع الذي ارتفع به صاحبه، كلام عبيد الله بن زياد لمعاوية. وذلك أنّه وفد على معاوية، بعد موت أبيه، فقال له معاوية:
- «من استخلف أخى على عمله؟» قال عبيد الله:
- «استخلف خالد بن أسيد على الكوفة، وسمرة بن الجندب على البصرة.» فقال له معاوية:
- «لو استعملك أبوك، لاستعملتك.» فقال عبيد الله:
- «أنشدك الله، أن يقولها لى أحد بعدك لو ولّاك أبوك، أو عمّك، ولّيتك.» وكان معاوية لا يولّى أحدا حتّى يمتحنه بولاية الطائف، فإن أحسن الولاية، ولّاه مكّة، فإن وفى، ولّاه معها المدينة، ثمّ يرتّبه كذلك، فلما قال عبيد الله بن زياد ما قال، استرجحه، وعهد إليه، ووصّاه، وولّاه مكان أبيه. فغزا خراسان، وفتح
__________
[1] . الحرم: كذا بالأصل. وفى مط: الجزم.
[2] . لرقعت: كذا فى الأصل. وفى مط: لوقعت.(2/28)
رامين [1] ، ونسف [2] ، وبيكند [3] ، وهي من بخارى. فقدم بألفين من سبى بخارى، وكلّهم جيّد الرمى بالنشّاب.
وكان معاوية ولّى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، فاحتال له أهل البصرة، حتّى عزله عنهم.
ذكر حيلتهم هذه
[65] خطب عبد الله بن عمرو بن غيلان [4] ، على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّة، فأمر به، فقطعت يده، فأتته بنو ضبّة، فقالوا:
- «إنّ صاحبنا جنى ما جنى، وقد بلغ الأمير [5] في عقوبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين أنه قطع على فاحشة، ونسألك أن تكتب إلى أمير المؤمنين أنه قطع على تبرئة [6] ، وأمر لم يضح [7] .» فكتب لهم إلى معاوية بما سألوه، فأمسكوا الكتاب عندهم، حتّى بلغ رأس السنة. ثمّ وافوه، فقالوا:
- «يا أمير المؤمنين، إنّه قطع صاحبنا، وهذا كتابه بإقراره على غير ذنب.» فقرأ الكتاب، وقال:
- «أمّا القود من عمّالى، فلا سبيل إليه، ولكن، إن شئتم، ودينا صاحبكم.» قالوا:
__________
[1] . رامين: كذا فى الأصل ومط. وما في ابن الأثير: رامنى. وفي الطبري: راميثن.
[2] . في الأصل ومط: نصف. وما في ابن الأثير: نسف.
[3] . بيكند: مهملة في الأصل ومط. والإعجام من ابن الأثير (3: 499) .
[4] . من «غيلان» إلى «غيلان» ساقطة من مط.
[5] . كذا فى الطبري (7: 171) : بلغ الأمير.
[6] . كذا في الأصل: تبرئة. في مط: تنزية. وفي ابن الأثير: شبهة.
[7] . لم يضح: كذا فى الأصل ومط. وما في ابن الأثير: لم يتضح (3: 503) . وفي الطبري (7: 172) : على شبهة وأمر لم يضح.(2/29)
- «فده.» فوداه من بيت المال، وعزل عبد الله، وولّى عبيد الله بن زياد.
ذكر بعض سيرة معاوية، وآرائه، ودهائه
ما قاله عمر فيه
كان عمر بن الخطّاب كثيرا ما يقول:
- «تذكرون كسرى وقيصر ودهيهما، وسياستهما وعندكم معاوية.»
بين معاوية وعمرو بن العاص
فممّا يحضرنا من ذلك: أنّ عمرو بن العاص، كان وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو:
- «انظروا، إذا دخلتم على ابن هند، فلا تسلّموا عليه [66] بالخلافة، فإنّه أعظم لكم في عينه، وصغّروه ما استطعتم.» فلمّا قدموا عليه، قال معاوية لحاجبه:
- «كأنّى بابن النابغة، قد صغّر شأنى عند القوم، فإذا دخل الرجل، أو الوفد، فتعتعوهم [1] أشدّ ما يكون، فلا يبلغنّى رجل منهم، إلّا وقد أهمّته نفسه. [2] » فكان أوّل من دخل عليه رجل من مصر، يقال له: ابن خيّاط، فدخل وقد تعتع، فقال:
- «السلام عليك، يا رسول الله!» فتتابع القوم على ذلك، فلمّا خرجوا من عنده، قال لهم عمرو:
__________
[1] . تعتعه: تلتله وقلقله فأقبل به وأدبر: حرّكه بعنف: أكرهه في الأمر حتّى قلق. تعتع في الكلام: تردّد من عىّ أو حصر (مد. مل) .
[2] . في الطبري (7: 207- 206) : همّته نفسه بالتلف.(2/30)
- «لعنكم الله، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة، فسلّمتم عليه بالنبوّة!» وكان معاوية قد لبس ذلك اليوم أبهى لباسه، واكتحل، وكان من أجمل الناس، إذا فعل ذلك.
بينه وبين عمر بن الخطّاب
ومن ذلك أنّ عمر بن الخطّاب، كان خرج إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقّاه، ثمّ راح إليه في موكب.
فقال له عمر:
- «يا معاوية! تغدو في موكب، وتروح في مثله. ويبلغني أنّك تتصبّح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك.» فقال:
- «يا أمير المؤمنين، العدوّ بها قريب، ولهم عيون وجواسيس فأردت أن يروا للإسلام عزّا.» فقال عمر:
- «إنّ هذا [67] لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب.» فقال معاوية:
- «يا أمير المؤمنين مرني بما شئت أصر إليه.» قال:
- «ويحك! ما ناظرتك [1] في أمر أعتب عليك فيه، إلّا تركتني لا أدرى: آمرك، أم أنهاك [2] !»
ما كان بينه وبين المغيرة
ومن ذلك أنّ المغيرة كتب إلى معاوية:
__________
[1] . في مط: «ما ناظرتك! في ما أعتب» بدل: «ما ناظرتك في أمر أعتب.»
[2] . في مط: أم نهاك.(2/31)
- «أمّا بعد، فإنّى كبرت، ودقّ عظمى، وشنفت [1] لى قريش، فإن رأيت أن تعزلني، فاعزلنى.» فكتب إليه معاوية:
- «جاءني كتابك تذكر أنّه كبرت سنّك، فلعمرى، ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أنّ قريشا شنفت لك، ولعمري، ما أصبت خيرا إلّا منهم، وتسألنى أن أعزلك، فقد فعلت، فإن تك صادقا فقد شفعتك [2] ، وإن تك مخادعا، فقد خادعتك.» فلما ورد المغيرة باب معاوية، ذهب كاتبه إلى سعيد بن العاص، وأشار عليه أن يخطب ولاية الكوفة، ودلّه على وجوه من الرغائب. فلما بلغ ذلك المغيرة، شقّ عليه، ودخل على يزيد بن معاوية، وعرّض له بالبيعة، فدخل يزيد على أبيه.
فأعلمه ذلك، فدعا معاوية المغيرة، ورفق به، وردّه إلى الكوفة، وسأله أن يأخذ بيعة يزيد على الناس. [68] وقال عمرو بن العاص:
- «ما رأيت معاوية متّكئا قطّ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى، كاسرا [3] عينه، يقول لرجل: تكلّم، إلّا رحمته.»
بين معاوية وهانئ
حكى الشعبىّ: أنّ وفد الكوفة قدموا على معاوية لمّا أراد البيعة ليزيد، وفيهم هانئ بن عروة المرادي. فبينا أنا جالس إذ قال هانئ بن عروة:
- «العجب من معاوية، يريد أن يقسرنا على بيعة ابنه يزيد، وحاله حاله [4] ، وما ذاك بكائن.»
__________
[1] . شنف فلانا، وله: أبغضه، وتنكّره.
[2] . شفع فلانا في كذا: قبل شفاعته فيه.
[3] . كسر فلان من طرفه، وعلى طرفه كسرا: غضّ منه شيئا.
[4] . وحاله حاله: كذا في الأصل، وما في مط: حاله (مرة واحدة) .(2/32)
وغلام من قريش قاعد في حلقته، فقام، فدخل على معاوية، فأخبره بقول هانئ، فقال له:
- «أنت سمعت هانئا يقوله؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «فاخرج من هذا الباب وائت حلقته من باب من أبواب المسجد، غير بابك الذي خرجت منه، فقل له إذا خفّ من عنده:
- «أيّها الشيخ! قد سمعت مقالتك، ولست في زمن أبى بكر ولا عمر، ولا أحبّ لك أن تتكلّم بهذا الكلام، فإنّهم بنو أميّة، وجرأتهم جرأتهم، وإقدامهم ما قد علمت.» ثمّ قال له معاوية:
- «.. إذا فرغت من كلامك، فقل له:
- إنه لم يدعني إلى هذا، إلّا النصيحة لك.
ثمّ احفظ عليه ما يقول.» فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلما خفّ من عنده، دنا منه، فكلّمه بهذا [69] الكلام.
فقال له:
- «يا بن أخى، والله ما بلغت نصيحتك لى كلّ هذا، وإنّ هذا الكلام لكلام معاوية، وأعرفه، وأشهد به.» فقال الفتى:
«ما أنا ومعاوية! والله ما يعرفني، ولا يدرى من أنا.» قال:
- «يا بن أخى، فلا عليك، ولكن إذا لقيته فقل له: يقول لك هانئ: لا والله، لا إلى ما أردت من سبيل، انهض يا بن أخى!» فذهب الفتى، فأعلم معاوية ما قال، فقال:(2/33)
- «بالله نستعين عليه.» ثمّ أذن للوفد، وقال لهم:
- «ارفعوا حوائجكم.» ففعلوا، فلما عرض كتاب هانئ على معاوية، قال:
- «يا هانئ ما صنعت شيئا، فزد [1] .» فزاد هانئ ومعاوية يقول:
- «ما صنعت شيئا، هات حوائجك!» حتّى لم يدع حاجة لمن [2] يهتمّ به إلّا رفعها وقضاها. ثمّ قال:
- «يا هانئ لم تصنع شيئا.» فقال:
- «يا أمير المؤمنين، قد بقيت حاجة.» قال- «وما هي؟» قال:
- «بيعة يزيد، أتولّاها له بالعراق.» قال:
- «هي إليك.» فقدم هانئ، فقام بأمر يزيد، وتولّى المغيرة بن شعبة البيعة.
من تشبّه بمعاوية في ذلك
وتشبّه بمعاوية عبد الملك، وذلك أنه لمّا أراد البيعة للوليد، وجّه الوليد إلى القين، وعاملة [3] ، فأصلح بينهم، وكانت بينهما دماء، فاحتملها. فكانت القين وعاملة أوّل من دعا إلى الوليد.
ثمّ أراد [70] الوليد ذلك عبد العزيز ابنه، فوجّهه إلى قيس بن غسّان، وكانت بينهما دماء، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانت قيس وغسّان أوّل من دعا
__________
[1] . فزد: سقطت من مط.
[2] . لمن: سقطت من مط.
[3] . القين وعاملة: كذا فى الأصل. وما في مط: الفين وعامله. (في كلا الموضعين) .(2/34)
إلى عبد العزيز.
ثمّ صنع ذلك سليمان لمّا وقع بين قيس وحمير بدمشق من الدماء ما وقع.
وجّه ابنه أيّوب، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، ومات أيّوب قبل أن تظهر له بيعة.
ثمّ صنع ذلك يزيد بن عبد الملك. كتب إليه ابن هبيرة من الجزيرة، يشير عليه:
أن يوجّه الوليد بن يزيد، ليصلح ما بين قيس وتغلب. فوجّهه، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانوا أوّل من تكلّم في أمر الوليد، وذلك في حياة أبيه، حتّى بايع [1] بعد هشام له.
كلام لمعاوية
وقال معاوية:
- «إنّى لأرفع نفسي، أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحسانى.»
__________
[1] . بايع: كذا في الأصل. وما في مط: بويع.(2/35)
أيّام يزيد بن معاوية وما جرى فيها من الأحداث الّتى يليق ذكرها بهذا الكتاب
وصايا معاوية ليزيد
كان معاوية وطّأ لابنه يزيد الأمور، وأخذ على الوفود له البيعة، فلما مرض [71] المرضة التي توفّى فيها، دعا به وقال:
- «إنى لا أتخوّف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك، إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علىّ بن أبى طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمان بن أبى بكر.
- «فأمّا عبد الله بن عمر، فرجل قد وقذته [1] العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره، بايعك..
- «وأما حسين بن علىّ، فإنّ أهل العراق لن يدعوه، حتّى يخرجوه، فإن خرج عليك، فظفرت عليه، فاصفح عنه، فإنّ له رحما ماسّة، وحقّا عظيما..
- «وأمّا ابن أبى بكر، فرجل ليست له همّة إلّا في النساء، واللهو.
- «وأمّا الذي يجثم عليك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته
__________
[1] . في مط: وفدته. وقذ فلانا يقذه وقذا: ضربه حتّى استرخى، وأشرف على الموت.(2/37)
فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك، فقدرت عليه، فقطّعه آرابا.» فلما مات معاوية امتنع هؤلاء من البيعة، وخرج عبد الله بن الزبير، والحسين، إلى مكّة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة، وكانا يومئذ بالمدينة. وأما عبد الله بن عمر، فلم يتشدّد عليه، وكذلك عبد الرحمان بن أبى بكر.
فلما قدم عبد الله بن الزبير والحسين مكّة، اجتمع الناس على الحسين، وابن الزبير قد [72] لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّى عندها عامة نهاره ويطوف، ثمّ يأتى الحسين في من يأتى، ولا يزال يشير عليه بالرأى، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يطيعونه، ولا يبايعونه أبدا، ما دام الحسين بالبلد، وأنّ الحسين أعظم في نفوسهم، وأعينهم منه، وأطوع في الناس منه.
وبلغ أهل العراق امتناع الحسين من البيعة ليزيد، وأنه لحق بمكّة، فأرجفوا [1] بيزيد.
ذكر رأى أشير به على الحسين بن علىّ عليهما السلام
كان عبد الله بن مطيع لقى الحسين، وهو يريد مكّة، فقال:
- «جعلني الله فداءك، أين تريد؟» قال:
- «أما الآن، فإنّى أريد مكّة، وأما بعد، فإنى أستخير الله عزّ وجلّ.» قال:
- «خار الله لك، وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكّة، فإيّاك أن تقرب الكوفة، فإنّها بلدة مشؤومة قتل بها أبوك، وخذل فيها أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على
__________
[1] . أرجفوا: خاضوا في الأخبار السيئة، وذكر الفتن.(2/38)
نفسه. الزم الحرم، فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى الناس إليك من كلّ جانب.»
ذكر رأى آخر أشير به عليه [73]
فأمّا محمد بن الحنفيّة، فإنه أتاه، فقال:
- «يا أخى، أنت أعزّ خلق الله علىّ، ولست أدّخرك نصيحتي [1] ، تنحّ عن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الشام، فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك، حمدت الله عليه، وإن اجتمع على غيرك، لم ينقص الله بذلك دينك، ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك. إنى أخاف أن تأتى مصرا من الأمصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، والأخرى عليك، فيقتتلوا، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأمّة نفسا، وأبا، وأمّا، أضيعها دما، وأذلّها أهلا.» فقال له الحسين:
- «فأين أذهب يا أخى؟» قال:
«انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت لك، لحقت بالرمال، وشعف [2] الجبال، وتنقّلت [3] من بلد إلى بلد حتّى يفرق [4] لك الرأى، فتستقبل الأمور استقبالا، وتستدبرها استدبارا.» فقال:
- «يا أخى، قد نصحت وأشفقت.»
__________
[1] . في مط: أذخرك نصيحتي. لست أدّخرك: لست أدّخر منك.
[2] . في مط: سعف. والشعفة من كل شيء: أعلاه. يقال: شعفة الجبل، شعفة الرأس، وأيضا: شعفة القلب: الحبّ الزائد.
[3] . في مط: ينقلب.
[4] . يفرق لك الرأى: يستبين.(2/39)
ما كتبه إليه أهل الكوفة
ثمّ إنّ أهل الكوفة، من شيعة أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب عليه السلام اجتمعوا، فكاتبوا الحسين بن علىّ:
- «إنّا قد [74] اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّى بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلت إلينا رجونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان.» ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة مثل سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة [1] وأشباههم، وكتبوا إليه:
[ «بسم الله الرحمن الرحيم» ] [2]- «لحسين بن علىّ من شيعته المؤمنين. أما بعد، فحىّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأى لهم في غيرك، فالعجل، ثمّ العجل، والسلام.» ثمّ اجتمعوا ثالثة، فكتبوا إليه:
- «من شبث بن ربعىّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمير. أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، [وطمّت الجمام،] [3] فإذا شئت فاقدم على جنود مجنّدة لك [4] ، والسلام.» فاجتمعت الرسل كلّهم عند الحسين، وقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثمّ كتب أجوبة كتبهم، وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبى طالب إليهم، وقال له:
- «اذهب، فاعرف أحوال الناس، وانظر ما كتبوا به، فإن كان صحيحا قد اجتمع عليه رؤساؤهم، وتابعهم من يوثق به، خرجنا إليهم.» فسار مسلم إلى الكوفة، وبها النعمان بن بشير الأنصارى أميرا [75] من قبل
__________
[1] . نجبة: مهملة في الأصل ومط. والضبط من الطبري 7: 233.
[2] . البسملة غير موجودة في الأصل ومط. فأضفناها من الطبري (7: 234) .
[3] . ما بين [] تكملة من الطبري (7: 235) .
[4] . في الطبري: على جند لك مجنّد.(2/40)
يزيد. فلما تحدّث الناس بمقدمه دبّوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا. فقام عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى النعمان بن بشير، فقال له:
- «إنك ضعيف، أو متضعّف، قد فسد البلاد، وليس يصلح ما ترى إلّا الغشم.» فقال النعمان:
- «لأن أكون ضعيفا وأنا فى طاعة الله، أحبّ إلىّ من أن أكون قويّا، وأنا فى معصية الله، وما كنت لأهتك سترا ستره الله.» فكتب بقول النعمان إلى يزيد وقيل له [1] :
- «إن كانت لك حاجة فى الكوفة، فابعث إليها رجلا قويّا ينفّذ أمرك، ويعمل مثل عملك، فإنّ النعمان بن بشير إمّا ضعيف، أو متضعّف.» فدعا يزيد كاتبه سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر.
ذكر رأى أشار به الكاتب على يزيد
قال له:
- «أكنت قابلا من معاوية لو كان حيّا.» قال:
- «نعم.» قال:
- «فاقبل منّى، فإنّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد، فولّه.» وكان يزيد ساخطا عليه، وهمّ بعزله عن البصرة. فكتب إليه برضاه عنه، وأنه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه [76] أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتله.
فأقبل عبيد الله فى وجوه أهل البصرة، حتّى قدم الكوفة متلثّما، فلا يمرّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم، إلّا قالوا:
- «وعليك السلام يا بن بنت رسول الله.» !
__________
[1] . له: سقطت من مط.(2/41)
وهم يظنّون أنه الحسين بن علىّ، حتّى نزل القصر، واجما كئيبا لما رأى.
ثمّ جمع الناس فخطبهم، وأعلمهم نيّة يزيد [1] فى الإحسان إلى سامعهم ومطيعهم، والشدّة على مريبهم وعاصيهم، ووعد، وأوعد، وختم الخطبة بأن قال:
- «ليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد [2] » ثمّ أخذ العرفاء أخذا شديدا، ودعا الناس، فقال:
- «اكتبوا لى العرفاء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، وأهل الريب، الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا، فهو بريء، ومن لم يكتب لنا أحدا، فليضمن لنا ما فى عرافته: أن لا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغى علينا فيهم باغ، فمن لم يفعل ذلك، فبرئت منه الذمّة وحلال علينا دمه وماله. وأيّما عريف وجد فى عرافته من بغية [3] أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا، صلب على باب داره، وألقيت تلك العرافة من العطاء.»
[77] ذكر تلافى عبيد الله ملك يزيد بعد أن أشرف على الذهاب، وما كان من حيله ومكايده
ثمّ إنّ عبيد الله دعا مولى له، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وقال له:
- «اذهب، حتّى تسأل عن الرجل الذي يبايع أهل الكوفة [4] ، فأعلمه: أنّك رجل من أهل حمص جئت [5] لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه، ليتقوّى [6] به.» فلم يزل يتلطّف، ويرفق، ويسترشد، حتّى دلّ على شيخ من أهل الكوفة
__________
[1] . مط: «وأعلمهم أنه يريد الإحسان» بدل: «وأعلمهم نيّة يزيد فى الإحسان.»
[2] . والعبارة فى مط: ليتق امر على نفسه، لا الصدق ينبى عنك، ولا الوعيد.
[3] . فى مط: «أمن بقية أمير المؤمنين» ! بدل «من بغية أمير المؤمنين» .
[4] . فى مط: يبايع على الكوفة.
[5] . كذا فى الأصل والطبري (7: 228) : جئت. وفى مط: حيث، وهو خطأ.
[6] . فى مط: لتقوى.(2/42)
يأخذ [1] البيعة، فلقيه، فأخبره.
فقال الشيخ: «لقد سرّنى لقاؤك، وساءني. أما ما سرّنى من ذاك، فما هداك الله له، وأمّا ما ساءني، فإنّ أمرنا لم يستحكم بعد.» قال:
فأدخله عليه، وقبض منه المال، وبايعه، ورجع الرجل إلى عبيد الله، فأخبره.
مسلم ينتقل إلى بيت هانئ
وانتقل مسلم، حين وافى عبيد الله، إلى منزل هانئ بن عروة المرادىّ، وكتب إلى الحسين يخبره ببيعة بضعة عشر ألفا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم عليه.
وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة:
- «إنى أعلم أنه قد سار معى، وأظهر الطاعة لى من هو عدوّ للحسين، حين ظنّ أنّ الحسين قد دخل البلد، وغلب عليه، وو الله، ما عرفت منكم أحدا.» وقدم شريك بن الأعور [78] من البصرة، وكان من شيعة علىّ، عليه السلام.
ذكر مكيدة بليغة لشريك ما تمّت له
فقال لهانىء:
- «مر مسلما يكون عندي، فإنّ عبيد الله يعودني.» وقال شريك لمسلم:
- «أرأيتك، إن أمكنتك من عبيد الله، تضربه بالسيف؟» قال:
- «نعم والله.» وأظهر شريك زيادة على ما به من الشكاة، وهو نازل فى دار هانئ. وجاء
__________
[1] . فى الطبري: يلي.(2/43)
عبيد الله يعود شريكا فى منزل هانئ.
فقال شريك لمسلم:
- «إذا تمكّن عبيد الله، فإنّى مطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك، واقتله، فليس بينك وبين القصر من تحول دونه، وإن شفاني الله كفيتك البصرة.» فقال هانئ:
- «إنى لأكره قتل رجل فى منزلي.» وشجّعه شريك، وقال:
- «هي فرصة لك، وإيّاك أن تضيّعها، فانتهزها فيه، فإنّه عدوّ الله، وعلامتك أن أقول [1] : اسقونى ماء.» وجاء عبيد الله بن زياد، فدخل، وجلس، وسأل شريكا عن وجعه، وقال:
- «ما الذي تجد، ومتى اشتكيت؟» فلما طال سؤاله إيّاه، ورأى أنّ أحدا لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول:
- «اسقونى ويحكم [ماء] ، [2] ما تنتظرون بنفسي [3] [79] لن [4] تحيوها، اسقونيه [5] وإن كانت نفسي فيه [6] .» فقال ذلك مرّتين، أو ثلاثا.
فقال عبيد الله:
- «ما شأنه؟ أو ترونه يهجر؟» فقال هانئ:
__________
[1] . أقول: سقطت من مط.
[2] . ماء: سقطت من الأصل، فأثبتناها كما فى مط.
[3] . فى مط: «بليلى» بدل «بنفسي» .
[4] . فى مط: أن يحتوها. وفى الطبري (7: 248) : «ما تنظرون بسلمى أن تحيوها، اسقنيها.» ، فى ابن الأثير:
«اسقونيها.» ، وفى حواشي الطبري: «ما الانتظار لسلمى لا تحيّوها.» ، «ما انتظار سليما لا يخيبها» .
أيضا فى الطبري (7: 224) : «ويلكم، تحمونى الماء، ولو كانت فيه نفسي» .
[5] . اسقونيه: ما فى الأصل ومط: اسقنيها.
[6] . فيه: ما فى الأصل ومط: فيها.(2/44)
- «نعم، أصلحك الله، هذا ديدنه منذ الصبح.» ففطن مولى لعبيد الله قائم على رأسه، فغمزه، فقام عبيد الله.
فقال شريك:
- «انتظر، أصلحك الله، فإنى أريد أن أوصّى إليك.» فقال:
- «أعود.» فلما خرج، قال شريك لمسلم:
- «ما منعك من قتله؟» قال:
- «خصلتان: أما إحداهما، فكراهة هانئ أن يقتل فى داره رجل. والأخرى، فحديث سمعته من علىّ عن النبىّ- صلّى الله عليه- أنّ الإيمان قيّد الفتك، فلا يفتك مؤمن.» فلبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثا ومات.
هانئ يطلب إلى القصر
ودعا عبيد الله هانئ بن عروة، فأبى أن يجيبه إلّا بأمان، فقال:
- «ماله وللأمان، هل أحدث حدثا؟» فجاءه بنو عمّه، ورؤساء العشائر، فقالوا:
- «لا تجعل على نفسك سبيلا، وأنت بريء.» وأتى به، فقال عبيد الله:
- «إيه [1] يا هانئ، ما هذه الأمور التي تربّص [2] فى دورك لأمير المؤمنين، وعامّة المسلمين؟» قال:
__________
[1] . والضبط فى الطبري: «إيه» بالتنوين.
[2] . ما فى الأصل غير واضح. وفى مط: تربض، وما أثبتناه من الطبري (7: 251) .(2/45)
- «وما ذاك، يا أمير المؤمنين!» قال:
- «جئت بمسلم بن عقيل، وأدخلته دارك [80] وجمعت السلاح، والرجال فى دور حولك [1] ، وظننت أنّ ذلك يخفى.» فقال:
- «ما فعلت، وما مسلم عندي.» قال:
- «بلى، قد فعلت» قال:
- «لا، ما فعلت.» قال:
- «بلى.» فلما كثر ذلك، وأبى هانئ إلّا مجاحدته، دعا عبيد الله ذلك الدسيس الذي دسّه، وحمل على يده المال، وكان قد أنس بهم، وداخلهم، وجعل ينقل كلّ ما يكون منهم، إليه. فلما رءاه هانئ، قال له عبيد الله:
- «هل تعرف هذا؟» فعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط فى خلده [2] ساعة، ثمّ إنّ نفسه راجعته، فقال له:
- «اسمع منّى، فإنّى، والله الذي لا إله إلّا هو أصدقك: ما دعوته، ولكن نزل علىّ، فاستحييت من ردّه، ولزمني ذمامه، فأدخلته، وأضفته، وآويته. فإن شئت، أعطيتك موثقا، وما تطمئن إليه، لا أبغيك سوءا ولا غائلة، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون فى يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه، فآمره أن يخرج من دارى إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره.» فقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: فى دور حولك. وفى الطبري (7: 251) : فى الدور حولك.
[2] . فى الأصل ومط، وبعض الأصول: فى جلده! وما ضبطناه من الطبري. وفى ابن الأثير: فى يده.
وهو أصحّ. سقط فى يده: زلّ، وأخطأ فى الكلام، ندم، تحيّر. ولعلّ «فى خلده» تعبير آخر عمّا أثبته ابن الأثير.(2/46)
- «والله، لا تفارقني أبدا، حتّى تأتينى به.» قال:
- «والله، لا أجيئك به أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله؟» قال: [81]- «والله، لتأتينّى به.» وقام الناس إليه، يناشدونه فى نفسه، ويقولون:
- «إنّه سلطان، وليس عليك فى دفعه إليه عار، ولا نقيصة.» فقال:
- «بلى والله، علىّ فى ذلك، الخزي والعار: أدفع جارى وضيفي إلى قاتله، وأنا صحيح، أسمع، وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان!» فقال عبيد الله بن زياد:
- «أدنوه منّى!» فأدنى منه، وله ضفيرتان قد رجّلهما [1] . فأمر بضفيرتيه، فأمسك بهما، واستعرض وجهه بقضيب فى يده، فلم يزل يضرب أنفه، وجبهته، وجبينه، حتّى نثر لحم خدّيه، وهشم أنفه. وتلوّى هانئ، وضرب بيده إلى قائم سيف شرطىّ ممّن حضر، فمانعه الرجل، ومنع.
فقال عبيد الله:
- «أحرورىّ سائر اليوم؟ حلّ لنا قتلك.» فقام أسماء بن خارجة، فقال:
- «أرسل غدر [2] نحن منذ اليوم؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتّى إذا جئناك به، فعلت به ما ترى، وزعمت أنّك تقتله.» فقال عبيد الله:
- «إنّك هاهنا.»
__________
[1] . رجّل الشعر: سوّاه، زيّنه، سرّحه.
[2] . ضبط فى الأصل: أرسل غدر. وفى الطبري (7: 253) : رسل غدر.(2/47)
وأمر، فلهز، وتعتع ساعة، ثمّ ترك، فجلس، وسكت الناس.
وأمر بهانىء، فجعل فى بيت، ووكّل به من يحرسه. وبلغ ذلك مذحجا، فأقبلت إلى القصر، فقيل لعبيد الله:
- «هذه مذحج، قد اجتمعت [82] بالباب.» فقال لشريح القاضي:
- «ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثمّ اخرج، فأعلمهم أنّه حىّ.» فخرج إليهم شريح، فأعلمهم أنه رءاه وهو حىّ سالم، وإنّما عاتبه كما يعاتب الأمير رعيّته. فانصرفوا.
مسلم يقبل نحو القصر بالمبايعين
وبعث مسلم بن عقيل من يأتيه بالخبر. فأتوه بالخبر على وجهه، وأمر أن ينادى بشعاره:
- «يا منصور أمت.» وكان قد بايعه ثمانية عشر ألف [000، 18] رجل. فاجتمعوا إليه، فعقد لجماعة على الأرباع، وقدّم أمامه صاحب ربع كندة، وأقبل نحو القصر، فتحرّز عبيد الله، وغلّق الأبواب. وسار مسلم حتّى أحاط بالقصر، وتداعى الناس، واجتمعوا، حتّى امتلأ المسجد والسوق، وما زالوا يتوثّبون [1] حتّى المساء.
فضاق بعبيد الله أمره، وكان أكبر همّه أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه فى القصر إلّا ثلاثون رجلا من الشرط، وعشرون رجلا من أشراف الناس، وأهل بيته، وجعل من فى القصر يشرفون فيشتمهم الناس، ويفترون على ابن زياد وأبيه، ويتّقون أن يرموهم بالحجارة. ففتح عبيد الله الباب الذي يلي دار الروميّين [2]
__________
[1] . كذا فى الأصل وحاشية الطبري: يتوثبون. وفى الطبري (7: 255) : يثوبون.
[2] . دار الروميين: ما فى الأصل ومط غير واضح، وما أثبتناه يؤيده الطبري (7: 256) .(2/48)
ليدخل [83] إليه من يأتيه، ودعا كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج فى من أطاعه من مذحج، فيخذّل الناس عن مسلم بن عقيل، ويخوّفهم عقوبة السلطان، وغائلة أمرهم، وأمر محمد بن الأشعث بمثل ذلك، فى من أطاعه من كندة، أن يرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال لمثل هؤلاء من أهل الشرف مثل ذلك.
فخرجوا، وجاءوا بعدّة، فحبسوا، ورجع إليه الرؤساء من ناحية دار الروميّين، فدخلوا القصر، فقال لهم عبيد الله:
- «أشرفوا على القصر فمنّوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية.» فتكلّم القوم، وقالوا:
- «أيّها الناس! الحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا الشرّ، ولا تتعرّضوا للقتل، فإنّ أمير المؤمنين، قد بعث جنوده من الشام، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن تمّمتم على حربكم، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم فى مغازي الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية، إلّا أذاقها وبال أمرها.» فأخذ الناس- كما [84] سمعوا هذا وأشباهه من رؤسائهم- يتفرّقون. فكانت المرأة تأتى إلى ابنها، وأخيها، فتقول:
- «انصرف، فإنّ الناس يكفونك.» ويجيء الرجل إلى ابنه، وأخيه، فيقول:
- «غدا يأتيك جنود الشام، فما تصنع بالحرب؟» فينصرف به.
فما زال الناس يتفرّقون، حتّى أمسى مسلم بن عقيل، وما معه إلّا ثلاثون رجلا حين صلّيت المغرب، فصلّى بهم مسلم. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك، خرج متوجّها نحو كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة. ثمّ خرج من الباب، فإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق، ولا(2/49)
على منزل، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ. فبقى متلدّدا فى أزقّة الكوفة، لا يدرى أين يذهب.
فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأة [يقال لها: طوعة] [1] كانت أمّ ولد للأشعث، فزوّجها أسيدا [2] الحضرمي، فولدت له بلالا. وكان بلال خرج مع الناس، وأمّه قائمة تنتظر، فسلّم مسلم عليها، فردّت عليه، فقال لها:
- «يا أمة الله، اسقيني ماء.» فدخلت، فسقته، فجلس، فقالت:
- «يا عبد الله، اذهب إلى أهلك.» فسكت، ثمّ عادت، فسكت، فقالت:
- «سبحان [85] الله! قم إلى أهلك، فما يصلح الجلوس على بابى، ولا أحلّه لك.» فقال:
- «يا أمة الله، ما لي فى هذا المصر منزل، ولا عشيرة، فهل لك فى أجر ومعروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم.» قالت:
- «وما ذاك؟» قال:
- «أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم، وغرّونى.» قالت:
- «أدخل!» ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها. فقالت:
- «يا بنىّ، مكرمة وافتك.» وأخذت عليه الإيمان، أن لا يخبر أحدا، فحلف، فأخبرته الخبر، فاضطجع وسكت.
وأخذ ابن زياد لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا، فقال لأصحابه:
__________
[1] . ما بين [] تكملة من الطبري 7: 258.
[2] . أسيدا: كذا ضبط فى الأصل، وما فى الطبري: أسيدا. من دون ضبط.(2/50)
- «أشرفوا، فانظروا ما بالهم؟» فأشرفوا، فلم يروا أحدا. قال:
- «فانظروا، فلعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم.» فجعلوا يخفضون شعل النار فى أيديهم، وينظرون: هل فى الظلال أحد؟
فكانت أحيانا تضيء لهم، وأحيانا لا تضيء، كما يريدون. فدلّوا أنصاف الطّنان تشدّ بالحبال، ثمّ تجعل فيها النيران، ثمّ تدلّى إلى الأرض. ففعلوا ذلك من أقصى الظلال وأدناها، فلم يروا شيئا. فعلموا أنّ القوم انصرفوا نادمين.
فأعلموا ابن زياد، فأمر بفتح باب السدّة التي فى المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه، فجلسوا حوله [86] قبل [1] العتمة، ونادى:
- «برئت الذمّة من رجل من الشرطة، أو العرفاء، أو المناكب [2] والمقاتلة، صلّى العتمة إلّا فى المسجد!» فلم تكن إلّا ساعة حتّى امتلأ المسجد.
فقال الحصين بن تميم:
- «إن شئت، صلّى غيرك، ودخلت القصر، فإنّى لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك.» فقال:
- «مر حرسى أن يقوموا ورائي، وزد فيهم، فإنّى لست بداخل بعد أن آثرت الخروج.» فصلّى بالناس، ثمّ قال:
- «أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل، السفيه الجاهل، قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره، ومن جاء به فله ديته.» ثمّ توعّد الناس، وحضّهم على الطاعة، وخوّفهم الفرقة والفتنة. نادى حصين
__________
[1] . فى مط: قبيل.
[2] . فى مط: المناكث. والباء مهملة فى الأصل. والمنكب من القوم: عريفهم أو عونهم.(2/51)
بن تميم، فأجابه، وكان على شرطه، فقال:
- «ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل، ولم تأتنى به. فابعث مراصد على أفواه السكك، وأصبح غدا واستبرأ [1] الدور، وجس [2] خلالها حتّى تأتينى بهذا الرجل.» ثمّ نزل ابن زياد، ودخل القصر، وأصبح ابن تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد، فغدا إلى عبد الرحمان بن محمد بن [87] الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عنده، وكان محمد بن الأشعث قد باكر ابن زياد، وهو عنده. فأقبل عبد الرحمان حتّى أتى أباه، فدنا منه، وسارّه.
فقال ابن زياد:
- «ما يقول ابنك؟» فقال:
- يقول: إنّ ابن عقيل فى دار من دورنا.» فنخس بالقضيب فى جنبه، وقال:
- «قم، وائتني به الساعة.» وبعث إلى خليفته، وهو فى المسجد أن:
- «ابعث مع ابن الأشعث سبعين رجلا من قيس.» وإنّما كره قومه لأنّه علم أنّ قومه يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل.
ففعل ذلك، وسار محمد بن الأشعث، حتّى أطاف بالدار.
فلمّا سمع مسلم وقع الحوافر، بادر إلى سيفه، وخرج إليهم، فاقتحموا عليه، فردّهم، ثمّ عادوا، فردّهم، حتّى ضربه رجل منهم بسيفه، فقطع شفته، وثناياه، وضربه مسلم بأعلى رأسه، كادت تأتى عليه، ولكن سلم. فلما رأى الناس ذلك، أخذوا يرمونه من فوق البيت.
__________
[1] . كذا فى الأصل، وحاشية الطبري (7: 260) : واستبرأ. فى مط: وابترى. وفى الطبري: واستبر!
[2] . جاسوا بين الدور: داروا فيها بالعيث والفساد وطلبوا ما فيها. الجوس: الطلب بالحرص والاستقصاء.(2/52)
محمد بن الأشعث يعطى الأمان لمسلم
فأقبل عليه محمد بن الأشعث، فقال:
- «إنك أثخنت، وعجزت عن القتال، فلم تقتل نفسك، أقبل إلىّ، ولك الأمان.» فقال: «آمن أنا؟» قال: «نعم.» وقال القوم: «أنت آمن.» فأمكن من نفسه، [88] فدنوا منه، وحملوه. فقال:
- «يا محمد بن الأشعث، أراك ستعجز عن أمانى..» وذلك أنه نزع سيفه من عاتقه، فاستوحش.
- «.. فهل لك فى خير؟ تستطيع أن تبعث رجلا من عندك على لساني يبلغ حسينا- فإنّى أراه قد خرج، أو هو خارج غدا- فيقول له: إنّ ابن عقيل بعثني، وهو أسير، لا يرى أنه يمسي وهو يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك، الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت، أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذبوك، وكذبوني، وليس لكذوب [1] رأى.» فقال ابن الأشعث:
- «والله، لأفعلنّ، ولأعلمنّ الأمير عبيد الله، أنّى آمنتك.»
مسلم فى قصر ابن زياد
وذهب به إلى ابن زياد، وأنفذ رجلا على راحلة إلى الحسين بما قال مسلم.
فلما دخل به على ابن زياد، قال:
__________
[1] . وما فى الأصل والطبري (7: 263) : لمكذوب. وفى مط: لكذوب.(2/53)
- «إنّى آمنته.» قال:
- «وما أنت والأمان، كأنما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا [1] به.» فسكت، وانتهى بمسلم إليه. فقال:
- «إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس، وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم، وتحمل بعضهم على بعض.» قال:
- «كلّا! [89] لست لذلك أتيت، لكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب.» وتراجعا الكلام إلى أن قال له ابن زياد:
- «قتلني الله، إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فى الإسلام.» قال:
- «أما إنّك [2] أحقّ من أحدث فى الإسلام، ما لم يكن فيه، وإنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة. لا أحد [3] من الناس أحقّ بها منك.» وأخذ ابن زياد يشتمه، ويشتم حسينا وعليّا، وأمسك مسلم لا يكلّمه.
ثمّ قال:
- «اصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه، ثمّ أتبعوا جسده رأسه.» فصعد وهو يقول:
- «اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا، وخذلونا.» وأشرف به على موضع الحذّائين [4] اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.
__________
[1] . فى الأصل: تأتينا (بدون اللام) . واللام أضفناها كما فى مط.
[2] . فى مط: أما أنا إنك!
[3] . فى الأصل ومط: لأحد. وهو خطأ. والتصحيح من الطبري 7: 267: وابن الأثير 4: 35.
[4] . كذا فى الأصل ومط وابن الأثير: الحذّائين. وفى الطبري: الجزّارين.(2/54)
ثمّ أمر بهانىء بعد قتل مسلم، أن يخرج إلى السوق، فتضرب عنقه. فأخرج إلى حيث تباع فيه الغنم، وهو مكتوف [1] ، فجعل يقول:
- «وا مذحجاه، ولا مذحج لى اليوم.» ولا ينصره أحد، حتّى قتل. [90] وأمر بكلّ من عرفه ممّن خرج مع مسلم، فأتى به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم، وبعث برؤوس من قتل منهم إلى يزيد وكتب بالقصّة.
ولحق رسول مسلم الذي أشخصه محمد بن الأشعث، الحسين، وهو بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلّغه الرسالة.
فقال له الحسين:
- «كلّ ما حمّ [2] نازل، وعند الله نحتسب أنفسنا، وفساد أمّتنا.»
الحسين وآراء المشيرين عليه ذكر رأى أشير به على الحسين عليه السلام
لقيه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له، وقد قدمت عليه كتب العراق:
- «يا بن عمّ، إنّى أتيت لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك مستنصحى، قلتها، وأدّيت ما علىّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى، كففت عمّا أريد أن أقول.» قال: فقال:
- «قل، فو الله ما أستغشّك، وما أظنّك بشيء من الهوى لقبيح من القول والفعل.»
__________
[1] . مكتوف: كذا فى الأصل والطبري 7: 268. فى مط: مكتوب. وهو خطأ.
[2] . حمّ الأمر حمّا: قضى، قدّر.(2/55)
قال: قلت:
- «بلغني أنّك تريد السير إلى العراق، وإنّى أشفق أن تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراءه، ومعهم بيوت الأموال. وإنما الناس عبيد لهذه الدراهم والدنانير، [91] فلا آمن أن يقاتلك من وعدك بنصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.» فقال الحسين:
- «جزاك الله خيرا يا بن عمّ، مهما يقض، يكن، وأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح.»
رأى أشار به عبد الله بن عباس على الحسين
وأتاه عبد الله ابن عبّاس [1] ، فقال:
- «يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لى ما أنت صانع.» فقال له:
- «إنى قد أجمعت السير إلى العراق فى أحد يومىّ هذين إن شاء الله.» فقال له ابن عبّاس:
- «فإنّى أعيذك بالله من ذلك، أخبرنى- رحمك الله- أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا [2] قد فعلوا ذلك، فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يغرّوك، ويكذبوك، ويخذلوك، ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.»
__________
[1] . لقد ورد هذا الاسم: «العباس» ، «عباس» ، وفى مط والطبري، وابن الأثير: عباس. فآثرنا توحيد ضبطه بدون «ال» .
[2] . فى الأصل ومط: كان ففضلنا ضبط الطبري وابن الأثير.(2/56)
فقال له الحسين:
- «فإنّى أستخير الله، وأنظر. [1] »
__________
[1] . وهنا ترك مسكويه ذكر ما دار بين ابن الزبير والحسين بن علىّ من حديث، عند إتيان ابن الزبير إيّاه، بعد إجماع الحسين على المسير إلى العراق. ولما للحديث من أهميّة تاريخيّة، فإنّنا نثبته فى ما يلي كما أورده الطبري (7: 274) وابن الأثير (4: 38) :
قال: فخرج ابن عبّاس من عنده، وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة، ثمّ قال:
- «ما أدرى ما تركناه [كذا] هؤلاء القوم، وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم، خبرني ما تريد أن تصنع؟» فقال الحسين:
- «والله لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتي بها، وأشراف أهلها، وأستخير الله.» فقال ابن الزبير:
- «أما لو كان لى بها مثل شيعتك، ما عدلت بها.» قال: ثمّ إنه خشي أن يتّهمه، فقال:
- «أما إنك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر ههنا، ما خولف عليك، إن شاء الله.» ثمّ قام، فخرج من عنده، فقال الحسين:
- «ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معى شيء، وأنّ الناس لم يعدلوه بى، فودّ أنّى خرجت منها لتخلو له.» - انتهى ما عند الطبري.
وأما ابن الأثير، فيختلف ما ذكره بعد قول الراوي: «ثمّ إنه خشي أن يتّهمه فقال:» فقال فى الكامل:
- «أما إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر ههنا، لما خالفنا عليك، وساعدناك، وبايعناك، ونصحنا لك.» فقال له الحسين:
- «إنّ أبى حدّثنى أنّ لها كبشا به تستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.» قال: «فأقم إن شئت وتولّينى أنا الأمر، ولا تعصى.» قال: «ولا أريد هذا أيضا.» ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما [دوننا] ، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال:
- «أتدرون ما يقول؟» قالوا: ما ندري، جعلنا الله فداك.» قال:(2/57)
فجاءه من الغد ابن عبّاس، وقال له:
- «إبن عمّ، إنّى أتصبّر، ولا أصبر، وإنّى أتخوّف عليك فى هذا الوجه الهلاك. إنّ أهل العراق قوم [92] غدر، فأقم بهذا البلد، فإنّك سيّد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم، فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم، فإن أبيت إلّا الخروج، فسر إلى اليمن، فإنّ بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت فى عزلة عن الناس، فتكتب وتبثّ دعاءك، فإنّى أرجو أن يأتيك ما تحبّ فى عافية.» فقال له الحسين:
- «يا ابن عمّ، إنّى أعلم أنّك ناصح شفيق، ولكنّى قد أجمعت على المسير.» فقال له ابن عبّاس:
- «فإن كنت سائرا، فلا تسر بنسائك، وصبيتك، فو الله إنّى أخاف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساءه وولده ينظرون إليه، وو الله الذي لا إله إلّا هو: لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك، حتّى تجتمع علىّ وعليك الناس، أطعتنى وأقمت، لفعلت.» فلما أبى عليه، قال له:
__________
[ (-) ] «إنه يقول: أقم فى هذا المسجد أجمع لك الناس!» ثمّ قال له الحسين:
- «والله لئن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إلىّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين، أحبّ إلىّ من أن أقتل خارجا منها بشبر. وأيم الله، لو كنت فى جحر هامّة من هذه الهوامّ، لاستخرجوني، حتّى يقضوا بى حاجتهم! والله، ليعتدنّ علىّ كما اعتدت اليهود فى السبت.» فقام ابن الزبير، فخرج من عنده. فقال الحسين:
- «إنّ هذا ليس شيء أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بى، فودّ أنّى خرجت حتّى يخلو له.»(2/58)
- «قد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه معك.» وخرج من عند الحسين، ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال:
- «قرّت عينيك يا بن الزبير!» ثمّ قال: [93]
يا لك من حمّرة [1] بمعمر ... خلا لك الجوّ، فبيضى واصفرى
ونقّرى ما شئت أن تنقّرى
قال: «وما ذاك؟» قال:
- «هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز.»
خروج الحسين إلى العراق لقاء بين الحسين والفرزدق
وخرج الحسين فى أهل بيته، ونسائه، وصبيته. فلقى الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا، فقال له الحسين:
- «بيّن لنا نبأ الناس خلفك.» فقال له الفرزدق:
- «الخبير سألت. قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أميّة، والله يفعل ما يشاء.» فقال له الحسين:
__________
[1] . كذا فى الأصل: حمّرة. وفى هامش الأصل، ومط والطبري (7: 275) وابن الأثير (4: 39) :
قبّرة. الحمّرة: القبّرة. نوع من العصافير.(2/59)
- «صدقت، الأمر لله، يفعل ما يشاء.» ثمّ حرّك راحلته، وقال:
- «السلام عليك.» وافترقا.
ما كان من أمر رسوله قيس بن مسهر
وقد كان وصل إلى الحسين كتاب مسلم بن عقيل، قبل أن يقتل بأيام، يقول فيه:
- «أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله. إنّ جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام.» فأقبل الحسين بصبيانه ونسائه لا يلوى على شيء، ولا يسمع قول أحد، حتّى بلغ الحاجر من بطن الدومة [1] ، وبعث قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب يعرّفهم [94] فيه أنه شخص إليهم، لما عرفه من اجتماع ملأهم على نصره، والطلب بحقّه.
فلما انتهى قيس إلى القادسيّة، وجد خيل ابن زياد منظومة ما بينها وبين الكوفة، فأخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد.
فقال له ابن زياد:
- «اصعد القصر، فسبّ الكذّاب بن الكذّاب.» فصعد قيس بن مسهر القصر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أيّها الناس، هذا حسين بن علىّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وفارقته بالحاجر [2] ، فأجيبوه!» ثمّ لعن زيادا وابنه، واستغفر لعلىّ بن أبى طالب. فأمر به عبيد الله فرمى به من
__________
[1] . من بطن الدومة: سقطت من مط. وفى الطبري (7: 288) الحاجز من بطن الرمّة.
[2] . فى الأصل: بالراء المهملة. (فى كلا الموضعين) .(2/60)
فوق القصر، فمات.
الحرّ بن يزيد يقبل بخيله
وأقبل الحسين، حتّى نزل شراف، وأمر فتيانه فاستقوا من الماء، ثمّ ساروا صدر يومهم. فقال رجل:
- «الله أكبر.» فقال الحسين:
- «الله أكبر، ممّ كبّرت؟» قال:
- «رأيت النخل.» فقال رجلان أسديّان كانا معه:
- «إنّ هذا مكان ما رأينا به نخلا قطّ.» قال الحسين:
- «فما تريانه رأى.» فقالا:
- «نراه والله رأى هوادي [1] الخيل.» فقال:
- «وأنا، والله، أرى ذلك.» فقال الحسين:
- «أما لنا ملجأ نعدل إليه، [95] نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟» قال: فقلنا له:
- «نعم، هذا ذو حسم [2] إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك.» فأخذ إليه، ومال أصحابه معه. فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي
__________
[1] . الهادية: المتقدّمة من كل شيء. هاديات الخيل وهواديها: متقدّماتها.
[2] . ذو حسم: والضبط من الطبري 7: 296.(2/61)
الخيل، فتبيّنّاها، وعدلنا. فلما رأونا قد عدلنا عن الطريق، عدلوا، كأنّ [1] أسنّتهم اليعاسيب، وكأنّ [2] راياتهم أجنحة الطير، فسبقناهم، فنزل الحسين، وضربت أبنيته، وجاءنا القوم وهم ألف رجل، مع الحرّ بن يزيد التميمي.
فأقبل حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين وأصحابه فى حرّ الظهيرة، فأمر الحسين أن يسقى القوم، فقام فتيانه يسقون الخيل بالأتوار والطساس حتّى أرووها.
فكان سبب تقدّم الحرّ فى ألف رجل أنّ عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم، وكان على شرطه، على أن ينزل القادسيّة، وينظّم ما بين القطقطانية وخفّان بالمسالح. فقدّم الحرّ هذا بين يديه فى ألف رجل يستقبل الحسين، ويكون معه يسايره، ويحفظه إلى أن يرد [3] عليه الخبر.
فحضرت الصلاة، فأذّن مؤذّن الحسين، [96] ثمّ أقام. فخرج الحسين فى إزار ونعلين، وقال:
- «أيّها الناس، معذرة إلى الله، وإليكم. إنّى لم آتكم حتّى أتتنى كتبكم، وقدمت علىّ رسائلكم أن اقدم علينا، فإنّه ليس لنا إمام. فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن كنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم.» فسكتوا عنه.
فقال الحسين للحرّ:
- «أتريد أن تصلّى بأصحابك؟» قال:
- «لا، بل تصلّى أنت ونصلّى بصلاتك.» فصلّى بهم الحسين، وانصرف الحرّ إلى مكانه، وأخذ كلّ رجل منهم بعنان
__________
[1] . فى الأصل: كان. والضبط من الطبري.
[2] . فى الأصل: كان. والضبط من الطبري.
[3] . فى الأصل: يردّ. ولا توجد العبارة فى رواية الطبري (7: 297) .(2/62)
دابّته، وجلس فى ظلّها. فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيّأوا للرحيل، ففعلوا. ثمّ إنّه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، واستقدم الحسين، فصلّى بالقوم، ثمّ سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، وأعاد على القوم قريبا من مقالته الأولى.
فقال الحرّ:
- «إنّا، والله، لا ندري هذه الكتب، والرسل التي تذكر.» فدعا الحسين بخرجين مملوّين كتبا فنشرها بين أيديهم. فقال له الحرّ:
- «لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، إنما أمرنا، إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك [97] حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد.» فقال له الحسين:
- «الموت أدنى إليك من ذلك.» ثمّ قال لأصحابه:
- «انصرفوا بنا.» فلما ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينه وبين الانصراف.
فقال الحسين للحرّ:
- «ثكلتك أمّك، ما تريد؟» قال:
- «أما والله، لو غيرك من العرب يقولها ما تركت ذكر أمّه، كائنا من كان، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمّك، إلّا بأحسن ما نقدر عليه.» فقال له الحسين:
- «فما تريد؟» قال:
- «أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد.» فقال له الحسين:(2/63)
- «إذا [1] لا أتبعك.» فقال له الحرّ:
- «إذا [2] لا أدعك.» فترادّا القول: فلمّا طال الكلام، قال الحرّ:
- «إنّى لم أومر بقتالك، إنّما أمرت ألّا أفارقك حتّى تقدم الكوفة. فإذا أتيت حيطانها، فخذ طريقا لا يدخلك المدينة، ولا يؤدّيك إليها، ولا يردّك عنها يكون بيني وبينك نصفا، وتكون بالخيار، بين أن تكتب إلى يزيد إن أردت، أو إلى ابن زياد، إن أردت، فلعلّ الله يأتى بأمر يرزقني فيه العافية أن أبتلى بشيء من أمرك.» فتراضيا، وتياسر الحرّ عن طريق القادسيّة، وسايره الحسين. وأخذ الحسين يخطب [98] القوم ويذكّرهم الله، ويدلّهم على نفسه ومكانه عن النبوّة والحكمة، واستحقاقه للإمامة دون الفجرة الفسقة.
فقال له الحرّ، وهو يسايره:
- «يا حسين! أذكّرك الله فى نفسك، فو الله، لئن قاتلت لتقتلنّ.» فقال له الحسين:
- «أبا الموت تخوّفنى؟» وأنشده أبياتا، وهي أبيات تمثّل بها:
سأمضى، فما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى حقّا، وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق شرّا أن يعيش ويرغما [3]
__________
[1، 2] . كذا فى الأصل ومط فى كلا الموضعين: إذا. والضبط فى الطبري (7: 299) وابن الأثير (4: 47) :
إذن.
[3] . فى الطبري (7: 302) : وفارق مثبورا يغشّ ويرغما. وبيت ثالث فى حواشيه بثلاث روايات. وأنظر أيضا ابن الأثير (4: 49) .(2/64)
فكان يسير الحرّ ناحية، والحسين ناحية. فبينا هم كذلك، فطلع عليهم أربعة من الفرسان، فعدلوا إلى الحسين، فسلّموا عليه، فمنعهم الحرّ أن يسيروا معه.
فقال الحسين:
- «مالك تمنعهم؟» فقال الحرّ:
- «هؤلاء لم يأتوا معك، وإنّما هم أهل الكوفة.» قال الحسين:
- «هم بمنزلة من جاء معى، فإنّهم أنصارى وأعوانى، وقد أعطيتنى ألّا تعرض لى بشيء، حتّى آتى الكوفة. فإن تمّمت على ما كان بيني وبينك، وإلّا ناجزتك.» قال: وكفّ عنهم الحرّ.
فقال الحسين للقوم:
- «أخبرونى [99] خبر الناس وراءكم.» فقالوا:
- «أمّا أشراف الناس، فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، واستميل ودّهم، واستخلصت نصيحتهم، وهم ألّب عليك، وأمّا سائر القوم، فأفئدتهم معك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك.» قال:
- «فخبّرونى عن رسولي إليكم.» فقالوا:
- «من هو؟» قال:
- «قيس بن مسهر الصيداوي.» فقالوا:
- «نعم، أخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد بلعنك ولعن أبيك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا الناس إلى(2/65)
نصرتك، وأخبرهم بمقدمك، فأمر به ابن زياد، فألقى من طمار القصر، فمات.» فتغرغرت [1] عينا الحسين بالدموع، ولم يملك دمعه، ثمّ قال:
- فَمِنْهُمْ من قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. 33: 23 [2]
ما قاله الطرمّاح بن عدىّ للحسين
فقالوا [3] له بعد ما دنوا منه:
- «والله، إنّا لننتظر، فما نرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين نراهم ملازميك، لكفى بهم، فكيف وقد رأينا قبل خروجنا من الكوفة ما لم نر قطّ مثلهم ناسا فى صعيد واحد عرضوا ليسرّحوا إليك، فننشدك الله إن قدرت [100] ألّا تقدّم شبرا إلّا فعلت. فهاهنا بلد منعك الله به، حتّى ترى رأيك، فسر بنا حتّى ننزلك جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا به والله من ملوك غسّان، وحمير، ومن النعمان، ومن الأسود والأحمر [4] ، والله ما دخل علينا ذلّ قطّ، ثمّ تبعث الرجال إلى من ينزل أجأ، وسلمى من طيّء، فيأتيك الرجال [5] ، وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ يضربون بين يديك بالسيوف. [6] » فقال الحسين:
- «جزاك الله وقومك خيرا. إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم من أهل الكوفة قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور فى
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: فتغرغرت. وما فى الطبري (7: 303) وابن الأثير (4: 50) فترقرقت. تغرغرت عيناه. تردّد فيهما الدمع. ترقرقت عيناه: دمعتا. ترقرق الماء وغيره: تحرّك واضطرب.
[2] . س 33 الأحزاب: 23.
[3] . والقائل هو الطرمّاح بن عدىّ. أنظر الطبري (7: 304) وابن الأثير (4: 50) .
[4] . فى الطبري أيضا: الأسود والأحمر. وفى ابن الأثير: الأحمر والأبيض.
[5] . زاد فى الطبري وابن الأثير هنا: ثمّ أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم ...
[6] . زاد فى الطبري وابن الأثير: والله ما يوصل إليك ومنهم عين تطرف.(2/66)
العاقبة.» فودّعوه وقالوا:
- «قد حملنا ميرة من الكوفة لأهلينا، فنحن نحملها إليهم، ونعود إليك.» [1]
نزول الحسين بنينوى وقدوم راكب بكتاب من ابن زياد
وسار الحسين، فجعل يتياسر، فيأتيه الحرّ بن يزيد، فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّا شديدا امتنعوا عليه. فلم يزالوا كذلك، حتّى انتهوا إلى المكان الذي نزل به الحسين [2]- عليه السلام- فإذا راكب على نجيب له، وعليه السلاح متنكّبا قوسه، مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه. فلما انتهى إليهم، سلّم [101] على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه:
- «أما بعد، فجعجع [3] بالحسين وأصحابه حيث يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك حتّى تردّه بإنفاذ أمرى، والسلام.» فلما قرأه الحرّ، قال:
- «هذا كتاب الأمير عبيد الله، يأمرنى أن أجعجع بكم فى المكان الذي يأتينى كتابه، وهذا رسوله وقد أمرنى ألّا يفارقني حتّى أنفذ أمره.» وأخذ الحرّ يريدهم على النّزل هناك على غير ماء، ولا فى قرية، فقالوا:
__________
[1] . واستعجله الحسين عند التوديع، ووفى الطرمّاح بوعده، وعاد بعد أن وضع الميرة عند أهله وأوصاهم، ولكنّه لمّا بلغ عذيب الهجانات، لقيه ساعة بن بدر، وأخبره بقتله، فرجع إلى أهله. أنظر الطبري (7: 305) وابن الأثير (4: 51) .
[2] . والمكان هو نينوى. أنظر ابن الأثير: نفس الصفحة.
[3] . جعجع به: أزعجه. شرّده. حبسه. ألزمه الجعجاع. والجعجاع والجعجع: المكان الضيّق الخشن الغليظ.(2/67)
- «دعنا ننزل فى هذه القرية.- يعنون الغاضريّة- أو تلك- يعنون نينوى- أو تلك، أو تلك.» فقال:
- «لا والله، ما أستطيع هذا. أما ترون الرجل قد بعثه عينا علىّ.» فقال زهير بن القين وكان مع الحسين:
- «يا ابن بنت رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمرى ليأتينا من بعد من ترى، من لا قبل لنا به.» فقال الحسين:
- «لا أبدأهم بالقتال.» فقال زهير:
- «فسر بنا إلى هذه القرية القريبة حتّى ننزلها، فإنّها حصينة، وهي على [102] شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم اليوم أهون من قتال من يجيء بعدهم» .
فقال الحسين:
- «وأيّة قرية هي؟» قال:
- «العقر.» فقال الحسين، عليه السلام:
- «اللهمّ أعوذ بك من العقر!» [1] ثمّ نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.
__________
[1] . عقرت المرأة والرجل عقرا وعقرا: لم يلدا. عقر البعير: قطع إحدى قوائمه. عقر الحيوان: ذبحه. عقر الكلب الولد: عضّه. عقره عن حاجته: قطعه عنها. عقر عقرا: بقي مكانه لم يتقدّم أو يتأخّر لفرع أصابه، كأنه مقطوع الرجل. عقرت المرأة: عقمت. وعقر الرجل والأمر: لم تكن لهما عاقبة.(2/68)
عمر بن سعد والخيار الصعب
وكان عبيد الله بن زياد قد ولّى عمر بن سعد بن أبى وقّاص الرىّ، وكتب عهده عليها، وجهّز معه أربعة آلاف، لأنّ الديلم كانوا غلبوا على دستبى [1] ، فخرج عمر بن سعد، وكان قد عسكر بحمّام أعين.
فلما كان من أمر الحسين ما كان، كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن:
- «سر إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه، سرت إلى عملك.» فكتب إليه عمر بن سعد:
- «إن رأيت أن تعفيني، فعلت.» فقال عبيد الله:
- «نعم، على أن تردّ إلينا عهدنا.» فاستعظم عمر بن سعد أمر الحسين، وكان يستشير نصحاءه، فلا يشير عليه أحد به، ثمّ حلا فى قلبه الإمارة، فاستجاب وأقبل فى أربعة آلاف حتّى نزل بالحسين فى غد يوم نزل فيه الحسين بالمكان الذي ذكرناه.
فبعث عمر بن سعد من يسأله: ما الذي جاء به. فجاء [103] الرسول حتّى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر.
فقال الحسين:
- «كتب إلىّ أهل مصركم أن اقدم، فأمّا إذا كرهتموني، فأنا أنصرف عنهم.» فانصرف إلى عمر بجوابه. فقال عمر بن سعد! - «إنى لأرجو أن يعافيني الله من حربه.» وكتب إلى عبيد الله بذلك.
__________
[1] . دستبى، دستبى [بفتح الباء وكسرها] : كورة كبيرة كانت مشتركة بين الرىّ وهمذان، فقسّمت كورتين..
وتسمّى قرية منها دستبى همذان (مع، يا) .(2/69)
اشتداد العطش على الحسين وأصحابه
واشتدّ على الحسين وأصحابه العطش، فدعا العبّاس بن علىّ [1] ، فبعثه فى ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة. فدنوا من الماء ليلا.
فقال عمرو بن الحجاج الزبيدىّ، وكان قد أرسله عمر بن سعد فى خمسمائة على الشريعة يمنعون الحسين وأصحابه من الماء بكتاب ورد عليه من عبيد الله:
- «من الرجل، وما جاء بك؟» قال:
- «جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلّأتمونا [2] عنه.» فقال:
- «اشرب هنّأك الله.» قال:
- «لا والله، ما أشرب والحسين ومن ترى من أصحابه عطاش.» فقال:
- «لا سبيل إلى سقى هؤلاء، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء.» فلما دنا أصحابه قال لرجّالته:
- «إملأوا قربكم.» وشدّ على القوم مع أصحابه فملأوا قربهم، وثار بهم عمرو بن الحجاج، فقاتلهم العبّاس وأصحابه، حتّى انصرف أصحاب القرب [104] بالقرب، فأدخلوها على الحسين وأصحابه.
التقاء بين الحسين وعمر بن سعد
وبعث الحسين إلى عمر أن:
- «القنى الليلة، بين عسكري وعسكرك.» فخرج إليه عمر بن سعد فى نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين فى مثل
__________
[1] . وزاد فى مط: رضى الله عنه.
[2] . حلّأه الشيء تحليئا: منعه منه.(2/70)
ذلك. فلما التقيا، أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، فانكشفتا عنهما حيث لا تسمع أصواتهما، فتكلّما، فأطالا، حتّى ذهب هزيع من الليل. ثمّ انصرف كلّ واحد إلى أصحابه، وتحدّث الناس بينهم بالظنون ولا يدرون حقيقة شيء. ثمّ التقيا بعد ذلك مرارا ثلاثا وأربعا.
كتاب ابن سعد إلى ابن زياد فى ما دار بينه وبين الحسين
فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد:
- «أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة. هذا الحسين قد أعطانى:
أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه.
أو أن نسيّره إلى أىّ ثغر من الثغور شئنا، فيكون رجلا من المسلمين: له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتى أمير المؤمنين يزيد، فيضع يده فى يده، فيرى فيه رأيه، وفى هذا لكم رضى، وللأمّة صلاح.» [1] فلما قرأ عبيد الله الكتاب، قال:
- «هذا كتاب ناصح لأميره، وشفيق على قومه، قد قبلت.»
ما أشار به شمر على ابن زياد
فقام إليه شمر بن ذى الجوشن، فقال:
- «تقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك [105] وإلى جنبك؟ فإنّما وافى ليزيل
__________
[1] . أنظر أيضا الطبري (7: 315) ، وابن الأثير (4: 55) .(2/71)
سلطانك. والله، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده فى يدك، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك، فإن عاقبت، فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت، كان ذلك لك. ولقد بلغني أنّ الحسين وعمر بن سعد يجلسان، فيحدّثان عامّة الليل.» فقال عبيد الله بن زياد:
- «نعم ما رأيت، الرأى رأيك.» ثمّ قال ابن زياد:
- «اخرج أنت بجواب كتاب عمر بن سعد. فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمى، فإن فعلوا، فليبعث بهم إلىّ سلما، وإن أبوا، فقاتلوهم. فإن فعل عمر بن سعد، فاسمع منه وأطع، وإن أبى، فأنت الأمير على الناس، وثب عليه، واضرب عنقه، وابعث إلىّ برأسه.»
جواب ابن زياد لكتاب ابن سعد
ثمّ كتب إلى عمر بن سعد:
- «أمّا بعد، إنّى لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله، وتكفّ عنه، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له شافعا عندي. انظر: إن نزل الحسين وأصحابه على حكمى واستسلموا، فابعث بهم، وإن أبوا، فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثل بهم، [106] فإنّهم لذلك مستحقّون [1] . فإن أنت فعلت جزيناك خيرا، لأنك السامع المطيع، وإن
__________
[1] . هنا زيادة فى الطبري (7: 316) وابن الأثير (4: 55) مع اختلاف طفيف بينهما، ونحن نورد ما فى الطبري: «.. فإن قتل الحسين فأوط الخيل صدره وظهره، فإنّه عاقّ مشاقّ [شاقّ- ابن الأثير.] قاطع ظلوم، وليس دهري فى هذا أن يضرّ بعد الموت شيئا، ولكن علىّ قول لو قد قتلته، فعلت هذا به. إن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل..»(2/72)
أنت أبيت، فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر بن ذى الجوشن وبين العسكر [فإنّا قد أمرنا بأمرنا] [1] ، والسلام.»
قدوم شمر بالكتاب
فقدم شمر بالكتاب، فقرأه عمر، وقال لشمر:
- «ما لك ويلك! لا قرّب الله داراك! وقبّح الله ما قدمت به! إنّك أنت ثنّيته عمّا كتبت به إليه، وقد- والله- أفسدت علينا أمورا رجونا معه الصلاح، والله يا شمر! لا يستسلم حسين، إنّ نفسه نفس أبيّة.» فقال له شمر:
- «أخبرنى ما أنت صانع، تمضى لأمر أميرك، وإلّا فخلّ بيني وبين العسكر.» قال:
- «لا، ولا كرامة لك! أنا أتولّى ذلك.» قال:
- «فدونك!»
زحف ابن سعد نحو الحسين
فركب عمر بن سعد فى الناس، ثمّ زحف نحوهم، والحسين جالس أمام بيته محتب [2] بسيفه.
فقال له العبّاس بن علىّ:
- «يا أخى أتاك القوم، أما تراهم؟» وكان الحسين قد خفق برأسه [على ركبتيه،] [3] فنهض ثمّ قال:
__________
[1] . زيادة من الطبري (7: 316) .
[2] . احتبى: جلس على أليتيه، وضمّ فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند.
[3] . تكملة من الطبري (7: 318) . خفق: مال. نام.(2/73)
- «يا عبّاس اركب- بنفسي أنت يا أخى- حتّى تلقاهم فتقول لهم: مالكم؟
وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم.» فأتاهم العبّاس، واستقبلهم فى نحو عشرين فارسا، فقال لهم:
- «ما جاء بكم؟ وما بدا لكم؟» فقالوا:
- «إنّ أمر الأمير قد جاء بكيت وكيت.» قال:
- «فلا [107] تعجلوا حتّى أرجع إلى أبى عبد الله، فأعرض عليه ما ذكرتم.» فانصرف العبّاس يركض نحو الحسين، يخبره الخبر، وترك أصحابه يخاطبون القوم. ثمّ أقبل العبّاس يركض، فقال:
- «إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ننظر فى هذا الأمر، فإنّ هذا الذي جئتم به، لم يجر [بينكم وبينه] [1] فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا، فإمّا رضيناه فاستسلمنا، وإمّا كرهناه فرددنا.» وكان الحسين قال للعبّاس:
- «إرجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّى لربّنا ونستغفره، ونوصى إلى أهلنا.» فجاءهم رسول عمر، فقام بحيث يسمعون الصوت، وقال:
- «قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا، وإن أبيتم، فلسنا تاركيكم.»
كلام الحسين لأصحابه
فجمع الحسين أصحابه، وحمد الله، وأثنى عليه، ودعا دعاء كثيرا، وقال:
__________
[1] . ما بين [] تكملة من الطبري (7: 319) .(2/74)
- «أمّا بعد، فإنّى لا أعرف أهل بيت أبرّ، ولا أوصل من أهل بيتي.
فجزاكم الله عنّى خيرا، وإنّى لا أظنّ يومنا من هؤلاء إلّا غدا، وإنّى قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا فى حلّ، ليس عليكم منّى ذمام. هذا الليل قد غشيكم [108] فاتّخذوه جملا، ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا بسوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبوننى، ولو قد أصابونى، لهوا عن طلب غيرى.» فقال له إخوته:
- «لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، قبّح الله العيش بعدك.» وتكلّم أهله كلّهم مثل ذلك.
ثمّ قام مسلم بن عوسجة الأسدىّ فقال:
- «نحن نخلّى عنك، ولم نعذر فيك! والله، لو لم يكن معى سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت، ويعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله- صلّى الله عليه- والله، لو علمت أنّى أقتل، ثمّ أحيى، ثمّ أقتل، ثمّ أحرق، ثمّ يذرى بى، يفعل بى ذلك سبعين مرة، ما فارقتك. فكيف وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.» ثمّ قام زهير بن القين، فقال مثل ذلك، وتكلّم جماعة أصحابه بمثل ذلك، وأشبه كلام بعضهم كلام بعض، وكانوا اثنين وثلاثين رجلا من الفرسان وأربعين راجلا.
ثمّ أوصى الحسين، وقال لأخته:
- «يا أخيّة، أقسم عليك، فبرّى قسمي، لا تشقّى علىّ جيبا، ولا تخمشي وجها، ولا تدعى علىّ بالويل والثبور إذا [109] أنا هلكت.» فبكت، فارتفعت الأصوات من جهة النساء، ولهنّ الرقّة والجزع.(2/75)
وقالت أخته:
- «بأبى وأمّى أبا عبد الله! استقتلت؟» فردّد غصّته، ثمّ قال:
- «لو ترك القطا لنام.» فقالت:
- «يا ويلتى! أفتغصب نفسك اغتصابا؟ فذلك أروع لقلبي، وأعظم لبلائى.» ثمّ لطمت وجهها وخرّت مغشيا عليها، فصبّ الحسين على وجهها الماء، وعزّاها بكلام طويل.
يوم عاشوراء
وحرسهم بالليل أصحاب عمر بن سعد. فلما أصبحوا- وذلك يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت، وكان يوم عاشوراء- خرج الحسين، فعبّى أصحابه، وأمر بأطناب البيوت، فقرنت حتّى دخل بعضها فى بعض، وجعلوها وراء ظهورهم لتكون الحرب من وجه واحد، وأمر بحطب وقصب كانوا جمعوه وراء البيوت، وكان من ورائهم موضع منخفض كأنّها ساقية، فأمر، فحفروه من الليل فى ساعة، وجعلوه كالخندق، وطرح ذلك الحطب والقصب فيه، وألقى فيه النار، وقال:
- «لا نؤتى من ورائنا.» قال الشعبي: ففعلوا ذلك، وكان لهم نافعا.
وأمر الحسين بمسك، فميث فى جفنة عظيمة، واطّلى [1] ، وركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه [110] أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا.
__________
[1] . اطّلى بكذا، ادّهن به. وفى الطبري (7: 327) : ثمّ دخل الحسين ذلك الفسطاط [الذي كان أمر به فضرب] فتطلّى بالنورة. وفى الكامل (4: 60) : فاستعمل النورة.(2/76)
جاء الحرّ تائبا
فحرّك الحرّ دابّته، حتّى استأمن إلى الحسين، وقال له:
- «بأبى أنت وأمى، ما ظننت الأمر ينتهى بهؤلاء القوم إلى ما أرى، وظننت أنّهم سيقبلون منك إحدى الخصال التي عرضتها عليهم، فقلت فى نفسي: لا أبالى أن أطيع [1] القوم فى بعض أمورهم، وأمّا الآن فإنّى جئت تائبا ومواسيا لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أترى لى ذلك توبة؟» قال:
- «نعم. يتوب الله عليك ويغفر لك. انزل!» قال:
- «أنا فارسا خير لك منّى راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمرى.» ثمّ بارز، فقتل واحدا بعد آخر.
فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد.
فقام عمرو بن الحجاج رافعا صوته:
- «يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ [تقاتلون] [2] فرسان المصر، وقوما مستميتين. والله، لا يبرز لهم منكم أحد إلّا قتل، لا تبرزوا لهم! فإنّهم قليل، وقلّ ما يبقون، وقد جهدهم العطش.» فقال عمر بن سعد:
- «صدقت.» وأرسل فى الناس، فعزم عليهم أن:
- «لا يبارز منكم رجل رجلا منهم.»
__________
[1] . فى الطبري (7: 332) : «أضيع» بدل «أطيع» .
[2] . ما بين [] تكملة من مط.(2/77)
فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين تثبت، وإنّما [111] هم اثنان وثلاثون فارسا.
فقال عمر:
- «ليتقدّم الرماة إلى هذه العدّة اليسيرة، فليرشقوهم بالنبل.» فتقدّموا، فلم يلبّثوهم أن عقروا خيلهم، فصاروا كلّهم رجّالة. وقاتلوا قتالا لم ير أعظم منه ولا أشدّ، إلّا أنهم كانوا إذا صرع الواحد منهم أو الإثنان تبيّن ذلك عليهم، وإذا قتلوا أضعاف عدّتهم من أولئك لم يتبيّن عليهم.
ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يديه كلّ من استهدف للنبل، فرمى يمينا وشمالا، حتّى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلّمون على الحسين، ويودّعونه، ثمّ يقاتلون حتّى يقتلوا.
فكان أوّل من قتل من بنى أبى طالب علىّ الأكبر بن الحسين بن علىّ، ثمّ عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثمّ محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، ثمّ جعفر بن عقيل بن أبى طالب.
قال: ثمّ رأينا غلاما كان وجهه شقّة قمر، فى يده سيف، وعليه قميص ونعلان، وقد انقطع شسع أحدهما. فحمل عليه رجل، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع الغلام لوجهه، وصاح:
- «يا عمّاه!» فجلّى الحسين كما يجلّى الصقر، ثمّ شدّ على الرجل بسيفه، فاتّقاه فضرب ساعده، [112] فأطنّها [1] من المرفق وتنحّى عن الغلام، وانجلت الغبرة، فرأيت الحسين قائما على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله الأرض، والحسين يقول:
- «بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم جدّك.»
__________
[1] . فى مط: «فقطعها» بدل «فأطنّها» .(2/78)
ثمّ قال:
- «عزّ، والله، على عمّك أن تدعوه، فلا يجيبك، أو يجيبك، ثمّ لا ينفعك.» ثمّ احتمله، فكأنى أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان فى الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره.
قال: فقلت فى نفسي: ما يصنع به؟ فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه علىّ بن الحسين والقتلى حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لى: القاسم بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب- صلوات الله على جميعهم.
ومكث الحسين طويلا من النهار، وكلما انتهى إليه رجل انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله، حتّى أتاه مالك بن النسير، فضربه على رأسه بالسيف، فقطع برنس خزّ كان عليه، وأدمى رأسه، فألقى ذلك البرنس، ودعا بقلنسوة، فلبسها واعتمّ، وكان قد أعيا وبلّد [1] ، ولم يبق له قوّة، وجهده العطش. فدنا إلى الماء ليشربه، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع فى فمه يتلقّى الدم من فيه، فيرمى به إلى السماء. ثمّ حمد الله وأثنى [113] عليه، ثمّ جمع يده وقال:
- «اللهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر منهم أحدا.» ثمّ أقبل إليه شمر بن ذى الجوشن فى نحو من عشرة من رجّالة أهل الكوفة، وطلب منزل الحسين الذي فيه ثقله. فمشى نحوهم [2] ، فحالوا بينه وبين رحله.
فقال الحسين:
- «ويلكم! إن لم يكن لكم دين، فكونوا فى دنياكم أحرارا، امنعوا أهلى من طغامكم وجهّالكم.» قال ابن ذى الجوشن:
__________
[1] . كذا فى الأصل: بلّد. والضبط فى الطبري (7: 359) : وبلّد. والصحيح ما فى الأصل: بلّد: فتر فى العمل وقصّر. سقط إلى الأرض من الضعف. وفى مط: نكد، وهو تصحيف.
[2] . فى الطبري (7: 362) : نحوه، فى حاشيته: نحوهم.(2/79)
- «ذلك لك.» وأقدم عليه بالرجّالة.
قال عبد الله بن عماد: فلقد رأيته وهو يحمل على من فى يمينه فيطردهم، وعلى من فى شماله فيطردهم وعليه قميص خزّ وهو معتمّ، فو الله، ما رأيت مكثورا [1] قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا، ولا أجرأ مقدما [2] . والله، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. فكأنّى بزينب أخته وهو على تلك الحال، قد خرجت وأنا أنظر إلى قرطها يجول بين أذنها وعاتقها وهي تقول:
- «ليت السماء انطبقت على الأرض.» وكان قد دنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت:
- «يا بن سعد [114] أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟» وكأنّى أنظر إلى دموع [عمر بن] [3] سعد تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها.
فنادى فى الناس شمر:
- «ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، ثكلتكم أمّهاتكم!» فحمل عليه من كل جانب، وضرب على كتفه وطعن.
فقال شمر لخولي بن يزيد الأصبحى:
- «انزل، فاحتزّ رأسه.» فضعف وأرعد.
- فقال له سنان بن أنس وهو الذي طعنه:
__________
[1] . كذا فى مط والطبري (7: 364) : مكثورا. وفى حاشية الطبري: مكسورا. والمكثور: المغلوب بالكثرة.
[2] . فى مط: أحرى مقدما. والضبط فى الطبري: مقدما. وفى الأصل يشبه أن يكون: مقدما.
[3] . ما بين [] ساقط من الأصل، فأثبتناه كما فى مط.(2/80)
- «فتّ الله عضديك!» فنزل، فذبحه وأخذ رأسه.
سلب الحسين وانتهاب نساءه
وسلب الحسين حتّى سراويله، وترك مجرّدا، ومال الناس على الإبل والمتاع، فانتهبوه وانتهبوا نساءه، فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تغلب عليه، فيذهب به، حتّى جاء عمر بن سعد، فقال:
- «لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض.» يعنى علىّ بن الحسين، وكان مريضا.
وقتل من أصحاب الحسين عليه السلام اثنان وسبعون رجلا، وسرّح برأسه إلى بن زياد.
كلام دار بين على بن الحسين وابن زياد
فحدّث حميد بن مسلم، قال: كنت واقفا عند ابن زياد حين عرض عليه علىّ بن الحسين عليهما السلام، فقال:
- «ما اسمك؟» قال:
- «علىّ بن الحسين.» قال:
- «أولم يقتل الله علىّ بن الحسين؟» فسكت.
فقال له ابن زياد:
«مالك [115] لا تتكلّم؟» قال:
- «قد كان لى أخ يقال له: علىّ بن الحسين أيضا، [فقتله الناس] .» فقال:
- «قد قتله الله.»(2/81)
فسكت.
فقال ابن زياد:
- «مالك لا تتكلّم؟» قال:
- الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها 39: 42 [1] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله 3: 145 [2] قال:
- «أنت والله منهم، ويحكم، انظروا هذا قد أدرك [3] والله إنّى لأحسبه رجلا.» فكشف عنه بعض أصحاب ابن زياد، فقال:
- «نعم، قد أدرك» فقال:
- «أقتله.» فقال علىّ:
- «فوكّل بهؤلاء النسوة من يكون محرما لهنّ يسير معهنّ إن كنت مسلما.» فقال ابن زياد:
- «دعوه، سر أنت معهنّ.» وبعث بهنّ معه إلى الشام.
ما قاله يزيد بعد تسلّم كتب البشارة
فيقال: إنّ يزيد لمّا وردت عليه كتب البشارة، دمعت عينه وقال:
- «كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أمّا إنّى لو كنت صاحبه لعفوت عنه.» ولمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد، قال يزيد:
__________
[1] . س 39 الزمر: 42.
[2] . س 3 آل عمران: 145.
[3] . فى الطبري (7: 673) : أنظروا هل أدرك؟(2/82)
نفلّق [1] هاما من رجال أعزّة علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما ثمّ جهّز النساء وعلىّ بن الحسين، وضمّ إليهم جيشا حتّى ردّهم إلى المدينة.
ذكر حيل ابن الزبير
كان ابن الزبير يظهر أنه عائذ بالبيت، ويبايع الناس سرّا. وبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأعطى الله عهدا: ليوثقنّ فى سلسلة. فبعث بسلسلة من فضّة وعمرو بن العاص [116] يومئذ عامل مكّة، وكان شديدا عليه، ولكنّه كان كثير المداراة رفيقا. فلما ورد البريد بالسلسلة رفق حتّى ردّه ردّا جميلا. وخطب الناس، وعاب أهل الكوفة خاصّة، وأهل العراق عامّة بقتل الحسين، وبكى وقال:
- «لقد كان لأبى عبد الله- رضى الله عنه- فى ما جرى على أبيه وأخيه من هؤلاء القوم ناه، ولكنّه ما حمّ نازل.» ثمّ عظّم ما جرى عليه واستفظعه، وقال فى كلامه:
- «لقد قتلوه كثيرا صيامه بالنهار، طويلا صلاته بالليل، ما كان يبدل بالقرآن غناء، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس فى حلق الذكر الركض فى طلب الصيد.» يعرّض بيزيد. فثار إليه أصحابه وقالوا له:
- «أيّها الرجل! أظهر بيعتك، فلم يبق بعد الحسين أولى بهذا الأمر منك.» فقال:
- «لا تعجلوا!» وعلا أمره بمكّة، وكاتبه أهل المدينة وقالوا:
- «أمّا إذ هلك الحسين فليس أحد ينازع ابن الزبير.»
__________
[1] . كذا فى مط: نفلّق. وفى الطبري (7: 376) : يفلّقن.(2/83)
وبلغ ابن الزبير [1] أنّ مروان تمثّل لمّا اجتاز به البريد ومعه سلسلة من فضة وجامعة يجعل فيها ابن الزبير:
فخذها، فليست للعزيز بخطّة ... وفيها مقال لامرئ متذلّل
أعامر إنّ القوم ساموك خطّة ... وذلك فى الجيران، غزلا [2] بمغزل [117]
أراك إذا قد صرت [3] للقوم ناضحا ... يقال له بالغرب [4] أدبر وأقبل
وأرسل مروان ابنيه وقال:
- «اذهبا فتعرّضا لابن الزبير، ثمّ تمثّلا بهذه الأبيات إذا بلّغته الرسل الرسالة.» ففعلا، فلما تعرّضا لينشداه، بادر ابن الزبير وقال:
- «إى بنى مروان، قد سمعت ما قال أبو كما، فاذهبا، فأنشداه:
إنّى لمن نبعة صمّ مكاسرها ... إذا تناوحت القصباء والعشر
فلا ألين لغير الحقّ أسأله ... حتّى يلين لضرس الماضغ الحجر»
عزل عمرو بن سعيد وتولية الوليد مكّة
ثمّ إنّ يزيد اتّهم عمرو بن سعيد وظنّ أنه يقدر على أخذ ابن الزبير وليس يفعل، فعزله، وولّى الوليد بن عقبة. وخرج عمرو حتّى قدم على يزيد، فرحّب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثمّ عاتبه فى أشياء كان يأمر بها فى ابن الزبير فلا ينفذها.
__________
[1] . وبلغ ابن الزبير: سقطت من مط.
[2] . غزلا: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (7: 398) : غزل بمغزل.
[3] . فى الطبري (7: 398) : إذا ما كنت.
[4] . فى الطبري: بالدّلو. وفى مط: بالعرب، وفى حواشي الطبري: بالغرب، كما فى الأصل.(2/84)
فقال:
- «يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإنّ جلّ وأهل مكّة قد كانوا مالوا إليه، وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا إليه سرّا وجهرا، ولم يكن معى جند أتقوّى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذر منّى ويتحرّز، [118] وكنت أنا أرفق به وأداريه لئلّا يستوحش، فإذا استمكنت منه وثبت عليه، مع [1] أنى ضيّقت عليه، ومنعته من أشياء لو تمكّن منها كانت معونة له، وجعلت على مكّة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتّى يكتبوا لى اسمه، واسم أبيه، وما جاء فيه، وما الذي يريد. فمن كان من أصحابه أو ممّن اتّهمه، رددته صاغرا، وقد بعثت الوليد، وسيأتيك من أثره وعمله ما تعرف به مبالغتى فى أمرك، ومناصحتى لك.» فعذره يزيد، وتلقاه بجميل [2] ، ولبث الوليد مدّة بمكّة، ثمّ عزله يزيد، وولّى عثمان بن محمد بن أبى سفيان. فكان حدثا، فلم يضبط الأمر، ولا كان له رأى.
ذكر الحال فى المدينة
وظهر فى المدينة أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك [3] حتّى خلعوه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل، ووثبوا على عثمان بن محمد بن أبى سفيان ومن معه من بنى أميّة ومن يرى رأيهم، فنفوهم وكانوا ألف رجل. فخرجوا حتّى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم الناس حصارا ضعيفا، فتولّى تدبيرهم مروان، لأنّ عثمان بن محمد كان غرّا لا يرجع [119] إلى رأيه.
وكتب مروان إلى يزيد كتابا من جماعة بما جرى عليهم ويطلبون الغوث منه.
قال الرسول: فلما وردت على يزيد، قال:
__________
[1] . فى مط: ومع (بالواو) .
[2] . فى مط: بجهل، بدل: بجميل.
[3] . فى مط: كذلك، بدل: لذلك.(2/85)
- «أما تكون بنو أميّة ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟» قلت:
- «بلى.» قال:
- «فما استطاعوا أن يقاتلوهم ساعة من نهار؟» فقلت:
- «أجمع الناس كلّهم عليهم، فلم تكن لهم بهم طاقة.» فكتب إلى عبيد الله بن زياد أن اغز ابن الزبير، فقال:
- «والله لا أجمعهما للفاسق أبدا: أقتل ابن رسول الله وأغزو البيت؟» وندب مسلم بن عقبة المرّى، وهو شيخ كبير مريض [1] ، للمدينة، فخرج ونادى أن:
- «سيروا إلى [2] الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا، ومعونة مائة دينار توضع فى يد الرجل من ساعته.» فانتدب له اثنا عشر ألف رجل. ووصّاه يزيد، إذا ظفر، أن ينهب المدينة ثلاثة أيّام، وذلك فى سنة ثلاث وستّين.
وكان معاوية وصّى يزيد:
- «إذا أرابك من أهل المدينة ريب، فارمهم بمسلم بن عقبة.» ولمّا بلغ أهل المدينة خبر مسلم ومن معه، أخذوا على بنى أميّة المحصورين فى دار مروان العهود والمواثيق، ألّا يدلّوا على عورة لهم، ولا يبغونهم غائلة.
وأخرجوهم، فلقوا [120] مسلم بن عقبة بوادي القرى مع أثقالهم، فسأل مسلم عمرو بن عثمان بن عفّان عن القوم واستشاره، فقال:
- «علىّ عهد ألّا أدلّ على عورة.» فانتهزه مسلم وقال:
- «والله، لولا أنّك ابن عثمان، لضربت عنقك، والله، لا أقيلها [3] قرشيّا بعدك.»
__________
[1] . فى مط: أربض المدينة.
[2] . فى مط: على.
[3] . فى مط: أقتلها.(2/86)
وبلغ ذلك الناس، فهابوه.
وقال مروان لابنه عبد الملك:
- «ادخل قبلي إلى مسلم لعلّه يجتزى [1] بك منّى.» فدخل عليه عبد الملك، فقال:
- «هات ما عندك، أخبرنى خبر الناس، وكيف ترى؟»
ذكر رأى عبد الملك وما ظهر من حزمه
قال:
- «نعم، أرى أن تسير بمن معك، فتركب هذا الطريق إلى المدينة، حتّى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت، فاستظلّ الناس بظلّه، وأكلوا من صفوه، حتّى إذا كان الليل، أذكيت الحرس الليل كلّه عقبا بين أهل عسكرك، حتّى إذا أصبحت وصلّيت الصبح، مضيت بهم، وتركت المدينة ذات اليسار، ثمّ أدرت بالمدينة، حتّى تأتيهم من قبل الحرّة [2] مشرّقا، ثمّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتم، أشرقت الشمس عليهم، وطلعت من أكتاف أصحابك، فلا توذيهم، وتقع فى وجوههم فتوذيهم، ويرون ما دمتم مشرّقين [121] ايتلاق بيضكم، وحرابكم، وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم، ما لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم ما داموا مغرّبين، ثمّ قاتلهم [3] ، واستعن الله عليهم.» فقال له مسلم:
__________
[1] . يجتزى: كذا فى الأصل. ومط: يجتزى (بالزاء المعجمة) : يكتفى.
[2] . كذا فى الأصل: الحرّة. وفى مط: الخرّة. والحرّة: أرض ألبستها الحجارة السود، كأنّما أحرقت بالنار وأكثر الحرار حول المدينة وتسمّى مضافة إلى أماكنها، مثل: حرّة أوطاس، حرّة تبوك، و ... (يا، مع) .
[3] . قاتلهم: فى الأصل: قاتلتم. وما أثبتناه يوافق مط والطبري 7: 411.(2/87)
- «لله أبوك، أىّ امرئ ولد إذ ولدك [1] ، لقد رأى بك خلفا.» ثمّ إنّ مروان لقيه، فقال له:
- «إيه.» فقال:
- «أليس قد لقيك عبد الملك؟» قال:
- «بلى، وأىّ رجل عبد الملك! [قلّ] [2] ما كلّمت من رجال قريش شبيها به.»
وقعة الحرّة وإباحة المدينة ثلاثا
ثمّ ارتحل، وعمل برأى عبد الملك، فكانت وقعة الحرّة، وذلك فى سنة ثلاث وستّين، وهي من أعظم الوقائع وأشدّها. هزم فيها مسلم بن عقبة مرارا، وأهل المدينة مرارا، وكثر القتلى فى الفريقين، ولم يكن فى اقتصاص الحديث بأسره فائدة، إلّا أنّ آخره كان قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل، وخلق من أهل المدينة وصالحيهم، وانهزم الناس.
فأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال.
بايع أهل المدينة ليزيد بن معاوية على أنّهم خول له
وجيء بيزيد بن وهب بن ربيعة- وهو من وجوه قريش- فقال له:
- «بايع!» فقال:
- «أبايع على سنّة أبى بكر وعمر.» قال:
- «اقتلوه!» قال:
- «فإنّى أبايع.» قال:
__________
[1] . أىّ امرئ ولد إذ ولدك: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أى امرأ أنت.
[2] . ما بين [] زيادة من الطبري.(2/88)
- «لا والله! لا أقيلك عثرتك.» فقام مروان بن الحكم وكلّمه، لصهر كان بينهما، فأمر بمروان، [122] فوجئت عنقه، ثمّ قال:
- «بايعوا على أنّكم خول ليزيد بن معاوية.» ثمّ أمر بقتل يزيد بن وهب.
هذا، وبلغ أهل مكّة ما جرى على أهل المدينة، وما ارتكب منهم. ففتّ ذلك فى أعضادهم، وجاءهم [1] منه أمر عظيم، وعرفوا أنّه نازل بهم.
ذكر اتّفاق حسن اتّفق لمسلم بن عقبة فى مسيره إلى أهل المدينة وحيلة لأهل المدينة ما [2] تمّت
كان بعث أهل المدينة إلى كلّ ماء بينهم وبين أهل الشام، فصبّوا فيه زقّا من قطران، وعوّر، فأرسل الله عليهم السماء حتّى لم يحتاجوا أن يستقوا بدلو، حتّى وردوا المدينة.
موت مسلم بن عقبة ورمى الكعبة وإحراقها وابن الزبير محاصر فيها
واستخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع متوجّها إلى مكّة، يريد ابن الزبير. فلمّا كان ببعض الطريق هلك، وذلك فى آخر المحرّم من سنة أربع وستّين.
ولمّا حضره الموت، دعا الحصين بن نمير السلولي [3] ، وقال له:
__________
[1] . جاءهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: جاء بهم.
[2] . فى مط: وما تمّت.
[3] . السلولي: كذا فى الأصل ومط. والظاهر أنّه تصحيف. وما فى الطبري (7: 424) : السكوني.(2/89)
- «يا برذعة الحمار، والله، لولا أنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ- إن حدث بى حدث- أن أستخلفك لما ولّيتك، ولكن انظر وصيّتى، وإيّاك والمخالفة! خذ عنّى أربعا: أسرع السير، وعجّل الوقائع، وعمّ الأخبار، ولا تمكّن قريشا من أذنك.» [1] ومات. [123] وخرج الحصين بن نمير إلى مكّة، وقد بايع أهل مكّة ابن الزبير، وقدم عليه نجدة بن عامر مع الخوارج يمنعون البيت، فحاصرهم الحصين، وأخرج ابن الزبير إليهم أخاه المنذر بن الزبير. فلما اشتدّ القتال، دعوه إلى المبارزة، فخرج وقتل، وقتل معه عدّة من وجوه أصحاب ابن الزبير، ولم يزل القتال دائما بينهم طول صفر. ولمّا مضت ثلاثة أيّام من شهر ربيع الأوّل، نصبوا المجانيق على البيت، ورموه بالحجارة والنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطّارة [2] مثل الفنيق [3] المزبد [4] ... نرمي بها أعواد هذا [5] المسجد
واحترقت الكعبة، وتصدّع منها ثلاثة أمكنة، واحترق ما كان فيها من خشب، وما عليها من كسوة.
وقد قيل: إنما احترقت، لأنّ أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون حولها، فطارت إليها شرره ليلة ريح، فاحترقت.
__________
[1] . فى الطبري (7: 425) : ولا ترع سمعك قريشا.
[2] . الخطارة: المقلاع. المنجنيق.
[3] . الفنيق من الإبل: الفحل.
[4] . المزبد: كذا فى الأصل والطبري (7: 426) ، وفى مط: المريد.
[5] . فى مط: أعلى المسجد، بدل: هذا المسجد.(2/90)
خلافة معاوية بن يزيد
ولم يزل الحصار والقتال واقعا على ابن الزبير- وهو يصابر- إلى أن ورد نعى يزيد بعد أربعة وستّين يوما من الحصار، وذلك فى جمادى الأولى سنة ثلاث وستّين، ويقال: أربع وستّين، [124] وكانت ولايته ثلاث سنين وكسرا، وبايع الناس معاوية بن يزيد بن معاوية بالشام، وبايعوا عبد الله بن الزبير بالحجاز.
ذكر سوء رأى ابن الزبير وضعف تدبيره، ومخالفته من أشار عليه بالصواب حتّى فاتته الخلافة
مكث أهل الشام مع الحصين بن نمير يقاتلون ابن الزبير، وليس عندهم خبر وقد ضيّقوا على ابن الزبير، فبلغ ابن الزبير موت يزيد، فصاح:
- «إنّ طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فى ما دخل فيه الناس [1] ، فليفعل، ومن كره، فليلحق بالشام.» فلم يسمع الناس منه.
فدعا ابن الزبير الحصين بن نمير، وقال:
__________
[1] . الناس: كذا فى الأصل. وفى مط: المسلمون.(2/91)
- «ادن منّى!» فخرج أحدهما إلى الآخر، فطاوله الحديث، إلى أن دعى الذي أخبر ابن الزبير بالخبر، وكان ديّنا فاضلا، وبينه وبين الحصين صهر، فلما سمع الحصين كلامه، عرف صحة الخبر، فقال لابن الزبير:
- «إن يك هذا الرجل هلك، فأنت أحقّ من أرى بهذا الأمر، هلمّ فلنبايعك، على أن تخرج معى إلى الشام، [125] فإنّ هذا الجند الذي معى، هم وجوه الناس، وفرسانهم، فو الله، لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرّة.» فأبى ابن الزبير أن يخرج إلى الشام، وكان ذلك من جدّ مروان وإقباله، وإدبار ابن الزبير.
وكان من ردّ ابن الزبير على الحصين أن قال:
- «أنا أهدر تلك الدماء، حتّى أقتل بكل رجل عشرة.» فأخذ الحصين يكلّمه سرّا، وهو يجيبه جهرا.
فقال الحصين بن نمير:
- «قبّح الله من يعدّك [1] بعد هذا داهيا، أو أريبا [2] . قد كنت أظنّ أنّ لك رأيا، ألا، أرانى أكلّمك سرّا وتكلّمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتوعدني بالقتل، وأبذل لك طاعة فى من معى، وتهدّدهم بالهلاك.» ثمّ خرج من عنده، وصاح فى الناس بالرحيل، وخرج إلى المدينة. وقدم ابن الزبير، فأرسل إليه:
- «أما خروجي إلى الشام، فلا يمكن، فإنّى أتبرّك بالبيت، ولكن بايعوا لى
__________
[1] . يعدّك: كذا فى الأصل. وما فى مط: يعذل. وهو خطأ.
[2] . أريبا: كذا فى الأصل. وما فى مط: أوريبا! وهو خطأ.(2/92)
هناك، فإنّى بعد ذلك أو منكم، وأقدم عليكم [1] .» فردّ عليه الحصين، وقال:
- «إن أنت لم تقدم بنفسك، وجدنا من نبايعه هناك.» وأقبل بأصحابه نحو المدينة. [126] فاستقبله علىّ بن الحسين بن علىّ، عليه السلام، فسلّم عليه، ولم يكد يلتفت إليه أحد، واجترأ [2] أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، وذلّوا حتّى كان لا ينفرد منهم رجل إلّا أخذ بلجام دابّته، ونكّس عنها. فكانوا يجتمعون فى عسكرهم، ولا يتفرّقون.
فاجتمعت إليهم بنو أميّة، وقالوا:
- «لا نبرح حتّى تحملونا.» ففعلوا. فخرج بنو أميّة بنسائهم وعيالاتهم، ومضى ذلك الجيش، حتّى دخل الشام.
ولم يلبث معاوية بن يزيد إلّا ثلاثة أشهر، حتّى مات. ويقال: بل مكث أربعين يوما، وكان أقرّ عمّال أبيه.
خطبة ابن زياد بالبصرة بعد انتهاء موت يزيد بن معاوية إليها
وبلغ موت يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد بالبصرة، فصعد المنبر، وخطب الناس، وقال:
- «يا أهل البصرة! قد علمتم قيامي بأمركم، وجبايتى الأموال، وتفرقتها، وانسبوني، فو الله، تجدوني مهاجرا إليكم، ووالدي ومولدي فيكم ودارى. ولقد
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (7: 431) : ولكن بايعوا لى هنالك، فإنّى مؤمنكم وعادل فيكم.
[2] . واجترأ: كذا فى الأصل وما فى مط: واجترى.(2/93)
ووليتكم، وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلّا سبعين ألفا، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألفا، وما كان ديوان عيالكم إلّا سبعين ألفا، وقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنّة أخافه [127] عليكم، إلّا وهو فى سجنكم. وقد توفّى أمير المؤمنين يزيد، واختلف أهل الشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأوسعهم بلادا. فاختاروا رجلا ترضونه [و] [1] تجتمعون عليه، إلى أن يجتمع أهل الشام، فإن اختاروا من ترضونه دخلتم فى ما دخلوا فيه، وإن كرهتم ذلك، كنتم على جديلتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغنى الناس عنكم.» [2]
ذكر طمع عبيد الله فى الخلافة وما احتال فيه
وكان عبيد الله قد أنفذ بالليل إلى شقيق بن ثور، ومالك بن مسمع وحصين بن المنذر، وفرّق فيهم مالا كثيرا. فلما خطبهم هذه الخطبة، قام هؤلاء، وهم رؤساء الناس، فقالوا:
- «ما لنا غيرك، ولا نعرف أحدا هو أقوى على هذا الأمر منك.» وبايعه هؤلاء، وبايعه الناس. فجعل الرجل إذا خرج من عنده، مسح يده على الحائط ويقول:
- «أظنّ ابن مرجانة أنّا نولّيه أمرنا فى الفرقة، كما تولّاه إلى اليوم؟» فلم تمض بعبيد الله أيّام حتّى جعل سلطانه يضعف. فكان يأمر بالأمر، فلا يمتثل، ويرتأى الرأى، [128] فلا يقبل ويردّ عليه، ويأمر بحبس الظنين، فيحال
__________
[1] . الواو زيادة منّا ولم تكن موجودة لا فى الأصل ولا فى مط.
[2] . قس بما فى الطبري 7: 433.(2/94)
بين أعوانه وبينه. فبينا هو كذلك، إذ ظهر رجل بالبصرة، يدعو إلى ابن الزبير، وكثر الناس معه. فبلغ ذلك عبيد الله، وأراد أخذه، فامتنع عليه، وكثف جمعه، وقعد الناس عن عبيد الله، وقال فى خطبته:
- «يا أهل البصرة، قد عرفتم بيعتي فى أعناقكم، وحرصي على ضبط أموركم، وقد تقاعد عنّى من يريد فرقتكم، وأن يضرب بعضكم وجوه بعض آخر بالسيف.
وو الله يا أهل البصرة، لقد لبسنا الخزّ واليمنة [1] واللّيّن من الثياب، حتّى لقد أجمته [2] جلودنا، فما نبالى أن نلبس الحديد أيّاما.» فما لبث أن رمى بجماع الناس، فقال لهم:
- «أيّها الناس، إنّ هذا المال فيكم، فخذوا أعطياتكم، وأرزاق ذراريّكم.» وأمر الكتّاب بتحصيل الناس، وتخريج الأسماء، واستعجلهم حتّى وكّل بهم من يحبسهم فى ديوان، وأسرج لهم الشموع، فكانوا يأخذون المال، ويتقاعدون عنه، فكفّ عن إخراج المال، وكان فى بيت مال البصرة يومئذ ألف ألف [000، 000، 1] درهم، فنقل ما بقي منها إلى من أودعها عنده.
ودعا عبيد الله [129] محاربة [3] السلطان وأرادهم على القتال. فقال له أخوه عبد الله بن زياد:
- «قد علمت أنّ الحرب دول، فلعلّها تدول عليك، وقد اتخذنا أموالا بين أظهر هؤلاء القوم، فإن ظفروا بك أهلكونا، ثمّ أهلكوها، فلم تبق لك باقية.» وقال له:
__________
[1] . اليمنة: كذا فى الأصل. وفى مط: اليمنية. واليمنة واليمنة (بكسر الياء وفتحها) : ضرب من برود اليمن.
[2] . أجمته: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أجهته. أجم الطعام وغيره أجما: ملّه من المداومة عليه.
[3] . محاربة: فى الأصل ومط غموض. فى مط: «بحارية» من دون نقط. وفى الأصل: بحاربة، بخارية؟
ويبدو أنها تصحيف، بدليل ما فى ابن الأثير: «محاربة» وذلك فى حاشية الطبري. وما فى الطبري (7:
439) : خاصة السلطان.(2/95)
- «والله لئن قاتلت القوم لأعتمدنّ على ظبة سيفي حتّى يخرج من صلبي.» فلما رأى عبيد الله ذلك، همّ بالهرب، فاحتال بالليل حتّى فرّ مستخفيا إلى مسعود بن عمرو، وكان سيّد الأزد، حتّى حصل فى داره.
ذكر حيلته فى ذلك
وجّه عبيد الله إلى الحارث بن قيس الأزدى، وذكّره بيد له عنده، وسأله أن يحمله إلى منزله، ويكتم أمره، حتّى يجتمع الناس.
فقال له الحارث:
- «إنّ مسعود [1] بن عمرو سيّد الأزد، وإن طلبك عندي لم أقدر على الامتناع منه، ولكن سأحتال لك من قبل امرأته، فإنّها بنت عمّه.» فقال له ابن زياد:
- «فخذ معك مالا تطمعها فيه.» قال:
- «هات.» فحمل معه مائة ألف درهم، فخرج بها الحارث حتّى أتى بها امرأة مسعود، ومعه عبيد الله، وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، ودخل. [130] ثمّ قال لها الحارث:
- «قد أتيتك بأمر تسودين به نساءك، وتظهرين به فضل قومك، وتتعجّلين الغنى فى دنياك، هذه مائة ألف دينار، خذيها وضمّى عبيد الله.» فقالت:
- «أخاف ألّا يرضى مسعود.» فقال الحارث:
- «ألبسيه ثوبا من ثيابه، وأدخليه بيتك، وخلّى بيننا وبين مسعود.»
__________
[1] . فى مط: ابن مسعود بن عمرو، بدل: إنّ مسعود بن عمرو.(2/96)
فقبضت المال، وفعلت، ودخل الحارث على مسعود، وأخذ يحدّثه بحديث عبيد الله، فقال:
- «إنّه كان يتعوّد من طارق الشرّ، وإنّك من طوارق الشرّ.» وقام حتّى دخل على ابنة عمّه، وأخذ برأسها ليضربها، فخرج عبيد الله، وقال:
- «والله لقد أجارتنى ابنة عمّك عليك، وهذا ثوبك علىّ، وطعامك فى مذاخرى [1] ، وقد التفّ علىّ بيتك.» وشهد له الحارث. ولم يزالا [2] به حتّى سكون ورضى.
ثمّ ركب مسعود من ليلة، ومعه الحارث، وجماعة من قومه، فطاف فى الأزد ومجالسهم، وقال:
- «إن ابن زياد قد فقد، ولا نأمن اضطراب الناس، وأن يلطّخوكم به.» فقد كان أبوه زياد استجاربهم ومنعوه، فأصبحوا فى السلاح، فلمّا أصبح الناس، وفقدوا [131] ابن زياد، قالوا:
- «أين توجّه؟» فقالت عجوز من بنى عقيل:
- «أين ترونه توجّه؟ اندحس، والله، فى أجمة أبيه.» فقال الناس:
- «صدقت. ما هو إلّا فى الأزد.» ثمّ اجتمع الناس على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهو الذي يلقّب ببّة [3] ، على أن يقعد لهم، حتّى يجتمع أمر الناس،
__________
[1] . فى الأصل: مداخرى (بالدال المهملة) ، فأعجمنا الدال كما فى مط. ومذاخر الحيوان: أمعاءه. وفى الطبري: فى بطني (7: 445) .
[2] . لم يزالا: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: لم يزل إلّا.
[3] . ببّة: كذا فى الأصل والطبري (7: 446- 447) . جاء فى الطبري: فقال الفرزدق حين بايعه:
وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وببّة قد بايعته غير نادم(2/97)
فتولّى الأمر.
واضطرب الناس بالبصرة، ووقعت الفتنة بين الأزد وتميم، وتأدّى إلى الحرب، فبعث مسعود مع ابن زياد مائة من الأزد حتّى خرجوا به إلى الشام.
ذكر ما حفظ على ابن زياد فى طريقه من الآراء
قال عبيد الله ذات ليلة:
- «إنّه قد ثقل علىّ ركوب الإبل، فوطّئوا لى على ذى حافر.» قال: فألقيت له [1] قطيفة على حمار، فركبه [2] ، وإنّ رجليه لتكاد أن تخدّان فى الأرض.
قال بشّار بن شريح اليشكري: فإنّه يسير ويحدّثنى، إذ سكت سكتة طويلة، فقلت: والله ما سكت إلّا لشيء فى نفسه. فدنوت منه، فقلت:
- «أنائم أنت؟» قال:
- «لا.» قلت:
- «فما أسكتك؟» قال:
- «كنت [132] أحدّث نفسي.» قال، قلت:
- «أفلا أحدّثك ما كنت تحدّث به نفسك؟» قال:
- «هات، فو الله ما أراك تصيب، ولا تكيس.» قلت:
- «تقول: ليتني لم أكن قتلت حسينا.» قال:
- «وماذا؟» قلت:
__________
[1] . له: فى الأصل: لى. فأثبتناها كما فى مط.
[2] . فركبه: فى الأصل: فركبته فأثبتناها كما فى مط.(2/98)
- «تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت.» قال:
- «وماذا؟» قلت:
- «تقول [1] : ليتني لم أكن بنيت البيضاء.» قال:
- «وماذا؟» قلت:
- «تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين على العرب.» قال:
- «وماذا؟» قلت:
- «تقول [2] : ليتني كنت أسخى ممّا كنت.» فقال لى:
- «والله، ما نطقت بصواب، ولا سكتّ عن خطأ:
أما الحسين، فإنّه سار إلىّ يريد قتلى، فاخترت أن أقتله على أن يقتلني، وأما البيضاء، فإنّى اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي، فأرسل يزيد بألف ألف [000، 000، 1] درهم، فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلى، وإن هلكت لم آس على ما لم أغرم عليه [3] ، وأما استعمال الدهاقين، فإنّ ابن أبى بكرة وزاذانفروخ رفعا علىّ عند معاوية، حتّى ذكرا قشور الأرزّ، وبلّغا خراج العراق مائة ألف ألف [000، 000، 100] يضمنانها، فخيّرنى معاوية بين الضمان والعزل، فكرهت العزل، فكنت [133] إذا استعملت العرب كسروا الخراج، وإن أقدمت على الرجل منهم أوغرت [4] صدور عشيرته، وإن أغرمت [5] قومه أضررت بهم، وإن تركته ضاع لى حقّ وأنا أعرف
__________
[1] . تقول: سقطت من مط هنا وفى الموضع الآتي. وتجد الحوار عند الطبري أيضا (7: 457) .
[2] . كذا فى الأصل ومط: «تقول» . وفى الطبري: «وتقول» بزيادة الواو.
[3] . والعبارة فى الطبري: لم آس عليها ممّا لم أعنّف فيه (7: 458) .
[4] . أوغرت: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: «أغرمت» وهو خطأ.
[5] . أغرمت: كذا فى الأصل والطبري. وفى مط: غرمت.(2/99)
مكانه، فوجدت الدهاقين أعرف بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون على المطالبة منكم، مع أنّى قد جعلتكم أمناء عليهم، وأمّا قولك فى السخاء، فما كان لى مال أجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم، فخصصت به بعضكم دون بعض، فتقولون: ما أسخاه! ولكن عممتكم به، وكان عندي أنفع لكم، ولكنّى سأخبرك بما حدّثت به نفسي:
قلت: ليتني قاتلت أهل البصرة، فإنّهم بايعوني طائعين، وأيم الله، إنّى حرصت على ذلك، ولكن إخوتى أتونى، وقالوا: إن قاتلتهم، وظهروا عليك، لم يبقّوا منّا أحدا، وإن تركتهم تغيّب الرجل منّا عند أخواله وأصهاره. فرقّ لهم قلبي. وكنت أقول: ليتني أخرجت أهل السجن، فضربت أعناقهم. وأما إذ فاتتنى هاتان الخصلتان، فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.» [134](2/100)
خلافة مروان بن الحكم
كان لا يريد الخلافة ولكن ابن زياد أطمعه فيها وقدم عبيد الله بن زياد الشام، وكان قدمها الحصين بن نمير ومن معه [1] ، وهمّ مروان بن الحكم أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه، واجتمع الناس على ذلك. فذهب عبيد الله حتّى لقى مروان، وقال:
- «استحييت لك ممّا تريد، أنت كبير قريش وسيّدها تصنع ما تصنع؟» فقال:
- «ما فات شيء بعد.» واجتمع إليه بنو أميّة ومواليهم، وتجمّع إليه أهل اليمن، وهو يقول:
- «ما فات شيء بعد.» كالمعتذر إليه.
المروانيّون والزبيريّون واحتجاجاتهم
وكان الضحّاك بن قيس بدمشق لمّا قدم عبيد الله بن زياد، وكان يهوى هوى ابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص يبايع لابن الزبير، وزفر بن الحارث بقنّسرين
__________
[1] . فى الأصل ومط: وكان قدمها الحصين بن نمير ومن معه الشام. وكلمة «الشام» زائدة فحذفناها. أنظر الطبري 7: 467.(2/101)
يبايع لابن الزبير.
وكان حسّان بن مالك بن بحدل الكلبي يرى الأمر لبنى أميّة، ويهوى هواهم، لأنّه كان خال خالد بن يزيد بن معاوية، فهو يحبّ أن يبايع له، وكان بالأردن، فجمع الناس وخطبهم، وقال:
- «أيها الناس، ما شهادتكم على ابن الزبير، وعلى قتلى أهل الحرّة؟» قالوا:
- «نشهد أنّ ابن الزبير منافق، وأنّ قتلى أهل [135] الحرّة فى النار.» قال:
- «فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرّة؟» قالوا:
- «نشهد أنّ يزيد مؤمن، وأنّ قتلانا فى الجنّة.» قال:
- «وأنا أشهد- لئن كان دين يزيد بن معاوية حقا يومئذ- إنّه اليوم وشيعته على حقّ، وإن كان ابن الزبير يومئذ وشيعته على باطل، إنّه اليوم وشيعته على باطل.» قالوا:
- «صدقت، نحن نبايعك ونقاتل معك من خالفك على أن تجنّبنا عبد الله وخالدا ابني يزيد، فإنّهما غلامان، ونكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبىّ.» فكتب حسّان بن مالك إلى الضحّاك بن قيس:
- «إنّك تبايع ابن الزبير، وقد عرفت حقوق بنى أميّة عليك.» وعظم عليه الفرقة، ودعاه إلى الجماعة. وكتب جماعة بنى أميّة بمثل ذلك.
فأبى الضحّاك بن قيس، ومن يرى رأيه.
واجتمعت بنو أميّة ومن يرى رأيهم، فبايعوا مروان لسنّه، وذلك فى المحرّم سنة خمس وستين.
وكان مروان لا يحدّث نفسه بذلك، ولا يحلم به، حتّى قدم عليه عبيد الله بن زياد من البصرة، فأطمعه، واتّفق ما حكيناه [136] من أمر حسّان، وجواب أهل الشام له.
وكان الحصين بن نمير لقى مروان، فشرط عليه شروطا أجابه مروان إليها،(2/102)
فكان يهوى هواه. فلقى مالك بن هبيرة الحصين بن المنذر، وقال له:
- «هلمّ نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كانت من أبيه وهو غدا يحملنا على رقاب العرب.» يعنى خالد بن يزيد.
فقال حصين:
- «لا، لعمري ما تأتينا العرب بشيخ فنأتيهم [1] بصبىّ.» فقال مالك:
- «هذا، ولمّا نرد تهامة، ولمّا يبلغ الحزام الطّبيين [2] .» فقال الحصين:
- «مهلا يا با سليمان!» فقال له مالك:
- «اسمع كلامي، والله لئن استخلفت مروان وآل مروان، ليحسدنّك على [3] سوطك، وشراك نعلك، وظلّ شجرة تستظلّ بها. إنّ مروان أبو عشرة، وأخو عشرة، وعمّ عشرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد.» فأبى الناس إلّا شيخا، فاجتمعوا على مروان، وقالوا:
- «مروان خليفتنا، على أن يكون الأمر بعده لخالد بن يزيد.» فلما اجتمع رأى الناس رضى حسّان بن بحدل أيضا، وتمّ [137] الأمر لمروان، وسار إلى الضحّاك، والتقيا بمرج راهط، فاقتتلا قتالا عظيما، وقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قطّ، وقتل الضحّاك.
وخرج نعمان بن بشير، لمّا بلغه مقتل الضحّاك، هاربا من حمص ليلا، ومعه
__________
[1] . وفى مط: فيأتيهم.
[2] . وفى مط: الطنبين. وهو خطأ.
[3] . والعبارة من «على سوطك» إلى «كنتم» سقطت من مط.(2/103)
امرأته وثقله، فتحيّر [1] ليلته كلّها، وطلبه قوم، فظفر به، وحزّ رأسه، وجيء به إلى مروان.
وأطبق أهل الشام على مروان واستوسقوا [2] له، فجاء [3] إلى مصر، وعليها عبد الرحمان بن جحدر [4] القرشىّ، يدعو إلى ابن الزبير، فقاتله فقتله، وآمن الناس، وبايعه أهلها، فرجع إلى دمشق.
أسماء كتّاب يزيد ووزرائه
كتب ليزيد عبيد الله بن أوس الغسّانى كاتب معاوية. وكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور، وهو الذي أشار عليه، لمّا بلغه مسير الحسين إلى الكوفة بأن يولّى عبيد الله بن زياد، وقد مرّ ذكره، وكتب إليه عن يزيد:
- «أما بعد، فإنّ المحبوب [5] مسبوب يوما ما، والمسبوب محبوب يوما ما، وقد انتميت إلى منصب كما قال الأوّل:
رفعت فجاوزت السحاب وفوقه ... فما لك إلّا مرقب الشمس مرقب
[138] وقد ابتلى بالحسين زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان. وبليت به من بين العمّال، فإمّا أن تعتق [6] ، أو تعود عبدا، والسلام.» وقلّد سلمة بن حريد الأزدى من كتّاب فلسطين الخراج بمصر، وكان يكتب
__________
[1] . فى مط: لتحيّر.
[2] . فى مط: استوثقوا.
[3] . فى مط: فجاؤوا.
[4] . جحدر: كذا فى الأصل. فى مط: جحد. وفى الطبري (7: 467) : جحدم.
[5] . فى مط: المحيوب مسيوب. (كذلك فى الموضعين الآتيين) .
[6] . «فإما أن تعتق» : سقطت من مط.(2/104)
لعبد الله بن الزبير، يقوم بجميع أموره، إلى أن قتل. واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وفيهم عبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف.
وأمّا عبيد الله بن زياد، فكتب له مهران الترجمان، وقام بأمره كلّه، ولم يزل معه إلى أن مات يزيد، فأخرجه أهل البصرة من بلادهم.
وقلّد يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، وكان يكتب له اصطفانوس، فأقام بها، إلى أن ظهر ابن الزبير، وتوفّى يزيد. فاستخلف سلم على خراسان عبد الله بن خازم، وانصرف فى سنة أربع وستين، وتباطأ فى مسيره ليعلم على ما تستقرّ الأمور، فورد البصرة فى سنة خمس وستين.
فدعا سلم يوما بإصطفانوس، وسلّم اثنى عشر ألف ألف [000، 000، 12] دينار، وقال له:
- «احتفظ به، فما فيه قيمة درهم [1] ظلم فيه مسلم ولا معاهد.» فقال [139] اصطفانوس بالفارسيّة:
- «فمن أين هذا كلّه!» فقال:
- «من هدايا العمّال وأهل الكور والدهّاقين.» وكان أهل خراسان أحبّوا سلما محبة ما أحبّوها واليا قطّ، وسمّى باسمه أيّام ولايته، أكثر من عشرين ألف مولود، ثمّ ثاروا به حين بلغهم موت يزيد حتّى استخلف عليهم، وخرج، وهلك مروان بن الحكم بعد تسعة أشهر من ولايته، وجعل ولىّ عهده ابنه عبد الملك، وبعده سليمان، وكان سبب هلاكه أنّ الناس أشاروا عليه أن يتزوّج أمّ خالد بن يزيد ليغضّ منه، لأنّ الناس كانوا يتشوّفونه [2] ، وينتظرون بلوغه.
__________
[1] . فما فيه قيمة درهم: كذا فى الأصل. وفى مط: فما فيه دينار واحد.
[2] . ما فى الأصل: يتشوّفونه (بالفاء) . وما فى مط: يتشفونه. والمثبت هو الصحيح.(2/105)
ذكر حيلة مروان بن الحكم التي عادت بهلاكه
فتزوّج مروان أمّ خالد، فدخل يوما على مروان وعنده جماعة كثيرة، فمشى بين الصفّين، فالتفت مروان إلى من حوله، فقال:
- «إنه ما علمت لأحمق، تعالى يا بن الرطبة الاست.» يقصّر به ليسقطه من عين الناس.
فرجع [140] إلى أمّه، وبكى بين يديها، وقال:
- «خاطبني بحضرة الناس بكذا.» فقالت له أمّه:
- «لا تعرّفنّ أحدا، ولا يعرفنّ هو منك، واسكت فإنّى أكفيكه.» فدخل عليها مروان، وقال لها:
- «هل قال لك خالد فىّ شيئا؟» فأنكرته، وبسطت له وجهها، وقالت:
- «وأىّ شيء يقول خالد فيك؟» ثمّ مكثت [1] أيّاما حتّى أنس مروان، فنام عندها، فغطّته بوسادة وأمسكتها عليه حتّى مات [2] .
__________
[1] . مكثت: كذا فى الأصل. وما فى مط: «مكث» وهو خطأ.
[2] . كان هلاك مروان فى شهر رمضان سنة خمس وستين. تجد القصة فى الطبري (7: 577) ، وفى ابن الأثير (4: 191) ، وفى المسعودي (3: 89) .(2/106)
أيّام عبد الملك بن مروان
وكان مروان قبل هلاكه بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد.
فأما عبيد الله، فسار حتّى نزل الجزيرة، وأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه الشيعة من الكوفة، وهم الذين تسمّوا بالتوّابين، يطلبون بدم الحسين بن علىّ [1] ، وسنذكر من أخبار التوّابين وأخبار أهل المدينة، ما يليق ذكره بهذا الكتاب.
خبر التوّابين
فأما خبر التوابين [2] ، فإنّه لما قتل الحسين بن علىّ، عليهما السلام [3] ، اجتمعت الشيعة بالكوفة، ولام بعضها بعضا، ورأوا أنّهم جنوا جناية عظيمة باستدعائهم [141] الحسين إلى الكوفة، ثمّ تقاعدهم عنه، إلى أن جرى عليه ما
__________
[1] . وزاد فى مط: «رضى الله عنهما» .
[2] . تجد خبر التوابين عند الطبري 7: 497، 538، وعند ابن الأثير 4: 158، وعند المسعودي فى مروج الذهب 3: 93.
[3] . عليه السلام: لا توجد عبارة التسليم هذه فى مط.(2/107)
جرى، وأنه لا يغسل عنهم هذا العار [1] ، ولا يمحو عنهم هذا الإثم، إلّا الخروج والتوبة إلى الله، والطلب بدمه، إلى أن يقتلوا قاتليه أو يقتلوا قبل ذلك.
فاجتمع الكلّ إلى خمسة من الرؤساء، وهم: سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة [2] ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدى، وعبد الله بن وال التميمىّ، ورفاعة بن شدّاد البجلىّ.
ثمّ اجتمع هؤلاء الخمسة على سليمان بن صرد، وكانت له صحبة من النبىّ، صلّى الله عليه وسلّم، فرأسوه [3] ، وقالوا:
- «لا بدّ من رئيس واحد تكون له راية يحفّ بها، ورأى يصدر عنه.» فرضوا بسليمان بن صرد، وخطبهم سليمان خطبة طويلة، قال فى آخرها:
- «كونوا كتوّابى بنى إسرائيل، إذ قال لهم نبيّهم: إنكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم [4] . وإنّى أرى أنّ الله قد سخط عليكم مما [5] أتيتموه فى أمر ابن نبيّكم، فلا يرضيه شيء أو تبيروا [6] قتلة الحسين، فلا تهابوا الموت، فو الله ما هابه أحد إلّا ذلّ.» وتكلّم كلاما كثيرا يشبه هذا. [142] فقال خالد بن سعد:
- «أمّا أنا، فو الله، لو أعلم أنّ قتلى نفسي يخرجني من ذنبي، ويرضى عنّى ربّى، لقتلتها، ولكن هذا الذي ذكرته من قتل الأنفس إنما أمر به قوم، فأشهد الله ومن حضر، أنّ كلّ مال أملكه، سوى سلاحي الذي أقاتل به، صدقة على المسلمين،
__________
[1] . العار: كذا فى الأصل. وما فى مط: العمار. وهو خطأ.
[2] . نجبه: كذا فى الأصل. وما فى مط مهملة إلّا فى الياء التحتانية.
[3] . فرأسوه: كذا فى الأصل، وفى مط: قرأ سورة! وهو تصحيف.
[4] . س 2 البقرة: 54.
[5] . مما: كذا فى الأصل. وفى مط: بما.
[6] . تبيروا: كذا فى الأصل. تبيروا: تهلكوا، تبيدوا. وفى مط: تثيروا. وهو تصحيف.(2/108)
أقوّيهم به على قتال القاسطين.» وقام جماعة، فتكلّموا بمثل ذلك.
فقال سليمان:
- «حسبكم، من أراد من هذا شيئا، فليأت بماله عبد الله بن وال التيمي، فإذا اجتمع عنده ما يكفى جهّزنا به ذوى الخلّة من أشياعكم.» وكتب سليمان بن صرد إلى المدائن، وبها جماعة من الشيعة، ورأسهم سعد بن حذيفة بن اليمان، بما اجتمع عليه رأى القوم من إخوانهم، وذكّر بمقتل حجر وأصحابه، وبما يقاسيه الشيعة من الذلّ، وحضّهم على التوبة، واستقدمهم.
فلما قرأ سعد بن حذيفة الكتاب على الشيعة الذين كانوا بالمدائن، أجابوه بالسمع والطاعة. فأجاب سليمان بن صرد، بما وجد عند الشيعة من الحرص، وأنهم جادّون ينتظرون الداعي، فإذا جاء [143] الصريخ أقبلنا ولم نعرّج، إن شاء الله.
وكتب سليمان إلى أهل البصرة، وإلى من يتشيع بها بمثل ذلك، فجاءه الجواب بمثل ما أجابه أهل المدائن.
ولم يزل الناس فى الاستعداد إلى أن هلك يزيد، وقام بالأمر مروان، ومدة ذلك ثلاث سنين وشهران.
وهلك يزيد، وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث، واجتمعت الشيعة إلى سليمان بن صرد، وقالوا:
- «قد مات هذا [1] الطاغية، وهم اليوم مضطربون مشغولون، فقم بنا نثب على عمرو بن الحريث، ثمّ نظهر الطلب بدم الحسين، ونتتبع قتلته فنقتلهم، وندعو الناس إلى أهل البيت المدفوعين عن حقوقهم.»
__________
[1] . هذا الطاغية: كذا فى الأصل ومط ولكن كلمة غير واضحة زيدت فوق كلمتي «مات هذا» تشبه أن تكون «أمير» ، وباعتبارها تكون العبارة فى الأصل: «أمير هذا الطاغية» .(2/109)
ذكر رأى سليمان بن صرد فى ذلك
فلمّا أكثر الناس، وأطالوا عليه، قال لهم سليمان:
- «رويدا، لا تعجلوا، إنّى قد نظرت فى ما تذكرون، فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة، وفرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون علموا أنهم المطلوبون [144] فكانوا أشدّ شيء عليكم. وقد نظرت فى من معى منكم، فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، ولم ينكأوا [1] فى عدوّهم، وكانوا لهم جزرا، ولكن بثّوا دعاتكم، فإنّى أرجو أن يكون الناس أسرع استجابة حيث هلك هذا الطاغية.»
قدوم المختار، وما زعم
ففعلوا، وخرجت منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. فلما كان بعد ذلك، قدم المختار بن أبى عبيد، فزعم أنه من قبل المهدىّ محمد بن الحنفيّة يدعوهم إلى الطلب بدم الحسين. فكانت الشيعة قد انقادت لسليمان بن صرد. فكان المختار، إذا خاطب الشيعة، ودعاهم إلى نفسه، قالوا:
- «هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة.» فيقول المختار:
- «هذا ليس لكم بصاحب، إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه، ويقتلكم. ليس له بصر بالحرب، ولا علم بها.» فلا يقبل منه.
__________
[1] . لم ينكأوا: كذا فى الأصل، نكأ العدوّ (ينكأ) : جرحه، وقتله. وفى مط: ولم ينكوا. من قولهم: نكا العدوّ، وفيه (ينكى) : أوقع به. هزمه وغلبه.(2/110)
قدوم عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد من قبل ابن الزبير
وقدم الكوفة عبد الله بن يزيد أميرا على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله [145] ، أميرا على خراج الكوفة.
فبلغهما أنّ الشيعة خارجة، وأنهم [1] طائفتان: طائفة كثيرة مع سليمان بن صرد، وطائفة يسيرة مع المختار، وأشير على عبد الله بن يزيد أن يجمع الشرطة والمقاتلة ووجوه الناس وينهض إليهم، وقيل له:
- «إذا صرت إلى منزله، دعوته، فإن أجابك حبسته [2] ، وإن قاتلك، قاتلته وقد جمعت له وعبّأت وهو مغترّ.» وقيل له:
- «إن لم تفعل بذاك، خرج [3] عليك، وقد اشتدّت شوكته، وتفاقم أمره.»
ذكر رأى عبد الله بن يزيد
فنظر عبد الله بن يزيد، فإذا القوم يطلبون غيره بدم الحسين، فكره أن يستحضّهم. فقال لمن أشار عليه بما حكيناه:
- «حدّثونى ما يريدون» قال:
- «يذكرون أنهم يطلبون بدم الحسين.» فقال:
- «أنا قتلت الحسين؟ لعن الله قاتل الحسين.»
__________
[1] . فى الأصل: أنهما، وهو خطأ، وما أثبتناه يوافق مط.
[2] . فى مط: جلسته. وهو خطأ.
[3] . فى الأصل ومط: «وخرج» - بالواو- وحذفناها بمقتضى السياق.(2/111)
وقال:
- «الله بيننا وبين هؤلاء القوم، إن تركونا لم نطلبهم.» ثمّ خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «فقد بلغني أنّ طائفة من أهل هذا المصر، أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل [146] لى: إنّهم يطلبون بدم الحسين بن علىّ. فرحم الله هؤلاء القوم، قد- والله- دللت على أماكنهم، وأمرت بأخذهم، وقيل لى: ابدأ بهم، قبل أن يبدءوك، فأبيت ذلك، وقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركونى لم أطلبهم. وعلام يقاتلوننى؟ فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولا أنا ممّن قاتله. ولقد أصبت بمقتله، رضى الله عنه. هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا، ولينتشروا ظاهرين، ثمّ ليسيروا إلى قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا ظهير لهم.
هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل أخياركم، وأماثلكم، قد توجّه إليكم عهد العاهد به، على مسيرة ليلة من منبج [1] ، فقتاله والاستعداد له أجزى وأرشد من أن يجعلوا بأسكم بينكم، فيسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم العدوّ غدا وقد رققتم [2] ، وتلك أمنيّة عدوّكم، فإنّه قد أقبل إليكم. أعدى خلق الله لكم من ولى عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، ومن قتل من تبغون دمه قد جاءكم، فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم، [147] فإنّى لم آلكم نصحا، جمع الله كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا.» فخرج أصحاب سليمان بن صرد ظاهرين، يشترون السلاح، ويتجهّزون بما يصلحهم.
وأما النفر الذين مع المختار، فإنهم سكتوا، لأنّ المختار كان يريد ألّا يهيج أمرا
__________
[1] . منبج: كذا فى المراصد والطبري 7: 511، وما فى الأصل: منبح- بالحاء المهملة، وما فى مط: منيح، وكلاهما تصحيف.
[2] . رققتم: كذا فى الأصل: رققتم: ضعفتم. وفى مط: وفقتم. وهو خطأ.(2/112)
حتّى ينظر: إلى ما يصير أمر سليمان بن صرد. ورجا أن تستجمع له الشيعة، فيكون أقوى على درك ما يطلب.
اجتماع الأمر لسليمان بن صرد
واجتمع لسليمان أمره فى سنة خمس وستين، وكان قد واعد أصحابه، وكاتب أهل المدائن وغيرهم لغرّة شهر ربيع الأوّل، فخرج فى تلك الليلة إلى المعسكر بالنخيلة، ودار فى الناس ووجوه أصحابه، فلم تعجبه عدّة الناس. فبعث حكيم بن منقذ فى خيل، وبعث الوليد بن حصين فى خيل، وقال:
- «اذهبا حتّى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم، فناديا بذلك.» فخرجا، فكأنّ خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين. وكثر المستجيبون، وكثر البكاء والنحيب. وكان الرجل إذا سمع هذا النداء، فارق أهله وولده، وتركهم يبكون، ووثب إلى سلاحه [148] وودّعهم، ثمّ خرج.
قال:
فلم يصبح حتّى جاءه نحو ممن كان فى عسكره حين دخله، ثمّ دعا بديوانه حين أصبح، فوجد من جاء أربعة آلاف رجل من جملة ستّة عشر ألفا كانوا بايعوه، فقال:
- «سبحان الله! أما هؤلاء بمؤمنين؟ أما يخافون الله؟ أما يذكرون ما أعطوا من العهود والمواثيق؟» وجعل يبعث ثقاته إلى من تخلّف عنه يذكّرهم الله. فخرج إليه نحو من ألف رجل. فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أيها الناس، إنه ما ينفعنا المكره، وإنما ينفعنا ذو النيّة. فمن كان يريد حرث(2/113)
الدنيا، فو الله ما يأتى فيئا [1] ، ولا غنيمة، ما خلا رضوان الله، وما معنا ذهب ولا فضّة، ولا خزّ، ولا حرير، وما هو إلّا سيوفنا فى عواتقنا، ورماحنا فى أكفّنا، وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدوّنا، فمن كان ينوي غير هذا، فلا يصحبنا.» فأجابه الناس:
- «إنما خرجنا للَّه، وللتوبة إليه من ذنبنا، والطلب بدم ابن بنت رسول الله، وإنما نقدم على حدّ السيوف، وأطراف الرماح.»
ذكر آراء أشير على سليمان ورأى رءاه وحده
أما أكثر الناس، فأشاروا على سليمان أن يقصدوا الكوفة، وقالوا:
- «إنّا خرجنا [149] نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلّهم بالكوفة: عمر بن سعد بن أبى وقّاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأين نذهب وندع الأوتاد. والله، ما نلقى، إن مضينا نحو الشام، وهذه الخيل التي أقبلت، إلّا عبيد الله وحده ممن نطلبه، ووراءكم ألدّهم بالكوفة، مثل عبيد الله. [2] » فقال سليمان بن صرد:
- «والله، لقد جئتم برأى، فهلمّوا أيها الناس بجميع ما عندكم.» فلمّا سمع هذا وأمثاله، قال:
- «لكن أنا لا أرى لكم ذلك.»
ذكر الرأى الذي رءاه سليمان
قال:
- «إنّ الذي قتل صاحبكم هو الذي عبّى إليه الجنود فألزم الناس المسير إليه
__________
[1] . فيئا: كذا فى الأصل. وما فى مط: فيها.
[2] . مثل عبيد الله: كذا فى الأصل ومط. قس بما فى الطبري 5: 541- 542.(2/114)
كارهين، وهدّدهم.» ثمّ قال:
- «لا أمان له عندي دون أن يستسلم، فأمضى فيه حكمى، هذا الفاسق، ابن الفاسق، ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد. فإن يظهر الله عليه كان من بعده أهون شوكة، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم، فينظرون من شرك فى دم الحسين، فيقتلونه، وإن قاتلتم الآن أهل مصركم، ما عدم الرجل أن يرى رجلا غدا وقد قتل أخاه، أو أباه، أو حميمه، أو رجلا [150] لم يكن يريد قتله، فيكثر أعداؤكم، فاستخيروا الله وسيروا.» فتهيّأ الناس للخروج.
ذكر رأى آخر رءاه أمير الكوفة عبد الله بن يزيد
لمّا بلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة أنّ سليمان خارج بأصحابه نحو عبيد الله بن زياد، رأيا أن يأتياهم، فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدة، فإن أبوا إلّا الشخوص، سألوهم النظر حتّى يجهّزوا معهم جيشا، فيقاتلوا عدوّهم بكتف وحدّ [1] .
فراسلا سليمان بن صرد وقالا:
- «إنّا نريد أن نجيئك لأمر عسى الله أن يجعل لنا ولك فيه صلاحا.» فقال سليمان للرسول:
- «قل لهما، فليأتيانا.» وأحسن سليمان تعبئة الناس، وجاء عبد الله بن يزيد، فى أشراف أهل الكوفة، وجاء إبراهيم فى جماعة من أصحابه. وكان عبد الله بن يزيد قال لكلّ رجل معروف علم أنّه شرك فى دم الحسين: لا تصحبنى، مخافة أن ينظروا إليه، فيعدوا
__________
[1] . كذا فى الأصل: بكتف وحدّ. وما فى مط: بكتف وجد. وهو تصحيف.(2/115)
عليه.
وكان عمرو بن سعد طول تلك الأيام التي كان سليمان فيها معسكرا بالنخيلة، لا يبيت إلّا فى قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم وهو غافل، فيقتل.
ولما دخل عبد الله بن يزيد إلى سليمان، حمد الله، وأثنى عليه، [151] ثمّ قال:
- «إنّ المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يغشّه، وأنتم أهل مصرنا، وأحبّ الناس إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدّوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم، وأقيموا معنا حتّى نتيسّر ونتهيّأ، فإذا علمتم أنّ عدوّنا قد شارف بلادنا خرجنا إليهم بجماعتنا، فقاتلناهم.» وتكلّم إبراهيم بنحو من هذا.
فتكلّم سليمان، وحمد الله، وأثنى عليه، وقال:
- «قد علمت أنّكما قد محضتمانى النصيحة، واجتهدتما فى المشورة، ونحن فقد خرجنا على نيّة، ولن ننقضها، ونسأل الله العزيمة، والتشديد.» فقالا:
- «فأقيموا حتّى نجهّز معكم جيشا كثيفا، فتلقوا عدوّكم بكتف وجمع وحدّ.» فقال سليمان:
- «تنصرفون ونرى رأينا.» فعرضا عليه الصبر عليهما، حتّى يجعلا له ولأصحابه خراج جوخى [1] دون الناس.
فأبى سليمان وقال:
__________
[1] . جوخى: نهر عليه كورة فى سواد بغداد بالجانب الشرقي منه الراذان، وهو بين خانقين وخوزستان، قالوا: ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى، كان خراجها ثمانين ألف ألف [000، 000، 80] درهم، حتّى صرفت دجلة عنها فخربت (المراصد وياقوت) .(2/116)
- «ما خرجنا للدنيا.» وإنما فعلا ذلك، لما داخلهم من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق.
وأبطأ على سليمان أصحابه من أهل البصرة والمدائن، فخرج من عسكره بالنخيلة، ومرّ نحو الأقساس [1] ، وتخلّف عنه ناس كثير.
فقال سليمان:
- «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، 9: 47 لأنّ الله كره [152] انبعاثهم، فثبّطهم.» ثمّ خرج حتّى صبّح قبر الحسين. فلما انتهى الناس إليه، صاحوا صيحة واحدة، وبكوا. فما روى يوم كان أكثر باكيا منه، وجعلوا يدعون الله، ويسألونه أن يتوب عليهم، وأحسن الناس بالمنطق، وزادهم ذلك بصيرة، وشحذ رأيهم، ووطّنوا أنفسهم على الجهاد، وحبّ الشهادة.
كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد وما كان من جوابه
ثمّ ساروا، فلحقهم كتاب من عبد الله بن يزيد، وهم بالقيّارة، مع المحلّ [2] بن خليفة الطائىّ.
قال المحلّ:
فلقيته، وأبلغته السلام والكتاب، فاستقدم أصحابه حتّى ظنّ أن قد سبقهم.
فوقف، وأشار إلى الناس، فوقفوا، ثمّ قرأ الكتاب، فإذا فيه:
- «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين. سلام عليكم، أما بعد، فإنّ كتابي هذا
__________
[1] . الأقساس: قرية بالكوفة وكورة يقال لها: أقساس مالك (المراصد) .
[2] . المحلّ: ما فى الأصل ومط غير مضبوط، فضبطناه كما فى الطبري 5: 548.(2/117)
كتاب ناصح، وكم من ناصح مستغشّ، ومن غاشّ مستنصح. إنّه قد بلغني أن قد أقبل من الشام، جموع عظيمة، وأنتم تريدون أن تلقوهم بالعدد اليسير، وإنّه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها، تكلّ معاوله، وينزع، وهو مذموم الفعل والعقل. يا قومنا، لا تطمعوا عدوّكم فى أهل بلادكم، فأنتم خيار كلّكم، ومتى يصبكم عدوّكم، أطمعهم ذلك فى من وراءكم [153] من أهل مصركم. يا قومنا، إنّهم إن يظهروا عليكم، يرجموكم، ويعيدوكم فى ملّتهم، ولن تفلحوا إذا أبدا [1] ، يا قومنا، إنّ أيدينا وأيديكم واحدة وعدوّنا وعدوّكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدوّنا، ومتى تختلف تهن شوكتنا. يا قومنا، لا تستغشّوا نصحى، ولا تخالفوا أمرى، وأقبلوا حين يقرأ عليكم كتابي، أقبل الله بكم إلى طاعته، والسلام.» فلما قرأ الكتاب [2] ، قال ابن صرد للناس:
- «ماذا ترون؟» قالوا:
- «ماذا نرى؟ قد أبينا هذا عليهم، ونحن فى مصرنا، وأهلنا، والآن حين خرجنا، ووطّأنا أنفسنا على الجهاد، نفتأ عزيمتنا؟ ما هذا برأى.» ثمّ نادوه:
- «أخبرنا برأيك!» قال:
- «رأيى أن لا ننصرف عمّا جمعنا الله عليه، لأنّا وهؤلاء مختلفون، لأنّهم لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ونحن لا نرى الجهاد مع ابن الزبير إلّا
__________
[1] . س 18 الكهف: 20.
[2] . تجد الكتاب عند الطبري (7: 549) أيضا وباختلاف طفيف.(2/118)
ضلالا، وإن ظهرنا رددنا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا، فعلى نيّتنا، تائبين من ذنوبنا.
لأنّ لنا شكلا، ولابن الزبير شكلا.» فانصرف الناس معه حتّى نزلوا هيت [1] .
وكتب سليمان جواب الكتاب، ولا طفه، وأثنى عليه، واعتذر إليه، بأنّهم تائبون خرجوا على نيّة الجهاد، وتوجّهوا [154] لأمر لا ينقضونه. [2] فلما أتى هذا الكتاب إلى عبد الله بن يزيد، قال:
- «استمات القوم. أوّل كتاب يرد عليكم يكون بقتلهم.»
بين سليمان بن صرد وزفر بن الحارث فى قرقيسيا
وسار القوم إلى قرقيسيا، وبها زفر بن الحارث بن كلاب، قد تحصّن بها من القوم، ولم يخرج إليهم. فبعث سليمان إلى المسيّب بن نجبة، فقال له:
- «ايت ابن عمّك هذا، فقل له: فليخرج لنا سوقا، فإنّا لسنا إيّاه نريد، إنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين.» فانتهى المسيّب إلى الحصن، وانتسب، واستأذن. فقيل:
__________
[1] . هيت: سمّيت باسم بانيها، وهي بلدة على الفرات فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة على جهة البرية فى غربي الفرات (المراصد) .
[2] . والجواب كما فى الطبري (7: 550) :
«بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت. فنعم- والله- الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة أنت والله من نأمنه بالغيب، ونستنصحه فى المشورة، ونحمده على كلّ حال، إنّا سمعنا الله، عزّ وجلّ، يقول فى كتابه: إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة (إلى قوله:) وبشّر المؤمنين [س 9 التوبة: 111] إنّ القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا. إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم، وقد توجّهوا إلى الله، وتوكّلوا عليه، ورضوا بما قضى الله. ربنا عليك توكّلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، والسلام عليك.»(2/119)
- «هذا رجل حسن الهيئة يستأذن عليك، ويزعم أنه المسيّب بن نجبة.» فقال زفر بن الحارث:
- «هذا فارس مضر، وهو بعد رجل ناسك له دين، فأذنوا له.» وجاء، فأجلسه إلى جانبه، وسائله، وألطفه فى المسألة.
ثمّ خاطبه المسيّب، وقال:
- «ممّ تحصّن، إنه والله، ما إياكم نريد، وما قصدنا إلّا هؤلاء الظلمة المحلّين، فأخرج لنا سوقا، فإنّا لا نقيم بساحتك إلّا يوما أو بعض يوم.» فقال له زفر بن الحارث:
- «إنّا لم نغلق أبواب المدينة إلّا لنعلم: إيّانا اعتريتم، أم غيرنا. وما نعجز عن الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحبّ [155] أنّا بلينا بقتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنة جميلة.» ثمّ دعا ابنه، وأمر أن يضع لهم سوقا جامعة، وأمر للمسيّب بفرس وألف درهم.
فقال المسيّب:
- «أمّا المال، فلا حاجة لى فيه، ولا له خرجنا، وأما الفرس، فإنّى أقبله، فلعلّى أحتاج إليه إن غمز [1] فرسي تحتي.» وخرج حتّى أتى أصحابه، وأخرجت لهم السوق، وبعث إلى المسيّب بعشرين جزورا، وإلى سليمان بن صرد مثل ذلك. وكان سأل عن وجوه العسكر، فأخرج إلى كلّ واحد منهم بعشر جزائر وعلف كثير، وطعام واسع، وأخرج إلى العسكر عيرا عظيمة، وشعيرا كثيرا.
وقال غلمان زفر للناس:
- «هذه عير، فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير، فاحتملوا ما أردتم، وهذا
__________
[1] . فى مط: عمر. وهو خطأ. فى الطبري (5: 552) إن ظلع فرسي أو غمز. غمزت الدابة: ظلعت، أى مالت من رجلها.(2/120)
دقيق، فتزوّدوا ما أطقتم.» فأخصب القوم، ولم يحتاجوا إلى كثير شيء من السوق التي أخرجت لهم.
وبعث إليهم زفر بن الحارث:
- «إنّى خارج إليكم، ومشيّعكم، ومشير عليكم برأى عندي، والله موفّقكم.»
ذكر رأى أشار به زفر بن الحارث على سليمان بن صرد وأصحابه
[156] ثمّ إنّ زفر خرج إليهم من الغد، وقد خرجوا على تعبئة، فسايرهم، وقال لسليمان:
- «إنّه قد بعث بخمسة من الأمراء، وقد فصلوا من الرقّة الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذى الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق [1] الغنوي، وحملة [2] بن عبد الله الخثعمي، وقد جاءوكم مثل الشوك والشجر، أتاكم والله عدد كثير، وحدّ حديد، وأيم الله، لقلّ ما رأيت رجالا أحسن هيئة ولا عدّة، ولا أخلق بكل خير، من رجال أراهم معكم، ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى.» قال ابن صرد:
- «عَلَى الله تَوَكَّلْنا 7: 89، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. 12: 67 [3] » فقال لهم زفر:
- «فهل لكم فى أمر أعرضه عليكم؟ لعلّ الله يجعل [4] لنا ولكم فيه خيرا.»
__________
[1] . ما فى الأصل ومط: المحارق. وما فى الطبري: المخارق.
[2] . حملة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: جبلة.
[3] . س 12 يوسف 67، س 14 إبراهيم 12 بتصرّف.
[4] . فى الأصل ومط: أن يجعل. (بزيادة أن) .(2/121)
قال سليمان:
- «وما هو؟» قال: «نفتح لكم مدينتنا، فتدخلونها، فيكون أمرنا واحدا، وأيديكم مع أيدينا.» فقالوا:
- «لا نفعل ذلك.» قال زفر:
- «فتنزلون على باب مدينتنا، ونخرج، ونعسكر إلى جانبكم، فإذا جاءنا هذا العدّو قاتلناه جميعا.» فقال سليمان لزفر:
- «قد أرادنا أهل مدينتنا على مثل ما ذكرت، ثمّ كتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم نفعل.» [157] قال زفر:
- «فلو ضممتم رأينا إلى رأيهم، وأقمتم معنا، وكاتبتم أهل مصركم، فبادروا إليكم بما عرضوا عليكم لرجونا أن يصل إلينا عدوّنا ونحن مجتمعون بحدّ واحد، وشوكة واحدة، فكانت الدبرة عليهم.» فقالوا:
- «فإنّا لا نفعل.» فقال زفر:
- «فانظروا الآن ما أشير به عليكم، فاقبلوه، وخذوا به، فإنّى عدوّ القوم، وأحبّ أن يجعل الله الدائرة على القوم، وأنا لكم وادّ، أحبّ أن يحوطكم الله بالعافية. إنّ القوم قد فصلوا من الرقّة، فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة فى ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة فى أيديكم، وما بين مدينتنا وبينكم فأنتم له آمنون. والله، لو أنّ خيولي كرجالى، لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة(2/122)
إلى عين الوردة، فإنّ القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله، لقلّ ما رأيت جماعة خيل أكرم منها. تأهّبوا إليها من يومكم هذا، فإنّى أرجو أن تسبقوهم إليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة، فلا تقاتلوهم فى فضاء [1] ترامونهم، وتطاعنونهم، فإنّهم أكثر منكم، فلا آمن أن يحيطوا [158] بكم، ولا تقفوا لهم ترامونهم، وتطاعنونهم، فإنّه ليس لكم مثل عددهم، وإن استهدفتم لهم لم يلبّثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفّوا لهم حين يلقونكم. فإنّى لا أرى معكم رجالا، ولا أرى جميعكم إلّا فرسانا، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمى رجالها، والرجال تحمى فرسانها، وأنتم لا رجال لكم تحمى فرسانكم. فالقوهم فى المقانب والكتائب. ثمّ بثّوها فى ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كلّ كتيبة كتيبة إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين، ترجّلت الأخرى، فنفّست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة سفلت، ولو كنتم فى صفّ واحد، فزحفت إليكم الرجال، فدفعتم عن الصفّ انتقض، فكانت الهزيمة.» ثمّ وقف، فودّعهم، فأثنى الناس عليه، ودعوا له، وقالوا له خيرا.
وقال له سليمان:
- «نعم المنزول به أنت، أكرمت النزل [2] ، وأحسنت الضيافة، ونصحت فى المشورة.»
موقعة عين الوردة
ثمّ إنّ القوم جدّوا فى السير، فجعلوا كلّ مرحلتين مرحلة، حتّى انتهوا إلى عين الوردة، وسبقوا القوم إليها، ونزلوا فى [159] غربيّها، فأقاموا خمسا لا يبرحون،
__________
[1] . فضاء: كذا فى الأصل. وما فى مط: قضاء. وهو خطأ.
[2] . النزل: كذا فى الأصل. وفى الطبري ومط: النزول. والنزل: النازلون.(2/123)
فاستراحوا فأراحوا خيلهم، ثمّ خطبهم سليمان، فأطال خطبته، وذكر الدنيا، فزهّد فيها، والآخرة فرغّب فيها، ثمّ قال:
- «أمّا بعد، فقد أتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم له فى السير آناء الليل والنهار، تريدون فى ما تظهرون التوبة النصوح، ولقاء الله معذرين. فقد جاءوكم، بل أنتم جئتموهم فى دارهم وحيّزهم [1] ، فإذا لقيتموهم، فاصدقوهم، واصبروا، ولا يولّينّهم أحد دبره إلّا متحرّفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، ولا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيرا إلّا أن يكون من قتلة إخواننا بالطّفّ، فإنّ هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب فى أهل هذه الدعوة.» ثمّ قال سليمان:
- «إن قتلت، فأمير الناس المسيّب بن نجبة، فإن أصيب، فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنّ أصيب، فأمير الناس عبد الله بن وال، فإن أصيب، فأميرهم رفاعة بن شدّاد. [2] ثمّ بعث المسيّب بن نجبة فى أربعمائة فارس، وقال له:
- «سر حتّى تلقى أول عسكر من عساكرهم، فشنّ فيهم الغارة، فإن رأيت ما تحبّ، وإلّا فانصرف إلىّ، وإيّاك أن تنزل، أو ينزل أحد من [160] أصحابك.» فمضى المسيّب، حتّى لقى رجلا أعرابيا يسوق أحمرة. فقال:
- «علىّ بالرجل.» فأتى به، فقال:
- «كم بيننا وبين أدنى هؤلاء القوم؟» قال:
- «أدنى عسكرهم إليك عسكر ابن ذى الكلاع، وبينه وبين الحصين بن نمير
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري: وحيّزهم. وفى مط: خيرهم.
[2] . أنظر الطبري (7: 555) .(2/124)
اختلاف. ادّعى حصين أنه على جماعة الناس، وقال ابن ذى الكلاع: ما كنت لتولّى [1] علىّ. وقد تكاتبا فى ذلك إلى عبيد الله، [فهما ينتظران أمره] [2] فهذا عسكر ابن ذى الكلاع على رأس ميل.» قال:
فتركنا الأعرابىّ، ومضينا مسرعين، فو الله ما شعروا بشيء حتّى أشرفنا عليهم وهم غارّون فحملنا إلى جانب عسكرهم، فو الله، ما ثبتوا وانهزموا، وخلّوا لنا معسكرهم، فقتلنا منهم، وجرحنا، وأخذنا من المعسكر ما خفّ علينا، وصاح المسيّب فينا:
- «الرجعة، الرجعة، إنكم قد نصرتم وغنمتم وسلمتم، فانصرفوا.» فانصرفنا إلى سليمان.
عبيد الله بن زياد يسرّح الحصين بن نمير لدفع سليمان
وأتى الخبر عبيد الله، فسرّح إلينا الحصين بن نمير مسرعا، حتّى نزل فى اثنى عشر ألفا، فخرجنا إليه وقد عبّى سليمان ميمنته وميسرته، ووقف فى القلب. فلما دنوا منّا دعونا إلى الجماعة مع عبد الملك بن مروان، وإلى الدخول فى طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد [161] فنقتله ببعض من قتله من إخواننا، وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان، وإلى أن نخرج من بلادنا من آل الزبير، ثمّ نردّ الأمر إلى أهل بيت نبيّنا الذين هم أولى بالأمر. فأبى القوم، وأبينا.
ثمّ حملت ميمنتنا على ميسرتهم فهزمتهم، وحلمت الميسرة، وحمل سليمان فى القلب فهزمناهم حتّى اضطررناهم إلى عسكرهم، فكان الظفر لنا حتّى حجز الليل بيننا وبينهم، وقد أحجزناهم فى عسكرهم.
__________
[1] . لتولّى: كذا فى الأصل. وما فى مط: تتولى.
[2] . ما بين [] أخذناه عن الطبري 7: 557. كما يوجد عند ابن الأثير 4: 181.(2/125)
فلما كان من الغد، صبّحهم ابن ذى الكلاع فى ثمانية آلاف، أمدّهم بها عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله أنفذ إليه يشتمه، ويقول:
- «عملت عمل الأغمار، وضيّعت مسالحك وعسكرك. سر إلى الحصين بن نمير، حتّى توافيه، فهو أمير للناس.» فجاءه مددا، وغاديناهم القتال. فاقتتلنا قتالا لم ير الشيب والمرد مثله، وكان فينا قصّاص يقصّون، ويحضّون [1] ، ويقولون:
- «أبشروا عباد الله، فحقّ لمن ليس بينه وبين لقاء الله، والراحة من أبرام الدنيا، وأذاها، إلّا فراق هذه النفس الأمّارة بالسوء، أن يكون سخيّا بفراقها، مسرورا بلقاء ربّه.» فاقتتلنا اليوم الثاني كقتال أمس، ثمّ اقتتلنا اليوم الثالث [162] مثل ذلك، إلى أن كثرنا أهل الشام، وانعطفوا [2] علينا من كلّ جانب.
فلما نظر سليمان إلى ذلك قال:
- «عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلىّ.» وكسر جفن سيفه، ففعل معه ناس كثير مثل ذلك، ومشى الناس بالسيوف، مصلتين، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا.
مقتل سليمان بن صرد
فلما رأى الحصين بن نمير صبرنا وبأسنا، بعث رجالا ترمى بالنبل، واكتنفهم الخيل والرجال. فقتل سليمان، وأخذ الراية المسيّب بن نجبة، فقاتل وأحسن وصبر صبرا لم ير مثله، وقاتل قتالا لم يسمع بمثله، وما ظنّ أحد أنّ رجلا واحدا
__________
[1] . يحضّون: كذا فى الأصل. وفى مط: يحصون.
[2] . انعطفوا: كذا فى مط. وفى الطبري: تعطّفوا. وفى الأصل: انعطفوا (بهمزة باب الانفعال وتشديد باب التفعيل!) وهو خطأ. والمثبت يوافق مط.(2/126)
يقدر أن يبلى ما أبلى، إلى أن قتل، وأخذ الراية عبد الله بن سعد.
قال:
فبينا نحن نقاتل معه إذ جاء فرسان ثلاثة أنفذهم أهل المدائن على خيول مقلّمة تطوى المنازل يبشّروننا بخروج أصحابنا من المدائن وخروج المثنى بن محربة فى أهل البصرة، والجميع نحو من خمسمائة فارس.
فقال عبد الله بن سعد لمّا قالوا له: أبشر بمجيء إخوانكم:
- «ذلك لو جاءونا ونحن أحياء.» قال:
فنظروا إلى ما أساء أعينهم، ولم يلبثوا أن قتل عبد الله بن سعد، ونادينا عبد الله بن [163] وال، وكان قد استلحم فى عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليهم رفاعة بن شدّاد، فكشفهم عنه، ثمّ أقبل إلى رايته، فأخذها، ونادى الناس:
- «يا عباد الله، من أراد الحياة التي لا وفاة لها، والراحة التي لا نصب بعدها، والسرور الذي لا حزن فيه، فإلىّ.» ثمّ قاتلناهم، وكشفناهم. ثمّ انعطفوا علينا، وكثرونا من كلّ جانب حتّى ردّونا إلى مكاننا الذي كنّا به. (قال: وكنّا بمكان لا يقدرون أن يأتوا فيه، إلّا من وجه واحد) وحملت علينا خيل عظيمة فيها أدهم بن محرز عند المساء، فقتل عبد الله بن وال، فنادينا رفاعة، وقلنا:
- «أمسك رايتك.» فقال:
- «لا أريدها.» قلنا:
- «إنّا للَّه، مالك؟» قال:
- «ارجعوا بنا، فلعلّ [الله] [1] يجمعنا ليوم شرّ لهم.»
__________
[1] . الله: تكملة من الطبري 7: 565.(2/127)
فوثب إليه عبد الله بن عوف بن أحمر.
ذكر رأى رءاه ابن أحمر
فقال:
- «أهلكتنا، والله، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا، فلا نبلغ فرسخا حتّى نهلك من عند آخرنا، فإن نجا منّا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى فتقرّبوا به إليهم، فيقتل صبرا [1] . ننشدك الله أن تفعل. هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليل قد غشينا [164] هلمّ نقاتلهم على حالنا هذه، فإنّا الآن مجتمعون ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل، فرمينا بها، فكان ذلك أوّل شأن حتّى نصبح، فنسير على مهل، ويحمل الرجل منّا جريحه، وينتظر صاحبه، ويسير العشرة والعشرون معا، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتّبع بعضهم بعضا. ولو كان ما ذكرت لم تقف أمّ على ولد، ولم يعرف رجل وجه صاحبه، ولم نصبح إلّا ونحن بين مقتول ومأسور.» فقال له رفاعة:
- «نعم ما رأيت.» وأخذ يحمّل.
فقال ابن أحمر:
- «قاتل معنا ساعة واحدة، رحمك الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.» وما زال يناشده حتّى احتبس عليه، وتحدّث الناس بما عزم عليه رفاعة من الرجوع، وكان لا تزال الجماعة تنادى:
- «عباد الله، روحوا إلى ربّكم، والله، ما فى شيء من الدنيا خلف من رضا الله.
قد بلغنا أنّ طائفة منكم يريدون الرجوع إلى ما خرجوا منه، وأن يركنوا إلى الدنيا
__________
[1] . يقال: «قتل فلان صبرا» أى: حبس على القتل حتّى يقتل.(2/128)
التي قليلا ما يلبثون فيها. ثمّ يحملون، فيقاتلون حتّى يقتلوا.» [1] فلما أمسى الناس ورجع أهل الشام إلى معسكرهم، نظر رفاعة إلى كلّ رجل قد عقربه [2] ، وإلى [165] كلّ جريح لا يعين على نفسه. فدفعه إلى قومه. ثمّ سار بالناس ليلته كلّها حتّى عبر الخابور، وقطع المعابر كلّها وكان لا يمرّ بمعبر إلّا قطعه. وأصبح الحصين، فوجدهم قد ذهبوا، وكان رفاعة قد خلّف وراءهم أبا الجويريّة فى سبعين فارسا يسيرون وراء الناس فإذا سقط رحل حمله، وإذا سقط متاع قبضه حتّى يعرّفه. فلم يزالوا كذلك حتّى مرّوا بقرقيسيا، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعثه فى المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطبّاء، وقال لهم:
- «أقيموا ما أحببتم، فلكم عندنا الكرامة والمواساة.» فأقاموا ثلاثا ثمّ تزوّدوا ما أحبّوا، ورحلوا.
فاستقبلهم مددهم من البصرة، ومن المدائن، فتباكوا، وتناعوا إخوانهم، وانصرف أهل البصرة والمدائن إلى بلدانهم، وقدم الناس الكوفة والمختار محبوس.
ووردت البشارة على عبد الملك بن مروان، فأظهر سرورا عظيما، وقال للناس:
- «لم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاع ولا امتناع.»
ذكر ما كان من المختار بعد التوّابين
[166] لما انصرف الناس إلى الكوفة إذ المختار محبوس، فكتب من حبسه إلى رفاعة بن شدّاد:
__________
[1] . كذا فى الأصل. وفى مط: وأن تركنوا إلى التي قليلا ما تلبثون فيها ثمّ تحملون، فتقاتلون، حتّى تقتلوا.
أنظر الطبري 7: 567.
[2] . كذا فى الأصل ومط والطبري: قد عقربه. فى الكامل (4: 185) : قد عقربه فرسه.(2/129)
- «أما بعد، فمرحبا بالعصب الذين عظّم الله لهم الأجر، ورضى انصرافهم حين قفلوا. [1] إنّ سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه الله، فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون. إنّى أنا الأمين المأمون المأمور، أنا أمير الجيش، وقاتل الجبّارين، والمنتقم من الأعداء، والمقيد من الأوتار [2] . فأعدّوا، واستعدّوا، واستبشروا، وأبشروا. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلّين، والسلام عليك [3] .» وتحدّث الناس بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد، فخرجا فى الناس حتّى أتيا المختار، فأخذاه.
وفى هذه الأيّام اشتدّت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل نافع بن الأزرق.
ذكر السبب فى اشتداد شوكة الخوارج وما كان من أمرهم
لما اشتغل أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم، بسبب [167] مسعود بن عمرو، وكثرت جموع نافع بن الأزرق، فأقبل حتّى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فى أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة ويرفعه عن أرضها، حتّى بلغ مكانا من أرض الأهواز يقال له: دولاب. فتهيّأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميرىّ، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميمىّ، وجعل ابن الأزرق على
__________
[1] . قفلوا: كذا فى الأصل والطبري 7: 569. وفى مط: نقلوا.
[2] . الأوتار: كذا فى الأصل والطبري. وفى مط: الأوتاد.
[3] . عليك: ليست فى الطبري. وهي موجودة فى الأصل ومط.(2/130)
ميمنته عبيدة بن هلال اليشكرىّ، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمىّ، ثمّ التقوا، فاضطربوا، واقتتل الناس قتالا لم ير قطّ أشدّ منه، فقتل مسلم بن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب، وأمّرت الأزارقة عليهم عبد الله بن الماحوز، ثمّ عادوا، فاقتتلوا أشدّ قتال، فقتل الحجاج بن باب أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثمّ إنّ أهل البصرة أمّروا عليهم ربيعة بن الأحرم التميمي، وأمّرت الأزارقة عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثمّ عادوا فاقتتلوا حتّى [168] أمسوا وقد كره بعضهم بعضا وملّوا القتال. فإنّهم لمتواقفون متحاجزون إذ جاءت الخوارج سريّة لهم جامّة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس، فانهزموا، وقاتل أمير البصرة ربيعة بن الأحرم [1] ، فقتل، وأخذ الراية حارثة بن بدر، فقاتل ساعة وقد ذهب عنه الناس، فقاتل من وراء الناس فى حماتهم وأهل الصبر منهم. ثمّ أقبل بالناس حتّى نزل بهم منزلا بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم، وراعهم، وامتنع نومهم.
وبعث بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة القرشىّ على تلك الحزّة [2] ، فقدم، وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة ليس دونها كبير مانع.
ذكر اتّفاق جيّد اتّفق لأهل البصرة وهم فى تلك الحال
فبينا الناس على حالهم تلك من الخوف والشدّة، إذ قدم المهلّب بن أبى صفرة
__________
[1] . ربيعة بن الأحرم: كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (7: 582) : ربيعة الأجذم (بالذال المعجمة وبدون «بن» ) .
[2] . الحزّة: كذا فى الأصل ومط والطبري. وفى الأصل كتب فوق كلمة «الحزّة» : الحرب.(2/131)
من قبل عبد الله بن الزبير معه عهده على خراسان.
فقال الأحنف للحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة والناس عامّة:
- «أيها الناس، لا والله، ما لهذا الأمر إلّا المهلّب، فاخرجوا [169] بنا إليه نكلّمه.» فخرج ومعه أشراف الناس، فكلّموه فى أن يتولّى قتال الخوارج، فقال:
- «لا أفعل. هذا عهد أمير المؤمنين معى على خراسان، ولم أكن لأدع وجهى وأقاتل دونكم.» فدعاه ابن أبى ربيعة، فكلّمه فى ذلك، فقال له مثل ما قاله للقوم ولم يجبه.
ذكر رأى صحيح وحيلة تمّت لأهل البصرة حتّى حارب عنهم المهلّب
ثمّ اجتمع الناس، فأداروا بينهم الرأى، فاتّفقوا مع ابن أبى ربيعة، أن يكتبوا على لسان ابن الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم- «من عبد الله بن الزبير عبد الله أمير المؤمنين، إلى المهلّب بن أبى صفرة، سلام عليك. فإنّى أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو.
أما بعد، فإنّ الحارث بن عبد الله كتب إلىّ يذكر الأزارقة المارقة، وأنهم أصابوا جندا للمسلمين كان عددهم جمّا، وأشرافهم كثيرا، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجّهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهدا، وقد رأيت حيث ذكر أمر هذه المارقة أن تخرج إليهم، وتلى قتالهم، ورجوت أن يكون ميمونا طايرك، مباركا(2/132)
على أهل مصرك، والأجر فى ذلك أفضل [170] من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشدا، فقاتل عدوّ الله وعدوّك، ودافع عن حقّك وحقوق أهل مصرك، فإنّه لن يفوتك من سلطاننا خراسان، ولا غير خراسان، إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» فأتى المهلّب بذلك الكتاب فقرأه، فلمّا فهمه، قال:
- «فإنّى والله لا أسير إليهم إلّا أن تجعلوا لى ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أتقوّى [1] به، ومن معى، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوى الشرف من أحببت.» فقال جميع أهل البصرة:
- «ذلك لك.» قال: «فاكتبوا على الأخماس بذلك كتابا.» ففعلوا، إلّا ما كان من مالك بن مسمع، وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها [2] عليهم المهلّب.
فقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلّب:
- «وما عليك أن لا يكتب لك مالك بن مسمع، ولا من تابعه من أصحابه إذا أعطاك الذي أردت جميع أهل البصرة، وهل يستطيع مالك خلاف جماعة الناس، أو له ذلك؟ انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوّك.» ففعل ذلك المهلّب، وأمّر على الأخماس. [171] فأمّر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمّر الحريش بن هلال السعدي على خمس بنى تميم.
__________
[1] . أتقوى به ومن معى: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (7: 584) : ما أقوى به من معى.
[2] . فاضطغنها: كذا فى الأصل والطبري (7: 584) . وفى مط: فاصطفها، وهو خطأ.(2/133)
وجاءت الخوارج حتّى انتهت إلى الجسر الأصغر عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم المهلّب فى أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحاربهم عن الجسر ودفعهم عنه، فكان أوّل شيء دفعهم عنه البصرة، ولم يكن بقي لهم إلّا أن يدخلوها، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثمّ عبّى لهم، فسار فى الخيل والرجال، فلما رأوا أن قد أظلّ عليهم وانتهى إليهم ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتّى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له: سلّى وسلّبرى [1] ، فأقاموا به.
ولما بلغ حارثة بن بدر الغدانى أنّ المهلّب قد أمّر على قتال الأزارقة، قال لمن اتبعه وبقي معه من الناس:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
قد أمّر المهلّب
فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة إلى المهلّب. ولما نزل المهلّب بالقوم، خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام [172] الأحراس، ولم يزل الجند على مصافّهم والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكّلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلّب وجدوا أمرا محكما وثيقا شديدا، فرجعوا ولم يقابلهم انسان قطّ كان أشدّ عليهم منه، ولا أغيظ لقلوبهم منه.
فمن ذلك أنهم بعثوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز فى خيلين عظيمين
__________
[1] . سلّى وسلّيرى: كذا فى الأصل. وفى مط: سلى وسلرى. وفى ياقوت ص (232 و 244) : سلّى وسلّبرى، وعن محمد بن موسى: سلّى، ومجموع اللفظين موضع واحد من نواحي خوزستان قرب جندي سابور.(2/134)
ليلا إلى معسكر المهلّب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وعبيدة من جانبه الأيسر، ثمّ كبّروا وصاحوا بالناس، فوجدوهم على تعبئتهم ومصافّهم حذرين معدّين.
فلما ذهبوا ليرجعوا، ناداهم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فقال:
وجدتمونا وقرا أنجادا ... لا كشفا خورا ولا أوغادا
فردّوا عليه وتشاتموا. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلّب على تعبئتهم، وأخماسهم، ومواقفهم، وخرجت الخوارج على مثل ذلك من التعبئة، إلّا أنّهم أحسن عدّة، وأكرم خيولا، وأكثر سلاحا من أهل البصرة، وذلك أنّهم مخروا الأرض وجرّدوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا وعليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، [173] وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زرد يشدّونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، والتقى الناس، وقاتلوا كأشدّ القتال، فصبر بعضهم لبعض عامّة النهار.
ثمّ إنّ الخوارج شدّت على الناس أجمعها شدّة منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا يلوى امرؤ على ولد، حتّى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السبي، وأسرع المهلّب حتّى سبقهم إلى مكان يفاع فى جانب سنن المنهزمين، ثمّ نادى الناس:
- «إلىّ إلىّ عباد الله!» فثاب إليه جماعة من قومه، وثاب إليه سارية بن عمان، حتّى اجتمع إليه نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلما نظر إلى من اجتمع، رضى جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أما بعد، فإنّ الله يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلّة، إنّى لجماعتكم لراض،(2/135)
ولأنتم والله أهل الصبر وفرسان أهل المصر، وما أحبّ أنّ أحدا ممن انهزم معكم.
لو كانوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا. عزمت على كلّ امرئ منكم لمّا أخذ عشرة أحجار معه، ثمّ امشوا بنا نحو معسكرهم، فإنهم الآن آمنون [174] وقد خرجت خيلهم فى طلب إخوانكم، فو الله إنّى لأرجو ألّا ترجع خيلهم حتّى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم.» فقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به، ثمّ أقبل بهم زحفا، فلا والله ما شعرت الخوارج إلّا بالمهلّب يضاربهم فى جانب عسكرهم. ثمّ استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه وعليهم السلاح والدروع كاملا، فيأخذ الرجل من أصحاب المهلّب يستعرض وجه الرجل بالحجارة فيرميه حتّى يثخنه، ثمّ يطعنه برمحه، ويضاربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلّا ساعة حتّى قتل عبيد الله بن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه، وأخذ المهلّب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلا ذريعا، وأقبل من كان فى طلب أهل البصرة، منهم راجعا وقد وضع لهم المهلّب خيلا ورجالا فى الطريق تختطفهم وتقتلهم. فانكفئوا راجعين مفلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان. وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف الخوارج على تلك الحال من الفلول وقلّة العدد حتّى جاءتهم [175] مادّة لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وإصبهان، وأقام المهلّب، فلم يزل ذلك مكانه حتّى جاء مصعب إلى البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة عنها، وكتب المهلّب بالفتح كتابا بليغا.
احتيال المختار وهو فى المحبس
وفى هذه المدة التي جرى ما حكيناه، كان المختار يحتال من محبسه ويراسل الشيعة، حتّى اجتمعوا له، فراسله وجوههم مثل رفاعة بن شدّاد، والمثنى(2/136)
بن محرمة [1] ، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط [2] ، وعبد الله بن شدّاد، وقالوا له:
- «نحن لك بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك حتّى نخرجك، فعلنا.» فسرّ المختار باجتماعهم له وقال:
- «لا تريدوا هذا، فإنّى خارج فى أيّامى هذه.» قال:
وكان المختار قد بعث غلاما له يدعى رزينا، إلى عبد الله بن عمر يسأله أن يشفع له، فكتب له عبد الله بن عمر كتابا لطيفا إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد يقول فيه:
- «قد علمتما ما بيني وبين المختار بن أبى عبيد من الصهر، فأقسمت عليكما بحقّ ما بيني وبينكما لما خلّيتما سبيله.» فلما قرءا كتابه، أرسلا إلى المختار [176] وكفّلاه من قوم، وحلّفاه بالذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ومماليكه كلّهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهم بذلك.
فكان المختار بعد ذلك يقول:
- «قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنّى أفي لهم باليمين التي حلّفونيها. أمّا يميني لهم بالله، فإنّه ينبغي لى إذا حلفت على يمين، فرأيت ما هو خير منها، أن أدع ما حلفت عليه، وآتى الذي هو خير، وأكفّر عن يميني، وأمّا هذه البدنة فأهون علىّ من بصقة، وما ثمن ألف بدنة مما يهولني، وأما عتق موالىّ، فو الله، لوددت أنه قد استتبّ لى أمرى ثمّ لم أملك مملوكا أبدا.»
__________
[1] . محرمة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 599) : والمثنى بن مخربة العبدى.
[2] . شميط (بالشين المعجمة) : كذا فى الأصل. وفى مط: سميط، بالسين المهملة.(2/137)
ثمّ اختلفت الشيعة إلى المختار، ولم يزل يبايع له ويقوى أمره حتّى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة، فقدم عبد الله بن مطيع، [177] وطلب المختار، وبعث إليه من يثق به ليأتيه به، فتمارض المختار، وألقى عليه قطيفة وجعل يتقفقف [1] . فأقبل صاحب عبد الله بن مطيع وأخبره بعلّته، فصدّقه، ولهى عنه.
المختار يدعو الشيعة إلى محمد بن الحنفيّة
وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم فى الدور حوله ويواطئ أصحابه على الوثوب بالكوفة فى المحرّم ويدعوهم إلى المهدىّ محمد بن الحنفيّة، ويزعم أنه وزيره وخليله والشيعة مجتمعة له.
فتلاقى القوم يوما، فاجتمع رؤساؤهم فى منزل سعر بن أبى سعر الحنفىّ وفيهم عبد الرحمن بن شريح، وكان عظيم الشرف، وسعيد بن منقذ، والأسود بن جراد [2] ، وقدامة بن مالك الجشمىّ، وقالوا:
- «إنّ المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه، ولا ندري: أرسله إلينا محمد بن الحنفيّة أم لا؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفيّة، فلنخبره بما قدم علينا وما دعانا إليه، فإن رخّص لنا فى اتّباعه اتّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه.» فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفيّة وإمامهم عبد الرحمن بن شريح.
قال الأسود بن جراد: فقلنا لابن الحنفيّة: [178]- «إنّ لنا إليك حاجة.» قال: «أفسرّ هي، أم علانية؟» فقلنا: «لا، بل هي سرّ.»
__________
[1] . تقفقف: اصطكّت أسنانه واضطرب حنكاه من البرد وغيره.
[2] . جراد: كذا بالأصل. وفى مط: حرار. وما فى الطبري (8: 605) : جرّاد (بالتشديد) .(2/138)
قال: «فرويدا إذا.» فمكث قليلا، ثمّ تنحّى عن مجلسه، وانفرد. فدعانا، فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
كلام ابن شريح لابن الحنفيّة
- «أما بعد، فإنكم أهل بيت خصّكم الله بالفضيلة، وشرّفكم بالنبوّة، وعظّم حقّكم على هذه الأمّة، فلا يجهل حقّكم إلّا مغبون الرأى، مبخوس [1] النصيب، وقد أصبتم بالحسين- رحمة الله عليه- فخصّتكم مصيبته وقد عمّت المسلمين. وقدم علينا المختار يزعم أنه قد جاءنا من تلقائكم، ودعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك، ثمّ رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.» ثمّ تكلّمنا واحدا واحدا وهو يستمع، حتّى إذا فرغ من الاستماع وفرغنا من الكلام، حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبىّ محمّد- صلّى الله عليه-[179] ثمّ قال:
جواب ابن الحنفيّة
- «أما بعد، فإنكم ذكرتم ما خصّنا الله به من فضله، وإنّ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فله الحمد. أما ما ذكرتم من مصيبتنا
__________
[1] . وفى الطبري (8: 606) : مخسوس.(2/139)
بالحسين، فإنّ ذلك كان فى الذكر الحكيم، وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع الله بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله قدرا مقدورا. وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا، فو الله، لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم.» قال: فخرجنا من عنده ونحن نقول: قد أذن لنا، ولو كره لقال: لا تفعلوا! قال: فجئنا وقوم من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنّا أعلمناه مخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا ممن كان على رأينا من إخواننا، وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشقّ ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذّل الشيعة عنه، وكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل مقدمنا [180] فلم يتهيّأ له ذلك. فلم يكن إلّا شهرا وزيادة شيء حتّى أقبل القوم على رواحلهم، ودخلوا على المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم:
- «ما وراءكم؟ قد فتنتم وارتبتم؟» فقالوا له:
- «قد أمرنا بنصرتك.» فقال:
- «الله أكبر [1] ، أنا أبو إسحاق، اجمعوا لى الشيعة.» فجمع له منهم من كان قريبا، فقال:
- «يا معشر الشيعة، إنّ نفرا منكم أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا
__________
[1] . الله أكبر: كذا فى الأصل. وما فى مط: الله (بدون أكبر) .(2/140)
إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى، وابن خير من مشى، حاشى النبىّ المصطفى، فسألوه عمّا قدمت له عليكم، فنبّأهم أنّى وزيره وظهيره ورسوله وخليله، وأمركم باتّباعى وطاعتي.» فقام عبد الرحمن بن شريح فقال:
- «يا معشر الشيعة، إنّا كنّا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصّة، ولجميع إخواننا عامّة، فقدمنا على المهدىّ بن علىّ، فسألناه عن حربنا، وعمّا دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته، فأقبلنا طيّبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشكّ والغلّ والريب، واستقامت لنا بصيرتنا [181] فى قتال عدوّنا، فليبلغ هذا شاهدكم غائبكم، واستعدّوا، وتأهّبوا.» ثمّ جلس وقمنا رجلا رجلا، فتكلّمنا بنحو من كلامه، فاستجمعت له الشيعة، وحدبت [1] عليه.
ذكر رأى سديد أشير به على المختار وما كان من تأتّى المختار له حتّى تمّ له كما أحبّ
قال عامر الشعبي: كنت أنا وأبى أوّل من أجاب المختار، فلمّا تهيّأ أمره ودنا خروجه. قال له أحمر بن شميط، ويزيد بن أنس، وعبد الله بن شدّاد:
- «إنّ أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، ونحن نضعف عنهم، فلو جاء مع أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا بإذن الله، القوّة على عدوّنا، فإنّه فتى بئيس [2] وابن رجل شريف بعيد الصوت، وله عشيرة ذات عزّ وعدد.»
__________
[1] . حدبت: كذا فى الأصل. وما فى مط: حدقت. حدب عليه: تعطّف وحنا.
[2] . بئيس: الكلمة غير واضحة فى الأصل، فأثبتناها كما فى الطبري (8: 609) . وما فى مط: فتى عشيرته.
وفى الكامل: رئيس (حواشي الطبري 8: 609) . والبئيس والبئس: الشجاع. من قولهم: بؤس يبؤس، أى: اشتدّ وشجع.(2/141)
فقال لهم المختار:
- «فالقوه وادعوه وأعلموه ما أمرنا من الطلب بدم الحسين.»
المختار يرسل إلى ابن الأشتر ويدعوه
قال الشعبي: فخرجوا إليه وأنا [فيهم وأبى وتكلّم] [1] [182] يزيد بن أنس، فقال له:
- «إنّا قد أتيناك فى أمر نعرضه عليك وندعوك إليه، فإن قبلته كان خيرا لك، وإن تركته فقد أدّينا إليك النصيحة، ويجب أن تكون عندك مستورا.» فقال له إبراهيم بن الأشتر:
- «مثلي لا تخاف غائلته وسعايته، ولا التقرّب إلى السلطان باغتياب الناس، وإنّما أولئك، الصغار الأخطار الدقاق همما.» فقالوا له:
- «إنّا ندعوك إلى أمر قد أجمع رأى الملأ من الشيعة، كتاب الله، وسنّة نبيّه، والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء.» وتكلّم أحمر بن شميط فقال له:
- «إنّى ناصح ولحظّك محبّ، وإنّ أباك قد هلك وهو سيد الناس، وفيك منه خلف إن رعيت حقّ الله وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك فى الناس، وأحييت أمرا قد مات. إنّما يكفى مثلك اليسير حتّى يبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها.» ثمّ أقبل عليه القوم يدعونه ويرغّبونه.
فقال لهم إبراهيم:
__________
[1] . ما بين المعقوفتين مطموس فى الأصل، فأثبتناه كما فى مط والطبري.(2/142)
- «فإنّى أجيبكم إلى الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولّونى الأمر.» فقالوا:
- «أنت لذلك أهل [ولكن] [1] ليس إلى ذلك سبيل. هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدىّ، [183] وهو الرسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته.» فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم، وانصرفنا من عنده إلى المختار وأخبرناه، فغبر ثلاثا.
ثمّ إنّ المختار دعا بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه- قال الشعبي- وأنا وأبى فيهم، فسار بنا، ومضى أمامنا يقدّ بنا بيوت الكوفة قدّا لا ندري أين يريد، حتّى وقف بنا على باب إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنّا عليه، فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد، فجلسنا عليها، وجلس المختار معه على فراشه.
فقال المختار بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على محمد صلّى الله عليه:
- «أما بعد، فإنّ هذا كتاب إليك من المهدىّ محمد بن علىّ أمير المؤمنين الرضا، وهو اليوم خير أهل الأرض، وابن خير أهل الأرض كلّها قبل اليوم بعد الأنبياء، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجّة عليك، وسيغنى الله المهدىّ محمّدا وأولياءه عنك.» قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلىّ حين خرج من منزله، فلمّا قضى كلامه قال لى:
- «ادفع الكتاب [184] إليه.» فدفعته إليه، فدعا بالمصباح، وفضّ خاتمه، ثمّ قرأ فإذا هو:
- «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد المهدىّ إلى إبراهيم بن الأشتر، سلام عليك، فإنّى أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّى قد بعثت إليكم
__________
[1] . ولكن: مطموسة فى الأصل ومأخوذة من مط.(2/143)
بوزيرى وأمينى ونجيبي الذي ارتضيت لنفسي المختار، وقد أمرته لقتال عدوّى والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيرى كانت لك به فضيلة عندي، ولك بذلك أعنّة الخيل، وكلّ جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فى ما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام، علىّ بالوفاء به، عهد الله وميثاقه، فإن فعلت نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقيله [1] . والسلام.» فلما قرأ إبراهيم الكتاب، قال:
- «قد كتب إلىّ محمد بن الحنفيّة وكتبت إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إلىّ إلّا باسمه واسم أبيه.» قال له المختار:
- «إنّ ذلك زمان وهذا زمان.» قال إبراهيم:
- «فمن يعلم أنّ هذا كتاب [185] محمّد بن الحنفيّة إلىّ؟» فقال له يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعة.» - «نشهد كلّنا أنّ هذا كتاب محمّد بن الحنفيّة.»
إبراهيم بن الأشتر يبايع المختار
قال الشعبي: فشهدوا كلّهم إلّا أنا وأبى. قال: فتأخّر عند ذلك إبراهيم عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وقال:
- «أبسط يدك أبايعك.» فبسط المختار يده، فبايعه. قال الشعبي: ثمّ دعا لنا بفاكهة، فأصبنا منها، ودعا
__________
[1] . لا تستقيله: كذا فى الأصل. وفى مط: تستقبله.(2/144)
لنا بشراب من عسل، فشربنا، ثمّ نهضنا وخرج معنا ابن الأشتر، فركب المختار، وركب معه حتّى دخل رحله.
فلما رجع إبراهيم منصرفا أخذ بيدي، فقال لى:
- «انصرف بنا يا شعبىّ.» قال: فانصرفت معه، ومضى بى حتّى دخل رحله، وقال:
- «يا شعبىّ، إنّى قد حفظت أنّك لم تشهد أنت ولا أبوك. أفترى هؤلاء شهدوا على غير حقّ؟» قال، فقلت:
- «قد شهدوا على ما رأيت، وهم سادة القرّاء، ومشيخة المصر، وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلّا حقّا.» قال:
فو الله، لقد قلت هذه المقالة وأنا لهم متّهم [1] على شهادتهم، غير أنّى يعجبني الخروج وأنا أرى رأى القوم، وأحبّ تمام ذلك الأمر، فلم أطلعه على ما فى نفسي من ذلك. [186] فقال لى إبراهيم بن الأشتر:
- «اكتب لى أسماءهم، فإنّى ليس كلّهم أعرف.» ودعا بصحيفة، ودواة، فكتب فيها:
- «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعرى، وزيد بن أنس الأسدى، وأحمر بن شميط الأحمسىّ، ومالك بن عوف النهدىّ.. (حتّى أتى على أسماء القوم، ثمّ كتب:)
__________
[1] . متّهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: منهم!(2/145)
شهدوا أنّ محمد بن علىّ كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بمؤازرة المختار ومظاهرته على قتال المحلّين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا بهذه الشهادة شراحيل بن عبد الله، وهو أبو عامر الشعبىّ الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الله محمد النخعىّ، وعامر بن شراحيل الشعبي.» فقلت:
- «ما تصنع بذلك رحمك الله.» فقال:
- «دعه يكون.» قال: ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار.
خروج المختار
قال هشام، قال أبو مخنف:
فكان إبراهيم يروح كلّ عشيّة عند المساء إلى المختار، فيمكث عنده حتّى تصوّب النجوم، ثمّ ينصرف. فمكثوا بذلك يدبّرون أمرهم، حتّى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول [187] سنة ستّ وستين، ووطّن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم.
فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر، فأذّن، ثمّ استقدم، فصلّى بنا المغرب، ثمّ خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أو الذئب [1] ، وهو يريد المختار، فأقبلنا علينا السلاح.
__________
[1] . أخوك أو الذئب: كذا فى الأصل والطبري (8: 613) . وما فى مط: أحول الذنب. (بإهمال الحرفين الأخيرين) .(2/146)
ما كان من قبل عبد الله بن مطيع
وقد كان أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال له:
- «إنّ المختار خارج إحدى الليلتين.» فخرج إياس فى الشرطة، وكان إياس أشار على ابن مطيع، فقال له:
- «قد بعثت ابني إلى الكناسة، فابعث فى كلّ جبّانة [1] عظيمة بالكوفة رجلا من أصحابك فى جماعة من أهل الطاعة ليهاب المريب الخروج عليك.» فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبّانة السبيع، وقال:
- «اكفنى قومك، ولا أوتينّ من قبلك.» وبعث بجماعة يجرون مجراه إلى الجبابين [2] ووصّاهم أن يكفيه كلّ رجل قومه، وأن يحكم الوجه الذي وجّهه فيه، وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة، وقال:
- «إذا سمعت صوت القوم توجّه نحوهم.» فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الإثنين، فنزلوا الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد [188] المغرب يريد إتيان المختار وقد بلغه أنّ الجبابين قد حشيت رجالا وأنّ الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر.
فقال حميد بن مسلم- وكان صديقا لإبراهيم بن الأشتر يصير كلّ ليلة إلى المختار:
خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتّى مررنا بدار عمرو بن حريث ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو مائة، علينا الدروع قد كفّرنا عليها بالأقبية ونحن متقلّدو السيوف ليس معنا سلاح غيره، فقلت لإبراهيم:
- «خذ بنا فى الأزقّة وتجنّب السوق.»
__________
[1] . الجبانة، ج جبابين: ما استوى من الأرض من ارتفاع، ولا شجر فيه. المقبرة. الصحراء.
[2] . فى الأصل: الجبّانين (بالنونين) وهو خطأ.(2/147)
وأنا أرى أنه يأخذ على ناحية بجيلة [1] ويخرج إلى دار المختار، فلا يلقانا من نكترث له.
وكان إبراهيم فتى حدثا شجاعا فكان لا يكره أن يلقاهم، فقال:
- «والله، لآمرّنّ على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السيوف، فلأرعبنّ عدوّنا ولأرينّهم هوانهم علينا.» قال: فأخذنا على باب الفيل، ثمّ على دار عمرو بن حريث حتّى إذا جاوزناها لقينا إياس بن مضارب فى الشرطة مظهرين السلاح، فقال لنا:
- «من أنتم؟» فقال:
- «إبراهيم بن الأشتر.» فقال له ابن مضارب:
- «ما هذا الجمع الذي معك، وما تريد؟ والله إنّ [189] أمرك لمريب، ولقد بلغني أنك تمرّ كلّ عشيّة هاهنا، وما أنا بتاركك حتّى آتى بك الأمير، فيرى فيك رأيه.» فقال إبراهيم:
- «لا أبا [2] لغيرك، خلّ سبيلنا.» قال:
- «كلّا والله، لا أفعل.» ومع إياس رجل من همدان يقال له: أبو قطن كان يصحب أمراء الشرطة، فهم يكرمونه ويؤثرونه- وكان صديقا لابن الأشتر، فقال ابن الأشتر:
- «يا با قطن، أدن منّى.» ومع أبى قطن رمح طويل، فدنا أبو قطن منه ومعه الرمح وهو يرى أنّ ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب، ليخلّى سبيله. فقال إبراهيم،
__________
[1] . بجيلة: كذا فى الأصل والطبري 8: 615. فى مط: نخيلة.
[2] . لا أبا لغيرك: كذا فى الأصل والطبري 8: 615. وما فى مط: لا أنا لغيرك!(2/148)
وتناول الرمح من يده:
- «إنّ رمحك هذا لطويل.» ثمّ حمل به إبراهيم بن الأشتر على ابن مضارب، فطعنه فى ثغرة نحره، فصرعه، وقال لرجل من قومه:
- «انزل، فاحتزّ رأسه.» فنزل إليه، فاحتزّ رأسه، وتفرّق أصحابه، ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنه راشدا مكان أبيه على الشرط، وبعث مكان راشد بن إياس سويد بن عبد الرحمن المنقرىّ تلك الليلة، وأقبل إبراهيم الأشتر إلى المختار ليلة الثلاثاء، فدخل عليه، فقال له إبراهيم:
- «إنّا اتّعدنا للخروج ليلة الخميس [190] وقد حدث أمر لا بدّ من الخروج الليلة.» قال المختار:
- «وما هو؟» قال:
- «عرض لى إياس بن مضارب فى الطريق ليحبسنى بزعمه، فقتلته وهذا رأسه مع أصحابى على الباب.» فقال المختار:
- «فبشّرك الله بخير، فهذا طائر صالح، وهو أوّل الفتح، إن شاء الله.» ثمّ قال المختار:
- «قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل النار فى الهرادىّ [1] ، ثمّ ارفعها للمسلمين، وقم يا عبد الله بن شدّاد، فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا قدامة بن مالك، فناد:
يا لثارات الحسين.»
__________
[1] . كذا فى مط والطبري (8: 616) : الهرادى.(2/149)
ثمّ استدعى المختار درعه وسلاحه، فأتى به، فلبسه.
فقال إبراهيم للمختار:
- «إنّ هؤلاء الرؤوس الذين وضعهم ابن مطيع فى الجبابين، يمنعون إخواننا أن يأتونا ويضيّقون عليهم، فلو أنّى خرجت بمن معى حتّى آتى قومي فيأتينى كلّ من بايعنى منهم، ثمّ سرت بهم فى نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلىّ من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس، فمن أتاك من الناس حبسته عندك إلى من معك، ولم تفرّقهم، فإن عوجلت وأتيت، كان معك من تمنع به، وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك فى الخيل والرجال.» قال له:
- «فاعجل، [191] وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله، ولا تقاتل أحدا وأنت تستطيع ألّا تقاتل، واحفظ ما وصّيتك به، إلّا أن يبدأك أحد بقتال.» فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده فى الكتيبة التي أقبل فيها حتّى أتى قومه، فاجتمع إليه جلّ من كان بايعه وأجابه. ثمّ إنّه سار بهم فى سكك الكوفة طويلا وهو يتجنّب السكك التي فيها الأمراء حتّى انتهى إلى مسجد السّكون. فعجلت إليه خيل لزحر [1] بن قيس، فشدّ عليهم إبراهيم وأصحابه، فكشفوهم حتّى انتهوا إلى زحر بن قيس، فانصرف عنهم وركب بعضهم بعضا كلّما لقيهم زقاق دخل فيه منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون، ثمّ خرج إبراهيم يسير حتّى انتهى إلى جبّانة أثير، فوقف فيها طويلا ونادى أصحابه بشعارهم. فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم فى جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلّا وهم معه فى الجبّانة.
فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه:
__________
[1] . زحر بالحاء المهملة: كذا فى الأصل والطبري (8: 9652) وما فى مط: زجر، بالجيم المعجمة.(2/150)
- «يا شرطة الله انزلوا إلى هؤلاء الفسّاق الذين خاضوا فى دماء أهل بيت رسول الله، صلّى الله عليه.» فنزلوا، ثمّ شدّ عليهم إبراهيم [192] فضربهم حتّى أخرجهم إلى الصحراء، وولّوا منهزمين يركب بعضهم بعضا وهم يتلاومون، فيقول قائل منهم:
- «إنّ هذا لأمر [1] يراد، ما يلقون لنا جماعة إلّا هزمونا.» ولم يزل إبراهيم يهزمهم حتّى أدخلهم الكناسة.
وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم:
- «اتّبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من تدعو وما تطلب، وإلى ما يدعون وما يطلبون.» قال:
- «لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتّى يؤمن الله بنا وحشته ويكون من أمره على علم، ويعرف هو أيضا ما كان من غنائنا [2] فيزداد هو وأصحابه قوّة وبصيرة إلى قواهم وبصائرهم، مع أنّى لا آمن أن يكون قد أتى.» فأقبل إبراهيم فى أصحابه، فلما أتى دار المختار وجد الأصوات عالية والقوم يقتتلون وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبّى له المختار والناس يقتتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجّارا وأصحابه أنّ إبراهيم قد جاءهم من ورائهم. فتفرّقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم وذهبوا فى الأزقّة والسكك، وحملت طائفة من أصحاب المختار على شبث بن ربعىّ وهو [193] يقاتل يزيد بن أنس، فخلّى لهم الطريق حتّى اجتمعوا جميعا. ثمّ اضطرّ شبث إلى أن ترك لهم السكة.
وأقبل شبث حتّى أتى ابن مطيع، فقال له:
__________
[1] . فى الأصل ومط: إنّ هذا الأمر، فأثبتنا العبارة كما فى الطبري (8: 618) .
[2] . غنائنا (بالغين المعجمة.) كذا فى الأصل ومط وحواشي الطبري. وما فى الطبري: عنائنا، بالعين المهملة.(2/151)
- «ابعث إلى أمراء الجبابين [1] ليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثمّ انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم، وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإنّ أمر القوم قد قوى وقد ظهر المختار، واجتمع له أمره.» وبلغ ذلك المختار من مشورة شبث على ابن مطيع، فخرج فى جماعة من أصحابه حتّى نزل فى ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة فى السبخة، وخرج أبو عثمان النهدي، فنادى فى شاكر وهم مجتمعون فى دورهم يخافون أن يظهروا فى الميدان لقرب كعب بن أبى كعب منهم. وكان كعب هذا قد أخذ عليهم بأفواه السكك حين بلغه أنهم يخرجون، وسدّ طرقهم. فلما أتاهم أبو عثمان النهدي فى عصابة من أصحابه، نادى:
- «يا لثارات الحسين، يا منصور أمت، يا أيها الحىّ المهتدون، ألا إنّ أمين [2] آل محمد قد خرج، فنزل دير هند، وبعثني داعيا ومبشّرا، فاخرجوا [194] إليه، رحمكم الله.» فخرج القوم من الدور يتداعون:
- «يا لثارات الحسين.» ثمّ ضاربوا كعب بن أبى كعب حتّى خلّى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتّى نزلوا معه فى عسكره، وخرج عبد الله بن قراد فى جماعة من خثعم نحو المائتين، حتّى لحق بالمختار، ونزلوا معه فى عسكره وقد كان عرض لهم كعب بن أبى كعب، فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلّى عنهم ولم يقاتلهم، وخرجت شبام إليهم فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من جملة اثنى عشر ألفا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته.
ثمّ إنّ ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضمّوا إلى المسجد، وقال
__________
[1] . فى الأصل: الجبّانين. وما أثبتناه يوافق مط والطبري (8: 619) .
[2] . أمين: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: أمير.(2/152)
لراشد بن إياس بن مضارب:
- «ناد فى الناس فليأتوا المسجد.» فنادى المنادى:
- «ألا برئت الذمّة من رجل لم يحضر المسجد الليلة.» فتوافى الناس فى المسجد، فلما اجتمعوا، بعث ابن مطيع شبث بن ربعىّ فى نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس فى أربعة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس فى أربعة آلاف من الشرط.
فسرّح المختار إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس فى تسعمائة مقاتل، ويقال: [195] فى ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة فى ثلاثمائة فارس وستمائة راجل نحو شبث، وقال لهما:
- «امضيا حتّى تلقيا عدوكما، وإذا لقيتماهم، فانزلا فى الرجال وعجّلا القراع، وابدءاهم بالإقدام، وتستهدفا لهم فإنّهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلىّ حتّى تظهرا، أو تقتلا.» فتوجّه إبراهيم بن الأشتر إلى راشد وقدّم المختار يزيد بن أنس فى تسعمائة أمامه، وتوجّه نعيم بن هبيرة قبل شبث.
فقال سعر بن أبى سعر: لما انتهينا إلى شبث قاتلناه قتالا شديدا، فجعل نعيم بن هبيرة يضاربهم حتّى أشرقت الشمس، وضربناهم حتّى أدخلناهم البيوت، فسمعت شبث بن ربعىّ ينادى أصحابه:
- «يا حماة السوء، بئس فرسان الحقائق أنتم، أمن عبيدكم تهربون؟» قال: فثابت إليه منهم جماعة، فشدّ علينا وقد تفرّقنا وهزمنا. فصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر بن أبى سعر فأسر، [وأسرت أنا] [1] وأسر خليد مولى
__________
[1] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 623) .(2/153)
حسّان، وأسر أبو سعيد الصيقل.
قال: فسمعت أبا سعيد الصيقل هذا يقول: سمعت شبث بن ربعي يقول لخليد:
- «من أنت؟» قال:
- «خليد مولى حسّان.» فقال [196] له شبث:
- «يا ابن المتكاء، تركت بيع الصحناء [1] بالكناسة، وكان جزاء من أعتقك أن تعدو [2] عليهم بسيفك تضرب رقابهم، اضربوا عنقه.» فقتل، ورأى سعرا الحنفىّ، فرفعه، فقال:
- «أخو بنى حنيفة؟» فقال:
- «نعم.» قال:
- «ويحك! ما أردت إلى اتباع هؤلاء السبائية، قبّح الله رأيك؟ دعوا ذا.» فقلت فى نفسي: قتل المولى وترك العربىّ، إن علم أنى مولى قتلني، فلما عرضت عليه، قال:
- «من أنت؟» فقلت:
- «من بنى تيم الله.» قال:
- «أعربيّ أنت أم مولى.» فقلت:
- «لا، بل عربىّ، أنا من آل زياد بن أبى حفصة.» فقال:
- «ذكرت الشرف المعروف، الحق بأهلك.» فأقبلت حتّى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لى بصيرة فى قتال القوم، فجئت إلى المختار، وقد وضعت فى نفسي أن آتى أصحابى حتّى أقتل معهم أو أظفر بظفرهم.
__________
[1] . الصحناء: كذا فى الأصل. وفى مط: الصحنا. وما فى الطبري: الصحناة. والصحناء: الصحناة: إدام يتّخذ من السمك الصغار المملّح.
[2] . فى الأصل: تعدوا (بالألف) . وفى مط تغدو (بالغين المعجمة) وما أثبتناه يطابق الطبري.(2/154)
قال: فأتيته وقد سبقني إليه سعر الحنفىّ وجاءه قتل نعيم وأقبلت إليه خيل شبث، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير.
قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بما كان من أمرى، فقال لى:
- «اسكت، فليس هذا بمكان الحديث.» وجاء شبث [197] حتّى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس، وكان ابن مطيع أنفذ ابن رويم فى ألفين من قبل سكّة لحّام، فوقفوا فى أفواه تلك السكك، وجعل المختار يزيد بن أنس على خيله، وخرج هو فى الرجّالة.
قال: فحملت علينا خيل شبث حملتين فما يزول رجل منّا من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا:
- «يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون، وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل عيونكم، وترفعون على جذوع النخل فى حبّ أهل بيت [نبيّكم] [1] وأنتم مقيمون فى بيوتكم وطاعة عدوّكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم، إذا والله لا يدعون منكم عينا تطرف، وليقتلنّكم صبرا، ولترونّ فى أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله، لا ينجيكم منهم إلّا الصدق والصبر والطعن الصائب فى أعينهم، والضرب الدراك على هامهم، فتيسّروا للشدة، وتهيّئوا للحملة، فإذا حرّكت رأسى مرتين فاحملوا.» فتهيّأنا، وجثونا على الركب، وانتظرنا أمره.
وكان إبراهيم بن الأشتر حين توجه إلى راشد، لقيه فى مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم [198] لأصحابه:
- «لا يهولنّكم كثرة هؤلاء، فو الله لربّ رجل خير من عشرة، ولربّ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ 2: 249 [2] .»
__________
[1] . نبيّكم: سقطت من الأصل ومط. وأثبتناها كما يقتضيه السياق وكما فى الطبري 8: 624.
[2] . س 2 البقرة: 250. ولا يخفى أن فى الآية: «كم من فئة ... » بدل: «ولربّ فئة ... » .(2/155)
ثمّ قال:
- «يا خزيمة بن نصر، سر إليهم فى الخيل.» ونزل هو يمشى فى الرجال، واقتتل الناس، فاشتدّ قتالهم، وبصر خزيمة [1] بن نصر العبسىّ براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه فقتله، ثمّ نادى:
- «قتلت راشد وربّ الكعبة.» وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار، وبعث إليه من يبشّره بالفتح عليه. فلما جاءهم البشير، كبّروا، واشتدّت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرّح ابن مطيع حسّان بن قائد بن بكير العبسىّ فى جيش كثيف، فاعترض إبراهيم ليردّه بالسبخة، فقدّم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسّان بن قائد فى الخيل، ومشى إبراهيم نحوه فى الرجال، فانهزموا، وتخلّف حسّان بن قائد فى أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة، فلما رءاه عرفه، فقال له:
- «يا حسّان، قد عرفتك، فالنجا.» فعثر لحسان فرسه، فوقع، فقال:
- «لعا لك [2] [199] أبا عبد الله.» وابتدره الناس، فأحاطوا به، فضاربهم ساعة بسيفه.
فناداه خزيمة:
- «إنّك آمن يا با عبد الله، لا تقتل نفسك.» وجاء حتّى وقف عليه، ونهنه الناس عنه، ومرّ به إبراهيم.
فقال خزيمة:
__________
[1] . وبصر خزيمة بن نصر العبسىّ: فى الأصل ومط وفى حواشي الطبري: وبصر نصر بن خزيمة، والظاهر أنه سهو فى الكتابة. وما فى الطبري (8: 625) : وبصر خزيمة بن نصر العبسىّ، كما أثبتناه.
[2] . لعا: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 626) : تعسا. لعا: صوت معناه الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته. يقال: لعا لفلان، وفى الدعاء عليه بالتعس يقولون: لا لعا له.(2/156)
- «هذا ابن عمّى، وقد آمنته.» فقال إبراهيم:
- «أحسنت.» وأمر خزيمة بفرسه حتّى أتى به فحمله عليه، وقال:
- «الحق بأهلك.» وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رءاه يزيد بن الحارث وهو على أفواه السكك التي تلى السبخة، أقبل نحوه ليصدّه عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال:
- «أغن عنّا يزيد بن الحارث.» وصمد هو فى بقيّة أصحابه نحو شبث بن ربعي، فلما رءاه أصحاب شبث، أخذوا ينكصون وراءهم رويدا رويدا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه حمل عليهم، فانكشفوا حتّى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم، فهزمه، وازدحم القوم على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار فى جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى [200] أفواه السكك، رمته تلك المرامية بالنبل، فصدّوهم عن دخول الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع وجاء قتل راشد بن إياس، فسقط فى يديه، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع:
- «أيها الرجل لا تسقط فى خلدك ولا تلق بيديك [1] ، أخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوّك، فإنّ الناس كثير عددهم وكلّهم معك إلّا هؤلاء الطائفة التي خرجت عليك، والله مخزيها وأنا أول منتدب، فاندب معى طائفة ومع غيرى طائفة.»
__________
[1] . لا تسقط فى خلدك ولا تلق بيدك: كذا فى الأصل. وفى مط: ... فى جلدك ... وما فى الطبري (8: 627) :
ولا يسقط فى خلدك ولا تلق بيدك.(2/157)
فخرج ابن مطيع، فخطب الناس وحضّهم، وقال فى خطبته:
- «أيها الناس، قاتلوا عن حرمكم وعن مصركم، وامنعوا من فيئكم، والله لئن لم تفعلوا ليشاركنّكم فى فيئكم من لا حقّ له فيه، والله لقد بلغني أنّ فيهم من محرّريكم خمسمائة رجل عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزّكم وسلطانكم حين يكثرون.» ثمّ نزل.
وكان يزيد بن الحارث منعهم أن يدخلوا الكوفة، ومضى المختار من السبخة حتّى ظهر إلى الجبّانة، وقال:
- «نعم مكان المقاتل هذا.» فقال له إبراهيم بن الأشتر: [201]- «قد هزمهم الله وفلّهم، وأدخل الرعب قلوبهم وتنزل هاهنا! سر بنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع، ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذى علّة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتّى نسير إلى عدوّنا.» ففعلوا. واستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدىّ، وقدّم إبراهيم الأشتر أمامه، وعبّى أصحابه على الحال التي كانوا عليها فى السبخة، وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج فى ألفى رجل، فخرج عليهم من السكّة المعروفة بالثوريّين، فبعث المختار إليهم أن:
- «اطوه ولا تقم عليه.» فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، ومضى المختار فى أثر إبراهيم، وأمره أن يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى وخرج إليه من سكّة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذى الجوشن فى ألفين، فسرّح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمدانىّ، فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن:(2/158)
- «اطوه وامض على وجهك.» فمضى حتّى انتهى إلى سكّة شبث وإذا نوفل بن مساحق [202] فى نحو خمسة آلاف رجل وقد أمر ابن مطيع، فنودي فى الناس أن:
- «الحقوا بابن مساحق.» واستخلف شبث بن ربعىّ على القصر، وخرج ابن مطيع حتّى وقف بالكناسة.
فقال حصيرة بن عبد الله: إنّى لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل فى أصحابه، حتّى إذا دنا منهم، قال لهم:
- «انزلوا.» فنزلوا. فقال:
- «اقرنوا خيولكم بعضها إلى البعض، ثمّ امشوا إليهم مصلتين، ولا يهولنّكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعىّ، وآل عتيبة بن النهاس، وآل الأشعث، وآل فلان وفلان ... » حتّى [سمّى] [1] بيوتا من بيوتات أهل الكوفة، وقال:
- «إنّ هؤلاء لو وجد أوّلهم حرّ السيف لرأيتم قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب.» قال حصيرة: فإنّى لأنظر إليه وإلى أصحابه حتّى قرنوا خيولهم وحتّى أخذ بن الأشتر أسفل قبائه، فأدخله فى منطقة له حمراء من حواشي البرد وقد شدّ بها على القباء وقد كفّر بالقباء على الدرع، ثمّ قال لأصحابه:
- «شدّوا عليهم فدى لكم عمّى وخالي.» قال: فو الله ما لبّثهم [203] أن هزمهم، فركب بعضهم بعضا على فم السكّة، وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مسحاق، فأخذ بلجام دابّته ورفع عليه
__________
[1] . سمّى: كذا فى الطبري (8: 629) . وفى الأصل: سمّوا. وما فى مط: سمّا. والصحيح ما فى الطبري.(2/159)
السيف، فقال له ابن مساحق:
- «يا ابن الأشتر، أنشدك الله، أتطلبنى بثأر، هل بيني وبينك من حنة [1] ؟» فخلّى سبيله وقال:
- «اذكرها» .
فكان يذكرها له.
وأقبلوا حتّى دخلوا الكناسة فى آثار القوم حتّى دخلوا المسجد وحصروا ابن مطيع ثلاثا.
وجاء المختار حتّى نزل جانب السوق، وولّى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، فلما اشتدّ الحصار على بن مطيع كلّمه الأشراف، وكان يفرّق فيهم الدقيق من القصر.
فقام إليه شبث بن ربعىّ فقال له:
- «أصلحك الله، أنظر لنفسك ومن معك، فو الله ما عندنا غناء عنك ولا عن أنفسهم.» قال ابن مطيع:
- «هاتوا، أشيروا علىّ برأيكم.» قال شبث:
- «الرأى أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانا وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك.» قال ابن مطيع: [204]- «والله إنّى لأكره أن آخذ منه أمانا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كلّه وبالبصرة.»
__________
[1] . الحنة: الحقد والغضب. من قولهم: وحن يوحن وحنا وحنة. وفى الطبري (8: 630) : إحنة. والإحنة:
الحقد والضغن. من قولهم: أحن عليه أحنا وأحنا: حقد.(2/160)
قال:
- «فتخرج ولا يشعر بك أحد حتّى تنزل منزلا بالكوفة عند من تثق به، فلا يعلم بمكانك حتّى تخرج فتلحق بصاحبك.» فقال لأسماء بن خارجة ولغيره من أشراف الناس:
- «ما ترون فى ما أشار به علىّ شبث؟» فقالوا:
- «ما نرى الرأى إلّا ما أشار به عليك.» قال:
- «فرويدا حتّى أمسى.» فلما أمسى جمعهم، وحمد الله، وأثنى عليهم [1] وردّوا عليه مثله، وقال:
- «جزاكم الله خيرا، أخذ امرؤ حيث أحبّ.» ثمّ خلّى عن القصر، وخرج من نحو درب الروميّين حتّى أتى دار أبى موسى، ففتح أصحابه الباب ونادوا:
- «يا بن الأشتر، آمنون نحن؟» قال:
- «أنتم آمنون.» فخرجوا، وبايعوا المختار، وجاء المختار حتّى دخل القصر، فبات به وأصبح، فخطب الناس وحضّ على البيعة، وقال:
- «أيها الناس، لا والذي جعل السماء سقفا محفوظا، والأرض فجاجا سبلا [2] ، ما بايعتم بعد بيعة علىّ بن أبى طالب وآل علىّ أهدى منها.» ثمّ نزل، [205] فدخل ودخل الناس وأشرافهم، فبسط يده، وابتدره الناس
__________
[1] . فى مط: عليه، بدل: عليهم، وهو خطأ.
[2] . س 21 الأنبياء: 32- 33 (بالاقتباس والتلخيص) .(2/161)
فبايعوه، وجعل يقول:
- «تبايعون على كتاب الله، وسنّة نبيّه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلّين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، ومسالمة من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم، ولا نستقيلكم.» فإذا قال [الرجل] [1] : نعم، بايعه.
وأقبل المختار يمنّى الناس، ويستجرّ مودّتهم ومودّة الأشراف، ويحسن السيرة جهده. وجاء ابن كامل، وكان على شرطته، فقال:
- «إنّ ابن مطيع فى دار أبى موسى، وقد عرفت ذلك بالصحّة.» فلم يجبه بشيء، فأعادها عليه، فلم يجبه، فظنّ ابن كامل أنّ ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقا. فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف [000، 100] درهم، وقال له:
- «تجهّز بهذه واخرج، فإنّى قد شعرت بمكانك، وظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلّا أنه ليس فى يدك ما يقوّيك على الخروج.» وأصاب المختار فى بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف [000، 000، 9] فأعطى أصحابه الذين قاتل [206] بهم حين حصر ابن مطيع فى القصر، وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل، خمسمائة كل رجل، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، وأقاموا معه تلك الأيّام الثلاثة مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومنّاهم، وأحسن السيرة وأدنى الأشراف.
المختار يولّى الولايات ويعقد الألوية
ثمّ ولّى الولايات، وعقد الألوية، فأوّل رجل عقد له المختار راية عبد الله بن
__________
[1] . ما بين [] ليس موجودا فى الأصل، ولا فى مط، وزدناه من الطبري 8: 633.(2/162)
الحارث أخو الأشتر، عقد له على آذربيجان، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان معه ألفا فارس ورزقه ألف درهم فى كلّ شهر، وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق، وكتب إلى عمّاله على الجبال أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بحلوان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى الموصل وبها محمد بن الأشعث بن قيس من قبل الزبير، فتنحى له عن الموصل، ثمّ شخص إلى المختار مع أشراف قومه وغيرهم، فبايع له ودخل فى ما دخل فيه أهل بلده.
ثمّ وثب المختار بمن كان معه بالكوفة من قتلة الحسين، عليه السلام [207] والمتابعين على قتله، فقتل من قدر عليه وهرب بعضهم فلم يقدر عليه.
وكان سبب ذلك أنّ مروان بن الحكم لما استوسقت له الشام بالطاعة، بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها ثلاثا.
وقد كنّا ذكرنا من أمر التوّابين وابن زياد ما كان بعين الوردة، ثمّ بعد ذلك مرّ بأرض الجزيرة وبها قيس عيلان [1] على طاعة ابن الزبير، فلم يزل عبيد الله مشتغلا بهم عن العراق نحوا من سنة، ثمّ أقبل إلى الموصل، وكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار:
- «أما بعد، فإنّى أخبرك أيها الأمير، أنّ عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل، ووجّه قبلي خيله ورجاله، وأنّى قد انحزت إلى تكريت حتّى يأتينى رأيك وأمرك، والسلام.» فكتب إليه:
- «قد أصبت، فلا تبرحنّ مكانك حتّى يأتيك أمرى.»
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (8: 643) : قيس عيلان، بالعين المهملة. وفى مط: قيس غيلان، بالعين المعجمة.(2/163)
ثمّ بعث المختار إلى يزيد بن أنس، فدعاه وقال:
- «يا يزيد، إنّ العالم ليس كالجاهل، وإنّى أخبرك خبر من [208] لم يكذب ولم يكذب [1] ، أنا صاحب الخيل التي تجرّ جعابها وتضفر أذنابها حتّى توردها منابت الزيتون [2] ، اخرج إلى الموصل حتّى تنزل أدانيها، فإنّى ممدّك بالرجال.» فقال يزيد بن أنس:
- «سرّح معى ثلاثة آلاف من الفرسان أنتخبهم وخلّنى والفرج الذي توجّهنى له، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك.» وقال المختار:
- «فاخرج وانتخب على اسم الله من أحببت.» فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، وخرج معه المختار، وانصرف وقال له:
- «إذا لقيت عدوّك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخّرها، ولكن خبرك [3] عندي كلّ يوم وأنا ممدّك وإن لم تستمدّ، لأنه أشدّ لعضدك، وأعزّ لجندك، وأرعب لعدوّك.» فقال له يزيد بن أنس:
- «لا تمدّنى إلّا بدعائك، فكفى به مددا.» فقال الناس:
- «صحبك الله، وأدّاك وأيّدك.» وودّعوه. فقال لهم:
- «سلوا الله لى الشهادة. وأيم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر، لا تفوتني الشهادة
__________
[1] . لم يكذب: كذا فى الأصل. وما فى مط: غير مضبوط. وفى الطبري لم يكذّب. أكذبه: حمله على الكذب. كذّبه: نسبه إلى الكذب كما هو معلوم.
[2] . وزاد فى الطبري (8: 643) : غائرة عيونها، لاحقة بطونها.
[3] . وليكن خبرك: كذا فى الأصل والطبري 8: 644. وفى مط: ولكرخيل!!(2/164)
إن شاء الله.» وكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس:
- «أما بعد، فخلّ بين يزيد [209] وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك.» وخرج يزيد بن أنس، فبات بالمدائن، ثمّ اعترض أرض جوخى [1] ، حتّى خرج بهم فى الراذانات، وحتّى قطع بهم إلى الموصل ونواحيها، وبلغ مكانه ومنزله عبيد الله بن زياد، وسأل عن عدّتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس.
فقال عبيد الله:
- «فأنا أبعث إلى كلّ ألف ألفين.» وبعث إليه ربيعة بن المخارق وعبد الله بن حملة كلّ واحد منهما فى ثلاثة آلاف، ثمّ قال:
- «أيّكما سبق فهو أمير على صاحبه.» فسبق ربيعة بن المخارق، ونزل بيزيد بن أنس وهو بباتلىّ [2] ، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى، فطاف فى أصحابه على حمار معه الرجال يمسكونه، فجعل يطوف على الأرباع، ويقف على ربع ربع، ويقول:
- «يا شرطة الله، اصبروا، وصابروا عدوّكم تظفروا، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً 4: 76 [3] . إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدى، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العدوىّ [4] ، فإن هلك فأميركم سعر بن أبى سعر
__________
[1] . جوخى: جوخا: نهر على كورة واسعة فى سواد بغداد، بالجانب الشرقي منه الراذان [الراذانان- يا] وهو بين خانقين وخوزستان. صرفت الدجلة عن هذه الكورة حتّى خربت (مع) .
[2] . بباتلى: كذا فى الأصل. وفى مط: ببانكى (بإهمال الحرف الأول) . وفى الطبري 8: 645: ساب تلى (بإهمال الجزء الأول) ومصحّفات فى الحاشية.
[3] . س 4 النساء: 76.
[4] . العدوىّ: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: العذرىّ.(2/165)
الحنفىّ.» [210] قال: ونحن نرى فى وجهه أنّ الموت قد نزل به. ثمّ عبّى ميمنة وميسرة، وجعل ورقاء بن عازب على الخيل، ونزل هو بين الرجال على السرير، ثمّ قال:
- «ابرزوا لهم بالعراء، وقدّمونى فى الرجال، ثمّ إن شئتم فقاتلوا عن أميركم [1] ، وإن شئتم ففرّوا عنه.» قال: فأخرجناه وذلك يوم عرفة سنة ستّ وستين. فأخذنا نمسك أحيانا ظهره، فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا. فيأمر بأمره، ثمّ لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع، فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، فحملت ميمنتنا على ميسرتهم، وميسرتنا على ميمنتهم، وحمل ورقاء بن عازب ومعه الخيل من ميسرتنا، فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتّى هزمناهم وحوينا عسكرهم، وانتهينا إلى ربيعة بن المخارق صاحبهم وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادى:
- «يا أولياء الحقّ، يا أهل السمع والطاعة، إلىّ إلىّ، أنا ابن المخارق.» فحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدى، وعبد الله بن ضمرة العدوى، فقتلاه.
قال: وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير وهو فى السوق، فأخذ يومى بيده [211] أن:
- «اضربوا أعناقهم.» فقتلوا من عند آخرهم، وما أمسى يزيد بن أنس حتّى مات، وكان أوصى بأنّ الأمير بعده ورقاء بن عازب، فصلّى عليه ودفنه.
ذكر رأى رءاه ورقاء بن عازب
ثمّ إنّ ورقاء بن عازب دعا رؤوس الأرباع وفرسان أصحابه، فقال لهم:
__________
[1] . عن أميركم: كذا فى مط. وما فى الأصل: عن أمركم. فأثبتنا الكلمة كما فى مط.(2/166)
- «يا هؤلاء، ماذا ترون فى ما أخبرتكم، إنّما أنا رجل منكم.» وكان أعلمهم أنّ عبيد الله أقبل فى ثمانين ألفا من أهل الشام.
فقال ورقاء:
- «لست بأفضلكم رأيا، فأشيروا علىّ. هذا الرجل قد جاءكم فى جدّه وحدّه، ولا أرى لنا بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرّقت عنّا طائفة منّا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم، فيعلموا إنما ردّنا عنهم هلاك صاحبنا فلا يزالوا هائبين لنا ولقتلنا أميرهم، ولأنّا إنما نعتلّ لانصرافنا بموت صاحبنا، فإنّا إن لقيناهم اليوم لم ينفعنا هزيمتنا إيّاهم قبل اليوم إذا هزمونا.» فقالوا:
- «فإنّك والله نعم [212] ما رأيت، انصرف بنا، رحمك الله.» فبلغ منصرفهم المختار وأهل الكوفة، ولم يعلموا كيف كان الأمر.
فكان رأى ورقاء الأول صوابا وتركه إنفاذ الكتب بالبشارة وتعريفه صاحبه الصورة خطأ
فأرجف الناس أن يزيد بن أنس هلك، وأنّ الناس انهزموا وما أشبه ذلك، فقلق المختار، وبعث المختار عينا له، فعاد إليه بالخبر [1] .
فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر، فعقد عليه على سبعة آلاف رجل وقال له:
- «سر حتّى إذا لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثمّ سر بهم حتّى تلقى عدوّك فتناجزهم.» فخرج إبراهيم وعسكر بحمّام أعين.
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (8: 649) : فبعث إلى المختار عامله على المدائن عينا له من أنباط السواد، فأخبره الخبر.(2/167)
ذكر اضطراب الناس على المختار وطمعهم فيه بعد خروج إبراهيم الأشتر
لما خرج إبراهيم كثر إرجاف الناس بالمختار، وقالوا:
- «تأمّر علينا بغير رضى منّا ولا ولاية من محمّد بن علىّ، وقد أدنى موالينا، فحملهم على رقابنا، وغصبنا عبيدنا، فحرب [1] بذلك أيتامنا وأراملنا.» [2] واتّعدوا منزل شبث بن ربعىّ. [213] وكان شبث إسلاميّا جاهليّا. وقالوا:
- «هو شيخنا.» فأتوه، فذاكروه هذا الحديث. ولم يكن فى جميع ما عمله المختار شيء [3] أعظم على الناس من أن جعل للموالي نصيبا من الفيء.
فقال لهم شبث:
- «دعوني حتّى ألقاه.» فلقيه، فلم يدع شيئا مما أنكره أصحابه إلّا ذاكره به، فكان لا يذكر لهم خصلة إلّا قال المختار له:
- «أرضيهم، وآتى كلّ شيء أحبّوا.» حتّى ذكر الموالي والمماليك، فقال:
- «عمدت إلى موالينا وهم فيء آفاءهم الله علينا وهذه البلاد كلّها، فأعتقنا رقابهم نأمل الأجر من الله والشكر منهم، فلم ترض بذلك، حتّى جعلتهم شركاء فى فيئنا.»
__________
[1] . حرب الرجل (يحرب حربا) : سلبه ماله وتركه بلا شيء.
[2] . والعبارة فى الطبري (8: 649) :.. فحملهم على الدوابّ، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا.
[3] . فى الأصل ومط: «شيئا» (بالنصب) وهو خطأكما لا يخفى.(2/168)
فقال المختار:
- «إنّا سنتركهم لمواليهم، فهل تجعلون لى على أنفسهم- إن أنا فعلت ذلك- عهد الله وميثاقه وما أطمئنّ إليه من الأيمان، أن يقاتلوا معى بنى أمية وابن الزبير؟» فقال شبث:
- «ما أدرى، حتّى أخرج إلى أصحابى فأذاكرهم ذلك.» [1] فخرج ولم يرجع، وأجمع رأى أشراف الكوفة على قتال المختار.
فركب شبث وشمر بن ذى الجوشن ومحمّد بن الأشعث وغيرهم حتّى دخلوا على كعب بن أبى كعب الخثعمىّ، وذكروا [214] ما اجتمع عليه رأيهم من قتال المختار، وقالوا:
- «تأمّر علينا بغير رضى منّا، وزعم أنّ ابن الحنفيّة بعثه إلينا، وقد علمنا أنّه لم يبعثه، وفعل وصنع، وأخذ عبيدنا وموالينا، وأطعمهم فيئنا.» وسألوه أن يجيبهم إلى ما سألوه من قتاله معهم. فرحّب بهم كعب وأجابهم إلى ما دعوه إليه. ثمّ دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى ذلك.
ذكر رأى صحيح لعبد الرحمن
فقال لهم:
- «يا هؤلاء، إن أبيتم إلّا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أطعتم لم تخرجوا.» فقالوا:
- «ولم؟» فقال:
- «لأنّى أخاف أن تتفرّقوا، وتختلفوا، وتتخاذلوا، ومع الرجل والله شجعاؤكم [2]
__________
[1] . أنظر الطبري (8: 650- 651) .
[2] . شجاؤكم: كذا فى الأصل. شجعاؤكم شجعانكم. وفى مط وهامش الأصل: شجعانكم.(2/169)
وفرسانكم من أنفسكم. أليس معه فلان وفلان؟ ثمّ معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة وهؤلاء أشدّ حنقا عليكم من عدوّكم، فهو يقاتلكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظر تموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام، أو مجيء أهل البصرة [215] فتكونوا قد كفيتموه بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم.» فقالوا:
- «ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا.» قال:
- «فأنا رجل منكم فإذا شئتم فاخرجوا.» فلقى بعضهم بعضا، وقالوا:
- «ننتظر حتّى يذهب عنه ابن الأشتر.» فأمهلوا حتّى إذا بلغ إبراهيم ساباط خرجوا إلى جبابينهم بجماعة الرؤساء، فلما بلغ المختار اجتماع الناس عليه مثل شمر بن ذى الجوشن، وشبث بن ربعىّ، وحسان بن قائد، وربيعة بن ثروان، وحجّار بن أبجر، ورؤيم بن الحارث، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وغيرهم ممن ذكرناهم قبل، ومن لم نذكرهم، بعث رسولا يركض إلى إبراهيم الأشتر وهو بساباط أن:
- «لا تضع كتابي من يدك حتّى تقبل بمن معك.» وبعث إليهم فى ذلك اليوم:
- «أخبرونى ما تريدون فإنّى صانع كلّ ما أحببتم.» قالوا:
- «فإنّا نريد أن تعتزلنا، فإنّك زعمت أنّ ابن الحنفيّة بعثك ولم يبعثك.» فأرسل إليهم المختار أن:
- «ابعثوا إليه من قبلكم وفدا، وأبعث من قبلي وفدا، ثمّ انظروا فى ذلك حتّى تتبيّنوه.»(2/170)
وهو يريد أن يريّثهم [1] بهذه المقالة [216] ليقدم عليه إبراهيم الأشتر وقد أمر أصحابه فكفّوا أيديهم، وأخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شيء يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلّا القليل يجيئهم إذا غفلوا عنه.
ثمّ إنّ شمر بن ذى الجوشن أتى أهل اليمن، فقال لهم:
- «إن اجتمعتم فى مكان نجعل فيه مجنّبتين ونقاتل من وجه واحد، فأنا صاحبكم، وإلّا فلا، والله لا أقاتل فى سكة واحدة ضيّقة ونقاتل من غير وجه.» وانصرف إلى جماعة قومه فى جبّانة بنى سلول [2] ، ولما بلغ المختار ذلك، جعل يواصل مكاتبة إبراهيم، فلما بلغ إبراهيم بن الأشتر خبره، نادى من يومه فى الناس، وسار بقيّة عشيّته تلك، ثمّ نزل سويعة، فتعشّى هو وأصحابه، وأراحوا دوابّهم شيئا كلا شيء، ثمّ سار بقيّة ليلته كلّها وصلّى الغداة بسورا، ثمّ سار من يومه وصلّى صلاة العصر على باب الجسر من الغد، ثمّ سار حتّى بات ليلته فى المسجد. ولما كان اليوم الثالث من مخرجهم على المختار خرج المختار إلى المنبر فصعده وكان شبث بن ربعىّ بعث إليه ابنه [217] يقول له:
- «إنما نحن عشيرتك وكفّ يمينك، والله لا نقاتلك أبدا فثق بذلك منّا، وكان كارها لقتاله، ولما حضرت الصلاة واجتمع أهل اليمن كره كلّ رأس أن يتقدّمه صاحبه.» فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف:
- «هذا أول الخلاف، قدّموا الرضا فيكم، فإنّ فيكم سيّد قرّاء أهل المصر، فليصلّ بكم رفاعة بن شدّاد.» ففعلوا، فلم يزل يصلّى بهم حتّى كان يوم الوقعة.
ثمّ إنّ المختار لمّا نزل، عبّى أصحابه، فقال إبراهيم بن الأشتر:
__________
[1] . يريّثهم: كذا فى الأصل والطبري 8: 653. وما فى مط: يرتبهم.
[2] . فى مط: بنى سلوك.(2/171)
- «إلى أىّ الفريقين أحبّ إليك أن نسير.» فنظر المختار وكان ذا رأى، فكره أن يسير إلى قومه، فلا يبالغ فى قتالهم، فقال:
- «سر إلى مضر بالكناسة، وكان عليهم شبث بن ربعىّ، وأنا أسير إلى أهل اليمن.» ففعلا. ثمّ إنّ القوم اقتتلوا كأشدّ قتال اقتتله قوم [1] ، وانكشف من أصحاب المختار أحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وأصحابهما، فلم يرع المختار إلّا وقد جاءه الفلّ قد أقبل فقال:
- «ما وراءكم؟» فقالوا:
- «هزمنا.» قال:
- «فما فعل أحمر بن شميط؟» قالوا:
- «تركناه قد نزل عند مسجد القصّاص وقد نزل معه ناس [218] من أصحابه.» وقال أصحاب ابن كامل:
- «ما ندري ما فعل.» فصاح بهم أن انصرفوا، ثمّ أقبل معهم قطعة، ثمّ بعث عبد الله بن قراد الخثعمي وكان على أربعمائة من أصحابه، فقال:
- «سر فى أصحابك إلى ابن كامل، فإن يكن هلك، فأنت مكانه، وإن تجده حيّا، فسر فى مائة من أصحابك كلّهم فارس، وادفع إليهم بقيّة أصحابك، ومرهم بالحدّ معه والمناصحة، ثمّ امض فى المائة حتّى تأتى جبّانة السبيع.» فمضى، فوجد عبد الله بن كامل واقفا عند حمّام عمرو بن حريث معه ناس من
__________
[1] . فى مط: اقّتت له قوم!(2/172)
أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم، فدفع إليه ثلاثمائة من أصحابه، ثمّ مضى حتّى نزل جبّانة السبيع، وأخذ فى السكك حتّى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده، وقال لأصحابه:
- «ما ترون؟» وهم مائة خيار. قالوا:
- «أمرنا لأمرك تبع.» فقال:
- «والله إنّى لأحبّ أن يظهر المختار، وو الله إنّى لكاره أن يهلك أشراف قومي وعشيرتي اليوم، وو الله لأن أموت أحبّ إلىّ من أن آتيهم من ورائهم فيهلكون على يدي.» ثمّ وقف، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي- وكان من أشدّ [219] الناس بأسا- فى مائتي رجل، وبعث عبد الرحمن بن شريك فى مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت هؤلاء مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروا عليه، فاقتتلوا عند ذلك كأشدّ القتال.
ومضى الأشتر حتّى لقى شبث بن ربعي وخلقا من مضر كانوا معه، فقال لهم إبراهيم:
- «ويحكم انصرفوا، فو الله ما أحبّ أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم.» فأبوا، فقاتلوه، فهزمهم، وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار بالبشرى إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل والناس على أحوالهم كلّ سكّة منهم قد أغنت [1] ما يليها، واجتمعت شبام وقد رأّسوا عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا أن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض:
__________
[1] . فى مط: قد اعتنت.(2/173)
- «أما والله، لو جعلتم حدّكم هذا على من خالفكم من غيركم، لكان أصوب.
فسيروا إلى مضر وإلى ربيعة فقاتلوهم.» وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلّم، فقالوا:
- «ما رأيك؟» فقال:
- «قال الله عزّ وجلّ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا [220] فِيكُمْ غِلْظَةً 9: 123 [1] . قوموا!» فقاموا، فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة، ثمّ قال:
- «اجلسوا.» فجلسوا. ثمّ مشى بهم الثانية أنفس من ذلك شيئا، ثمّ الثالثة كذلك، ثمّ قعد، فقالوا له:
- «يا با القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع؟» قال:
- «إنّ المجرّب ليس كمن لم يجرّب، إنّى أردت أن ترجع إليكم أنفسكم، وكرهت أن أحملكم على القتال وأنتم على حال دهش.» قالوا:
- «أنت أبصر بما صنعت.» فلما خرجوا إلى جبّانة السبيع استقبلهم قوم، فهزموهم وقتلوا رئيسهم ودخلوا الجبّانة فى آثارهم يتنادون:
- «يا لثارات الحسين.» فأجابهم ابن شميط:
- «يا لثارات الحسين.» وقاتل يومئذ رفاعة بن شدّاد حتّى قتل، وقتل خلق من الأشراف واستخرج من دور الوادعيّين خمسمائة أسير. فأتى بهم المختار مكتّفين، فأخذ رجل من
__________
[1] . س 9 التوبة: 123.(2/174)
بنى نهد من رؤساء أصحاب المختار يقال له عبد الله بن شريك لا يخلو بعربىّ إلّا خلّى سبيله. فرفع ذلك إلى المختار، فقال المختار:
- «اعرضوهم علىّ، فانظروا كلّ من شهد منهم قتل الحسين فأعلمونى به.» فأخذوا لا يمرّ عليه رجل شهد قتل الحسين إلّا قالوا له:
- «هذا ممن شهد [221] قتله.» فقدّمه، فيضرب عنقه، حتّى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وأربعين قتيلا، وأخذ أصحابه كلّما رأوا رجلا قد كانوا تأذّوا به، وكان يماريهم، أو يضرّبهم، خلوا به فقتلوه، حتّى قتل ناس كثير منهم، وما يشعر بهم المختار.
ثمّ أخبر به المختار من بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم وأخذ عليهم المواثيق ألّا يجامعوا عليه عدوه ولا يبغوه ولا لأصحابه غائلة، إلّا سراقة بن مرداس البارقىّ، فإنّه أمر به أن يساق معه إلى المسجد، ونادى منادى المختار من أغلق عليه بابه فهو آمن إلّا رجلا شرك فى دم آل محمّد.
وكان يزيد بن الحارث بن رؤيم وحجّار بن أبجر بعثا لهما رسلا، فقالا لهم:
- «كونوا قريبا من أهل اليمن، فإن ظهروا، فلتكن علامتكم كذا وإن ظهر عليكم فلتكن علامتكم كذا.» [1] فلما هزم أهل اليمن أتتهم رسلهم بعلامتهم، فقاما جميعا فقالا لقومهما:
- «انصرفوا إلى بيوتكم.» فانصرفوا.
فأما عمرو بن الحجاج الزبيدي، فإنّه كان ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته، ثمّ ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتّى الساعة، ولا
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (8: 661- 660) : فإن رأيتموهم قد ظهروا، فأيّكم سبق إلينا فليقل: «صرفان» وإن كانوا هزموا، فليقل: «جمزان» .(2/175)
يدرى [222] أرض لحسته [1] ، أم سماء حصبته!
مقتل شمر بن ذى الجوشن
وأما شمر بن ذى الجوشن، فإنّ المختار أنفذ فى طلبه غلاما يدعى رزينا.
فحدّث مسلم بن عبد الله الكنانىّ [2] ، قال: تبعنا رزين [3] غلام المختار فلحقنا، وقد خرجنا من الكوفة على خيولنا مضمّرة، فأقبل يتقطّر به فرسه. فلما دنا منه قال لنا شمر:
- «اركضوا وتباعدوا، فلعلّ العبد يطمع فىّ.» قال: فركضنا وأمعنّا، وطمع العبد فى شمر، وأخذ شمر يستطرد له، حتّى إذا انقطع عن أصحابه حمل عليه شمر، فدقّ ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال:
- «بؤسا لرزين، أما لو يستشيرنى ما أمرته أن يخرج لأبى السابغة.» ومضى شمر حتّى نزل ساتيدما، فنزل إلى جانب قرية يقال لها: الكلبانية [4] على شاطئ نهر إلى جانب تلّ، ثمّ أرسل إلى تلك القرية، فأخذ منها علجا فضربه، ثمّ قال:
- «النجا بكتابي إلى مصعب بن الزبير.» [وكتب عنوانه: للأمير مصعب بن الزبير] [5] من شمر بن ذى الجوشن. فمضى العلج حتّى دخل قرية فيها بيوت وفيها أبو عمره، وكان المختار بعثه فى تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فى ما بينه وبين أهل البصرة، فلقى ذلك
__________
[1] . لحسته: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: بخسته.
[2] . الكنانى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: الضبابي.
[3] . رزين: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 661) : رزبى.
[4] . الكلبانية: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 662) : الكلتانية.
[5] . ما بين [] تكملة من الطبري.(2/176)
العلج علجا من تلك القرية، [223] فأقبل يشكو إليه ما لقى من شمر، فسألوا العلج عن مكانه، فأخبرهم به، فإذا ليس بينهم إلّا ثلاثة فراسخ فساروا إليه.
قال: وكنّا قلنا لشمر تلك الليلة:
- «لو أنّك ارتحلت بنا من هذا المكان، فإنّا نتخوّف به.» فقال:
- «أكلّ هذا فرقا من الكذّاب، والله لا أتحوّل منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبا.» فو الله ما شعرنا إلّا وقد أشرفوا علينا من التلّ، فكبّروا، ثمّ أحاطوا بنا وخرجنا نشتدّ على أرجلنا وتركنا خيلنا، وأعجل شمر عن لبس سلاحه.
قال: فأمر على شمر وإنّه لمؤتزر ببرد يقاتلهم، وكان أبرص، فكأنّى أنظر إلى بياض ما بين كشحيه وهو يطاعن الأقوام، فما هو إلّا أن أمعنت ساعة إذ سمعت التكبير وقائلا يقول:
- «قتل الله الخبيث.»
سراقة حلف أنه رأى الملائكة
فأما سراقة بن مرادس البارقىّ، فإنّه حلف واجتهد فى اليمين أنه رأى الملائكة معهم تقاتل على خيول بلق، وقال لهم:
- «أنتم أسرتمونى؟ ما أسرنى إلّا قوم على دوابّ لهم بلق، عليهم ثياب بيض.» فقال المختار:
- «أولئك الملائكة، اصعد المنبر، فأعلم الناس ذلك.» فصعد واجتهد فى اليمين وأخبرهم بذلك. [224] ثمّ نزل فخلا به المختار وقال:
- «إنى علمت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت ما قد عرفت: ألّا أقتلك، فاذهب عنّى حيث أحببت، لا تفسد علىّ أصحابى.»(2/177)
فخلّى عنه، وذهب حتّى لحق بمصعب بن الزبير، وقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنّى ... رأيت الخيل دهما [1] مصمتات
أرى عينىّ ما لم تراءاه ... كلانا عالم بالتّرّهات
وانجلت وقعة السبيع عن سبعمائة وثمانين قتيلا وكانت يوم الأربعاء لستّ ليال بقين من ذى الحجّة سنة ستّ وستّين.
تجرّد المختار لقتلى الحسين
وخرج أشراف الناس، فلحقوا بالبصرة، وتجرّد المختار لقتلى الحسين، وقال:
- «ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين أحياء يمشون فى الدنيا آمنين. بئس ناصر آل محمد إذا أنا فى الدنيا، أنا إذا الكذّاب كما سمّونى. الحمد لله الذي جعلني سيفا ضربهم به، ورمحا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقّهم، سمّوهم، ثمّ تتبّعوهم، حتّى تفنوهم. إنه لا يسوغ لى طعام ولا شراب حتّى أطهّر الأرض منهم وأنقّى المصر منهم.» [225] ودلّ عبد الله بن دبّاس، على نفر ممن قتل الحسين. منهم: عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنىّ، ومالك بن النّسير البدّىّ وحمل بن مالك المحاربي. فبعث إليهم المختار، فأخذوا وأدخلوا عليه عشاء.
فقال لهم المختار:
- «يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه فى الصلاة.» فقالوا:
__________
[1] . دهما: كذا فى الأصل. وفى الطبري (8: 665) : بلقا.(2/178)
- «رحمك الله، بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا، واستبقنا.» قال المختار:
- «فهلّا مننتم على الحسين بن بنت نبيّكم واستبقيتموه وسقيتموه.» ثمّ قال المختار للبدّىّ:
- «أنت صاحب برنسه؟» فقال عبد الله بن كامل:
- «نعم، هو هو.» فقال المختار:
- «اقطعوا يد هذا ورجله، ودعوه يضطرب حتّى يموت.» ففعل به ذلك، وأمر بالآخرين فقتلا.
ثمّ بعث رجالا كانوا معه يقال لهم: الدبّابة، إلى دار فى الحمراء فيها عبد الرحمن بن أبى خشكارة، وعبد الرحمن بن قيس الخولاني وغيرهما فجئنا بهم حتّى أدخلناهم عليه، فقال لهم:
- «يا قتلة الصالحين، يا قتلة سيد شباب أهل الجنّة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم؟ لقد جاءكم الورس [1] بيوم نحس.» وكانوا أصابوا [226] من الورس الذي كان مع الحسين، أخرجوهم إلى السوق، فضربوا رقابهم، ففعل ذلك بهم وكانوا أربعة.
وأخذ السائب بن مالك الأشعرىّ- وكان فى خيل للمختار- ثلاثة نفر ممن شهد قتل الحسين، فانتهى بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا فى السوق.
وبعث المختار عبد الله بن كامل إلى عثمان بن خالد، وإلى أبى أسماء بسر بن أبى سمط [2] ، وكانا ممن شهدا قتل الحسين وفى سلبه، فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بنى دهمان، ثمّ قال:
__________
[1] . الورس من الثياب: الأحمر. الورس: نبات كالسمسم يصبغ به.
[2] . بسر بن أبى سمط: كذا فى الأصل وفى الطبري (8: 670) : بشر بن سوط.(2/179)
- «علىّ مثل خطايا بنى دهمان منذ خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد، إن [لم] [1] أضرب أعناقكم من عند آخركم.» فقلنا له: «أمهلنا حتّى نطلبه.» فخرجوا مع الخيل فى طلبه، فوجدوهما جالسين فى الجبّانة يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة، فأتى بهما عبد الله بن كامل، فضرب أعناقهم، ثمّ رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره بأن يرجع فيحرقهما بالنار، وقال:
- «لا يدفنا، بل ليحرقا [2] بالنار.» وبعث أبا عمرة صاحب حرسه حتّى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحىّ وهو صاحب رأس الحسين- عليه السلام- فاختبى فى مخرجه [227] فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها:
- «أين زوجك؟» فقالت:
- «لا أدرى، أين هو..» وأشارت بيدها إلى المخرج. فدخلوا، فوجدوه وقد وضع على رأسه قوصرة، وأخرجوه.
وكان المختار خرج يسير بالكوفة ومعه ابن كامل، فأخبروه الخبر، وأقبل حتّى قتله إلى جانب أهله، ثمّ دعا بنار فحرّقه.
وكانت امرأته نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين.
وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلىّ، فكلّم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة، وقال:
- «خذ لى من هذا الرجل أمانا.» فكتب له:
__________
[1] . تكملة من الطبري.
[2] . فى الأصل: لا يدفنا، بل يحرقا. ولام الأمر زدناه. وفى الطبري (8: 670) : لا يدفنانّ يحرقا.(2/180)
«بسم الله الرحمن الرحيم» - «هذا أمان من المختار بن أبى عبيد لعمر بن سعد بن أبى وقّاص. إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك ومصرك وأهلك، ولم تحدث حدثا.
فمن لقى عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلّا بخير. شهد السائب بن مالك، [228] وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شدّاد، وعبد الله بن كامل.» وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفينّ لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلّا أن يحدث حدثا، وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيدا.» فكان أبو جعفر محمد بن علىّ الباقر عليه السلام يقول:- «أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلّا أن يحدث حدثا، فإنّه كان يريد: إذا دخل الخلا وأحدث.» فقال المختار ذات يوم وهو يحدّث جلساءه:
- «لأقتلنّ رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسرّ قتله المؤمنين والملائكة المقرّبين.» فكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار، فسمع هذه المقالة، فوقع فى نفسه أنّ الذي يريده عمر بن سعد بن أبى وقّاص. فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان، فقال:
- «الق عمر بن سعد الليلة، فخبّره بكذا وكذا وقل له: خذ حذرك.» قال: فأتاه فاستخلاه، ثمّ حدّثه الحديث.
فقال له عمر بن سعد:
- «جزى الله أباك عن الإخاء [1] خيرا، كيف يريد هذا بى بعد الذي أعطانى من
__________
[1] . عن الإخاء خيرا. كذا فى الأصل، وفى مط: عن الأحبّاء خيرا.(2/181)
العهود والمواثيق.» ثمّ خرج من ليلته حتّى أتى حمّامه، [229] وأخبر مولى له بما أريد به، فقال له:
- «وأىّ حدث أعظم مما صنعت، إنك تركت رحلك وأهلك، إرجع إلى رحلك، لا تجعل للرجل عليك سبيلا.» فرجع إلى منزله، وأتى المختار بخبر انطلاقه، فقال:
- «كلّا، إنّ لى فى عنقه سلسلة ستردّه.» فلما أصبح المختار بعث أبا عمرة وأمره أن يأتيه به. فجاء حتّى دخل عليه، فقال:
- «أجب.» فقام عمر، فعثر فى جبّة [1] له ويضربه أبو عمرة بسيفه فقتله، وجاء برأسه فى أسفل قبائه حتّى وضعه بين يدي المختار.
فقال المختار لابنه حفص بن عمر، وهو جالس عنده:
«أتعرف هذا الرأس؟» فاسترجع، وقال:
- «نعم، ولا خير فى العيش بعده.» قال له المختار:
- «صدقت، فإنّك لا تعيش بعده. ألحقوا حفصا بأبى حفص!» فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه.
ثمّ قال المختار:
__________
[1] . فعثر فى جبّة. والكلمة الأخير غير واضحة فى الأصل ومط فقرأناها فى ضوء ما فى الطبري.(2/182)
- «هذا بالحسين، وهذا بعلىّ بن الحسين ولا سواء. والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامل الحسين.» وبعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفيّة، وكتب إليه:
«بسم الله الرحمن الرحيم» - «للمهدىّ محمد بن علىّ [230] من المختار بن أبى عبيد. سلام عليك أيها المهدىّ، فإنّى أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّ الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين أسير وطريد وقتيل وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن شرك فى دم الحسين وأهل بيته- رضى الله عنهم [1]- كلّ من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي ولست بمنجم عنهم حتّى لا يبلغني أنّ على أديم الأرض منهم أرما [2] ، فاكتب إلىّ أيها المهدىّ برأيك أتّبعه وأكن عليه، والسلام عليك أيها المهدىّ ورحمة الله وبركاته.» وطلب المختار كلّ من ذكر له من قتلة الحسين وشيعته، وأعدائه، فقتلهم وأحرقهم، ومن هرب ولم يقدر عليه هدم داره.
ثمّ إنّ المختار بلغه أنّ أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه يبدأ به، فخشي أن يأتيه أهل الشام من المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فأخذ يدارى ابن الزبير ويكايده. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم [231] بن أبى العاص إلى وادي القرى.
__________
[1] . كذا فى الأصل: رضى الله عنهم. وفى مط: صلوات الله عليهم. وما فى الطبري (8: 675) : رحمة الله عليهم. وفى هامشه: عليهم السلام.
[2] . أرما: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: أرميّا. وفى هامشه: آدميا.(2/183)
ذكر مكيدة للمختار على ابن الزبير لم يتمّ له
كتب المختار إلى ابن الزبير:
- «أما بعد، فقد بلغني أنّ عبد الملك بن مروان بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدّك بمدد فعلت.» فكتب إليه عبد الله بن الزبير:
- «أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لى الناس قبلك، فإذا أتتنى بيعتك صدّقتك فى مقالتك، وعجّل إلىّ بتسريح الجيش، ومرهم أن يسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان، فيقاتلوهم، والسلام.» فدعا المختار شرحبيل بن ورس بن همدان، فسرّحه فى ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلّا سبعمائة رجل، فقال:
- «سيروا مع شرحبيل وأطيعوه.» وقال لشرحبيل:
- «إذا دخلت المدينة فاكتب إلىّ حتّى يأتيك أمرى.» وهو يريد: إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميرا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضى إلى مكة حتّى يحاصر ابن الزبير، ويقاتله. فخرج يسير قبل المدينة.
[232] وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده. فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل فى ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير:
- «إن رأيت القوم فى طاعتي، فاقبل منهم، وإلّا فكايدهم حتّى تهلكهم.» ففعلوا:
وأقبل عباس بن سهل حتّى لقى ابن ورس وقد عبّى ابن ورس أصحابه ميمنة(2/184)
وميسرة. فدعا وسلّم عليه، ونزل هو يمشى فى الرجّالة وميمنته وميسرته على الخيول.
وجاء عباس مع أصحابه وهم متقطّعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبّى أصحابه تعبئة القتال، فدنا منه، فسلّم عليه، ثمّ قال له:
- «اخل معى.» فخلا به، فقال:
- «رحمك الله، ألست فى طاعة ابن الزبير؟» فقال له ابن ورس:
- «بلى.» قال:
- «فسر بنا إلى عدوّ الله وعدوّه الذي بوادي القرى، فإنّ ابن الزبير حدّثنى أنّه إنّما أشخصكم صاحبكم إليه.» قال ابن ورس:
- «ما أمرت بطاعتكم. إنما أمرت أن آتى المدينة، فإذا تركتها كاتبت صاحبي.» فقال عباس بن سهل:
- «إن كنت فى طاعة ابن الزبير، فقد أمرنى أن أسير بك وبأصحابك إلى عدوّنا بوادي القرى.» فقال ابن ورس:
- «ما أمرت بطاعتك وما أنا [233] بمتّبعك دون أن أدخل المدينة، ثمّ أكتب إلى صاحبي، فيأمرنى بأمره.» فلما رأى العباس لجاجه عرف خلافه، وكره أن يعلمه أنّه فطن له، فقال:
- «فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأمّا أنا فإنّى سائر إلى وادي القرى.»(2/185)
ذكر مكيدة عباس بن سهل بأصحاب المختار
ثمّ جاء عباس بن سهل، فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزر [1] كانت معه، فأهداها له مع دقيق وغنم مسلّخة، وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعا، وبعث عباس إلى كلّ عشرة منهم شاة، فذبحوها واشتغلوا بها، وتركوا تعبئتهم، واختلطوا على الماء.
فلما رأى عباس بن سهل أنهم قد شغلوا، جمع من أصحابه نحوا من ألف رجل من ذوى البأس والنجدة، ثمّ أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رءاهم ابن ورس مقبلين إليه، نادى فى أصحابه، فلم تتواف إليه مائة رجل. حتّى انتهى إليه عباس وهو يقول:
- «يا شرطة الله، إلىّ إلىّ، قاتلوا المحلّين أولياء الشيطان الرجيم، فقد غدروا، وفجروا.» قال: فو الله ما اقتتلنا إلّا شيئا [234] ليس بشيء، حتّى قتل ابن ورس فى سبعين من أهل الحفاظ، ورفع ابن سهل راية الأمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلّا نحوا من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حميد [2] الهمدانىّ.
فلما وقعوا فى يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلّا نحوا من مائة رجل كره ناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلّوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم فى الطريق.
وبلغ المختار أمرهم، فخطب الناس وقال:
- «ألا، إنّ الفجّار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار.»
__________
[1] . بجزر: كذا فى الأصل. وما فى مط: بحرز (مهملة إلّا فى الحرف الأخير) . وفى الطبري (8: 690) :
بجزائر. والجزر والجزائر: جماعة الجزور. والجزور ما يصلح لأن يذبح من الإبل.
[2] . حميد: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 691) : سلمان بن حمير.(2/186)
ثمّ كتب إلى محمد بن الحنفيّة مع صالح بن مسعود الخثعمي:
«بسم الله الرحمن الرحيم» - «أما بعد، فإنّى كنت بعثت إليك جندا ليذلّوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد، فساروا حتّى إذا أظلّوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغرّوهم، فلما اطمأنّوا إليهم وثبوا بهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة من قبلي جندا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رسلا حتّى يعلم أهل المدينة أنّى فى طاعتك، وإنما بعثت الجند عن أمرك، فافعل، فإنّك ستجدهم أعرف بحقّكم أهل البيت، وأرأف بكم منهم بآل الزبير والملحدين، [235] والسلام.» فكتب إليه محمد بن الحنفيّة:
- «أما بعد، فإنّ كتابك لمّا بلغني قرأته وفهمته، وعرفت تعظيمك لحقّى وما تنوي به من سروري، وإنّ أحبّ الأمور إلىّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فى ما أعلنت وأسررت. واعلم أنّى لو أردت القتال لوجدت الناس إلىّ سراعا، والأعوان لى كبيرا، ولكنّى أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله لى وهو خير الحاكمين.» فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفيّة، فودّعه، وسلّم عليه، وهو كان حامل كتاب المختار، فأعطاه جواب الكتاب، وقال:
- «قل له: فليتّق الله، وليكفف عن الدماء.» قال: فقلت له:
- «أصلحك الله، أو لم تكتب إليه بهذا؟» قال ابن الحنفيّة:
- «قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخير كلّه، وتنهى عن الشرّ كلّه.» فلما قدم كتابه على المختار، أظهر للناس:
- «إنّى قد أمرت بأمر يجمع البرّ واليسر، ويضرح [1] الكفر والغدر.»
__________
[1] . يضرح: كذا فى الأصل والطبري 8: 693. وفى مط: يصرح. وفى حواشي الطبري: يطرح. ضرح(2/187)
ذكر رأى رءاه ابن الزبير بعد حبسه محمد بن الحنفيّة ومن معه بزمزم
ثمّ إنّ عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر [236] رجلا من أهل الكوفة بزمزم كرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمّة وهربوا إلى الحرم، وتوعّدهم القتل والإحراق، وأعطى الله عهدا- إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم فى ذلك أجلا.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفيّة عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من كان بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وحال من معهم وما توعّدهم به ابن الزبير، فوجّه ثلاثة نفر من الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والحرق بالنار، ويسألهم ألّا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته.
فقدموا على المختار، ودفعوا إليه الكتاب. فلما قرأه قال:
- «هذا كتاب مهديّكم وصريخ أهل بيت نبيّكم! قد حظر عليهم كما يحظر على الغنم، ينتظرون القتل والتحريق بالنار فى آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزّرا.» ووجّه أبا عبد الله الجدلىّ فى سبعين رجلا من أهل القوة، ووجّه ظبيان بن عثمان التميمي فى أربعمائة، [237] وأبا المعتمر فى مائة، وهانئ بن قيس فى مائة وعمير بن طارق فى أربعين، ويونس بن عمران فى أربعين، وكتب إلى محمد
__________
[ () ] الشيء: دفعه وأبعده. ضرح القبر: شقّه: حفره.(2/188)
بن علىّ بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم فى أثر بعض.
وجاء أبو عبد الله الجدلىّ فى سبعين راكبا حتّى نزل ذات عرق ولحقه عقبة فى أربعين، ويونس فى أربعين، فتمّوا مائة وخمسين فارسا. فسار بهم حتّى دخلوا مسجد الحرام ومعهم الكافر كوبات [1] وهم ينادون:
- «يا لثارات الحسين.» حتّى انتهوا إلى زمزم وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم وقد كان بقي من الأجل يومان.
فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على محمد بن الحنفيّة، فقالوا له:
- «خلّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير!» فقال لهم:
- «إنّى لا أستحلّ القتال فى حرم الله.» فقال ابن الزبير:
- «أتحسبون أنّى مخلّ سبيلهم دون أن يبايع وتبايعوا؟» فقال أبو عبد الله الجدلىّ:
- «إى وربّ الركن والمقام، لتخلّينّ سبيله أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون.» فقال ابن الزبير:
__________
[1] . الكافر كوبات: كذا فى الأصل والطبري 8: 694. فى مط: الكافر كربات. وفى حواشي الطبري عن الأصول الأخرى: الكافر كوباث. والكافر كوبات جمع مفره الكافر كوب وهو مركب من لفظتين:
عربية وفارسية معناه: قامع الكافر: آلة حربية.(2/189)
- «ما هؤلاء إلّا أكلة رأس، والله لو أذنت لأصحابى لقطفت رؤوسهم فى ساعة.» فقال له قيس بن مالك: [238]- «إن رمت ذلك، رجوت أن يوصل إليك قبل أن ترى ما تحبّ.» فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة.
ثمّ قدم أبو المعتمر وبقيّة الناس ومعه المال حتّى دخلوا المسجد فكبّروا [1] :
- «يا لثارات الحسين.» فلما رءاهم ابن الزبير خافهم، وخرج محمد بن الحنفيّة ومن معه إلى شعب علىّ وهم يسبّون ابن الزبير، ويستأذنون محمد بن الحنفيّة فيه، ويأبى عليهم.
واجتمع فى الشعب مع محمد بن علىّ أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.
ذكر ما كان من المختار بعد وقعة السبيع بالكوفة
ثمّ إنّ المختار بعد أن فرغ من قتال من ذكرناهم فى وقعة السبيع، ما ترك إبراهيم بن الأشتر إلّا يومين حتّى أشخصه إلى الشام لحرب عبيد الله بن زياد، وأخرج معه وجوه أصحابه ممن شهد الحروب وجرّبها، وخرج المختار يشيّعه ويوصيه ومعه الكرسىّ ويليه قوم كالسدنة. وسنذكر خبر الكرسىّ إن شاء الله.
وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمّام أعين، فلما أراد أن ينصرف عنه [239] قال لابن الأشتر:
- «خذ عنى ثلاثا: خف الله سرّ أمرك وعلانيته، وعجّل السير، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم ليلا فاستطعت ألّا تصبح حتّى تناجزهم فافعل، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل.» ثمّ قال:
__________
[1] . فكبّروا: يا لثارات الحسين. كذا فى الأصل ومط والطبري.(2/190)
- «هل حفظت ما أوصيتك به؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «صحبك الله.» ثمّ انصرف.
خبر الكرسىّ
كان طفيل بن جعدة بن هبيرة قد ضاقت يده، وكانت أمّه أمّ هانئ بنت أبى طالب أخت علىّ عليه السلام لأبيه وأمّه، وكان المختار يطالب آل جعدة بكرسىّ علىّ بن أبى طالب، فيقولون:
- «لا والله، ما هو عندنا.» فيقول المختار:
- «لا تكونوا حمقى» - ويتوعّدهم.
قال طفيل: فاحترت يوما وأنا على إضاقتى تلك، فرأيت كرسيّا عند جار لى زيّات قد ركبه الوسخ. فخطر ببالي أن لو قلت للمختار: هذا كرسىّ علىّ بن أبى طالب، لقبله. فأرسلت إلى الزيّات أن:
- «ابعث إلىّ بكرسيّك.» فأرسل به إلىّ، فأتيت المختار، فقلت له:
- «إنى كنت [240] أكتمك أمر الكرسىّ الذي كنت تلتمسه، وقد بدا لى أن أظهره، لأنّ جعدة بن هبيرة كان يجلس عليه كأنّه يرى أنّ فيه أثرة من علم.» فقال:
- «سبحان الله! فأخّرت هذا إلى اليوم! ابعث به!» قال: وقد كنت تقدّمت بغسله وقد غسل، فخرج عود نضار، وقد كان تشرّب الزيت، فخرج أبيض وقد غشّى. فأمر لى المختار باثنى عشر ألفا، ثمّ دعا:(2/191)
- «الصلاة جامعة.» وخطب، فقال:
- «إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلّا هو كائن فى هذه الأمّة مثله، فإنّه كان فى بنى إسرائيل التابوت، فيه بقيّة مما ترك آل موسى وال هارون تحمله الملائكة، وإنّ هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه.» فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبائيّة، فكبّروا ثلاثا. فلما خرج المختار مع إبراهيم بن الأشتر لوجه عبيد الله بن زياد، أخرج الكرسىّ على بغل يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة. فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتّى غلوا، وكان أول من سدنه موسى بن أبى موسى الأشعرى، ثمّ حوشب البرشمى [1] ، فكانوا [241] يرون أنّ المختار يتكلّم عنه بوحي، وأشباه هذا [2] .
فأما إبراهيم بن الأشتر، فإنّه سار من يومه مسرعا لا ينثني، يريد أن يلقى عبيد الله بن زياد وأهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق، فسبقهم إلى أرض الموصل، وأسرع إليه السير حتّى لقيه بخازر [3] إلى جنب قرية يقال لها: باربيثا [4] بينها وبين الموصل خمسة فراسخ، وأخذ ابن الأشتر لما دنا من ابن زياد لا يسير إلّا على تعبئة ويسير بهم جميعا لا يفرّقهم إلّا أنّه يبعث الطفيل بن لقيط فى الطلائع، وكان شجاعا بئيسا.
ثمّ أرسل عمير بن الحباب السلمى إلى ابن الأشتر أنّى معك وأريد لقاءك الليلة.
__________
[1] . البرشمى: كذا فى الأصل ومط (بالشين المعجمة) وما فى الطبري: البرسمى (بالسين المهملة) .
[2] . أنظر الطبري (8: 702- 706) .
[3] . بخازر: كذا فى الأصل والطبري (8: 707) . وفى مط: بحازر. وفى حواشي الطبري: بجازر، بحازر، بحارر.
[4] . باربيثا: كذا فى الأصل والطبري. وفى مط: باربيتا. فى حواشي الطبري: باريثا، بادبيثا، ومصحّفات أخرى.(2/192)
فأرسل إليه ابن الأشتر أن: القنى إذا شئت.
فأتاه عمير ليلا، فبايعه وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، فقال له ابن الأشتر:
- «فإنّى أستشيرك فى أمر، فأشر علىّ.» قال:
- «نعم.» قال:
- «أترى أن أخندق علىّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟» قال عمير بن الحباب:
- «لا تفعل، إنّا لله، وهل يريد القوم إلّا هذه، إن طاولوك وماطلوك هو خير لهم [242] هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير فى المطاولة، ولكن ناجز القوم، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا وإنهم إن شامّوا [1] أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرة بعد مرة، أنسوا بهم واجترأوا عليهم.» قال إبراهيم:
- «الآن علمت أنّك لى مناصح، صدقت الرأى وما رأيت. أما إنّ صاحبي، بهذا الرأى أمرنى.» قال عمير:
- «فلا تعدونّ رأيه، فإنّ الشيخ قد ضرّسته الحروب، وقاسى منها ما لم تقاس.
ناهض الرجل إذا أصبحت.» وانصرف عمير، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة، الليل كلّه، ولم يدخل عينه غمض حتّى إذا كان فى السحر الأوّل عبّى أصحابه ميمنة وميسرة، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجّالة بالرجّالة، وضمّ الخيل وعليها أخوه لأمّه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل
__________
[1] . شامّوا: كذا فى الأصل والطبري (8: 708) . وما فى مط: سامتوا. سامته: وازاه وقابله. شامّه: قاربه. دنا منه.(2/193)
إبراهيم يمشى [1] ، وقال للناس:
- «ازحفوا.» فزحف الناس معه رويدا رويدا حتّى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرّك منهم أحد بعد [243] فدعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثمّ مرّ بأصحاب الرايات، فكلما مرّ على راية وقف عليها وقال:
- «يا أنصار الدين وشيعة الحقّ وشرطة الله! هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علىّ ابن فاطمة بنت رسول الله، صلّى الله عليهم، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته، وبين الفرات أن يشربوا منه وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتى ابن عمّه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب فى الأرض العريضة، حتّى قتله وقتل أهل بيته، قد جاءكم الله به، وجاءه بكم. وو الله إنّى لأرجو أنه ما جمع بينكم فى هذا الموطن وبينه، إلّا ليشفى صدوركم، ويسفك دمه على أيديكم.» وسار فى ما بين الميمنة والميسرة، فرغّبهم فى الجهاد، وحرّضهم على القتال.
ثمّ رجع حتّى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني [2] ، وعلى ميسرته عمير بن الحباب وشرحبيل بن ذى الكلاع على الخيل، وهو يمشى فى الرجال.
فلما تدانى الصفّان حمل الحصين بن النمير فى ميمنة أهل [244] الشام على ميسرة أهل الكوفة وعليها علىّ بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه، فقتل، ثمّ أخذ رايته قرّة بن علىّ، فقتل أيضا فى رجال أهل الحفاظ، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء السلولىّ، فاستقبل المنهزمين وقال:
- «يا شرطة الله، إلىّ إلىّ.»
__________
[1] . يمشى: كذا فى مط والطبري. وفى الأصل: يمسي (بالسين المهملة) فأعجمناها.
[2] . فى مط: الشكونى.(2/194)
فأقبل جلّهم إليه، فقال:
- «هذا أميركم يقاتل. إلى أين؟ سيروا بنا إليه.» فأقبل حتّى أتاه، فإذا هو كاشف عن رأسه ينادى:
- «إلىّ إلىّ، أنا ابن الأشتر، إنّ خير فرّاركم كرّاكم، ليس مسيئا من أعتب.» فثاب إليه أصحابه. وأرسل إلى صاحب الميمنة:
- «احمل على ميسرتهم.» وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير بن الحباب كما زعم.
فحمل عليه سفيان بن يزيد بن المغفّل صاحب الميمنة، فثبت لهم عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا. فلمّا رأى إبراهيم ذلك، قال لأصحابه:
- «أمّوا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير زعق بها فطارت.» قال ورقاء بن عازب: فمشينا إليهم حتّى إذا دنونا منهم اطّعنّا بالرماح قليلا، ثمّ صرنا إلى السيوف والعمد [245] فاضطربنا بها مليّا. فو الله ما سمعت من وقع الحديد على الحديد إلّا مياجن [1] قصّارى دار الوليد بن عقبة بن أبى معيط. ثمّ انهزموا، فسمعت إبراهيم بن الأشتر يقول لصاحب رايته:
- «انغمس برايتك فيهم.» فيقول له:
- «جعلت فداءك، إنّه ليس متقدّم.» فيقول:
- «بلى، فإنّ أصحابك يقاتلون، وإنّ هؤلاء يهربون.» فإذا شدّ إبراهيم بسيفه، فلا يضرب أحدا إلّا صرعه. وكرد إبراهيم بن الأشتر الرجال بين يديه كأنّهم الحملان، وإذا شدّ، شدّ أصحابه معه شدّة رجل واحد.
فلمّا انهزم أهل الشام، قال ابن الأشتر:
__________
[1] . مياجن: لا نقط فيها فى الأصل والنقط من الطبري (8: 712) . وما فى مط: مناحر.(2/195)
مقتل ابن زياد بيد ابن الأشتر
- «إنّى قد ضربت رجلا فقتلته ووجدت منه رائحة المسك، ضربة شرّقت يديه وغرّبت رجليه، تحت راية منفردة على شاطئ جازر، وأظنّه طاغيتهم، فالتمسوه.» فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقطّه [1] .
وحمل شريك بن حرير [2] على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه ابن زياد، فاعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، ونادى شريك:
- «اقتلوني وابن الزانية.» فقتل ابن نمير.
وكان شريك بن حرير [246] مع علىّ أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علىّ لحق ببيت المقدس، فلما جاءه قتل الحسين قال:
- «أعاهد الله، لئن وجدت من يطلب بدم الحسين أقبل إليه، ولأقتلنّ ابن مرجانة، أو لأموتنّ دونه.» فلما بلغه خروج المختار يطلب بدم الحسين، جاءه، فوجّهه مع ابن الأشتر.
وقتل ابن ذى الكلاع، وتبع أصحاب إبراهيم أهل الشام المنهزمين فكان من غرق أكثر ممن قتل. وأصابوا من عسكرهم كلّ شيء من الغنائم.
ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عمّاله، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، فغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، وخرج من أهل الكوفة كلّ من كان قاتل المختار وهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وفيهم شبث بن ربعىّ. وكان المختار قال لأصحابه:
__________
[1] . فقطّه: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: فقدّه. ولا يخفى الفرق بينهما.
[2] . حرير: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري وهامشه: جدير، جرير، حدير.(2/196)
- «سيأتيكم الفتح من قبل إبراهيم بن الأشتر. قد هزموا أصحاب ابن مرجانة.» وخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعرى، وخرج بالناس، فنزل ساباط، وقال للناس:
- «أبشروا، فإنّ شرطة الله [247] قد حسّوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا منها.» قال: ودخلنا المدائن واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فو الله إنّه ليخطبنا، ويأمر بالجدّ والاجتهاد والثبات على الطاعة والطلب بدماء أهل البيت، إذ جاءته البشرى تترى، يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار:
- «يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون؟» قالوا:
- «بلى والله، لقد قلت ذلك.» قال الشعبىّ: فيقول لى رجل من بعض جيراننا:
- «أتؤمن الآن يا شعبىّ؟» قال: قلت:
- «بأىّ شيء أو من؟ بأنّ المختار يعلم الغيب؟ لا أومن بذلك أبدا.» قال:
- «أو لم يقل لنا أنهم انهزموا؟» فقلت:
- «بلى، ولكن زعم أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل.» فقال:
- «والله لا تؤمن حتّى ترى العذاب الأليم.»
ذكر مسير مصعب إلى المختار وحربه
لما قدم شبث [1] على مصعب بن الزبير كان تحته بغلة له قد قطع ذنبها [248]
__________
[1] . فى مط: شيث.(2/197)
وقطع طرف أذنها، وشقّ قباءه وهو يصيح:
- «يا غوثاه، يا غوثاه!» فعرّف مصعب أنّ بالباب رجلا صفته كذا وكذا، فقال لهم:
- «نعم، هذا شبث بن ربعىّ، ولم يكن ليفعل هذا غيره، أدخلوه.» فأدخل إليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة، فأخبروه بما أصيبوا به من وثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن القيس، ولم يكن شهد وقعة الكوفة، وإنما كان يقصّ له. فلما بلغه هزيمة الناس، تهيّأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرّح وراءه قوما، فلم يلحقوه، ومضى إلى مصعب، فأدناه معصب وقرّبه وأكرمه لشرفه، وهدم المختار دار ابن الأشعث.
ثمّ قال مصعب لمحمد بن الأشعث لما أكثر عليه الناس:
- «إنّى لا أسير حتّى يأتينى المهلّب بن أبى صفرة.» فكتب مصعب إلى المهلّب وهو عامله على فارس أن:
- «أقبل إلينا لتشهد أمرنا وتسير معنا إلى الكوفة.» فتباطأ عنه المهلّب كراهة للخروج، واعتلّ بشيء من الخراج، [249] فأمر مصعب محمد بن الأشعث بن قيس فى بعض ما كان محمد يستحثّه:
- «ايتني بالمهلّب.» فخرج محمد بكتاب مصعب إلى المهلّب، فلما قرأه، قال:
- «مثلك يا محمد فى شرفك يأتى بريدا؟ أما وجد المصعب بريدا غيرك؟» قال محمد:
- «إنى، والله، ما أنا ببريد لأحد، غير أنّ نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا.» فخرج المهلّب بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه فى هيئة وعدّة وجموع ليس(2/198)
بها أحد من أهل البصرة. ولما ورد باب مصعب صادفه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلّب يده وكسر أنفه. فدخل الحاجب إلى المصعب وأنفه يسيل دما، فقال له:
- «ما لك؟» قال:
- «ضربني رجل ما أعرفه.» ودخل المهلّب، فلما رءاه الحاجب، قال:
- «هو ذا.» فقال له مصعب:
- «عد إلى مكانك.» ثمّ عسكر مصعب عند الجسر الأكبر، وقدّم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطىّ من بنى تميم على مقدّمته، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلّب على ميسرته، وبعث على الأخماس مالك بن مسمع [250] ومالك بن المنذر، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمرو الأزدىّ، وقيس بن الهيثم.
وبلغ ذلك المختار، فقام فى أصحابه، فحمد الله وأثنى، وقال:
- «يا أهل الدين وأعوان الحق وأنصار الضعيف وشيعة ال الرسول! إنّ فرّاركم الذين بغوا عليكم فهزمتموهم، أتوا أشباههم من الفاسقين، فاستغووهم عليكم ليمصح [1] الحقّ وينعش الباطل، ويقتل أولياء الله. والله لو هلكتم ما عبد الله فى الأرض إلّا بالفرى على الله واللعن لأهل بيت نبيّه، صلّى الله عليه. انتدبوا مع أحمر بن شميط.» فعسكر بحمّام أعين. ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع ابن شميط، لأنهم فارقوا ابن الأشتر لما رأوا من تهاونه بأمر
__________
[1] . مصح الحقّ: أزاله.(2/199)
المختار، فبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشا كثيفا.
وسار أحمر بن شميط حتّى ورد المذار وجاء مصعب حتّى عسكر قريبا منه، ثمّ عبّى كل واحد منهم جنده، وجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب بن نضلة [1] ، وعلى الخيل رزين بن عبد الله السلولي، وعلى الرجّالة كثير بن إسماعيل [251] الكندىّ، وجعل أبا عمرة على الموالي وكان مولى لعرينة.
مكيدة لعبد الله بن وهب على الموالي
فجاء عبد الله بن وهب وكان على الميسرة، إلى ابن شميط وقد أخلاه، فقال له:
- «إنّ الموالي والعبيد إلى [2] خور عند المصدوقة، وأنّ معهم رجالا كثيرا على الخيل وأنت تمشى، فمرهم لينزلوا معك، فإنّ لهم بك أسوة، وإنى أتخوّف إن طردوا ساعة فطوعنوا وضوربوا، أن يطيروا على متونها، ويسلموك، وإنّك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدّا.» وإنما غشّ الموالي والعبيد لما كان لقى منهم بالكوفة، فأحبّ- إن كانت عليهم الدبرة- ألّا يكونوا فرسانا بل رجّالة، فلا ينجو منهم أحد. ولم يتّهمه ابن شميط، وظنّ أنه إنما أراد بذلك نصيحته ليصبروا ويقاتلوا فقال:
- «يا معشر الموالي، انزلوا معى، فقاتلوا.» فنزلوا معه ثمّ مشوا بين يديه وبين يدي رايته.
وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عبّاد بن الحصين على الخيل، وأقبل عبّاد حتّى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال:
- «إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة [252] رسوله، صلّى الله عليه، وإلى بيعة
__________
[1] . نضلة: كذا فى الأصل والطبري 8: 721. وما فى مط: فضلة.
[2] . إلى خور: كذا فى الأصل. وفى مط: إلى حور. وما فى الطبري: آل خور.(2/200)
أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.» فقال الآخرون:
- «إنّا ندعوكم إلى كتاب الله، وسنّة رسوله، صلّى الله عليه، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن يجعل الأمر شورى فى آل الرسول، فمن زعم من الناس أنّ أحدا ينبغي أن يتولّى عليهم برئنا منهم وجاهدناه.» فانصرف عبّاد إلى مصعب فأخبره فقال له:
- «إرجع، فاحمل عليهم.» فحمل على بن شميط، فلم يزل منهم أحد. ثمّ انصرف إلى موقفه، وحمل المهلّب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم فى بعض، فنزل ابن كامل، وانصرف عنه المهلّب، ثمّ وقف ساعة، وقال لأصحابه:
- «احملوا حملة صادقة، فقد أطمعوكم.» يعنى جولتهم التي جالوها. فحمل عليهم حملة منكرة، فولّوا، وصبر ابن كامل فى رجال همدان، فأخذ المهلّب يسمع اتّصال [1] القوم:
- «أنا الغلام الشاكرىّ، أنا الغلام الشبامىّ، أنا الغلام الثورىّ.» وحمل عمر بن عبد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثمّ انصرف عنه، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتّى قتل، وتنادى أصحابه:
- «يا معشر بجيلة وخثعم، الصبر الصبر.» [253] فناداهم المهلّب:
- «الفرار الفرار، فهو اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضلّ الله سعيكم.» ثمّ نظر إلى أصحابه فقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط وبعض الأصول فى هامش الطبري: اتصال. وما فى الطبري (8: 722) : يسمع شعار القوم. وفى بعض الأصول: إيصال.(2/201)
- «والله ما أدرى استحرار القتل إلّا فى أصحابى وقومي.» ومالت الخيل على رجّالة ابن شميط فانهزمت وأخذت فى الصحراء، فبعث مصعب بن الزبير عبّاد بن الحصين على الخيل وقال:
- «أيّما أسير أخذته فاضرب عنقه.» وسرّح محمد بن الأشعث فى خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال:
- «دونكم ثأركم.» فلم يكن على المنهزمين قوم أشدّ عليهم منهم، كانوا لا يعفون عن أسير إنما هو القتل، فلم ينج من ذلك الجيش إلّا طائفة من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم، فأبيدوا.
فتحدّث عبد الرحمن بن أبى عمير الثقفي، قال: والله إنى لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم، فأصغى إلىّ برأسه وقال لى:
- «قتلت والله العبيد قتلة ما سمعت بمثلها قطّ.» ثمّ قال:
- «وقتل ابن شميط وابن كامل، وفلان وفلان..» فسمى قوما من العرب ورجالا كان الواحد منهم خيرا من أمّة من الناس.» قال: فقلت:
- «إنّا لله، هذه والله [254] مصيبة.» فقال لى:
- «ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إلىّ من مثل ميتة ابن شميط، حبّذا مصارع الكرام.» قال: فعلمت أنّ الرجل قد حدّث نفسه إن لم يصب حاجته، أن يقاتل حتّى يموت.(2/202)
وأقبل مصعب حتّى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تكن واسط هذه بنيت بعد، وأخذ فى كسكر، ثمّ حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس فى السفن، فأخذوا فى نهر يقال له: نهر خرشيذ، ثمّ خرجوا من ذلك النهر إلى الفرات. وكان أهل البصرة يخرجون فيجرّون سفنهم ويقولون [1] :
عوّدنا المصعب جرّ القلس ... والزّنبريّات الطّوال القعس
ولمّا بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه فى البرّ والبحر، سار حتّى نزل السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار: نهر الحيرة، ونهر السيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف [2] ، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كلّه فى هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة فى الطين.
فلما رأوا ذلك، خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتّى أتوا ذلك السكر، فكسروه. [255]
غلط المختار فى ذلك
فكان غلط المختار فى ذلك، أنه حيث سكر الماء وقطعه عن القوم، وجب أن يخلّف على السكر جيشا قويّا. فصمد القوم لما كسروا السكر صمد الكوفة، فلما رأى المختار ذلك أقبل إليهم حتّى نزل حرورا، وحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حصّن قصره والمسجد، وأدخل فى قصره عدّة الحصار، واستعمل على الكوفة عبد الله بن شدّاد.
وجاء مصعب فى جيشه، وخرج إليه المختار، وقد جعل على ميمنته سليم بن
__________
[1] . تجد البيت عند الطبري (8: 724) .
[2] . يوسف: كذا فى الأصل ومط وبعض الأصول فى هامش الطبري. وما فى الطبري (8: 725) : برسف.(2/203)
يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثمّ الثوري، وكان على شرطته عبد الله بن قراد الخثعمي، وعلى الخيل عمر بن عبد الله النهدىّ، على الرجال مالك بن عمرو النهدىّ.
وجعل مصعب على ميمنته المهلّب بن أبى صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبد الله بن معمر التيمىّ، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين الحبطىّ وعلى الرجال مقاتل بن مسمع الكندىّ، ونزل هو يمشى، وجعل على الكوفة محمد بن الأشعث.
فجاء محمد حتّى نزل بين مصعب والمختار مقربا [1] ميامنا، فلما رأى ذلك المختار [256] بعث إلى كلّ خمس من أخماس البصرة رجلا من أصحابه فى خيل، ووقف فى بقيّة أصحابه، وزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم فى الميسرة عليهم عبد الله بن معمر، فقاتلهم ربيعة قتالا شديدا وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل أحدهما فانصرف، حمل الآخر، وربما حملا جميعا.
فبعث مصعب إلى المهلّب:
- «ما تنتظر أن تحمل من بإزائك؟ ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان اليوم؟
احمل بأصحابك.» فقال المهلّب:
- «إنّى لعمري ما كنت لأجزر الأزد وتميما خشية أهل الكوفة حتّى أرى فرصتى.» وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن:
- «احمل على من يليك.»
__________
[1] . مقربا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 726) : مغرّبا.(2/204)
فحمل عليهم، فكشفهم حتّى انتهوا إلى مصعب. فجثا مصعب على ركبتيه، ولم يكن فرّارا، فرمى بأسهمه، ونزل الناس، فقاتلوا ساعة، ثمّ تحاجزوا.
فبعث مصعب إلى المهلّب وهو فى خمسين من الأخماس جامّين كثيرى العدد والفرسان:
- «لا أبا لك ما تنتظر أن تحمل على القوم؟» فمكث غير بعيد. ثمّ إنه قال [257] لأصحابه:
- «قد قاتل القوم منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وبقي ما عليكم، احملوا واصبروا واستعينوا بالله.» فحملوا حملة عظيمة، فحطّموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم.
وقال عبد الله بن عمرو النهدىّ، وكان من أصحاب صفّين:
- «اللهمّ إنّى على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفّين، اللهمّ إنّى أبرأ إليك من فعل هؤلاء المنهزمين.» وجالد بسيفه حتّى قتل.
وأتى مالك بن عمرو النهدي بفرسه، وكان على الرجّالة، فركبه وانقصف أصحاب المختار انقصافة شديدة كأنّهم أجمة فيها حريق.
فقال مالك حين ركب:
- «ما أصنع بالركوب؟ والله لأن أقتل هاهنا أحبّ إلىّ من أن أقتل فى بيتي. أين أهل البصائر؟» فثاب إليه نحو من خمسين رجلا.
ذكر ظفر بعد هزيمة
وذلك عند المساء. فكرّ على أصحابه محمد بن الأشعث وكان إلى جانبه، فقتل محمد بن الأشعث هو وعامّة أصحابه. وانتهى المختار فى أصحابه إلى(2/205)
محمد بن الأشعث قتيلا ومالك بن عمرو يحسّهم بالسيف، فقال:
- «يا معشر الأنصار، كرّوا على الثعالب الروّاغة.» [258] فحملوا عليهم، وانهزم أصحاب مصعب وطلع القمر.
وأمر المختار مناديا فنادى:
- «يا محمّد!» وكان علامة بينه وبين أصحابه، فحملوا على مصعب، فهزموه وأدخلوه عسكره، ولم يزل المختار وأصحابه يقاتلونهم حتّى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد.
ذكر اتّفاق [1] سىّء بعد الظفر لأجل عجلة وسوء تثبّت
وكان أصحابه قد وغلوا فى أصحاب مصعب، فقال له بعض من كان معه:
- «أيها الأمير، ما تنتظر؟ قد هزم أصحابك وما بقي معك أحد، انصرف إلى القصر.» قال المختار:
- «والله ما نزلت وأنا أريد الركوب، فأما إذا انصرف أصحابى فقدّموا فرسي.» فركب حتّى دخل القصر منهزما، وانصرف أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا:
- «قد قتل.» فهرب منهم طائفة ممن أطاق الهرب، واختفوا فى دور الكوفة وتوجّه منهم نحو القصر نحو من ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم وكانوا فى الأصل عشرين ألفا فلما أتوا القصر وجدوا المختار فى القصر، فدخلوا معه.
__________
[1] . ذكر اتفاق سىّء: كذا فى الأصل. وما فى مط: ذكر رأى سىّء.(2/206)
وأصبح مصعب فأقبل يسير بمن [259] معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمرّ بالمهلّب.
فقال له المهلّب:
«يا له فتحا ما أهنأه! لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل.» قال:
- «صدقت، فرحم الله محمّدا.»
ذكر قتل عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب
ثمّ قال:
- «يا مهلّب!» قال:
- «لبّيك أيها الأمير.» قال:
- «هل علمت أنّ عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب قد قتل؟» قال:
- «إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.» 2: 156 قال مصعب:
- «أما إنّى كنت أحبّ أن يرى هذا الفتح، ثمّ لا نجعل أنفسنا أحقّ بشيء مما نحن فيه منه. أتدرى من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنهم قتلوه وهم يعرفونه.»
مصعب يحاصر قصر المختار وهو فيه
ثمّ مضى حتّى حاصر المختار، وقطع عنهم الماء والمادّة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فنزل الكناسة، وبعث إلى الجبابين ليقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادّة، فأصابهم جهد شديد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه، فقاتلوا قتالا ضعيفا، وكان لا تخرج له خيل إلّا رميت بالحجارة من فوق البيوت ويصبّ عليهم الماء القذر، فاجترأ الناس عليهم. فكان أفضل(2/207)
معايشهم من نسائهم. وذلك أنّ المرأة كانت تخرج من منزلها معها الطعام واللطف [1] والماء قد التحفت [260] عليه، فتخرج كأنها تريد المسجد الأعظم للصلاة أو تزور قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على حميمها بطعامه وشرابه ولطفه، وإنّ ذلك ليبلغ مصعبا.
وكان المهلّب ذا حنكة وتجربة، فقال:
- «أيّها الأمير، اجعل عليهم دروبا حتّى يمكنك أن تمنع ما يأتيهم من جهة أهليهم وتدعهم فى حصنهم حتّى يموتوا فيه.» وكان القوم إذا اشتدّ عليهم العطش استقوا ماء البئر، وطرحوا فيه العسل ليغيّر طعمه، فأخذ ثلاث نسوة فى الشباميّين أتين أزواجهنّ فى القصر، فبعث بهنّ إلى مصعب ومعهنّ الطعام والشراب، فردّهنّ مصعب ولم يعرض لهنّ.
فقال المختار يوما لأصحابه:
- «ويحكم! إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، انزلوا بنا، فلنقاتل حتّى نقتل كراما إن قتلنا، والله ما أنا بيائس إن أنتم صدقتموهم، أن ينصركم الله.» فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار:
- «أما أنا والله لا أعطى بيدي، ولا أحكّمهم فى نفسي.» ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما يريد المختار، تدلّى من القصر، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم. [261]
مقتل المختار وما قاله فى أمره
ثمّ إنّ المختار أزمع الخروج حين رأى من أصحابه الضعف والفشل. فأرسل إلى امرأته أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل
__________
[1] . اللطف: الرفق، الهديّة. يقال: أهدى إليه لطفا، وما أكثر تحفه وألطافه. واللطف: اليسير من الطعام. ويقال:
هؤلاء لطف فلان، أى: أصحابه وأهله الذين يلطفونه.(2/208)
وتحنّط، ثمّ وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثمّ خرج فى تسعة عشر نفسا فيهم السائب بن مالك الأشعرىّ، وكان خليفته على الكوفة إذا خرج. ولما خرج المختار من القصر قال للسائب:
- «ماذا ترى؟» قال:
- «أنا أرى، أم الله؟» قال:
- «بل الله، ويحك أحمق أنت. إنما أنا رجل من العرب لمّا رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ورأيت مروان انتزى على الشام، لم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، وكنت كأحدهم، إلّا أنى قد طلبت بثأر أهل بيت النبىّ، صلّى الله عليه وسلّم وعليهم، إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك فى دمائهم، وبالغت فى ذلك إلى يومى هذا. فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نيّة.» - «قال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي؟» فتمثّل المختار عند ذلك بشعر غيلان بن سلمة الثقفىّ [1] : [262]
ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ... عنّى الهموم بأمر ما له طبق
لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ... غنم الحياة، وهول الموت والشفق
إمّا تسفّ على مجد ومكرمة ... أو أسوة لك فى من يهلك الورق
ثمّ خرج فى تسعة عشر رجلا، فقال للناس:
- «أتؤمنونى وأخرج إليكم؟» فقالوا:
- «لا، إلّا على الحكم.» فقال:
__________
[1] . الأبيات تجدها عند الطبري أيضا (8: 737) .(2/209)
- «لا أحكّمكم فى نفسي أبدا.» فضارب بسيفه حتّى قتل.
ذكر رأى المختار فى تلك الحال وكان صوابا
كان المختار قال لأصحابه حين أتوا أن يبايعوا على الخروج:
- «إذا أنا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلّا ضعفا وذلّا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم. يقول كلّ رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأرى، فيقتل وينظر بعضكم إلى بعض فيرى مصرعه ومصرع أحبّته، فيقولون: يا ليتنا كنّا [1] أطعنا المختار وعملنا برأيه، ولو أنكم خرجتم معى، كنتم إن أخطأتم الظفر، متّم كراما، وإن هرب منكم هارب فدخل فى عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا أذلّ من على [263] ظهر الأرض.» فكان الأمر على ما قال.
ولما كان من الغد، قال لهم بجير بن عبد الله:
- «يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأى لو أطعتموه، يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا بأسيافكم حتّى تموتوا كراما إن قتلتم.» فقالوا:
- «قد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك فعصيناه، أفنحن نطيعك؟» فأمكنوا القوم من أنفسهم ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عبّاد بن الحصين، فكان يخرج بهم مكتّفين، فأدركتهم الندامة حينئذ، فقتلوا من عند
__________
[1] . فى الأصل: يا ليتنا إنّا كنّا. فحذفنا «إنّا» لأنها زائدة.(2/210)
آخرهم.
ذكر كلام لهؤلاء المسلمين واستعطاف حين أحسّوا بالقتل
قال بجير بن عبد الله المسلىّ [1] حين أتى به مصعب ومعه ناس كثير منهم:
- «الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بالعفو، وهما منزلتان، فى إحداهما رضا الله، وفى الأخرى سخطه. من عفا عفا الله عنه وزاده عزّا، ومن عاقب لم يأمن القصاص، يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركا ولا ديلما، خالفنا إخواننا [264] من أهل مصرنا، فإمّا أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإمّا أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الإسلام [2] بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا، ثمّ اصطلحوا واجتمعوا. لقد ملكتم فأسجحوا، وقدرتم فاعفوا.» فلم يزل بهذا القول ونحوه حتّى رقّ لهم الناس، ورقّ مصعب أيضا، وأراد أن يخلّى سبيلهم. فقال عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث:
- «تخلّى سبيلهم يا بن الزبير؟ اخترنا، أو اخترهم!» ووثب محمد بن عبد الرحمان بن سعيد بن قيس، فقال:
- «قتل أبى وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة، ثمّ تخلّى سبيلهم ودماؤنا ترقرق فى أجوافهم، اخترنا أو اخترهم.» ووثب كلّ قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل، فقالوا نحوا من هذا القول.
فلما رأى مصعب ذلك، أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم:
- «يا بن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فو الله ما بك ولا بأصحابك عنّا غدا غنى إذا لقيتم عدوّكم، فإن قتلنا لم نقتل حتّى نرقّهم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك.»
__________
[1] . المسلىّ: كذا فى الأصل والطبري (8: 740) وما فى مط: المسلمي.
[2] . أهل الإسلام: كذا فى الأصل مط، وما فى الطبري (8: 740) : أهل الشام.(2/211)
فأبى عليهم وتبع رضا أصحابه.
فقال بجير المسلىّ:
- «إنّ حاجتي إليك ألّا أقتل مع هؤلاء، إنّى أمرتهم أن يخرجوا [265] بأسيافهم فيقاتلوا حتّى يموتوا كراما، فعصونى.» فقدّم ناحية فقتل.
كلام آخر بنحو آخر من الاستعطاف
ثمّ إنّ مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب:
- «يا بن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمّة من المسلمين صبرا حكّموك فى دمائهم وكان الحقّ فى دمائهم ألّا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس، فإن كنّا قتلنا عدّة رجال منكم فاقتلوا عدّة من قتلنا منكم وخلّوا سبيل بقيّتنا وفينا رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا كانوا فى الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمنون السبل.» فلم يستمع له. فقال:
- «قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكّة من هذه السكك فنطردهم ثمّ نلحق بعشائرنا، فعصونى حتّى نموت الآن ميتة العبيد، فأنا أسألك ألّا تخلط دمى بدمائهم.» فقدّم ناحية فقتل. فكان عدد من قتل صبرا ستة آلاف سوى من قتل فى المعركة.
توبيخ من عبد الله بن عمر لمصعب على فعله هذا
[266] فلقى مصعب بن الزبير يوما عبد الله بن عمر، فسلّم عليه، فأعرض عنه ابن عمر، فقال:(2/212)
- «أنا ابن أخيك مصعب.» فقال:
- «نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة فى غداة واحدة. عش ما استطعت!» فقال مصعب:
- «إنهم كانوا كفرة فجرة.» فقال ابن عمر:
- «والله لو قتلت عددهم غنما من تراث أبيك، لكان ذلك سرفا.»
كفّ المختار سمّرت إلى جنب المسجد
ثمّ إنّ مصعبا أمر بكفّ المختار فقطعت، ثمّ سمّرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتّى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها، فقال:
- «ما هذه؟» قالوا:
- «كفّ المختار.» فأمر بنزعها.
كتب مصعب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته
وبعث مصعب عمّاله على الجبال والسواد. ثمّ كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له:
- «إن أنت أجبتنى ودخلت فى طاعتي، فلك الشام، وأعنّة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب وما دام لآل الزبير سلطان.» وكتب إليه عبد الملك بن مروان من الشام يدعوه إلى طاعته ويقول:
- «إن أجبتنى ودخلت فى طاعتي، فلك العراق.» فاستشار إبراهيم أصحابه، فاختلفوا عليه، فقال إبراهيم:(2/213)
- «لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ورؤساء الشام، لأجبت عبد الملك [267] مع أنى لا أختار على أهل مصرى مصرا، ولا على عشيرتي عشيرة.» فكتب إلى مصعب، فأجابه مصعب: أن أقبل، فأقبل إليه، وبعث المهلّب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلّب على الفرات.
ما جرى على عمرة امرأة المختار
ثمّ إنّ مصعبا بعث إلى عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لها:
- «ما تقولين فى المختار؟» فقالت:
- «رحمه الله، كان عبدا من عباد الله الصالحين.» فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب إلى أخيه عبد الله أنها تزعم أنه نبىّ. فكتب إليه أن اقتلها. فأخرجها بعد عتمة، وسلّمها إلى مطر، فضربها ثلاث ضربات بالسيف، فقالت:
- «يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه!» فسمع بها أبان بن النعمان بن بشير، فلطمه وقال له:
- «يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك.» ولزمه مطر حتّى رفعه إلى مصعب، فقال:
- «إنّ أختى مسلمة.» وادّعى شهادة بنى قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب:
- «خلّوا سبيله فإنّه رأى أمرا فظيعا [1] .»
__________
[1] . وجاء فى الطبري (8: 743) : إنّ المصعب بعث إلى أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وإلى(2/214)
فقال عمر بن أبى ربيعة:
إنّ من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرّة عطبول [1] [268]
قتلت هكذا على غير جرم ... إنّ الله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذّيول
حصار عبد الله بن خازم رجال بنى تميم بخراسان
وفى هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بنى تميم بسبب من قتل منهم ابنه محمّدا. وذلك أنّ بنى تميم تفرّقوا بخراسان أيّام ابن خازم. فأتى قصرا يعرف بفرنبا [2] عدّة من فرسان بنى تميم وأنجادهم مثل عثمان بن بشير، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن العلق، وزهير بن ذؤيب العدوىّ، وجبهان بن مشجعة الضبّى، ورقبة بن الحرّ، والحجّاج بن ناشب، فأتاهم ابن خازم فحصرهم، وخندق على نفسه خندقا حصينا لئلّا يبيّتوه، فكانوا يخرجون ويقاتلونه ثمّ يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه فى ستة آلاف، وخرج أهل القصر، فقال عثمان بن بشير:
- «لا أظنّ لكم اليوم بهم طاقة، فانصرفوا.» فقال زهير بن ذؤيب العدوى: امرأته طالق إن يرجع حتّى ينقض صفوفهم.
وكان إلى جنبهم نهر يدخله الماء فى الشتاء، ولم يكن يومئذ [269] فيه ماء،
__________
[ () ] عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لهما: «ما تقولان فى المختار؟» فقالت أمّ ثابت:
«ما عسينا أن نقول؟ ما نقول فيه إلّا ما تقولون فيه أنتم.» فقالوا لها: «اذهبى.» وأما عمرة فقالت: « ... »
[1] . العطبول، والعطبل: المرأة الفتيّة الجميلة الممتلئة.
[2] . كتب فى هامش الأصل: فربنا: قرية فى سواد مرو. وجاء فى المراصد: فرناباذ: قرية كبيرة بينها وبين مرو خمسة فراسخ.(2/215)
فاستبطنه زهير، فسار فيه ولم يشعر به أصحاب ابن خازم حتّى حمل عليهم، فحطّم أولهم على آخرهم واستداروا وكرّ راجعا واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به ولا ينزل إليه أحد حتّى انتهى إلى الموضع الذي انحدر منه، فخرج، وحمل عليهم، فأفرج له القوم حتّى رجع.
فقال ابن خازم لأصحابه:
- «إذا خرج إليكم زهير فطاعنتموه فاجعلوا فى رماحكم كلاليب، فاعلقوها فى أداته ودرعه.» فالتفت إليه ليحمل عليهم، فخلّوا رماحهم، فجاء يجرّ [1] أربعة أرماح حتّى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير:
- «أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف وجعلت لك باشان [2] طعمة تناصحنى؟» فقال زهير للرسول:
- «ويحك! كيف أنا صح قوما قتلوا الأشعث بن ذؤيب؟» فرجع الرسول فأسقط بها عند موسى بن عبد الله بن خازم. فلما أطال عليهم الحصار، أرسلوا إلى ابن خازم أن:
- «خلّنا نخرج فنتفرّق.» فقال:
- «لا، إلّا أن تنزلوا على حكمى.» قالوا:
- «فإنّا ننزل على حكمك.» فقال لهم زهير:
- «ثكلتكم أمّهاتكم، والله [270] ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإمّا أن تموتوا جميعا، وإما أن ينجو بعضكم
__________
[1] . فجاء يجرّ أربعة أرماح: كذا فى الأصل. وما فى مط: فجاء بأربعة أرماح.
[2] . باشان: كذا فى الأصل. وما فى مط: باسان (مهملة) .(2/216)
ويهلك بعض. وأيم الله، لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجنّ لكم عن مثل طريق البريد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم.» قال: فأبوا عليه، فقال:
- «أما إنى سأريكم.» ثمّ خرج هو ورقبة بن الحرّ ومع رقبة غلام له تركىّ، وشعبة بن ظهير، فحملوا على القوم، فأفرجوا لهم، فمضوا. فأما رقبة وغلامه وشعبة فمضوا على وجوههم، وأما زهير فرجع إلى أصحابه حتّى دخل القصر، فقال لأصحابه:
- «قد رأيتم، فأطيعونى.» فقالوا:
- «إنّ فينا من يضعف عن هذا ويطمع فى الحياة.» قال:
- «أبعدكم الله، والله لا أكون أجزعكم من الموت.» ففتحوا القصر، ونزلوا على حكمه، فأرسل إليهم، فقيّدهم، ثمّ حملوا رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى ابنه موسى وقال:
- «والله، لئن عفوت عنهم لأتّكئن على سيفي حتّى يخرج من ظهري.» فقال له عبد الله:
- «أما والله، إنى لأعلم [271] أنّ الغىّ فى ما يأمرنى به.» فقتلهم جميعا إلّا ثلاثة: الحجاج بن ناشب- كلّمه فيه رجال من بنى تميم كانوا معتزلين من عمرو، وحنظلة، وجبهان بن مسجعة، وهو الذي كان ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم خلّوا عن هذا البغل الديرج، ورجل من بنى سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر.
فأما زهير بن ذؤيب، فأرادوا حمله مقيّدا، فأبى وأقبل يحجل [1] فى قيده حتّى جلس بين يديه، فقال له ابن خازم:
__________
[1] . حجل المقيّد: قفز فى مشيه على الرجلين معا.(2/217)
- «كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باشان طعمة؟» قال:
- «لو لم تصنع بى إلّا حقن دمى لشكرتك.» فقام ابنه موسى، فقال:
- «تقتل الضبع وتترك الذيخ [1] ؟ تقتل اللبوءة وتترك الليث؟» قال:
- «ويحك! يقتل مثل زهير؟ من لقتال عدوّ المسلمين، من لنساء العرب؟» قال:
- «والله لو شركت فى دم أخى لقتلتك.» فقام رجل من بنى سليم إلى ابن خازم، فقال:
- «أذكّرك الله فى زهير.» فقال له موسى:
- «اتخذه فحلا لبناتك!» فغضب ابن خازم، وأمر بقتله. قال زهير:
- «فإنّ لى حاجة: لا تخلط دمى بدماء هؤلاء اللئام، فقد [272] نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين السيوف، والله لو فعلوا لشغلوا بنيّك [2] هذا بنفسه عن طلب الثأر بأخيه.» وأمر به فنحّى ناحية وقتل.
فما أشبه هذا الرأى برأى المختار حتّى كأنّ أحدهما أخذ عن صاحبه، ولعلّ الوقتين كان واحدا، فإنّ الزمان متقارب.
رجوع الأزارقة
وفى هذه الأيام التي شغل فيها الناس بعضهم ببعض، رجعت الأزارقة إلى
__________
[1] . فى هامش الأصل: الذيخ: ولد الذئب من الضبع. والسّمع ولد الضبع من الذئب. ويقال: الذيخ: الذئب الجريء. ذكر الضّباع الكثير الشعر: والسّمع ولد الذئب من الضبع.
[2] . بنيّك: كذا فى الأصل. وما فى مط: ابنك.(2/218)
قرب الكوفة، وذلك فى سنة ثمان وستين.
وكان عبد الله بن الزبير ردّ أخاه مصعبا على العراق أميرا بعد أن كان عزله بابنه حمزة وظهر من ابنه حمزة خفّة فعزله. فلما ردّ مصعبا، بعث مصعب الحارث بن أبى ربيعة على الكوفة أميرا، وصار هو إلى البصرة، وكانت الأزارقة قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي إصبهان بعد ما أوقع بهم المهلّب بالأهواز. فلما أشخص المهلّب إلى الموصل كان عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، فانحطّت الأزارقة مع ابن الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله، فلقيهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ثمّ ظفر بهم وانهزموا، وتبعهم عمر بن عبيد الله، وكتب بالفتح إلى مصعب، ولحقهم بإصطخر وقد ثبتوا له، فلقيهم وقاتلهم قتالا شديدا وقتل ابنه. ثمّ إنّه ظفر بهم [273] وقطعوا قنطرة طمستان [1] ، وارتفعوا إلى إصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتّى اجتبروا [2] ، وقووا، واستعدّوا وكثروا.
ثمّ إنهم أقبلوا حتّى مرّوا بفارس، وفيها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور [3] ، ثمّ خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أنّ الخوارج قد قطعت أرضه موجّهة إلى البصرة خشي ألّا يحتملها له مصعب، فشمّر فى آثارهم مسرعا حتّى أتى أرجان [4] ، فوجدهم حين خرجوا موجّهين إلى الأهواز. وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج، فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال:
- «والله، ما أدرى ما الذي أغنى عنّى أن وضعت عمر بن عبيد الله بن معمر
__________
[1] . طمستان: فى الأصل ومط: طميسان. وفى الطبري (8: 754) : طمستان وهو الصحيح. وفى ياقوت:
طمستان: بلفظ التثنية، كأنه «طم» و «استان» كقولهم: «دهستان» وأمثاله. مدينة بفارس.
[2] . اجتبروا: كذا فى الأصل والطبري (8: 754) . فى حاشية الطبري عن الأصول: اختبزوا. وفى مط:
اجزوا. اجتبر: استغنى بعد الفقر.
[3] . سابور: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل غير واضح.
[4] . أرجان: كذا فى الأصل ومط، وما فى الطبري (8: 754) : أرّجان (بتشديد الراء) .(2/219)
بفارس، وجعلت معه بها جندا أجرى عليهم أرزاقهم فى كلّ شهر، وأوفّيهم أعطياتهم فى كلّ سنة، وآمر لهم من المعاون كلّ سنة بمثل الأعطيات، قطع أرضه الخوارج إلىّ، وقد أزحت علّته، وقد أمددته بالرجال، وقوّيتهم، والله، لو قاتلهم ثمّ فرّ لكان أعذر له عندي، وإن كان الفارّ غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل.»
إقبال الخوارج وعليهم الزبير
وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير [274] بن الماحوز حتّى نزلوا الأهواز. فأتتهم عيونهم أنّ عمر بن عبيد الله فى أثرهم، وأنّ مصعبا قد خرج من البصرة.
فقام الزبير خطيبا وقال بعد حمد الله:
- «أما بعد، فإنّ من سوء الرأى والحين وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدوّنا، فلنلقهم من وجه واحد.» فسار بهم حتّى قطع بهم الأرض إلى جوخى، ثمّ أخذ على النهر وانات، ثمّ لزم شاطئ دجلة حتّى خرج على المدائن، فشنّ بها الغارات، وقتل الولدان والنساء والرجال، وبقربطون الحبالى. وانتهوا إلى ساباط، ففعلوا ذلك، وقتلوا نباتة [1] بنت أبى يزيد بن عاصم الأزدىّ، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت قرأت القرآن، وهي أفصح امرأة، غشوها [2] بالسيف، قالت:
- «ويحكم هل سمعتم بأنّ الرجال كانوا يقتلون النساء؟ ويحكم، هل سمعتم بقتل امرأة؟ ويحكم أتقتلون من لا يبسط إليكم يدا ولا يريد بكم ضرّا، ولا يملك لنفسه نفعا؟ أتقتلون من يُنَشَّؤُا في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ 43: 18؟ [3] » فقال رجل منهم:
__________
[1] . نباتة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 756) : بنانة.
[2] . غشوها: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل عشوها. غشيه بالسوط: ضربه.
[3] . س 43 الزخرف: 18.(2/220)
- «لو تركتموها!» فقال له آخر:
- «أعجبك جمالها [275] يا عدوّ الله! كفرت وافتتنت.» وانصرف الآخر عنه وتركهم، قال: فظننّا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها.
خروج الحارث بن أبى ربيعة من الكوفة ومعه ابن الأشتر
ثمّ إنّ الناس بالكوفة أتوا الحارث بن أبى ربيعة، فصاحوا إليه وقالوا:
- «اخرج، فإنّ هذا عدوّنا قد أظلّ علينا.» فتقاعد إلى أن أكثروا الصياح فخرج حتّى نزل النخيلة، فأقام بها أياما.
فوثب إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أما بعد، فإنّه قد سار إلينا عدوّ ليست له بقيّة، يخيف السبل ويخرّب البلاد، فانهض بنا إليه.» فأمر بالرحيل، فخرج حتّى نزل دير عبد الرحمان، فأقام فيه حتّى دخل شبث بن ربعىّ، فكلمه بنحو ما كلّمه به ابن الأشتر، فارتحل، ولم يكدّ، فرجز به الناس وكان يلقّب بالقباع:
سار بنا القباع سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا
فأشخصوه من ذلك المكان. فكلّما نزل بهم منزلا أقام، يصيح [1] به الناس وينادونه حول فسطاطه. فلم يبلغ الصراة إلّا فى بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها [2] طلائع العدوّ، وأوائل الخيول. فلما أتتهم العيون بأن جماعة أهل [276]
__________
[1] . يصيح: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 759) : يضجّ.
[2] . إليها: كذا فى الأصل. وما فى مط: إليه.(2/221)
المصر قد أتوهم [1] قطعوا الجسر بينهم وبين الناس.
فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث بن أبى ربيعة:
- «اندب معى الناس حتّى أعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم.» فقال شبث بن ربعىّ، وأسماء بن خارجة، ومحمد بن عمير:
- «أصلح الله الأمير، دعهم، فليذهبوا، لا تبدأ بهم.» وكانوا حسدوا إبراهيم بن الأشتر. فلما أتت أيّام اجتمع الناس فقالوا:
- «يا أيها الأمير، ما قعودنا بهذا الجسر، فليعد، ثمّ اعبر بنا إليهم، فإنّ الله سيريك ما تحبّ.» فأمر بالجسر، فأعيد وعبر الناس إليهم، فطاروا إلى المدائن، فتبعهم المسلمون، فخرجوا، فأتبعهم الحارث بن أبى ربيعة، عبد الرحمان بن مخنف فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتّى وقعوا فى أرض البصرة، ثمّ وقعوا إلى إصبهان، فانصرف عنهم من غير قتال [2] ، ومضوا حتّى نزلوا بعتّاب بن ورقاء بجىّ، وحاصروه. فكان يخرج إليهم فيقاتلهم ولا يطيقهم. وكانت إصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب الزبير، فبعث عتّابا، فصبر لهم عتّاب، فكان يقاتلهم على باب المدينة، ويرمون [277] من السور النشّاب والحجارة. فلما طال الحصار ونفدت الأطعمة هلك كراعهم وأصابهم الجهد الجهيد.
ذكر رأى لعتّاب بن ورقاء صحيح
فدعاهم عتّاب بن ورقاء، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
__________
[1] . أتوهم: فى الأصل ومط: أتاهم. وهو خطأ كما لا يخفى.
[2] . والعبارة فى الطبري (8: 761- 762) : فأتبعهم الحارث بن أبى ربيعة عبد الرحمان بن مخنف، فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتّى إذا خرجوا من أرض الكوفة إلى أصبهان انصرف [فانصرف- الحاشية] عنهم ولم يقاتلهم، ولم يكن بينه وبينهم قتال.(2/222)
- «أما بعد، أيها الناس، فإنّه قد أصابكم من الجهد ما ترون. فو الله، إن بقي إلّا أن يموت أحدكم على فراشه، فيحيى أخوه فيدفنه إن استطاع. وبالحرىّ أن يضعف عن ذلك، ثمّ يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلّى عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذي تهون شوكتهم، وإنّ فيكم لفرسان أهل المصر وإنكم لصلحاء من أنتم منه. اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبنا حياة وقوّة، قبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته. فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله إنّى لأرجو، إن صدقتموهم، أن يظفركم الله بهم.» فناداه الناس من كلّ جانب:
- «وفّقت وأصبت، اخرج بنا إليهم.» فجمع إليه الناس من الليل، وأمر لهم بعشاء كثير، فتعشّى الناس عنده. [278] ثمّ إنه خرج بهم حتّى أصبح على راياتهم، فصبّحهم فى عسكرهم، وهم آمنون أن يؤتوا فى عسكرهم، فأخلوا لهم حتّى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فقاتل فى عصابة نزلوا معه حتّى قتل.
وانحازت الأزارقة إلى قطرىّ، فبايعوه، فمشوا إلى قطرىّ مصلتين للسيوف، فارتحلوا منهزمين، فكان آخر العهد بهم.
ذكر رأى رءاه الأحنف للخوارج وهو يعدّ من سقطاته
يقال: إنّ الخوارج دسّوا إلى الأحنف من جلس إليه، وذاكره بهم، فقال:
- «إنّ هؤلاء إن ركبوا بنات سحّاج، وقادوا بنات صهّال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحرىّ أن يبقوا.» فلما بلغ ذلك قطريّا، ذهب وخلّاهم، ومضى نحو كرمان، فأقام بها حتّى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض، واجتبى المال، وقوى، ثمّ أقبل حتّى(2/223)
أخذ فى أرض إصبهان، ثمّ خرج من شعب ناشط إلى إيذج [1] وأرض الأهواز، والحارث بن أبى ربيعة عامل مصعب على البصرة. فكتب إلى مصعب:
- «قد تحدّرت الخوارج إلى الأهواز، وليس لهم إلّا المهلّب.» فبعث [279] إلى المهلّب، وهو على الجزيرة والموصل وأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر. وجاء المهلّب حتّى قدم البصرة، وانتخب الناس وسار بمن أحبّ. ثمّ توجّه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتّى التقوا بسولاف [2] ، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشدّ قتال يكون.
ذكر توبيخ للخوارج المهلّب على طريق المكيدة
ثمّ إنه بلغهم أنّ مصعبا قد قتل، ونحن نذكر خبره فى ما بعد، وذلك قبل أن يبلغ المهلّب وأصحابه. فناداهم الخوارج:
- «ألا تخبروننا ما قولكم فى مصعب؟» قالوا:
- «إمام هدى.» قالوا:
- «هو وليّكم فى الدنيا والآخرة.» قالوا:
- «نعم.» قالوا:
- «وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا.» قالوا:
- «نعم.» قالوا:
- «فما قولكم فى عبد الملك بن مروان؟» قالوا:
- «ذاك ابن اللعين نحن منه برآء إلى الله، هو عندنا أحلّ دما منكم» قالوا:
- «فأنتم منه برآء فى الدنيا والآخرة.» قالوا:
__________
[1] . إيذج: لا نقط فى الأصل ومط، فضبطناه حسب الطبري (8: 764) .
[2] . بالضم، ثمّ السكون، وآخره فاء: قرية على غربىّ دجيل من أرض خوزستان قرب مناذر الكبرى (مراصد الاطلاع) .(2/224)
- «نعم، كبرائنا منكم.» قالوا:
- «وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا.» قالوا:
- «نعم، كعداوتنا لكم.» قالوا:
- «فإنّ إمامكم مصعبا قتله عبد الملك، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك [280] إمامكم، وأنتم اليوم تبرّأون منه وتلعنونه.» قالوا:
- «كذبتم يا أعداء الله.» فلما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك بن مروان. فأتتهم الخوارج فقالوا لهم:
- «ما تقولون فى مصعب؟» قالوا:
- «يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه.» قالوا:
- «فقد أخبرتمونا أمس أنه وليّكم فى الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم فى عبد الملك؟» فقالوا:
- «ذاك إمامنا وخليفتنا.» ولم يجدوا- إذ بايعوه- من أن يقولوا هذا القول بدّا. فقالت لهم الأزارقة:
- «يا أعداء الله أنتم أمس تبرّأون منه فى الدنيا والآخرة، وتلعنونه، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم. وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولّونه، فأيهما المحقّ، وأيهما المبطل، وأيهما المهتدى، وأيّهما الضالّ!» فقالوا لهم:
- «يا أعداء الله، رضينا بذاك، إذ كان يلي أمورنا، ونرضى بهذا، كما كنّا رضينا بذاك.» قالوا:
- «لا والله، ولكنّكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا.» وتشاتموا.
ذكر مسير عبد الملك إلى مصعب
[281] كان لا يزال عبد الملك يخرج من دمشق ومصعب من الكوفة. فإذا(2/225)
تدانيا، هجم الشتاء، فانصرف كلّ واحد إلى مكانه حتّى إذا كان سنة تسع وستين- وقد قيل سنة سبعين- خرج عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق:
- «إنّك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى هذا، جاهدت معه وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لى هذا الأمر من بعدك.» فلم يجبه إلى شيء من ذلك. فانصرف عمرو إلى دمشق، فغلب عليها. ورجع عبد الملك فى أثره وإنّ عمرا اجتمع الناس إليه، فصعد المنبر فخطبهم، وقال بعد حمد الله والثناء عليه:
- «أيها الناس إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر، إلّا زعم أنّ له جنّة ونارا يدخل الجنّة من أطاعه، والنار من عصاه. وإنى أخبركم أنّ الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إلىّ من ذلك شيء. غير أنّ لكم علىّ حسن المواساة والعطيّة.» ثمّ إنّ عبد الملك وعمرا اقتتلا أياما على باب دمشق [282] وتأدّى الأمر بينهما إلى الموادعة والصلح، وكتبا بينهما كتابا وآمنه عبد الملك.
فيقال: إنّ عمرو بن سعيد جاء فى خيل متقلّدا قوسا، وأقبل حتّى أوطأ فرسه سرادقات عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو:
- «يا با أمية، كأنك تشبّه بتقلّدك هذه القوس بهذا الحىّ من قيس.» فقال:
- «لا، ولكنّى أتشبّه بمن هو خير منهم: العاص بن أمية.» ثمّ قام مغضبا والخيل معه حتّى دخل دمشق، ودخل عبد الملك أيضا دمشق.
فبعث إلى عمرو أن:
- «أعط الناس أرزاقهم.» فأرسل إليه عمرو:(2/226)
- «إنّ هذا ليس لك ببلد، فاشخص عنه.»
ذكر استهانة بعدوّ عادت بهلكة
فلما كان بعد أيام، بعث إلى عمرو أن:
- «ايتنى أخاطبك.» فلما أتى رسوله عمرا يدعوه، صادف الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو:
- «يا با أمية، لأنت أحبّ إلىّ من سمعي وبصرى، وقد أرى هذا الرجل بعث إليك أن تأتيه، وأنا أرى لك ألّا تفعل.» فقال عمرو:
- «ولم؟» قال:
- «لأنّه يقال: إنّ عظيما من ولد [283] إسماعيل يغلق أبواب دمشق، ثمّ يخرج منها، فلا يلبث إلّا أن يقتل.» فقال له عمرو:
- «والله لو كنت قائما ما تخوّفت أن لا ينبّهنى [1] ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك منّى.»
رواح عمرو إلى عبد الملك وما جرى عليه
وقال عمرو للرسول:
- «أبلغه عنّى السلام وقل له: أنا رائح إليك العشيّة.» فلما كان العشىّ، لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهىّ وقميص، وتقلّد سيفه. فلما نهض متوجّها عثر بالبساط، فقال حميد:
- «أما والله لئن أطعتنى لم تأته.»
__________
[1] . أن ينبهنى: كذا فى الأصل والطبري (8: 786) . وما فى مط: يهنى وهو خطأ.(2/227)
وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت ومضى فى مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بنى مروان، فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب، أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له. فدخل ولم يزل أصحابه يحبسون عند كلّ باب حتّى دخل عمرو قعر الدار وليس معه إلّا وصيف له. فرمى عمرو ببصره، فإذا حوله بنو مروان وفيهم حسّان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي.
فلما رأى جماعتهم أحسّ بالشرّ، فالتفت إلى وصيفه، فقال:
- «انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد يعنى أخاه، فقل له يأتنى.» [284] فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له:
- «لبّيك.» فقال له:
- «اغرب فى حرق الله وناره.» وقال عبد الملك لحسّان وقبيصة:
- «إذا شئتما، فقوما فالتقيا وعمرا [1] فى الدار.» فقال عبد الملك لهما كالممازح:
- «ليطمئنّ عمرو! أيّكما أطول؟» فقال حسّان:
- «قبيصة أطول منّى يا أمير المؤمنين بالإمرة.» وكان قبيصة على الخاتم. ثمّ التفت عمرو إلى وصيفه، فقال:
- «انطلق إلى يحيى، فمره أن يأتينى.» فقال له:
- «لبّيك.» ولم يفهم عنه.
فقال له عمرو:
- «اغرب عنّى.»
__________
[1] . ما فى الأصل ومط وفى هامش الطبري: «وعمرو» . فأثبتناه كما فى الطبري (8: 787) : وعمرا.(2/228)
فلما خرج حسّان وقبيصة، أمر بالأبواب فأغلقت، ودخل عمرو، فرحّب به عبد الملك، وقال:
- «ها هنا يا با أمية رحمك الله.» فأجلسه معه على السرير وجعل يحدّثه طويلا ثمّ قال:
- «يا غلام خذ السيف عنه.» فقال عمرو:
- «إنّا لله، يا أمير المؤمنين.» فقال عبد الملك:
- «أو تطمع أن تجلس معى متقلّدا سيفك!» فأخذ السيف عنه، ثمّ تحدّثا ما شاء الله، ثمّ قال له عبد الملك:
- «يا با أمية!» فقال:
- «لبّيك يا أمير المؤمنين!» فقال:
- «إنّك حيث خلعتنى آليت بيمين أنى إن ملأت عيني منك وأنا مالك لك، أن أجمعك فى جامعة.» فقال له بنو مروان:
- «ثمّ تطلقه [285] يا أمير المؤمنين؟» قال:
- «ثمّ أطلقه. وما عسيت أن أصنع بأبى أميّة.» فقال بنو مروان:
- «أبرّ قسم أمير المؤمنين.» قال عمرو:
- «فإنّى أبرّ قسم أمير المؤمنين.» فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثمّ قال:
- «يا غلام قم فاجمعه فيها.»(2/229)