آبائه، ولحق وفادته وصهره وأقام بمكان عمله منها يؤمّل الكرّ إلى أن كان من أمر ما نذكره والله أعلم.
(الخبر عن بيعة العرب لابن أبي دبوس وواقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما قارن ذلك كله من الأحداث)
كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك إفريقية أسف العرب بمنعهم من الأمصار التي ملكوها بالاقطاعات، والضرب على أيديهم في الأتاوات، فوجموا لذلك، واستكانوا لغلبته، وتربّصوا الدوائر. وربّما كان بعض البادية يشنّ الغارات في الأطراف فيعتدّها السلطان على كبارهم. وأغاروا بعض الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الّذي كان في مرعاها، وأظلم الجوّ بينهم وبينه، وخشوا عاديته وتوقّعوا بأسه. ووفد عليه أيام الفطر من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد من بني كعب وخليفة بن عبد الله من بني مسكين [1] ، وخليفة بن بو زيد من رجالات حكيم.
وساءت طنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فداخلوا عبد الواحد بن اللحياني في الخروج على السلطان. وكان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من تونس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام عنده في مبرّة وتكرمة. ولما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان واشتدّ حصارها سأل عبد الواحد بن أبي تاشفين تخليته للخروج فودّعه وخرج إلى السلطان أبي الحسن فنزل عليه. ولم يزل في جملته إلى أن احتل بإفريقية. فلما أخشن ما بينه وبين الكعوب والتمسوا الأعياص من بني أبي حفص فيصطفونهم [2] للأمر رجوا أن يظفروا من عبد المؤمن هذا بالبغية فداخلوه وارتاب لذلك، وخشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر، فتقبّض السلطان عليهم وأحضرهم معه فأنكروا وبهتوا.
ثم وبّخهم واعتقلهم، وعسكر بساحة الحضرة لغزوهم، وتلوم لبعث الأعطيات
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن مسكين.
[2] وفي نسخة أخرى: ينصبونهم.(6/523)
وأزاح العلل، وبلغ الخبر إلى أحيائهم فقطع اليأس أسباب رجائهم. وانطلقوا يحزّبون الأحزاب ويلمّون [1] للملك الأعياص. وكان أولاد مهلهل أقيالهم وعديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من القبول والرضا بما بالغوا في نصيحة المولى أبي حفص ومظاهرته فلحقوا بالقفر، ودخلوا الرمال فركب إليهم قتيبة بن حمزة وأمّه ومعهم ظعائن أبنائهما متذمّمين لأولاد مهلهل بالعصبيّة والقرابة، فأجابوهم واجتمعوا بقسطيلية وتحاثوا التراب والدماء، وتذامروا بما شملهم من رهب السلطان، وتوقع بأسه. وتفقدوا من أعياص الموحّدين من ينصّبونه للأمر، وكان بتوزر أحمد بن عثمان ابن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش وقد ذكرنا خبره وخروجه بجهات طرابلس وإجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي عصيدة. ثم انفضوا وبقي عثمان بجهات قابس وطرابلس إلى أن هلك بجزيرة جربة، واستقرّ بنو ابنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام السلطان أبي بكر. ثم غرّبهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند نكبته كما ذكرنا ذلك كله، فنزلوا بالإسكندرية وأقبلوا على الحرف لمعاشهم. ورجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب واستقرّ بتوزر واحترف بالخياطة. ولما تفقّد العرب الأعياص دلّهم على نكرته بعض أهل عرفانه فانطلقوا إليه وجاءوا به، وجمعوا إليه الآلة، ونصّبوه للأمر وتبايعوا على الاستماتة. ورجع إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة ثمان، ولقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم وأجفلوا أمامه إلى القيروان. ثم تذامروا ورجعوا مستميتين ثاني محرّم سنة تسع فاختلّ مصافه ودخل القيروان وانتهبوا معسكره بما اشتمل عليه وأخذوا بمخنقه إلى أن اختلفوا فأفرجوا عنه وخلص إلى تونس كما نذكر، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الإفراج عن القيروان وعنها وما تخلل ذلك)
كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابة السلطان أبي بكر مستبدّا بأمره مفوّضا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يلتمسون.(6/524)
إليه في سائر شئونه فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائما على أمره وليس التفويض للوزراء من شأنه. وكان يظنّ أنّ السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر إفريقية وينصب معه الفضل للملك. وربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في قلبه من الدولة مرض، وكان العرب يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاف والإجلاب، فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن وعساكره وأحاطوا به في القيروان تحيّل ابن تافراكين في الخروج على السلطان لما تبين فيه من النكر منه ومن قومه. وبعث العرب في لقائه وأن يحملوه حديث بيعتهم إلى الطاعة فأذن له وخرج إليهم وقلّدوه حجابة سلطانهم، ثم سرّحوه إلى حصار القصبة. وكان عند رحيله من تونس خلف بها الكثير من أبنائه وجوه قومه. فلما كانت واقعة القيروان واتصل الخبر بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان معهم من تونس إلى قصبتها، وأحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم واتخذوا الآلة للحصار، وفرّقوا الأموال في الرجال، وعظم فيها غناء بشير من المعلوجين الموالي فطار له ذكر. وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان، فانفضّ معسكره ورجع إلى تونس فكان معهم بالقصبة.
ولمّا فرج عن [1] ابن تافراكين من هوّة الحصار بالقيروان طمعوا في الاستيلاء على قصبة تونس وفض ختامها، فدفعوه إلى ذلك. ثم لحق به سلطانه ابن أبي دبوس وعانى من ذلك ابن تافراكين صعبا لكثرة الرجل الذين كانوا بها، ونصب المجانيق عليها فلم يغن شيئا وهو أثناء ذلك يحاول النجاء بنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص السلطان من القيروان إلى سوسة. وكان من خبره أنّ العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا بالقيروان واشتدّوا في حصارها، وداخل السلطان وأولاد مهلهل من الكعوب وحكيما من بني سليم في الإفراج عنه، واشترط لهم على ذلك الأموال واختلف رأي العرب لذلك، ودخل عليه قتيبة [2] بن حمزة بمكانه من القيروان زعما بالطاعة فتقبّله وأطلق أخويه خالدا وأحمد، ولم يثق إليهم.
ثم جاء إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل وخليفة ابن أبي زيد وأبو الهول بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولمّا خرج.
[2] وفي نسخة أخرى: فتيتة بن حمزة(6/525)
يعقوب من أولاد القوس وأسرى معهم بعسكره إلى سوسة فصبحها وركب منها في أساطيله إلى تونس، وسبق الخبر إلى ابن تافراكين بتونس فتسلّل من أصحابه وركب السفينة إلى الإسكندرية في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة وأصبحوا وقد فقدوه فاضطربوا وأجفلوا عن تونس، وخرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها وخرّبوا منازل الحاشية فيها. ونزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلّت قدمه من العثار، ورجا الكرّة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتراء أبنائه بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم. وأجلب العرب وابن أبي دبوس معهم على الحضرة ونازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم السلم، ودخل حمزة بن عمر إليه وافدا فحبسه إلى أن تقبّض على ابن أبي دبّوس وأمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب، ولحق هو بالأندلس كما نذكره في أخباره، وأقام السلطان بتونس، ووفد عليه أحمد بن مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقيّة طرابلس وقابس وصفاقس وجربة وسرّحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون الجارف، وعقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين وهو الّذي كان قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين، فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى مكانه، وعقد له على بلاد قسطيلية وسرّحه إليها وأقام هو بتونس إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على قسنطينة وبجاية ثم استيلاء أمرائهما بتمهيد الملك)
كان سنن السلطان أبي الحسن في دولته بالمغرب وفود العمّال عليه آخر كل سنة لإيراد جبايتهم والمحاسبة على أعمالهم، فوفدوا عليه عامهم ذلك من قاصية المغرب ووافاهم خبر الواقعة بقسنطينة وكان معهم ابن مزني عامل الزاب وفد أيضا بجبايته وهديته، وكان معهم ابن عمه تاشفين [1] ابن السلطان أبي الحسن كان أسيرا من يوم واقعة طريف. ووقعت المهادنة بين الطاغية وبين أبيه فأطلقه وأوفد معه جمعا من بطارقته
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أبو عمر تاشفين.(6/526)
وقدموا معه على أبيه ووفد معه أخوه عبد الله من المغرب وكان أيضا معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض السفارة، واجتمعوا كلّهم بقسنطينة فلما اتصل بهم خبر الواقعة على السلطان كثر الاضطراب، وتطلبت السفهاء من الغوغاء إلى ما بأيديهم وخشي الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة. ولما أطلّ الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة. ولما أطلّ على قسنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك من الوفد والعمّال وانتهبوا أموالهم واستلحموا منهم، وخلص أبناء السلطان مع وفود السلطان والجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني، وفي خفارة يعقوب بن علي أمير الزواودة فأوسع ابن مزني قرى وتكرمة إلى أن لحقوا بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع.
ودخل المولى الفضل إلى قسنطينة وأعاد ما ذهب من سلطان قومه. وشمل الناس بعدله وإحسانه، وسوّغ الأقطاع والجوائز ورحل إلى بجاية لما آنس من صاغية أهلها إلى الدعوة الحفصيّة. فلما أطلّ عليها ثار أهلها بالعمّال الذين كان السلطان أنزلهم بها واستباحوهم وأفلتوا من أيدي نكبتهم بحريفة الرفل [1] ودخل الفضل إلى بجاية واستولى على كرسي ملكها. ونظّمها مع قسنطينة وبونة في ملكه. وأعاد ألقاب الخلافة ورسومها وشتاتها كما كانت، واعتزم على الرحيل إلى الحضرة. وبينما هو يحدّث نفسه بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية وقسنطينة من المغرب، وكان من خبرها أنّ الأمير أبا عنّان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه وانتزاء منصور ابن أخيه إلى ملكه [2] بالبلد الجديد دار ملكهم، وأحسّ بخلاص أبيه من هوّة الحصار بالقيروان وثب على الأمر ودعا لنفسه، ورحل إلى المغرب كما نذكره في أخباره. وسرّح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية والأنباء إلى عمله. وأمدّه بالأموال وأخذ عليه المواثيق ليكونن له ردءا دون أبيه، وليحولنّ بينه وبين الخلوص متى مرّ به. وانطلق أبو عبد الله إلى بجاية وقد سبقه إليها عمّه الفضل واستولى عليها فنازله بها وطال حصارها، ولحق بمكانه من منازلتها نبيل المولى ابن المعلوجي مولى الأمير أبي عبد الله وكافل بنيه من بعده. وتقدّم إلى قسنطينة وبها عامل من قبل الفضل، فثار به الناس لحينه، ودخل نبيل وملك البلد وأقام فيها دعوة الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله. وكان الأمير أبو عنّان استصحبه وإخوانه إلى المغرب، وبعد احتلاله بفاس سرّحهم إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بجريعة الذقن. أي بمعنى برمق أنفسهم.
[2] وفي نسخة ثانية: ابى مالك.(6/527)
مكان إمارتهم بقسنطينة بعد أن أخذ عليهم الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمّهم فجاءوا على أثر نبيل مولاهم ودخلوا البلد واحتل أبو زيد منها بمكان إمارته وسلطان قدمه كما قبل رحلتهم إلى المغرب.
ولم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيّتها بعض ليالي رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من رجالها داخلهم مولاه وكافله فارح في ذلك، فسرّب فيهم الأموال وواعدوه للبيات، وفتحوا له باب البرّ من أبوابها واقتحمه وفاجأهم هدير الطبول فهبّ السلطان من نومه وخرج من قصره فتسنّم الجبل المطلّ عليها وتسرّب في شعابه إلى أن وضح الصباح وظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمنّ عليه واستبقاه، وأركبه السفينة إلى بلد بونة في شوّال من سنة تسع وأربعين وسبعمائة ووجد بعض الأعياص من قرابته قد ثاروا بها، وهو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا الأكبر كان هو وأخوه عمر بالحضرة، وكان لعمر منها النظر على القرابة. فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل وتركهم ببونة عند سفره إلى بجاية، فحدّثتهم أنفسهم بالانتزاء فلم يتم لهم أمر. وثارت بهم الحاشية والعامّة فقتلوا لوقتهم ووافى الفضل إلى بونة وقد انجلت غيمتهم ومحيت آثارهم فدخل إلى قصره وألقى عصا تسياره، واستقل الأمير أبو عبد الله ابن الأمير أبي زكريا ببجاية محلّ إمارة أبيه الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله بقسنطينة محلّ إمارة أبيه، والأمير أبو العباس الفضل ببونة محلّ إمارته منذ عهد الأمر والسلطان أبو الحسن بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة الفضل الى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن الى المغرب)
كان العرب بعد ما قدمنا من طاعتهم وإسلامهم سلطانهم إلى أبي دبّوس قد انفضّوا عن السلطان أبي الحسن وأجلبوا عليه ثانية، وتولّى كبر ذلك قتيبة بن حمزة، وخالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل وافترق أمرهم. وخرج كبيرهم عمر ابن حمزة حاجّا فاستقدم قتيبة وأصحابه الأمير الفضل من مكان إمارته ببونة لطلب حقّه واسترجاع ملك آبائه فأجابهم ووصل إلى أحيائهم آخر سنة تسع وأربعين(6/528)
وسبعمائة، فنازلوا تونس وأجلبوا عليها. ثم أفرجوا عن منازلتها أوّل سنة خمسين وسبعمائة، وأفرجوا عنها آخر المصيف واستدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في طاعة الفضل وحمل أهل الجريد كلّهم عليها واتبعه في ذلك بنو مكي وانتقضت إفريقية عن السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام الفطر من سنة خمسين وسبعمائة ومضى المولى الفضل إلى تونس وبها أبو الفضل ابن السلطان أبي الحسن، كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى المغرب تفاديا عن ثورات الغوغاء ومضرّة هيعتهم، وأمّن عليه بما كان عقد له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته، فلما أطلّت رايات المولى الفضل على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيّع للدعوة الحفصيّة، وأحاطت الغوغاء بالقصر ورجموه بالحجارة. وأرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمّما بصهرهم فدخل عليه أبو الليل وأخرجه ومن معه إلى الحيّ واستركب له من رجالات بني كعب من أبلغه مأمنه وهداه السبيل إلى وطنه، ودخل الفضل إلى الحضرة وقعد بمجلس آبائه من الخلافة وجدّد ما طمسته بنو مرين من معالم الدولة واستمرّ أمره على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك الفضل وبيعة أخيه المولى أبي إسحاق في كفالة أبي محمد بن تافراكين وتحت استبداده)
لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة واستبدّ بملكها عقد على حجابته لأحمد بن محمد بن عتو نائبا عن عمّه أبي القاسم ريثما يفيء من الجريد وعقد على جيشه وحربه لمحمد بن الشواش من بطانته. وكان وليه المطارد به أبو الليل قتيبة بن حمزة مستبدّا عليه في سائر أحواله مشتطا في طلباته. وأنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكّر له، وأن يديل منه بولاية خالد أخيه وبعث عن أبي القاسم بن عتو وقد قلّده في حجابته وفوّض إليه أمره وجعل مقاد الدولة بيده، فركب إليه البحر من سوسة واستألف له خالد بن حمزة ظهيرا على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده وفاوضهم أبو الليل ابن حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان وحمله على عزله قائده محمد بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها. واضطربت نار الفتنة بين أبي الليل بن حمزة(6/529)
وبين أخيه خالد، وكاد شملهم أن يتصدّع. وبينما هم يجيشون نار الحرب ويجمعون الجموع والأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر وأبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم.
وكان ابن تافراكين لما احتل بالإسكندرية بعث السلطان فيه إلى أهل المشرق، وخاطبه ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد على الدولة يومئذ بيقاروس. وخرج من مصر لقضاء فرضه، وخرج عمر بن حمزة لقضاء فرضه أيضا فاجتمعا في مشاهد الحاج آخر سنة خمسين وسبعمائة وتعاقدا على الرجوع إلى إفريقية والتظاهر على أمرهما وقفلا فألقيا خالدا وقتيبة على الصفين فأشار عمر بن داية فاجتمعا وتواقفا ومسح الإحن من صدورهما، وتواطئوا جميعا على المكر بالسلطان، وبعث إليه وليه قتيبة بالمراجعة فقبله واتفقوا على أن يقلّد حجابته أبا محمد ابن تافراكين صاحب أبيه وكبير دولته، ويديل به من ابن عتو فأبى.
ثم أصبحت ونزلت أحياؤهم ظاهر البلد واستحثّوا السلطان للخروج إليهم ليكملوا عقد ذلك ووقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به، ثم اقتادوه إلى بيوتهم وأذنوا لابن تافراكين في دخول البلد، فدخلها لإحدى عشرة من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وعمد إلى دار المولى أبي إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل من العهد لأمّه والمواثيق ما رضيتها، وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة وبايع له الناس خاصّة وعامّة وهو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته. ودخل بنو كعب فآتوه طاعتهم وسيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقل وغط من جوف الليل بمحبسه حتى فاض ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو بالاختفاء في غيابات البلد وعثر عليه لليال فاعتقل وامتحن وهلك في امتحانه، وخوطب العمّال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا بها واستقام ابن بهلول صاحب توزر على الطاعة وبعث بالجباية والهدية، واتبعه صاحب نفطة وصاحب قفصة وخالفهم ابن مكّي وذهب إلى الاجلاب على ابن تافراكين لما كان قد كفل السلطان وحجزه عن التصرّف في أمره واستبدّ عليه إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم
.(6/530)
(الخبر عن حركة صاحب قسنطينة وما كان من حجابة أبي العباس بن مكّي وتصاريف ذلك)
لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس وبايع للمولى أبي إسحاق بالخلافة واستبدّ عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده ونقمه ابن مكيّ للسعي عليه لمنافسة كانت بينهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر. واستعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب ومجاذبيهم حبل الإمارة، فلما رأوا صاغيه ابن تافراكين إلى أولاد أبي الليل أقتالهم أجمعوا له ولهم، وحالفوا بني حكيم من قبائل علان [1] ، وأجلبوا على الضواحي وشنوا الغارات. ثم وفد على الأمير أبي زيد صاحب قسنطينة وأعمالها يستحثهم للنهوص إلى إفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن استبدّ عليه واحتازه، دونهم فسرّح معهم عسكرين لنظر ميمون ومنصور الجاهل من مواليه وموالي أبيه، وارتحلوا من قسنطينة. وارتحل معهم يعقوب بن علي كبير الزواودة بمن معه من قومه وسرّح أبو محمد بن تافراكين من الحضرة للقاسم عسكرا مع أبي الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي السلطان، والتقى الجمعان ببلاد هوّارة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل.
وقتل يومئذ أبو الليل قتيبة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس شيوخ بني حكيم، ورجع فلّهم إلى تونس وامتدّت أيدي أولاد مهلهل وعساكر قسنطينة في البلاد وجبوا الأموال من أوطان هوارة وانتهوا إلى أبدة [2] . ثم قفلوا راحلين إلى قسنطينة، وولي على أولاد أبي الليل مكان قتيبة أخوه خالد بن حمزة، وقام بأمرهم، وكان أبو العباس بن مكّي أثناء ذلك يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسنطينة من مكان ولايته بقابس ويعده من نفسه الوفادة والمدد بالمال والأحزاب والقيام بأعطيات العرب، حتى إذا انصرم فصل الشتاء ووفد عليه مع أولاد مهلهل لقاه مبرّة وتكريما. وعقد له على حجابته وجمع عساكره وجهّز آلاته وأزاح علل تابعه، ورحل من قسنطينة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة في صفر، وجهّز أبو محمد بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علاق وقد مرت معنا من قبل.
[2] وفي نسخة أخرى: أبه.(6/531)
تافراكين سلطانه أبا إسحاق لما يحتاج إليه من العساكر والآلة، وجعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من طبقة الفقهاء ومشيخة الكتّاب، كان يعلّم أبناء السلطان الكتاب ويقرئهم القرآن كما قدّمناه، وفصل من تونس في التعبية حتى إذا تراءى الجمعان كرّ محمد وتزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحاق، وافترقت جموعه وولّوا منهزمين. واتبعهم القوم عشية يومهم ولحق السلطان بصاحبه أبي محمد بن تافراكين بتونس وجاءوا على أثره فنازلوا تونس أياما وطالت عليهم الحرب. ثم امتنعت عليهم وارتحلوا إلى القيروان، ثم إلى قفصة، وبلغهم أنّ ملك المغرب الأقصى السلطان أبا عبد الله قد خالفهم إلى قسنطينة بمداخلة أبي محمد بن تافراكين واستجاشته. ونازل جهات قسنطينة وانتهب زروعها وشنّ الغارات عليها وفي بسائطها فبلغهم أنه رجع إلى بجاية منكمشا من زحف بني مرين، واعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره ودار إمارته يعني قسنطينة. ورغب إليه أبو العباس بن مكّي وأولاد مهلهل أن يخلف بينهم من إخوانه من يجتمعون إليه ويزاحفون به، فولّى عليهم أخاه العباس فبايعوه، وأقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكريا إلى أن كان من شأنه ما نذكر، وانصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصة يغذّ السير إلى قسنطينة واحتل بها في جمادى من سنته والله تعالى أعلم.
(الخبر عن وفادة صاحب بجاية على أبي عنان واستيلائه عليه وعلى بلده ومطلبه قسنطينة)
كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية وبين الأمير أبي عنّان أيام إمارته بتلمسان، ونزول الأعياص الحفصيّين بندرومة ووجدة أيام أبيه كما ذكرناه اتصال ومخالصة، أحكمها بينهما نسب للشباب والملك وسابقة الصهر، فكان الأمير أبو عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها السبيل على ملكه. ولما مرّ السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من تونس كما قدّمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء والأقوات من سائر جهاتها رعيا للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنّان في شأنه وجنوحا إلى تشييع سلطانه. ولما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة واستولى على المغرب الأوسط ونجا فلّهم إلى بجاية أوعز إلى الأمير أبي(6/532)
عبد الله باعتراضهم في جهاته والتقبّض عليهم فأجابه إلى ذلك، وبعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن، وعلى أخيه أبي ثابت الزعيم بن عبد الرحمن وعلى وزيرهم يحيى بن داود بن سليمان فأوثقوهم اعتقالا، وبعث بهم إلى السلطان أبي عنّان. ثم جاء على أثرهم فتلقّاه بالقبول والتكرمة وأنزله بأحسن نزل. ثم دسّ إليه من أغراه بالنزول له عن بجاية رغبة فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلّة والادالة عنها بمكناسة المغرب، الراحة من زبون الجند والبطانة، وأخفافا مما سواه إن لم يعتمده فأجاب إليه على اليأس والكره، وشهد مجلس السلطان والملا من بني مرين بالرغبة في ذلك، فأسعف وانيفت [1] جائزته، واقتطعت له مكناسة من أعمال المغرب. ثم انتزعها لأيام قلائل ونقله في جملته إلى المغرب، وبعث الأمير أبو عنّان مولاه فارحا المستبدّ عليه ليأتيه بأهله وولده، وعقد أبو عنّان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس، وهم ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصّه أبو عنّان بولايتها لمتانة هذا النسب الصنهاجي بينه وبين أهل وطنها منهم. وانصرفوا جميعا من المريّة. ولما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة الحفصية ومن بها من صنهاجة والموالي وهجست [2] رجالاتهم في قتل عمر بن علي الوزير وأشياع بني مرين، وتصدّى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن إبراهيم بن الحاج في رجالات من قومه بإملاء فارح كما زعموا.
وغدوا عليه في داره من القصبة فأكبّ عليه منصور يناجيه فطعنه وطعن آخر منهم القاضي ابن مركان [3] بما كان شيعة لبني مرين. ثم أجهزوا على عمر بن علي ومضى القاضي إلى داره فمات.
واتصلت الهيعة بفارح فركب إليه وهتف الهاتف بدعوة صاحب قسنطينة المولى أبي زيد، وطيّروا إليه بالخبر واستحثّوه للقدوم. وأقاموا على ذلك أياما ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسّك بدعوة صاحب المغرب خوفا من بوادره فثاروا بفارح وقتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وبعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان. وتولى كبر ذلك هلال صاحبه من موالي ابن سيّد الناس ومحمد بن الحاجب أبي عبد الله بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واسنيت.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى تمشت.
[3] وفي نسخة أخرى: ابن فركان.(6/533)
سيّد الناس ومشيخة البلد، واستقدموا العامل حواس [1] من بني مرين وهو يحيى بن عمر بن عبد المؤمن من بني ونكاس فبادر اليهم. وسرّح السلطان أبو عنّان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي عمر في الكتائب فدخلها فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وذهبت صنهاجة في كل وجه ولحق كبارهم وذوو الفعلة منه بتونس، وتقبّض على هلال مولى ابن سيّد الناس لما داخلته فيه من الظنّة، وعلى القاضي محمد بن عمر لما كان شيعة لفارح، وعلى زعماء [2] الغوغاء من أهل المدينة وأشخصهم معتقلين إلى المغرب. وصرف نظره إلى تمهيد الوطن واستدعى كبراء العرب وأهل النواحي من أعمال بجاية وقسنطينة.
ووفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب ومشيخة الزواودة فاسترهن أبناءهم على الطاعة، وقفل بهم إلى المغرب. واستعمل أبو عنّان على بجاية موسى بن إبراهيم اليرنياني من طبقة الوزراء وبعثه إليها. ولما وفدوا على السلطان جلس جلوسا فخما، ووصلوا إليه ولقاهم تكرمة ومبرّة، وأوسعهم حباء واقطاعا وأنفذ لهم الصكوك والسجلات وأخذ على طاعتهم العهود والمواثيق والرهن وانقلبوا إلى أهلهم وعقد لحاجبه ابن أبي عمر وعلى بجاية وأعمالها وعلى حرب قسنطينة من ورائها، ورجّعه إليها فدخلها في رجب من سنته.
وأوعز السلطان إلى موسى بن إبراهيم بالولاية على سدويكش والنزول ببني ياورار في كتيبة جهّزها هنالك لمضايقة قسنطينة وجباية وطنها، وكل ذلك لنظر الحاجب ببجاية، وكان بقسنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن معتقلا من لدن واقعة بني مرين بها. وكان موسوسا في عقله معروفا بالجنون عند قومه. وكان الأمراء بقسنطينة قد أسنوا جرايته في اعتقاله وأولوه من المبرّة والكفاية كفاء نسبه [3] . فلما زحف كتائب بني مرين إلى بني ياورار آخر عمل بجاية ودانوا قسنطينة ومن بها من الحروب والحصار، نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجئ به رجالات بني مرين أهل العسكر ببجاية وبني ياورار، وجهّز له الآلة، وتسامعوا بذلك ففزع إليهم الكثير منهم. وخرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل صنهاجة من بونة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بتولس.
[2] وفي نسخة أخرى: عرفاء.
[3] وفي نسخة أخرى: من المبرّة والحفاوة كفاء نفسه.(6/534)
ومن كان على دعوته من سدويكش والزواودة فجمعهم وزحفوا جميعا الى وطن بجاية، واتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث في الزواودة من مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول. ووفد عليه أبو دينار بن علي بن أحمد واستحثّه للحركة على قسنطينة فاعترض عساكره وأزاح عللهم، وخرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين وسبعمائة فكرّ أبو عمر ومن معه راجعين إلى قسنطينة. وزحف الحاجب فيمن معه من بني مرين والزواودة وسدويكش، ولقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة. واكتسحت أموال بونة، ورجع ابن أبي عمر بعساكره إلى قسنطينة فأناخ عليها سبعا. ثم ارتحل عنها إلى ميلة، وعقد يعقوب بن علي بين الفريقين صلحا على أن يمكّنوه من أبي عمر الموسوس، فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي عنّان فأنزله ببعض الحجر، ورتّب عليه الحرس. وسار الحاجب في نواحي أعماله وانتهى إلى المسيلة واقتضى مغارمها، ثم انكفأ راجعا إلى بجاية وهلك فاتح سنة ست وخمسين وسبعمائة وعقد السلطان على بجاية وأعمالها بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني بابان [1] وسرّحه إليها فدخلها، وزحف إلى قسنطينة فحاصرها وامتنعت عليه فرجع إلى بجاية. ثم زحف من العام المقبل سنة سبع وخمسين وسبعمائة كذلك ونصب عليها المجانيق فامتنعت عليه وأرجف في عسكره بموت السلطان فانفضّوا وأحرق مجانيقه.
ورجع الى بجاية جمرّ الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به وبعسكره ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن حادثة طرابلس واستيلاء النصارى عليها ثم رجوعها الى ابن مكي)
كانت طرابلس هذه ثغرا منذ الدول القديمة وكانت لهم عناية بحمايتها لما كان وضعها في البسيط، وكانت ضواحيها قفرا من القبائل فكان النصارى أهل صقلّيّة كثيرا ما يحدّثون أنفسهم بملكها. وكان ميخاييل الأنطاكي صاحب أسطول رجّار قد تملّكها
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يابان.(6/535)
من أيدي بني حزروق [1] من مغراوة آخر دولتهم ودولة صنهاجة كما ذكرنا. ثم رجّعها ابن مطروح ودخلت في دعوة الموحّدين ومرّت عليها الأيام إلى أن استبدّ بها ابن ثابت ووليها من بعده ابنه في أعوام خمسين وسبعمائة منقطعا عن الحضرة ومقيما رسم الدعوة. وكان تجّار الجنوبيين يتردّدون إليها فاطلعوا على عوراتها وائتمروا في غزوها واتّعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس وخمسين وانتشروا بالبلد في حاجاتهم ثم بيّتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها وملكوها عليهم. وهتف هاتفهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبّوا من مضاجعهم، فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همّهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبّوا من مضاجعهم، فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همّهم إلا النجاة بأنفسهم. ونجا ثابت بن محمد مقدّمهم إلى حلّة الجوار في أعراب وطنها من دباب إحدى بطون بني سليم، فقتل لدم كان أصابه منهم. ولحق أخويه بالإسكندرية، واستباحها النصارى، واحتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثيّ والمتاع والعقائل والأسرى وأقاموا بها. وداخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفا من الذهب العين، فبعث فيها لملك المغرب السلطان أبي عنّان يطرفه بمثوبتها. ثم تعجّلوا عليه فجمع ما عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحامّه وبلاد الجريد فجمعوها له حسبة ورغبة في الخير. وأمكنه النصارى من طرابلس فملكها واستولى عليها وأزال ما دنّسها من وضر الكفر. وبعث السلطان أبو عنّان بالمال إليه وأن يردّ على الناس ما أعطوه وينفرد بمثوبتها وذكرها فامتنعوا إلا قليلا منهم، ووضع المال عند ابن مكي لذلك، ولم يزل ابن مكي أميرا عليها إلى أن هلك كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير المؤمنين ومفتتح أمره السعيدة بقسنطينة)
كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله بولاية جدّه الخليفة أبي بكر، وكان إخوته جميعا في جملته، ومنهم السلطان أبو العبّاس أمير المؤمنين لهذا
__________
[1] وفي نسخة ثانية خيزرون واسمه الصحيح خزرون (قبائل المغرب ص 166) .(6/536)
العهد، والمنفرد بالدعوة الحفصيّة من لدن مهلك أبيهم يرون أنّ الوراثة لهم، وان الأمر فيهم حتى لقد يحكى عن شيخ وقته الوليّ أبي هادي المشهور الذكر، وكان من أهل المكاشفة، أنه قال ذات يوم وقد جاءوا لزيارته بأجمعهم على طريقهم وسنن أسلافهم في التبرّك بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء الله ثم قال: البركة إن شاء الله في هذا العش، وأشار إلى الإخوة مجتمعين، وكان الحذاق [1] والمنجّمون أيضا يخبرون بمثلها، ويحومون بوطنهم على أبي العباس منهم لما يتفرّسون فيه من الشواهد والمخايل. فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد بتونس سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ما قدّمناه، ثم ارتحل عنها إلى نفطة وأراد الرجوع إلى قسنطينة للارجاف يسائل [2] السلطان أبا عثمان وأنه زحف إلى آخر عمله من تخوم بجاية، رغب إليه حينئذ أولاد مهلهل أولياؤه من العرب وشيعته حاجبه أبو العباس بن مكي صاحب عمل قابس وجربة أن يستعمل عليهم من إخوته من يقيم معهم لمعاودة تونس بالحصار، فسرّح أخاه مولانا أبا العبّاس فتخلّف معهم لذلك وفي جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس.
وكان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير أبو العبّاس بمن معه الجزيرة وخاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت وأفرجوا عن الحصن. ثم رجع السلطان إلى قابس وزحف العرب أولاد مهلهل إلى تونس وحاصروها أياما فامتنعت عليهم. ورجع إلى أعمال الجريد وأوفد أخاه أبا يحيى زكريا على السلطان صريخا سنة خمس وخمسين وسبعمائة فلقاه مبرّة ورحبا، وأسنى جائزته وأحسن وعده وانكفأ راجعا عنه إلى وطنه، ومرّ بالحاجب أبي عمر عند إفراجه عن قسنطينة، ولحق بأخيه بمكانه من قاصية إفريقية واتصلت أيديهما على طلب حقهما.
وفي خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس وبين خالد ابن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله وأولاد مهلهل، واستدعاهم للمظاهرة فأقبلوا عليه. وتحيّز خالد إلى السلطان أبي العبّاس وزحفوا معه إلى تونس فنازلوها سنة ست وخمسين وسبعمائة وامتنعت عليهم وأفرجوا عنها واستقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين عند ما تكاثفوا عليه، وضاق به الحصار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحزى جمع حازي وهو الّذي يزاجر الطير ليتكهّن.
[2] وفي نسخة أخرى: بشأن.(6/537)
واستخلف على قسنطينة أخاه أبا العبّاس فدخلها ونزل بقصور الملك منها، واقام بها مدّة وعساكر بني مرين قد ملأت عليه الضاحية فدعاه الأولياء إلى الاستبداد وأنه أبلغ في المدافعة والحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية، فأجاب وبويع شهر [1] من سنة ست وخمسين، وانعقد أمره. وزحف عبد الله بن عليّ صاحب بجاية إلى قسنطينة من سنته، وفي سنة سبع بعدها فحاصرها ونصب المجانيق. ثم أجفل آخر الإرجاف كما ذكرناه. وتنفّس مخنق الحصار عن قسنطينة، وكان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس ونازلها امتنعت عليه، ورجع وقد استبدّ أخوه بأمر قسنطينة فعدل إلى بونة وراسل أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة والنزول لهم عن بونة فأجابه ونزل عنها الأمير أبو زيد لعمّه السلطان أبي إسحاق. وتحوّل إلى تونس فأوسعوا له المنازل وأسنوا الجرايات والجوائز، وأقام في كفالة عمّه إلى أن كان من أمره ما نذكره والله أعلم.
(الخبر عن واقعة موسى بن إبراهيم واستيلاء أبي عنان بعد على قسنطينة وما تخلل ذلك من الأحداث)
لما استبدّ السلطان أبو العباس بالأمر وزحفت إليه عساكر بجاية وبني مرين، فأحسن دفاعها عن بلده. وتبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن إبراهيم وكتائبه المجمّرة ببني ياورار، ودعوا إلى ذلك ميمون بن عليّ بن أحمد وكان منحرفا عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين ومناصحهم فأجاب. وسرّح السلطان أخاه أبا يحيى زكريا بينهم بمن في جملته من العساكر وصبحوهم في غارة شعواء، فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدّموا ثم أحجموا واختلّ مصافّهم وأحيط بهم وأثخن قائد العسكر موسى بن إبراهيم بالجراحة واستلحم بنوه زيّان وأبو القاسم ومن إليهم وكانوا أسود هياج وفرسان ملحمة
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذا الشهر في المراجع التي بين أيدينا. وفي نسخة أخرى سنة خمس وخمسين.(6/538)
في آخرين من أمثالهم وتتبعوا بالقتل والنهب إلى أن استبيحوا ونجا فلهم إلى بجاية ولحقوا بالسلطان أبي عنّان. ولما بلغه الخبر قام في ركائبه وقعد وفتح ديوان العطاء وبعث وزراءه للحشد في الجهات.
وأعدّ من الجنود وأزاح العلل وشكا له موسى بن إبراهيم قعود عبد الله بن علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه ونكبه وعقد مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود، وتلوّم بعده أشهرا في تجهيز العساكر، وبعث السلطان أبو العبّاس أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخا لعمّه السلطان أبي إسحاق فأعجله الأمر عن الإياب إليه، وارتحل أبو عنّان في عساكره. ثم بعث في مقدّمته وزيره فارس بن ميمون بن ودرار، وزحف على أثره في ربيع سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وأغذّ السير إلى قسنطينة وقد نازلها وزيره ابن ودرار قبله. فلما نزل بساحتها وقد طبقوا الأرض الفضاء بجيوشه وعساكره وجم أهل البلد، وأدركهم الدهش فانفضوا وتسلّلوا إليه. وتحيّز السلطان أبو العبّاس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثّق لنفسه بالعهد. ثم نزل إليه فلقاه تكرمة ورحبا وأسنى له الفساطيط في جواره. ثم بدا له لأيام قلائل فنقض عهده وأركبه السفن إلى المغرب، وأنزله بسبتة ورتّب عليه الحرس، وبعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته، وفرّ عنها عمّال الحضرة. ولما استولى عقد على قسنطينة لمنصور بن مخلوف شيخ بني بابان من قبيل [1] بني مرين. ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته والنزول عن تونس فردّهم، وأخرج سلطانه المولى أبا إسحاق مع أولاد أبي الليل ومن إليهم من العرب بعد أن جهّز له العساكر وما يصلح من الآلة والجند، وأقام هو بتونس وأجمع أبو عنّان النهوض إليه، ووفد عليه أولاد مهلهل يستحثّونه لذلك، فسرّح معهم عسكرا في البرّ لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين معطي حشود بني [2] تيربيعين من قبائل بني مرين وصاحب الشورى في مجلسه. وسرّح عسكرا آخر في الأسطول لنظر محمد بن يوسف المعروف بالأبكم من بني الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد، فسبق الأسطول وصبحوا تونس وقاتلوها يوما أو بعض يوم، وأتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين ولحق بالمهديّة، واستولت عساكر بني مرين على تونس في رمضان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وحقّ لهم الظهور فخرج
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من قبائل بني مرين.
[2] وفي نسخة ثانية: يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي كبير تيربيعين.(6/539)
عنها أبو محمد بن تافراكين، ولحق يحيى بن رحو بعسكره فدخل البلد وأمضى فيها أوامر السلطان. ثم دعاه أولاد مهلهل إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل وسلطانهم فخرج معهم لذلك، وأقام ابن الأحمر وأهل الأسطول بالبلد في خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف لما تبيّن من نكر السلطان أبي عنّان وإرهاف حدّه للعرب، ومطالبتهم بالرهن، وقبض أيديهم عن الأتاوات ومسح أعطافه بالمدراة فلم يقبلها، فلحق يعقوب بالرمل، واتّبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره ومنازله بالبلد والصحراء فخرّبها وانتسفها.
ثم رجع إلى قسنطينة وارتحل منها يريد إفريقية وقد نهض المولى أبو إسحاق بمن معه من العرب للقائه، وانتهوا إلى حصن سبتة. ثم تمشّت رجالات بني مرين وائتمروا في الرجوع عنه حذرا أن يصيبهم بإفريقية ما أصابهم من قبل، فانفضّوا متسلّلين إلى المغرب. ولما خفّ المعسكر من أهله أقصر عن القدوم إلى إفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه، واتبع العرب آثاره، وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهديّة فسار إلى تونس. ولما أطلّ عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني مرين وعمّالهم، فنجوا إلى الأسطول ودخل أبو محمد بن تافراكين إلى الحضرة وأعاد ما طمس من الدولة. ولحق به السلطان أبو إسحاق بعد أن تقدّم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود والعرب لاتباع آثار بني مرين ومنازلة قسنطينة، فاتبعهم إلى تخوم عملهم ورجع أبو زيد إلى قسنطينة وقاتلها أياما فامتنعت عليه فانكفأ راجعا إلى الحضرة. ولم يزل مقيما بها إلى أن هلك عفا الله عنه وعنا آمين سنة [1] وكان أخوه يحيى بن زكريا قد لحق بتونس من قبل صريخا كما قلناه، فلما بلغهم أنّ قسنطينة قد أحيط بها تمسّكوا به فلحق به الفلّ من مواليهم وصنائعهم فكانوا معه إلى أن يسّر الله أسباب الخير والسعادة للمسلمين، وأعاد السلطان أبا العبّاس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنّان كما يذكر ومدّ إيالته على الخلق فطلع على الرعايا بالعدل والأمان وشمول العافية والإحسان، وكفّ أيدي العدوان ورفع الناس والدولة في ظلّ ظليل ومرعى جميل كما نذكر إن شاء الله.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا.(6/540)
(الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيى زكريا بالمهدية ودخوله في دولة أبي عنان ثم نزوله عنها الى الطاعة وتصاريف ذلك)
كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين المهديّة يعدّها للدولة وزرا من حادث ما يتوقعه من المغرب وأهله، فشيّد من أسوارها وشحن بالأقوات والأسلحة مخازنها ومستودعاتها، وكان أحمد بن خلف من أوليائه وذويه مستبدا عليه فأقام على ذلك حولا أو بعضه. ثم ضجر الأمير أبو يحيى زكريا من الاستبداد عليه واستنكف من حجره في سلطانه فوثب به [1] أحمد بن خلف فقتله، وبعث عن أبي العبّاس أحمد بن مكي صاحب جربة وقابس ليقيم له رسم الحجابة لما كان مناوئا لأبي محمد بن تافراكين كافله فوصل إليه، وطيّروا بالخبر إلى السلطان أبي عنّان صاحب المغرب وبعثوا إليه ببيعتهم واستحثّوه لصريخهم. واضطراب أمرهم وسرّح أبو محمد بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه، ولحق المولى أبو يحيى زكريا بقابس، واستولى عليها العسكر واستعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد بن الحكجاك من قرابة ابن ثابت، اصطنعه عند ما وقعت الحادثة على طرابلس، ولحق به فاستعمله على المهديّة. ولمّا وصل الخبر إلى أبي عنّان بشأن المهديّة جهّز إليها الأسطول وشحنه بالمقاتلة والرجال، وعيّن الموالي والخاصّة فألفوها وقد رجعت إلى إيالة الحضرة، ووصل إليها ابن الحكجاك وأقام بها وحسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر.
وأقام الأمير زكريا بقابس، وأجلب به أبو العبّاس بن مكي على تونس. ثم بعثوه بالزواودة ونزل على يعقوب بن علي وأصهر إليه في ابنة أخيه سعيد، فعقد له عليها.
ولما استولى أخوه أبو إسحاق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام، ولم يزل بين الزواودة إلى أن هلك سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكره بعد والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى فبيّت.(6/541)
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على بجاية وإعادة الدعوة الحفصية إليها)
لما رجع السلطان أبو عنّان من قسنطينة إلى المغرب أراح بسبتة [1] ، وسرّح عساكره من العام المقبل إلى إفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود فسار في نواحي قسنطينة ومعه ميمون بن علي بن أحمد اديل من يعقوب على قومه من الزواودة، وعثمان بن يوسف ابن سليمان شيخ أولاد سبّاع منهم. وحضر معهم يوسف بن مزني عامل الزاب، أوعز إليه السلطان بذلك فدوّخ الجهات وانتهى إلى آخر وطن بونة، واقتضى المغارم. ثم انكفأ راجعا إلى المغرب وهلك السلطان أبو عنّان إثر قفوله سنة تسع وخمسين وسبعمائة واضطرب المغرب ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره. وكان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان أبي عنّان سوء ملكته وشدّة سطوته وعسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين على البعد في التوثّب به، فجهّز إليهم السلطان أبو إسحاق ما يحتاج إليه من العساكر والآلة، ونهض من تونس ومعه ابنه أبو عبد الله على العساكر. وتلقّاهم يعقوب بن علي وظاهرهم على أمرهم وسار أخوه أبو دينار في جملتهم. ولما أطلق على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل، كان عليهم منذ عهد السلطان أبي عنّان، فألقى بيده وتقبّض عليه وعلى من كان من قومه، وأركبوا السفين إلى الحضرة، وأودعهم أبو محمد بن تافراكين سجونه تحت كرامة وجراية إلى أن من عليهم من بعد ذلك وأطلقهم إلى المغرب.
ودخل السلطان ابو إسحاق إلى بجاية سنة إحدى وستين وسبعمائة واستبدّ بها بعض الاستبداد وحاجبه وكافله أبو محمد يدبّر أمره من الحضرة. ثم استقدم ابنه ونصب لوزارة السلطان أبي محمد عبد الواحد بن محمد بن أكمازير من مشيخة الموحّدين فكان يقيم له رسم الحجابة. وقام بأمر الرجل بالبلد من الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية وأوغادها، التفت عليه الثوار [2] والدعّار وأصبحت له بهم شوكة كان له بها تغلّب على الدولة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اراح بسنته.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الشرار.(6/542)
(الخبر عن فتح جربة ودخولها في دعوة السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة)
هذه الجزيرة من جزر هذا البحر الّذي هو قريب [1] من قابس إلى الشرق عنها قليلا طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا، وعرضها من ناحية الغرب عشرون ميلا.
ومن ناحية الشرق خمسة عشر ميلا، وبين فرضتيها في ناحية الغرب [2] ستون ميلا.
وشجرها التين والنخل والزيتون والعنب، واختصّت بالنسيج [3] وعمل الصوف للباسهم فيتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال. وغير المعلمة للّباس. ويجلب منها الى الأقطار فينتقيه الناس للباسهم. وأهلها من البربر من كتامة وفيهم إلى الآن سدويكش وصدغيان من بطونهم، وفيهم أيضا من نغزة وهوّارة وسائر شعوب البربر. وكانوا قديما على رأي الخوارج، وبقي بها إلى الآن فريقان منهم الوهبية وهم بالناحية الغربيّة، ورياستهم لبني سمرمن [4] ، والنكارة وهم بالناحية الشرقية، وجربة فاصلة بينهما.
والظهور والرئاسة على الكل لبني النجّار من الأنصار من جند مصر، ولّاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فغزا إفريقية وفتح جربة سنة سبع وأربعين بعدها، وشهد الفتح حسين بن عبد الله الصنعاني ورجع إلى برقة فمات بها. ولم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر فأخذوا به. ولما كان شأن أبي زيد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فأخذوا بدعوته بعد أن دخلها عنوة، وقتل مقدّمها يومئذ ابن كلوس [5] وصلبه.
ثم استردّها المنصور بن إسماعيل، وقتل أصحاب أبي زيد [6] . ولما غلبت العرب صنهاجة على الضواحي وصارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل وغزوا الساحل. ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس سنة تسع وخمسمائة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الّذي يمر قريبا من قابس.
[2] وفي نسخة ثانية: وبينها وبين قرقنّة في ناحية المغرب.
[3] وفي نسخة ثانية: بالتفّاح.
[4] وفي نسخة ثانية: سمومن.
[5] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: ابن كلدين وفي نسخة ثانية: ابن الدين.
[6] وفي نسخة ثانية: ابن يزيد.(6/543)
بأساطيله إلى أن انقادوا وضمنوا قطع الفساد وصلح الحال. ثم تغلّب النصارى عليها سنة تسع وعشرين وخمسمائة عند تغلّبهم على سواحل إفريقية. ثم ثار أهلها عليهم وأخرجوهم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ثم غلبوا عليها ثانية وسبوا أهلها واستعملوا على الرعيّة وأهل العلم [1] . ثم عادت للمسلمين ولم تزل متردّدة بين المسلمين والنصارى إلى أن غلب عليها الموحّدون أيام عبد المؤمن بن علي. واستقام أمرها إلى أن استبدّ أمراء بني حفص بإفريقية. ثم افترق أمرهم بعد حين واستبدّ المولى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق بالناحية الغربيّة، وشغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدّمناه، فتغلّب على هذه الجزيرة أهل صقلّيّة سنة ثمان وثمانين وستمائة وبنوا بها حصن القشتيل مربّع الشكل في كلّ ركن منه برج، وبين كل ركنين برج. ويجاوره حفير وسوران. وأهمّ المسلمين شأنها، ولم تزل عساكر الحضرة تتردّد إليها كما تقدّم إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من بطانته سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة واستضافها ابن مكي صاحب قابس إلى عمله فأضافها إليه، وعقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان ومن بعده.
واتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين وبين ابن مكي، وبعث الحاجب أبو محمد ابن تافراكين عن أبيه أبي عبد الله، وكان في جملة السلطان ببجاية كما قلناه.
ولمّا وصل إليه سرّحه في العساكر لحصار جربة وكان أهلها قد نقموا على ابن مكي سيرته فيهم ودسّوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرّح إليه ابنه في العساكر سنة ثلاث وستين وسبعمائة وكان أحمد بن مكي غائبا بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى، وجعلها دارا لإمارته فنهض العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد، ونزلوا في الأسطول فطلعوا بالجزيرة [2] وضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا عليه وملكوه. وأقاموا به دعوة صاحب الحضرة. واستعمل عليه أبو عبد الله ابن تافراكين كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون، كان من صنائع الدولة منذ العهد الأوّل، وكانت لأبيه قرابة من أبي عبد العزيز الحاجب ترقّى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضا لأبي القاسم بن طاهر الّذي كان يتولاها يومئذ، فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبدّ هو بها منذ أيام الحاجب أبي محمد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أهل الفلح.
[2] وفي نسخة أخرى: ونهض الأسطول في البحر فنزلوا بالجزيرة وضايقوا القشتيل.(6/544)
واتصل ابنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب واختصّ بكاتبه إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة، وانكفأ راجعا إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون واليا عليها. ثم استبدّ بها على السلطان بعد مهلك الحاجب وقرار يده [1] على السلطان إلى أن غلبه عليها السلطان أبو العبّاس سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما نذكره إن شاء الله.
(الخبر عن دعوة الأمراء من المغرب واستيلاء السلطان أبي العباس على قسنطينة)
لما هلك السلطان أبو عنّان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر، ونصب ابنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره. وكان يضطغن للأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فقبض عليه لأول أمره واعتقله حذرا من وثوبه على عمله فيما زعموا. وكان السلطان أبو العبّاس بسبتة منذ أنزله السلطان أبو عنّان بها، ورتّب عليه الحرس كما ذكرنا فلما انتزى على الملك المنصور بن سليمان من أعياص ملكهم، ونازل البلد الجديد دار الملك ودخل في طاعته سائر الممالك والأعمال بعث في السلطان أبي العبّاس واستدعاه من سبتة فنهض إليه. وانتهى في طريقه إلى طنجة ووافق في ذلك إجازة السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه. وكان أوّل ما استولى عليه من أعمال المغرب طنجة وسبتة فاتصل به السلطان أبو العبّاس وظاهره على أمره إلى أن نزع إليه قبيلة بني مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم فاستوسق أمره واستثبت سلطانه به ودخل فاس وسرّح الأمير أبا عبد الله من اعتقال الحسن بن عمر كما قدّمناه. ورعى للسلطان أبي العبّاس ذمّة سوابقه القديمة والحادثة فرفع مجلسه وأسنى جرايته، ووعده بالمظاهرة على أمره، واستقروا جميعا إلى إيالته إلى أن كان من تغلّب السلطان أبي سالم على تلمسان والمغرب الأوسط ما نذكره في أخبارهم.
واتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون ورجالات قبيلهم، فامتعض لذلك وحين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية ونزل للسلطان أبي
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وفرار ابنه من السلطان.(6/545)
العبّاس عن قسنطينة دار إمارته ومثوى عزّه ومنبت ملكه، فأوعز إلى عاملها منصور ابن مخلوف بالنزول له عنها وسرّحه إليها وسرّح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمّه لطلب حقّه في بجاية، والاجلاب على عمّه السلطان عبد الحق جزاء بما نال من بني مرين عند افتتاحها من المعرّة. وارتحلوا من تلمسان في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وأغذّوا السير إلى مواطنهم. فأمّا السلطان أبو العباس فوقف منصور بن خلوف عامل البلد على خطاب سلطانه بالنزول عن قسنطينة فنزل وأسلمها إليه، وأمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة واقتعد سرير ملكه منها وتباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدأ سلطانه ومظهرا لسعادته ومطلعا لدولته على ما نذكر بعد. وأمّا الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية فلحق بأوّل وطنها، واجتمع إليه أولاد سبّاع أهل ضاحيتها وقفرها من الزواودة. ثم زحف إليها فنازلها أياما وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بني ياورار، واستخدم أولاد محمد بن يوسف والعزيز بين أهل ضاحيتها من سدويكش. ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمّه ببجاية فخرج إلى القفر مع الزواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وصول الأمير أبي يحيى زكريا من تونس وافتتاحه بونة واستيلائه عليها)
كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه أبو العبّاس إلى عمّهما السلطان أبي إسحاق صريخا لم يزل مقيما بتونس، وبلغه استيلاء السلطان أبي عنّان على قسنطينة وهو بتونس ثم لما كانت عودة مولانا أبي العبّاس من المغرب واستيلاؤه على قسنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته، وتوقع زحفه إليها [1] وغلبه إياه على الأمر. ورأى أن يخفض [2] جناحه في أخيه، ويتوثّق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامة ورعي، وبعث فيه السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه وانعقد بينهما السلم. ولمّا وصل الأمير أبو يحيى ابن أخيه بقسنطينة عقد له عن العساكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إليه.
[2] وفي نسخة ثانية: يحصر.(6/546)
وأصاروها نجما لعمله واستمرّت حالها على ذلك إلى أن كان من أمرها ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية ثم على تدلس بعدها) لما قدم السلطان أبو عبد الله من المغرب ونازل بجاية فامتنعت عليه خرج إلى أحياء العرب كما قدّمناه ولزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سبّاع بعد توالي الوفاد بها [1] وأقام بين ظهرانيهم وفي حللهم ومتعهدا في طلب بجاية برحلة الشتاء والصيف وتكفّلوا، نفقة عياله ومؤنة حشمه وأنزلوه بتلك المسيلة من أوطانهم، وتجافوا له عن جبايتها [2] وأقام على ذلك سنين خمسا ينازل بجاية في كل سنة منها مرارا، وتحوّل في السنة الخامسة عنهم إلى أولاد علي بن أحمد، ونزل على يعقوب بن عليّ فأسكنه بمقرّه من بلاده إلى أن بدا لعمّه المولى أبي إسحاق رأيه في اللحاق بتونس لما توقع من مهلك حاجبه وكافله أبي محمد بن تافراكين، أسره إليه بعض الجند فحذّره مغبّته ووقع من ذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه وحرج أمره [3] وراسلوا أميرهم الأقدم أبا عبد الله من مكانه بمقرّه وظاهره على ذلك يعقوب بن علي وأخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية، وارتحلوا معه إلى بجاية ونازلها أياما. ثم استيقن الغوغاء اعتزام سلطانهم على التقويض عنهم، وسئموا ملكة علي بن صالح الّذي كان عريفا عليهم فثاروا به ونبذوا عهده وانفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالحرسة من ساحة البلد. ثم قاد إليه عمه أبا إسحاق فمرّ عليه وخلّى سبيله إلى حضرته فلحق بها واستولى أبو عبد الله على بجاية محل إمارته في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وتقبّض على عليّ بن أبي صالح [4] ومن معه من عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم، ثم أمضى حكم الله في قتلهم. ثم نهض إلى تدلس
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فغربوا في الوفاء بها.
[2] وفي نسخة ثانية: جبايتهم.
[3] وفي نسخة أخرى: ومرج أمرهم.
[4] وفي نسخة أخرى: علي بن صالح.(6/547)
لشهرين من مملكة بجاية فغلب عليها عمر بن موسى عامل بني عبد الواد، ومن أعياص قبيلهم، وتملّكها في آخر سنة خمس وستين وسبعمائة. وبعث عني من الأندلس وكنت مقيما بها نزيلا عند السلطان أبي عبد الله بن أبي الحاج بن الأحمر في سبيل اغتراب ومطاوعة تغلّب منذ مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تقويمه، والترقي في [1] في خطط كتابته من ترسيل وتوقيع ونظر في المظالم وغيرها. فلما استدعاني هذا الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ 6: 112 وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ من الْخَيْرِ» 7: 188 فأجزت البحر شهر جمادى من سنة ست وخمسين وسبعمائة وقلّدني حجابته، ودفع إليّ أمور مملكته. وقمت في ذلك المقام المحمود إلى أن يأذن الله بانقراض أمره، وانقطاع دولته، وللَّه الخلق والأمر، وبيده تصاريف الأمور.
(الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده) كان السلطان أبو إسحاق آخر دولته ببجاية قد تحيّن مهلك حاجبه المستبدّ عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صنهاجة أهل التنجيم يحدّثونه بذلك، فأجمع الرحلة إليها، وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدّمناه. واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وتلقّاه أبو محمد بن تافراكين ورآه مرهف الحدّ للاستبداد الّذي لفّه ببجاية فكايله بصاع الوفاق، وصارفه نقد المصانعة، وازدلف بأنواع القربات. وقاد إليه النجائب ومنحه الذخائر والأموال وتجافى له عن النظر في الجباية. ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها وأعرس السلطان بها. ثم كان مهلكه عقب ذلك فاتح ست وستين وسبعمائة فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع في لحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم إزاء داره جوفيّ المدينة. وقام على قبره باكيا وحاشيته يتناولون التراب حثيا على جدثه فقرن [2] في الوفاء معه ما تحدّث به الناس واستبدّ من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تنويهه، والراقي بي في خطط.
[2] وفي نسخة أخرى: فغرب.(6/548)
وكان أبو عبد الله الحاجب [1] غائبا عن الحضرة وخرج منها بالعسكر للجباية والتمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنّة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة، وارتفع مع حكيم من بني سليم، وعرض نفسه على معاقل إفريقية التي كان يظنّ أنها خالصة لهم. فصدّه محمد بن أبي العيون كاتبه عن عزمه [2] ، فحمد الحكيم صنيعه وطاف بهم على المهدية [3] . وبعث إليه السلطان بما رضيه من الأمان فاستصحب بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبرّ والترحيب، وقلّده حجابته وأنزله على مراتب العزّ والتنويه والشرف. ونكر هو مباشرة السلطان للناس من رفعه للحجاب، ولم يزل يريضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجوّ بينه وبين السلطان ودبّت عقارب السعاية لمهاده الوثير، فتنكّر وخرج من تونس ولحق بقسنطينة، ونزل بها على السلطان أبي العبّاس مرغّبا له في ملك تونس ومستحثّا فأنزله خير نزل، ووعده بالنهوض معه إلى إفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمّه صاحبها من الفتنة كما نذكرها بعد. واستبدّ السلطان أبو إسحاق بعد مفرّ ابن تافراكين عنه، ونظر في أعطاف ملكه، وعقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم المالقي [4] مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمّال، وعلى العساكر والحرب لمولاه منصور سريحة من المعلوجي، ورفع الحجاب بينه وبين رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جبايات الخراج وعرفاء الحشم، وأوصلهم إلى نفسه وألغى الوسائط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية وملك صاحبها ابن عمه) لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكّر للرعيّة وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحدّ للكافة وإسخاط الخاصّة، فنغلت [5] الصدور ومرضت القلوب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الحاجب لأبي محمد وفي نسخة أخرى: الحاجب ابن أبي محمد.
[2] وفي نسخة أخرى: عن جربة.
[3] وفي نسخة أخرى تختلف العبارة تماما: ومحمد بن الجكجاك ضيعتهم وبطانتهم عن المهدية.
[4] وفي نسخة أخرى: اليالغي.
[5] نفلت الصدور: أي ضغنت (قاموس) .(6/549)
واستحكمت النفرة، وتوجّهت الضاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العبّاس بقسنطينة لما كان استفسد منه وأعلن بلذاته وأقوم على سلطانه. وكانت بينهما فتنة وحروب جرّتها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء. وكان السلطان أبو العبّاس أيام نزوله على السلطان أبي سالم محمود السيرة والخلال مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه. وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرّضة لصاحبها للملامة وستثقل نصيحته. وشغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فتنبّه، وشمّر عزائمه لها فكان مغلبا فيها. واعتلق منه يعقوب بن علي بذمّه في المظاهرة على السلطان أبي العبّاس فلم يغن عنه وراجع يعقوب سلطانه. ثم جهّز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسنطينة وفيها مولانا أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر، وتراجع العرب من أولاد سبّاع بن يحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة، والتقى الفريقان بناحية سطيف فاختلّ مصافّ أهل بجاية وانهزموا، واتبعهم السلطان أبو العبّاس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطئ نواحي وطنه، وقفل إلى بلده. ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه وبين أهل بلده فدسّوا إلى السلطان أبي العباس بقسنطينة بالقدوم عليهم، فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين وسبعمائة في عساكره وشيعته من الزواودة أولاد محمد، وانضوى إليه أولاد سبّاع بشيعة بجاية بالجوار والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم. وعسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء، وأقام بها يرجو مدافعة ابن عمه بالصلح، فبيّته السلطان بمعسكره من لبزو، وصبحه في غارة شعواء فانفضّ جمعه، وأحيط به، وانتهب المعسكر، وفرّ إلى بجاية، فأدرك في بعض الطريق وتقبّض عليه، وقتل قعصا بالرماح. وأغذ السلطان أبو العبّاس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين وسبعمائة وكنت بالبلد مقيما فخرجت في الملأ وتلقّاني بالمبرّة والتنويه. وأشار إليّ بالاصطناع واستوسق له ملك جدّه الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور الغربية وأقمت في خدمته بعض شهر. ثم توخمت الحنقة في نفسي وأذنته في الانطلاق فأذن لي تكرّما وفضلا وسعة صدر ورحمة، ونزلت على يعقوب بن عليّ، ثم تحوّلت عنه إلى بسكرة ونزلت على ابن موسى إلى أن صفا الجوّ، واستقبلت من أمري ما استدبرت واستأذنته لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي، وقدمت(6/550)
عليه فقابلتني وجوه عنايته، وأشرقت عليّ أشعة نجعته [1] كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن زحف حمو وبني عبد الواد الى بجاية ونكبتهم عليها وفتح تدلس من أيديهم بعدها) كان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية لما اشتدّت الفتنة بينه وبين عمّه السلطان أبي العبّاس مع ما كان بينه وبين بني عبد الواد من الفتنة عند غلبه إياهم على تدلس، يكابد حمل العداوة من الجانبين، وصغا إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس، وأمكن منها قائد العسكر المحاصر لها. وأوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان، وأصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها وزفّها إليه بجهاز أمثالها. فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية وهلك في مجال حربه، أشاع أبو حمو الامتعاض له لمكان الصهر، وجعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية. وزحف من تلمسان يجرّ الشوك والمدر في آلاف من قومه طبقات العساكر والجند. وتراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل موسى بن زغلي في قومه بني يزيد، وتحصّنوا في جبال زواوة المطلّة على وطن [2] حمزة. وبعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فاوثقهم كتافا، وكان فيهم يحيى حافد أبي محمد صالح نزع عن السلطان أبي العباس إلى أبي حمو، وكان عينا على غزاة أبي الليل هذا لما بينهما من الولاء والجوار والوطن، وجاء في وفد الوفادة عن أبي حمو فتقبّض عليهم وعليه فقتله وبعث برأسه إلى بجاية.
وامتنع على أبي حمو وعساكره فأجلبوا إلى بجاية، ونزل معسكره بساحتها وقاتلها أياما، وجمع الفعلة على الآلات في الحصار. وكان السلطان أبو العباس بالبلد وعسكره مع مولاه بشير بتكرارت، ومعهم أبو زيّان بن عثمان بن عبد الرحمن، وهو عم أبي حمو من أعياص بيتهم، وكان من خبره أنه كان خرج من المغرب كما نذكره في أخباره. ونزل على السلطان أبي إسحاق بالحضرة ورعى له أبو محمد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية ويقال: فلان نجعتي: أي أملي. وفي نسخة ثانية بختة.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي طبعة بولاق: وطا حمزة.(6/551)
الحاجب حق بعثه [1] فأوسع في كرامته. ولما غلب الأمير أبو عبد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه عليها، وتكون ردءا بينه وبين حمو، ويتفرّغ هو للإجلاب على وطن قسنطينة، فبادر إلى الإجابة وخرج من تونس. ومرّ السلطان أبو العباس بمكانه من قسنطينة فصدر على سبيله واعتقله عنده مكرّما، فلما غلب على بجاية وبلغه الخبر بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك واستبلغ في تكرمته وحبائه، ونصبه للملك وجهز له بعض الآلة. وخرج في معسكره مولاه بشير ليجأجئ به بني عبد الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سئموا من ملكه وعنفه.
وكان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو، وكان على حذر من [2] مغبة أمره معهم فراسلوا أبا زيّان وائتمروا بينهم في الإرجاف بالمعسكر. ثم تحيّنوا لذلك أن يشبّ الحرب بين أهل البلد وأهل المعسكر فأجفلوا خامس ذي الحجّة، وانفضّ بالمعسكر وانتحوا إلى مضايق الطرقات بساح البلد فكفّلت بزحامهم وتراكموا عليها فهلك الكثير منهم، وخلّفوا من الأثقال والعيال والسلاح والكراع ما لا يحيط به الوصف. وأسلم أبو حمو عياله وأمواله فصارت نهبا واجتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه ونجا أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران بن موسى عن مركوبة فكان نجاؤه عليه، ونزل بالجزائر في الفلّ، ولحق منها بتلمسان واتبع أبو زيّان أثره، واضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في أخباره. وخرج السلطان أبو العبّاس من بجاية على أثر هذه الواقعة فنازل تدلس وافتتحها وغلب عليها من كان بها من عمّال بني عبد الواد وانتظمت الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جدّه الأمير أبي زكريا الأوسط حين قسم الدعوة الحفصيّة بها إلى أن كان ما نذكره بعده إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن زحف العساكر الى تونس) كان أبو عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحاق
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بيته.
[2] وفي نسخة ثانية: وكانوا حذرين مغبة أمره.(6/552)
صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من العرب، ووفدوا جميعا على السلطان أبي العبّاس فاتح سنة سبع وستين وسبعمائة يستحثّونه إلى الحضرة ويرغّبونه في ملكها فاعتذر لهم لما كان عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية. وزحف إليها في حركة الفتح وصاروا في جملته، فلما استكمل فتح بجاية سرّح معهم أخاه المولى أبا يحيى زكريا في العساكر فساروا معه إلى الحضرة، وابن تافراكين في جملته، فنازلوها أياما وامتنعت عليهم وأقلعوا على سلم ومهادنة انعقدت بين صاحب الحضرة وبينهم، وقفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله. ولحق ابن تافراكين بالسلطان، فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكره والله تعالى أعلم.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة وولاية ابنه خالد من بعده) لمّا نزل السلطان أبو إسحاق بالحضرة على ما ذكرناه، وتخلّف عن المهادنة مع السلطان أبي العبّاس طورا بطور، واستخلص لدولتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره، ويستدفع برأيه وشوكته فخلص له سائر أيامه. وعقد سنة تسع وستين وسبعمائة لابنه خالد على عسكر لنظر محمد بن رافع من طبقات الجنود من مغراوة مستبدّا على ابنه. وسرّحه مع منصور بن حمزة وقومه وأوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة واكتساح نعمها وجباية ضواحيها فساروا إليها. وسرّح الأمير أبو يحيى زكريا صاحب بونة عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم وانقلبوا على أعقابهم فكان آخر العهد بظهورهم. ولما رجعوا إلى الحضرة تنكّر السلطان لمحمد بن رافع قائد العسكر فخرج من الحضرة ولحق بقومه بمكانهم من لحفه من أعمال تونس. واستقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبّض عليه وأودعه السجن. وعلى أثر ذلك كان مهلك السلطان فجأة ليلة من سنة سبعين وسبعمائة بعد أن قضى وطرا من محادثة السمر وغلبه النوم آخر ليله فنام، ولما أيقظه الخادم وجده ميتا، فاستحال السرور، وعظم الأسف وغلب على البطانة الدهش ثم راجعوا بصائرهم ورفعوا الدهش عن أنفسهم وتلافوا أمرهم بالبيعة لابنه الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور(6/553)
سريحة من المعلوجين [1] وحاجبه أحمد بن إبراهيم اليالقي [2] ، وحضر لها الموحدون والفقهاء والكافة. وانفضّ المجلس وقد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حتى واروه التراب.
واستبدّ منصور وابن الباقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له تحكّم عليها، وكان أوّل ما افتتحا به أمرهما أن تقبّضا على القاضي محمد بن خلف الله من طبقة الفقهاء، كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضبا لمقدّمها عبد الله بن علي بن خلف فرعى له نزوعه إليه واستعمله بخطّة القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر ابن عبد الرفيع. ثم ولّاه قود [3] العساكر إلى بلاد الجريد وحربهم فكان له منها عناء واستدفعوه مرات بجبايتهم يبعثون بها إلى السلطان، ومرات بمصانعة العرب على الإرجاف بمعسكره. وكان ابن اليالقي يغضّ بمكانه عند السلطان فلما اشتدّ على ابنه أعظم فيه السعاية وتقبّض عليه، وأودعه السجن مع محمد بن علي بن رافع. ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبّروه معه، وظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقا والله متولي الجزاء منه. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. ثم أظهر ابن اليالقي من سوء سيرته في الناس وجوره عليهم وعسفه بهم وانتزاع أموالهم، وإهانة سبال [4] الأشراف ببابه منهم ما نقموه، وضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العبّاس كما نذكر إن شاء الله تعالى.
(فتح تونس وبقية عمالات إفريقية) (الخبر عن فتح تونس واستيلاء السلطان عليها واستبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وممالكها) لما هلك السلطان أبو إسحاق صاحب الحضرة سنة سبعين وسبعمائة كما قدّمنا وقام بالأمر مولاه منصور سريحة وصاحبه اليالقي ونصبوا ابنه الأمير خالدا للأمر صبيا لم يناهز
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المعلوجي.
[2] وفي نسخة أخرى: البالقي.
[3] وفي نسخة ثانية: قيادة.
[4] سبله: سبّه وشتمه. (قاموس) .(6/554)
الحلم غرّا فلم يحسنوا تدبير أمره ولا سياسة سلطانه، واستخلصوا لوقتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب المتغلّبين على الضاحية ثم أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر. ثم قلبوا له ظهر المجن فسخطهم ولحق بالسلطان أبي العبّاس وهو مطل عليهم بمرقبة من الثغور الغربية مستجمع للتوثّب بهم، فاستحثّه لملكهم وحرّضه على تلافي أمرهم ورمّ ما تثلّم من سياج دولتهم. وكان الأحق بالأمر لشرف نفسه وجلالته واستفحال ملكه وسلطانه، وشياع الحديث على عدله ورفعته [1] وجميل سيرته ولما أن أهل مملكته نظروا لعقب نظره فيهم واستبداد سواه عليهم، فأجاب صريخه وشمّر للنهوض عزمه. وكان أهل قسنطينة قد بعثوا بمثل ذلك، فسرّح إليهم أبا عبد الله بن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لاستخبار [2] طاعتهم وابتلاء دخلتهم، فسار إليهم واقتضى سمعهم [3] وطاعتهم، وسارع إليها يحيى بن يملول مقدّم توزر والخلف بن الخلف مقدّم نفطة فآتوها طواعية. وانقلب عنهم وقد أخذوا بدعوة السلطان وأقاموها في أمصارهم.
ثم خرج السلطان من بجاية في العساكر وأغذّ السير إلى المسيلة، وكان بها إبراهيم ابن الأمير أبي زكريا الأخير فأجابه [4] أولاد سليمان بن على من الزواودة من مثوى اغترابه بتلمسان، ونصّبوه لطلب حقه في بجاية من بعد أخيه الأمير أبي عبد الله، وكان ذلك بمداخلة من أبي حمو صاحب تلمسان ومواعيد بالمظاهرة مختلفة. فلما انتهى السلطان إلى المسيلة نبذوا إلى إبراهيم عهده وتبرءوا منه. ورجعوا من حيث جاءوا، وانكفأ السلطان راجعا إلى بجاية. ثم نهض منها إلى الحضرة وتلقته وفود إفريقية جميعا بالطاعة وانتهى إلى البلد فخيّم بساحتها أياما يغاديها القتال ويراوحها. ثم كشف عن مصدوقته وزحف إلى أسوارها وقد ترجّل أخوه والكثير من بطانته وأوليائه فلم يقم لهم حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية، فنزل الطابية، فنزل عنها المقاتلة وفرّوا إلى داخل البلد. وخامر الناس الدهش وتبرّأ بعضهم من بعض، وأهل الدولة في مركبهم وقوف بباب الغدر من أبواب القصبة. فلمّا رأوا أنهم أحيط بهم ولّوا الأعقاب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: رفقه.
[2] وفي نسخة ثانية: لاختبار.
[3] وفي نسخة ثانية: بيعاتهم.
[4] وفي نسخة ثانية: جأجأ به.(6/555)
وقصدوا باب الجزيرة فكبّروا قباله [1] . وثار أهل البلد جميعا بهم فحاصروا بساحتهم من البلد [2] بعد عصب الريق، ومضى الجند في اتباعهم فأدرك أحمد بن اليالقي فقتل وسيق رأسه إلى السلطان. وتقبّض على الأمير خالد واعتقل، ونجا العلج منصور سريحة برأس طمرة [3] وخام وذهل عن القتال دون الأحبة. ودخل السلطان القصر واقتعد أريكته، وانطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت ما كان الناس يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعيّة واغتصاب أموالهم، واضطرمت نار العيث في دورهم ومخلّفهم فلم تكد أن تنطفئ ولحق بعض أهل العافية معرات من ذلك لعموم النهب وشموله حتى أطفأه الله ببركات [4] السلطان وجميل نيّته وسعادة أمره. ولاذ الناس منه بالملك الرحيم والسلطان العادل، وتهافتوا عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه، ويجدّون بالدعاء له ويتنافسون في انتقاس مجيده [5] الى أن غشيهم الليل ودخل السلطان قصوره وخلا بما ظفر من ملك آبائه، وبعث بالأمير خالد في الأسطول إلى قسنطينة، فعصفت به الريح وانخرقت السفينة وترادفت الأمواج إلى أن هلك [6] . واستبدّ السلطان بأمره وعقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكريا. على حجابته. ورعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه ونزوعه فجعله رديفا لأخيه واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة واجلابه بالعمّ أبي يحيى زكريا على الحضرة وما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراكين)
كان منصور بن حمزة هذا أمير البلد من بني سليم بما كان سيّد بني كعب. وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: كسروا أقفاله.
[2] وفي نسخة ثانية: فخلصوا سلطانهم من البلد.
[3] وفي النسخة الباريسية: برأس طرة.
[4] وفي نسخة ثانية: ببركة.
[5] وفي نسخة ثانية: التماح محيّاه.
[6] وفي نسخة ثانية: وبعث الأمير خالد وأخيه في الأسطول الى قسنطينة فوصفت بهما الريح وانخرقت السفينة وتقاذفت الأمواج إلى أن هلكا.(6/556)
السلطان أبو يحيى يؤثره بمزيد العناية، ويجعل له على قومه المزية. وكان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا على السلطان أبي الحسن على إفريقية وأزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها وتقسموها أوزاعا، وأقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه من ضواحيها وأمصارها، استئلافا لهم على المصاهرة وإقامة الدعوة والحماية من أهل الثغور الغربية، فملكوا الأكثر منها، وضعف سهمان السلطان بينهم فيها. فلما استولى هذا السلطان أبو العبّاس على الحضرة واستبدّ بالدعوة الحفصية كبح أعنّتهم عن التغلّب والاستبداد وانتزع ما بأيديهم من الأمصار والعمالات التي كانت من قبل خالصة السلطان وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه فأحفظهم ذلك وأهمهم شأنه وتنكّر منصور بن حمزة وقلب ظهر المجنّ ونزع يده من الطاعة وغمسها في الخلاف، وتابعه على خروجه على السلطان أبو معنونة [1] أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم. وارتحل بأحيائه إلى الزواودة صريخا مستجيشا بالأمير أبي يحيى بن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن قفلته من المهديّة وانتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحاق كما ذكرناه، فنصبوه للأمر وبايعوه. وارتحل معهم وأغذّوا السير إلى تونس، ولقيهم منصور بن حمزة في أحياء بيته فبايعوا له وأوفدوا مشيختهم على يحيى ابن يملول شيطي [2] الغواية المراد على الخلاف يستحثّونه للطاعة والمدد بمداخلة كانت بينهم في ذلك سوّل لهم فيها بالمواعيد، وأملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في النفاق والاختلاف سوّفهم عن مواعيد حمايته [3] بماله فأسرها منصور في نفسه، واعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة.
ثم رحلوا للإجلاب على الحضرة، وسرّح السلطان أبو العباس أخاه الأمير أبا يحيى زكريا للقيهم في العساكر، وتزاحفوا فأتيح لمنصور وقومه ظهور على عساكر السلطان وأوليائه لم يستكمله، وأجلوا على البلاد أياما. ونمي إلى السلطان أنّ حاجبه أبا عبد الله ابن تافراكين داخلهم في تبييت البلد فتقبّض عليه وأشخصه في البحر إلى قسنطينة فلم يزل بها معتقلا إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين وسبعمائة. ثم سرّب السلطان أمواله في العرب فانتقض على المنصور قومه وخشي مغبّة حاله، وسوّغه السلطان جائزته فعاود
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبو صعنونة وهنا أصح.
[2] وفي نسخة ثانية: شيطان الغواية المارد على الخلاف.
[3] وفي نسخة ثانية: سوّفهم عن مواعيده ضنانة بماله.(6/557)
الطاعة، ورهن ابنه ونبذ إلى السلطان زكريا العم عهده ورجّعه على عقبه إلى الزواودة، والتزم طاعة السلطان والاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست وتسعين وسبعمائة فقتله محمد ابن أخيه قتيبة في مشاجرة كانت بينهما، طعنه بها فأشواه ورجع جريحا إلى بيته، وهلك دونها أواخر يوما. وقام بأمر بني كعب بعده صولة ابن أخيه خالد وعقد له مولانا السلطان على أمرهم واستمرّت الحال إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فتح سوسة والمهدية)
كانت سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان وتغلّب العرب على العمالات فأقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوّغ للعرب من الأمصار والاقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها. واستبدّ بها على السلطان ولم يزل كذلك إلى أن هلك وقام بأمره في قومه عامر بن عمه محمد بن مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوّغها له كذلك مفضلا مرهبا من قتله [1] ثم قتله بنو كعب، وأقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبدّ بسوسة على السلطان واقتعدها دار إمارته، وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة، ويسنّ الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحة مولى السلطان أبي إسحاق وقائد عسكره، فتقبّض عليه واعتقله بسوسة أياما. ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه، ولم يزل هذا دأبهم. وكانت لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيّئة، ولم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذّن الله لأهل إفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر. واستبدّ مولانا السلطان أبو العبّاس بالحضرة وسائر عمالات إفريقية وهبّت ريح العزّ على المغرب في جميع النواحي، فتنكّر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا، وأحسّ بتنكراتهم فخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد. وثارت عامّتها بعمّاله وأجهضوهم، ونزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: متقبّلا مذهب من قبله.(6/558)
عمّال السلطان. ثمّ كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس ودوّخ جهاتها واستوفى جباية أعمالها. وكان بالمهديّة محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إيّاها من أيدي أبي العباس بن مكي، والأمير أبي يحيى زكريا المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مرّ. وأقام ابن الجكجاك أميرا عليها بعد موت الحاجب. فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة، وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه، وركب أسطوله إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمّة صهر قديم كان بينهما وبادر مولانا السلطان إلى تسليم المهديّة، وبعث عليها عمّاله وانتظمت في ملكيته واطردت أحوال الظهور والنجح، وكان بعد ذلك ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك السلطان)
كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولّاه أبو عبد الله محمد بن تافراكين على هذه الجزيرة، قد تقبّل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحاله مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها. وقد ذكرنا سلفه من قبل، وأنّ والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين وأنه اعتلق بكتابة ابنه أبي عبد الله مولاه على جربة عند افتتاحه إياها سنة [1] وأنه قصده عند مفرّه عن المولى أبي إسحاق لينزل جربة معوّلا على قديم اصطناعه إيّاه فمنعه. ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمومن في الامتناع على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه، وأقام ممتنعا سائر دولة مولانا السلطان [2] وابنه من بعده.
ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والوحشة وصار إلى مكاثرة رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم، فأجرى في ذلك شأوا بعيدا مع تخلّفه في مضمار بقديمه وحديثه. وصارف السلطان سوء الامتثال وإتيان الطاعة
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا
[2] هو المولى أبو إسحاق.(6/559)
ومنع الحباية فأحفظ ذلك، ولما افتتح أمصار الساحل وثغوره سرّح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين، وصاحب بجاية لعهد المستنصر، وقد تقدّم ذكره. وأمدّه في الأسطول في البحر لحصارها، ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل الأسطول إلى مرساتها فأطاف بحصن القشتيل، وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق عنه شيوخ الجزيرة من البربر وانحاش معه بطانته من الجند المستخدمين معه بها. ولما رأوا ما لا طاقة لهم به وأنّ عساكر السلطان قد أحاطت بهم برّا وبحرا نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن، وبادروا الى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن، وتقبّضوا على محمد بن أبي العيون ونقلوه من حينه إلى الأسطول، واستولوا على داره وولّوا على الجزيرة وارتحلوا قافلين إلى السلطان. ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة ونزل بالديوان فأركب القصبة على جمل وطيف به على أسواق البلد إظهارا لعقوبة الله النازلة به، وأحضره السلطان فوبّخه على مرتكبه في العناد ومداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه. ثم تجافى عن دمه وأودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين.
(الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية)
كان السلطان عند ما استجمع الرحلة إلى إفريقية باستحثاث أهلها لذلك، ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مرغبا فيها فأهمّه لذلك شأن الثغور الغربية، وأحال اختياره في بنيه بسبر أحوالهم ويعيش على الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أوّلا على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له على بجاية وأعمالها، وأنزله بقصور الملك منها، وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند. واستعمل على قسنطينة وضواحيها مولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه، وناشئ قصده وتلاد مرباه. وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس، ودالّة بالقديم والحادث. وخلال لقيها أيام التغلّب في أواوين الملك. وكان ملازما ركاب(6/560)
مولاه في مطارح اغترابه وأيام تمحيصه، وربّما لقي عند الورود على قسنطينة من المحنة والاعتقال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل السرور [1] ، وعود العز والملك إلى مولاه على أحسن الأحوال. فظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية. وكان السلطان يثق بنظره في العسكر ويبعثه في مقدّمة الحروب، وكان عند استيلائه على بجاية وصرف العناية إليها ولّاه أمر قسنطينة وأنزله بها، وأنزل معه ابنه الأمير أبا إسحاق وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعساكر عند النهوض إلى إفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح. ثم رجّعه إلى عمله بقسنطينة بمزيد التفويض والاستقلال، فلم يزل قائما بما دفع إليه من ذلك إلى أن هلك.
وكان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحاق على ملك بن مقرب [2] والسلطان عبد العزيز عند ما استولى على تلمسان مهنئا بالظفر ملفحا غراس الودّ وأنفذ معه شيخ الموحّدين ساسة أبا إسحاق بن أبي هلال، وقد مرّ من قبل ذكر أخيه فتلقّاهما ملك بن مقرب بوجوه المبرّة والاحتفاء، ورجّعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.
ونزل الأمير أبو إسحاق بقسنطينة دار إمارته وعقد له السلطان عليها وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه. والقائد بشير مولى أبيه مستبدّ عليه لمكان صغره إلى أن هلك بشير ثمان وسبعين وسبعمائة عند ما استكمل الأمير أبو إسحاق الحال واستجمع الإمارة فجدّد له السلطان عهده عليها وفوّض إليه في إمارتها فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام وأحواله تصدق الظنون وتومي إليه وشهادة المخايل التي دلّت عليه، فاستقل هذان الأميران بعهد بجاية وقسنطينة وأعمالها مفوّضا إليهما الإمارة مأذونا لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة. وكان الأمير أبو يحيى زكريا الأخ الكريم مستقلا أيضا ببونة وعملها منذ استيلائه عليها سنة [3] قد أضافها السلطان وأصارها في سهمانه، فلما ارتحلوا إلى إفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه لكونه معه، عقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره منها، فوّض إليه في إمارته لما استجمع من خلال التشريع والذكر الصالح في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: التنويه.
[2] وفي نسخة ثانية: ملك المغرب السلطان عبد العزيز.
[3] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.(6/561)
الدين. واستمرّ الحال على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، والله مدبّر الأمور سبحانه.
(الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال قسنطينة في طاعة السلطان)
كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتقال الدولة حينئذ بانقسامها كما مر، فلما استبدّ السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ عن الشواغل صرف إليهم نظره وأوطأهم عساكره. ثم نهض فجاء إثر الشورى منها، وعقد لابنه أبي العبّاس عليها كما قلناه. فلما كان بعد مهلكه من اضطراب إفريقية وتغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وتنازع رؤسائهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك ومساريه [1] ، يقتعدون الأرائك ويتفقدون في المشي بين السكك المراكب [2] ، ويهيئون في إيوانهم سبال الأشراف، ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلّب الأيام، وضحكة الأهل الشمات، حتى لقد حدّثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة، وأقاموا على ذلك أحوالا والدولة في التياثها، فلما استبدّ السلطان أبو العباس بإفريقية وعمالاتها، وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد الخادر في عرينه، وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثّبه بهم، داخلوا حينئذ الاعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة، واقتعاد مطيّة الخلاف والنفاق يفتلون بذلك في عزائمه وأرخى هو لهم حبل الإمهال وفسح لهم مجال الإيناس بالمعاونة والوعد، رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة والاستقامة على الجادة فأصرّوا وازدادوا عنادا ونفاقا فشمّر لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء. ونهض من الحضرة سنة سبع وسبعين وسبعمائة في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل زناتة من استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم وأصهار أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد، ووافقوا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وشاراته.
[2] وفي نسخة ثانية: ويعقدون في المشي بين السلك والمواكب.(6/562)
السلطان أياما. ثم أجفلوا أمامه وغلبهم السلطان على رعاياهم من تحيزه [1] ، وكانوا من بقايا بني يفرن عمّروا ضواحي إفريقية مع ظواعن هوّارة ونفوسة ومغراوة [2] . وكانت للسلطان عليهم مغارم وجبايات وافرة، فلمّا تغلّب المغرب على بسائط إفريقية وتنافسوا في الاقطاعات كانت ظواعن مر نجيزة هؤلاء في اقطاع أولاد حمزة، فكانت جبايتهم موفورة وما لهم دثرا بما صاروا مددا لهم بالمال والكراع والدروع والأدم، وبالفرسان منهم يستظهرون بهم في حروبهم مع السلطان ومع قومهم، فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم، وبعث رجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادّة كانت تمدّهم، فخمد ذلك من عتوّهم وقصّ من جناحهم إلى آخر الدهر، ووهنوا له. ثم عاد السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه، ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف على أولاد أبي الليل، وزحفوا إلى الحضرة فاحتلوا بساحتها أياما وشنوا الغارات عليها. ثم انفضّوا عنها وخرج على أثرهم لأوّل فصل الشتاء، وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة، ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة وجمع أولاد أبي الليل لمدافعة عنها، وسرّب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه. وزحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثا ولجّوا في عصيانهم وقاتلوه بجمع الأيدي على قطع نخيلهم وتسايلت إليه الرعيّة من أماكنهم، وأسلموا أحمد بن القائد مقدّمهم وابنه محمد المستبدّ عليه لكبره وذهوله، فخرج إلى السلطان واشترط ما شاء من الطاعة والخراج ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم في بعض، وهموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبدّ على أبيه، وكان السلطان سرّح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد، فلقيه محمد بنواحي ساحتها فبعث به إلى السلطان، ودخل هو إلى القصبة وتملّك البلد وتقبّض السلطان على محمد بن القائد لوقته، وسيق إليه أبوه أحمد من البلد فجعل معه واستولى على داره وذخائره.
واجتمع المدد والكافّة من أهل البلد عند السلطان، وآتوه بيعتهم وعقد عليها لابنه أبي بكر، وارتحل يغذّ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه، واحتمل أهله وما خفّ من ذخائره ولحق بالزاب. وطيّر أهل توزر بالخبر إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فرنجيزة.
[2] وفي نسخة ثانية: نغزاوة.(6/563)
السلطان فلقيه أثناء طريقه، وتقدّم إلى البلد فملكها واستولى على ذخيرتها ابن يملول ونزل بقصوره فوجد بها من الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضّة ما لا يعدّ لأعظم ملك من ملوك الأرض، وأحضر بعض الناس ودائع كانت لهم عنده من نفيس الجواهر والحلي والثياب وبرءوا منها إلى السلطان.
وعقد السلطان على توزر لابنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول، وجعل إليه إمارتها واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وآتاه طاعته، وعقد له على بلده وولاية حجابة ابنه بتوزر، وأنزله معه وقفل إلى حضرته. وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلّبه على أمصار الجريد إلى التلول، فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفلّ من عزمهم، وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤمّلون منها ظفرا لما كان ابن يملول قد منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعدة، وتبينوا منها عجزه وانكفئوا راجعين. ووفد صولة على السلطان بعد أن توثق لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء، ورجع إليهم فلم يرضوا بشرطه ونهض السلطان من الحضرة في العساكر الأولياء من العرب، وأجفلوا أمامهم فأتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرّات وافقوه فيها. ثم أجفلوا ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان والاشتراط له كما يشاء، فتقبّل ووسعهم عفوه، وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان ومرضاته، وهم على ذلك لهذا العهد.
(الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف)
لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان. وعقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله، ونزل بتوزر مع المنتصر. ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبثّ عليه العيون والأرصاد، وعثر على كتابه بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير الزواودة يحرّضهما على الفتنة، فتقبّض عليه وأودعه السجن. وبعث عمّاله إلى نفطة واستولى على أمواله وذخائره، وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف. وكان السلطان قبل فتح نفطة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي يزيد، وسار في ركابه إليها. فلما(6/564)
استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه، وأوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحلّه وعقده، وطوى على البيت [1] . ثم حدّثته نفسه بالاستبداد وتحيّن له المواقيت واتفق أن سار الأمير أبو بكر من نفطة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر وخلف بالبلد عبد الله الترمكي [2] من مواليهم، وكان السلطان أنزله معه وولّاه حجابته، فلمّا توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي يزيد عنفة من الأوغاد وطاف في سكك المدينة والمهاتفة معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة. وتقدّم إلى القصبة فأغلقها القائد عبد الله دونه وحاربها فامتنعت عليه. وقرع عبد الله الطبل بالقصبة واجتمع إليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى الغابة فكثروا ومنع [3] ابن أبي يزيد، وتسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء. وخرج القائد من القصبة فتقبّض على كثير من أهل الثورة وأودعهم السجن واستولى على البلد. وسكّن الهيعة وطار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذّ السير منقلبا إلى قفصة، ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي يزيد وأخيه. ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي النساء فتقبّضوا عليهما وتلوّهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في جذوع النخل. وكانا من المترفين فأصبحا مثلا في الأيام وقد خسرا دينهما ودنياهما، وذلك هو الخسران المبين، وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن الخلف وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في غير سبيل مرحمة وانتظم السلطان أمصار الجريد كلّها في طاعته واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان)
هذه البلد لم تزل في هذه الدولة الحفصيّة لبني مكي المشهور ذكره في هذه العصور وما إليها، وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد، وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكريا لأوّل أيام ولاية قابس سنة ثلاث
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وطوى على النث وقد ورد في القاموس: نث الخبر أفشاه، ونث الجرح دهنه.
[2] وفي نسخة ثانية: التريكي.
[3] وفي نسخة ثانية: شيع.(6/565)
وعشرين وستمائة فاختصّوا به، وداخلهم في الانتقاض على أخينا أبي محمد عبد الله عند ما استجمع لذلك، فأجابوه وبايعوه فرعى لهم هذه الوسائل عند ما استبدّ بإفريقية، وأفردهم برياسة الشورى في بلدهم. ثم سموا إلى الاستبداد عند ما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من الفتن وانفراد الثغور الغربية بالملك. ولم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد ورامقين إليه بنظر العين [1] والانتقاض على السلطان، ومداخلة الثّوار والإجلاب بهم على الحضرة. والدولة أثناء ذلك في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة وإلحاح صاحب الثغور الغربية على مطالبة الحضرة.
ثم استبدّ مولانا السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصيّة في سائر عمالات إفريقية وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الإجلاب على الحضرة مع جيوشه ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرّة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى إفريقية. وكان المتولي الرئاسة بقابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد ابن عبد الملك ورديفه فيها أخوه أحمد، وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الاجلاب على الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم. وربّما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع لهم مع عبد الواحد بن اللحياني، وقد مرّ ذكر ذلك. فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان وانمحى أثر بني زيّان فزع السلطان أبو بكر لهؤلاء الثّوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم. وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمما بشفاعته، بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مرّ بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءهم وسائر الركب قرى وحباء. وقدّموا ذلك وسيلة بين يدي وفادته فقبل السلطان وسيلتهم وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعا فيهم لذمّة السلطان والصهر فتقبّل شفاعته وتجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوه.
ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وماج بحر الفتنة وعادت الدولة إلى حالها من الانقسام وانسدّت [2] على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة. وقطع أسباب الطاعة ومنع المغارم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سانحين إليه بثأر الفتن.
[2] وفي نسخة ثانية: [؟](6/566)
والجباية ومشايعة صاحب الغربية ركونا على صاحب الحضرة. فلما استبدّ مولانا السلطان أبو العبّاس بالدعوة الحفصية وجمع الكلمة، واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه العصور الجريديّة وتحدّثوا بما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه، والامتناع عليه.
وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسلة [1] الفتن وانحياشه إلى الثوار، وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وسبعمائة، وانفرد هو برياسة قابس فراسلوه وراسلهم في الشأن، وأجمعوا جميعا على تجييش العرب على السلطان وتسريب الأموال ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك إفريقية، فانتدبوا لذلك من كل ناحية، وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه، وعلّلهم بالمواعيد الكاذبة، والسلطان أبو العبّاس مقبل على شأنه يقتّل لهم في الذروة والغارب حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يغزونهم بالمدافعة عنهم، وافتتح قفصة وتوزر ونفطة. وتبيّن لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم، فحينئذ بادر عبد الملك إلى مراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية، ويستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك، وبعث أمره إليه [2] ورجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي في العرض وردّه بالوعد.
ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب، وركبوا إليه فحاصروه وضيّقوا عليه، واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة فأمدّهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتدّ الحصار، واتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم، وتنكّرت له الرعيّة وساءت حاله، ودسّ إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له، واشترط لهم على ذلك ما رضوه من المال، فجمعوا لهم وبيّتوهم فانفضّوا ونالوا منهم. وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، وتلوّم أياما حتى استوفى العطاء واعترض العساكر، وتوافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل وحلفائهم من سائر سليم. ثم ارتحل إلى القيروان، وارتحل منها يريد قابس، وقد استكمل التعبية وبادر إلى لقائه والأخذ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مراسه.
[2] وفي نسخة ثانية: وبعث وافده إليه.(6/567)
بطاعته مشيخة ذباب أعراب من بني سليم. ووفد منهم خالد بن سبّاع بن يعقوب شيخ المحاميد وابن عمّه عليّ بن راشد فيمن إليهم يستحثّونه إلى منازلة قابس، فأغذّ السير إليها وقدّم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي. وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى الطاعة. ثم احتمل رواحله وعبّى ذخائره وخرج من البلد، ونزل على أحياء دباب هو وابنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي مالك [1] لها منذ سنين من قبل.
واتصل الخبر بالسلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته، واستولى على منازل ابن مكي وقصوره. ولاذ أهل البلد بطاعته وولّى عليها من حاشيته، وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة والانحياش، ووافته رسله دون قابس. فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة، وأقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل. ثم بغته الموت فهلك ولحق ابنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون ذباب. ولما استكمل السلطان الفتح وشئونه انكفأ راجعا إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة ولحق إليه رسوله [2] من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه.
ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك. ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله أبو صعنونة شيخ حكيم، ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة. واتصل النجح والظهور والأمر على ذلك لهذا العهد وهو فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة، والله مالك الأمور لا رب غيره.
(الخبر عن استقامة ابن مزني وانقياده وما اكتنف ذلك من الأحوال)
كان هؤلاء الرؤساء المستبدّون بالجريد بالزاب منذ فرغ السلطان لهم من الشواغل،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الهالك.
[2] وفي نسخة أخرى: ولحقه رسله.(6/568)
واسترابوا المغبّة حالهم معه ومراوغتهم له بالطاعة يرومون استحداث الشواغل ويؤمّلون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا حمو الأخير، وأنه يأخذ بحجزته عنهم إن وصلوا به أيديهم واستحثوه لذلك لإيلافهم مثلها من سلف قومه. وأبي حمو بن تاشفين من قبله قياسا متورّطا في الغلط بعيدا من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور من الضعف والزمانة، وما أصاب قومهم من الشتات بأيديهم وأيدي عدوّهم وتقدّمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره واشتهار مثلها من سلفه فاتبعوه وقلّدوه وغطّى هواهم جميعا على بصيرتهم. وقارن ذلك نزول الأمير أبي زيّان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو على ابن يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه، وكان طارد به أياما. ثم راجع أبو حمو وصرفه سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فخرج من أعمال تلمسان وأبعد المذهب عنهم ونزل على ابن يملول بتوزر.
وطيّر الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني واغتبطوا بمكان أبي زيّان، وأنّ تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم، وإجابته إلى داعيهم وركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهبا وجائيا حتى أعيت الرسل واشتبهت المذاهب ولم يحصلوا على غير المقاربة والوعد لكن على شرط التوثّق من أبي زيّان. وبينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد وشرّد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفّل الرؤساء به بالمدافعة. وافتتح قفصة وتوزر ونفطة ولحق يحيى بن يملول ببسكرة، واستصحب الأمير أبا زيّان فنزل علي ابن مزني وهلك لأيام قلائل كما ذكرناه.
واستحكمت عندها استرابة يعقوب بن عليّ شيخ رياح بأمره مع السلطان لما سلف منه من مداخلة هؤلاء الرهط وتمسّكهم بحقويه والمبالغة في العذر عنهم. ثم غدرته أنصاره [1] من مشيخة الزواودة وانحاشوا إلى السلطان فأفاض عليهم عطاءه، واختصّهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة واضطراب، وارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة يستحيثه لهؤلاء الرهط ويهزّه بها إلى البدار بصريخهم.
ونزل على أولاد عريف أوليائه من سويد، وأوفد عليه ابنه فتعلّل لهم بمنافرة حدثت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ثم غيرته بأنظاره.(6/569)
في الوقت بينه وبين صاحب المغرب، وأنه لهم بالمرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان [1] أبي العبّاس ليتمسك بذلك طرق التوثّب من أبي زيّان وربما دسّ، لهم بمشارطة اعتقاله وإلقائه في غيابات السجون. وفي مغيب يعقوب هذا طرق السلطان طائف من المرض أرجف له المفسدون بالجريد ودسّ لشيع ابن يملول بتحيّزه إلى صبيّ من أبناء يحيى مخلف ببسكرة، فذهل ابن المزني عن التثبت لها ذهابا مع صاغية الولد وأوليائه، وجهّزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها بالمال، وأغذّوا السير توزر على حين غفلتهم من الدهر وخفّ من الجند فجلى المنتصر وأولياؤه في الامتناع، وصدق الدفاع وتمحضت بهذه الانالة طاعة أهل توزر ومخالصتهم وانصرف ابن يملول بإخفاق من السعي واليم من الندم وتوقع للمكاره.
ووافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي فرجّعه من المغرب فبالغ في تغييبهم بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع الغني عن الواقع [2] .
وكان السلطان لأوّل بلوغ الخبر بإجلابهم على توزر وممالأة ابن مزني على ابنه وأوليائه، أجمع النهوض إلى بسكرة وعسكر بظاهر الحضرة، وفتح ديوان العطاء وجهّز آلات الحصار. وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجيّا ونقضوا عنه آراءهم فتمحّض لهم اعتقال أبي زيّان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات، وتورّطوا في اخفار ذمته، وطيّروا بالصريخ إلى أبي حمو، وانتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم والإعاضة بالمال، فتبينوا عجزه ونبذوا عهده، وبادروا عليه السبيل لأبي زيّان العذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمرهم فارتحل عنهم ولحق بقسنطينة. وحملهم يعقوب بن عليّ على اللياذ بالطاعة، وأوفد ابن عمه متطارحا وشافعا فتقبّل السلطان منه وسيلته [3] وأغضى لابن مزني عن هناته وأسعفهم بكبير دولته وخالصة سرّه أبي عبد الله ابن أبي هلال ليتناول منه المخالصة. ويمكن له الألفة ويمسح عنه هواجس الارتياب والمخافة.
وكان قد انتهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة، وارتحل السلطان في ذي القعدة آخر سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة لتفقّد عمّاله وابتلاء الطاعة من أهل أوطانه. ولما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نهوض السلطان أبي العباس إليهم، تمسّك بذلك طرف التوثق من أبي زيان.
[2] وفي نسخة أخرى: المعيي على الراقع.
[3] وفي نسخة ثانية: فتقبّل السلطان فيئته ووسيلته.(6/570)
وصل وافد السلطان إلى أبي مزني ألقى زمامه إليه وحكمه في ذات يده وقبله، ومحا أثر المراوغة واستجدّ لبؤس الانحياش والطاعة، وبادر إلى استجادة المقرّبات وانتقاء صنوف التحف. وبعث بذلك في ركاب الوافد فدفع الّذي عليه من الضريبة المعروفة محملا أكباد جياده [1] وظهور مطاياه، ووصلوا إلى معسكر السلطان بساح تبسة فاتح سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة فجلس لهم السلطان جلوسا فخما ولقاهم قبولا وكرامة، فعرضوا الهدية، وأعربوا عن الانحياش والطاعة وحسن موقع ذلك من السلطان وشملهم إحسان السلطان في مقامتهم وجوائزه على الطبقات في انصرافهم، وانقلبوا بما ملأ صدورهم إحسانا ونعمة وظفروا برضا السلطان وغبطته، وحسبهم بها أمنيّة وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب.
(الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم مراجعتهم الطاعة)
قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر منصرفه من فتح قابس، وأنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبّلهم وعفا عن كبائرهم واسترهن على الطاعة أبناءهم، واقتضى بالوفاء على ذلك أيمانهم. وخرج الأخ الكريم أبو يحيى زكريا في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة التي استأثروا بها في مدّة هذه الفتن.
وارتحل معه أولاد أبي الليل وأحلافهم من حكيم حتى استوفى جبايته وجال في أقطار عمله. ثم انكفأ راجعا إلى الحضرة، ووفدوا معه على السلطان يتوسّلون به في أفعالهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على العادة واستيفاء اقطاعاتهم، فسرّح السلطان معهم لذلك ابنه أبا فارس وارتحلوا معه بأحيائهم، وكان ابن مزني وابن يملول من قبله ويعقوب بن علي كثيرا ما يراسلونهم ويستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الانحراف ومشايعة صاحب تلمسان.
ولما اعتقلوا أبا زيّان ببسكرة كما ذكرناه وتوفي بصريخ أبي حمو ومظاهرته. فنبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل وفزعوا إلى العلاق بيعقوب بن علي رجاء فيما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اكتاد ثقاته.(6/571)
توهّموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان ويأسا من معاودة التغلّب الّذي كان لهم على ضواحي إفريقية، ففارقوا الأمير أبا فارس بعد أن بلغوه مأمنه من قفصة، وساروا بأحيائهم إلى الزاب فلم يقعوا على الغرض ولا ظفروا بالبغية، ووافوا يعقوب وابن مزني، وقد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم، والأمير أبو زيان قد انطلق لسبيله عنهم، فسقط في أيديهم وعاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم، وحملهم يعقوب على مراجعة السلطان وأوفد ابنه محمدا في ذلك مع وافد العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي جلال فتقبّلهم وأحسن التجاوز عنهم. وبعث أبا يحيى أخاه لاستقدامهم أمانا لهم وتأنيسا. وبذل لهم فوق ما أمّلوه من مذاهب الرضا والقبول واتصل النجح والظهور، والحمد للَّه وحده.
(تغلب ابن يملول على توزر وارتجاعها منه)
قد كان تقدّم لنا أنّ يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة خلّف صبيا اسمه أبو يحيى، وذكرنا كيف أجلب على توزر سنة ثنتين وثمانين وسبعمائة مع لفيف أعراب رياح ومرداس. فلما كان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة بعدها وقعت مغاضبة بين السلطان وبين أولاد مهلهل من الكعوب، وانحدروا إلى مشاتيهم بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبيّ أبي يحيى من بسكرة، فنزل بأحيائه بساح توزر، ودفع الصبيّ إلى حصارها، واجتمع عليه شيعته من نواحي البلد وأشراف [1] من أعراب الصحراء، وأجلبوا على البلد وناوشوا أهلها القتال وكان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياما. ثم تداعى شيعهم من جوانب المدينة وغلبوا عساكرهم وأحجروهم بالبلد، ثم دخلوا عليهم، وخرج المنتصر ناجيا بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب.
واستذمّ به فأجاره وأبلغه إلى مأمنه بقفصة، وبها عاملها عبد الله التريكي.
واستولى ابن يملول على توزر، واستنفد ما معه وما استخرجه من ذخائر توزر في أعطيات العرب، وزادهم جباية السنة من البلد بكمالها، ولم يحصل على رضاهم وبلغ الخبر إلى السلطان بتونس، فشمّر عزائمه وعسكر بظاهر البلد، واعترض الجند
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أو شاب.(6/572)
وأزاح عللهم وارتحل إلى ناحية الأربض وهو يستألف الأعراب ويجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم وأعداءهم أولاد أبي الليل وأولياءهم وأحلافهم ليستكثر بهم، حتى نزل على فحص تبسة فأراح بهم أياما حتى توافت أمداده من كل ناحية ونهض يريد توزر. ولما احتلّ بقفصة قدم أخاه الأمير أبا يحيى وابنه الأمير المنتصر في العساكر ومعهما صولة بن خالد بقومه أولاد أبي الليل، وسار على أثرهم في التعبية. ولما انتهى أخوه وابنه إلى توزر حاصروها وضيّقوا عليها أياما. ثم وصل السلطان فزحف إليها العساكر من جوانبها وقاتلوها يوما إلى المساء، ثم باكروها بالقتال فخذل ابن ابن يملول أصحابه وأفردوه فذهب ناجيا بنفسه إلى حلل العرب، ودخل السلطان البلد واستولى عليه وأعاد ابنه إلى محل إمارته منه، وانكفأ راجعا إلى قفصة، ثم إلى تونس منتصف أربع وثمانين وسبعمائة.
(ولاية الأمير زكريا ابن السلطان على توزر)
ثم عاد ابن يملول إلى الاجلاب على توزر من السنة القابلة وخرج السلطان في عساكره فكرّ راجعا إلى الزاب ونزل السلطان قفصة ووافاه هنالك ابنه المنتصر، وتظلّم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوريّ الّذي كان حاجبا للمنتصر فسمع شكواهم، وأبلغ إليه الخاصّة سوء دخلته وقبيح أفعاله فتقبّض عليه بقفصة واحتمله مقيّدا إلى تونس. وغضب لذلك المنتصر وأقسم لا يلي على توزر. وسار مع السلطان إلى تونس وولّى السلطان على توزر الأمير زكريا من ولده الأصاغر لما كان يتوسّم فيه من النجابة فصدقت فراسته فيه وقام بأمرها وأحسن المدافعة عنها، وقام باستئلاف الشارد من أحياء العرب وأمرائهم حتى تمّ أمره وحسنت ولايته. والله متولي الأمور بحكمته لا إله إلا هو.
(وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية)
كان السلطان لما سار إلى فتح تونس وولّى على بجاية ابنه محمدا كما مر وأقام له حاجبا(6/573)
وأوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم البلد وقائد الأسطول المتقدّم على أهل الشطارة والرجولة من رجل البلد ورماتهم. فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام واصطنع أبي مهديّ أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره وأغراضه ويكفيه مهمه في سلطانه، ويراقب مرضاة السلطان في أحواله، والأمير يعرف له ذلك ويوفيه حقّه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس وثمانين وسبعمائة فتوفي على فراشه آنس ما كان سربا وآمن روعا مشيعا من رضى أبيه ورعيته بما يفتح له أبواب الرضى من ربه، وبلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بإنفاذ العهد لابنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه وجعل كفالة أمره لابن أبي مهدي مستبدّا عليه واستقامت الأمور على ذلك.
(حركة السلطان الى الزاب)
كنت أنهيت بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من أيدي ابن يملول وأنا يومئذ مقيم بتونس، ثم ركبت البحر منتصف أربع وثمانين وسبعمائة إلى بلاد المشرق لقضاء الفرض، ونزلت بالإسكندرية ثم بمصر، ثم صارت أخبار المغرب تبلغنا على ألسنة الواردين، فمن أوّل ما بلغنا وفاة هذا الأمير ابن السلطان ببجاية سنة خمس وثمانين وسبعمائة. ثم بلغنا بعدها حركة السلطان إلى الزاب سنة ست وثمانين وسبعمائة، وذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة والزاب لعهده كان مضطرب الطاعة متحيّزا على السلطان وكان يمنع في أكثر السنين المغارم معوّلا على مدافعة العرب الذين هلكوا بضواحي الزاب والتلول دونه، وأكثر وثوقه في ذلك بيعقوب بن عليّ وقومه الزواودة، وقد مرّ طرف من أخباره مثبوتا في أخبار الدولة. وكان ابن يملول قد أوى إلى بلده واتخذ وكرا في جوّه وأجلب على توزر مرارا برأيه ومعونته فاحفظ على ذلك السلطان ونبّه له عزائمه.
ثم نهض سنة ست وثمانين وسبعمائة يريد الزاب بعد أن جمع الجموع واحتشد الجنود واستألف العرب من بني سليم فساروا معه وأوعبوا، ومرّ على فحص تبسه. ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب، واعصوصب الزواودة ومن(6/574)
معهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة والزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني سبّاع بن شبل من الزواودة، فإنّهم تحيّزوا إلى السلطان. استنفر ابن مزني حماة وطنه ورجالة قومه من الأثبج فغصّت بسكرة بجموعهم وتواقف الفريقان، وأنالهم السلطان القتال أياما وهو يراسل يعقوب بن علي ويستحثّه لما كان يطمعه به من المظاهرة على ابن مزني، ويعقوب يخادعه بانحراف قومه عنه وائتلافهم على ابن مزني ويرغبه في قبول طاعته ووضع أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى، فتقبّل السلطان نصيحته في ذلك وأغضى لابن مزني ولرياح عنها، وقبل طاعته وضريبته المعلومة، وانكفأ راجعا، ومر بجبل أوراس ثم إلى قسنطينة فأراح بها، ثم ارتحل إلى تونس فوصل إليها منتصف سنة ثمانين وسبعمائة أهـ.
(حركة السلطان الى قابس)
كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وانتظمها في أعماله وشرّد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس وهلك كبيرهم عبد الملك وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد، وذهب ابنه يحيى إلى الحجّ، وأقام عبد الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها. واستتبّ له ذلك بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف بن الآبار من صنائع السلطان بقبحّ إيالته وسوء سيرته، فداخلوا جماعة من شيعة ابن مكي في ضواحي قابس وقراها وواعدوهم فجاءوا لميعادهم وعبد الوهاب معهم، واقتحموا باب البلد وقتلوا البوّاب. وقصدوا ابن الآبار فقتلوه في مسكنه سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة وملك عبد الوهاب البلد واستقل بها كما كان سلفه.
وجاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مرارا يروم ملك البلد منه فلم يتهيّأ له ذلك ونزل على صاحب الحامة وأقام عنده يحاول أمر البلد منها، فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة وبذل له المال على أن يمكّنه منه فبعث به إليه فاعتقله بعض العروسيين، وأقام يراوغ السلطان على الطاعة ويبذل ماله في أعراب الضاحية من دباب وغيرهم للمدافعة عنه، ومنع الضريبة التي كانوا يؤدّونها للسلطان أيام طاعتهم، والسلطان مشغول عنهم بهمّه، فلما فرغ من شواغله بإفريقية والزاب(6/575)
نهض إليه سنة تسع وثمانين وسبعمائة بعد أن اعترض عساكره واستألف من العرب أولياءه وسرب فيهم عطاءه.
ونزل على قابس وقد استعدّ لها وجمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها، وجثم عليها بعساكره يقاتلها ويقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من ألفافها براحا وموّج الهواء في ساحتها، فصحّ إذ كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر، في مكائف الطلال وما يلحقه في ذلك من التعفّن، فذهب عنها ما كان يعهد فيها من ذلك الوخم رحمة من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان وربما صحّت الأجسام بالعلل ولما اشتدّ بهم الحصار وضاق المخنق، وظنّ ابن مكي أنه قد أحيط به استعتب للسلطان واستأمن فأعتبه وأمّنه ورهن ابنه على الطاعة أداء الضريبة وأفرج عنه السلطان وانكفأ راجعا إلى تونس، واستقام ابن مكي حتى كان من تغلّب عمه يحيى عليه ما نذكره.
(رجوع المنتصر الى ولايته بتوزر وولاية أخيه زكريا على نفطة ونفزاوة)
كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته واصفقوا [1] على محبته والتشيّع له، فلمّا رجع السلطان عن قابس وقفوا إليه في طريقه إلى أن تولى المنتصر على بلاد الجريد كما كان ورده إلى عمله بتوزر. وتولّى ذلك بنو مهلهل وأركبوا نساءهم الظعن في الهوادج واعترضوا بهنّ السلطان سافرات مولولات دخلاء عليه في إعادة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من المصالح فقبل السلطان وسيلتهن وأعاده الى توزر، ونقل ابنه زكريا إلى نفطة وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها واستعمل بعمله وأظهر من الكفاية والاضطلاع ما تحدّث به الناس عنه، وكانت ولايته أوّل سنة تسعين وسبعمائة.
(فتنة الأمير إبراهيم صاحب قسنطينة مع الزواودة ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم أثرها)
كان للزواودة بقسنطينة عطاء معلوم مرتّب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم من البلاد في
__________
[1] بمعنى أجمعوا.(6/576)
التلول والزاب بأقطاع السلطان وضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية وصارت العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالمسيل ولا يحتسبون بمغارمها فضيق الدخل يمنعهم العطاء من أجل ذلك، فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم. ولما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس، وكان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك، ويعلّلهم بالمواعيد، فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه وطلبوا منه عطاءهم فتعالى، وجاءه يعقوب بن عليّ مرجعه من الحج وأشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه، وتركه ونادى في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سبّاع بن شبل وأولاد سبّاع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان ورياح، وخرج يعقوب من التل فنزل على نفاوس فأقام بها، وانطلقت أيدي قومه على تلول قسنطينة بالنهب وانتساف الزرع حتى اكتسحوا عامّتها ولحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر.
ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين وسبعمائة ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها وقام مكانه في قومه ابنه محمد. واستمرّ على العصيان وصعد إلى التل في منتصف إحدى وتسعين وسبعمائة واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من الزواودة وأحلافهم من البادية جنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بما معه من أولاد عائشة أمّ عمر، وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب، وتحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة ثم جمع السلطان لحربهم ودفع عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك.
وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب، وانحدروا منه إلى المشاتي فلمّا رجعوا من مشاتيهم وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه، وكاد أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة. ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه. وبينما هو في ذلك ألمّ به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وافترقت جموعه وأغذّ محمد بن يعقوب السير إلى نواحي قسنطينة فاحتلّ بها مظهرا للطاعة متبرئا من الخلاف، ونادى في أهل البلاد بالأمان العمارة فصلحت أحوال الرعايا والسابلة. وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمّنهم وأعتبهم وأقام بقسنطينة مكان إبراهيم ابنه، وبعث من حضرته محمد ابن(6/577)
مولاه بشير لكفالته والقيام بدولته فقام بأمرها، وصلحت الأحوال والله بيده تصاريف الأمور.
(منازلة نصارى الإفرنج المهدية)
كانت أمّة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم تغلّب ودولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره ومثل: سردانية وميورقة وصقلّيّة، وملأت أساطيلهم فضاءه وتخطوا إلى سواحل الشام وبيت المقدس فملكوها، وعادت لهم سورة الغلب في هذا البحر بعد أن كانت سورة المسلمين فيه لا تقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومراكبه [1] فغلبهم الفرنج وعادت السورة لهم، وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياما. ثم فشل ريح الفرنجة واختلّ مركز دولتهم بإفرنسة، وافترقت طوائف في أهل برشلونة وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانيّة، وأصبحوا دولا متعدّدة فتنبّهت عزائم كثيرة من المسلمين بسواحل إفريقية لغزو بلادهم، وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجتمع النفير [2] والطائفة من غزاة البحر، يضعون الأسطول ويتخيّرون له أبطال الرجال، ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه، ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالبا ويعودون بالغنائم والسبي والأسرى، حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضجّ طرق البلاد بضجّة السلاسل والأغلال عند ما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذّر منه أو يكاد، فشقّ ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلّا وحسرة وعجزوا عن الثأر به، وصرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بإفريقية فصمّ عن سماعها وتطارحوا سهمهم ونكلهم [3] فيما بينهم وتداعوا النزول المسلمين والأخذ بالثأر منهم.
وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرّح ابنه الأمير أبا فارس يستنفر أهل النواحي ويكون رصدا للأسطول هنالك، واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مران راكبيه.
[2] وفي نسخة ثانية: فيجمع النفراء.
[3] وفي نسخة أخرى: وتطارحوا بثهم وثكلهم.(6/578)
ويجاورهم من أمم النصرانية، وأقلعوا من جنوة فحطّوا بمرسى المهديّة منتصف اثنتين وتسعين وسبعمائة وطرقوها على حين غفلة وهو على طرف البرّ داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها، وضربوا عند أوّل الطرق سورا من الخشب بينه وبين البر حتى صار المعقل في حكمهم، وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكّنوا من قتال البلد ومن يأتيهم من مدد المسلمين، وصنعوا برجا من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوار المعقل لتعظم نكايتهم، وتحصّن أهل البلد وقاتلوهم صابرين محتسبين.
وتوافت إليهم الأمداد من نواحي البلد فحال دونهم الفرنجة.
وبلغ الخبر إلى السلطان فأهمّه أمرها وسرّح العساكر تترى إلى مظاهرتهم. ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكريا وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدوّ، واستنفر المقاتلة من الأعراب وغيرهم فاجتمعت بساحتها أمم، وألحّوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى أحجروهم في سورهم. وبرز الفرنجة للقتال فكان بينهم وبين المسلمين جولة جلّى فيها أبناء السلطان، وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورّط لولا حماية الله التي وقته. ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من أسوار البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه. ثم ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم، وخرج أهل المهديّة يتباشرون بالنجاة ويتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم، «وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» 33: 25. وأمر الأمير أبو يحيى برمّ ما تثلّم من أسوارها، ولم ما تشعّث منها، وقفل إلى تونس وقد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوّه وعدوّهم، والله تعالى ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.
(انتقاض قفصة وحصارها)
كان السلطان أبو العبّاس قد ولّى على قفصة عند ما ملكها ابنه الأمير أبا بكر وأقام في خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدّهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره وأقام بها حولا. ثم تجافى عن إمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي وولّاه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه. ولم يزل بها واليا إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة وولّى السلطان(6/579)
مكانه محمدا ابنه، وكان له إخوة أصاغر أبناء علات فنافسوه في تلك الرتبة وحسدوه عليها، وأغراهم به محمد الدنيدن من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد، وكان فيها عدلا معقلا، فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه، وأبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الإخوة بأخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان. ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثّب بهم وأخرجهم واستصفاهم واستقل برياسة البلد كما كان قومه، والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار والإنذار، وهم قد لجّوا في طغيانهم. ثم جمع جنوده واحتشد واستألف الأعراب ووفّر لهم الأعطيات. ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس وتسعين وسبعمائة وقد استعدّوا وتحصّنوا فألحّ عليهم القتال وأذاقهم النكال، وقطع عنهم الميرة فضيّق محنقهم. ثم عدا على نخلهم يقطعها حتى صرع جذوعها وفسح المجال بين لفافها.
ولما اشتد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق، فخرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان يعقد معه صلحا على بلده وقومه فغدر به، وحبسه رجاء أن يملك بذلك البلد. وكان بعض بني العابد واسمه عمرو بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم وأبعد في المغرب، ثم رجع ونزل بأطراف الزاب. ولما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياما ثم استراب به وتقبّض عليه وحبسه. فلما غدر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة، وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم. وسرّبوا إليهم الأموال فتصدّى إلى الدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل، وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد، وكان أولياؤه من العرب قد أبعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلّا إطلاق صولة برايته في قومه فأجفل واتبعوه. وما زال يكرّ عليهم في بنيه وخواصّه حتى ردّهم على أعقابهم.
وأغذّ السير إلى تونس وهم في اتباعه، ولم يظفروا منه بعقال إلّا ما كان من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته. ثم ندم صولة على ما كان منه وراسل السلطان بطاعته فلم يقبله، وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين وسبعمائة.
واستدعى ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر وأنزل معه عليها قومه فجلّى الأمير المنتصر ابن السلطان في دفاعهم والامتناع عليهم حتى يئسوا، واضطربت آراؤهم وأفرجوا عنها مفترقين. وصعد صولة إلى التلال للمصيف به، وعاود الرغبة من(6/580)
السلطان في قبول طاعته. وكان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية، فلمّا وصل إلى تونس أرسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه أشياعه، ودخل البلد فبدر به عمر بن العابد وكبسه بمكانه الّذي نزل به وقتله، واستبدّ بمشيخة قفصة وخشي أهل قفصة من غائلة السلطان وسوء مغبّة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم، وشرط عليهم نزول عامله عندهم، وهذا آخر ما بلغنا عنهم والله مصرف الأمور بحكمته.
(ولاية ابن السلطان على صفاقس واستيلاؤه منها على قابس وجزيرة جربة)
هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الّذي كان أميرا بقسنطينة، وكان في كفالة أخيه إبراهيم. فلمّا توفي كما مرّ لحق بالسلطان أبيه وأقام عنده. ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدّمناه واضطرب قومه من بعده، ونزع قائدهم ورئيسهم ابن خلف إلى السلطان فبعث معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة لحصار طرابلس، وأقام عليها حولا كريتا يحاصرها ويمنع الأقوات عنها، حتى ضجروا وضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة ووافاه جاثما على قفصة عند ما انتقضوا عليه، وقد مرّ في طريقه على جربة وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجين فأنف من ذلك، وشكاه إلى أبيه فولّاه على صفاقس، ووعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة، وانضمّ إليه جميع من بها من القبائل. وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج، حتى كاتب السلطان فأمره بتمكين ابنه من الحصن والإفراج له عن الجزيرة أجمع، فأستبدّ بها. ثم إنّ الأمير عمر سما إلى ملك قابس، فداخل أهل الحامة في ذلك فأجابوه وساروا معه بجموعهم سنة ست وتسعين وسبعمائة فبيّتها وملكها، وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه، وانقرض أمر بني مكي من قابس واستقلّ بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده، والله وارث الأمور
.(6/581)
(وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه أبي فارس عزوز)
كان السلطان أبو العبّاس أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفّة. ثم اشتدّ به آخر عمره وأشرف في سنة ست وتسعين وسبعمائة على الهلكة. وكان أخوه زكريا رديفه في الملك والمرشّح بعده للأمر، وابنه محمد واليا على بونة موضع إمارته من قبل. وكان للسلطان أولاد كثيرون يتطاولون على أبيهم ويغصون بعمهم زكريا، ويخشون غائلته بعد أبيهم، فلمّا قارب السلطان منيته اشتدّ جزعهم وإشفاقهم من عمهم. وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسنطينة فسار إليها بين يدي موته، واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده إلى أبي فارس عزّوز فقبضوا على عمهم زكريا وقد دخل يعود أخاه، وأودعوه في بعض الحجر ووكّلوا به، وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجا من الأعيان والكافة فتمّت بيعته، وأمر بنقل ما في بيوت عمّه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى استوعبها، وضيّق عليه في محبسه، وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه. وولّى بعض إخوته على منابر عمله بإفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على المهديّة، وردف أخاه إسماعيل في ملكه بتونس، وأحلّ الباقين محل الشورى والمفاوضة.
وبلغ الخبر إلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام بها. وكذلك أخوه زكريا بنفطة فلحق بالجبال بنفزاوة. وكان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسنطينة لولاية أبيه قبيل وفاته ومرّ ببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمّه زكريا بما شاء من أنواع الكرامة والمبرّة ووافى قسنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم إيّاه، وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها. وكان خالصة السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العبّاس بن سالم في صفر من شهور السنة، وحمّله من الهدايا والتحف ما يليق بأمثالهما فسار. فلمّا انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان مرسلة وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسنطينة [1]
__________
[1] وفي طبعة بولاق المصرية: قسطنطينة وكذا في النسخة التونسية. وفي معجم البلدان: قسنطينية. وفي كتب التاريخ الحديثة: قسنطينة.(6/582)
بالرجوع إليه فرجع بهديته، واستقرّ عنده هنالك.
(هذا آخر ما بلغنا) من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه السنين وحالهم على ذلك لهذا العهد، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه، وهو على كل شيء قدير.(6/583)
(الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة وما إليها من الزاب)
هذا البلد بسكرة هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد، وحدّه من لدن قصر الدوسن بالمغرب إلى قصور هولة [1] وبادس في المشرق، يفصل بينه وبين البسيط الّذي يسمّونه الحضنة جبل جاتم من المغرب إلى المشرق، ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضنة، وهو جبل درن المتّصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة. ويعتمر بعض ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة، ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الجوف [2] .
وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه. وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى متعدّدة متجاورة جمعا جمعا، يعرف كلّ واحد منها بالزاب. وأوّلها زاب الدوسن، ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة وزاب بسكرة وزاب تهودا وزاب بادس.
وبسكرة أمّ هذه القرى كلها، وكانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة من بني رمّان من أهلها بما كثروا بساكنها. وملكوا عامّة ضياعها. كان لجعفر بن أبي رمّان منهم له صيت وشهرة.
وربّما نقضوا الطاعة لعهد بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة في سني خمسين وأربعمائة، وضبطوا البلد وامتنعوا. وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة، ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن أبي حديدة [3] من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم، واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكّين جميعا، وجعلهم عظة لمن بعدهم.
وأصار الشوري لبني سندي من أهلها. وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة وانحياش إلى الدولة على حين تقلّص ظلّها وفشل ريحها، وألوى الهرم بشبابها.
وهو الّذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي بعد وصوله من المشرق واجتلابه على السلطان بقومه من مغراوة أغرى بالأثبج [4] وبني عديّ وبني هلال، فمكر به
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تنوّمه.
[2] وفي طبعة بولاق: الى الشمال.
[3] وفي طبعة ثانية: خلف بن أبي حيدرة.
[4] وفي طبعة ثانية: وأعراب الأثبج ...(6/585)
السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغه طعمة. ودسّ إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدّمنا ذكره في أخبار آل حمّاد. وانقرضت رياسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من إفريقية. وجاءت دولة الموحّدين، والذكرة والبيت لبني زيّان [1] .
وكان بنو مزني لفقا [2] من لفائق الأعراب، وصلوا إلى إفريقية أحلافا لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدّمنا.
ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج. ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف، واسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيّا بن جرى، هكذا تلقيته من بعض الهلاليّين، وشهد لذلك الموطئ، فإن أهل الزاب كلّهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح، وإنما ينزعون عن هذا النسب إلى فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع، فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب. وكان أوّل نزولهم بقرية من قرى بسكرة وكانت تعرف بقرية حيّاس. ثم كثروا وتسايلوا وأخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر من تملّك العقار والمياه.
ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال، وقاسموا أهلها في الحلو والمرّ، وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة. ثم استنكف بنو زيان [3] من انتظامهم معهم وحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وحذّروهم من أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن، وكان أوّلها الكلام والترافع إلى سدّة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بإفريقية، ولعهد الأمير أبي زكريا وابنه السلطان مستنصر.
ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا بسكك المدينة وكانت صاغية الدولة مع بني زيان لقدمهم في البلد. ولما خرج الأمير أبو إسحاق على أخيه محمد المستنصر لأوّل بيعته، ولحق بالزواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ، واعتمر به بسكرة وبلاد الزاب، وأناخ عليها بكلكله كما قدّمناه. قام يومئذ فضل بن عليّ بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته، وأعلن بين أهل البلد بطاعته
__________
[1] وفي طبعة ثانية: والكثرة والبيت لبني رمّان.
[2] يقال للرجلين هما لفقان أي لا يفترقان.
[3] وفي نسخة ثانية: بنو رمّان.(6/586)
واتبعوه على كره. ثم عاجلتهم عساكر السلطان وأجهضتهم [1] عن الزاب، فاعتلق فضل بن عليّ به، واستمسك بذيله وصحبه في طريقه إلى الأندلس، وبدا غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه، هيّأ الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه.
ولما تمّ أمره واقتعد بتونس كرسيّ خلافته عقد لفضل بن عليّ على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلاد الجريد رعيا لذمّة خدمتهما، وذكرا لإيلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما، فقدم واليا على الزاب، ودخل بسكرة واستكان بنو زيان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا [2] بكلمة في شأنه، واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله.
ثم كان شأن الداعي بن أبي عمارة وتلبّسه، ومهلك السلطان أبو إسحاق على يده. ثم ثأر منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم، وكان يثق بعنايته [3] ، ويعوّل في أمر الزاب على كفايته. وسيم أعداؤه بنو زيّان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف إحدى بطون الأثابج، كانوا نزلوا بقرية باشاش [4] لضيق المدينة حين عجزوا عن الظعن، وخالطوا أهل البلد في أحوالهم وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن عليّ أن يكون التقدّم لهم في الفتك به، وتناول الأمر من يده، وأن يخرّبوا بيوتهم من قرية باشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى ولايتهم حلفا عقدوه على المكر بهم. ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتولّوا من أمر الزاب ما كان يتولّاه، تنكر لهم بنو زيّان لحولين من ذلك الحلف، ونابذوهم العهد فخرجوا عن البلد وفقدوا ما لهم بها من قريب [5] ، وتفرّقوا في بلاد ريغة، واستبدّ بنو زيان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى السلطان، والزواودة قد تغلّبوا عليه وعلى بلاد الحضنة من ورائه نقاوس ومقرة والميلة. وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شئونه. فلمّا هلك أبوه واستبدّ بنو زيان بعده، بثّوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت، وتقبّض عليه واعتقل أيام السلطان أبي حفص.
__________
[1] أي أبعدتهم عن الزاب.
[2] وفي نسخة ثانية: فلم ينشبوا ولا معنى لها هنا.
[3] وفي نسخة ثانية: وكان يثق بغنائه.
[4] وفي نسخة ثانية: ماشاش.
[5] وفي نسخة ثانية: وفقدوا المأوى للتمرّس بها من قريب.(6/587)
ولما تغلّب المولى أبو زكريا يحيى ابن الأمير أبي إسحاق على بجاية وقسنطينة وبونة، واستقلّ بأمرها وانقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها، تمسّك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص وفرّ منصور بن فضل بن عليّ من محبسه بتونس ولحق ببجاية بعد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيّد الناس، وتولية السلطان أبي زكريا مكانه كاتبه أبو القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين وستمائة، فلازم خدمته وخفّ عليه وصانعه بوجوه التخف وتضمّن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه، وشريف أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك، فعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر فنازل بسكرة ووفد أهلها بنو زيان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجّعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور، وكتب إليه بقبول بيعتهم، ودخل البلد سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكادهم في بناء القصر لشيعته، وتحصّن العسكر بسورة.
ثم نابذهم العهد، وثار بهم فأجلاهم عن البلد، واستمكن فيها ورسخت قدم إمارته فيها، واستدرّ جباية السلطان، واتسع له نطاق العمالة، فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس وقرى ريغه وبلد واركلى وقرى الحصنة: مقرة ونقاوس والمسيلة. فعقد له السلطان على جميعها، ودفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها حتى كاد يغليهم عليها. ووفّر أموال الدولة وأنهى الخراج وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبّة، وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع، فأثرى واحتجز الأموال ورسخت عروق رياسته ببسكرة، ورسخت منابت عزّه وهلك المولى أبو زكريا الأوسط على رأس المائة السابعة، وولّوا مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالدا كما قدّمناه، وقام بأمره صاحبه أبو عبد الرحمن بن عمر.
وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد حاجبه [1] فاستنام إليه وعوّل في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره، وعقد له على بلاد التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله، وجرّد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقّح عقيمها وتفجّرت ينابيعها. ثم حدثت بينه وبين الدولة منافرة وأجلب على قسنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق حاجبه من تلمسان [2] ، وبايع له
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جاهه.
[2] وفي نسخة ثانية: جأجأ به تلمسان وهذا تحريف.(6/588)
واستألف الزواودة لمشايعته، ونازل به قسنطينة ثم اطلع على مكامن صدره فيه وما طوى عليه من التربّص به فحلّ عقدته، ولحق بعسكره ببسكرة، وراجع الطاعة.
ولحق يحيى بن خالد واعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وسبعمائة وكانت بينه وبين المرابطين أهل السنّة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن وحروب، وطالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفا عن الرعيّة وعملا بالسنّة التي كانوا ملتزمين لطريقها، ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مرارا. ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلي كما مرّ في ذكره سنة خمس وسبعمائة. وجمع منصور بن مزني للمرابطين، وبعث عسكره يقوده ابنه عليّ بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الزواودة، وعلى المرابط أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات المرابطين مثل:
عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر، وعطيّة بن سليمان بن سبّاع وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا ابنه عليّا وتقبّضوا على عليّ بن أحمد، ثم منّوا عليه وأطلقوه.
ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها. ثم عاودوه ثانية وثالثة. ولم يزل بينه وبين هؤلاء المرابطين فتن سائر أيامه. وكان الحاجب ابن عمر قد استخلصه لنفسه وأحلّه محل الثقة بحلّته واستقامة إلى صنائعه [1] . ولما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمّت كما قدّمناه. ورجع الحاجب إلى قسنطينة وردّه إلى مكان عمله من الزاب. وكان يتردّد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غدر به العرب في بعض طرقه إليها. وتقبّض عليه من أمراء الزواودة علي بن أحمد بن عمر ابن محمد بن مسعود، وسليمان بن عليّ بن سبّاع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سبّاع بن شبل بن موسى بن محمد، واقتسما رياسة الزواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله بلاد سدويكش، وأوثقوه اعتقالا، وهمّوا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب وارتاشوا [2] بمسكوبهم، وصرفوا في وجوه رياستهم ألفا منها، وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين. وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والاستقامة الى صفاته.
[2] ارتاش ربما استعملها ابن خلدون بمعنى راش أي أكل كثيرا (قاموس) .(6/589)
كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة وسبعمائة أوّل حركاته إليها، وطالب صاحبه يعقوب بن عمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والأعطيات، فبعث إليه بمنصور بن فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره، ويكفيه مهمات شئونه واعتدّها منصور على ابن عمر فساء ظنّه، وتنكّر له ابن عمر، وحالت صبغة ودّه وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدّمناه. ولمّا احتلّ بقسنطينة بدت له من يعقوب بن عمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به، وتردّدت بينهما الرسل وبعث ابن عمر في منصور بن فضل. ونذر منه بالشرّ فأجاب داعيه، وصحب قائد السلطان يومئذ محمد ابن أبي الحسن بن سيّد الناس إليه، حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده، وهمّ به القائد فأجاره أولياؤه من العرب: عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن معهم من ذويهم. ولحق ببسكرة وبلغ الخبر إلى ابن عمر فقرع سنّ الندم عليه، وشايع منصور بن مزني عدوّهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في دعوته وأوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة والهدية.
وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد إفريقية وهلك ابن عمر سنة تسع عشرة وسبعمائة ولم يزل منصور بن مزني ممتنعا سائر أيامه على الدولة، والعساكر من بجاية تتردّد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب، واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية قرى: ريغة وواركلى. وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن عمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس، وجعل له كفالة ابنه يحيى ودفعه إليه فتجدّدت الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان بما كانوا جميعا صنائع وبطانة للحاجب ابن عمر. وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه. وناول عبد الواحد هذا لآل زيّان الخائفين [1] الدولة طرفا من حبل طاعته فقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره. وطال تمرّس الجيوش به إلى ان استجنّ منه عبد الواحد بصهر عقده له على ابنته، واشترط المهادنة وتسليم الجباية، وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع وعشرين وسبعمائة بمداخلة بطانتهم من بنى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مخانقي.(6/590)
سماط وبني أبي كواية. ولما أحكم مداخلتهم في شأنه آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات، وطعنه بخنجره فأشواه وهلك لحينه. واستقلّ يوسف بن منصور بإمارة الزاب ووصله مرسوم السلطان بالتقليد والخلع على العادة، وأجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله.
وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيّد الناس من الثغر ببجاية [1] ، وفوّض له أمور ملكه، فهاجت نار العداوة والإحن القديمة بما بينه وبين يوسف بن منصور عامل الزاب، وهمّ به لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل للدّولة بتحيّف آل زيّان وهلك الحاجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في نكبة السلطان إيّاه كما ذكرناه، وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل بيده زمام العساكر، وفوّض له في سائر القرى والضواحي، فأجرى رياسته وحكمه في دولته وتغلّب على أمره على حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوّه، وحطّ ما كان من أمرهم على كاهل دولته. ونهض السلطان أبو الحسن إلى آل يغمراسن فقلّم أظفار اعتدائهم [2] وفلّ شبا عزائمهم كما شرحنا قبل، فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة، وأثار له من السلطان كأمن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة وتقويمه عن المراوغة في الطاعة، وناهضه بالعساكر مرّات ثلاثا يدافعه في كلّها بتسليم الجباية إليه. ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير الزواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب، ودعا العرب إلى منازلته مموّها بالدعاء إلى السنّة، وحشد أهل ريغة لذلك ونازلة، وانحرف عنه ابنه يعقوب ودخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل، وعقد له عليها، فحسن دفاعه عنه، وبعث ابن مزني عن سليمان بن عليّ كبير أولاد سبّاع، وقريع علي بن أحمد في شئونه، فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن امتنع ابن مزني.
ورحل علي بن أحمد عن بسكرة وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة. ثم كانت غزاة القائد بن الحكيم إليه نهض من إفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد، واقتضى طاعتهم ومغارمهم، واسترهن ولد ابن يملول. ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لحجابته.
[2] وفي نسخة ثانية: أعدائهم.(6/591)
ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه، وفرّت العرب من الزواودة وسائر رياح أمامه، ودافعه يوسف بن مزني بهديّة دفعها إليه وهو بمكانه من أوماش، وارتحل عنه إلى بلاد ريغة فافتتح تقرّت معقلهم واستباحها ودوّخ سائر أعمالها. ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد ابن الحكيم هذا سنة أربع وأربعين وسبعمائة وولّى ابنه أبا حفص عمر. وخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته وسعاية بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا [1] المطل على الممالك، يعسوب القبائل والعشائر الحسن، وأغراه بملك إفريقية واستجرّه إليها، فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما ذكرنا ذلك كلّه من قبل. ووفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقّاه برّا وترحيبا واستتبعه في جملته إلى قسنطينة. ثم عقد له على الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلى، وصرفه إلى عمالته. واستقبل تونس، وأمره برفع الجباية إليه مع العمّال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعدّ لذلك، حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسنطينة وفجأهم هنالك جميعا الخبر بنكبة السلطان على القيروان كما ذكرناه، ونذكره فاعتزم على اللحاق ببلده.
واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية الغربية من إفريقية لأذمّة صهر كانت بينهما ومخالصة، وتحيّز إليهم من كان بقسنطينة من أولياء السلطان وحاشيته وعماله، ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع ابنه عبد الله من أصاغر بنيه، وآواهم يوسف بن منصور جميعا إليه، وأنزلهم ببلده وكفاهم مهمّاتهم شهورا من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس، ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يدا اتخذها يوسف بن منصور عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام. ثم اتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من إفريقية جميعا في الانتقاض عليه، وأقام مستمسكا بطاعته يسرّب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره، ويدعو له على منابره بعد تفويضه على الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه، إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة واستقام أمر الدولة المرينيّة لابنه السلطان أبي
__________
[1] شبا الشيء: علا وأضاء، وشبا النار: أوقدها وقد تكون شباة وهي حد كل شيء.(6/592)
عنّان الحيّة الذكر، ولما استضاف إلى ملكه ملك تلمسان، ومحا ما جدّده بنو عبد الواد بها من رسوم ملكهم وجمع كلمة زناتة، وأطلّ على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بادر يوسف بن منصور بطاعته فآتاها طواعية، وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته. ثم وفد عليه ثانيا مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر، وبعثه بالعساكر لتدويخ إفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره. ووفد عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين وسبعمائة ووفد في جملتهم يوسف بن منصور أمير الزاب ويعقوب بن علي أمير البدو وسائر رؤساء الزواودة فلقاهم السلطان تكرمة ورعيا لأذمة خلوصهم لأبيه وقومه من بين أهل إفريقية، وأسنى جوائزهم. وعقد ليوسف بن مزني على الزاب وما وراءه من بلاد ريغه وواركلى على عادتهم وانقلب محبوا محبورا وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالصته حظّ، ورفع له ببساطه مجلس، ولما نهض السلطان إلى إفريقية لافتتاح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة كما سنذكره تلقّاه يوسف بن منصور على قسنطينة فخلطه بأوليائه، ونظّمه في طبقات وزرائه. واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه وانتقض، فأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب وما وراءها من الصحراء، وارتحل السلطان بعساكره في طلبهم إلى أن احتل بلاد الزاب وخرّب بلاد يعقوب بن علي بالزاب والتل بقطع أشجارها وتغوير مياهها وهدم بنائها ونسف آثارها، ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعا، واحتلّ بظاهر يسكرة فتلوّم بها ثلاثا لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر وشعث الصحراء، ففرّق [1] يوسف بن منصور في قرى عساكره أيام مقامه يشملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم همّهم. وتحدّثت بها الناس دهرا، ورفع إليه جبايته لعامه قناطير من الذهب بعثه بين المال فقبضه القهارمة من ثقاته، وأجزل السلطان مثوبته وأسنى عطيته، واختصّه بكسوة ثيابه وعياله من كسا حرمه وثياب قصره. وانكفأ راجعا إلى حضرته. ثم أوفد موسى بن منصور ابنه أحمد على السلطان بسدّته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة إفريقية سنة تسع خمسين وسبعمائة وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق. وأقام أياما في نزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مغرّب.(6/593)
كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع وخمسين وسبعمائة فأرغد القائم بالدولة من بعده جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله، واستوصى به أمراء النواحي والثغور في طريقه. ولم ينشب أن شبّت نار الفتنة وانتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عنائه وعلى يأس من النجاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان، وهو بها مع بني مرين، وقد مرّ بهم مجتازا إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر من زغبة رعيا لأذمة ابنه يوسف صاحب الزاب، وتأميلا للعرب فيه وفي أعماله. وبعد أن بذل له من ذات يده ومن طرف ما وصله به بنو مرين من ذخائرهم بعث معه صغير وفادا [1] من قومه أبلغوه مأمنه، فكانت إحدى الغرائب في نجاته.
واسترجع الموحّدون ثغورهم: بجاية وقسنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها العساكر المجمّرة بها من قبائلهم كما قدّمناه، فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة لهم إلى أن هلك سنة سبع وستين وسبعمائة يوم عاشوراء، وقام بأمره ابنه أحمد، وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبّل في مذهبه وطريقه إلّا أن خلق أبيه كان سجية وخلق هذا تقليد لما فيه من التحذلق [2] ، وربك يخلق ما يشاء ويختار. وله أولاد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى، وهو لهذا العهد مرشح لمكانه. ولما حلّت بأهل الجريد الفاقرة [3] ونزل به يحيى بن يملول الشؤم على وطنه توجّس الخيفة من السلطان وتوقّع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروفة، فسرّب الأموال في العرب ومدّيده إلى حبل صاحب تلمسان ليستمسك به فوجده قاصرا عنه، وأقام يقدّم في أمره رجلا ويؤخّر أخرى. ثم قذف الله نور الهداية في قلبه، وأراه سنن رشده. وبادر إلى الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة، ووصله فأوفد السلطان أبو العبّاس شيخ الموحدين أبا العباس بن أبي هلال، وكشف له قناع المخالصة والانحياش، وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبّله السلطان وأعاده إلى أحسن الأحوال ورضي عنه والله متولي الأمور سبحانه لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ركابا.
[2] وفي نسخة أخرى: ان خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقا.
[3] الفاقرة: الداهية الشديدة.(6/594)
أبو يحيى بن أحمد بن يوسف بن منصور بن فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن
(الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني الخلف بنفطة وبني أبي المنيع بالحامة)
زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لاتساع بلده وتمدّن مصره واحتلاله منها بأمّ القرى من قطره، وهو يحيى بن محمد بن أحمد بن محمد بن يملول. ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوّخ، استقرار [1] ولده بهذا الصقع كان منذ أوّل الفتح فعفوا [2] وتأثّلوا ووشجت به عروقهم نسبا وصهرا حتى انتظموا في بيوتات الشورى المتقدّمين للوفادة على الملوك وتلقي العمّال القادمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافّة أيام آل حمّاد بالقلعة، وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس، مثل بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض. وكان التقدّم فيهم أيام عبد الله الشيعي لابن فرقان، وهو الّذي أخرج أبا يزيد حين شعر به أنه يريد القيام على أبي القاسم القائم، وأيام آل حمّاد ليحيى بن واطاس، وهو النازع بطاعة أهل قسنطينة إليهم عن آل بلكّين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري، وافترق أمرهم. ثم عادت الرئاسة لبني مروان لأوّل دولة الموحّدين، ومنهم كان الّذي لقي عبد المؤمن وآتاه الطاعة عن نفسه وعن أهل بلده توزر، فتقبّله ووصله.
وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد. ونشأ أحمد هذا الجد متراميا إلى الرئاسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح، ويزاحم بالمناكب من وجوه البلد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: استقر أوّلوه.
[2] بمعنى كثروا.(6/595)
وأشراف الوطن. وسعى به إلى شيخ الموحّدين وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال امتحنه عليه. كانت أوّل نكباته التي أورت من زناده وأوقدت من جمرة، وتخلّص إلى الحضرة يؤمّل اعتقال مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياما يباكر أبواب الوزراء والخاصّة، ويلثم أطراف الأولياء والحاشية وينزل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم، ويؤثره بعنايتهم حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمّال بمرفإ السفن لجباية الأعشار من تجّار دار الحرب. ثم استضاف بما كان من عنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتقلّدها زعيما بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية. واستمرّت على ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال، واستخرج الذخيرة قاطعا لألسنة السعاية بالمصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى، ودلّت على مكانته الثورة، ورفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية وصودر على مئين [1] . من آلاف الدنانير وامتحن لها، وباع فيها كسوته حين قرأ الكتاب وخلص من النكبة مسلوب [2] الأمانة ممزّق الأديم فقيد الرياش، أحوج ما كان إلى ما يعوز من الكن والدفء وبلالة العيش. ولحق ببلده ناجيا بالرمق ضارعا للدهر.
ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمّال ومباكرة أبوابهم والامتحان في ضروراتهم، وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه. وكان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلّص ظلّ الدولة عن هؤلاء بعض الشيء وحملت الرعايا بالبلاد الجريدية، وصار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل. فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سموّ حباب الماء ثلج صدره، وأنجح سعيه، واستبدّ بمشيخة توزر. وهلك في أعوام ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحا إلى المرتبة منافسا في الاستقلال، ومزاحما بيوتات المصر بمناكب استوطأها [3] بسائر عمره من الدعّار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مئتين.
[2] وفي نسخة ثانية: مثلوب. ثلبه: عابه ولامه، اغتابه، سبه طرده (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: استوصلها سائر عمره.(6/596)
الشباب لسير [1] أمره، والاستعلاء [2] على نظائره حتى تطارحوا في هوة الهلاك بين قتيل ومغرّب ونحيب العمران، لم يعطفه عليهم عواطف الرحم ولا زجره وازع التقوى والسلطان، حتى خلا له الجو واستوسق الأمر واستقلّ من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من استبداد أبيه. وكان مهلكه قريبا من استبداده لخمس سنين متلقيا [3] الكرة من يده أخوه محمد تربه في الرئاسة ومجاريه في مضمارها، فأجرى إلى الغاية واقتعد كرسي الرئاسة وعفى على آثار المشيخة. واستظهر على أمره بمصانعه أمراء البدو وأولاد أبي الليل، والمتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدّهم على أخته أو عمته. فكانوا ردءا له من الدولة فنفذ [4] صيته وعظم استيلاؤه وامتدّت أيامه وعني الملوك بخطابه واسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرّة وتهب ريح الدولة. وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنى أربعين فلاذ منه بالطاعة والمصانعة بالمال، ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبّل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه. وأقام على ذلك إلى أن هلك لعام أربع وأربعين من المائة الثامنة.
وتصدّى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضا به والتسليم له فثارت به العامّة لحينه، وكان مصرعهما واحدا. وقام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شرّ مدة وأسوأ ولاية، لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال، حتى كان ينسب إلى الجنون مرّة وإلى الكفر أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم، وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سرا وأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفّه من الأعراب، وحشد نفزاوة والمجاورين لها في القرى الظاهرة المقدّرة السير، وأجلب عليهم ثم بيّتها فاقتحمها وبادر الناس إلى القبض على يملول أخيه وأمكنوه منه فاعتقله بداره وتبرّأ من دمه، وأصبح لثالثة اعتقاله ميتا بمحبسه.
وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليستبد.
[2] وفي نسخة أخرى: والاستيلاء.
[3] وفي نسخة أخرى: فتلقف.
[4] وفي نسخة أخرى: فبعد.(6/597)
محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها، ونسبهم بزعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم. والله أعلم بأوّلية نزولهم بقفصة حتى التحموا بأهلها وانتظموا أمر بيوتاتها. وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد، وكانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكريا الأعلى، كان يستعمله على جباية أموال الجريد، ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف من المال فأعطاها، وأقامت رياستهم متفرّقة في هذه البيوتات.
ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم، واستبدّ بها كبيرهم يحيى بن علي. فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة وخيّم السلطان أبو الحسن على تلمسان فحاصرها. وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره، وافتتح أمره بغزو قفصة ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في عساكر من الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب، فحاصرها شهرا أو نحوه وقطع نخيلها فضاق مخنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة.
واستبقوا بها إلى السلطان وفرّ الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبّل طاعتهم وأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم، وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى الجريد، واحتمل مقدّم روضة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة أربع وأربعين وسبعمائة، واستبد الأمير أبو العبّاس بأمر الجريد واستولى على نفطة كما قدّمناه. وقيل لبني الخلف وهم: مدافع وأبو بكر عبد الله ومحمد وابنه أحمد بن محمد إخوة أربعة، وابن أخيهم بنو الخلف من مدافع، ونسبهم في غسّان من طوالع العرب.
انتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة وتأثّل بها، وكان لبنيه بها بيت. واستبدّ هؤلاء الإخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدّمناه. ولما استولى السلطان أبو بكر على الجريد وأنزل أنبه أبا لعبّاس بقفصة، وعقد له على سائر أمصاره وأمضى طاعتهم وامتنعوا فسرّح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين. وجهّزت له العساكر من الحضرة ونازلها وقطع نخلها ولاذ أهلها بالطاعة، وأسلموا بني مدافع المتغلّبين فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين. وأفلت السيف منهم عليّا صغيرهم لذمّة اعتدّها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه إليه قبل الحادثة.(6/598)
فكانت واقيته من الهلكة. واستولى الأمير أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله.
ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكان الفتح كما قدّمناه. ولحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده، وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر، وهلك سنة ست وأربعين. ثم كان مهلك السلطان وابنه أبو العبّاس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدّموه فرجع أحمد بن عمر بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي، ورجع علي بن الخلف إلى نفطة واستبدّ بها. ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة، ارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا، فلمّا خلا الجريد من الإمارة ودرج يحيى هذا من عشّه في جوار يوسف بن منصور بن مزني وأطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشاركهم [1] ، واسترهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر، ونصّبه شيعته وأولياء أبيه، وقاموا بأمره.
ورجع أمر الجريد كلّه إلى رياسة مقدّمه كما كان.
ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند رجعته إلى إفريقية ولقوة بوهران فلقاهم مبرّة وتكرمة ورجّع كلا إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة، ووفّر الأسهام والأقطاع، وأنفذ الصكوك والكتب، فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبيا مغتلما، وإلى نفطة عليّ بن الخلف. وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد ونزل كل واحد من هذه الأمصار عاملا وحامية. وعقد على الجريد كلّه لمسعود ابن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه، واستوصى بهؤلاء الرؤساء خيرا في جواره حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم ونزل المغرب بمن معه من العمّال والحامية، ونمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن كان معه من الحامية، واستولوا على أفنيتهم وذخيرتهم وكراعهم، واستبدّ رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض، وآذنوا بالدعاء لصاحب الحضرة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شارطهم.(6/599)
بمنابرهم، واستمرّوا على ذلك. فأمّا يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ الآلة والبيت المقصور للصلاة، واقتعاد الأريكة وخطاب السمر، [1] بل وفسح للمجون والعكوف على اللذّات مجالا يرى أنّ جماع السياسة والملك في إدارة الكأس وافتراش الآس والحجبة عن الناس والتألّه على الندمان والجلّاس. وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور. ورعى بيت المشاهير منهم غيلة فأتلفت نفوسهم، وامتدّ أمره في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على إفريقية، وكان من أمره ما نذكره. وأمّا جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبدّ برياسته أن حجّ سنة أربع وستين وسبعمائة والتزم مذاهب الخير وطرق الرضا والعدالة، وهلك سنة خمس وستين وسبعمائة بعدها وولي مكانه ابنه محمد جاريا على سننه. ثم هلك لسنة من ولايته، وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته، وأوقع [2] حزمه وأرهف للناس حدّه فنقموا عليه سيرته، وسئموا عسفه واستمكن مناهضهم في الشرف ومحاذبهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمّة كانت له في خدمته قديما واستعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته، وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عنه الخليفة ودلّه على مكامن هلكته، وبصره بعورات بلده. واقتياد عساكر السلطان إليه في زمامه.
ولما احتلّ بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشدّ ما كان قوّة وأكثر جمعا وأمضى عزما استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه، وحرّضهم عليه وداخل القاضي بتبييتها وأنه بالمرصاد في اقتحامها، حتى إذا كانت البيعة دسّ إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله، ومكر بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم. واستقل برياسة بلده وأقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه، ويجري في الثناء الّذي بلغ إلى غايته وأولى على بنيته [3] . وأمّا أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده ببلده قفصة سالكا مسالك الخمول منحطا عن رتبة التكبّر منتحلا مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيّه ومركبه، جانحا إلى التقلّل. فلما أوفى على شرف من العمر [4] استبدّ عليه ابنه محمد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وخطاب التمويل.
[2] وفي نسخة ثانية: ايقظ.
[3] وفي نسخة ثانية: وأوفى على ثنيته.
[4] أي أصبح شيخا كبيرا.(6/600)
وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء الرؤساء المترفين، فبينما هؤلاء المتقدّمون في هذه الحالة من الاستبداد على السلطان والتخلف بأخلاق الملوك، والتثاقل عن الرعايا بالعسف والجور، واستحداث المكوس والضرائب إذ طالما خصهم [1] السلطان أبو العباس بالحضرة مستبدا بدعوته، صارفا سهم عزائمه [2] فوجموا وتوجسوا الخيفة منه. وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا يستحثّونه إلى الحضرة، ويبعثون إليه بالانحياش على البعد زبونا على صاحب الحضرة ونزوعا على مصدوقية الطاعة. فلما استبدّ السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسرّبوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب، يؤمّلون مدافعتهم عنهم فشمّر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة.
ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي إفريقية على الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه، واستلحمهم فأوهن ذلك من قوّتهم.
ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع، فأناخ السلطان بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوما أو بعض يوم، وعدا في ثانية على السلطان ونزل على حكمه فتقبّض عليه وعلى ابنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وسبعمائة وتملّك البلد، واستولى على ديار ابن العابد بما فيها. وكان استيلاء لا يعبّر عنه لطول أيامه في الولاية وكثرة احتجانه للأموال. وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل يريد توزر، وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوّض عنها بأهله، ونزل على أحياء مرداس وسرّب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب، ولحق ببسكرة مأوى نكباته ومنتهى مقره، فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني وأقام هنالك على بلغة [3] من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني من خسارة أموالهم في لفوف [4] العرب وسوء المغبّة إلى أن هلك لسنة أو نحوها وائتمر أهل توزر. بعد تقويضه عنهم، بعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيه في أثناء طريقه، وتقدّم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول واستولى على ذخيرته وتبرّأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إذ أطل على مفاحصهم.
[2] وفي نسخة ثانية: صارفا الى فتحها عزائمه.
[3] وفي نسخة ثانية: على قلعة.
[4] وفي نسخة ثانية: زبون.(6/601)
الذخيرة فدفعوها إلى السلطان. وعقد لابنه المنتصر على توزر، واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة، وكان يخالف أصحابه إلى الطاعة حتى نقضوها زبونا على ابن يملول وسالفه من العداوة ينقلها [1] . فلما أحيط بهم أدركه الدهش وبادر إلى السلطان بطاعته فأتاها، وقدم عليه فتقبّل السلطان ظاهره وأعطى له عن غيرها طمعا في استصلاحه، وعقد له على حجابة ابنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره باستخلافه بلده نفطة، وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقدّم ابن الخلف على أمره ورأى أنه قد تورّط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر، وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح ومدرة [2] حروبهم يحرّضه على صريخ ابن يملول ومعونته، فعلموا نكثه ومداجاته وبادروا إلى القبض عليه، وولّوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان بالشأن وأقام في ارتحاله إلى أن كانت حادثة قفصة، فبادر الأمير المنتصر إلى قتله.
وكان من خبر قفصة أنّ ابن أبي زيد من مشيختها كان ينزع إلى السلطان قبل فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابني العابد وهما: محمد وأحمد ابنا عبد العزيز بن عبد الله ابن أحمد بن عليّ بن عمر بن أبي زيد. وقد ذكر أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير زكريا الأعلى في جبايته الجريد. فلما استولى السلطان على البلاد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته مع قومهما فأمر لهما مع ابنه بقفصة وكبيرها [3] رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك ومدبّر لأمور البلد في طاعة السلطان. ثم نزغ الشيطان في صدره وحدّثته نفسه بالاستبداد، وأقام يتحيّن له الفرض وذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده بالتخلف عنه، وجمع أوباشا من الغوغاء والزعانف وتقدّم بهم إلى القصبة وبعث بالصريخ للفتك بعبد الله التركي ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة وبعث الصريخ في أهل القرى، وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد.
فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفضّ الأشرار من حوله ونجوا إلى الاختفاء في بيوت البلد، وتقبّضوا على الكثير ممن داخلهم في الثورة، ووصل الخبر إلى الأمير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: كان يتقبلها.
[2] مدرة: دره عليهم: طلع وهجم، ودره لهم وعنهم: دافع (القاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: مع قديمهما فانزلهما مع ابنهما بقفصة، وكبيرهما رديف لحاجة.(6/602)
أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه، وقد سكن جأشه [1] واستلحم جميع من تقبّض عليه حاجبه ونادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد فتبرّءوا منه. وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب البلد في زي النساء فقادوهما إليه فقتلهما بعد أن مثّل بهما.
واستبدّ السلطان بالجريد ومحا منه آثار المساءة [2] وعفا عليهما وانتظمه في عمالات السلطان. وأمّا بلد الحامة وهي من عمالة قسطيلية وتعرف بحامة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر، وهم فيما يقال الذين اختطّوها، ففيها الآن ثلاث قبائل من توجر وبني ورتاجن [3] وهم في العصبية فرقتان: أولاد يوسف ورياستهم في أولاد أبي منيع وأولاد حجاف [4] ورياستهم في أولاد وشاح، ولا أدري كيف نسب الفرقتين. فأمّا أبو منيع فالحديث في رياستهم في قومهم أنّ جدّهم رجاء بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم بوشباك وأبو محمد [5] وملالة وأنّ رياسته بعده كانت لابنه بوشباك، ثم ابنه أبي منيع من بعده، ثم لابنه حسن بن أبي منيع، ثم لابنه محمد بن حسن، ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما أبي عنّان [6] إلى أن كان ما نذكر. وأمّا أولاد حجاف فكانت أوّل رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح، وقبله خاله القاضي عمر بن كلى، وكان العمّال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج والمغارم بأسرها. وكان مقدّمهم لأوّل دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منيع، وهو موسى بن حسن. وكان المديوني قائد السلطان واليا عليهم، وارتاب بهم بعض الأيام وأحبّوا الثورة به، فدسّ بها إلى السلطان في بعض حركاته، وغزاهم بنفسه ففرّوا، وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبّض عليهم فقتلوا. ثم رجع الأمير وولّى موسى بن حسن. ولمّا هلك تولّى بعده أخوه أبو عنّان، وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوبا إلى الخير والعفاف. وهلك سنة اثنتين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقد سكنت الهيعة.
[2] وفي نسخة ثانية: آثار المشيخة.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: توجن وبني ورياجن.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: جحاف.
[5] وفي نسخة ثانية: بوساك ويحمد وملالت.
[6] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: علّان.(6/603)
وأربعين وسبعمائة وولي بعده ابنه الآخر أبو زيان. ثم ولي بعدهما ابن عمّهما مولاهم ابن محمد. ووفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مرّ. ثم هلك فولي بعده من بني عمّهم حسّان بن هجرس، وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد حجاف المذكور فعزله، وأقام في ولايته إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فثار به على الحامة وقتلوا عمر بن كلبى القاضي، وولّوا عليهم حسّان بن هجرس واليهم.
وثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجّاج بن يوسف بن وشاح وهو الآن مقدّمها يعطي طاعة معروفة، ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ عن المصدوقية والغلب والاستيلاء، قد أحاط به من كل جهة. وأملي عليّ بعض نسّابتهم أنّ مشيخة أهل الحامة في بني بوشباك. ثم في بني تامل بن بوشباك. وأنّ تأمل رأس عليهم وأنّ وشاحا من ولد تأمل وأن بني وشاح، على فرقتين: بنو حسن وبنو يوسف، وحسّان ابن هجرس ومولاهم وعمر أبو علّان كلّهم من بني حسن، ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف، وهذا مخالف للأوّل، والله أعلم بالصحيح في أمرهم. وأمّا نفزاوة وأعمال قسطيلية فتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المعروفة السير، يعترض بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة في الاعتساف، ولها معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك، وربما يضل خائضها فتبتلعه. ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر الذين بقوا لك بعد انقراض جمهورهم، ولحق العرب بسائر بطون البربر، ومعهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمّة والجزية وبها الآن أعقابهم. ثم نزل عليهم من أعراب الشريد وزغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن، وملكوا بها العقار والمياه وكثرت نفزاوة، وهم لهذا العهد عامّة أهلها وليس في نفزاوة هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى أعمال توزر ورياستها. هذا حال المتقدّمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصيّة أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها، وفي عداد ولاتها ومواليها، والله متولي الأمور أهـ
.(6/604)
(الخبر عن بني مكي رؤساء قابس وأعمالها)
كانت قابس هذه من ثغور إفريقية ومنتظمة في عمالتها، وكان ولاتها من القيروان أيام الأغالبة والعبيديّين وصنهاجة من لدن الفتح، ولمّا دخل الهلاليون إفريقية واضطربت أمورها واقتسمت دولة صنهاجة الطوائف، انتزى بقابس وصنهاجة المعز ابن محمد الصنهاجي وأدال منه مونّس بن يحيى الصنبري من مرداس رياح بأخيه إبراهيم إلى أن هلك. وولي أخوه القاضي ابن إبراهيم، ثم نازلة أهل قابس فقتلوه أيام تميم بن المعز بن باديس فبايعوا لعمر بن المعز بن باديس كان مخالفا على أخيه، وذلك سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ثم غلبه عليها أخوه تميم وكان معتلقا [1] للعرب.
وكانت قابس وضواحيها في قسم زغبة من عرب هلال. ثم غلبتهم رياح عليها ونزل مكن بن كامل بن جامع من بني دهمان وأخوه مادع [2] وهما معا من بني علي إحدى بطون رياح فاستحدث بها ملكا لقومه بني جامع وأورثه بنيه إلى أن استولى الموحّدون على إفريقية وبعث عبد المؤمن عساكره إلى قابس ففرّ عنها مدافع بن رشيد آخرهم وانتظمها كما ذكرناه في أخبارهم وملكها، وانقرض ملك بني جامع وصارت قابس وأعمالها للموحّدين، وكان ولاة إفريقية من السادة يولّون عليها من الموحّدين إلى أن تغلّب بنو غالية [3] وقراقش على طرابلس وقابس وأعمالها، وكان ما ذكرناه في أخبارهم. ثم غلب الموحّدون يحيى بن غانية عليها وأنزلوا بها عمّالهم. ولمّا دعا بنو أبي حفص إلى إفريقية المرّة الثانية بعد مهلك الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وعقد العاقل [4] على إفريقية لابنه أبي محمد عبد الله عقد معه على قابس للأمير أبي زكريا أخيه فنزلها أميرا. ثم كان من شأن استبداده وخلعه لأخيه ولطاعة بني عبد المؤمن ما ذكرناه. وكان مشيخة قابس لذلك العهد في بيت من بيوتاتها، وهم بنو مسلم ولم يحضرني ممن نسبهم. وبنو مكي ونسبهم في لواتة وهو مكي بن فرح [5] بن زيادة الله
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مغلبا.
[2] وفي نسخة ثانية: أخوه فادغ.
[3] وفي نسخة ثانية: بنو غانية.
[4] وفي نسخة ثانية: العادل.
[5] وفي النسخة الباريسية: مراج وفي نسخة أخرى: فراج.(6/606)
ابن أبي الحسن بن محمد بن زيادة الله بن أبي الحسين [1] اللواتي. وكان بنو مكي هؤلاء خالصة للأمير أبي زكريا. ولما اعتزم على الاستبداد دخل أبو القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي وتولّى له أخذ البيعة على الناس وكان له ولقومه بذلك مكان من المولى أبي زكريا، رعى لهم ذمّتها ورفع من شأنهم بسببها، ورموا بني سليم نظراءهم في رياسة البلد بضغائنهم [2] إلى ابن غانية فأخمدوا مالهم بماله ومحوا آثارهم واستقلوا بشورى بلدهم. وأقاموا على ذلك أيام المولى أبي زكريا الأوّل وابنه المستنصر. ثم كان ما قدّمناه من مهلك الواثق بن المستنصر وبنيه على يد عمّهم السلطان أبي إسحاق. وكان من أمر الداعي بن أبي عمارة، وكيف شبّه على الناس بالفضل بن المخلوع بحيلة من مولاه نصير. رام أن يثأر بها من قاتلهم فتمّت مكيدته في ذلك لما أراده الله. ولما أظهر نصير أمره وتسايلت العرب إلى بيعته خطب لأوّل أمره رئيس قابس لذلك العهد من بني مكي عبد الملك بن عثمان بن مكي فسارع إلى طاعته وحمل الناس عليها، وكانت له بذلك قدم في الدولة معروف رسوخها.
ولما ألقى الداعي بن أبي عمارة جسدا [3] على كرسي الخلافة سنة إحدى وثمانين وستمائة قلّده خطة الجباية بالحضرة مستقلّا فيها بالولاية والعزل والفرض والتقدير والحسبان بعد أن أجزل من بيت المال عطاءه وجرايته وأسنى رزقه وأهدى الجواري من القصر إليه. ولمّا هلك الداعي واستقلّت قدم الخلافة من عثارها كما قدّمناه سنة ثلاث وثمانين وستمائة لحق عبد الحق بن مكي ببلده وامتنع بها على حين ركود ريح الدولة وفشلها، ومرض في طاعته ودافع أهل الدولة بالدعاء للخليفة على منابره. ثم جاهر بالخلعان سنة ثلاث وتسعين وستمائة وبعث بطاعته إلى صاحب الثغور المولى أبي زكريا الأوسط. وهلك ابنه أحمد ولي عهده سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم هلك هو من بعده على رأس المائة السابعة، وتخلّف حافده مكيا فنصّبوه يفعة. وكفله ابن عمّه يوسف بن حسن وقام بالأمر مستبدّا عليه إلى أن هلك، وخلفه في كفالة أحمد بن ليدان [4] من بيوت أهل قابس أصهار بني مكي التاث أمرهم بمهلك يوسف فنقلهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبي الحسن.
[2] وفي نسخة أخرى: بصاغيتهم إلى ابن غانية، فأخمدوا ذبالهم واستقلوا بشورى بلدهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: حسدا.
[4] وفي نسخة ثانية: أحمد بن ليران.(6/607)
السلطان ابن اللحياني إلى الحضرة، وأقاموا بها أياما، ثم ردّهم إلى بلدهم أيام مجافاته عن تونس وخروجه إلى ناحية قابس.
ثم هلك خلال ذلك مكي، وخلّف صبيين يافعين عبد الملك وأحمد فكفلهما ابن ليدان إلى أن شبّا واكتهلا، ولهما من الامتناع على الدولة والاستبداد بأمر القطر والاقتصار على الدعاء للخليفة مثل ما كان لأبيهما وأكثر لتقلّص ظل الملك عن قطرهم، وشغل السلطان بمدافعة يغمراسن وعساكرهم عن الثغور الغربية، اجلابهم بالأعياص من أهل البيت على الحضرة، ولما هلك السلطان أبو يحيى اللحياني بمصر قفل ابنه عبد الواحد إلى المغرب يحاول أسباب الملك، ونزل بساحتهم على ما كان من صنائع أبيه إليهم فذكروا العهد، وأوجبوا الحق وآتوا بيعتهم. وقام كبيرهم عبد الملك بأمره ودعا الناس إلى طاعته، وخالف السلطان أبا يحيى عند نهوضه إلى الثغر ببجاية سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة كما قدّمناه، فدخل الحضرة ولبث بها أياما لم تبلغ نصف شهر، وبلغ خبرهم إلى السلطان فانكفأ راجعا وفرّوا إلى مكانهم من قابس، والدولة تنظر إليهم الشزر وتتربص بهم الدوائر إلى أن غلب السلطان أبو الحسن على تلمسان ومحا دولة آل يغمراسن، وفرغت الدولة من شأنهم إلى تمهيد أعمالهم وتقويم المنحرفين عن الطاعة من ولاتها.
وقفل حمزة بن عمر بشفاعة السلطان أبي الحسن إلى السلطان أبي يحيى في شأنه فتقبّل وسيلته واستخلصه لنفسه من بعدها، واستقام هو على الطاعة التي لم تجد وليجة عنها، وسلك سبيله تلك أقتاله من الدولة الطائحين في هوة الشقاق، فأوفده عبد الملك هذا شقيقه أحمد على السلطان أبي الحسن متنصّلا من ذنوبه لائذا بشفاعته متوسلا بما قدمناه من خدمته حظاياه في طريقهن إلى الحج ذاهبا وجائيا، فخاطب السلطان أبا يحيى في شأنه وأعاده إلى مكانه من اصطناع سلفه واستقام على طاعته.
ولما انتظم السلطان أبو يحيى سائر البلاد الجريدية في ملكه وعقد عليها لابنه أبي العباس ولي عهده، وأنزله دار إمارتها مترددا ما بين توزر وقفصة إلى أن قفلت عمته من الحج سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخرج للقائها مختفيا بين الظعائن فجمعه مجلسها بأحمد بن مكي كان قد اعتمد تلقّيها والقيام بصحابتها في مراحل سفرها من بلده إلى آخر عمله، فمسح الأمير أبو العباس الإحف عن صدره وأدال له الأمن والرضى من توحّشه، واستخلصه لدولته ونجوى أسراره واصطفاه لنفسه وحمله رديفا(6/608)
لحاجبه، فحلّ من دولته بمكان غبطة فيه امتيازه من أمراء تلك الطوائف.
وعقد له السلطان أبو يحيى على جزيرة جربة بوسيلة أبي العبّاس ابنه، وقد كان افتتحها مخلوف بن الكماد من صنائعهم من يد العدو أهل صقلّيّة كما ذكرناه، فضمّها إليه وصيّرها في أعماله. ولم يزل هذا شأنه معه إلى أن هلك أبو العبّاس ولي العهد بتونس على يد أخيه أبي حفص عمر عند ما دخلها بعد مهلك أبيهما كما ذكرناه، ولحق أحمد بن مكي ببلده. ثم سار في وفد رؤساء الجريد إلى تلقي السلطان أبي الحسن عند نهوضه إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ولقبه معهم بوحران من أعمال تلمسان، وكان قدمه عنده فوق قدمهم. ورجع الوفد على أعقابهم محبورين. وتمسّك بأحمد بن مكي في جملته إلى الحضرة، ووفد عليه أخوه عبد الملك مؤديا طاعة السلطان، فكرّم موصله وأحسن متقبلهما جميعا إلى بلدهما على ما كان بيدهما من عمل قابس وجربة.
ثم كانت نكبة السلطان أبي الحسن على القيروان مجددا لعهد طاعته، فأرادهم السلطان على الامتنان لعبد الواحد اللحياني سلطانهم الأقدم، وعقد له على تلك الثغور الشرقية، وأنزله جربة، وأمرهما بالطاعة له ما دام في طاعته. وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحّدين على توزر وقسطيلية بعد أن كان قطعه عند ما تقبّض عليه في واقعة السلطان أبي حفص عمر. ثم استقبل رأيه في استخلاصه عند ما انتقض عليه أبو محمد بن تافراكين. ولما رجع من القيروان إلى تونس عقد له على توزر كما ذكرناه، ولعبد الواحد بن اللحياني على قابس وجربة فأسفّ بذلك بني مكي هؤلاء.
وهلك ابن اللحياني لحين نزوله بجربة بما أصابه من علّة الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة فانتقض بنو مكي على السلطان أبي الحسن ودعوا إلى الخروج عليه وبايعوا الأفضل ابن السلطان أبي يحيى عند ما أفرج عن حصار تونس سنة خمسين وسبعمائة، وداخلوا أبا القاسم بن عتو وهو إذ ذاك لم يتوزر، فأجابهم وكانت من دواعي رحلة السلطان أبي الحسن من إفريقية وتقويضه عنها كما قدمناه. ولما رجع الحاجب أبو محمد بن تافركين من المشرق، واستقلّ بأمر تونس، ونصّب الإمام أبا إسحاق ابن السلطان أبي يحيى للخلافة بها في كفالته غصوا بمكانه من التغلّب وأنفوا من استبداده، وانحرفوا إلى دعوة الأمير أبي زيد صاحب ثغر قسنطينة. ووفد عليه(6/609)
أحمد بن مكي مع محمد بن طالب بن مهلهل كبير البدو بإفريقية فيمن إليه، فاستنهضوه وقلّده الأمير أبو زيد حجابته وجعل أمره إليه. وأبرز الحاجب أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق في عساكره مع خالد بن حمزة وقومه فالتقى الجمعان بمرمجنّة وكانت الدبرة على السلطان أبي إسحاق سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وجاءوا على أثرهم فنازلوا تونس أياما وما أفرجوا عنها إلا للصائح يخبرهم باحتلال عساكر بني مرين بالمرية من آخر أعمال تلمسان، وأن السلطان أبا عنّان قد استلحم بني عبد الواد، وجمع كلمة زناتة، واستقام له أمر المغربين. وأطلّ على الثغور الشرقية فافترق جمعهم. ولحق الأمير أبو زيد بقسنطينة، وأحمد بن مكي بقابس، وسأل من الأمير أبي زيد أن يقسّم رسم الإمارة بينهم في قابس وجربة بأخيه السلطان أبي العباس فأذن له في ذلك، فكانت أول ولايته السعيدة ومضى إلى قابس فنزلها، ثم أجاز البحر إلى جربة، ودفع عنها العسكر الّذي كان محاصرا للقشتيل من قبل ابن ثابت صاحب طرابلس، ورجع إلى قابس حتى كان من أمره ما ذكرناه.
وأوفد السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى زكريا على أبي عنان ملك المغرب صريخا على شأنه، وأوفد ابن مكي رسله متذمّما ومذكرا بوسائله فتقبّل وأغضى. ثم كانت واقعة العدو دمّره الله بطرابلس سنة أربع وخمسين وسبعمائة كما قدّمناه فبعث إلى السلطان أبي عنّان يسأله فديتها والنظر لها من بين ثغور المسلمين، فحمل إليه خمسة أحمال من الذهب العين من بيت المال، أوفد بها من أعيان مجلسه: الخطيب أبا عبد الله بن المرزوق، وأبا عبد الله محمد حافد المولى أبي علي عمر بن سيد الناس.
وعقد لأحمد بن مكي على طرابلس فاستقل بها، وعقد لأخيه عبد الملك على قابس وجربة وأقاموا على دعوته. ومدّ أحمد يده إلى صفاقس فتناولها وتغلب عليها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وهلك السلطان أبو عنّان وقد شرق صدر ابن تافراكين الغالب على الحضرة بعدا وتهما فردّد عليهما برا وبحرا إلى أن استخلص جزيرة جربة من أيديهما أعوام أربعة وستين وسبعمائة وعقد عليها لولده محمد فاستخلف بها كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون من صنائع الدولة كما ذكرناه.
وهلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة على تفيئة مهلك الحاجب بن تافراكين بالحضرة فكأنهما ضربا موعدا للهلكة وتوافياه. وتخلّف ابنه عبد الرحمن(6/610)
بطرابلس في كفالة مولاه ظافر العلج، وهلك ظافر إثر مهلكه فاستبدّ عبد الرحمن بطرابلس وساءت سيرته فيها إلى أن نازلة أبو بكر بن محمد بن ثابت في أسطوله كما نذكر سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. وأجلب عليه بالبرابرة والعرب من أهل الوطن فانتقض عليه أهل البلد وثاروا به. وبادر أبو بكر بن ثابت لاقتحامها عليه وأسلموه إلى أمير من أمراء دباب فأجاره إلى أن أبلغه مأمنه من محلة قومه، وإيالة عمّه عبد الملك بقابس إلى أن هلك سنة تسع وسبعين وسبعمائة ولم يزل عبد الملك لهذا العهد وهو سنة إحدى وثمانين وسبعمائة واليا على عمله بقابس وابنه يحيى مستبدّ بوزارته، وحافده عبد الوهاب لابنه مكي رديف له، وقد تراجعت أحوالهم عما كانت وخرجت من أيديهم الأعمال التي كانت في عمالتهم لعهد أخيه أحمد مثل طرابلس وجزيرة جربة وصفاقس وما إلى ذلك من العمالات حتى كان التخت [1] إنما كان لأخيه، واليمن إنما اقترن بحياته وسيرتهما جميعا من العدالة وتحرّي مذاهب الخير والسمت، والاتسام بسمات أهل الدين حملة [2] الفقه معروفة حتى كان كل واحد منهم إنما يدعى بالفقيه علما بين أهل عصره حرصا على الانغماس في مذاهب الخير وطرقه. وكان لأحمد حظّ من الأدب، وكان يقرض الأبيات من الشعر فيجيد عفا الله عنه. وله في الترسيل حظّ ووساع بلاغة رسومها، وينحو في كتابه منحى أهل المشرق في أوضاع حروفهم وأشكال رسومها، ولأخيه عبد الملك حظّ من ذلك شارك به جهابذة أهل عصره وأفقه ولما انتظم السلطان أبو العبّاس أمصار إفريقية في ملكه واستبدّ بالدعوة الحفصيّة على قومه داخل أهل الجريد منه الروع، وفزعوا إليه للمعارضة في الامتناع فداخلهم في ذلك وأشاروا إلى صاحب تلمسان بالترغيب في إفريقية فعجز عنهم وألحّوا عليه فخام عن العداوة. وزحف مولانا السلطان خلال ذلك إلى الجريد فملك قفصة وتوزر ونفطة فبادر ابن مكي إلى التلبّس بالاستقامة وبعث إليه بالطاعة. ثم رجع السلطان إلى الحضرة فرجع هو عن المصدوقة واتّهم أهل البلد بالميل إلى السلطان فتقبّض على بعضهم وفرّ آخرون. وانتقض عليه بنو أحمد أهل ضواحيه من دباب فنازلوه وبعثوا إلى الأمير الأكبر بقفصة في العسكر لمنازلته، فبعثه إليهم وأحاطوا به.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: البحث.
[2] وفي نسخة ثانية: حلية الفقه.(6/611)
ثم انتهز الفرصة ودخل بعض العرب من بني عليّ في تبييت المعسكر، وبذل لهم في ذلك المال فبيّتوه وانفض وبلغ الخبر إلى السلطان فخرج من حضرته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ونزل القيروان وتوافت الفئتان [1] وبعث رسله للأعذار بين يديه فردّهم ابن مكي بالطاعة ثم احتمل رواحله ونزل بأحياء العرب. وأغذّ السلطان السير إلى البلد فدخلها واستولى على قصورها، ولاذ أهل البلد بالبيعة فآتوها واستعمل عليهم من بطانته وانكفأ راجعا إلى تونس. وهلك عبد الملك لأيام قلائل بين أحياء العرب.
وهلك بعده ابنه عبد الرحمن وابن أخيه أحمد الّذي كان صاحب طرابلس بعد أبيه، ولحق ابنه يحيى وحفيده عبد الوهاب بطرابلس فمنعهم ابن ثابت من النزول ببلده لما كان متمسكا بطاعة السلطان، فنزلوا بزنزور من بلاد دباب التي بضواحيها وأقاموا هنالك. واستقامت النواحي الشرقية على طاعة السلطان وانتظمت في دعوته والله مالك الملك.
ثم ذهب يحيى بن عبد الملك إلى المشرق لقضاء فرضه، وأقام عبد الوهاب بين أحياء البرانس [2] بالجبال هنالك، وكان الوالي الّذي تركه السلطان بقابس قد ساء أثره في أهلها، فدسّ شيعتهم إلى عبد الوهاب بذلك وجاء إلى البلد فبيّتها، وثاروا بالوالي فقتلوه سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وملك عبد الوهاب قابس وجاء أخوه [3] يحيى من المشرق بعد قضاء فرضه، فأجلب عليه مرارا يروم ملكها منه، ولم يتهيّأ له، ونزل على صاحب الحمّة فداخله عبد الوهاب في أن يمكّنه منه، ويشرط ما شاء. وتم ذلك بينهما وأوثقه كتافا وبعث به إليه واعتقله بقصر العروسيّين، فمكث في السجن أعواما. ثم فرّ من محبسه ولحق بالحامة على مرحلة من قابس مستنجدا بابن وشّاح صاحبها، فأنجده. وما زال يجلب على نواحي قابس إلى أن ملكها وتقبّض على عبد الوهاب ابن أخيه مكي فقتله أعوام تسعين وسبعمائة. ولم يزل مستبدّا ببلده إلى سنة ست وتسعين وسبعمائة وكان عمر ابن السلطان أبي العبّاس قد بعثه أبوه لحصار طرابلس فحاصرها حولا كما نذكره، حتى استقام أهلها على الطاعة وأعطوا الضريبة فأفرج عنها. ورجع إلى أبيه فولّاه على صفاقس وأعمالها فاستقل بها، ثم دخل أهل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وتوافت إليه احاديات.
[2] وفي نسخة ثانية: بين أحياء العرب.
[3] وفي النسخة الباريسية: عمّه يحيى.(6/612)
الحامة في ملك قابس فأجابوه وساروا معه فبيّتها ودخلها وقبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه، وانقرض أمر بني مكي من قابس، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، وهو خير الوارثين.
(الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس واعمالها)
قد تقدّم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي، وأن عمرو بن العاص هو الّذي تولّى فتحه، وبقي بعد ذلك من جملة أعمال إفريقية، تنسحب عليه ولاية صاحبها، فلم يزل ثغرا لهذه الأعمال من لدن إمارة عقبة ومن بعده وفي دول الأغالبة. وكان المعزّ لدين الله من خلفاء الشيعة لمّا ارتحل إلى القاهرة، وعقد على إفريقية لبلكّين ابن زيري بن مناد أمير صنهاجة، عقد على طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة. ثم لمّا ولي نزار الخلافة سنة سبع وستين وثلاثمائة طلب منه بلكّين أن يضيف عمل طرابلس إلى عمله فأجاب وعهد له بها، وولّى عليها بلكّين من رجالات صنهاجة. ثم عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكّين ليأنس الصقليّي سنة تسعين وثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة، وأعانه على ذلك برجوان الصقليي المتغلّب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس، فوصل إليها في ألف وخمسمائة فارس فملكها، فسرّح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من صنهاجة، وتزاحفا يومين بساحة زنزور، ثم انفضّ عسكر يأنس في الثالث وقتل، ولحق فلّه بطرابلس فاعتصموا بها. ونازلهم جعفر بن حبيب القائد، وزحف فلفول بن سعيد ابن خزرون الثائر على باديس وابنه بإفريقية إلى قابس فحاصرها.
ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر ولحق بنفوسة، وأميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم، ثم لحق بالقيروان ومضى فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يأنس فملكوه، وقام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة وأوطنها. وعقد الحاكم عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من الأندلس فوصل إليها واستظهر بفلفول على بجاية، ونازل قابس فامتنعت عليه. ثم عجز عن الولاية ورأى استبداد(6/613)
فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر، واستبدّ فلفول بطرابلس وتداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدّوا بها آخرا. ودخل العرب الهلاليّون إلى إفريقية فخرّبوا أوطانها وطمسوا معالمها. ولم تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل صاحب أسطول رجّار ملك صقلّيّة من الإفرنج سنة أربعين وخمسمائة، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم كما فعل في سواحل إفريقية فأقاموا في ملكة النصارى أياما. ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من أعيانهم وفتكوا بهم. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه ابن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة وردّهم إلى بلدهم، وولّى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنّه وعجز. وارتحل إلى المشرق سنة ست وثمانين وخمسمائة بإذن السيد زيد بن عمر بن عبد المؤمن عامل إفريقية من قبل عمّه يوسف واستقر بالإسكندريّة.
وتعاقبت عليها ولاة الموحدين، ثم كان من أمر ابن غانية وقراقش ما قدّمناه، وصارت طرابلس لقراقش. ثم استبد بنو أبي حفص بإفريقية على بني عبد المؤمن.
وهلك قراقش وابن غانية، وانتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن انقسمت دولتهم، واقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة. وفشل ريح الدولة بعض الشيء وتقلّص ظلّها عن القاصية، فصارت رياسة طرابلس إلى الشورى ولم يزل العامل من الموحّدين يجيء إليها من الحضرة إلّا أنّ رئيسها من أهلها مستبدّ عليها، وحدثت العصبيّة في البلد لحدوث الشورى والمنافسة فيها. ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة وسبعمائة حين تجافى عن ملك الحضرة، وأحسّ بزحف السلطان أبي يحيى صاحب بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس، وأقام بها وأقام أحمد بن عربي من مشيختها بخدمته.
ولما فارق ابن اللحياني تونس ويئس الموحدون من عوده أخرجوا ابنه محمد المكنّى بأبي ضربة من الاعتقال، وبايعوا له. وخرج للقاء السلطان أبي بكر ومدافعته فهزمه السلطان أبو بكر وحمله الأعراب الذين معه على قصد طرابلس لانتزاع الأموال والذخائر الملوكيّة من يد أبيه. ولما أحسّ بذلك أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره، واستخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام بأمرها، وولّى حجابته رجلا من أهله يشهر(6/614)
بالبطيسي، فساء أثره في أهل طرابلس، وحجب عنهم وجه الرضى من سلطانه، وحمله على مصادرتهم واستخلاص أموالهم حتى أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجيا منهم بعد أن تعرّض بعضهم لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته، وقتلوا قاضيا بطرابلس من أهل تونس كان يمالئ على ذلك. وتولّى كبر ذلك أحمد بن عربي. ثم هلك وقام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد ابن طاهر المزوغي وملك أمر البلد، وكان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه. واستقلّ ابن طاهر بأمر طرابلس اثنتي عشرة سنة. ثم هلك وقام بأمرها ثابت ابن عمّار الزكوجي من قبائل هوّارة. وثار به لستة أشهر من ولايته أحمد بن سعيد بن طاهر فقتله واستبدّ به. ثم ثار به جماعة زكوجة وقتلوه في مغتسله عند الآذان بالصبح، وولّوا محمدا ابن شيخهم ثابت بن عمّار أعوام سبعة وعشرين فاستبدّ بأمر طرابلس نحوا من عشرين سنة وظل الدولة متقلّص عنه. وهو يغالط عن الإمارة بالتجارة والاحتراف بها ولبوس شارتها، والسعي راجلا في سكك المدينة يتناول حاجاته وما عونه بيده ويخالط السوقة في معاملاته، يذهب في ذلك مذهب التخلّق والتواضع يسر منه حسوا في ارتغاء، ويطلب العامل من تونس، فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم عنده معتملا في تصريفه. وهو يبرأ إليه ظاهرا من الأحكام والنقض والإبرام إلى أن كان تغلّب بني مرين على إفريقية. ووصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة على ما نذكره، فداوله طرف الحبل وهو ممسك بطرفه، ونقل إلى الإسكندرية ماله وذخيرته. ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه، وثار منهم للحين بطانته وشيعه. وولي بعده ابنه ثابت، فتزيّا بزي الإمارة في اللبوس والركوب بحلية الذهب، واتخاذ الحجاب والبطانة.
وأقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجّار النصارى أغفلوا أمرهم لكثرة طروقهم وتردّدهم في سبيل التجارة، وكثرة ما يغشاها من سفنهم، فغدروا ليلا وثاروا فيها وكثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد. وفرّ مقدّمهم ثابت إلى حلّة أولاد مرغم أمراء الجواري في انحائها [1] فقتلوه صبرا لدمّ كان أصابه منهم في رياسته، فكانت مدته ست سنين، وقتلوا معه أخاه عمارا. واكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من
__________
[1] كذا، وفي ب: انجابها.(6/615)
الذخيرة والمتاع والخرثيّ والماعون، وشحنوا السفن بها وبالأسرى من العقائل والحامية مصفّدين، وأقاموا بالبلد أياما على قلقة [1] ورهب من الكرّة لو كان لها رجال. ثم تحدّثوا مع من جاورها من المسلمين في فدائها فتصدّى لذلك صاحب قابس أبو العبّاس أحمد بن مكي وبذل لهم فيها خمسين ألفا من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين بالبلاد الجريدية تزلفا إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر، وذلك سنة [2] وخمسين ولحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة، وقام بأمره ولده عبد الرحمن.
فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه، وذكر عهود الصبا في معاهد قومه فاكترى من النصارى سفنا شحنها بصنائعه وموالي أبيه، ونازلها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة في أسطول من أساطيلهم. واجتمع إليه ذؤبان العرب ففرّق فيهم الأموال وأجلب عليها بمن في قراها وأريافها من الرجل، فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة، وأجاره العرب من أولاد مرغم بن صابر، تولّى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمّه عبد الملك بمكان إمارتهم بقابس.
واستوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا، واستقلّ بولايتها. ودخل في طاعة السلطان أبي العبّاس بتونس، وخطب له على منابرة، وقام يصانعه بما للسلطان من الضريبة، ويتحفه حينا بعد حين بالهدايا والطرف إلى أن هلك سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وولي مكانه علي ابن أخيه عمّار، وقام بكفالته عمّه. وكان قائده قاسم ابن خلف الله متّهما بالتشيع للصبي المخلف عن أبي يحيى، فارتاب ودفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة، فتوحّش الخليفة من علي وانتقض. ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس، ثم استوحش وطلب الحج فخلّوا سبيله وركب البحر إلى الإسكندرية. ولقي بها خالصة السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمّة، وكرّ راجعا في السفين إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس. فلما مرّ بهم راسلوه ولاطفوه واستعادوه إلى مكانه فعاد إليهم. ثم جاءته النذر بالهلكة ففرّ، ولحق السلطان بتونس واستحثّه لملك طرابلس. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعث معه ابنه
__________
[1] كذا، والأصح: قلق.
[2] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.(6/616)
الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل بساحتها، وافترق عرب دباب عليه وعلى ابن ثابت، وقام ابن خلف الله في خدمته المقام المحمود، ووفّر له جباية الوطن ومغارمه ونقل العرب إلى طاعته ويستألفهم به، وأقام عليها حولا كريتا [1] يمنع عنهم الأقوات ويبرزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان. ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم لعدّة أعوام نائطة [2] وكان قد ضجر من طول المقامة فرضي بطاعتهم وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة فولّاه على صفاقس وافتتح منها قابس كما قدمناه. وأقام عليّ بن عمّار على إمارته بطرابلس إلى هذا العهد، والله مدبّر الأمور بحكمته.
هذا آخر الكلام في الدولة الحفصيّة من الموحّدين وما تبعها من أخبار المقدّمين المستبدّين بأمصار الجريد والزاب والثغور الشرقية، فلنرجع إلى أخبار زناتة ودولهم، وبكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى.
تم طبع الجزء السادس ويليه الجزء السابع
__________
[1] حولا كريتا أي كاملا.
[2] النائط معلق كل شيء. ويقال مفازة بعيدة النياط: أي الحد. وأظنه يقصد بها هنا: لعدة أعوام غير محدودة.(6/617)
[المجلد السابع]
[تتمة كتاب الثالث]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الخبر عن زناتة من قبائل البربر وما كان بين أجيالهم من العز والظهور وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة
هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد معروف العين والأثر، وهم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل والتغلّب في الأرض وإيلاف الرحلتين، وتخطّف الناس من العمران والإباية عن الانقياد للنصفة.
وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة [1] البربر. ومواطنهم في سائر مواطن البربر بإفريقية والمغرب، فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى حتى أنّ عامة تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره. ومنهم قوم بالتلول بجبال طرابلس وضواحي إفريقية، وبجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد، وأذعنوا لحكمهم، والأكثر منهم بالمغرب الأوسط حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال: وطن زناتة. ومنهم بالمغرب الأقصى أمم أخرى، وهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربين، وكانت لهم فيه دول أخرى في القديم، ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل شعب منهم إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رطاناتهم.(7/3)
(الخبر عن نسبة زناتة وذكر الخلاف الواقع فيه وتعديد شعوبهم)
أمّا نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسّابتهم أنهم من ولد شانا وإليه نسبهم، وأمّا شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة، قال بعضهم: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر [1] . وقال أيضا في كتاب الجمهرة ذكر لي يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بإفريقية أيام الناصر قال: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن مقبو بن قروال بن يملا بن مادغيس بن رحيك [2] بن همرحق ابن كراد بن مازيغ بن هراك بن هرك بن برا بن بربر بن كنعان بن حام هذا ما ذكره ابن حزم. ويظهر منه أنّ مادغيس ليس نسبة إلى البربر وقد قدّمنا ما في ذلك من الخلاف، وهو أصح ما ينقل في هذا الآن ابن حزم موثوق ولا يعدل به غيره.
(ونقل) عن ابن أبي ريد وهو كبير زناتة ويكون البربر على هذا من نسل برنس فقط، والبتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر ومنهم زناتة وغيرهم كما قدّمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن حام كما يظهر من هذا النسب.
(ونقل) عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في رواية أن
__________
[1] ورد في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 495 ان زناتة هو شانا ابن يحيى بن صولات بن ورتناج بن ضري بن سقفو بن جنذواذ بن يملا بن مادغيس بن هرك بن هرسق بن كراد بن مازيغ بن هراك بن هريك بن بدا بن بديان بن كنعان بن حام بن نوح النبي (صلّى الله عليه وسلم) .
[2] كذا في قبائل المغرب وفي نسخة أخرى من ابن خلدون زجيك وفي مراجع أخرى زجيك (الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للشيخ أبي العباس أحمد بن خالد الناصري) .(7/4)
زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت، وجالوت هو ونور بن جرييل [1] بن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصي بن باد بن رحيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان.
(وفي) رواية أخرى عنه أنّ جالوت بن جالود بن بردنال [2] بن قحطان بن فارس، وفارس مشهور.
(وفي) رواية أخرى عنه أنه ابن هربال [3] بن بالود بن ديال بن برنس بن سفك، وسفك أبو البربر كلهم، ونسّابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم من حمير، ثم من التبابعة منهم [4] . وبعضهم يقول أنّهم من العمالقة، ويزعمون أنّ جالوت جدّهم من العمالقة، والحقّ فيهم ما ذكره أبو محمد بن حزم أوّلا وما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح. فأمّا الرواية الأولى عن أبي محمد بن قتيبة فمختلطة وفيها أنساب متداخلة.
وأمّا نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدّم في أوّل كتاب البربر عند ذكر أنسابهم وأن أبناء قيس معروفون عند النسّابة. وأمّا نسب جالوت إلى قيس فأمر بعيد عن القياس، ويشهد لذلك أنّ معدّ بن عدنان الخامس من آباء قيس إنما كان معاصرا لبخت نصّر كما ذكرناه أوّل الكتاب. وأنّه لما سلّط على العرب أوحى الله إلى أرمياء نبيّ بني إسرائيل أن يخلّص معدّا ويسير به إلى أرضه، وبخت نصّر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة وخمسين من السنين، فإنه خرّب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان له بمثل هذه المدّة.
فمعدّ متأخّر عن داود بمثلها سواء، فقيس الخامس من أبنائه متأخّر عن داود بأكثر من ذلك، فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخّر عن داود بأضعاف ذلك الزمن. وكيف يكون ذلك مع أنّ داود هو الّذي قتل جالوت بنصّ القرآن؟
(وأمّا) إدخاله جالوت في نسب البربر، وأنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: هرييل.
[2] وفي نسخة أخرى: بن ديّال.
[3] وفي نسخة أخرى: ابن هوبال.
[4] يقول ابن حزم في الجمهرة: (وادعت طوائف منهم إلى اليمن، الى حمير، وبعضهم إلى برّ بن قيس عيلان وهذا باطل لا شك فيه ... وما علم النسابون لقيس عيلان ابنا اسمه برّ أصلا. ولا كان لحمير طريق الى بلاد البربر، إلّا في تكاذيب مؤرخي اليمن) . ص 495.(7/5)
وكذلك من نسبه إلى العمالقة. والحق أنّ جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح، وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام. وكان بين بني فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل حروب كثيرة، وكان بالشام كثير من البربر إخوانهم، ومن سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها، ودثرت أمّة فلسطين وكنعان وشعوبهما لهذا العهد، ولم يبق إلّا البربر، واختص اسم فلسطين بالوطن الّذي كان لهم فاعتقد سامع اسم البربر مع ذكر جالوت أنه منهم وليس كذلك.
(وأمّا) ما رأي نسّابة زناتة أنهم من حمير فقد أنكره الحافظان أبو عمر بن عبد البرّ وأبو محمد بن حزم وقالا ما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في أكاذيب مؤرخي اليمن، وإنما حمل نسّابة زناتة على الانتساب في حمير الترفّع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد خولا وعبيدا للجباية وعوامل الخراج، وهذا وهم فقد كان في شعوب البربر من هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشدّ منهم مثل هوّارة ومكناسة، وكان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة ومن تلقّف الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة، كل هؤلاء كانوا أشدّ قوّة وأكثر جمعا من زناتة. فلمّا فنيت أجيالهم أصبحوا مغلّبين فنالهم ضرّ المغرم، وصار اسم البربر مختصّا لهذا العهد بأهل المغرم، فأنف زناتة منه فرارا من الهضيمة.
وأعجبوا بالدخول في النسب العربيّ لصراحته وما فيه من المزيّة بتعدد الأنبياء ولا سيما نسب مضر وأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن شيث بن آدم، خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع خروجهم عن نسب إبراهيم الّذي هو الأب الثالث للخليقة إذا الأكثر من أجيال العالم لهذا العهد من نسله. ولم يخرج عنه لهذا العهد إلّا الأقل مع ما في العربية أيضا من عزّ التوحّش، والسلامة من مذمومات الخلق بانفرادهم في البيداء. فأعجب زناتة نسبهم وزيّنه لهم نسّابتهم، والحق بمعزل عنه، وكونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب والعز، فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك وأعظم منه. وأيضا فقد تميّزت الخليقة وتباينوا بغير واحد من الأوصاف، والكلّ بنو آدم ونوح من بعده. وكذلك تميّزت العرب وتباينت شعوبها والكلّ لسام ولإسماعيل بعده.
(وأمّا) تعدّد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يضرّك الاشتراك(7/6)
مع الجيل [1] في النسب العام إذا وقعت المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم، مع أنّ المذلّة للبربر إنما هي حادثة بالقلّة ودثور أجيالهم بالملك الّذي حصل لهم، ونفقوا في سبله وترفه كما تقدّم لك في الكتاب الأوّل من تأليفنا. وإلّا فقد كان لهم من الكثرة والعزّ والملك والدولة ما هو معروف.
(وأمّا) أنّ جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح وبعيد عن الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان. عمالقة من ولد عيصو بن إسحاق، ولم تكن لهم كثرة ولا ملك، ولا نقل أنّ أحدا منهم انتقل إلى المغرب بل كانوا لقلّتهم ودثور أجيالهم أخفى من الخفاء. والعمالقة الأخرى كانوا من أهل الملك والدولة بالشام قبل بني إسرائيل وكانت أريحاء دار ملكهم. وغلب عليهم بنو إسرائيل وابتزّوهم ملكهم بالشام والحجاز وأصبحوا حصائد سيوفهم، فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة الذين دثرت أجيالهم؟ وهذا لو نقل لوقع به الاسترابة فكيف وهو لم ينقل؟ هذا بعيد في العبادة والله أعلم بخلقه.
(وأمّا) شعوب زناتة وبطونهم فكثير [2] ولنذكر المشاهير منها (فنقول) : اتفق نسّاب زناتة على أنّ بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا وهم: ورسيك وفرني والديرت [3] . هكذا في كتب أنساب زناتة. (وذكر) أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نيّابتهم مسّارت ورغاي وواشروجن، ومن واشروجن واريغن بن واشروجن. وقال أبو محمد بن حزم في ولد ورسيك أنهم مسارت وناجرت وواسين [4] .
(وأمّا) فرني بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة يزمرتن ومرنجيصة ووركلة ونمالة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مع أهل الجيل.
[2] قوله: وأمّا شعوب إلخ. بهامش ما نصّه من هنا إلى الشجرة الآتية أسماء بربرية لا يمكن ضبطها بل ولا النطق بها كما هي في لسانهم ولا يتعلق بها غرض مهم. أهـ. (كتبه حسن العطار) ونزيد بأن هذه الأسماء تختلف من مرجع الى آخر من المراجع التي تناولت تاريخ البربر وهذا التحريف في الأسماء ليس له أي أهمية في سرد الحوادث التاريخية ولكن رأينا أن نشير الى هذه الأسماء لاطلاع القارئ الكريم الى هذا الاختلاف.
[3] وفي نسخة ثانية: ورشيل وفريني والديدت. وفي جمهرة أنساب العرب ورسيج والدّيديت وفريني (ص 496) .
[4] وفي نسخة ثانية تاجرة وراسين وفي الجمهرة: بني تاجرة وبني واسين وفي النسخة الباريسية باجرة.(7/7)
وسبرترة، ولم يذكر أبو محمد بن حزم سبرترة وذكر الأربعة الباقية. (وأمّا) الديرت ابن جانا فمن ولده عند نسّابة زنانة جداو [1] بن الديرت، ولم يذكره ابن حزم. وإنما قال عند ذكر الديرت ومن شعوبه: بنو ورسيك بن الديرت وهم بطنان دمّر بن ورسيك وزاكيا بن ورسيك قال: ودمّر لقب واسمه الغانا. قال: فمن ولد زاكيا بنو مغراو وبنو يفرن وبنو واسين. قال: وأمّهم واسين مملوكة لأمّ مغراو وهم ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ويزيد نسّابة زنانة في هؤلاء يرنيات بن يصلتن أخا لمغراو ويفرن وواسين ولم يذكره ابن حزم.
قال: ومن ولد دمّر بنو ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وذكر لبني دمّر أفخاذا سبعة وهم عرازول ولفورة وزناتين [2] ، وهؤلاء الثلاثة مختصّون بنسب دمّر، وبرزال ويصدرين وصغمان ويطوّفت، هكذا ذكر أبو محمد بن حزم وزعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الإباضي. وقال فيه: كان ناسكا عالما بأنسابهم، وذكر أنّ بني واسين وبني برزال كانوا أباضية وأنّ بني يفرن ومغراوة كانوا سنية. وعند نسّابة البربر مثل سابق بن سليمان المطماطي وهانئ بن يصدور [3] والكومي وكهلان بن أبي لوا، وهو مسطّر في كتبهم أنّ بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون وهم بنو زاكيا وبنو دمّر وآنشة بنو آنش، وكلّهم بنو وارديرن بن ورسيك، فمن زاكيا بن وارديرن أربعة بطون: مغراوة وبنو يفرن وبنو يرنيان وبنو واسين، كلّهم بنو يصلتن ابن مسرا بن زاكيا ومن آنش بن وارديرن أربعة بطون: بنو برنال وبنو صقمات وبنو يصدورين وبنو يطوفت كلّهم بنو آنش بن وارديرن ومن دمّر ابن وارديرن ثلاثة بطون: بنو تقورت وبنو عزرول وبنو ورتاتين كلّهم بنو وتيد [4] بن دمّر، هذا الّذي ذكره نسّابة البربر وهو خلاف ما ذكره ابن حزم. ويذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم ولا ينسبونهم مثل يجفش وهم أهل جبل قازاز قريب مكناسة وسنجاسن وورسيغان وتحليلة وتيسات وواغمرت وتيفراض ووجديجن وبنو بلومو وبنو وماني [5] وبنو توجين على أنّ بني توجين ينتسبون في بني واسين نسبا ظاهرا صحيحا بلا شك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جراد.
[2] وفي نسخة أخرى: غرزول ولقورة وورتاتين.
[3] وفي نسخة أخرى: صدور.
[4] وفي نسخة أخرى: وريند بن دمّر.
[5] وفي نسخة أخرى: تيغرض ووجديجن وبني يلومي وبني ومانوا وبني توجين.(7/8)
على ما يذكر في أخبارهم. وبعضهم يقول في وجديجن وواغمرت بنو ورتنيص [1] أنهم من البرانس من بطون البربر على ما قدمناه. وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي، وقال فيه هو من شورة إحدى بطون زناتة، ولم نره لغيره. هذا ملخص الكلام في شعوب زناتة وأنسابهم بما لا يوجد في كتاب. والله الهادي إلى مسالك التحقيق لا رب غيره.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ورتيند وفي نسخة أخرى: ورتنيص.(7/9)
(فصل في تسمية زناتة ومبنى هذه الكلمة)
(أعلم) أن كثيرا من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما ليس معروفا للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال: هو اسم وضعته العرب على هذا الجيل، ويقال بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه. ويقال: هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئا لم تذكره النسّابة. وقد يقال إنه مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية، وربّما يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا، ويعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق، وهذه الأقوال كلّها ذهاب [1] إلى أنّ العرب وضعت لكل شيء اسما، وأنّ استعمالها إنّما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالا واشتقاقا. وهذا إنّما هو في الأكثر وإلّا فالعرب قد استعملت كثيرا من غير لغتها في مسمّاه إمّا لكونه علما فلا يغير مثل إبراهيم ويوسف وإسحاق من اللغة العبرانية، وإمّا استعانة وتخفيفا لتداوله بين الألسنة كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والآجرّ، فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم. ويسمّونها المعرّبة وقد يغيّرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف، وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد.
وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبدّلونه بما يقرب منه في المخرج فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة وإنّما نطقت العرب منها بالثمانية والعشرين حروف أبجد. وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد فمنها ما نطقت به الأمم، ومنها ما لم تنطق به، ومنها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان.
وإذا تقرّر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله، وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم. وهم إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات. وإذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن، ونطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب بل ينطقون بها بين الجيم والشين وأميل إلى السين، ويقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زايا
__________
[1] الصحيح أن يقول تذهب.(7/10)
محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين، فصارت زانات لفظا مفردا دالا على الجنس.
ثم الحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفا لكثرة دورانه على الألسنة والله أعلم.
(فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته)
أمّا أولية هذا الجيل بإفريقية والمغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلّا الله تعالى. ولهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجديجن وغمرة وبني ويجفش وواسين وبني تيغرست وبني مرين وتوجين وبني عبد الواد وبني راشد وبني برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم. وفي كل واحد من هذه الشعوب بطون متعدّدة. وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس والزاب إلى قبلة تلمسان ثم إلى وادي ملويّة. وكانت الكثرة والرئاسة فيهم قبل الإسلام لجراوة ثم لمغراوة وبني يفرن.
(ولما) ملك الإفرنجة بلاد البربر في ضواحيهم صاروا يؤدّون لهم طاعة معروفة، وخراجا معروفا مؤقتا، ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام، وزحف المسلمون إلى إفريقية وملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير، فظاهره زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين وانفضّوا جميعا. وقتل جرجير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا، وافتتحت سبيطلة. ثم عاود المسلمون غزو إفريقية وافتتحوا جلولاء وغيرها من الأمصار، ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى مواطنهم وراء البحر. وظنّ البربر بأنفسهم مقاومة العرب فاجتمعوا وتمسّكوا بحصون الجبال واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكره، فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعا وكرها، وانقادوا إلى إيالة مصر وتولّوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربيّ وأخرجهم من إفريقية البربر من كتامة وغيرهم، قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم، وتداول فيهم الملك جيلا بعد جيل في طبقتين حسبما نقصّه عليك إن شاء الله تعالى
.(7/11)
(الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح)
كانت هذه الأمّة من البربر بإفريقية والمغرب في قوّة وكثرة وعديد وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلّها لهم، وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم ولما أطلّ المسلمون في عساكرهم على إفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون وانفضّت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بإفريقية موضع للقاء المسلمين يجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمّة من البربر في ناحيتها وموطنها مع من تحيّز إليهم من قبل الإفرنجة.
(ولما) اشتغل المسلمون في حرب عليّ ومعاوية أغفلوا أمر إفريقية ثم ولّاها معاوية بعد عام الجامعة عقبة بن نافع الفهريّ فأثخن في المغرب في ولايته الثانية، وبلغ إلى السوس وقتل بالزاب في مرجعه. واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوربة، وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلويّ أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من إفريقية.
(وبعث) عبد الملك حسّان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر، وقتلوا كسيلة واسترجعوا القيروان وقرطاجنّة وإفريقية والإفرنجة والروم إلى صقلّيّة والأندلس، وافترقت رياسة البربر في شعوبهم. وكانت زناتة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطونا، وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس، وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا [1] . وكانت رياستهم للكاهنة دهيا بنت [2] بن نيعان بن بارو [3] بن مصكسرى بن أفرد بن وصيلا بن جراو. وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها، فاستبدّت عليهم وعلى قومهم بهم، وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم.
قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة [4] وعاشت مائة
__________
[1] كراد بن الديديت بن شانا (جمهرة أنساب العرب (ص 498) .
[2] بياض بالأصل وفي النسخة الباريسية: دهيا بنت ثابتة وكذلك في نسخة أخرى دهيا بنت ثابتة.
[3] وفي نسخة أخرى: بن نيقان بن باورا.
[4] وفي نسخة أخرى: خمسا وستين سنة.(7/12)
وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس باغرائها برابرة تهودا عليه، وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. فلما انقضى جمع البربر وقتل كسيلة رجعوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس، وقد ضوى إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر، فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها، وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية، وانتهى حسّان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك، فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفضّ جموعهم، وأوقع بهم وقتل الكاهنة، واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف.
وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسّان وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما، وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس. ثم افترق فلّهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم. وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر، وكان منهم قوم بسواحل مليلة، وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك. واليهم نزع ابن أبي العيش لمّا غلبه موسى ابن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أوّل المائة الرابعة حسبما نذكره. فنزل عليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خرّبت من بعد ذلك. والفلّ منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في بطونه [1] ومن إليهم من قبائل غمارة والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مبتدإ دول زناتة في الإسلام ومصير الملك اليهم بالمغرب وافريقية)
لما فرغ شأن الردّة من إفريقية والمغرب وأذعن البربر لحكم الإسلام وملكت العرب، واستقلّ بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسيّ الملك بدمشق، واستولوا على سائر الأمم والأقطار، وأثخنوا في القاصية من لدن الهند والصين في المشرق، وفرغانة في الشمال، والحبشة في الجنوب، والبربر في المغرب، وبلاد الجلالقة والإفرنجة في الأندلس. وضرب الإسلام بجرانه، وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم. ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف، والمدّعين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يطوفت.(7/13)
استحقاق الأمر بالوصية. وتكرّر خروجهم عليهم، فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر، حتى توغّرت الصدور واستحكمت الأوتار وتعدّدت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من عليّ إلى من بعده من بني هاشم. فقوم ساقوها إلى آل العبّاس، وقوم إلى آل الحسن، وآخرون إلى آل الحسين، فدعت شيعة آل العبّاس بخراسان وقام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين قتلا وسبيا. وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، فجدّد بها دعوة الأمويين واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية.
(ثم نفس) آل أبي طالب على آل العبّاس ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك، فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعوّ بالنفس الزكية في بني أبي طالب على أبي جعفر المنصور، وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم جيوش بني العبّاس في وقائع عديدة. وفرّ إدريس بن عبد الله أخو المهدي من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوربة ومقيلة وصدينة، وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده، ونالوا به الملك وغلبوا على المغرب الأقصى والأوسط، وبثّوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العبّاس. واستمرّت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديّين.
ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثّون دعاتهم بالقاصية إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهديّ ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فقام برابرة كتامة ومن إليهم من صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة، ورجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق، ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة، ووضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملّة فيهم، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، واستيقنوا بوعد الصادق أنّ الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده. فلم تنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوّضت مباني الدين بتقويض معالم الملك، وعدا من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه على الدين كلّه. فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة الأعياص من بني عبد مناف يسدّون منها حسدا في ارتقاء [1] إلى أن ظفروا من ذلك بحظّ مثل كتامة بإفريقية،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يسترون منها حسوا في ارتغاء.(7/14)
ومكناسة بالمغرب، ونافسهم في ذلك زناتة، وكانوا من أكثرهم جمعا وأشدّهم قوّة فشمّروا له حتى ضربوا معهم بسهم، فكان لبني يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار، ثم على يد يعلى بن محمد وبنيه ملك ضخم. ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة. ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرّد الملك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم، فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك، ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفلّ من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه، ونجلب [1] أيامهم وبطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر، والله المعين سبحانه لا رب سواه، ولا معبود إلّا إياه.
(الطبقة الأولى من زناتة ونبدأ منها بالخبر عن بني يفرن وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول بإفريقية والمغرب)
وبنو يفرن هؤلاء من شعوب زناتة وأوسع بطونهم، وهم عند نسّابة زناتة بنو يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت [2] بن جانا وإخوته مغراوة وبنو يرنيان وبنو واسين، والكلّ بنو يصلتين. ويفرن في لغة البربر هو القار [3] وبعض نسّابتهم يقولون: إنّ يفرن هو ابن ورتنيذ [4] بن جانا وإخوته مغراوة وغمرت ووجديجن. وبعضهم يقول يفرن بن مرّة بن ورسيك بن جانا، وبعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه والصحيح ما نقلناه عن أبي محمد بن حزم.
(وأمّا) شعوبهم فكثير ومن أشهرهم بنو واركوا ومر نجيصة. وكان بنو يفرن هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة وأشدّها شوكة، وكان منهم بإفريقية وجبل أوراس والمغرب الأوسط بطون وشعوب، فلمّا كان الفتح غشي إفريقية ومن بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى ضرب الدين بجرانه، وحسن
__________
[1] جلب جلبا: اجتمع (قاموس) .
[2] وفي جمهرة أنساب العرب: الديديت (ص 496) .
[3] وفي نسخة أخرى: الفار وفي النسخة الباريسية الغار.
[4] وفي النسخة الباريسية: ونيتص، وفي نسخة أخرى: ونيتز، وفي جمهرة أنساب العرب ص 498:
ورنيد.(7/15)
إسلامهم. ولمّا فشا دين الخارجية في العرب وغلبهم الخلفاء بالمشرق واستلحموهم نزعوا إلى القاصية، وصاروا يبثّون بها دينهم في البربر فتلقّته رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رءوس الخارجية في أحكامهم من أباضية وصفريّة وغيرهما كما ذكرناه في بابه، ففشا في البربر وضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم وانتحلوه وقاتلوا عليه.
وكان أوّل من جمع لذلك منهم أبو قرّة من أهل المغرب الأوسط. ثم من بعده أبو يزيد صاحب الحمار وقومه بنو واركوا ومرنجيصة. ثم كان لهم بالمغرب الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجيّة دولتان على يد يعلى بن محمد صالح وبنيه حسبما نذكر ذلك مفسّرا إن شاء الله تعالى
.(7/16)
(الخبر عن أبي قرّة وما كان لقومه من الملك بتلمسان ومبدإ ذلك ومصائره)
كان من بني يفرن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بني راشد المعروف بهم لهذا العهد، وهم الذين اختطّوا تلمسان كما نذكره في أخبارها. وكان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس أبو قرّة ولا نعرف من نسبه أكثر من أنّه منهم. ولما انتقض البرابرة بالمغرب الأقصى وقام ميسرة وقومه بدعوة الخارجيّة وقتله البرابرة قدّموا على أنفسهم مكانه خالد بن حميد من زناتة، فكان من حروبه مع كلثوم بن عيّاض وقتله إياه ما هو معروف. ورأس على زناتة من بعده أبو قرّة هذا.
ولما استأثلت [1] دولة بني أمية كثرت الخارجيّة في البربر، وملك ورفجومة القيروان، وهوّارة وزناتة طرابلس ومكناسة سجلماسة، وابن رستم تاهرت. وقدم ابن الأشعث إفريقية من قبل أبي جعفر المنصور. وخافه البربر فحسم العلل وسكّن الحروب. ثم انتقض بنو يفرن بنواحي تلمسان ودعوا إلى الخارجيّة، وبايعوا أبا قرّة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة، وسرّح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب وفرّ أبو قرّة إلى المغرب الأقصى، ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب.
(ولما انتقض) البرابرة على عمر بن حفص بن أبي صفرة الملقّب هزارمرد عام خمسين ومائة وحاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرّة اليفرني في أربعين ألفا صفرية من قومه وغيرهم حتى اشتدّ عليه الحصار، وداخل أبا قرّة في الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا، ولابنه أربعة آلاف، فارتحل بقومه وانفضّ البرابرة عن طبنة. ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان واجتمعوا عليه وأبو قرّة معهم بثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيالة منها خمسة وثمانون ألفا. وهلك عمر بن حفص في ذلك الحصار.
وقدم يزيد بن حاتم واليا على إفريقية ففضّ جموعهم وفرّق كلمتهم، ولحق أبو قرّة
__________
[1] وفي نسخة أخرى. لما التاثت.(7/17)
وبنو يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج، واستلحم بني يفرن وتوغّل يزيد بن حاتم في المغرب ونواحيه وأثخن في أهله إلى أن استكانوا واستقاموا. ولم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد بإفريقية في بني واركوا ومر نجيصة منهم حسبما نذكره إن شاء الله تعالى الكريم. وبعض المؤرّخين ينسب أبا قرّة هذا إلى مغيلة، ولم أظفر بصحيح في ذلك، والطرائق متساوية في الجانبين، فإنّ نواحي تلمسان وإن كانت موطنا لبني يفرن فهي أيضا موطن لمغيلة، والقبيلتان متجاورتان. لكن بنو يفرن كانوا أشدّ قوّة وأكثر جمعا، ومغيلة أيضا كانوا أشهر بالخارجيّة من بني يفرن لأنهم كانوا صفريّة. وكثير من الناس يقولون: إنّ بني يفرن كانوا على مذهب أهل السنّة كما ذكره ابن حزم وغيره والله أعلم.
(الخبر عن أبي يزيد الخارجي صاحب الحمار من بني يفرن ومبدإ أمره مع الشيعة ومصائره)
هذا الرجل من بني واركوا إخوة مرنجيصة، وكلهم من بطون بني يفرن، وكنيته أبو يزيد، واسمه مخلّد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا. وقال أبو محمد بن حزم: ذكر لي أبو يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد أنّ اسمه مخلّد بن كيداد [1] بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلّد بن عثمان بن ورنمت بن حونيفر [2] بن سميران بن يفرن بن جانا وهو زناتة. قال: وقد أخبرني بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن وجانا، انتهى. كلام ابن حزم. ونسبه ابن الرقيق أيضا في بني واسين بن ورسيك بن جانا، وقد تقدّم نسبهم أوّل الفصل. وكان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في التجارة، فولد له أبو يزيد بكركوا من بلادهم، وأمّه أم ولد اسمها سيكة [3] ورجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة. ونزل توزر مترددا بينها وبين تقيّوس، وتعلّم القرآن وتأدّب، وخالط النكارية فمال إلى مذاهبهم وأخذها عنهم، ورأس فيها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: كنداك.
[2] وفي النسخة الباريسية: ورينت بن جوسفر وفي نسخة أخرى: جونفر.
[3] وفي نسخة ثانية: سبيكة.(7/18)
ورحل إلى مشيختهم بتيهرت، وأخذ عن أبي عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة.
ومات أبوه كيداد وتركه على حال الخصاصة والفقر، فكان أهل القيطون يصلونه بفضل أموالهم، وكان يعلّم صبيانهم القرآن ومذاهب النكارية. واشتهر عنه تكفير أهل الملّة وسبّ عليّ فخاف وانتقل إلى تقيّوس. وكان يختلف بينها وبين توزر، وأخذ نفسه بالتغيير على الولاة، ونمي عنه اعتقاد الخروج عن السلطان فنذر الولاة بقصطيلة دمه، فخرج إلى الحجّ سنة عشر وثلاثمائة وأرهقه الطلب فرجع من نواحي طرابلس إلى تقيّوس. ولمّا هلك عبد الله أوعز القائم إلى أهل قصطيلة في القبض عليه، فلحق بالمشرق وقضى الفرض وانصرف إلى موطنه، ودخل توزر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة مستترا. وسعى به ابن فرقان عند والي البلد فتقبّض عليه واعتقله، وأقبل سرعان [1] زناتة إلى البلد ومعهم أبو عمّار الأعمى رأس النكارية واسمه كما سبق عبد الحميد، وكان ممن أخذ عنه أبو يزيد فتعرّضوا للوالي في إطلاقه، فتعلّل عليهم بطلبه في الخراج، فاجتمعوا إلى فضل ويزيد ابني أبي يزيد، وعمدوا إلى السجن فقتلوا الحرس وأخرجوه، فلحق ببلد بني واركلا، وأقام بها سنة يختلف إلى جبل أوراس وإلى بني برزال في مواطنهم بالجبال قبلة المسيلة، وإلى بني زنداك من مغراوة إلى أن أجابوه، فوصل إلى أوراس ومعه أبو عمّار الأعمى في اثني عشر من الراحلة، ونزلوا على النكارية بالنوالات [2] . واجتمع إليه القرابة وسائر الخوارج، وأخذ له البيعة عليهم أبو عمّار صاحبه على قتال الشيعة وعلى استباحة الغنائم والسبي، وعلى أنهم إن ظفروا بالمهديّة والقيروان صار الأمر شورى، وذلك سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
وترصّدوا غيبة صاحب باغاية في بعض وجوهه فضربوا على بسيطها، واستباح بعض القصور بها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وغمس بذلك أيدي البربر في الفتنة. ثم زحف بهم إلى باغاية واستولت عليه وعلى أصحابه الهزيمة فلحقوا بالجبل. وزحف إليهم صاحب باغية فانهزم ورجع إلى بلده، فحاصره أبو يزيد وأوعز أبو القاسم القائم إلى كتامة في إمداد كنون صاحب باغاية، فتلاحقت به العساكر فبيّتهم أبو يزيد وأصحابه
__________
[1] سرعان زناتة: أي اوائلهم السابقون (قاموس) .
[2] اسم موضع كان يتردد إليه هؤلاء النكادية.(7/19)
ففلّوهم، وامتنعت عليه باغاية وكاتب أبو يزيد البربر الذين حول قصطيلة من بني واسين وغيرهم، فحاصروا توزر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ورحل إلى تبسة فدخلها صلحا، ثم إلى بجاية كذلك، ثم إلى مرماجنّة. كذلك، وأهدوا له حمارا أشهب فلزم ركوبه حتى اشتهر به. وبلغ خبره عساكر كتامة بالاربص [1] فانفضوا وملك الأربص وقتل إمام الصلاة بها. وبعث عسكرا إلى تبسة فملكوها وقتلوا عاملها. وبلغ الخبر القائم وهو بالمهديّة فهاله. وسرّح العساكر لضبط المدن والثغور، وسرّح مولاه بشرى الصقلّي إلى باجة، وعقد لميسور على الجيوش فعسكر بناحية المهدية، وسرّح خليل بن إسحاق إلى القيروان فعسكر بها. وزحف أبو يزيد إلى بشرى بباجة، واشتدّت الحرب بينهم، وركب أبو يزيد حماره وأمسك عصاه فاستمالت النكارية، وخالفوا بشرى إلى معسكره فانهزم إلى تونس، واقتحم أبو يزيد باجة واستباحها، ودخل بشرى إلى تونس وارتدت البرابر من كل ناحية فأسلم تونس ولحق بسوسة.
واستأمن أهل تونس إلى أبي يزيد فأمّنهم وولّى عليهم، وانتهى إلى وادي مجدرة [2] فعسكر بها. ووافته الحشود هنالك. ورعب الناس منه فأجفلوا إلى القيروان، وكثرت الأراجيف وسرّب أبو يزيد جيوشه في نواحي إفريقية، فشنّوا الغارات وأكثروا السبي والقتل والأسر. ثم زحف إلى رقادة فانفضّ كتامة الذين كانوا بها ولحقوا بالمهديّة.
ونزل أبو يزيد رقادة في مائة ألف.
ثم زحف إلى القيروان فانحصر بها خليل بن إسحاق ثم أخذه بعد مراوضة في الصلح، وهمّ بقتله فأشار عليه أبو عمّار باستبقائه فلم يطعه وقتله. ودخلوا القيروان فاستباحوها ولقيه مشيخة الفقهاء فأمّنهم بعد التقريع والعتب، وعلى أن يقتلوا أولياء الشيعة، وبعث رسله في وفد من أهل القيروان إلى الناصر الأموي صاحب قرطبة ملتزما لطاعته والقيام لدعوته وطالبا لمدده، فرجعوا إليه بالقبول والوعد. ولم يزل يردّد ذلك سائر أيام الفتنة حتى أوفد ابنه أيوب في آخرها سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فكان له اتصال بالناصر سائر أيامه. وزحف ميسور من المهديّة بالعساكر وفرّ عنه بنو كملان من هوّارة ولحقوا بأبي يزيد وحرّضوه على لقاء ميسور، فزحف إليه واستوى اللقاء.
واستمات أبو يزيد والنكارية فانهزم ميسور وقتله أبو كملان وبعث برأسه إلى القيروان،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الأربس وكذلك في معجم البلدان.
[2] وفي نسخة ثانية: مجردة.(7/20)
ثم إلى المغرب واستبيح معسكره.
وسرّح أبو يزيد عساكره إلى مدينة سوسة فاقتحموها عنوة وأكثروا من القتل والمثلة.
وعظم القتل بضواحي إفريقية، وخلت القرى والمنازل ومن أفلته السيف أهلكه الجوع. واستخفّ أبو يزيد بالناس بعد قتل ميسور فلبس الحرير وركب الفاره. ونكر عليه أصحابه ذلك، وكاتبه به رؤساؤهم من البلاد، والقائم خلال ذلك بالمهديّة يخندق على نفسه ويستنفر كتامة وصنهاجة للحصار معه. وزحف أبو يزيد حتى نزل المهديّة وناوش عساكرها الحرب، فلم يزل الظهور عليهم، وملك زويلة. ولما وقف بالمصلّى قال القائم لأصحابه من هاهنا يرجع، واتصل حصاره للمهديّة، واجتمع إليه البربر من قابس وطرابلس ونفوسة.
وزحف إليهم ثلاث مرّات فانهزم في الثالثة ولم يقلع، وكذلك في الرابعة، واشتدّ الحصار على المهديّة ونزل الجوع بهم. واجتمعت كتامة بقسنطينة وعسكروا بها لإمداد القائم، فسرّح إليهم أبو يزيد يكموس [1] المزاتي من ورفجومة، فانفضّ معسكر كتامة من قسنطينة. ويئس القائم من مددهم وتفرّقت عساكر أبي يزيد في الغارات والنهب فخفّ المعسكر، ولم يبق به إلّا هوّارة ورأس بني كملان [2] وكثرت مراسلات القائم للبربر.
واستراب بهم أبو يزيد وهرب بعضهم إلى المهديّة، ورحل آخرون إلى مواطنهم، فأشار عليه أصحابه بالإفراج عن المهديّة فأسلموا معسكرهم، ولحقوا بالقيروان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ودبّر أهل القيروان في القبض عليه فلم يتهيّأ لهم، وعذله أبو عمّار فيما أتاه من الاستكثار من الدنيا فتاب وأقلع، وعاود لبس الصوف والتقشّف.
وشاع خبر إجفاله عن المهديّة فقتل النكارية في كل بلد، وبعث عساكره فعاثوا في النواحي وأوقعوا بأهل الأمصار وخرّبوا كثيرا منها. وبعث ابنه أيوب إلى باجة فعسكر بها ينتظر وصول المدد من البربر وسائر النواحي فلم يفجأه إلّا وصول عليّ بن حمدون الأندلسي صاحب المسيلة في حشد كتامة وزواودة، وقد مرّ بقسنطينة والأربص وشقنبارية، واستصحب منها العساكر فبيّته أيوب وانفضّ معسكره، وتردّى به فرسه في بعض الأوعار فهلك.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زكوا.
[2] وفي نسخة ثانية: هوارة وراس وبنو كملان.(7/21)
ثم زحف أيوب في عسكره إلى تونس وقائدها حسن بن علي من دعاة الشيعة فانهزم، ثم أتيحت له الكرّة ولحق حسن بن عليّ بلد كتامة فعسكر بهم على قسنطينة. وسرّح أبو يزيد جموع البربر لحربه. ثم اجتمعت لأبي يزيد حشود البربر من كل ناحية وثابت إليه قوّته. وارتحل إلى سوسة فحاصرها ونصب عليها المجانيق. وهلك القائم سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة في شوّال وصارت الخلافة لابنه إسماعيل المنصور فبعث بالمدد إلى سوسة بعد أن اعتزم على الخروج إليها بنفسه فمنعه أصحابه. ووصل المدد إلى سوسة فقاتلوا أبا يزيد فانهزم ولحق بالقيروان، فامتنعت عليه فاستخلص صاحبه أبا عمّار من أيديهم وارتحل عنهم.
وخرج المنصور من المهديّة إلى سوسة، ثم إلى القيروان فملكها وعفا عن أهلها وأمّنهم وأحسن في مخلّف أبي يزيد وعياله. وتوافي المدد إلى أبي يزيد ثالثة فاعتزم على حصار القيروان، وزحف إلى عسكر المنصور بساحتها فبيّتهم، واشتدّ الحرب واستمات الأولياء وافترقوا آخر نهارهم. وعاودوا الزحف مرّات ووصل المدد إلى المنصور من الجهات حتى إذا كان منتصف المحرّم كان الفتح، وانهزم أبو يزيد وعظم القتل في البربر ورحل المنصور في اتباعه فمرّ [1] ثم تبسة حتى انتهى إلى باغاية. ووافاه بها كتاب محمد بن خزر بالطاعة والولاية والاستعداد للمظاهر، فكتب إليه بترصّد أبي يزيد والقبض عليه، ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. ثم رحل إلى طبنة فوافاه بها جعفر بن عليّ عامل المسيلة بالهدايا والأموال. وبلغه أنّ أبا يزيد نزل بسكرة وأنه كاتب محمد بن خزر يسأله النصرة، فلم يجد عنده ما يرضيه، فارتحل المنصور إلى بسكرة فتلقّاه أهلها. وفرّ أبو يزيد إلى بني برزال بجبل سالات، ثم إلى جبل كتامة وهو جبل عياض لهذا العهد. وارتحل المنصور في أثره إلى ومرة [2] وبيّته أبو يزيد هنالك فانهزم ولم يظفر وانحاز إلى جبل سالات. ثم لحق بالرمال ورجع عنه بنو كملان، وأمّنهم المنصور على يد محمد بن خزر.
وسار المنصور في التعبية حتى نزل جبل سالات، وارتحل وراءه إلى الرمال. ثم رجع ودخل بلاد صنهاجة، وبلغه رجوع أبي يزيد إلى جبل كتامة فرجع إليه، ونزل عليه المنصور في كتامة وعجيسة وزواوة وحشد بني زنداك ومزاته ومكناسة ومكلاته.
__________
[1] بياض بالأصل وفي نسخة ثانية: فمرّ بسبيبة ثم بتبسة.
[2] وفي نسخة أخرى: مغرة.(7/22)
وتقدّم المنصور إليه فقاتلوا أبا يزيد وجموع النكارية فهزموهم واعتصموا بجبل كتامة، ورحل المنصور إلى المسيلة وانحصر أبو يزيد في قلعة الجبل، وعسكر المنصور إزاءها واشتدّ الحصار، وزحف إليها مرّات، ثم اقتحمها عليهم فاعتصم أبو يزيد بقصر في ذروة القلعة فأحيط به واقتحم، وقتل أبو عمّار الأعمى ويكموس المزاتي ونجا أبو يزيد مثخنا بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه فسقط في مهواة من الأوعار فوهن وسيق من الغداة إلى المنصور فأمر بمداواته. ثم أحضره ووبّخه وأقام الحجّة عليه وتجافى عن دمه، وبعثه إلى المهديّة وفرض له بها الجراية فجزاه خيرا. وحمل في القفص فمات من جراحته سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وأمر به فسلخ وحشي جلده بالتبن وطيف به في القيروان. وهرب الفلّ من أصحابه إلى ابنه فضل، وكان مع معبد بن خزر فأغاروا على ساقة المنصور، وكمن لهم زيري بن مناد أمير صنهاجة فأوقع بهم. ولم يزل المنصور في اتباعه إلى أن نزل المسيلة وانقطع أثر معبد، ووافاه بمعسكره هنالك انتقاض حميد بن يصل عامل تيهرت [1] من أوليائهم، وأنه ركب البحر من تنس إلى العدوة فارتحل إلى تيهرت وولّى عليها وعلى تنس. ثم قصد لواتة فهربوا إلى الرمال، ورجع إلى إفريقية سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ثم بلغه أنّ فضل بن أبي يزيد أغار على جهات قصطيلة، فرحل من سنته في طلبه وانتهى إلى قفصة ثم ارتحل إلى [2] من أعمال الزاب، وفتح حصن ماداس مما يليه. وهرب فضل في الرمال فأعجزه ورجع إلى القيروان سنة ست وثلاثين. ومضى فضل إلى جبل أوراس، ثم سار منه إلى باغاية فحاصرها. وغدر به ماطيط [3] بن يعلى من أصحابه، وجاء برأسه إلى المنصور. وانقرض أمر أبي يزيد وبنيه وافترقت جموعهم. واغتال عبد الله ابن بكار من رؤساء مغراوة بعد ذلك أيوب بن أبي يزيد وجاء برأسه إلى المنصور متقرّبا إليه. وتتبّع المنصور قبائل بني يفرن بعدها إلى أن انقطع أثر الدعوة. والبقاء للَّه تعالى وحده.
__________
[1] تاهرت: معجم البلدان.
[2] بياض بالأصل وفي النسخة الباريسية: مديلية وفي نسخة أخرى ميطلة.
[3] وفي نسخة ثانية: باطيط.(7/23)
(الخبر عن الدولة الأولى لبني يفرن بالمغرب الأوسط والأقصى ومبادئ أمورهم ومصايرها)
كان لبني يفرن من زناتة بطون كثيرة وكانوا متفرقين بالمواطن، فكان منهم بإفريقية بنو واركوا ومرنجيصة وغيرهم كما قدّمناه، وكان منهم بنواحي تلمسان ما بينها وبين تاهرت أمم كثير عددهم وهم الذين اختطّوا مدينة تلمسان كما نذكره بعد. ومنهم أبو قرّة المنتزي بتلك الناحية لأوّل الدولة العبّاسيّة، وهو الّذي حاصر عمر بن حفص بطبنة كما تقدّم. ولما انقرض أمر أبي يزيد وأثخن المنصور فيمن كان بإفريقية من بني يفرن أقام هؤلاء الذين كانوا بنواحي تلمسان على وفودهم. وكان رئيسهم لعهد أبي يزيد محمد بن صالح. ولما تولى المنصور محمد بن خزر وقومه مغراوة، وكان بينه وبين بني يفرن هؤلاء فتنة هلك فيها محمد بن صالح على يد عبد الله بن بكّار من بني يفرن، كان متحيزا إلى مغراوة. وولي. أمره في بني يفرن من بعده ابنه يعلى فعظم صيته، واختط مدينة أفكان [1] .
ولما خطب عبد الرحمن الناصر طاعة الأموية من زناتة أهل العدوة واستألف ملوكهم، سارع يعلى لإجابته، واجتمع عليها مع الخير بن محمد بن خزر وقومه مغراوة، وأجلب على وهران فملكها سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة من يد محمد بن عون، وكان ولّاه عليها صولات اللميطي [2] أحد رجالات كتامه سنة ثمان وتسعين ومائتين فدخلها يعلى عنوة على بنيه وخرّبها. وكان يعلى قد زحف مع الخير بن محمد إلى تاهرت وبرز إليه ميسور الخصيّ في شيعته من لماية فهزموهم وملكوا تاهرت، وتقبّض على ميسور وعبد الله بن بكّار فبعث به الخير إلى يعلى بن محمد ليثأر به، فلم يرضه كفؤا لدمه ودفعه إلى من ثأر به من بني يفرن. واستفحل سلطان يعلى في ناحية المغرب وخطب على منابرها لعبد الرحمن الناصر ما بين تاهرت إلى طنجة.
واستدعى من الناصر تولية رجال بيته على أمصار المغرب فعقد على فاس لمحمد بن
__________
[1] ايفكان: تقع بين معسكر وسيدي بلعباس من عمالة وهران على بعد 25 كلم من الأولى، تعرف اليوم بعين فكان، وكانت تدعى في العهد الزناتي أفكان (قبائل المغرب ص 120) .
[2] وفي نسخة أخرى: دواس بن صولات اللبيصي.(7/24)
الخير بن محمد بن عشيرة ونسك محمد لسنة من ولايته، واستأذن في الجهاد والرباط بالأندلس فأجاز لذلك واستخلف على عمله ابن عمه أحمد بن أبي بكر بن أحمد ابن عثمان بن سعيد، وهو الّذي اختطّ مئذنة القرويين سنة أربع وأربعين وثلاثمائة كما ذكرناه ولم يزل سلطان يعلى بن محمد بالمغرب عظيما إلى أنّ أغزى بعد المعز لدين الله كاتبه جوهر الصقلّي من القيروان إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فلما فصل جوهر بالجنود بادر أمير زناتة بالمغرب يعلى بن محمد اليفرني إلى لقائه والإذعان لطاعته والانحياش إليه، ونبذ عهد الأموية، وأعمل إلى لقيه الرحلة من بلده إيفكان وأعطاه يد الانقياد وعهد البيعة عن قومه بني يفرن وزناتة، فتقبّلها جوهر وأضمر الفتك به، وتخيّر لذلك يوم فصوله من بلده، وأسرّ إلى بعض مستخلصيه من الاتباع فأوقعوا نفرة في أعقاب العسكر طار إليها الزعماء من كتامة وصنهاجة. وزناتة، وتقبّض على يعلى فهلك في وطيس تلك الهيعة فغضّ بالرماح على أيدي رجالات كتامة وصنهاجة، وذهب دمه هدرا في القبائل. وخرب جوهر مدينة إيفكان وفرّت زناتة أمامه وكشف القناع في مطالبتهم.
(وقد ذكر) بعض المؤرخين أنّ يعلى إنّما لقي جوهرا عند منصرفه من الغزاة بمدينة تاهرت، وهنالك كان فتكه به بناحية شلف، فتفرّقت بعدها جماعة بني يفرن وذهب ملكهم فلم يجتمعوا إلّا بعد حين على ابنه بدوي بالمغرب كما نذكره. ولحق الكثير منهم بالأندلس كما يأتي خبرهم في موضعه وانقرضت دولة بني يفرن هؤلاء إلى أن عادت بعد مدّة على يد يعلى بفاس. ثم استقرّت آخرا بسلا وتعاقب فيهم هنالك إلى آخرها كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن الدولة الثانية لبني يفرن بسلا من المغرب الأقصى وأولية ذلك وتصاريفه)
لما أوقع جوهر الكاتب قائد المعز بيعلى بن محمد أمير بني يفرن وملك المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة كما ذكرناه وتفرّقت جموع بني يفرن لحق ابنه بدوي بن يعلى بالمغرب.
الأقصى وأحسّ بجوهر من ورائه فأبعد المفرّ وأصحر إلى أن رجع جوهر من المغرب.
ويقال إنّ جوهرا تقبّض عليه واحتمله أسيرا فاعتقل إلى أن فرّ من معتقله بعد حين،(7/25)
واجتمع عليه قومه من بني يفرن وكان جوهر عند منصرفه من المغرب ولّى على الأدارسة المتحيزين إلى الريف وبلاد غمارة الحسن بن كنون شيخ بني محمد منهم فنزل [1] وأجاز الحكم المستنصر لأوّل ولايته سنة خمس وثلاثمائة [2] وزيره محمد بن قاسم بن طملس في العساكر لتدويخ المغرب واقتلاع جرثومة الأدارسة، فأجاز في العساكر وغلبهم على بلادهم وأزعجهم جميعا عن المغرب إلى الأندلس سنة خمس وستين وثلاثمائة كما ذكرناه. ومهّد دعوة الأموية بالمغرب، وأقفل الحكم مولاه غالبا وردّه إلى الثغر لسدّه، وعقد على المغرب ليحيى بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى، وكان أجازه مددا لغالب في رجال العرب وجنّد الثغور حتى إذا انغمس الحكم في علّة الفالج وركدت ريح المروانية بالمغرب واحتاجت الدولة إلى رجالها لسدّ الثغور ودفاع العدو، استدعى يحيى بن محمد بن هاشم من العدوة، واداله الحاجب المصحفي بجعفر بن علي بن حمدون أمير الزاب والمسيلة النازع إليهم من دعوة الشيعة، وجمعوا بين الانتفاع به في العدوة والراحة مما يتوقّع منه على الدولة ومن البرابرة في التياث الخلافة لما كانوا أصاروا إليه من النكبة، وطوّقوه من المحنة.
ولما كان اجتمع بقرطبة من جموع البرابرة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال دثر وكسي فاخرة للخلع على ملوك العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وثلاثمائة وضبطه.
واجتمع إليه ملوك زناتة مثل بدوي [3] بن يعلى أمير بني يفرن وابن عمّه نوبخت بن عبد الله بن بكّار، ومحمد بن الخير بن خزر وابن عمّه بكساس بن سيّد الناس، وزيري بن خزر وزيري ومقاتل ابنا عطية بن تبادها [4] وخزرون بن محمد وفلفول بن سعيد أمير مغراوة، وإسماعيل بن البوري أمير مكناسة، ومحمد ابن عمه عبد الله بن مدين وخزرون بن محمد الازداجي، وكان بدوي بن يعلى من أشدّهم قوّة وأحسنهم طاعة. ولما هلك الحكم وولي مكانه هشام المؤيد، وانفرد محمد بن أبي عامر بحجابته اقتصر من العدوة لأوّل قيامه على مدينة سبتة، فضبطها بجند السلطان
__________
[1] بياض بالأصل وفي إحدى النسخ: فنزل البصرة.
[2] حسب مجرى الأحداث: يجب أن تكون خمسين وثلاثمائة.
[3] وفي نسخة أخرى: يدر.
[4] وفي نسخة أخرى: تبادلت.(7/26)
ورجال الدولة، وقلّدها الصنائع من أرباب السيوف والأقلام، وعوّل في ضبط ما وراء ذلك على ملوك زناتة وتعهّدهم بالجوائز والخلع، وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب في الإثبات في ديوان السلطان منهم، فجدّدوا في ولاية الدولة وبث الدعوة.
وفسد ما بين أمير العدوة جعفر بن علي وأخيه يحيى واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبه برغواطة في غزاتة إياهم، واستدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رآه من استقامته إليه، وشدّ أزره وتلوّى عليه كراهية لما يلقى بالأندلس من الحكم. ثم أصلحه وتخلّى لأخيه عن عمل المغرب وأجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحلّ منه بالمكان الأثير، وتناغت زناتة في التزلّف إلى الدولة بقرب الطاعات، فزحف خزرون بن فلفول سنة ست وستين وثلاثمائة إلى مدينة سجلماسة فاقتحمها ومحى دولة آل مدرار منها، وعقد له المنصور عليها كما ذكرنا ذلك قبل.
وزحف عقب هذا الفتح بلكّين بن زيري قائد إفريقية للشيعة إلى المغرب سنة تسع وستين وثلاثمائة زحفه المشهور وخرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه، واحتمل من بيت المال مائة حمل ومن العساكر ما لا يحصى عدّه. وأجاز جعفر بن علي بن حمدون إلى سبتة، وانضمّت إليه ملوك زناتة ورجع بلكّين عنهم إلى غزو برغواطة إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة كما ذكرناه.
ورجع جعفر إلى مكانه من ابن أبي عامر، لم يسمح بمقامه عنه، ووصل حسن بن كنون خلال ذلك من القاهرة بكتاب العزيز نزار بن معدّ إلى بلكّين صاحب إفريقية في إعانته إلى ملك المغرب وإمداده بالمال والعساكر، فأمضاه بلكّين لسبيله، وأعطاه مالا ووعده بإضعافه ونهض إلى المغرب فوجد طاعة المروانية قد استحكمت فيه.
وهلك بلكّين أثر ذلك وشغل ابنه المنصور عن شأنه فدعا لحسن بن كنون إلى نفسه، وأنفذ أبو محمد بن أبي عامر ابن عمه محمد بن عبد الله ويلقّب عسكلاجة لحربه سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وجاء أثره إلى الجزيرة كيما يشارف القصة، وأحيط بالحسن بن كنون فسأل الأمان وعقد له مقارعه عمر وعسكلاجة، وأشخصه إلى الحضرة فلم يمض ابن أبي عامر أمامه، ورأى أن لا ذمّة له لكثرة نكثة فبعث من ثقاته من أتاه برأسه، وانقرض أمر الأدارسة وانمحى أثرهم فأغضب عمر وعسكلاجة لذلك.(7/27)
واستراح إلى الجند بأقوال نميت عنه إلى المنصور فاستدعاه من العدوة وألحقه بمقتوله ابن كنون.
وعقد على العدوة للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي، واكثف عدده، وأطلق في المال يده، ونفذ إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة فضبط المغرب أحسن ضبط وهابته البرابرة، ونزل فاس من العدوة، فعزّ سلطانه وكثر جمعه، وانضمّ إليه ملوك النواحي حتى حذر ابن أبي عامر مغبّة استقلاله، واستدعاه ليبلو صحة طاعته، فأسرع اللحاق به، فضاعف تكرمته وأعاده إلى عمله، وكان بدوي بن يعلى هذا من بين ملوك زناتة كثير الاضطراب على الأموية والمراوغة لهم بالطاعة.
وكان لمنصور بن أبي عامر يضرب بينه وبين قرينه زيري بن عطية ويقرن كلا منهما بمناغاة صاحبه في الاستقامة، وكان إلى زيري أميل وبطاعته أوثق، لخلوصه وصدق طويته وانحياشه فكان يرجو أن يتمكّن من قياد بدوي بن يعلى بمناغاته، فاستدعى بزيري بن عطية إلى الحضرة سنة سبع [1] وسبعين وثلاثمائة فبادر إلى القدوم عليه وتلقّاه وأكبر موصله وأحسن مقامه ومنقلبه وأعظم جائزته، وسام بدوي مثلها فامتنع، وقال لرسوله: قل لابن أبي عامر متى عهد حمر الوحش تنقاد للبيطارة.
وأرسل عنانه في العيث والفساد ونهض إليه صاحب المغرب الوزير حسن بن عبد الودود في عساكره وجموعه من جند الأندلس وملوك العدوة مظاهرا عليه لعدوّة زيري بن عطية، وجمع لهم بدوي ولقيهم سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فكان الظهور له.
وانهزم عسكر السلطان وجموع مغراوة، واستلحموا وجرح الوزير حسن بن عبد الودود جراحات كان فيها لليال مهلكه. وطار الخبر إلى ابن أبي عامر فاغتمّ لذلك وكتب إلى زيري بضبط فاس ومكاتبة أصحاب حسن، وعقد له على المغرب كما نستوفي ذكره عند ذكر دولتهم. وغالبة بدوي عليها مرّة بعد أخرى ونزع أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي عن قومه، ولحق بسواحل تلمسان ناقضا لطاعة الشيعة، وخارجا على أخيه المنصور بن بلكّين صاحب القيروان. وخاطب ابن أبي عامر من وراء البحر وأوفد عليه ابن أخيه ووجوه قومه فسرّب إليه الأموال والصلاة بفاس مع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سنة تسع وسبعين.(7/28)
زيري حسبما نذكره، وجمع أيديهما على مدافعة بدوي، فساء أمره فيهما جميعا إلى أن راجع أبو البهار ولاية منصور ابن أخيه كما نذكره بعد. وحاربه زيري فكان له الظهور عليه ولحق أبو البهار بسبتة، ثم عاد إلى قومه.
واستفحل زيري من بعد ذلك، وكانت بينه وبين بدوي وقعة اكتسح زيري من ماله ومعسكره مالا كفؤله، وسبى حرمه. واستلحم من قومه زهاء ثلاثة آلاف فارس.
وخرج إلى الصحراء شريدا سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. وهلك هناك فولي أمره في قومه حبّوس ابن أخيه زيري بن يعلى، ووثب به ابن عمه أبو يداس بن دوناس فقتله طمعا في الرئاسة من بعده، واختلف عليه قومه فأخفق أمله وعبر البحر إلى الأندلس في جمع عظيم من قومه. وولي أمر بني يفرن من بعده حمامة بن زيري بن يعلى أخو حبّوس المذكور، فاستقام عليه أمر بني يفرن وقد مرّ ذكره في خبر بدوي غير مرّة، وأنه كانت الحرب بينه وبين زيري بن عطية سجالا، وكانا يتعاقبان ملك فاس بتناول الغلب. وأنه لما وفد زيري على المنصور خالفه بدوي إلى فاس فملكها، وقتل بها خلقا من مغراوة، وأنه لمّا رجع زيري اعتصم بدوي بفاس فنازله زيري وهلك من مغراوة وبني يفرن في ذلك الحصار خلق. ثم اقتحمها زيري عليهم عنوة فقتله وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة والله أعلم.
(ولمّا) اجتمع بنو يفرن على حمامة تحيّز بهم إلى ناحية شالة من المغرب فملكها وما إليها من تادّلّا، واقتطعها من زيري، ولم يزل عميد بني يفرن في تلك العمالة، والحرب بينه وبين زيري ومغراوة متّصلة، وكانت بينه وبين المنصور صاحب القيروان مهاداة، فأهدى إليه وهو محاصر لعمّه حماد بالقلعة سنة ست وأربعمائة، وأوفد بهديته أخاه زاوي بن زيري فلقيه بالطبول والبنود. ولما هلك حمامة قام بأمر بني يفرن من بعده أخوه الأمير أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى فاستبدّ بملكهم، وكان مستقيما في دينه مولعا بالجهاد، فانصرف إلى جهاد برغواطة وسالم مغراوة وأعرض عن فتنتهم.
(ولمّا) كانت سنة أربع وعشرين وأربعمائة تجدّدت العداوة بين هذين الحيّين بني يفرن ومغراوة، وثارت الإحن القديمة، وزحف أبو الكمال صاحب شالة وتادلا وما إلى ذلك في جموع يفرن. وبرز إليه حمامة بن المعز في قبائل مغراوة، ودارت بينهم حروب شديدة وانكشفت مغراوة وفرّ حمامة إلى وجدة، واستولى الأمير أبو الكمال تميم وقومه على فاس وغلبوا مغراوة على عمل المغرب. واكتسح تميم اليهود بمدينة فاس،(7/29)
واصطلم نعمهم واستباح حرمهم. ثم احتشد حمامة من وجدة سائر قبائل مغراوة وزناتة وبعث الحاشدين في قياطينهم لجميع بلاد المغرب الأوسط، ووصل إلى تنس صريخا لزعمائهم. وكاتب من بعد عنه من رجالاتهم، وزحف إلى فاس سنة تسع وعشرين وأربعمائة فأفرج عنها أبو الكمال تميم ولحق ببلده ومقر ملكه من شالة، وأقام بمكان عمله وموطن إمارته منها إلى أن هلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه حمّاد إلى أن هلك سنة تسع وأربعين وأربعمائة. وولي بعده ابنه يوسف إلى أن توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، فولي بعده عمّه محمد ابن الأمير أبي تميم إلى أن هلك في حروب لمتونة حين غلبوهم على المغرب أجمع حسبما نذكره، والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
(وأمّا) أبو يداس بن دوناس قاتل حبوس بن زيري بن يعلى بن محمد فإنه لما اختلف عليه بنو يفرن وأخفق أمله في اجتماعهم له، أجاز البحر إلى الأندلس سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فرفعه إخوانه أبو قرّة وأبو زيد وعطاف، فحلّ كلّهم من المنصور محل التكرمة والإيثار ونظمه في جملة الرؤساء والأمراء وأسنى له الجراية والأقطاع، وأثبت رجاله في الديوان، ومن أجاز من قومه فبعد صيته وعلا في الدولة كعبه.
(ولما) افترقت الجماعة وانتثر سلك الخلافة كان له في حروب البربر مع جند الأندلس آثار بعيدة وأخبار غريبة، ولما ملك المستعين قرطبة سنة أربعمائة واجتمع إليه من كان بالأندلس من البرابرة لحق المهدي بالثغور واستجاش طاغية الجلالقة، فزحف معه إلى غرناطة وخرج المستعين في جموعه من البرابرة إلى الساحل واتبعهم المهدي في جموعه فتواقعوا بوادي أيرة [1] فكانت بين الفريقين جولة عظم بلاء البرابرة، وطار لأبي يداس فيما ذكر، وانهزم المهدي والطاغية وجموعهم بعد أن تضايقت المعركة وأصابت أبا يداس بن دوناس جراحة كان فيها مهلكه، ودفن هناك. وكان لابنه خلوف وحافده تميم بن خلوف من رجالات زناتة بالأندلس شجاعة ورياسة، وكان يحيى بن عبد الرحمن ابن أخيه عطاف من رجالاتهم، وكان له اختصاص ببني حمّود، ثم بالقاسم منهم، ولّاه على قرطبة أيام خلافته والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبرة.(7/30)
(الخبر عن أبي نور بن أبي قرّة وما كان له من الملك بالأندلس أيام الطوائف)
هذا الرجل اسمه أبو نور بن أبي قرّة بن أبي يفرن من رجالات البربر الذين استظهر بهم قومهم أيام الفتنة، تغلّب على رندة أزمان تلك الفتنة، وأخرج منها عامر بن فتوح من موالي الأموية سنة خمس وأربعمائة فملكها واستحدث بها لنفسه سلطانا. ولما استفحل أمر ابن عبّاد بأشبيليّة وأسف إلى تملّك ما جاوره من الأعمال والثغور، نشأت الفتنة بينه وبين أبي نور هذا. واختلف حاله معه في الولاية والانحراف، وسجل له سنة ثلاث وأربعين واربعمائة برنده وأعمالها فيمن سجل له من البربر.
واستدعاه بعدها سنة خمسين واربعمائة لبعض ولائمه وكاده بكتاب أوقفه عليه على لسان جارية بقصره تشكو إليه ما نال منها ابنه من المحرّم، فانطلق إلى بلده وقتل ابنه.
وشعر بالمكيدة فمات أسفا وولي ابنه الآخر أبو نصر إلى سنة سبع وخمسين وأربعمائة فغدر به بعض جنده، وخرج هاربا فسقط من السور ومات. وتسلّم المعتمد رنده من بعد ذلك ويقال إنّ ذلك كان عند كائنة الحمام سنة خمس وأربعين وأربعمائة وانّ أبا نور هلك فيها. ولما بلغ الخبر ابنه أبا نصر وقع ما وقع والله أعلم.
(الخبر عن مرنجيصة من بطون بني يفرن وشرح أحوالهم)
كان هذا البطن من بني يفرن بضواحي إفريقية وكانت لهم كثرة وقوّة. ولما خرج أبو يزيد على الشيعة وكان من أخوالهم بنو واركوا ظاهروه على أمره بما كان له معهم من العصبية. ثم انقرض أمره وأخذتهم دولة الشيعة وأولياؤهم صنهاجة وولاتهم على إفريقية بالسطوة والقهر، وإنزال العقوبات بالأنفس والأموال إلى أن تلاشوا وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة. وبقيت منهم أحياء نزلوا ما بين القيروان وتونس أهل شاء وبقر وخيام يظعنون في نواحيها، وينتحلون الفلح في معاشهم، وملك الموحدون إفريقية وهم بهذا الحال، وضربت عليهم المغارم والضرائب والعسكرة مع السلطان في غزواته بعدّة مفروضة يحضرون بها متى استقروا.(7/32)
(ولما تغلّب) الكعوب من بني سليم على ضواحي إفريقية وأخرجوا منها الزواودة من الرياح أعداء الدولة لذلك العهد، واستظهر بهم السلطان عليهم، اتخذوا إفريقية وطنا من قابس إلى باجة. ثم اشتدّت ولايتهم للدولة وعظم الاستظهار بهم وأقطعهم ملك الدولة ما شاؤه من الأعمال والخراج فكان في أقطاعهم خراج مرنجيصة هؤلاء.
ولمّا كانت وقعة بنو مزين على القيروان وكان بعدها في الفترة ما كان من طغيان الفتنة التي اعتزّ فيها العرب على السلطان والدولة، كان لهؤلاء الكعوب المتغلّبين مدد قوي من أحياء مرنجيصة هؤلاء من الخيل للحملان، والخيالة للاستظهار بأعدادهم في الحروب فصاروا لهم لحمة وخولا، وتملّكوهم تملّك العبيد، حتى إذا اذهب الله بحمى الفتنة وأقام مائل الخلافة والدولة وصار تراث هذا الملك الحفصي إلى الأحق به مولانا السلطان أبي العبّاس أحمد، فانقشع الجو وأضاء الأفق ودفع المتغلّبين من العرب عن أعماله، وقبض أيديهم عن رعاياه وأصار مرنجيصة هؤلاء من صفاياه بعد إنزال العقوبة بهم على لياذهم بالعرب وظعنهم معهم، فراجعوا الحق وأخلصوا في الانحياش ورجعوا إلى ما ألفوه من الغرامة وقوانين الخراج، وهم على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مغراوة من أهل الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الدول بالمغرب ومبدإ ذلك وتصاريفه)
هؤلاء القبائل من مغراوة كانوا أوسع بطون زناتة وأهل الباس والغلب منهم، ونسبهم إلى مغراو بن يصلتين بن مسر بن زاكيا بن ورسيك بن ألديرت بن جانا إخوة بني يفرن وبني يرنيان، وقد تقدّم الخلاف في نسبهم عند ذكر بني يفرن، وأمّا شعوبهم وبطونهم فكثير مثل بني يلبث [1] وبني زنداك وبني رواو [2] ورتزمير وبني أبي سعيد وبني ورميغان والأغواط وبني ريغة وغيرهم ممن لم يحضرني أسماؤهم. وكانت محلّاتهم بأرض المغرب الأوسط من شلف إلى تلمسان إلى جبل مدبولة [3] وما إليها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني يليث.
[2] وفي نسخة أخرى: بني وراق.
[3] وفي نسخة أخرى: جبل مديونة.(7/33)
ولهم مع إخوانهم بني يفرن اجتماع وافتراق ومناغاة في أحوال البدو. وكان لمغراوة هؤلاء في بدوهم ملك كبير أدركهم عليه الإسلام فأقرّه لهم وحسن إسلامهم.
وهاجر أميرهم صولات بن وزمار إلى المدينة، ووفد على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فلقاه برّا وقبولا لهجرته، وعقد له على قومه ووطنه. وانصرف إلى بلاده محبوّا محبورا مغتبطا بالدين مظاهرا لقبائل مضر، فلم يزل هذا دأبه. وقيل إنه تقبّض عليه أسيرا لأوّل الفتح في بعض حروب العرب مع البربر قبل أن يدينوا بالدين فأشخصوه إلى عثمان لمكانه من قومه فمنّ عليه وأسلم فحسن إسلامه، وعقد له على عمله فاختصّ صولات هذا وسائر الأحياء من مغراوة بولاء عثمان وأهل بيته من بني أمية، وكانوا خاصة لهم دون قريش، وظاهروا دعوة المروانية بالأندلس رعيا لهذا الولاء على ما تراه بعد في أخبارهم.
ولما هلك صولات قام بأمره في مغراوة وسائر زناتة من بعده ابنه حفص وكان من أعظم ملوكهم، ثم لما هلك قام بأمره ابنه خزر وعند ما تقلّص ظلّ الخلافة عن المغرب الأقصى بعض الشيء، وأظلت فتنة ميسرة الحقير ومظفره [1] فاعتزّ خزر وقومه على أمر المضرية بالقيروان، واستفحل ملكهم وعظم شأن سلطانهم على البدو من زناتة بالمغرب الأوسط. ثم انتقض أمر بني أمية بالمشرق فكانت الفتنة بالمغرب فازدادوا اعتزازا وعتوّا، وهلك خلال ذلك خزر وقام بملكه ابنه محمد وخلص إلى المغرب إدريس الأكبر بن عبد الله بن حسن بن الحسن سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي. وقام برابرة المغرب من أوربة ومدينة ومغيلة بأمره، واستوثق له الملك واقتطع المغرب عن طاعة بني العبّاس سائر الأيام.
ثم نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين ومائة فتلقّاه محمد بن خزر هذا وألقى إليه المقادة، وبايع له عن قومه وأمكنه من تلمسان بعد أن غلب عليها بني يفرن أهلها. وانتظم لإدريس بن إدريس الأمر وغلب على جميع أعمال أبيه، وملك تلمسان وقام بنو خزر هؤلاء بدعوته كما كانوا لأبيه. وكان قد نزل تلمسان لعهد إدريس الأكبر أخوه سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن القادم إليه من المشرق، وسجّل له بولاية تلمسان من سجل ابنه إدريس لمحمد ابن عمّه سليمان من بعده،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مطخرة.(7/34)
فكانت ولاية تلمسان وأمصارها في عقبه، واقتسموا ولاية ثغورها الساحلية فكانت تلمسان لولد إدريس بن محمد بن سليمان، وأرشكول لولد عيسى بن محمد، وتنس لولد إبراهيم بن محمد، وسائر الضواحي من أعمال تلمسان لبني يفرن ومغراوة.
ولم يزل الملك بضواحي المغرب الأوسط لمحمد بن خزر كما قلناه إلى أن كانت دولة الشيعة واستوثق لهم ملك إفريقية. وسرّح عبيد الله المهدي إلى المغرب عروبة بن يوسف الكتاميّ في عساكر كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فدوّخ المغرب الأدنى ورجع. ثم سرّح بعده مصالة بن حبّوس إلى المغرب في عساكر كتامة، فاستولى على أعمال الأدارسة واقتضى طاعتهم لعبيد الله. وعقد على فاس ليحيى بن إدريس بن عمر آخر ملوك الأدارسة. وخلع نفسه ودان بطاعتهم، وعقد له مصالة على فاس، وعقد لموسى بن أبي العالية أمير مكناسة وصاحب تازة [1] ، واستولى على ضواحي المغرب، وقفل إلى القيروان. وانتقض عمر بن خزر من أعقاب محمد بن خزر الداعية لإدريس الأكبر، وحمل زناتة وأهل المغرب الأوسط على البرابرة من الشيعة وسرّح عبيد الله المهدي مصالة قائد المغرب في عساكر كتامة سنة تسع وثلاثمائة، ولقيه محمد ابن خزر في جموع مغراوة وسائر زناتة ففلّ عساكر مصالة وخلص إليه فقتله، وسرّح عبيد الله ابنه أبا القاسم في العساكر إلى المغرب سنة عشر وثلاثمائة، وعقد له على حرب محمد بن خزر وقومه، فأجفلوا إلى الصحراء، واتبع آثارهم إلى ملوية فلحقوا بسجلماسة وعطف أبو القاسم على المغرب فدوّخ أقطاره وجال في نواحيه وجدّد لابن أبي العافية على عمله ورجع ولم يلق كيدا.
(ثم إنّ الناصر) صاحب قرطبة سما له أمل في ملك العدوة، فخاطب ملوك الأدارسة وزناتة، وبعث إليهم خالصته محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى سنة ستة عشر وثلاثمائة فبادر محمد بن خزر إلى إجابته وطرد أولياء الشيعة من الزاب. وملك شلب وتنس من أيديهم، وملك وهران وولّى عليها ابنه المنير [2] ، وبثّ دعوة الأموية في أعمال المغرب الأوسط ما عدا تاهرت. وبدأ في القيام بدعوة الأموية إدريس بن إبراهيم
__________
[1] تازة: مدينة متوسطة من أقدم المدن المغربية، تقع وسط قبيلة غياثة في منتصف الطريق بين مكناس ووجدة في موقع جبلي ممتاز بين الأطلس المتوسط وجبال الريف في ممر استراتيجي عظيم بين الغرب الشرقي وسهول فاس (كتاب المغرب ص 74) .
[2] وفي نسخة ثانية: الخير.(7/35)
بن عيسى بن محمد بن سليمان صاحب أرشكول. ثم فتح الناصر سبتة سنة سبع عشرة وثلاثمائة من يد الأدارسة وأجار موسى بن أبي العالية على طاعته، واتصلت يده بمحمد بن خزر وتظاهروا على الشيعة وخالف فلفول بن خزر أخاه محمد إلى طاعة الشيعة، وعقد له عبد الله على مغراوة.
وزحف إلى المغرب حميد بن يصل [1] سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في عساكر كتامة الى عبد الله على تاهرت فانتهى الى فاس وأجفلت أمامه ظواعن زناتة ومكناسة ودوّخ المغرب. وزحف من بعده ميسور الخصيّ سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فحاصر فاس وامتنعت عليه ورجع. ثم انتقض حميد بن يصل سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وتحيّز إلى محمد بن خزر. ثم أجاز إلى الناصر وولّاه على المغرب الأوسط. ثم شغل الشيعة بفتنة أبي يزيد وعظمت آثار محمد بن خزر وقومه من مغراوة، وزحفوا إلى تاهرت مع حميد بن يصل قائد الأموية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وزحف معه الخير بن محمد وأخوه حمزة وعمّه عبد الله بن خزر، ومعهم يعلى بن محمد في قومه بني يفرن، وأخذوا تاهرت عنوة وقتلوا عبد الله بن بكّار، وأسروا قائدها ميسور الخصيّ بعد أن قتل حمزة بن محمد بن خزر في حروبها.
وكان محمد بن خزر وقومه زحفوا قبل ذلك إلى بسكرة ففتحوا وقتلوا زيدان الخصيّ. ولما خرج إسماعيل من حصار أبي يزيد وزحف إلى المغرب في اتباعه خشية محمد بن خزر على نفسه لما سلف منه في نقض دعوتهم وقتل أتباعهم، فبعث إليه بطاعة معروفة وأوعز إليه إسماعيل بطلب أبي يزيد ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. وكان أخوه معبد بن خزر في موالاة أبي يزيد إلى أن هلك. وتقبّض إسماعيل بعد ذلك على على معبد سنة أربعين وثلاثمائة وقتله، ونصب رأسه بالقيروان. ولم يزل محمد بن خزر وابنه الخير متغلّبا على المغرب الأوسط، ومقاسما فيها ليعلى بن محمد.
ووفد فتوح بن الخير سنة أربعين وثلاثمائة على الناصر مع مشيخة تاهرت ووهران فأجازهم وصرفهم إلى أعمالهم.
ثم حدثت الفتنة بين مغراوة وصنهاجة وشغل محمد بن الخير وابنه خزر بحروبهم، وتغلّب يعلى بن محمد على وهران وخرّبها وعقد الناصر لمحمد بن يصل على تلمسان
__________
[1] هو حميد بن يصليتن الكتامي وقد زحف في عشرين ألف فارس (قبائل المغرب 120) .(7/36)
وأعمالها، وليعلى بن محمد على المغرب وأعماله، فراجع محمد بن خزر طاعة الشيعة من أجل قريعة يعلى بن محمد. ووفد على المعز بعد مهلك أبيه إسماعيل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة فأولاه تكرمة وتمّ على طاعتهم إلى أن حضر مع جوهر في غزاته إلى المغرب بأعوام سبع أو ثمان وأربعين وثلاثمائة ثم وفد على المعز بعد ذلك سنة خمسين وثلاثمائة، وهلك بالقيروان، وقد نيف على المائة من السنين. وهلك الناصر المرواني عامئذ على حين انتشرت دعوة الشيعة بالمغرب وانقبض أولياء الأموية إلى أعمال سبتة وطنجة فقام بعده ابنه الحكم المستنصر، واستأنف مخاطبة ملوك العدوة فأجابه محمد بن الخير ابن محمد بن خزر بما كان من أبيه الخير وجدّه محمد في ولاية الناصر، والولاية التي لبني أمية على آل خزر بوصية عثمان بن عفّان لصولات بن وزمار جدّهم كما ذكرناه.
فاثخن في الشيعة ودوّخ بلادهم. ورماه معدّ بقرينة [1] زيري بن مناد أمير صنهاجة فعقد له على حرب زناتة وسوّغه ما غلب عليه من أعمالهم، وجمعوا للحرب سنة ستين ومائتين فلقي بلكّين بن زيري جموعهم بدسيسة من بعض أولياء محمد بن الخير قبل أن يستكمل تعبيتهم، فأبلى منهم ثباتا وصبرا واشتدّت الحرب بينهم وانهزمت زناتة، حتى إذا رأى محمد بن الخير أن قد أحيط به انتبذ إلى ناحية من العسكر وذبح نفسه. واستمرّت الهزيمة على قومه ووجد منهم في المعركة سبعة عشر أميرا سوى الأتباع. وتحيز كلّ إلى فريقه.
وولى بعد محمد في مغراوة ابنه الخير وأغرى بلكّين بن زيري الخليفة معدّ وجندل بن جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب بموالاة محمد [2] بن الخير فاستراب جعفر وبعث عنه معدّ لولاية إفريقية حتى اعتزم على الرحيل إلى القاهرة، فاشتدّت استرابته ولحق بالخير بن محمد وقومه. وزحفوا إلى صنهاجة فأتيحت لهم الكرّة وأصيب زيري بن مناد كبير العصابة، وبعثوا برأسه إلى قرطبة في وفد من وجوه بني خزر مع يحيى بن عليّ أخي جعفر. ثم استراب بعدها جعفر من زناتة ولحق بأخيه يحيى، ونزلوا على الحكم وعقد معه لبلكّين بن زيري على حرب زناتة وأمدّه بالأموال والعساكر، وسوّغه ما تغلّب عليه من أعمالهم، فنهض إلى المغرب سنة إحدى وستين ومائتين وأوغر بالبرابرة منهم وتقرى أعمال طبنة وباغاية والمسيلة وبسكرة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قريعة.
[2] وفي نسخة ثانية: حمد بن الخير.(7/37)
وأجفلت زناتة أمامه. وتقدّم إلى تاهرت فمحا من المغرب الأوسط آثار زناتة، ولحق بالمغرب الأقصى.
واتبع بلكّين آثار الخير بن محمد وقومه إلى سجلماسة، فأوقع بهم وتقبّض عليهم، فقتله صبرا وفضّ جموعهم، ودوّخ المغرب وانكف راجعا، ومرّ بالمغرب الأوسط فالتحم بوادي زناتة ومن إليهم من المصاصين [1] ورفع الأمان على كل من ركب فرسا أو أنتج خيلا من سائر البربر. ونذر دماءهم فأقفر المغرب الأوسط من زناتة وصار إلى ما وراء ملوية من بلاد المغرب الأقصى إلى أن كان من رجوع بني يعلى بن محمد إلى تلمسان وملكهم إياها، ثم هلك بنو خزر بسجلماسة وطرابلس، وملك بني زيري ابن عطية بفاس ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الخصّاصين.(7/38)
(الخبر عن آل زيري بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة وما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادئ ذلك وتصاريفه)
كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته، ووارث ملكهم البدوي، وهو الّذي مهّد الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي في شرحه.
واسمه زيري بن عطية بن عبد الرحمن بن خزر وجدّه عبد الله أخو محمد داعية الناصر الّذي هلك بالقيروان كما ذكرناه. وكانوا أربعة إخوة محمد ومعبد الّذي قتله إسماعيل وفلفول الّذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه واسمها تبادلت. وقد قيل إنّ عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر، وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت. ولما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكّين سنة إحدى وستين وثلاثمائة وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى، وصار المغرب الأوسط كلّه لصنهاجة، واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر وأمراؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله وخزرون بن فلفول.
ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكّين بن زيري على إفريقية، وزحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين وثلاثمائة وأجفلت أمامه ملوك زناتة من بني خزر وبني محمد بن صالح، وانحازوا جميعا إلى سبتة. وأجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا، فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة ممدّا لهم بنفسه. وعقد لجعفر بن علي على حرب بلكّين، وأجازه البحر وأمدّه بمائة حمل من المال، فاجتمعت إليه ملوك زناتة وضربوا مصافهم بساحة سبتة. وأطلّ عليهم بلكين من جبل تطاون [1] فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم، وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة كما ذكرناه.
وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة، وساهمه المنصور في حمل الرئاسة وبقي
__________
[1] تطوان: قبائل المغرب/ 140. وفي نسخة أخرى تيطاوين.(7/39)
المغرب غفلا من الولاية، واقتصر المنصور على ضبط سبتة ووكّل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر أولياء الشيعة. وقام يبلو طاعنتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة، بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب، وأمدّه بلكين بعسكر من صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكّين، ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب، وانضمّ إليه بدوي [1] بن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن، فسرّح المنصور لحربه ابن عمّه أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقّب عسكلاجه، وبعثه بالعساكر والأموال فأجاز البحر وانحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير، ومقاتل وزيري ابنا عطية، وخزرون بن فلفول في جميع مغراوة، وظاهروه على شأنه.
وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى ألجئوه إلى الطاعة، وسأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك، وأمكن به من قياده، وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمّة أبي الحكم بن أبي عامر وقتله بعده ما تقدّم حسبما ذكرنا ذلك من قبل.
وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشدّ الناس انحياشا للمنصور قياما بطاعة المروانية. وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم. ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر من المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد ابن عبد الودود السلمي وأطلق يده في انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة، واستبلغ بمقاتل وزيري من بنيهم لحسن انحياشهم وطاعتهم، وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة، فنفذ لعمله ونزل بفاس، وضبط أعمال المغرب، واجتمعت إليه ملوك زناتة.
وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة واستقلّ برياسة الظواعن البدو من مغراوة إخوة زيري بن عطية، وحسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه. واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة إشادة بتكريمه وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الحظ وإيثار الطاعة فبادر
__________
[1] يدو بن يعلى اليغرني:/ قبائل المغرب/ 121.(7/40)
إلى إجابته بعد ان استخلف على المغرب. ابنه المعزّ، وأنزله بتلمسان ثغر المغرب وولّى على عدوة القرويين من فاس علي بن محمود بن أبي عليّ قشوش، وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة. وقدّم بين يديه هدية إلى المنصور، ووفد عليه فاستقبله بالجيوش والعدّة واحتفل للقائه، وأوسع نزله وجرايته ونوّه باسمه في الوزارة وأقطعه رزقها. وأثبت رجاله في الديوان ووصله بقيمة هديّته وأسنى فيها. وأعظم جائزته وجائزة وفده وعجّل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب. ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط [1] المعروف وإنكار الصنيع، والاستنكاف من لقب الوزارة الّذي نوّه به، حتى أنه قال لبعض حشمه، وقد دعاه بالوزير: وزير من يا لكع [2] فما والله إلا أمير ابن أمير، وا عجبا من ابن أبي عامر ومخرقته [3] ، والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله، وإن له منّا ليوما، والله لقد تأجّرني فيما أهديت إليه حطا للقيم، ثم غالطني بما بذله تنبيتا للكرم، إلّا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطّني بها عن رتبتي.
ونمي ذلك إلى ابن أبي عامر فصرّ عليها أذنه وزاد في اصطناعه، وبعث بدوي بن يعلى اليفرني قريعة في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته وقال: متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد للبياطرة. وأخذ في إفساد السابلة والاجلاب على الأحياء والعيث في العمالة، فأوعز المنصور إلى عامله بالمغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه، ومظاهرة عدوّه زيري بن عطية عليه، فجمعوا له سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ولقوة فكانت الدائرة عليهم، وتخرّم العسكر وأثبت [4] الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه. وبلغ الخبر إلى المنصور فشقّ عليه وأهمه شأن المغرب، وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية، وكتب إليه بعهده وأمر بضبط المغرب ومكانفة [5] جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود، فاطلع بأعبائه وأحسن الغناء في عمله.
__________
[1] غمط: احتقره وازدرى به.
[2] بمعنى أحمق.
[3] لعله ينوي خرقه: أي حمقه وسوء تصرّفه.
[4] وفي نسخة أخرى: أثبتت. ويقال طعنه فاثبت فيه الرمح أي أنفذه، وضربوه حتى أثبتوه: أي أثخنوه (القاموس) .
[5] بمعنى المحافظة على جند السلطان وفي نسخة أخرى: مكاتبة.(7/41)
واستفحل شأن بدوي بن يعلى وبني يفرن، واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة، وكانت حروبهم سجالا، وسئمت الرعايا بفاس كثرة تعاقبهم عليها وانتزاؤهم على عملها. وبعث الله لزيري بن عطية ومغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقض على ابن أخيه منصور بن بلكّين صاحب القيروان وإفريقية، ونزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية. واقتفى أثره في ذلك خلّوف بن أبي بكر صاحب تاهرت وأخوه عطية لصهر كان بينهما وبين زيري، فاقتسموا [1] أعمال المغرب الأوسط ما بين الزاب وأنشريس [2] ووهران، وخطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيّد، وخاطب أبو البهار من وراء البحر محمد بن أبي عامر، وأوفد عليه أبا بكر بن أخيه حبّوس بن زيري في طائفة من أهل بيته ووجوه قومه، فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحبا وتسهيلا، وأعظم موصله وأسنى جوائز وفده وصلاتهم، وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسمائة قطعة من صنوف الثياب الخز والعبيد، وما قيمته عشرة آلاف درهم من الآنية والحلي، وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير، ودعاه إلى مظاهرة زيري بن عطيّة على بدوي بن يعلى، وقسّم بينهما أعمال المغرب شق الأبلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعد عدوة، فلم يرع ذلك بدوي ولا وزعه عن شأنه من الفتنة والاجلاب على البدو والحاضرة، وشق عصا الجماعة. وانتقض خلّوف بن أبي بكر على المنصور لوقته، وراجع ولاية المنصور بن بلكّين.
ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة التي بينهما، وقعد عمّا قام له زيري بن عطية من حرب خلّوف بن أبي بكر، وأوقع به زيري في رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة واستلحمه وكثيرا من أوليائه، واستولى على عسكره، وانحاش إليه عامّة أصحابه.
وفرّ عطية شريدا إلى الصحراء، ثم نهض على أثرها لبدوي بن يعلى وقومه فكانت بينهم لقاءات انكشف فيها أصحاب بدوي واستلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف، واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهنّ أمّه وأخته، وتحيّز سائر أصحابه إلى فئة زيري وخرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمّه أبو يدّاس بن دوناس كما ذكرناه، وورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه. وقد قيل إنّ مقتل بدوي إنّما كان عند إياب زيري من الوفادة، وذلك أنه لما استقدمه المنصور
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فاقتطعوا.
[2] جبال ونشريس: قبائل المغرب/ 121.(7/42)
ووفد عليه كما ذكرناه، خالفه بدوي إلى فاس فملكها وقتل من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره. فلمّا رجع زيري من وفادته امتنع بها بدوي فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق. ثم اقتحمها عليه عنوة وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة. إلا أن راوي هذا الخبر يجعل وفادة زيري على المنصور وقتله لبدوي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة [1] فاللَّه أعلم أيّ ذلك كان.
(ثم إنّ زيري) فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به زيري وانهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقّيه فحاد عن لقائه. وصاعد إلى قلعة جراوة، وقد قدم الرسل إلى ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما. ثم تحيّز إليه وعاد إلى مكانه من عمله، وخلع ما تمسّك به من طاعة الأموية وراجع طاعة الشيعة فجمع المنصور لزيري بن عطيّة أعمال المغرب. واستكفى به في سدّ الثغر وعوّل عليه من بين ملوك المغرب في الذبّ عن الدعوة، وعهد إليه بمناجزة أبي البهار وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر وفرّ أمامه، ولحق بالقيروان. واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي البهار. وملك ما بين السوس الأقصى والزاب فاتسع ملكه وانبسط سلطانه واشتدّت شوكته، وكتب بالفتح إلى المنصور بمائتين من الخيل وخمسين جملا من المهاري السبق، وألف درقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره، وألف حمل من التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة، فجدّد له عهده على المغرب سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطينهم.
واستفحل أمر زيري بالمغرب ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا، واختط مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وأنزلها عساكره وحشمه، واستعمل عليها ذويه، ونقل إليها ذخيرته، وأعدّها معتصما، وكانت ثغرا للعمالتين المغرب الأقصى والأوسط.
(ثم فسد) ما بينه وبين المنصور بما نمي عنه من التألف لهشام باستبداد المنصور عليه
__________
[1] كذا في قبائل المغرب سنة 383 هـ./ ص 121.(7/43)
فسامه المنصور الهضيمة. وأبى منها، وبعث كاتبه ابن القطاع في العساكر، فاستعصى عليه وأمكنه صاحب قلعة حجر النسر منها، فأشخصه إلى الحضرة.
وأحسن إليه المنصور وسمّاه الناصح، وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر والإغراء به والتشيّع لهشام المؤيّد والامتعاض له من هضيمته وحجره، فسخطه عند ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة، ومحى اسمه من ديوانه ونادى بالبراءة منه.
وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية، وانتقى له الحماة من سائر الطبقات، وأزاح عللهم وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح والكسى، وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة، منهم: محمد بن الخير ابن محمد بن الخير وزيري بن خزر وابن عمهما بكساس بن سيّد الناس. ومن بني يفرن أبو بخت [1] بن عبد الله بن بكار. ومن مكناسة إسماعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين، ومن أزداجة خزرون بن محمد وأمدّه بوجوه الجند. وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وسار في التعبية وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ردات [2] وزحف زيري بن عطيّة في قومه، فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر، واتهم واضح رجالات بني مرزال بالادهان فأشخصهم إلى الحضرة وأغرى بهم المنصور فوبّخهم وتنصّلوا فصفح عنهم، وبعثهم في غير ذلك الوجه. ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكّور فضبطهما واتصلت الوقائع بينه وبين زيري، وبيّت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا وهم غارّون [3] فأوقع بهم وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح وإمداده، فسار في التعبية واحتلّ بالجزيرة عند فرضة المجاز، ثم بعث عن ابنه المظفّر من مكان استخلافه بالزاهرة، وأجاز إلى العدوة واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلّة القواد. وقفل المنصور الى قرطبة واستراع [4] خبر عبد الملك بالمغرب ورجع إليه عامّة أصحاب زيري من ملوك البربر وتناولهم من إحسانه وبرّه ما لم يعهدوا مثله.
وزحف عبد الملك الى طنجة واجتمع مع واضح، وتلوم هناك مزيحا لعلل العسكر، فلما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابو نوبخت.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: وادي ركاب.
[3] بمعنى (مغيرون) .
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: استذاع بمعنى ذاع وهذه من التعابير التي يستعملها ابن خلدون.(7/44)
استتم تدبيره زحف في جمع لا كفاء له. فلقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوّال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فدارت بينهم حروب شديدة. وهمّ [1] فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو. وبينهما هم في حومة الحرب إذ طعن زيري بعض الموثورين من أتباعه اهتبل الغرّة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره أشواه بها، ومرّ يشتدّ نحو المظفّر، وبشرّه فاستكذبه لثبوت رايته ثم سقط إليه الصحيح فشدّ عليهم فاستوت الهزيمة وأثخن فيه بالقتل، واستولى على ما كان في عسكرهم مما يذهب فيه الوصف.
ولحق زيري بفاس جريحا في قلّة، فامتنع عليه أهلها ودافعوه بحرمة، فاحتملهنّ وفرّ أمام العساكر إلى الصحراء، وأسلم جميع أعماله. وطيّر عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده وأعلن بالشكر للَّه والدعاء وبثّ الصدقات وأعتق الموالي، وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه وسدّ ثغوره، وبعث العمّال في جهاته: فأنفذ محمد بن الحسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا [2] واستعمل حميد بن يصل المكناسي [3] على سجلماسة فخرج كل لوجهه، واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج، وأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره. ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى، ثم ولّى عليه من بعده إسماعيل بن البوري، ثم من بعده أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبيّ إلى أن هلك المنصور.
وأعاد المظفّر بن المعز بن زيري من منتبذه بالمغرب الأوسط لولاية أبيه بالمغرب فنزل فاس، وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد الملك إيّاه، واجتمع إليه بالصحراء فلّ مغراوة، وبلغه اضطراب صنهاجة واختلافهم على باديس بن المنصور بعد مهلك أبيه، وأنه خرج عليه بعد عمومته مع ماكسن بن زيري، فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة ينتهز فيها الفرصة. واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوّفت بن بلكّين. وخرج باديس من القيروان صريخا له.
فلمّا مرّ بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون وخالفه إلى إفريقية فشغل بحربة. وكان
__________
[1] همّ بالشيء: عزم عليه وقصد فعله ولم يعمله.
[2] تادلا: مركز فلاحي عسكري يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر 500 م على الضفة اليمنى لوادي أم الربيع يقع وسط ناحية اشتهرت بتربية الأغنام وبجودة الأصناف (كتاب الغرب/ 72) .
[3] هو حميد بن يصلتين الكتامي (قبائل الغرب 120) .(7/45)
أبو سعيد بن خزرون لحق بإفريقية وولّاه المنصور على طبنة كما نذكره، فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حمّاد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي ميناس قرب تاهرت، فكانت الدبرة على صنهاجة، واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم ألوفا منهم. وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة، وأقام الدعوة فيها كلّها للمؤيد هشام ولحاجبه المنصور من بعده.
ثم اتّبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم، فأناخ عليها واستأمن إليه زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل، وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترط على نفسه الرهن والاستقامة إن أعيد إلى الولاية، ويستأذنه في قدوم زاوي وأخيه خلّال، فأذن لهما وقدما سنة تسعين وثلاثمائة، وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك، وأنفذ رسله يذكر تقديمه فسوّفه المنصور لما سبق من نكثه. واعتلّ زيري بن عطيّة وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها. وهلك في منصرفه سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة واجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعزّ بن زيري فبايعوه، وضبط أمرهم وأقصر عن محاربة صنهاجة ثم استجدى للمنصور واعتلق بالدعوة العامريّة وصلحت حاله عندهم، وهلك المنصور خلال ذلك ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفّر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له عهده وأنفذ به وزيره أبا علي بن خديم [1] (ونسخته) : بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله علي سيدنا محمد وآله من الحاجب المظفّر سيف الدولة دولة الامام الخليفة هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مدنيّي فاس وكافة أهل المغرب سلّمهم الله أمّا بعد أصلح الله شأنكم وسلّم أنفسكم وأديانكم، فالحمد للَّه علّام الغيوب وغفّار الذنوب ومقلّب القلوب ذي البطش الشديد المبدئ المعيد الفعّال لما يريد، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، بل له الملك والأمر، وبيده الخير والشرّ، إيّاه نعبد وإيّاه نستعين، وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون. وصلى الله على سيّدنا محمد سيّد المرسلين وعلى آله الطيبين، وجميع الأنبياء والمرسلين والسلام عليكم أجمعين.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: علي بن جدلم.(7/46)
وإن المعزّ بن زيري بن عطيّة أكرمه الله تابع رسله لدينا وكتبه متنصّلا من هنات دفعته إليها ضرورات، ومستغفرا من سيئات حطتها من توبته حسنات، والتوبة محاء الذنب، والاستغفار منقذ من العيب [1] . وإذا أذن الله بشيء يسرّه، وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم فيه خير. وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة، ولزوم الجادة، واعتقاد الاستقامة وحسن المعونة وخفة المؤنة، فولّيناه ما قبلكم، وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم، وأن يرفع أعمال الجور عنكم. وأن يعمّر سبلكم، وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلّا في حدود الله تبارك وتعالى. وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى باللَّه شهيدا. وقد وجّهنا الوزير أبا علي بن خديم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ بشأنه ويؤكد العهد فيه عليه بذلك، وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون وأحوالكم مطالعون، وأن يقضي على الأعلى للأدنى، ولا يرتضي فيكم بشيء من الأدنى فثقوا بذلك وأسكنوا إليه وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا، معقودا سلطانه بسلطاننا، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فذلك طبنا به إذ ولّيناه، وأملنا فيه إذ قلّدناه، والله المستعان، وعليه التكلان، لا إله إلّا هو، وتبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا ورحمة الله وبركاته كتب في ذي القعدة من سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
(ولما وصل) إلى المعز بن زيري عهد المظفّر بولايته على المغرب ما عدا كورة سجلماسة، فإنّ واضحا مولى المنصور عهد في ولايته على المغرب بها لواندين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكره، فلم تدخل في ولاية المعز هذه. فلمّا وصله عهد المظفّر ضمّ نشره [2] وثاب إليه نشاطه، وبثّ عمّاله في جميع كور المغرب وجبى خراجها، ولم تزل ولايته متسقة، وطاعة رعاياه منتظمة.
(ولما) افترق أمر الجماعة بالأندلس واختلّ رسم الخلافة وصار الأمر فيها طوائف استحدث المعزّ في التغلّب على سجلماسة وانتزاعها من أيدي بني واندين بن خزرون فأجمع لذلك، ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة وبرزوا إليه في جموعهم فهزموه، ورجع إلى فاس في فلّ من قومه وأقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة وأربعمائة وولي من بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية، وليس كما يزعم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العتب.
[2] النشر: القوم المتفرقون لا يجمعهم رئيس.(7/47)
بعض المؤرخين انه ابنه وإنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط، فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه، وقصده الأمراء والعلماء وأتته الوفود ومدحه الشعراء ثم نازعه الأمر أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني سنة أربع وعشرين وأربعمائة من بني يدوي بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا، وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن ومن انضاف إليهم من زناتة.
وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حروب شديدة أجلت عن هزيمة حمامة. ومات من مغراوة أمم واستولى تميم على فاس وأمال المغرب، ولما دخل فاس استباح يهود وسبى حرمهم واصطلم نعمتهم، ولحق حمامة بوجدة فامتدّ من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونة وملوية. وزحف إلى فاس فدخلها سنة تسع وعشرين وأربعمائة وتحيّز تميم إلى موضع إمارته من سلا وأقام حمامة في سلطان المغرب.
وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة القائد ابن حمّاد صاحب القلعة في جموع صنهاجة، وخرج إليه مجمعا حربه، وبثّ القائد عطاءه في زناتة واستعبدهم [1] على صاحبهم حمامة، فأقصر عن لقائه ولاذ منه بالسلم والطاعة، رجع القائد عنه ورجع هو إلى فاس. وهلك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فولّي بعده ابنه دوناس ويكنّى أبا العطاف، واستولى على فاس وسائر عمل أبيه، وخرج عليه لأوّل أمره حمّاد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب ووقائع، وكثرت جموع حمّاد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد، وقطع حمّاد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فاستقامت دولة دوناس، وانفسحت أيامه، وكثر العمران ببلده، واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها، وبنى بها الحمامات والفنادق فاستبحر عمرانها ورحل التجّار إليها بالبضائع، وهلك دوناس سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فولي بعده ابنه الفتوح ونزل بعدوة الأندلس ونازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة وامتنع بعدوة القرويين، وافترق أمره بافتراقهما وكانت الحرب بينهما سجالا، ومجالها بين المدينتين حيث يفضي باب النقبة بعدوة القرويين لهذا العهد، وشيّد الفتوح باب عدوة الأندلس وهو مسمّى به إلى الآن، واختطّ عجيسة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واستفسرهم.(7/48)
باب الجيسة وهو أيضا مسمّى به وإنما حذفت عينه لكثرة الاستعمال [1] وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وبيّته فظفر به وقتله، ودهم المغرب أثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة، وخشي الفتوح مغبّة أحوالهم فأفرج عن فاس.
وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حمّاد إلى المغرب سنة أربع وخمسين وأربعمائة على عادتهم في غزوة، ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأشرافهم رهنا على الطاعة، وقفل إلى قلعته. وولّى على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن معنصر [2] ، وشغل بحروب لمتونة. وكانت له عليهم الوقعة المشهورة سنة خمس وخمسين وأربعمائة ولحق بضرية [3] وملك يوسف بن تاشفين والمرابطون، فاس وخلّف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة، ومثّل بهم بالحرق والصلب. ثم زحف إلى مهدي ابن يوسف الكترنائي [4] صاحب مدينة مكناسة، وقد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه وقتله وبعث برأسه إلى سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة. وقد بلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها، وقطعوا المرافق عنها حتى اشتدّ بأهلها الحصار ومسّهم الجهد. وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة عليه، وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين وأربعمائة وبايع أهل فاس من بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء. وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى إذا كان سنة اثنتين وستين وأربعمائة وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما، ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زنانة. وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مواراتهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات. وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان، وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين العدوتين وصيّرهما مصرا، وأدار عليهما سورا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من فاس والبقاء للَّه سبحانه وتعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لكثرة الدوران في استعمالهم.
[2] وفي نسخة ثانية: بن منصور.
[3] وفي نسخة ثانية: ولحق بصدينة.
[4] وفي نسخة ثانية: الكزنائي.(7/49)
(الخبر عن بني خزرون ملوك سجلماسة من الطبقة الاولى من مغراوة وأولية ملكهم ومصائره)
كان خزرون بن فلفول من أمراء مغراوة وأعيان بني خزر، ولما غلبهم بلكّين بن زيري على المغرب الأوسط تحيّزوا إلى المغرب الأقصى وراء ملويّة. وكان بنو خزر يدينون بالدعوة المروانية كما ذكرناه. وكان المنصور بن أبي عامر القائم بدولة المؤيد قد اقتصر لأوّل حجابته من أحوال العدوة على ضبط سبتة برجال الدولة ووجوه القوّاد وطبقات العسكر، ودفع ما وراءها إلى أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة. وعوّل في ضبط كورة وسداد ثغوره عليهم وتعهّدهم بالعطاء وأفاض فيهم الإحسان فازدلفوا إليه بوجوه التقرّبات وأسباب الوصائل. وكان خزرون بن فلفول هذا زحف يومئذ إلى سجلماسة وبها المعتز من أعقاب آل مدرار، فانتزى بها أخوه المنتصر بعد قفول جوهر(7/50)
إلى المغرب وظفر بأميرهم الشاكر للَّه محمد بن الفتح، فوثب المنتصر من أعقابهم بعده على سجلماسة وتملّكها. ثم وثب به أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله وقام بأمر سجلماسة، وأعاد بها ملك بني مدرار وتلقّب المعتز باللَّه فزحف إليه خزرون ابن فلفول سنة سبع وستين وثلاثمائة في جموع مغراوة وبرز إليه المعتز فهزمه خزرون واستولى على مدينة سجلماسة ومحا دولة آل مدرار والخوارج منها آخر الدهر، وأقام الدعوة بها للمؤيد هشام، فكانت أول دولة أقيمت للمروانيين بذلك الصقع، ووجد للمعتز مالا وسلاحا فاحتقنها وكتب بالفتح إلى هشام وأنفذ رأس المعتز فنصب بباب سدّته ونسب الأثر في ذلك الفتح لصحابة محمد بن أبي عامر ويمن طائره، وعقد لخزرون على سجلماسة وأعمالها، وجاءه عهد الخليفة بذلك فضبطها وقام بأمرها إلى أن هلك، فولي أمر سجلماسة من بعده ابنه وانودين.
ثم كان زحف زيري بن مناد إلى المغرب الأقصى سنة تسع وستين وثلاثمائة وفرّت زناتة أمامه إلى سبتة. وملك أعمال المغرب وولّى عليها من قبله وحاصر سبتة. ثم أفرج عنها وشغل بجهاد برغواطة، وبلغه أن وانودين بن خزرون أغار على نواحي سجلماسة، وأنه دخلها عنوة وأخذ عامله وما كان معه من الأموال والذخيرة، فدخل إليها سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وفصل عنها فهلك في طريقه، ورجع وانودين بن خزون إلى سجلماسة. وفي أثناء ذلك كان استيلاء زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر على المغرب وملك فاس بعهد هشام. ثم انتقض على المنصور آخرا وأجاز ابنه عبد الملك في العساكر إلى العدوة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فغلب عليها بني خزر ونزل فاس، وبثّ العمّال في سائر نواحي المغرب لسدّ الثغور وجباية الخراج، وعقد فيما عقد على سجلماسة لحميد بن يصل المكناسي [1] النازع إليهم من أولياء الشيعة فعقد له على سجلماسة حين فرّ عنها بنو خزرون فملكها وأقام فيها الدعوة. ولما قفل عبد الملك إلى العدوة وأعاد واضحا إلى عمله بفاس، استأمن إليه كثير من بني خزر كان منهم وانودين بن خزرون صاحب سجلماسة وابن عمّه فلفول بن سعيد فأمّنهم، ثم رجع وانودين إلى علمه بسجلماسة بعد أن تضامن أمرها وانودين وفلفول بن سعيد على مال مفروض، وعدة من الخيل والدرق [2] يحملان إليه ذلك كلّ سنة. وأعطيا في ذلك
__________
[1] حميد بن يصليتن الكتامي وقد مرّ معنا من قبل.
[2] الدرق: ج درقة وهي الترس من الجلد ليس فيه خشب ولا عقب.(7/51)
أبناءهما رهنا فعقد لهما واضح بذلك، واستقل وانودين بعد ذلك بملك سجلماسة منذ أول سنة تسعين وأربعمائة مقيما فيها للدعوة المروانية. ورجع المعز بن زيري إلى ولاية المغرب بعهد المظفّر بن أبي عامر سنة ست وتسعين وأربعمائة واستثنى عليه فيها أمر سجلماسة لمكان وانودين بها. ولما انتثر سلك الخلافة بقرطبة، وكان أمر الجماعة والطوائف واستبدّ أمراء الأمصار والثغور وولاة الأعمال بما في أيديهم، استبدّ وانودين هذا بأعمال سجلماسة وتغلّب على عمل درعة واستضافه إليه.
ونهض المعز بن زيري صاحب فاس سنة سبع وأربعمائة مع جموع من مغراوة يحاول انتزاع هذه الأعمال من يد وانودين، فبرز إليه في جموعه وهزمه، وكان ذلك سببا في اضطراب أمر المعز إلى أن هلك، واستفحل ملك وانودين واستولى على صبرون [1] من أعمال فاس وعلى جميع قصور ملوية، وولّى عليها من أهل بيته. ثم هلك وولي أمره من بعده ابنه مسعود بن وانودين، ولم أقف على تاريخ ولايته ومهلك أبيه.
(ولمّا) ظهر عبد الله بن ياسين واجتمع إليه المرابطون من لمتونة ومسوفة وسائر المتلثّمين، وافتتحوا أمرهم بغزو درعة سنة خمس وأربعين وأربعمائة فأغاروا على إبل كانت هناك في حمى لمسعود بن وانودين وقتل كما ذكرناه في أخبار لمتونة. ثم عاودوا الغزو إلى سجلماسة فدخلوها من العام المقبل مدخلوها، وقتلوا من كان بها من فلّ مغراوة. ثم تتبّعوا من بعد ذلك أعمال المغرب وبلاد سوس وجبال المصامدة، وافتتحوا صفروي سنة خمس وخمسين وأربعمائة وقتلوا من كان بها من أولاد وانودين وبقية مغراوة. ثم افتتحوا حصون ملوية سنة ثلاث وستين وأربعمائة وانقرض أمر بني وانودين كأن لم يكن، والبقاء للَّه وحده وكل شيء هالك إلّا وجهه، سبحانه وتعالى لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه، وهو على كل شيء قدير.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: صفروي(7/52)
(الخبر عن ملوك طرابلس من بني خزرون بن فلفول من الطبقة الأولى وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان مغراوة وبنو خزر ملوكهم قد تحيّزوا إلى المغرب الأقصى أمام بلكّين، ثم اتّبعهم سنة تسع وستين وثلاثمائة في زحفه المشهور، وأحجرهم بساحل [1] سبتة حتى بعثوا صريخهم إلى المنصور. وجاءهم إلى الجزيرة مشارفا لأحوالهم وأمدّهم بجعفر بن يحيى ومن كان معه من ملوك البربر وزناتة، فامتنعوا على بلكّين، ورجع عنهم فتقرى أعمال المغرب، وهلك في منصرفه سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ورجع أحياء مغراوة وبنو يفرن إلى مكانهم منه. وبعث المنصور الوزير حسن بن عبد الودود عاملا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بساحة.(7/53)
على المغرب، وقدم سنة ست وسبعين وثلاثمائة واختص مقاتلا وزيري ابني عطية بن عبد الله بن خزر بمزيد التكرمة، ولحق نظراؤهما من أهل بيتهما الغيرة من ذلك، فنزع سعيد بن خزرون بن فلفول بن خزر إلى صنهاجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائه منحرفا عن طاعة الأموية. ووافى المنصور بن بلكّين بأشير منصرفه من إحدى غزواته، فتلقّاه بالقبول والمساهمة، وبالغ في تكرمته [1] وعقد له على عمل طبنة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وخرج للقائه، واحتفل في تكرمته ونزله. وأدركه الموت بالقيروان فهلك لسنته. ووفد ابنه فلفول من مكان عمله، فعقد له على عمل أبيه وخلع عليه، وزفّ إليه ابنته، وسوّغه ثلاثين حملا من المال، وثلاثين تختا من الثياب، وقرّب إليه مراكب بسروج مثقلة وأعطاه عشرة من البنود مذهّبة، وانصرف إلى عمله.
وهلك المنصور بن بلكّين سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وولي ابنه باديس فعقد لفلفول على عمله بطبنة، ولما انتقض زيري بن عطيّة على المنصور بن أبي عامر، وسرّح إليه ابنه المظفّر كما قلناه، فغلبه على أعمال المغرب. ولحق زيري بالقفر، ثم عاج على المغرب الأوسط، ونازل ثغور صنهاجة، وحاصر تيهرت، وبها يطّوفت بن بلكّين.
وزحف إليه حمّاد بن بلكّين من أشير في العساكر من تلكّانة، ومعه محمد بن أبي العرب قائد باديس، بعثه في عساكر صنهاجة من القيروان مددا ليطّوفت. وأوغر إلى فلفول وهو بأشير أن يكون معهم. ولقيهم زيري بن عطيّة ففضّ جموعهم، واستولى على معسكرهم، واضطربت إفريقية فتنة وتنكّرت صنهاجة لمن كان بجهاتها من قبائل زناتة. وخرج باديس بن المنصور من رقادة في العساكر إلى المغرب. ولمّا مرّ بطبنة استقدم فلفول بن سعيد بن خزرون ليستظهر به على حربه، فاستراب واعتذر عن الوصول. وسأل تجديد العهد إلى مقدّم السلطان فأسعف. ثم اشتدّت استرابته ومن كان معه من مغراوة فارتحلوا عن طبنة وتركوها. ولما أبعد باديس رجع فلفول إلى طبنة فعاث في نواحيها، ثم فعل في تيجس [2] كذلك، ثم حاصر باغاية. وانتهى باديس
__________
[1] بياض بالأصل وفي نسخة ثانية: واستبلغ في ترك الإحن.
[2] مدينة قديمة عتيقة كانت تسكنها قبيلة ورغروسة من القبائل البربرية ولعلّها تيجيساس التي وصفها مولييراس بأنها مدينة صغيرة جميلة ومرسى بحري وأنها محاطة بالحدائق الغناء (قبائل المغرب/ ص 307) (المغرب المجهول ج 2/ 256) .(7/54)
إلى أشير وفرّ زيري بن عطيّة إلى صحراء المغرب ورجع على باديس بعد أن ولّى على تاهرت وأشير عمّه يطوفت بن بلكّين وانتهى إلى المسيلة فبلغه خروج عمومته ماكسن وزاوي وغرم ومغنين فخاف أبو البهار إحن زيري ولحق بهم من معسكره، وبعث باديس في أثرهم عمّه حمّاد بن بلكّين، ورحل هو إلى فلفول بن سعيد بعد أن كان سرّح عساكره إليه، وهو محاصر باغاية، فهزمهم وقتل قائدهم أبا رعبل [1] . ثم بلغه وصول باديس فأفرج عنها، واتبعه باديس إلى مرماجنّة، فتزاحفوا وقد اجتمع لفلفول من قبائل زناتة والبربر أمم، فلم يثبتوا للّقاء وانكشفوا عنه. وانهزم إلى جبل الحناش، ونزل القيطون بما فيه. وكتب باديس بالفتح إلى القيروان، وقد كان الإرجاف أخذ منهم المأخذ، وفرّ كثير منهم إلى المهديّة وشرعوا في عمل الدروب بما كانوا يتوقّعون من فلفول بن سعيد حين قتل أبا رعبل، وهزم جيوش صنهاجة، وكانت الواقعة آخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وانصرف باديس إلى القيروان، ثم بلغه ان أولاد زيري اجتمعوا مع فلفول بن سعيد وعاقدوه، ونزلوا جميعا فحصروا تبسة فخرج باديس من القيروان إليهم، فافترقوا ولحق العمومة بزيري بن عطية ما خلا ماكسن وابنه حسنا [2] ، فإنّهما أقاما مع فلفول. ورجع باديس في أثره سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وانتهى إلى بسكرة ففرّ فلفول إلى الرمال. وكان زيري بن عطية محاصرا لأشير أثناء هذه الفتنة، فأفرج عنها، ورجع عنها أبو البهار إلى باديس، وقفل معه إلى القيروان وتقدّم فلفول بن سعيد إلى نواحي قابس وطرابلس فاجتمع إليه من هنالك من زناتة، وملك طرابلس على ما نذكره.
(وذلك) أنّ طرابلس كانت من أعمال مصر وكان العامل عليها بعد رحيل معدّ إلى القاهرة عبد الله بن يخلف الكتامي. ولما هلك معدّ رغب بلكّين من نزال العزيز إضافتها إلى عمله، فأسعفه بها، وولّى عليها تمصولة بن بكّار من خواصّ مواليه.
نقله إليها من ولاية بونة، فلم يزل عليها إلى أن أرسل إلى الحاكم [3] بمصر يرغّب الكون في حضرته، وأن يتسلّم منه عمل طرابلس. وكان برجوان الصقلّي يستبد على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبا زعيل.
[2] وفي نسخة ثانية: محسن.
[3] وفي نسخة ثانية: فأقام عليها عشرين سنة إلى أيام باديس، فتنكّرت له الأحوال عما عهد، وبعث الى الحاكم.(7/55)
الدولة، وكان يغصّ بمكان يأنس الصقلي منها، فأبعده عن الحضرة لولاية برقة.
ثم لمّا تتابعت رغبة تمصولة صاحب طرابلس، أشار برجوان ببعث يأنس إليها، فعقد له الحاكم عليها، وأمره بالنهوض إلى عملها فوصلها سنة تسعين وثلاثمائة ولحق تمصولة بمصر وبلغ الخبر إلى باديس، فسرّح القائد جعفر بن حبيب في العساكر ليصدّه عنها. وزحف إليه يأنس فكانت عليه الهزيمة وقتل. ولحق فتّوح بن علي من قوّاده بطرابلس، فامتنع بها ونازلة جعفر بن حبيب وأقام عليها مدّة. وبينما هو محاصر له إذ وصله كتاب يوسف بن عامر عامل قابس يذكر أن فلفول بن سعيد نزل على قابس، وأنه قاصد إلى طرابلس، فرحل جعفر عن البلد إلى ناحية الجبل، وجاء فلفول بن سعيد فنزل بمكانه، وضاقت الحال بجعفر وأصحابه فارتحلوا مصممين على المناجزة وقاصدين قابس، فتخلى فلفول عن طريقهم وانصرفوا الى قابس.
وقدم فلفول مدينة طرابلس فتلقّاه أهلها، ونزل له فتوح بن علي عن إمارتها فملكها، وأوطنها من يومئذ وذلك سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وبعث بطاعته الى الحاكم فسرّح الحاكم يحيى بن علي بن حمدون، وعقد له على أعمال طرابلس وقابس، فوصل إلى طرابلس، وارتحل معه فلفول وفتوح بن علي بن غفيانان في عساكر زناتة إلى حصار قابس، فحاصروها مدّة ورجعوا إلى طرابلس. ثم رجع يحيى بن علي إلى مصر واستبدّ فلفول بعمل طرابلس، وطالت الفتنة بينه وبين باديس، ويئس من صريخ مصر فبعث بطاعته إلى المهدي محمد بن عبد الجبّار بقرطبة، وأوفد إليه رسله في الصريخ والمدد، وهلك فلفول قبل رجوعهم إليه سنة أربعمائة، واجتمعت زناتة إلى أخيه ورّوا بن سعيد.
وزحف باديس إلى طرابلس وأجفل ورّوا ومن معه من زناتة عنها، ولحق بباديس من كان بها من الجند، فلقوه في طريقه، وتمادى إلى طرابلس فدخلها ونزل قصر فلفول، وبعث إليه وورّوا بن سعيد يسأل الأمان له ولقومه، فبعث إليه محمد بن حسن من صنائعه، فاستقدم وفدهم بأمانه فوصلهم، وولّى وورّوا على نفزاوة والنعيم ابن كنون على قسطيلية وشرط عليهم أن يرحلوا بقومهم عن أعمال طرابلس، فرجعوا إلى أصحابهم. وارتحل باديس إلى القيروان، وولّى على طرابلس محمد بن الحسن. ونزل ورّوا بنفزاوة والنعيم بقسطيلية.
(ثم انتقض) ورّوا سنة إحدى وأربعمائة، ولحق بجبال ايدمر فتعاقدوا على(7/56)
الخلاف، واستضاف النعيم بن كنون نفزاوة إلى عمله. ورجع خزرون بن سعيد عن أخيه ورّوا إلى السلطان باديس، وقدم عليه بالقيروان سنة اثنتين وأربعمائة فتقبّله ووصله، وولّاه عمل أخيه نفزاوة، وولّى بني مجلية من قومه على قفصه، وصارت مدن الماء كلّها لزناتة، وزحف ورّوا بن سعيد فيمن معه من زناتة إلى طرابلس، وبرز إليه عاملها محمد بن حسن فتواقعوا ودارت بينهم حروب شديدة انهزم فيها ورّوا، وهلك الكثير من قومه. ثم راجع حصارها وضيّق على أهلها فبعث باديس إلى خزرون وأخيه وإلى النعيم بن كنون وأمراء الجريد من زناتة بأن يخرجوا لحرب صاحبهم، فخرجوا إليه وتواقعوا بعبرة [1] ما بين قابس وطرابلس، ثم اتفقوا ولحق أصحاب خزرون بأخيه ورّوا. ورجع خزرون إلى عمله واتّهمه السلطان بالمداهنة في شأن أخيه ورّوا. فاستقدمه من نفزاوة فاستراب وأظهر الخلاف وسرّح السلطان إليه فتوح بن أحمد في العساكر فأجفل عن عمله، واتبعه النعيم وسائر زناتة، ولحقوا جميعا بورّوا بن سعيد سنة أربع وأربعمائة وتظاهروا على الخلاف ونصبوا الحرب على مدينة طرابلس.
واشتدّ فساد زناتة فقتل السلطان من كان عنده من رهن زناتة، واتفق وصول مقاتل ابن سعيد نازعا عن أخيه ورّوا في طائفة من أبنائه وأخواله [2] فقتلوا معهم جميعا، وشغل السلطان بحرب عمّه حمّاد. ولما غلبه بشلب سنته وانصرف إلى القيروان بعث إليه وورّوا بطاعته، ثم كان مهلك ورّوا سنة خمس وأربعمائة وانقسم قومه على ابنه خليفة وأخيه خزرون بن سعيد، واختلفت كلمتهم ودسّ حسن بن محمد عامل طرابلس في التصريف [3] بينهم. ثم صار أكثر زناتة إلى خليفة، وناجز عمّه خزرون الحرب فغلبه على القيطون وضبط زناتة، وقام فيهم بأمر أبيه وبعث بطاعته إلى السلطان باديس بمكانه من حصار القلعة فتقبّلها. ثم هلك باديس وولي ابنه المعزّ سنة ست وأربعمائة وانتقض خليفة بن ورّوا عليه، وكان أخوه حماد بن ورّوا يضرب على أعمال طرابلس وقابس، ويواصل عليه الغارة والنهب إلى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة فانتقض عبد الله بن حسن صاحب طرابلس على السلطان وأمكنه من طرابلس. وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بصبرة.
[2] وفي نسخة ثانية: إخوانه.
[3] وفي نسخة ثانية: التضريب.(7/57)
سبب ذلك أنّ المعز بن باديس لأوّل ولايته استقدم محمد بن حسن من عمله، واستخلف عليه أخاه عبد الله بن حسن وقدم على المعز وفوّض اليه أمر [1] مملكته، وأقام على ذلك سبعا، وتمكّنت حاله عند السلطان، وكثرت السعاية فيه فنكبه وقتله، وبلغ الخبر إلى أخيه فانتقض كما قلناه، وأمكن خليفة بن وورّوا وقومه من مدينة طرابلس، فقتلوا الصنهاجيين واستولوا عليها. ونزل خليفة بقصر عبد الله وأخرجه عنه، واستصفى أمواله وحرمه. واتصل ملك خليفة بن وروّا وقومه بني خزرون بطرابلس. وخاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحكم سنة سبع عشرة وأربعمائة بالطاعة وضمان السابلة وتشييع الرّفاق، ويحفظ عهده على طرابلس فأجابه إلى ذلك، وانتظم في عمله. وأوفد في هذه السنة أخاه حمّادا على المعزّ بهديته فتقبلها وكافأه عليها.
(هذا آخر ما حدّث به) ابن الرقيق من أخبارهم، ونقل ابن حمّاد وغيره أنّ المعزّ زحف أعوام ثلاثين وأربعمائة إلى زناتة بجهات طرابلس، فبرزوا إليه وهزموه. وقتلوا عبد الله بن حمّاد وسبوا أخته أم العلو بنت باديس، ومنّوا عليها بعد حين وأطلقوها إلى أخيها. ثم زحف إليهم ثانية فهزموه. ثم أتيحت له الكرّة عليهم فغلبهم وأذعنوا لسلطانه، واتّقوه بالمهادنة، فاستقام أمرهم على ذلك. وكان خزرون بن سعيد لما غلبه خليفة بن وروّا على إمارة زناتة لحق بمصر، فأقام فيها بدار الخلافة ونشأ بنوه بها، وكان منهم المنتصر بن خزرون وأخوه سعيد. ولما وقعت الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر وغلبهم الترك وأجلوهم عنها، لحق المنتصر وسعيد بطرابلس وأقاما في نواحيها. ثم ولي سعيد أمر طرابلس ولم يزل واليا عليها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة، (وقال أبو محمد) التيجاني في رحلته عند ذكر طرابلس: ولما قتلت زغبة سعيد بن خزرون سنة تسع وعشرين وأربعمائة قدم خليفة بن خزرون من القيطون بقومه إلى ولايتها، فأمكنه منها رئيس الشورى وبها يومئذ من الفقهاء أبو الحسن بن المنتصر المشتهر بعلم الفرائض، وبايع له، وقام بها خزرون إلى سنة ثلاثين وأربعمائة بعدها فقام المنتصر بن خزرون في ربيع الأوّل منها، ومعه عساكر زناتة، ففرّ خزرون بن خليفة من طرابلس مختفيا، وملكها المنتصر بن خزرون، وأوقع بابن المنتصر ونفاه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تدبير.(7/58)
واتصلت بها إمارته انتهى ما نقله التيجاني.
(وهذا الخبر) مشكل من جهة أنّ زغبة من العرب الهلاليين وإنّما جاءوا إلى إفريقية من مصر بعد الأربعين من تلك المائة، فلا يكون وجودهم بطرابلس سنة تسع وعشرين وأربعمائة إلّا إن كان تقدّم بعض أحيائهم إلى إفريقية من قبل ذلك.
فقد كان بنو مرّة ببرقة، بعثهم الحاكم مع يحيى بن علي بن حمدون. إلا أنّ ذلك لم ينقله أحد.
ولم تزل طرابلس بأيدي بني خزرون الزناتيين ولما وصل العرب الهلاليون وغلبوا المعز بن باديس على أعمال إفريقية واقتسموها كانت قابس وطرابلس في قسمة زغبة، والبلد لبني خزرون. ثم استولى بنو سليم على الضاحية وغلبوا عليها زغبة ورحّلوهم عن تلك المواطن. ولم تزل البلد لبني خزرون. وزحف المنتصر بن خزرون مع بني عدي من قبائل هلال مجلبا على بني حمّاد حتى نزل المسيلة ونزل أشير. ثم خرج إليهم الناصر، ففرّ أمامه إلى الصحراء، ورجع إلى القلعة، فرجعوا إلى الاحلاف على أعماله، فراسله الناصر على الصلح وأقطعه ضواحي الزاب وريغة، وأوعز إلى عروس بن سندي رئيس بسكرة لعهده أن يمكر به، فلما وصل المنتصر إلى بسكرة أنزله عروس ثم قتله غيلة أعوام ستين وأربعمائة، وولي طرابلس آخر من بني خزرون لم يحضرني اسمه واختلّ ملك صنهاجة واتصل فيهم ملك تلك الأعمال إلى سنة أربعين وخمسمائة.
ثم نزل بطرابلس ونواحيها في هذا العام مجاعة، وأصابهم منه شدّة هلك فيها الناس، وفرّوا عنها وظهر اختلال أحوالها وفناء حاميتها، فوجّه إليها رجار طاغية صقلّيّة أسطولا لحاصارها بعد استيلائه على المهديّة وصفاقس واستقرار ولايته فيهما، ووقع بين أهل طرابلس الخلاف فغلب عليهم جرجي بن ميخايل قائد الأسطول وملكها، وأخرج منها بني خزرون وولّى على البلد شيخهم أبا يحيى بن مطروح التميمي، فانقرض أمر بني خزرون منها. وبقي منهم من بقي بالضاحية إلى أن افتتح الموحدون إفريقية آخر الدولة الصنهاجية. والملك للَّه وحده يؤتيه من يشاء من عباده سبحانه لا إله غيره
.(7/59)
الخبر عن بني يعلى ملوك تلمسان من آل خزر من أهل الطبقة الاولى والإلمام ببعض دولهم ومصائرها
قد ذكرنا في أخبار محمد بن خزر وبنيه أنّ محمد بن الخير الّذي قتل نفسه في معركة بلكين كان من ولده الخير ويعلى. وأنهما اللذان ثأرا منه بأبيهما زيري فقتلوه واتبعهم بلكّين من بعد ذلك وأجلاهم إلى المغرب الأقصى حتى قتل منهم محمد صبرا أعوام ستين وثلاثمائة بنواحي سجلماسة قبل وصول معدّ إلى القاهرة، وولاية بلكّين على إفريقية وقام بأمر زناتة بعد الخير ابنه محمد، وعمه يعلى بن محمد. وتكرّرت إجازة محمد بن الخير هذا وعمه يعلى إلى المنصور بن أبي عامر كما ذكرنا ذلك من قبل. وغلبهم ابنا عطية بن عبد الله بن خزر وهما مقاتل وزيري على رياسة مغراوة. وهلك مقاتل واختصّ المنصور زيري بن عطيّة باثرته، وولّاه على المغرب كما ذكرناه، وقارن ذلك مهلك بلكّين وانتقاض أبي البهار بن زيري صاحب المغرب الأوسط على باديس،(7/60)
فكان من شأنه مع زيري ويدوي [1] بن يعلى ما قدّمناه. ثم استقلّ زيري وغلبهم جميعا على المغرب، ثم انتقض على المنصور فأجاز إليه ابنه المظفّر وأخرج زناتة من المغرب الأوسط، فتوغّل زيري في المغرب الأوسط ونازل أمصاره وانتهى إلى المسيلة وأشير. وكان سعيد بن خزرون قد نزع إلى زناتة وملك طبنة. واجتمع زناتة بإفريقية عليه وعلى ابنه فلفول من بعده. وانتقض فلفول على باديس عند زحف زيري إلى المسيلة وأشير، وشغل باديس ثم ابنه المنصور على المغرب الأوسط بحروب فلفول وقومه، ودفعوا إليه حمّاد بن بلكّين فكانت بينه وبين زناتة حروب سجال، وهلك زيري بن عطيّة واستقل المعزّ وابنه بملك المغرب سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وغلب صنهاجة على تلمسان وما إليها، واختط مدينة وجدة كما ذكرنا ذلك كله من قبل.
ونزل يعلى بن محمد مدينة تلمسان فكانت خالصة له، وبقي ملكها وسائر ضواحيها في عقبه. ثم هلك حمّاد بعد استبداده ببلاد صنهاجة على آل بلكّين وشغل بنوه بحرب بني باديس، فاستوسق ملك بني يعلى خلال ذلك بتلمسان، واختلفت أيامهم مع آل حمّاد سلما وحربا. ولما دخل العرب الهلاليون إفريقية وغلبوا المعزّ وقومه عليها واقتسموا سائر أعمالها، ثم تخطوا إلى أعمال بني حمّاد فأحجروهم بالقلعة، وغلبوهم على الضواحي فرجعوا إلى استئلافهم واستخلصوا الأثبج منهم وزغبة، فاستظهروا بهم على زناتة المغرب الأوسط وأنزلوهم بالزاب، وأقطعوهم الكثير من أعماله، فكانت بينهم وبين بني يعلى أمراء تلمسان حروب ووقائع. وكان زغب أقرب إليهم بالمواطن.
وكان أمير تلمسان لعهدهم بختي من ولد يعلى. وكان وزيره وقائد حروبه أبو سعيد ابن خليفة بن [2] اليفرني، فكان كثيرا ما يخرج بالعساكر من تلمسان لقتال عرب الأثبج وزغبة، ويحتشد من إليها من زناتة من أهل المغرب الأوسط مثل، مغراوة وبني يفرن وبني يلومو وبني عبد الواد وتوجين وبني مرين، وهلك في بعض تلك الملاحم هذا الوزير أبو سعيد أعوام خمسين وأربعمائة.
(ثم ملك) المرابطون أعمال المغرب الأقصى بعد مهلك يحيى [3] وولاية ابنه العبّاس ابن يحيى بتلمسان. وسرّح يوسف بن تاشفين قائده مزدلي بن [4] في عساكر
__________
[1] هو يدّو بن يعلى كما في قبائل المغرب وفي أماكن من بعض نسخ ابن خلدون وقد مرّ معنا من قبل.
[2] بياض بالأصل وفي نسخة أخرى أبو سعدى مكان أبو سعيد.
[3] وفي نسخة ثانية: بختي.
[4] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والد هذا القائد في المراجع التي بين أيدينا.(7/61)
لمتونة لحرب من بقي بتلمسان من مغراوة، ومن لحق بهم من فلّ بني زيري وقومهم، فدوّخ المغرب الأوسط وظفر بمعلى بن العبّاس بن بختي، وبرز لمدافعتهم، فهزمه وقتله وانكف راجعا إلى المغرب. ثم نهض يوسف بن تاشفين بنفسه في جموع المرابطين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة فافتتح تلمسان واستلحم بني يعلى ومن كان بها من مغراوة وقتل العبّاس بن بختي أميرها من بني يعلى. ثم افتتح وهران وتنس وملك جبل وانشريس وشلف إلى الجزائر وانكفّ راجعا وقد محى أثر مغراوة من المغرب الأوسط وأنزل محمد بن تينعمر المسوفي في عسكر من المرابطين بتلمسان، واختطّ مدينة تاكرارت بمكان معسكره وهو اسم المحلّة بلسان البربر، وهي التي صارت اليوم مع تلمسان القديمة التي تسمى أكادير بلدا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من جميع المغرب كان لم يكن والبقاء للَّه وحده سبحانه.
معلي بن العباس بن بختيّ بن [1] بن يعلي بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر
(الخبر عن أمراء اغمات من مغراوة)
لم أقف على أسماء هؤلاء إلا أنهم أمراء بأغمات آخر دولة بني زيري بفاس، وبني يعلى اليفرني بسلا وتادلا في جوار المصامدة وبرّ غواطة. وكان لقوط بن يوسف بن علي آخرهم في سني الخمسين وأربعمائة، وكانت امرأته زينب بنت إسحاق النفزاوية من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة. ولما غلب المرابطون على أغمات سنة تسع وأربعين وأربعمائة فرّ لقوط هذا إلى تادلا سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وقتل الأمير محمد واستلحم بني يفرن، فكان فيمن استلحم وخلفه أبو بكر بن عمر أمير المرابطين على زينب بنت إسحاق حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة واستعمل ابن عمّه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها رياسة أمره وسلطانه، وما أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في إظهار الاستبداد حتى تجافى عن منازعته، وخلص ليوسف بن تاشفين
__________
[1] بياض في جميع النسخ ولم نجد والد نجتي هذا في المراجع التي بين أيدينا.(7/62)
ملكه كما ذكرناه في أخبارهم. ولم نقف من لقوط بن يوسف وقومه على غير هذا الّذي كتبناه، والله وليّ العون سبحانه.
الخبر عن بني سنجاس وريغة والاغواط وبني ورّا من قبائل مغراوة من أهل الطبقة الاولى وتصاريف أحوالهم
هذه البطون الأربعة من بطون مغراوة وقد زعم بعض الناس أنهم من بطون زناتة غير مغراوة. أخبرني بذلك الثقة عن إبراهيم بن عبد الله التمر وغني [1] قال وهو نسّابه زناتة لعهده: ولم تزل هذه البطون الأربعة من أوسع بطون مغراوة. (فأمّا) بنو سنجاس فلهم مواطن في كل عمل من إفريقية والمغربين، فمنهم قبلة المغرب الأوسط بحبل راشد وجبل كريكرة [2] وبعمل الزاب وبعمل شلف، ومن بطونهم بنو عيار [3] ببلاد شلف أيضا، وبنو عيار بأعمال قسنطينة. وكان بنو سنجاس هؤلاء من أوسع القبائل وأكثرهم عددا، وكان لهم في فتنة زناتة وصنهاجة آثار بإفريقية والمغرب، وأكثرها في إفساد السبيل والعيث في المدن، ونازلوا قفصة سنة أربع عشرة وخمسمائة بعد أن عاثوا بجهات القصر، وقتلوا من وجدوا هنالك من عسكر تلكاتة [4] . وخرجت إليهم حامية قفصة فأثخنوا فيهم، ثم كثر فسادهم، وسرّح السلطان قائده محمد بن أبي العرب في العساكر إلى بلاد الجريد فشرّدهم عنها وأصلح السابلة. ثم عادوا إلى مثلها سنة خمس عشرة وخمسمائة فأوقع بهم قائد بلاد الجريد وأثخن فيهم بالقتل، وحمل رءوسهم إلى القيروان فعظم الفتح فيهم، ولم تزل الدولة تتبعهم بالقتل والإثخان إلى أن كسروا [5] من شوكتهم.
وجاء العرب الهلاليون وغلبوا على الضواحي كل من كان بها من صنهاجة وزناتة، وتحيّز فلهم إلى الحصون والمعاقل، وضربت عليهم المغارم إلّا ما كان ببلاد المغرب
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: التيمز وغتي.
[2] وفي النسخة الباريسية: كركرة.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: غيار وفي نسخة ثانية عنّان.
[4] وفي نسخة ثانية: ملكاتة.
[5] وفي نسخة ثانية: خضدوا.(7/63)
القفر مثل جبل راشد، فإنّهم لبعدهم عن منازل الملك لا يعطون مغرما، إلا أنه غلب عليهم هنالك العمور من بطون الهلاليّين، ونزلوا معهم. وملكوا عليهم أمرهم وصاروا لهم فيئه ومن بني سنجاس من نزل الزاب، وهم لهذا العهد أهل مغارم لمن غلب على ثغورهم من مشايخهم، وأمّا من نزل منهم ببلاد شلف ونواحي قسنطينة فهم لهذا العهد أهل مغارم للدول، وكان دينهم جميعا الخارجية على سنن زناتة في الطبقة الأولى، ومن بقي منهم اليوم بالزاب فعلى ذلك. ومن بني سنجاس هؤلاء بأرض المشيل [1] من جبل بني راشد وطنوا جبلا في جوار غمرة وصاروا عند تغلب الهلاليين في ملكهم يقبضون الإتاوة منهم. ونزل منهم لهذا العهد الصحاري من بطون عروة من زغبة، وغلبوهم على أمرهم وأصاروهم خولا.
(وأما بنو ريغة) فكانوا أحياء متعدّدة ولما افترق أمر زناتة تحيّز منهم إلى جبل عيّاض وما إليه من البسيط إلى نقاوس وأقاموا في قياطينهم، فمن كان بجبل عيّاض منهم أهل مغارم لأمراء عياض يقبضونها للدولة الغالبة ببجاية، وأمّا من كان ببسيط نقاوس فهم في أقطاع العرب لهذا العهد. ونزل أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا، فاختطوا قصورا [2] كثيرة في عدوة واد ينحدر من المغرب الى المشرق يشتمل على المصر الكبير والقرية المتوسطة، والأطم قد زفّ عليها الشجر ونضدت حفافيها النخيل، وانساحت خلالها المياه، وزهت ينابعها الصحراء، وكثر في قصورها العمران من ريغه هؤلاء، وبهم تعرف لهذا العهد، وهم أكثرها. ومن بني سنجاس وبني يفرن وغيرهم من قبائل زناتة. وتفرّقت جماعتهم للتنازع في الرئاسة فاستقلت كل طائفة منهم بقصور منها أو بواحد. ولقد كانت فيما يقال أكثر من هذا العدد أضعافا وانّ ابن غانية المسوفي حين كان يجلب على بلاد إفريقية والمغرب في فتنته مع الموحدين خرّب عمرانها، واجتثّ شجرها، وغوّر مياهها، ويشهد لذلك آثار العمران بها في أطلال الديار ورسوم البناء وأعجاز النخل المنقعر، وكان هذا العمل يرجع في أوّل الدولة الحفصيّة لعامل الزاب، وكان من الموحّدين، ونزل بسكرة ما بينها وبين مغرة، وكان من أعماله قصور واركلا أيضا. ولما فتك المنتصر بمشيخة الزواودة كما قلناه في أخباره، وقتلوا بعد ذلك عامل الزاب ابن عتوا من مشيخة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: المشنتل.
[2] وفي نسخة ثانية: قرى.(7/64)
الموحدين، وغلبوا على ضواحي الزاب وواركلا. وأقطعتهم إيّاها الدول بعد ذلك فصارت في أقطاعهم. ثم عقد صاحب بجاية بعد ذلك على العمل كلّه لمنصور بن مزني واستقرّ في عقبه. فربما يسيمون بعض الأحيان أهل تلك القصور المغرم للسلطان بما كان من الأمر القديم، ويعسكر عليهم في ذلك كتائب من رجّالة الزاب وخيّالة العرب، ويبرز عليها بأمر الزواودة. ثم يقاسمهم فيما يمتريه منهم. وأكبر هذه الأمصار يسمّى تقّرت، مصر مستبحر العمران بدويّ الأحوال، كثير المياه والنخل، ورياسته في بني يوسف بن عبد الله كانت لعبيد الله بن يوسف، ثم لابنه داود، ثم لأخيه يوسف بن عبيد الله. وتغلّب على واركلا من يد أبي بكر بن موسى أزمان حداثته، وأضافها إلى عمله. ثم هلك وصار أمر تقّرت لأخيه مسعود بن عبيد الله، ثم لابنه حسن بن مسعود، ثم لابنه أحمد بن حسن شيخها لهذا العهد. وبنو يوسف بن عبد الله هؤلاء من ريغة، ويقال إنّهم من سنجاس، وفي أهل تلك الأمصار من مذاهب الخوارج وفرقهم كثير، وأكثرهم على دين العزابية [1] ومنهم النكاريّة، وأقاموا على انتحال هذه الخارجية لبعدهم عن منال الأحكام. ثم بعد مدينة تقّرت بلد تماسين وهي دونها في العمران والخطة ورياسته لبني إبراهيم بن [2] من ريغة وسائر أمصارهم كذلك، كل مصر منها مستبد بأمره وحرب لجاره.
(وأما لقواط) وهم فخذ من مغراوة أيضا فهم في نواحي الصحراء ما بين الزاب وجبل راشد، ولهم هنالك قصر مشهور بهم، فيه فريق من أعقابهم على سغب من العيش لتوغّله في القفر، وهم مشهورون بالنجدة والامتناع من العرب، وبينهم وبين الدوسن أقصى عمل الزاب مرحلتان، وتختلف قصودهم إليهم لتحصيل المرافق منهم. والله يخلق ما يشاء ويختار.
وأمّا بنو ورا) فهم فخذ من مغراوة أيضا، ويقال من زناتة وهم متشعّبون ومفترقون بنواحي المغرب: منهم بناحية مراكش والسوس ومنهم ببلاد شلف ومنهم بناحية قسنطينة ولم يزالوا على حالهم منذ انقراض زناتة الأوّلين، وهم لهذا العهد أهل مغارم وعسكرة مع الدول، وأكثر الذين كانوا بمراكش قد انتقل رؤساؤهم إلى ناحية شلف نقلهم يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين في أوّل هذه المائة الثامنة، لما
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغرابة وفي نسخة ثانية: القرابة.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم والده في المراجع التي بين أيدينا.(7/65)
ارتاب بأمرهم في تلك الناحية، وخشي من إفسادهم وعيثهم، فنقلهم في عسكر الى موطن شلف لحمايته، فنزلوا به. ولما ارتحل بنو مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب أقاموا ببلاد شلف فأعقابهم بها لهذا العهد، وأحوالهم جميعا في كل قطر متقاربة في المغرم والعسكرة مع السلطان وللَّه الخلق والأمر جميعا. سبحانه لا إله إلا هو الملك العظيم.
(الخبر عن بني يرنيان اخوة مغراوة وتصاريف أحوالهم)
قد ذكرنا بني يرنيان هؤلاء، وأنهم إخوة مغراوة وبني يفرن، والكل ولد يصلتين.
ونسبهم جميعا إلى جانا مذكور هنالك، وهم مبثوثون كثيرا بين زناتة في المواطن.
وأمّا الجمهور منهم فموطنهم بملويّة من المغرب الأقصى ما بين سجلماسة وكرسيف، كانوا هناك مجاورين لمكناسة في مواطنهم، واختطوا حفافي وادي ملويّة قصورا كثيرة متقاربة الخطّة، ونزلوها وتعدّدت بطونهم وأفخاذهم في تلك الجهات. ومنهم بنو وطاط متوطّنون لهذا العهد بالجبال المطلّة على وادي ملوية من جهة القبلة، ما بينه وبين تازى وفاس، وبهم تعرف تلك القصور لهذا العهد، وكان لبني يرنيان هؤلاء صولة واعتزاز، وأجاز الحكم بن المستنصر منهم، والمنصور بن أبي عامر من بعده فيمن أجازوه من زناتة في المائة الرابعة، وكانوا من أفحل جند الأندلس وأشدّهم شوكة. وبقي أهل المواطن منهم في مواطنهم مع مكناسة أيام ملكهم، ويجمعهم معهم عصبية يحيى. ثم كانوا مع مغراوة أيضا أيام ملكهم المغرب الأقصى ولما ملك لمتونة والموحّدون من بعدهم لحق الظواعن منهم بالقفر، فاختلطوا بأحياء بني مرين الموالين لتلول المغرب من زناتة، أقاموا معهم في أحيائهم، وبقي من عجز عن الظعن منهم بمواطنهم: مثل بني وطاط وغيرهم، ففرضت عليهم المغارم والجبايات. ولما دخل بنو مرين للمغرب ساهموهم في اقتسام أعماله، وأقطعوهم البلد الطيب من ضواحي سلا والمعمورة، زيادة إلى وطنهم الأوّل بملوية، وأنزلوهم بنواحي سلا بعد أن كان منهم انحراف عنهم في سبيل المدافعة عن أوطانهم الأولى. ثم(7/66)
اصطلحوا [1] ورعى لهم بنو عبد الحق سابقتهم معهم فاصطفوهم للوزارة والتقدّم في الحرب، ودفعوهم الى المهمات وخلطوهم بأنفسهم. وكان من أكابر رجالاتهم لعهد السلطان أبي يعقوب وأخيه أبي سعيد الوزير إبراهيم بن عيسى، استخلصوه للوزارة مرّة بعد أخرى، واستعمله السلطان أبو سعيد على وزارة ابنه أبي علي، ثم لوزارته.
واستعمل ابنه السلطان أبو الحسن أبناء إبراهيم هذا في أكابر الخدام فعقد لمسعود بن إبراهيم على أعمال السوس عند ما فتحها أعوام الثلاثين والسبعمائة، ثم عزله بأخيه حسون، وعقد لحسون على بلاد الجريد من إفريقية عند فتحه إيّاها سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وكان فيها مهلكه. ونظم أخاهما موسى في طبقة الوزارة، ثم أفرده بها أيام نكبته وإلحاقه بجبل هنتاتة، واستعمله السلطان أبو عنان بعد في العظيمات، وعقد له على أعمال سدويكش بنواحي قسنطينة. ورشّح ابنه محمد السبيع لوزارته إلى أن هلك، وتقلّبت بهم الأيام بعده. وقلّد عبد الحميد [2] المعروف بحلي ابن السلطان أبي علي وزارته محمد بن السبيع بعد هذا أيام حصاره لدار ملكهم سنة اثنتين وستين وسبعمائة كما نذكره في أخبارهم، فلم يقدّر لهم الظفر. ثم رجع السبيع بعدها إلى محله من دار السلطان وطبقة الوزارة، وما زال يتصرّف في الخدم الجليلة والأعمال الواسعة ما بين سجلماسة ومراكش وأعمال تازى وتادلا وغمارة، وهو على ذلك لهذا العهد.
والله وارث الأرض ومن عليها سبحانه لا إله غيره.
(الخبر عن وجديجن وأوغمرت من قبائل زناتة ومبادئ أحوالهم وتصاريفهم)
قد تقدّم أنّ هذين البطنين من بطون زناتة من ولد ورتنيص بن جانا، وكان لهم عدد وقوة، ومواطنهم مفترقة في بلاد زناتة. فأمّا وجديجن فكان جمهورهم بالمغرب الأوسط، ومواطنهم منه منداس ما بين بني يفرن من جانب المغرب، ولواتة من جانب القبلة في السرسو، ومطماطة في جانب الشرق في وانشريس، وكان أميرهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم اصطلحوا.
[2] وفي نسخة ثانية: عبد الحليم.(7/67)
لعهد يحيى بن محمد اليفرني رجلا منهم اسمه عنّان، وكان بينهم وبين لواتة الموطنين بالسرسو فتنة متصلة، يذكر أنها بسبب امرأة من وجديجن نكحت في لواتة وتلا، جامعها نساء قيطونهم فعيّرنها بالفقر، فكتبت بذلك إلى عنّان تذمّره [1] ، فغضب واستجاش بأهل عصبته من زناتة وجيرانه، فزحف معه يعلى في بني يفرن وكلمام بن حياتي [2] في مغيلة وغرابة في مطماطة، ودارت الحرب بينهم وبين لواتة مليا. ثم غلبوا لواتة على بلاد السرسو وانتهوا بهم إلى كدية العابد من آخرها وهلك عنّان شيخ وجديجن في بعض تلك الوقائع بملاكوا من جهات السرسو. ثم لجأت زناتة إلى جبل كريكرة قبلة السرسو، وكان يسكنه أحياء من مغراوة يعرف شيخهم لذلك العهد علاهم ربيب لشيخهم عمر بن تامصا الهالك قبله، ومعنى تامصا بلسان البربر الغول. ولما لجأت لواتة إليه غدر بهم وأغرى قومه، فوضعوا أيديهم فيهم قتلا وسلبا فلاذوا بالفرار ولحقوا بجبل معود [3] وجبل دراك فاستقرّوا هناك آخر الدهر. وورثت وجديجن مواطنهم بمنداس إلى أن غلبهم عليها بنو يلومين [4] ، وبنو ومانوكل من جهته، ثم غلب الآخرين عليها بنو عبد الواد، وبنو توجين إلى هذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها.
(وأمّا أوغمرت [5] ) ويسمى لهذا العهد غمرت، وهم إخوة وجديجن من ولد ورتنيص بن جانا كما قلناه. فكانوا من أوفر القبائل عددا، ومواطنهم متفرّقة، وجمهورهم بالجبال إلى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل إلى اللوسن وكان لهم مع أبي يزيد صاحب الحمار في الشيعة آثار، وأوقع بهم إسماعيل القائم عند ظهوره على أبي يزيد وأثخن فيهم، وكذلك بلكّين وصنهاجة من بعده. ولما افترق أمر صنهاجة لحمّاد وبنيه كانوا شيعا لهم على بني بلكّين. ونزع عن حمّاد أيام فتنته ابن أبي جلى من مشيختهم، وكان مختصا بهم، إلى باديس، فوصله وحمل أصحابه، وعقد له على طبنة وأعمالها. حتى إذا جاء العرب الهلاليون وغلبوهم على الضواحي اعتصموا بتلك الجبال قبلة المسيلة وبلاد صنهاجة، وقعدوا بها عن الظعن، وتركوا القيطون إلى
__________
[1] ذمّره: هدده، وذمره على الأمر: حضّه مع لوم ليجدّ فيه.
[2] وفي نسخة ثانية: كلمام بن حيّان.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة بولاق: العود، وفي نسخة أخرى: يعود.
[4] وفي نسخة أخرى: يلومي.
[5] وفي نسخة أخرى: واغمرت.(7/68)
سكنى المدن. ولما تغلّب الزواودة على ضواحي الزاب وما إليها، أقطعتهم الدولة مغارم هذه الجبال التي لغمرت. وهم لهذا العهد في سهمان أولاد يحيى بن علي بن سبّاع من بطونهم وكان في القديم من غمرت هؤلاء كاهن زناتة موسى بن صالح مشهور عندهم حتى الآن، ويتناقلون بينهم كلماته برطانتهم على طريق الرجز، فيها أخبار بالحدثان فيما يكون لهذا الجيل الزناتي من الملك والدولة، والتغلّب على الأحياء والقبائل والبلدان. شهد كثير من الواقعات على وفقها بصحتها، حتى لقد نقلوا من بعض كلماته ما معناه باللسان العربيّ أنّ تلمسان مآلها الخراب، وتصير دورها فدنا حتى يثير أرضها حرّاث أسود بثور أسود أعور. وذكر الثقات أنهم عاينوا ذلك بعد انتشار كلماته هذه أيام لحقها الخراب في دولة بني مرين الثانية سنة ستين وسبعمائة، وأفرط الخلاف بين هذا الجيل الزناتيّ في التشيع له والحمل عليه، فمنهم من يزعم أنه نبي أو وليّ، وآخرون يقولون كاهن شيطان، ولم تقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره. والله سبحانه وتعالى أعلم لا ربّ غيره.
(الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة والمصر المنسوب إليهم بصحراء افريقية وتصاريف أحوالهم)
بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة كما تقدّم، من ولد فرني [1] بن جانا، وقد مرّ ذكرهم. وأنّ إخوتهم الديرت ومرنجيصة وسبرترة ونمالة [2] والمعروفون لهذا العهد، منهم بنو واركلا وكانت فئتهم قليلة، وكانت مواطنهم قبلة الزاب، واختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثمان مراحل من بسكرة في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب، بنوها قصورا متقابلة متقاربة الخطة. ثم استبحر عمرانها فأتلفت وصارت مصرا واحدا. وكان معهم هناك جماعة من بني زنداك من مغراوة، وإليهم كان هرب أبي زيد النكارى [3] عند فراره من الاعتقال سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان مقامه بينهم سنة يختلف إلى بني برزال قبلة المسيلة بسالات، وإلى
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فريني.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يزمرتن ومنجصة وغالته.
[3] وفي نسخة ثانية: ابن أبي يزيد النكاري.(7/69)
قبائل البربر بجبل أوراس، يدعوهم جميعا إلى مذهب النكارية، إلى أن ارتحل إلى أوراس، واستبحر عمران هذا المصر واعتصم به بنو واركلا هؤلاء، والكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين إيّاهم على الضواحي، واختصاص الأثبج بضواحي القلعة والزاب وما إليها.
ولما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها في اتباع بن غانية، مرّ بهذا المصر فأعجبه وكلف بالزيادة في تمصيره، فاختطّ مسجده العتيق ومئذنته المرتفعة، وكتب عليها اسمه وتاريخ وضعه نقشا في الحجر. وهذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر [1] من الزاب إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان يسكنها التجّار الداخلون لها بالبضائع وسكانه لهذا العهد من بني واركلا وأعقاب إخوانهم من بني يفرن ومغراوة، ويعرف رئيسه باسم السلطان، شهرة غير نكيرة بينهم، ورياسته لهذه الأعصار مخصوصة ببني أبي عبدل [2] ، ويزعمون أنهم من بني واكين إحدى بيوت بني واركلا، وهو لهذا العهد أبو بكر بن موسى بن سليمان من بني أبي عبدل، ورياستهم متصلة في عمود هذا النسب وعلى عشرين مرحلة من هذا في القبلة منحرفا إلى المغرب بيسير بلد تكرت [3] قاعدة وطن الملثّمين وركاب الحجاج من السودان اختطّه الملثمون من صنهاجة وهم سكانه لهذا العهد، وصاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان، وبينه وبين أمير الزاب مراسلة ومهاداة. (ولقد) قدمت على بسكرة سنة أربع وخمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض السلطانية ولقيت رسول صاحب تكرت عند يوسف بن مزني أمير بسكرة، وأخبرني عن استبحار هذا المصر في العمارة ومرور السابلة، وقال لي: اجتاز بنا هذا العام سفر من تجّار المشرق إلى بلد مالي كانت ركابهم اثني عشر ألف راحلة. وذكر لي غيره أنّ ذلك هو الشأن في كل سنة. وهذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بالملثمين [4] لهذا العهد، والله غالب على أمره سبحانه.
__________
[1] بمعنى المسافرين.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أبي غبول.
[3] وفي نسخة ثانية: تكدت.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: باطلستين.(7/70)
(الخبر عن دمر من بطون زناتة ومن ولي منهم بالأندلس وأولية ذلك ومصائره)
بنو دمّر هؤلاء من زناتة وقد تقدّم أنهم من ولد ورسيك بن الديرت بن جانا، وشعوبهم كثيرة، وكانت مواطنهم بإفريقية في نواحي طرابلس وجبالها وكان منهم آخرون ظواعن من عرب إفريقية. ومن بطون بني دمّر هؤلاء بنو ورغمة، وهم لهذا العهد مع قومهم بجبال طرابلس. ومن بطونهم أيضا بطن متسع كثير الشعوب وهم:
بنو ورنيدين بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وأن من شعوبهم بني ورتاتين وبني عزرول وبني تغورت، وربما يقال إنّ هؤلاء الشعوب لا ينتسبون إلى بني ورنيدين كما تقدّم، وبقايا بني ورنيدين لهذا العهد بالجبل المطل على تلمسان، بعد أن كانوا في البسيط قبلته، فزاحمهم بنو راشد حين أجلوهم من بلادهم بالصحراء إلى التل، وغلبوهم على تلك البسائط فانزاحوا إلى الجبل المعروف بهم لهذا العهد، وهو المطل على تلمسان وكان قد أجاز إلى الأندلس من بني دمّر هؤلاء أعيان ورجالات حرب فيمن أجاز إليها من زناتة وسائر البربر، أيام أخذهم بدعوة المنتصر [1] فضمّهم السلطان إلى عسكره، واستظهر بهم المنصور بن أبي عامر من بعد ذلك على شأنه، وقوى بهم المستعين أديم دولته، ولما اعصوصب البربر على المستعين وبني حمود من بعده وغالبوا جنود الأندلس من العرب، وكانت الفتنة الطويلة بينهم التي نثرت سلك الخلافة وفرّقت شمل الجماعة، واقتسموا خطط الملك وولايات الأعمال، وكان من رجالاتهم نوح الدمري، وكان من عظماء أصحاب المنصور، وولّاه المستعين أعمال مورور [2] وأركش فاستبدّ بها سنة أربع في غمار الفتنة، وأقام بها سلطانا لنفسه إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين، فولى ابنه أبا مناد محمد بن نوح وتلقّب بالحاجب عز الدولة لقبين في قرن شأن ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن عبّاد شأن غرب الأندلس. خطوب ومرّ المعتضد في بعض أسفاره بحصن أركش، وتطوّف به مختفيا فقبض عليه بعض أصحاب ابن نوح، وساقه إليه، فخلّى سبيله وأولاه كرامة احتسبها عنده يدا،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بدعوة الحكم المستنصر.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: مودور وفي نسخة ثانية: مدور.(7/71)
وذلك سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، فانطلق إلى دار ملكه ورجع بعدها إلى ولاية الملوك الذين حوله من البربر. وأسجل لابن نوح هذا على عملي أركش ومورور فيمن أسجل له منهم، فصاروا إلى مخالصته إلى أن استدعاهم سنة خمس وأربعين وثلاثمائة بعدها إلى صنع ودعا إليه الجفلى من أهل أعماله، واختصّه بدخول حمام أعدّه لهم استبلاغا في تكريمهم. وتخلّف ابن نوح عنده من بينهم، فلما حصلوا داخل الحمام أطبقه عليهم، وسدّ المنافس للهوى دونهم إلى أن هلكوا. ونجا منهم ابن نوح لسالفة يده، وطيّر في الحين من تسلّم معاقلهم وحصونهم، فانتظمهم في أعماله. وكان منها رندة [1] وشريش وسائر أعمالها، وهلك من بعد ذلك الحاجب أبو مناد بن نوح سنة [2] ، وولي ابنه أبو عبد الله، ولم يزل المعتضد يضايقه إلى أن انخلع سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فانتظمها في أعماله وسار إليه محمد بن أبي مناد إلى أن هلك سنة ثمان وستين وانقرض ملك بني نوح والبقاء للَّه وحده سبحانه.
أبو عبد الله بن الحاجب أبي مناد بن نوح الدمّري.
(الخبر عن بني برزال إحدى بطون دمر وما كان لهم من الحال بقرمونة وأعمالها من الأندلس أيام الطوائف وأولية ذلك ومصائره)
قد تقدّم لنا أنّ بني برزال هؤلاء من ولد ورنيدين [3] بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، كما ذكره ابن حزم، وأنّ إخوتهم بنو يصدرين وبنو صمغان [4] وبنو يطوفت. وكان بنو برزال هؤلاء بإفريقية، وكانت مواطنهم منها جبل سالات وما إليها من أعمال المسيلة. وكان لهم ظهور ووفور عدد، وكانوا نكارية من فرق الخوارج. ولما فرّ أبو زيد أمام إسماعيل المنصور، وبلغه أنّ محمد بن خزر يترصّد له، أجمع الاعتصام بسالات وصعد إليه، وأرهقته عساكر المنصور فانتقل عنه إلى كتامة. وكان من أمره
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وفدة.
[2] بياض في الأصل ولم نستطع تحديد سنة مهلكه في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي نسخة ثانية: ورنيد.
[4] وفي نسخة ثانية: بنو صغمار.(7/72)
ما قدّمناه. ثم استقام بنو برزال على طاعة الشيعة وموالاة جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب، حتى صاروا له شيعا.
(ولما انتقض) جعفر بن معد سنة ستين وثلاثمائة كان بنو برزال هؤلاء في جملته من أهل خصوصيته، فأجازوا معه البحر إلى الأندلس أيام الحكم المستنصر، فاستخدمهم ونظمهم في طبقات جنده إلى من كان به من قبائل زناتة وسائر البربر أيام أخذهم بالدعوة الأموية، ومحاربتهم عليها للادارسة، فاستقروا جميعا بالأندلس.
وكان لبني برزال من بينهم ظهور وغنى مشهور.
(ولما أراد) المنصور بن أبي عامر الاستبداد على خليفته هشام، وتوقع النكير من رجالات الدولة وموالي الحكم، استكثر بني برزال وغيرهم من البربر وأفاض فيهم الإحسان، فاعتز أمره واشتدّ أزره حتى أسقط رجال الدولة ومحى رسومها، وأثبت أركان سلطانه. ثم قتل صاحبهم جعفر بن يحيى كما ذكرناه خشية عصبيته بهم.
واستمالهم من بعده فأصبحوا له عصبة. وكان يستعملهم في الولايات النبيهة والأعمال الرفيعة. وكان من أعيان بني برزال هؤلاء إسحاق بن [1] فولّاه قرمونة وأعمالها، فلم يزل عليها أيام بني عامر وجدّد له العقد عليها المستعين في فتنة البرابرة ووليها من بعده ابنه عبد الله.
(ولما انقرض) ملك بني حمّود من قرطبة ودفع أهلها القاسم المأمون عنهم سنة أربع عشرة وأربعمائة أراد اللحاق بأشبيليّة، وبها نائبة محمد بن أبي زيري من وجوه البربر، بقرمونة عبد الله بن إسحاق البرزالي فداخلهما القاضي ابن عبّاد في خلع طاعة القاسم، وصدّه عن العملين فأجابا إلى ذلك. ثم دسّ للقاسم بالتحذير من عبد الله ابن إسحاق فعدل القاسم عنهما جميعا إلى شريش، واستبدّ كل منهم بعمله. ثم هلك عبد الله من بعد ذلك، وولي ابنه محمد سنة [2] وكانت بينه وبين المعتمد بن عبّاد حرب، وظاهر عليه يحيى بن علي بن حمود في منازلة إشبيليّة سنة ثمان عشرة وأربعمائة ثم اتفق مع ابن عبّاد بعدها وظاهره على عبد الله الأفطس. وكانت بينهما حرب كانت الدائرة فيها على ابن الأفطس. وحصل ابنه المظفّر قائد العسكر في قبضة محمد بن عبد الله بن إسحاق إلى أن من عليه ذلك وأطلقه. ثم كانت الفتنة بين محمد
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد إسحاق هذا في المراجع التي بين أيدينا.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة سنة ولايته في المراجع التي بين أيدينا.(7/73)
ابن إسحاق وبين المعتضد وأغار إسماعيل بن المعتضد على قرمونة في بعض الأيام بعد أن كمن الكمائن من الخيّالة والرجل، وركب إليه محمد في قومه فاستطرد له إسماعيل إلى أن بلغوا الكمائن فثاروا بهم وقتلوا محمدا البرزالي وذلك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وولي ابنه العزيز بن محمد وتلقّب بالمستظهر مناغيا لملوك الطوائف لعهده. ولم يزل المعتضد يستولى على غرب الأندلس شيئا فشيئا إلى أن ضايقه في عمل قرمونة، واقتطع منه أسجه والمورو [1] ثم انخلع له العزيز عن قرمونة سنة تسع وخمسين وأربعمائة ونظّمها المعتضد في ممالكه، وانقرض ملك بني برزال من الأندلس ثم انقرض من بعد ذلك حيهم من جبل سالات، وأصبحوا في الغابرين. والبقاء للَّه وحده سبحانه.
العزيز محمد بن عبد الله بن إسحاق البرزالي
(الخبر عن بني وماتوا وبني يلومي من الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الملك والدولة بأعمال المغرب الأوسط ومبدإ ذلك وتصاريفه)
هاتان القبيلتان من قبائل زناتة ومن توابع الطبقة الأولى، ولم نقف على نسبهما إلى جانا، إلّا أنّ نسّابتهم متفقون على أنّ يلومي وورتاجن الّذي هو أبو مرين أخوان، وأنّ مديون أخوهما للأم، ذكر ذلك غير واحد من نسّابتهم. وبنو مرين لهذا العهد يعرفون لهم هذا النسب، ويوجبون لهم العصبيّة له.
وكانت هاتان القبيلتان من أوفر بطون زناتة وأشدّهم شوكة، ومواطنهم جميعا بالمغرب الأوسط. وبنو وماتوا منهم إلى جهة المشرق عن وادي ميناس ومرات وما إليها من أسافل شلف وبنو يلومي بالعدوة الغربية منه بالجعبات والبطحاء وسيد [2] وسيرات وجبل هوّارة وبني راشد.
(وكان لمغراوة) وبني يفرن التقدّم عليهم في الكثرة والقوّة. ولما غلب بلكّين بن زيري
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أسيجة والمدور.
[2] وفي نسخة ثانية: سيك.(7/74)
مغراوة وبني يفرن على المغرب الأوسط، وأزاحهم إلى المغرب الأقصى بقيت هاتان القبيلتان بمواطنهما، واستعملهم صنهاجه في حروبهم، حتى إذا تقلّص ملك صنهاجة عن المغرب الأوسط واعتزوا عليهم. واختصّ الناصر بن علناس صاحب القلعة ومختط بجاية بني وماتوا هؤلاء بالولاية، فكانوا شيعا لقومه دون يلومي. وكانت رياسة بني وماتوا في بيت منهم يعرفون ببني ماخوخ. وأصهر المنصور بن الناصر إلى ماخوخ منهم في أخته، فزوّجها إليه فكان لهم بذلك مزيد ولاية في الدولة.
ولمّا ملك المرابطون تلمسان أعوام سبعين وأربعمائة وأنزل يوسف بن تاشفين بها عامله محمد بن تينعمر المسوفي، ودوّخ أعمال المنصور وملك أمصارها إلى أن نازل الجزائر.
وهلك فولي أخوه تاشفين على عمله، فغزا أشير وافتتحها وخرّبها وكان لهذين الحيين في مظاهرته وإمداده أحقد عليهم المنصور بعدها وأغرى بني وماتوا في عساكر صنهاجة، وجمع له ماخوخ فهزمه وأتبعه منهزما إلى بجاية، وقتل لمدخله إلى قصره قتلته زوجه أخت ماخوخ تشفّيا وضغنا. ثم نهض إلى تلمسان في العساكر واحتشد العرب من الأثبج ورياح وزغبة ومن لحق به من زناتة وكانت الغزاة المشهورة سنة ست وثمانين وأربعمائة أبقى فيها ابن تينعمر المسوفي بعد استمكانه من البلد كما ذكرناه في أخبار صنهاجة. ثم هلك المنصور وولي ابنه العزيز، وراجع ماخوخ ولايته وأصهر إليه العزيز أيضا في ابنته فزوّجها إيّاه. واعتز البدو في نواحي المغرب الأوسط، واشتعلت نار الفتنة بين هذين الحيين من بني وماتوا وبني يلومي فكانت بينهم حروب ومشاهد. وهلك ماخوخ وقام بأمره في قومه بنوه تاشفين وعلي وأبو بكر، وكان أحياء زناتة الثانية من بني عبد الواد وتوجين وبني راشد وبني ورسفان من مغراوة مددا للفريقين، وربّما مادّ بنو مرين إخوانهم بني يلومي لقرب مواطنهم منهم، إلا أنّ زناتة الثانية لذلك العهد مغلوبون لهذين الحيّين، وأمرهم تبع لهم إلى أن ظهر أمر الموحدين. وزحف عبد المؤمن إلى المغرب الأوسط في اتباع تاشفين بن علي، وتقدّم أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن زيد من بني وماتوا إلى طاعته، ولحقوه بمكانه من أرض الريف، فسرّح معهم عسكر الموحّدين لنظر يوسف بن واندين وابن يغمور، فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم بتاشفين بن علي بن يغمور، فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم بتاشفين بن علي ابن يوسف، فأمدّهم بالعساكر ونزلوا منداس. واجتمع لبني يلومي بنو ورسفان من(7/75)
مغراوة وبني توجين من بني بادين وبنو عبد الواد منهم أيضا، وشيخهم حمامة بن مظهر، وبنو يكناسن من بني مرين وأوقعوا ببني وماتوا وقتلوا أبا بكر في ستمائة منهم واستنفذوا غنائمهم. وتحصّن الموحدون وفلّ بني ومانوا بجبل سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بعبد المؤمن، وجاء في جملته حتى نزل تاشفين بن علي بتلمسان. ولما ارتحل في أثره إلى وهران كما قدّمناه سرّح الشيخ أبو حفص في عساكر الموحّدين إلى بلاد زناتة فنزلوا منداس وسط بلادهم، وأثخنوا فيهم حتى أذعنوا لطاعته ودخلوا في الدعوة. ووفد على عبد المؤمن بمكانه من حصار وهران مقدمهم سيّد الناس بن أمير الناس شيخ بني يلومي وحمامة بن مظهر شيخ بني عبد الواد. وعطية الخير شيخ بني توجين وغيرهم، فتلقاهم بالقبول.
ثم انتقضت زناتة بعدها وامتنع بنو يلومي بحصنهم الجعبات ومعهم شيخهم سيّد الناس ومدرج [1] ابنا سيّد الناس. فحاصرتهم عساكر الموحدين وغلبوهم عليها وأشخصوهم إلى المغرب. ونزل سيّد الناس بمراكش، وبها كان مهلكه أيام عبد المؤمن. وهلك بعد ذلك بنو ماخوخ.
(ولما) أخذ أمير هذين الحيين في الانتقاض جاذب بنو يلومي في تلك الأعمال بنو توجين، وشاجروهم في أحواله ثم واقعوهم الحرب في جوانبه وتولّى ذلك فيهم عطية الخير شيخ بني توجين، وصلى بنارها معه منهم بنو منكوش [2] من قومه حتى غلبوهم على مواطنهم وأذلّوهم وأصاروهم جيرانا لهم في قياطينهم. واستعلى بنو عبد الواد وتوجين على هذين الحيّين وغيرهم بولايتهم للموحدين ومخالطتهم إيّاهم، فذهب شأنهم وافترق قيطونهم أوزاعا في زناتة الوارثين أوطانهم من عبد الواد وتوجين والبقاء للَّه سبحانه. (ومن بطون بني وماتوا هؤلاء بنو يامدس [3] ) وقد يزعم زاعمون أنهم من مغراوة ومواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى والأوسط وراء العرق المحيط بعمرانها المذكور قبل. واختطوا في المواطن القصور والأطم، واتخذوا بها الجنات من النخيل والأعناب وسائر الفواكه، فمنها على ثلاثة مراحل قبلة سجلماسة، ويسمى وطن توات، وفيه قصور متعدّدة تناهز المائتين، آخذة من المشرق إلى المغرب وآخرها
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة بولاق: بدرج وفي نسخة أخرى: مضرج.
[2] وفي نسخة ثانية: بنو منكرس.
[3] وفي نسخة ثانية: ومن بطون بني وماتوا هؤلاء قبائل بني يالدسّ.(7/76)
من جانب المشرق يسمّى تمنطيت، وهو بلد مستجر في العمران، وهو محط ركاب التجار المتردّدين من المغرب إلى بلد مالي من السودان لهذا العهد، ومن بلد مالي إليه، وبينه وبين ثغر بلاد مالي المسمّى غار، المفازة المجهلة لا يهتدي فيها للسبل، ولا يمر الوارد إلّا بالدليل الخبير [1] من الملثمين الظواعن بذلك القفز، يستأجره التجّار على الدربة بهم فيها بأوفر الشروط، وكانت بلد بودي [2] وهي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من بادية السوس هي الركاب إلى والاتن الثغر الآخر من أعمال مالي. ثم أهملت لما صارت الأعراب بادية السوس يغيرون على سابلتها ويعترضون رفاقها، فتركوا تلك ونهجوا الطريق إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت.
ومن هذه القصور قبلة تلمسان، وعلى عشر مراحل منها قصور تيكارين [3] وهي كثيرة تقارب المائة في بسيط واد منحدر من المغرب إلى المشرق، واستبحرت في العمران وغصت بالساكن. وأكثر سكان هذه القصور الغريبة في الصحراء بنو يامدس هؤلاء ومعهم من سائر قبائل البربر مثل ورتطغير ومصاب وبني عبد الواد وبني مرين، وهم أهل عدد وعدة وبعد عن هضمة الأحكام وذلّ المغارم، وفيهم الرجّالة والخيّالة وأكثر معاشهم من بلح النخل [4] ، وفيهم التجّار إلى بلاد السودان وضواحيهم كلّها مشتاة للعرب، ومختصة بعبيد الله من المعقل، عيّنتها لهم قسمة الرحلة. وربما شاركهم بنو عامر بن زغبة في تيكرارين فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين.
وأمّا عبيد الله فلا بدّ لهم في كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات وبلد تمنطيت، ومع ناجعتهم تخرج قفول التجّار من الأمصار والتلول حتى يحطوا بتمنطيت. ثم يبذرقون منها إلى بلاد السودان. وفي هذه البلاد الصحراوية غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب، وذلك أنّ البئر تحفر عميقة بعيدة المهوى وتطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة، فتنحت بالمعاول والفؤوس إلى أن يرقّ جرمها، ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها على الماء،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المخرّيث.
[2] وفي النسخة الباريسية: هودي.
[3] وفي نسخة ثانية: تيكورارين.
[4] وفي نسخة ثانية: من فلح النخل.(7/77)
فينبعث صاعدا فيعمّ البئر ثم يجري على وجه الأرض واديا، ويزعمون أنّ الماء ربّما أعجل بسرعته عن كل شيء. وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكرارين وواركلا وريغ. والعالم أبو العجائب والله الخلّاق والعليم. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من زناتة فلترجع إلى أخبار الطبقة الثانية. وهم الذين اتصلت دولتهم إلى هذا العهد.
(أخبار الطبقة الثانية من زناتة وذكر أنسابهم وشعوبهم وأوليتهم ومصائر ذلك)
قد تقدّم لنا في أضعاف الكلام قبل انقراض الملك من الطبقة من زناتة ما كان على يد صنهاجة والمرابطين من بعدهم، وأنّ عصبية أجيالهم افترقت بانقراض ملكهم ودولهم، وبقي منهم بطون لم يمارسوا الملك، ولا أخلقهم ترفه، فأقاموا في قياطينهم بأطراف المغربين ينتجعون جانبي القفر والتلّ، ويعطون الدول حق الطاعة. وغلبوا على بقايا الأجيال الأولى من زناتة بعد أن كانوا مغلوبين لهم فأصبحت لهم السورة والعزة وصارت الحاجة من الدول إلى مظاهرتهم ومسالمتهم، حتى انقرضت دولة الموحدين فتطاولوا إلى الملك وضربوا فنيه مع أهلهم بسهم. وكانت لهم دول نذكرها إن شاء الله تعالى. وكان أكثر هذه الطبقة من بني واسين بن يصلتن إخوة مغراوة وبني يفرن، ويقال إنهم من بني وانتن بن ورسيك بن جانا إخوة مسارة وتاجرت، وقد تقدّم ذكره هذه الأنساب. وكان من بني واسين هؤلاء ببلد قسطيلية. وذكر ابن الرقيق أنّ أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس كتب إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وربما كان منهم ببلد الحامة لهذا العهد، ويعرفون ببني ورتاجن إحدى بطونهم. وأمّا جمهورهم فلم يزالوا بالمغرب الأقصى بين ملوية إلى جبل راشد.
(وذكر موسى) بن أبي العافية في كتابه إلى الناصر الأموي يعرّفه بحربة مع ميسور مولى أبي القاسم الشيعيّ، ومن صار إليه من قبائل زناتة، فذكر فيمن ذكر ملوية، وسار من قبائل بني واسين وبني يفرن وبني يرناتن وبني ورنمت [1] ومطماطة، فذكر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني ورتاسن وبني وريمت، وبني يزناسن في قبائل المغرب/ 137.(7/78)
منهم بني واسين لأنّ تلك المواطن من مواطنهم قبل الملك.
(وفي هذه الطبقة منهم بطون) : فمنهم بنو مرين، وهم أكثرهم عددا وأقواهم سلطانا وملكا وأعظمهم دولة. (ومنهم) : بنو عبد الواد تلوهم في الكثرة والقوّة، وبنو توجين من بعدهم كذلك هؤلاء أهل الملك من هذه الطبقة. وفيها غير أهل الملك بنو راشد إخوة بني يادين كما نذكره، وفيها أهل الملك أيضا من غير نسبهم بقية من مغراوة بمواطنهم الأولى من وادي شلف نبضت فيهم عروق الملك بعد انقراض جيلهم الأوّل، فتجاذبوا حبله مع أهل هذا الجيل وكانت لهم في مواطنهم دولة كما نذكره.
(ومن أهل هذه الطبقة) كثير من بطونهم ليس لهم ملك نذكرهم الآن عند تفصيل شعوبهم. وذلك أنّ أحياءهم جميعا تشعّبت من زرجيك بن واسين فكان منهم بنو يادين بن محمد، وبنو مرين بن ورتاجن، فأمّا بنو ورتاجن فهم من ولد ورتاجن بن ماخوخ بن جريح [1] بن فاتن بن بدر بن يخفت بن عبد الله ورتنيد بن المعز بن إبراهيم بن زحيك. (وأمّا بنو مرين) بن ورتاجن فتعدّدت أفخاذهم وبطونهم كما نذكر بعد، حتى كثروا سائر شعوب بني ورتاجن، وصار بنو ورتاجن معدودين في جملة أفخاذهم وشعوبهم. (وأما بنو يادين) بن محمد فمن ولد زرجيك ولا أذكر الآن كيف يتصل نسبهم به. وتشعّبوا إلى شعوب كثيرة، فكان منهم: بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو مصاب وبنو زردال [2] يجمعهم كلّهم نسب يادين بن محمد. وفي محمد هذا يجتمع يادين وبنو راشد، ثم يجتمع محمد مع ورتاجن في زرجيك [3] بن واسين، وكانوا كلّهم معروفين بين زناتة الأولى ببني واسين قبل أن تعظم هذه البطون والأفخاذ، وتتشعب مع الأيام. وبأرض إفريقية وصحراء برقة وبلاد الزاب منهم طوائف من بقايا زناتة الأولى قبل انسياحهم إلى المغرب، فمنهم بقصور غدامس على عشرة مراحل قبلة سرت، وكانت مختطّة منذ عهد الإسلام، وهي خطة مشتملة على قصور وآطام عديدة، وبعضها لبني ورتاجن وبعضها لبني واطاس من أحياء بني مرين، يزعمون أنّ أوليتهم اختطّوها، وهي لهذا العهد قد استبحرت في العمارة،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بن وجديج.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زردان وفي نسخة ثانية: ازردال.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زحيك وفي نسخة ثانية: زجيك.(7/79)
واتسعت في التمدّن بما صارت محطّا لركاب الحاج من السودان، وقفل التجّار إلى مصر والاسكندرية عند اراحتهم من قطع المفازة ذات الرمال المعترضة أمام طريقهم دون الأرياف والتلول، وبابا لولوج تلك المفازة والحاج والتجر في مرجعهم ومنهم ببلد الحامة [1] غربيّ قابس أمّة عظيمة من بني ورتاجن. وفرّت منهم حاميتها، واشتدّت شوكتها ورحل إليها التجر بالبضائع لنفاق أسواقها، وتبحّر عمرانها، وامتنعت لهذا العهد على من يرومها ممن يجاورها، فهم لا يؤدّون خراجا ولا يسامون بمغرم، حتى كأنهم لا يعرفونه عزة جناب، وفضل بأس ومنعة. ويزعمون أنّ سلفهم من بني ورتاجن اختطّوها، ورياستهم في بيت منهم يعرفون ببني وشاح، ولربّما طال على رؤسائهم عهد الخلافة ووطأة الدولة فيتطاولون إلى التي تنكر على السوقة من اتخاذ الآلة، ويبرزون في زيّ السلطان أيام الزينة تهاونا بشعار الملك، ونسيانا لمألوف الانقياد شأن جيرانهم رؤساء توزر ونفطة. وسابق الغاية في هذه الضحكة هو يملول مقدّم توزر.
(ومن بني واسين) هؤلاء بقصور مصاب على خمس مراحل من جبل قيطري في القبلة لما دون الرمال على ثلاث مراحل من قصور بني ريغة في المغرب، وهذا الاسم للقوم الذين اختطّوها ونزلوها من شعوب بني يادين [2] حسبما ذكرناهم الآن.
وضعوها في أرض حرّة على أحكام [3] وضراب ممتنعة في قننها. وبينها وبين الأرض المحجرة المعروفة بالجمادة في سمت العرق متوسطة فيه قبالة تلك البلاد على فراسخ في ناحية القبلة، وسكانها لهذا العهد شعوب بني يادين من بني عبد الواد وبني توجين ومصاب وبني زردال فيمن انضاف إليهم من شعوب زناتة، وإن كانت شهرتها مختصة بمصاب، وحالها في المباني والاغتراس وتفرّق الجماعات بتفرّق الرئاسة شبيهة بحال بني ريغة والزاب. ومنهم بجبل أوراس بإفريقية طائفة من بني عبد الواد موطّنوه منذ العهد القديم لأوّل الفتح، معروفون بين ساكنيه.
(وقد ذكر) بعض الأخباريين أنّ بني عبد الواد حضروا مع عقبة بن نافع في فتح المغرب عند ايغاله في ديار المغرب، وانتهائه إلى البحر المحيط بالسوس في ولايته
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ومنهم ببلاد الحمة.
[2] وفي نسخة ثانية: بني يادين.
[3] وفي نسخة ثانية: آكام.(7/80)
الثانية. وهي الغزاة التي هلك فيها في منصرفه منها، وأنهم أبلوا البلاء الحسن فدعا لهم وأذن في رجوعهم قبل استتمام الغزاة. ولما تحيّزت زناتة أمام كتامة وصنهاجة اجتمع شعوب بني واسين هؤلاء كلّهم ما بين ملوية كما ذكرناه. وتشعّبت أحياؤهم وبطونهم، وانبسطوا في صحراء المغرب الأقصى والأوسط إلى بلاد الزاب وما إليها من صحارى إفريقية إذ لم يكن للعرب في تلك المجالات كلّها مذهب ولا مسلك إلى المائة الخامسة كما سبق ذكره. ولم يزالوا بتلك البلاد مشتملين لبوس العزّ مشمّرين للانفة، وكانت مكاسبهم [1] الأنعام والماشية، وابتغاؤهم الرزق من تحيّف السابلة، وفي ظل الرماح المشرّعة، وكانت لهم في محاربة الأحياء والقبائل ومنافسة الأمم والدول ومغالبة الملوك أيام ووقائع، نلمّ بها ولم تعظم العناية باستيعابها، فنأتي به. والسبب في ذلك أنّ اللسان العربيّ كان غالبا لغلبة دولة العرب وظهور الملّة العربية، فالكتاب والخط بلغة الدولة ولسان الملك، واللسان العجمي مستتر بجناحه مندرج في غماده، ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الأحقاب القديمة ملك يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد أيامهم وتدوين أخبارهم، ولم تكن مخالطة بينهم وبين أهل الأرياف والحضر، حتى يشهدوا آثارهم لإبعادهم في القفار كما رأيت في مواطنهم، وتوحّشهم عن الانقياد، فبقوا غفلا إلى أن درس منها الكثير، ولم يصل إلينا بعد ملكهم إلّا الشارد القليل يتبعه المؤرّخ المضطلع في مسالكه، ويتقرّاه في شعابه ويثيره من مكامنه، وأقاموا بتلك القفار إلى أن تسنّموا منها هضبات الملك على ما تصفه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وكان جل مكاسبهم.(7/81)
(الخبر عن أحوال هذه الطبقة قبل الملك وكيف كانت تصاريف أحوالهم الى أن غلبوا على الملك والدول)
وذلك أنّ أهل هذه الطبقة من بني واسين وشعوبهم التي سمّيناها كانوا تبعا لزناتة الأولى. ولما انزاحت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة وصنهاجة، خرج بنو واسين هؤلاء إلى القفر ما بين ملوية وصا، فكانوا يرجعون إلى ملك المغرب لذلك العهد.
مكناسة أوّلا ثم مغراوة من بعدهم. ثم حسر تيّار بني صنهاجة عن المغرب وتقلّص ملكهم، بعض الشيء وصاروا إلى الاستجاشة على القاصية بقبائل زناتة، فأومضت بروقهم، ورفت في ممالك زناتة منابتهم كما قدّمناه. واقتسم أعمالها بنو ومانو وبنو يلومي ناحيتين، وكانت ملوك صنهاجة أهل القلعة إذا عسكروا للغرب يستنفرونهم لغزوه، ويجمعون حشدهم للتوغّل فيه، وكان بنو واسين هؤلاء ومن تشعّب معهم من القبائل الشهيرة الذكر مثل بني مرين وبني عبد الواد وبني توجين ومصاب قد ملكوا القفر ما بين ملوية وأرض الزاب، وامتنعت عليهم المغربان ممن ملكها من زناتة الذين ذكرناهم.
(وكان) أهل الرئاسة بتلك الأرياف والضواحي من زناتة مثل بني ومانوا وبني يلومي بالمغرب الأوسط، وبني يفرن ومغراوة بتلمسان يستجيشون بني واسين هؤلاء وشعوبهم، ويستظهرون بجموعهم على من زاحمهم أو نازعهم من ملوك صنهاجة وزناتة وغيرهم، يحاجون [1] بهم عن مواطنهم لذلك، ويقرضونهم القرض الحسن من المال والسلاح والحبوب المعوزة لديهم بالقفار، فيتأثلون منهم ويرتاشون.
وعظمت حاجة بني حمّاد إليهم في ذلك عند ما عصفت بهم ريح العرب الضوالع من بني هلال بن عامر، وصرعوا دولة المعزّ وصنهاجة بالقيروان والمهديّة والإيواء عن مدّهم [2] ، وزحفوا إلى المغرب الأوسط فدافعوا بني حمّاد عن حوزته وأوعزوا إلى زناتة بمدافعتهم أيضا، فاجتمع لذلك بنو يعلى ملوك تلمسان من مغراوة وجمعوا من كان إليهم من بني واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين وبني راشد. وعقدوا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يجأجئون بهم من مواطنهم لذلك.
[2] وفي نسخة ثانية: والأنواء من حدهم.(7/83)
على حرب الهلاليين لوزيرهم أبي سعدى خليفة بن [1] اليفرني، فكان له مقامات في حروبهم ودفاعهم عن ضواحي الزاب وما إليه من بلاد إفريقية والمغرب الأوسط إلى أن هلك في بعض أيامه معهم، وغلب الهلاليون قبائل زناتة على جميع الضواحي وأزاحوهم عن الزاب وما إليه من بلاد إفريقية، وانشمر بنو واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين عن الزاب إلى مواطنهم بصحراء المغرب الأوسط من مصاب وجبل راشد إلى ملوية فيكيك. ثم إلى سجلماسة ولاذوا ببني ومانوا وبني يلومي ملوك الضواحي بالمغرب الأوسط، وتفيّؤا ظلّهم واقتسموا ذلك القفر بالمواطن، فكان لبني مرين الناحية الغربية منها قبلة المغرب الأقصى بتيكورارين ودبّروا إلى ملوية وسجلماسة، وبعدوا عن بني يلومي إلا في الأحايين وعند الصريخ، وكان لبني يادين منها الناحية الشرقية قبلة المغرب الأوسط ما بين فيكيك ومديونة إلى جبل راشد ومصاب. وكان بينهم وبين بني مرين فتن متصلة باتصال أيامهم في تلك المواضع [2] بسيل القبائل الجيران في مواطنهم، وكان الغلب في حروبهم أكثر ما يكون لبني يادين لما كانت شعوبهم أكثر وعددهم أوفر، فإنّهم كانوا أربعة: شعوب بني عبد الواد وبني توجين وبني زردال وبني مصاب، كان معهم شعب آخر وهم إخوانهم بنو راشد، لأنّا قدّمنا أنّ راشدا أخو يادين. وكان موطن بني راشد الجبل المشهور بهم بالصحراء، ولم يزالوا على هذه الحال إلى أن ظهر أمر الموحدين، فكان لبني عبد الواد وتوجين ومغراوة من المظاهرة لبني يلومي على الموحدين ما هو مذكور في أخبارهم.
ثم غلب الموحدون على المغرب الأوسط وقبائله من زناتة فأطاعوا وانقادوا، وتحيّز بنو عبد الواد وبنو توجين إلى الموحدين وازدلفوا إليهم بامحاض النصيحة ومشايعة الدعوة، وكان التقدم لبني عبد الواد دون الشعوب الآخر، وأمحضوا النصيحة للموحدين فاصطنعوهم دون بني مرين كما نذكر في أخبارهم وترك [3] الموحدون ضواحي المغرب الأوسط كما كانت لبني يلومي وبني ومانوا فملكوها. وتفرّد بنو مرين بعد دخول بني يادين إلى المغرب الأوسط بتلك الصحراء، لما اختار الله لهم
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والده في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة أخرى: المواطن.
[3] وفي نسخة أخرى: واقطعهم.(7/84)
من وفور قسمهم في الملك، واستيلائهم على سلطان المغرب الّذي غلبوا به الدول، واشتملوا الأقطار ونظّموا المشارق إلى المغارب، واقتعدوا كراسي الدول المسامتة لهم بأجمعها ما بين السوس الأقصى إلى إفريقية. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده.
فأخذ بنو مرين وبنو عبد الواد من شعوب بني واسين بحظ من الملك أعادوا فيه لزناتة دولة وسلطانا في الأرض، واقتادوا الأمم برسن الغلب، وناغاهم في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين، وكان في هذه الطبقة الثانية بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى، كانوا موطنين بقرار عزّهم ومنشأ جيلهم بوادي شلف، فجاذبوا هؤلاء القبائل حبل الملك وناغوهم في أطوار الرئاسة، واستطالوا بمن وصل جناحهم من هذه العشائر فتطاولوا إلى مقاسمتهم في الماء [1] ومساهمتهم في الأمر، وما زال بنو عبد الواد في الغضّ من عنانهم وجدع أنوف عصبيتهم حتى أوهنوا من بأسهم، وخصّت الدولة العبد الوادية ثم المرينية بسمة الملك المخلّفة من جناح تطاولهم، وتمحض ذلك كله عن استبداد بني مرين واستتباعهم لجميع هؤلاء العصائب كما نذكر لك الآن دولهم واحدة بعد أخرى، ومصائر هؤلاء القبائل الأربعة التي هي رءوس هذه الطبقة الثانية من زناتة. والملك للَّه يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين.
ولنبدأ منها بذكر مغراوة) بقية الطبقة الأولى وما كان لرؤسائهم أولاد منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن أولاد منديل من الطبقة الثانية وما أعادوا لقومهم مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلب وما إليه من نواحي المغرب الأوسط)
لما ذهب الملك من مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر، واضمحلت دولتهم بتلمسان وسجلماسة وفاس وطرابلس، وبقيت قبائل مغراوة متفرقة في مواطنها الأولى بنواحي المغربين وإفريقية بالصحراء والتلول، والكثير منهم بعنصرهم ومركزهم الأول بوطن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الملك.(7/85)
شلف وما إليه، فكان به بنو ورسيفان وبنو يرنا وبنو ينلت [1] . ويقال إنهم من وترمار وبنو سعيد وبنو زحاك [2] وبنو سنجاس، وربما يقال إنهم من زناتة وليسوا من مغراوة، وكان بنو خزرون الملوك بطرابلس لما انقرض أمرهم، وافترقوا في البلاد، ولحق منهم عبد الصمد بن محمد بن خزرون بجبل أوراس فرارا من أهل بيته هنالك الذين استولوا على الأمر وجدّه خزرون بن خليفة السادس من ملوكهم بطرابلس، فأقام بينهم أعواما. ثم ارتحل عنهم فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من بني ورسيفان وبني ورتزمين وبني بوسعيد وغيرهم، فتلقّوهم بالمبرّة والكرامة، وأوجبوا له حق البيت الّذي ينسب إليه فيهم، وأصهر إليهم فأنكحوه وكثر ولده وعرفوا بينهم ببني محمد، ثم بالخزريّة نسبة إلى سلفه الأول. وكان من ولده الملقّب أبو ناس بن عبد الصمد بن ورجيع بن عبد الصمد. وكان منتحلا للعبادة والخيرية، وأصهر إليه بعض ولد ماخوخ ملوك بني وماتوا بابنته، فأنكحه إيّاها، فعظم أمره عندهم بقومه ونسبه وصهره. وجاءت دولة الموحدين على أثر ذلك فرمقوه بعين التجلّة لما كان عليه من طرق الخير، فأقطعوه بوادي شلف وأقام على ذلك. وكان له من الولد ورجيع وهو كبيرهم، وغربي ولغريات [3] وماكور، ومن بنت ماخوخ عبد الرحمن، وكان أجلّهم شأنا عنده وعند قومه عبد الرحمن هذا، لما يوجبون له بولادة ماخوخ لأمّه، ويتفرّسون فيه أنّ له ولعقبه ملكا.
وزعموا أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة وذهبت في بعض حاجاتها، فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه، وبصرت به على البعد فجاءت تعدو لما أدركها من الشفقة، فقال لها بعض العارفين: خففي عنك فو الله ليكوننّ لهذا شأن. ونشأ عبد الرحمن هذا في جوّ هذه التجلّة مدلّا بنسبه وبأسه، وكثرت عشيرته من بني أبيه، واعصوصب عليه قبائل مغراوة، فكان له بذلك شوكة. وفي دولة الموحدين تقدمة، لما كان يوجب لهم على نفسه من الانحياش والمخالطة والتقدّم في مذاهب الطاعة. وكان السادة منهم يمرّون به غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين وجائين [4] ، فينزلون منه خير نزل، وينقلبون بحمده والشكر لمذهبه،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بنو ووترمار وبنو يلتت وفي نسخة ثانية: بنو ووتزمان وبنو ايليت.
[2] وفي نسخة ثانية: زجاك.
[3] وفي نسخة ثانية: عزيز ويغريان.
[4] وفي نسخة ثانية: راجعين.(7/86)
فيزيد خلفاؤهم اغتباطا به. وأدرك بعض السادة وهو بأرض قومه الخبر بمهلك الخليفة بمراكش، فخلف الذخيرة والظهر، وأسلمها لعبد الرحمن هذا، ونجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخوم وطنه، فكانت له بها ثروة أكسبته قوّة وكثرة فاستركب من قومه، واستكثر من عصابته وعشيرته. وهلك خلال ذلك وقد فشل ريح بني عبد المؤمن وضعف أمر الخليفة بمراكش.
(وكان له من الولد) منديل وتميم، وكان أكبرهما منديل، فقام بأمر قومه على حين عصفت رياح الفتنة، وسما لمنديل أمل في التغلّب على ما يليه، فاستأسد في عرينه وحامي عن أشباله. ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من البلاد فملك جبل وانشريس والمريّة وما إلى ذلك واختط قصبة مرات. وكان بسيط متيجة لهذا العهد في العمران آهلا بالقرى والأمصار.
(ونقل الأخباريون) أنّ أهل متيجة لذلك العهد يجمعون في ثلاثين مصرا فجاس خلالها وأوطأ الغارات ساحتها وخرّب عمرانها حتى تركها خاوية على عروشها. وهو في ذلك يوهم التمسّك بطاعة الموحدين، وأنه سلم لمن سالمهم حرب لمن عاداهم. وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون عن إفريقية قد أزاحوه إلى قابس وما إليها، فنزل الشيخ أبو محمد بن أبي حفص بتونس ودفعه إلى إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة فطمع يحيى بن غانية في استرجاع أمره وسبق إلى الثغور والأمصار يعبث فيها ويخرّبها، ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة وشنّ عليها الغارات واكتسح البسائط، وتكرّرت الوقائع بينه وبينهم، فجمع له منديل بن عبد الرحمن ولقيه بمتيجة، وكانت الدبرة عليه وانفضت عنه مغراوة، فقتله ابن غانية صبرا سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين وستمائة وتغلّب على الجزائر أثر نكبته، فصلب شلوه بها وصيره مثلا للآخرين. وقام بأمره في قومه بنوه، وكان منجبا فكان لهم العدد والشرف، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العبّاس، فتقلّد [1] مذاهب أبيه واقتصر على بلاد متيجة. ثم غلبهم بنو توجين على جبل وانشريس وضواحي المريّة وما إلى ذلك.
وانقبضوا إلى مركزهم الأوّل شلف، وأقاموا فيها ملكا بدويا لم يفارقوا فيه الظعن والخيام والضواحي والبسائط. واستولى على مدينة مليانة وتنس وبرشك وشرشال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتقبّل مذاهب أبيه وأقصر على بلاد متيجة.(7/87)
مقيمين فيها للدعوة الحفصيّة واختطوا قرية مازونة.
(ولما استوسق) الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان، واستفحل سلطانه بها وعقد له عليها ولأخيه من قبله عبد المؤمن، سما على التغلّب على أعمال المغرب الأوسط، وزاحم بني توجين وبني منديل هؤلاء بمكناسة فلفتوا وجوههم جميعا إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بإفريقية من بني عبد المؤمن، وبعثوا إليه الصريخ على يغمراسن، فاحتشد لهم جميع الموحدين والعرب، وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكرناه.
ولما قفل إلى الحضرة عقد في مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه ووطنه، فعقد للعبّاس ابن منديل على مغراوة، ولعبد القوي على توجين ولا ولاد حورة [1] على ملكيش، وسوّغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه. وعقد العبّاس السلم مع يغمراسن، ووفد عليه بتلمسان فلقاه مبرّة وتكريما، وذهب عنه بعدها مغاضبا. يقال إنه تحدّث بمجلسه يوما فزعم أنه رأى فارسا واحدا يقاتل مائتين من الفرسان، فنكر ذلك من سمعه من بني عبد الواد وعرّضوا بتكذيبه، فخرج العبّاس لها مغاضبا حتى أتى بقومه، وأتى يغمراسن مصداق قوله، فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه.
وهلك العبّاس لخمس وعشرين سنة بعد أبيه سنة سبع وأربعين وستمائة وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل وصلحت الحال بينه وبين يغمراسن وصاروا إلى الاتفاق والمهادنة، ونفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة كلومان [2] وهي سنة سبع وأربعين وستمائة، هزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق فرجعوا إلى أوطانهم وعاودوا شأنهم في العداوة. وانتقض عليهم أهل مليانة وخلعوا الطاعة الحفصيّة.
(وكان من خبر) هذا الانتقاض أنّ أبا العباس أحمد الملياني كان كبير وقته علما ودينا ورواية، وكان عالي السند في الحديث فرحل إليه الأعلام، وأخذ عنه الأئمة وأوفت به الشهرة على ثنايا السيادة، فانتهت إليه رياسة بلده على عهد يعقوب المنصور وبنيه. ونشأ ابنه أبو عليّ في جوّ هذه العناية وكان جموحا للرئاسة طامحا للاستبداد، وهو مع ذلك خلو من المغارم. فلمّا هلك أبوه جرى في شأو رياسته طلقا، ثم رأى ما بين مغراوة وبني عبد الواد من الفتنة، فحدّثته نفسه بالاستبداد ببلده، فجمع لها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حتورة وفي نسخة ثانية: حبورة.
[2] وفي نسخة اخرى: كلدمان.(7/88)
جراميزه، وقطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة تسع وخمسين وستمائة، وبلغ الخبر الى تونس فسرّح الخليفة أخاه في عسكر من الموحدين في جملته «دون الديك بن هرنزة [1] » من آل أدفونش ملوك الجلالقة، كان نازعا إليه عن أبيه في طائفة من قومه، فنازلوا مليانة أياما. وداخل السلطان طائفة من مشيخة البلد المنحرفين عن ابن الملياني، فسرّب إليهم جنودا بالليل واقتحموها من بعض المداخل، وفرّ أبو عليّ الملياني تحت الليل. وخرج من بعض قنوات البلد، فلحق بأحياء العرب، ونزل على يعقوب بن موسى بن العطاف من بطون زغبة، فأجاره إلى أن لحق بعدها بيعقوب بن عبد الحق، فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم. وانصرف عسكر الموحدين والأمير أبو حفص إلى الحضرة، وعقد لمحمد بن منديل على مليانة، فأقام بها الدعوة الحفصية على سنن قومه. ثم هلك محمد بن منديل سنة اثنتين وستين وستمائة لخمس عشرة من ولايته، قتله أخواه ثابت وعابد بمنزل ظواعنهم بالخيس [2] من بسيط بلادهم، وقتل معه عطية ابن أخيه منيف وتولّى عابد وشاركه ثابت في الأمر، واجتمع إليه قومه وتقطع ما بين أولاد منديل وخشّنت صدورهم. واستغلظ يغمراسن بن زيان عليهم، وداخله عمر بن منديل في أن يمكّنه من مليانة، ويشدّ عضده على رياسة قومه، فشارطه على ذلك وأمكنه من أزمّة البلد سنة ثمان وستين وستمائة ونادى بعزل ثابت ومؤازرة عمر على الأمر فتمّ لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة. واستمكن بها يغمراسن من قيادة قومه. ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر، فاتفق ثابت وعابد أولاد منديل أن يحكماه من تونس [3] فأمكناه منها سنة اثنتين وسبعين وستمائة على اثني عشر ألفا من الذهب.
واستمرّت ولاية عمر إلى أن هلك سنة ست وسبعين وستمائة، فاستقل ثابت بن منديل برياسة مغراوة، وأجاز عابد أخوه إلى الأندلس للرباط والجهاد مع صاحبيه زيّان بن محمد بن عبد القوي وعبد الملك بن يغمراسن فحوّل زناتة واسترجع ثابت بلاد تونس ومليانة من يد يغمراسن، ونبذ إليه العهد، ثم استغلظ يغمراسن عليهم واستردّ تونس سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي مهلكه.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: دون الريك بن هراندة.
[2] وفي نسخة اخرى: بالخميس.
[3] وفي نسخة ثانية: في تنس.(7/89)
(ولما) هلك يغمراسن وقام بالأمر بعده ابنه عثمان انتقضت عليه تونس، ثم ردّد الغزو إلى بلاد توجين ومغراوة حتى غلبهم آخرا على ما بأيديهم، وملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة سبع وثمانين وستمائة وغلب ثابت بن منديل على مازونة، فاستولى عليها ثم نزل له عن تونس أيضا فملكها. ولم يزل عثمان مراغما لهم إلى أن زحف إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة فاستولى على أمصارهم وضواحيهم، وأخرجهم عنها وألجأهم إلى الجبال. ودخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعا دونها، فزحف إليهم عثمان وحاصره بها حتى إذا استيقن أنه محاط به [1] ، ركب البحر إلى المغرب، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين صريخا سنة أربع وتسعين وستمائة فأكرمه ووعده بالنصرة من عدوّه، وأقام بفاس وكانت بينه وبين ابن الأشهب من رجالات بني عسكر صحبة ومداخلة، فجاءه بعض الأيام الى منزله، ودخل عليه من غير استئذان وكان ابن الأشهب ثملا، فسطا به وقتله وثأر السلطان به منه، وانفجع لموته. وكان ثابت بن منديل قد أقام ابنه محمد الأمير في قومه، وولّاه عليهم لعهده واستبدّ بملك مغراوة دونه.
(ولما انصرف) أبوه ثابت إلى قومه أقام هو في إمارته على مغراوة. وهلك قريبا من مهلك أبيه، فقام بأمرهم من بعده شقيقه عليّ، ونازعه الأمر أخواه رحمون ومنيف، فقتله منيف ونكر ذلك قومهما وأبوا من إمارتهما عليهم، فلحقا بعثمان بن يغمراسن فأجازهما إلى الأندلس.
(وكان) أخوهما معمّر بن ثابت قائدا على الغزاة بالعزة [2] فنزل لمنيف عنها، فكانت أوّل ولاية وليها بالأندلس. ولحق بهم أخوهم عبد المؤمن فكانوا جميعا هنالك ومن أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن، ومن أعقاب منيف [3] بن عمر بن منيف وجماعة منهم لهذا العهد بالأندلس.
(ولما هلك) ثابت بن منديل سنة أربع وتسعين وستمائة كما قلناه، كفل السلطان ولده وأهله، وكان فيهم حافده راشد بن محمد، فأصهر إليه في أخته فأنكحه إياها.
ونهض إلى تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة فأناخ عليها، واختطّ مدينته لحصارها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انه محيط به.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالبغيرة، وفي نسخة ثانية بالنغيرة.
[3] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم ابن عمر هذا في المراجع التي بين أيدينا.(7/90)
وسرّح عساكره في نواحيها، وعقد على مغراوة وشلف لعمر بن يعزن [1] بن منديل، وبعث معه جيشا ففتح مليانة وتونس ومازونة سنة تسع وتسعين وستمائة ووجد راشد في نفسه إذ لم يوله على قومه، وكان يرى أنه الأحق لنسبه وظهره، فنزع عن السلطان ولحق بجبال متيجة ودسّ إلى أوليائه من مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة، فأجدّ [2] السير ولحق بهم، فافترق أمر مغراوة، وداخل أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وبيّت عمر بن ويعزن بأزمور [3] من ضواحي بلادهم فقتله، واجتمع عليه قومه وسرّح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق، ومن بني ورتاجن لنظر عليّ بن محمد الخير، ومن بني توجين لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي. ومن الجند لنظر علي بن حسّان الصبحي من صنائعه، وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل، وزحفوا إلى مازونة وقد ضبطها راشد، وخلّف عليها عليّا وحمّوا ابني عمه يحيى بن ثابت. ولحق هو ببني بو سعيد مطلا عليهم وأناخت العساكر على مازونة، ووالوا عليها الحصار سنين حتى أجهدوهم. وبعث عليّ بن يحيى أخاه حمّو إلى السلطان من غير عهد فتقبّض عليه. ثم اضطره الجهد إلى مركب الغرور فخرج إليهم ملقيا بيده سنة ثلاث وسبعمائة وأشخصوه إلى السلطان فعفا عنه واستبقاه، واحتسبها تأنيسا واستمالة لراشد ثم سرّح العساكر الى قاصية الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب، فنازل راشد بن محمد في معقل بني بوسعيد، وطال حصاره إياه، وأمكنته الغرّة بعض الأيام في العساكر، وقد تعلقوا بأوعار البلد زاحفين إليه فهزمهم. وهلك في تلك الواقعة خلق من بني مرين وعساكر السلطان، وذلك سنة أربع وسبعمائة. وبلغ الخبر الى السلطان فأحفظه ذلك عليهم، وأمر بابن عمّه علي بن يحيى وأخيه حمّو ومن معهم من قومهم، فقتلوا رشقا بالسهام واستلحمهم.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية ويعزن وفي نسخة ثانية: ويغرن.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: فأغذّ.
[3] سمّاها ياقوت في معجم البلدان أزمورة بثلاث ضمات وكذلك ابن حوقل. وأزمور مدينة صغيرة على شاطئ المحيط الأطلنطي بين الدار البيضاء والجديدة على ضفة وادي أم الربيع، تعتبر مركزا مهما لقبائل.
الحوزية وشتوكه بدكاله. ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها الفينيقيون. (تقع المدينة على بعد 2 كلم من الشاطئ و 17 كلم من الجديدة و 80 كلم من البيضاء) . (المعجم التاريخي 3- كتاب المغرب/ 42.(7/91)
ثم سرّح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة أربع وسبعمائة فاستولى على بلاد مغراوة، ولحق راشد بجبال صنهاجة من متيجة، ومعه عمّه منيف بن ثابت ومن اجتمع إليهم من قومهم، فنازلهم أبو يحيى بن يعقوب. وراسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم، ورجعت العساكر عنهم. وأجاز منيف بن ثابت معه بنيه وعشيرته إلى الأندلس، فاستقرّوا هنالك آخر الأيام.
(ولمّا هلك) يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست وسبعمائة انعقدت السلم بين حافده أبي ثابت وبين أبي زيّان بن عثمان سلطان بني عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم وأعمالهم وثغورهم، وبعثوا في حاميتهم وعمّالهم وأسلموها لعمّال أبي زيّان. وكان راشد قد طمع في استرجاع بلاده، وزحف إلى مليانة فأحاط بها. فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيّان وصارت مليانة وتونس له، أخفق سعي راشد وأفرج عن البلد. ثم كان مهلك أبي زيّان قريبا، وولّى أخوه أبو حمّو موسى بن عثمان واستولى على المغرب الأوسط فهلك تافريكت [1] سنة سبع وسبعمائة وملك بعدها مليانة والمريّة، ثم ملك تونس وعقد عليها لمولاه مسامح، وقارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن مولانا الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي إسحاق إلى متيجة لاسترجاع الجزائر من يد ابن علان الثائر بها عليهم، فلقيه هنالك راشد بن محمد وصار في جملته وظاهره على شأنه. ولقاه السلطان تكرمة وبرّا، وعقد له ولقومه حلفا مع صنهاجة أولياء الدولة والمتغلّبين على ضاحية بجاية وجبال زواوة، فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد زعماء الدولة.
ولما نهض السلطان للاستيثار بملك الحضرة بتونس، استعمل يعقوب بن خلوف على بجاية وعسكر معه راشد بقومه، وأبلى في الحروب بين يديه وأغنى في مظاهرة أوليائه حتى إذا ملك حضرتهم واستولى على تراث سلفهم، أسف حاجب الدولة راشد هذا وقومه بإمضاء الحكم في بعض حشمه، وتعرّض للحرابة في السابلة، فتقبّض عليه ورفع إلى سدّة السلطان فأمضى فيه حكم الله. وذهب راشد مغاضبا ولحق بوليّه ابن خلوف ومضطربه من زواوة. وكان يعقوب بن خلوف قد هلك وولّى السلطان مكانه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تافركينت.(7/92)
ابنه عبد الرحمن، فلم يرع حق أبيه في إكرام صديقه راشد. وتشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها ملاحاة راشد له، وأنف منها، وأدلّ فيها راشد بمكانه من الدولة وببأس قومه، فلدغه بالقول وتناوله عبد الرحمن وحشمه وخزا بالرماح إلى أن أقعصوه [1] وانذعر جمع مغراوة ولحقوا بالثغور القاصية، وأقفر منهم شلف وما إليه كأن لم يكونوا به فأجاز منهم بنو منيف وبنو يعزن إلى الأندلس للمرابطة بثغور المسلمين، فكانت منهم عصابة موطّنة هناك أعقابهم لهذا العهد. وأقام في جوار الموحّدين فلّ آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في عساكر الدولة إلى أن انقرضوا ولحق علي بن راشد بعمّته في قصر بني يعقوب بن عبد الحق فكفلته، وصار أولاد منديل عصبا إلى وطن بني مرين فتولّوهم وأحسنوا جوارهم، وأصهروا إليهم سائر الدولة، إلى أن تغلّب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيّان، وجمع كلمة زناتة، وانتظم مع بلادهم بلاد إفريقية وعمل الموحدين وكانت نكبته على القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة كما شرحناه قبل. فانتقضت العمالات والأطراف وانتزى أعياص الملك بمواطنهم الأولى، فتوثّب عليّ بن راشد بن محمد ابن ثابت بن منديل على بلاد شلف وتملّكها وتغلّب على أمصارها مليانة وتنس وبرشك وشرشال، وأعاد ما كان لسلفه بها من الملك على طريقتهم البدوية، وأرهفوا حدّهم لمن طالبهم من القبائل.
وخلص السلطان أبو الحسن من ورطته إلى إفريقية، ثم من ورطة البحر من مرسى الجزائر إلى بجاية يحاول استرجاع ملكه المفرّق، فبعث إلى عليّ بن راشد وذكّره ذمّتهم فتذكر وحنّ، واشترط لنفسه التجافي له عن ملك قومه بشلف على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من اشتراط ذلك له، فتحيّز عنه إلى فينة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان كما ذكرناه قبل، وظاهرهم عليه وبرز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر والتقى الجمعان بشربونة [2] سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلف مصافّ السلطان أبي الحسن وانهزم جمعه، وهلك ابنه الناصر، طاح دمه في مغراوة وهؤلاء. وخرج إلى الصحراء ولحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد.
وتطاول الناجمون بتلمسان من آل يغمراسن الى انتظام بلاد مغراوة في ملكهم كما كان
__________
[1] قال الجوهري: يقال ضربه فاقعصه أي قتله مكانه.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: شربوبة وفي نسخة ثانية: شدبونة.(7/93)
لسلفهم، فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد رديف سلطانهم وأخوه أبو ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وفلّ جموعهم وغلبهم على الضاحية والأمصار. وأحجر عليّ بن راشد بتنس في شرذمة من قومه، وأناخ بعساكره عليه وطال الحصار ووقع الغلب ولما رأى علي بن رشد أن قد أحيط به دخل الى زاوية من زوايا قصره انتبذ فيها عن الناس وذبح نفسه بحدّ حسامه، وصار مثلا وحديثا للآخرين. واقتحم البلد لحينه، واستلحم من عثر عليه من مغراوة، ونجا الآخرون إلى أطراف الأرض، ولحقوا بأهل الدول فاستركبوا واستلحقوا وصاروا جندا للدول وحشما وأتباعا، وانقرض أمرهم من بلاد شلف.
ثم كانت لبني مرين الكرّة الثانية إلى تلمسان، وغلبوا آل زيّان ومحوا آثارهم. ثم فاء ظلّهم بملك السلطان أبي عنّان، وحسر تيارهم، وجدّد الناجمون من آل يغمراسن دولة ثانية بمكان عملهم على يد أبي حمّو الأخير ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم. ثم كانت لبني مرين الكرّة الثالثة إلى بلاد تلمسان، ونهض السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن إليها فدخلها فاتح سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وسرّح عساكره في اتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فرّ أمامه في قومه وأشياعه من العرب كما يأتي ذلك كله. ولما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا هنالك أياما لإزاحة عللهم. وكان في جملتهم صبيّ من ولد عليّ بن راشد الذبيح اسمه حمزة، ربّي يتيما في حجر دولتهم لذمام الصهر الّذي لقومه فيهم، فكفلته نعمهم وكنفه جوّهم، حتى شبّ واستوى وسخط رزقه في ديوانهم وحاله بين ولدانهم، واعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن غازي شاكيا، فجبهه وأساء ردّه، فركب الليل ولحق بمعقل بني بو سعيد من بلاد شلف فأجاروه ومنعوه، ونادى بدعوة قومه فأجابوه، وسرّح إليه السلطان وزيره عبد العزيز عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير يتريعن [1] في جيش كثيف من بني مرين والجند فنزل بساحة ذلك الجبل حولا كريتا [2] فحاصرهم ينال منهم وينالون منه، وامتنعوا عليه واتهم السلطان وزيره بالمداهنة، وسعى به منافسوه، فتقبّض عليه، وسرّ وزيره الآخر أبا بكر بن غازي، فنهض يجرّ العساكر الضخمة والجيوش الكثيفة إلى أن نزل
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تيربيغين.
[2] قال الجوهري: سنة كريت أي سنة تامة..(7/94)
بهم وصبحهم القتال، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأنزلهم من معقلهم. وفرّ حمزة بن عليّ في فلّ من قومه، فنزل ببلاد حصين المنتقضين كانوا على الدولة مع أبي زيّان بن أبي سعيد الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكره. وأتى بنو أبي سعيد طاعتهم، وأخلصوا الضمائر في مغبتها فحسن موقعهم وبدأ حمزة في الرجوع إليهم فأغذّ السير في لمّة من قومه، حتى إذا ألمّ بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به من حبل الطاعة، فتساهل إلى البسائط وقصد تيمروغت [1] يظنّ بها غرّة ينتهزها، فبرز إليه حاميتها ففلّوا حدّة وردّوه على عقبه، وتسابقوا في اتباعه إلى أن تقبّضوا عليه، وقادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس. فأوعز إليه السلطان بقتله مع جملة أصحابه، فضربت أعناقهم، وبعث بها إلى سدّة السلطان وصلب أشلاؤهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة، ومحّى أثر مغراوة، وانقرض أمرهم وأصبحوا خولا للأمراء، وجندا في الدول، وأوزاعا في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم. والبقاء للَّه وحده، وكل شيء هالك إلّا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون لا ربّ غيره ولا معبود سواه وهو على كل شيء قدير.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: تيمزوغت.(7/95)
الخبر عن بني عبد الواد من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم بتلمسان وبلاد المغرب الأوسط من الملك والسلطان وكيف كان مبدأ أمرهم ومصائر أحوالهم
قد تقدّم لنا في أوّل هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء وأنهم من ولد يادين بن محمد إخوة توجين ومصاب وزردال وبني راشد، وأن نسبهم يرتفع إلى رزجيك بن واسين بن ورسيك بن جانا، وذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك. وكان إخوانهم بمصاب وجبل راشد وفيكيك وملوية، ووصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في رزجيك بن واسين.
ولم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك وبنو راشد بنو زردال ومصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف، وبنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم. ولم يزالوا جميعا متغلّبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان، وكانوا تبعا فيه لبني ومانوا وبني يلومي حين كان لهم التغلّب فيهم. وربما يقال: كان شيخهم لذلك العهد يعرف بيوسف بن تكفا، حتى إذا نزل عبد المؤمن والموحّدون نواحي تلمسان، وسارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي حفص، فأوقعوا بهم كما ذكرناه، وحسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد وانحياشهم إلى الموحّدين. وكانت بطونهم وشعوبهم كثيرة أظهرها فيما يذكرون ستة: بنو ياتكين وبنو ولّلوا وبنو ورصطف ومصوصة وبنو تومرت وبنو القاسم. ويقولون بلسانهم أيت القاسم وأيت حرف الإضافة النسبية عندهم. ويزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من أولاد القاسم بن إدريس. وربّما قالوا في هذا القاسم إنه ابن محمد بن إدريس، أو ابن محمد بن عبد الله، أو ابن محمد بن القاسم وكلّهم من أعقاب إدريس، زعما لا مستند له إلّا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه، مع أن البادية بعداه عن معرفة هذه الأنساب. والله أعلم بصحة ذلك.
(وقد قال يغمراسن) بن زيّان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبه إلى إدريس كما يذكرون فقال برطانتهم ما معناه: إن كان هذا صحيحا فينفعنا عند الله. وأمّا الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا. ولم تزل رياسة بني عبد الواد في بني القاسم لشدّة شوكتهم واعتزاز(7/97)
عصبيتهم، وكانوا بطونا كثيرة فمنهم: بنو يكمثين [1] بن القاسم. وكان منهم ويعزن ابن مسعود بن يكمثين وأخواه يكمثين وعمر، وكان أيضا منهم أغدوي [2] بن يكمثين الأكبر، ويقال الأصغر. ومنهم أيضا عبد الحق بن منغفاد من ولد ويعزن، وكانت الرئاسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد وأغدوي بن يكمثين وعبد الحق ابن منغفاد هو الّذي استنقذ الغنائم من يدي بني مرين، وقتل المخضب المسوّف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحّدين لذلك، والمؤرّخون يقولون: عبد الحق بن معاد بميم وعين مهملة مفتوحتين وألف بعدها دال، وهو غلط، وليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة، وإنما هو تصحيف منغفاد بميم ونون مفتوحتين وغين بعدهما معجمة ساكنة وفاء مفتوحة، والله أعلم.
(ومن بطون) بني القاسم أيضا: بنو مطهر بن يمل بن يزكين [3] بن القاسم وكان حمامة ابن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن، وأبلى في حروب زناتة مع الموحدين، ثم حسنت طاعته وانحياشه. (ومن بطون) بني القاسم أيضا: بنو عليّ، وإليهم انتهت رياستهم وهم أشدّ عصبيّة وأكثر جمعا، وهم أربعة أفخاذ: بنو طاع الله، وبنو دلول وبنو كمين [4] وبنو معطي بن جوهر، والأربعة بنو عليّ. ونصاب الرئاسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكراز [5] بن تيدوكسن بن طاع الله، هذا ملخص الكلام في نسبهم.
(ولما) ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط وأبلوا من طاعتهم وانحياشهم ما كان سببا لاستخلاصهم، فأقطعوهم عامّة بلاد بني ومانوا، وأقاموا بتلك المواطن، وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمين إلى أن قتل كندوز بن [6] من بني كمين زيّان بن ثابت كبير بني محمد بن زكراز [7] وشيخهم وقام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد، فثار كندوز بزيّان ابن عمه وقتله في بعض أيامهم وحروبهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مكنيمن.
[2] وفي نسخة ثانية: أعدوي.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يزكن وفي نسخة ثانية بني مزكن.
[4] وفي نسخة ثانية: بنو كمي.
[5] وفي نسخة ثانية: ابن زكرّان.
[6] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد كندوز هذا في المراجع التي بين أيدينا.
[7] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان وفي نسخة ثانية: زكدار وفي أخرى أيضا: زكداز(7/98)
ويقال قتله غيلة، وبعث برأسه ورءوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيّان بن ثابت، فنصبت عليها القدور أثافي شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيّان.
وافترق بنو كمين، وفرّ بهم كبيرهم عبد الله بن كندوز، فلحقوا بتونس. ونزل على الأمير أبي زكريا كما نذكره بعد. واستبدّ جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد. وأقام هذا الحيّ من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط، حتى إذا فشل ريح بني عبد المؤمن، وانتزى يحيى بن غانية على جهات قابس وطرابلس، وردّد الغزو والغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها وعاث فيها. وكبس الأمصار فأقتحمها بالغارة وإفساد السابلة وانتساف الزرع، وحطّم النعم إلى أن خربت، وعفا رسمها لسني الثلاثين من المائة السابعة. وكانت تلمسان نزلا للحامية ومناخا للسيد من القرابة الّذي يضمّ نشرها، ويذبّ عن أنحائها وكان المأمون قد استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد، وكان مغفّلا ضعيف التدبير. وغلب عليه الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية، وكان عاملا على الوطن. وكانت في نفسه ضغائن من بني عبد الواد جرّها ما كان حدث لهم من التغلّب على الضاحية وأهلها، فأغرى السيد أبا سعيد بجماعة مشيخة منهم وفدوا عليه فتقبّض عليهم واعتقلهم.
وكان في حامية تلمسان لمّة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم، وأثبتهم عبد المؤمن في الديوان وجعلهم مع الحامية. وكان زعيمهم لذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علّان، فشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد فردّوه، فغضب وحمى أنفه وأجمع الانتقاض والقيام بدعوة ابن غانية، فجدّد ملك المرابطين من قومه بقاصية المشرق، فاغتال الحسن بن حبون لحينه، وتقبّض على السيد أبي سعيد وأطلق المشيخة من بني عبد الواد، ونقض طاعة المأمون وذلك سنة أربع وعشرين وسبعمائة فطيّر الخبر إلى ابن غانية فأجدّ إليه السير. ثم بدا له في أمر بني عبد الواد، ورأى أنّ ملاك أمره في خضد شكوتهم [1] وقصّ جناحهم، فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم، ومكر بهم في دعوة وأعدهم لها، وفطن لتدبيره ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد، فواعده اللقاء والمؤازرة، وطوى له على النث [2] ، وخرج إبراهيم بن علّان إلى لقائه ففتك به جابر. وبادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون
__________
[1] خضد الشجر: قطع شوكه: (قاموس) .
[2] النث: نثّا الخبر: أفشاه (قاموس) .(7/99)
وطاعته، وكشف لأهلها القناع عن مكر ابن علّان بهم، وما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية، فحمدوا رأيه وشكروا جابرا على صنيعه، وجدّدوا البيعة للمأمون.
واجتمع إلى جابر في أمره هنا كافة بني عبد الواد وأحلافهم من بني راشد، وبعث إلى المأمون بطاعته واعتماله في القيام بدعوته فخاطبه بالشكر، وكتب له بالعهد على تلمسان وسائر بلاد زناتة على رسم السادات الذين كانوا يلون ذلك من القرابة، فاضطلع بأمر المغرب الأوسط.
(وكانت) هذه الولاية ركوبا إلى صهوة الملك الّذي اقتعدوه من بعد. ثم انتقض عليه أهل اربونة [1] بعد ذلك فنازلهم وهلك في حصارها بسهم غرب سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه الحسن وجدّد له المأمون عهده بالولاية، ثم ضعف عن الأمر وتخلى عنه لستة أشهر من ولايته. ودفع إليه عمّه عثمان بن يوسف، وكان سيّئ الملكة كثير العسف والجور فثارت به الرعايا بتلمسان وأخرجوه سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وارتضوا لمكانه ابن عمه زكراز [2] بن زيّان بن ثابت الملقّب بأبي عزة فاستدعوه لها، وولّوه على أنفسهم وبلدهم، وسلّموا له أمرهم وكان مضطلعا بأمر زناتة ومستبدا برياستهم ومستوليا على سائر الضواحي، فنفس بنو مطهر عليه وعلى قومه بني عليّ إخوانهم ما آتاهم الله من الملك، وأكرمهم الله به من السلطان وحسدوا زكراز وسلفه فيما صار لهم من الملك، فشاقوه ودعوا إلى الخروج عليه، واتبعهم بنو راشد أحلافهم منذ عهد الصحراء، وجمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد، فكانت بينه وبينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وقام بالأمر بعده أخوه يغمراسن بن زيّان، فوقع التسليم والرضى به وسائر القبائل، ودان له بالطاعة جميع الأمصار. وكتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله وكان له ذلك سلّما الى الملك الّذي أورثه بنيه سائر الأيام. والملك للَّه يؤتيه من يشاء.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ندرومه وهو الصحيح كما في قبائل المغرب/ 426.
[2] وفي نسخة ثانية: زكران.(7/100)
الخبر عن تلمسان وما تأدّى إلينا من أحوالها من الفتح إلى أنّ تأثل بها سلطان بني عبد الواد ودولتهم
هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط، وأم بلاد زناتة اختطّها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم، ولم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك. وما يزعم بعض العامّة من ساكنها أنها أزليّة البناء، وأنّ الجدار الّذي ذكر في القرآن في قصّة الخضر وموسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها، فأمر بعيد عن التحصيل لأنّ موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب، وبنو إسرائيل لم يبلغ ملكهم لإفريقية، فضلا عمّا وراءها. وإنما هي من مقالات التشيّع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو أعلم أو صناعة. ولم أقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأنّ أبا المهاجر الّذي وليّ إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية، توغّل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان، وبه سمّيت عيون أبي المهاجر قريبا منها. وذكرها الطبري عند ذكر أبي قرّة وإجلائه مع أبي حاتم والخوارج على عمر بن حفص. ثم قال: فأفرجوا عنه وانصرف أبو قرّة إلى مواطنه بنواحي تلمسان.
وذكرها ابن الرقيق أيضا في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل استبداده بإفريقية، وأنه توغّل في غزوة إلى المغرب ونزلها، واسمها في لغة زناتة مركّب من كلمتين: تلم سان [1] ومعناهما تجمع اثنين يعنون البرّ والبحر.
(ولما خلص) إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب الأقصى واستولى عليه، نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين ومائة فتلقّاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة وتلمسان، فدخل في طاعته وحمل عليها مغراوة وبني يفرن وأمكنه من تلمسان فملكها، واختطّ مسجدها [2] وصعد منبره وأقام بها أشهرا وانكفأ راجعا إلى المغرب. وجاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله فنزلها وولّاه أمرها. ثم هلك إدريس وضعف أمرهم. ولما بويع لابنه إدريس من بعده واجتمع إليه برابرة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخ اخرى: تلم سين وتلم سن وتتم سين وهذا كله تحريف.
[2] ابرز ابن مرزوق اتفاق الرحالين. واجماع المتجولين على انهم لم يرو ثانيا لجامع تلمسان (المعجم التاريخي/ 20) .(7/102)
المغرب نهض إلى تلمسان سنة تسع وتسعين ومائة، فجدّد مسجدها وأصلح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين دوّخ فيها بلاد زناتة. واستوسقت له طاعتهم. وعقد عليها لبني محمد ابن عمه سليمان.
(ولما هلك إدريس) الأصغر واقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمّه كنزة، كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان وأعمالها لبني أبيه محمد بن سليمان. فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب، وولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة، نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة ومائتين وغلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان، ففرّ عنها إلى مليلة، وبنى حصنا لامتناعه بناحية نكور، فحاصره مدّة، ثم عقد له سلما على حصنه.
ولما تغلّب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر أعمال تلمسان، فأخذوا بدعوة بني أميّة من وراء البحر وأجازوا إليهم. وتغلّب يعلى بن محمد اليفرني على بلاد زناتة والمغرب الأوسط، فعقد له الناصر الأموي عليها وعلى تلمسان أعوام أربعين وثلاثمائة. ولما هلك يعلى وأقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر فملك تلمسان أعوام ستين وثلاثمائة. وهلك في حروب صنهاجة وغلبوهم على بلادهم، وانجلوا إلى المغرب الأقصى ودخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إلى أن انقسمت دولتهم، وافترق أمرهم. واستقلّ بإمارة زناتة وولاية المغرب زيري بن عطيّة، وطرده المنصور عن المغرب أعوام [1] ، فصار إلى بلاد صنهاجة وأجلب عليها، ونازل معاقلهم وأمصارهم مثل تلمسان وهراة [2] وتنس وأشير والمسيلة. ثم عقد المظفّر بعد حين لابنه المعزّ بن زيري على أعمال المغرب سنة ست وتسعين وثلاثمائة فاستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري واستقرّت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة. وعقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي وأخيه تاشفين من بعده، واستحكمت الفتنة بينه وبين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حمّاد، ونهض إلى تلمسان وأخذ بمخنقها، وكاد أن يغلب عليها كما ذكرنا ذلك كله في مواضعه.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة ثانية: وهدان.(7/103)
(ولما غلب) عبد المؤمن لمتونة وقتل تاشفين بن علي بوهران خرّبها وخرّب تلمسان بعد أن قتل الموحّدون عامّة أهلها، وذلك أعوام أربعين من المائة السادسة. ثم راجع رأيه فيها وندب الناس إلى عمرانها، وجمع الأيدي على رمّ ما تثلّم من أسوارها، وعقد عليها لسليمان بن واندين من مشايخ هنتاتة وآخر [1] بين الموحّدين بين هذا الحيّ من بني عبد الواد بما أبلى من طاعتهم وانحياشهم. ثم عقد عليها لابنه السيّد أبي حفص، ولم يزل آل عبد المؤمن بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم وأهل بيتهم ويرجعون إليه أمر المغرب كلّه وزناتة أجمع اهتماما بأمرها واستعظاما لعملها.
وكان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو راشد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط وملكوها. وتقلّبوا في بسائطها، واحتازوا باقطاع الدولة الكثير من أرضها والطيب من بلادها والوافر للجباية من قبائلها، فإذا خرجوا إلى مشاتيهم بالصحراء خلّفوا أتباعهم وحاشيتهم بالتلول لاعتمار أرضهم وازدراع فدنهم وجباية الخراج من رعاياهم. وكان بنو عبد الواد من ذلك فيها بين البطحاء وملوية، ساحله وريفه وصحراءه. وصرف ولاة الموحّدين بتلمسان من السادة نظرهم واهتمامهم بشأنها إلى تحصينها وتشييد أسوارها، وحشد الناس إلى عمرانها والتناغي في تمصيرها واتخاذ الصروح والقصور بها، والاحتفال في مقاصر الملك واتساع خطّة الدور. وكان من أعظمهم اهتماما بذلك وأوسعهم فيه نظرا السيّد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري ووليها سنة ست وخمسين وستمائة على عهد أبيه يوسف ابن عبد المؤمن. واتصلت أيام ولايته فيها، فشيّد بناءها وأوسع خطتها وأدار سياج الأسوار عليها، ووليها من بعد السيد ابو الحسن ابن السيّد أبي حفص بن عبد المؤمن، وتقبّل فيها مذهبه.
(ولما كان) من أمر بني غانية وخروجهم من ميورقة سنة إحدى وثمانين ما قدّمناه وكبسوا بجاية فملكوها، وتخطّوا الى الجزائر ومليانة فغلبوا عليها، تلافى السيد أبو الحسن أمره بأنعام النظر في تشييد أسوارها والاستبلاغ في تحصينها وسدّ فروجها، واعماق الحفائر نطاقا عليها، حتى صيّرها من أعز معاقل المغرب وأحصن أمصاره، وتقبّل ولاتها هذا المذهب من بعده في المعتصم بها. (واتفق من الغرائب) . أنّ أخاه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وآخى.(7/104)
السيد أبا زيد هو الّذي دفع لحرب بني غانية فكان لها في رقع الخرق والمدافعة عن الدولة آثار. وكان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بإفريقية، وخالفتهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحّدين، وتحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط، وكان مفزعهم جميعا ومرجع نقضهم وإبرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم وحامي حقيقتهم. وكان ابن غانية كثيرا ما يجلب على ضواحي تلمسان وبلاد زناتة ويطرقها معه من ناعق الفتنة إلى أن خرّب كثيرا من أمصارها مثل تاهرت وغيرها، فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط، وأمّ هؤلاء الأحياء من زناتة والمغرب الكافية لهم المهيّئة في حجرها مهاد نومهم لما خرّبت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد في الدول السالفة والعصور الماضية، وهما أرشكول بسيف البحر وتاهرت فيما بين الريف والصحراء من قبلة البطحاء وكان خراب هاتين المدينتين فيما خرّب من أمصار المغرب الأوسط فتنة ابن غانية وباجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة وطلوعهم على أهلها بسوم الخسف والعيث والنهب، وتخطّف الناس من السابلة وتخريب العمران ومغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين، مثل: قصر عجيسة وزرفة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات، ولم يزل عمران تلمسان يتزايد وخطّتها تتسع الصروح بها بالآجرّ والفهر [1] تعلى وتشاد إلى أن نزلها آل زيان واتخذوها دارا لملكهم، وكرسيّا لسلطانهم، فاختطوا بها القصور المؤنقة والمنازل الحافلة واغترسوا الرياض والبساتين وأجروا خلالها المياه، فأصبحت أعظم أمصار المغرب. ورحل إليها الناس من القاصية ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع، فنشأ بها العلماء واشتهر فيها الأعلام. وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلافية.
والله وارث الأرض ومن عليها
(الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما اليها وكيف مهّد الأمر لقومه وأصاره تراثا لبنيه)
كان يغمراسن بن زيّان بن ثابت بن محمد من أشدّ هذا الحيّ بأسا، وأعظمهم في
__________
[1] الفهر: حجر رقيق تسحق به الادوية، وفي نسخة ثانية القرميد.(7/105)
النفوس مهابة وإجلالا وأعرفهم بمصالح قبيله، وأقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعا بالتدبير والرئاسة، شهدت له بذلك آثاره قبل الملك وبعده. وكان مرموقا بعين التجلّة مؤمّلا للأمر عند المشيخة وتعظمه من أمره عند الخاصّة، ويفزع إليه في نوائبها العامّة. فلمّا ولي هذا الأمر بعد أخيه أبي عزّة زكراز بن زيّان سنة ثلاث وثلاثين قام به أحسن قيام، واضطلع بأعبائه وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه، وأصارهم في جملته وتحت سلطانه. وأحسن السيرة في الرعيّة، واستمال عشيرته وقومه وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار، واتخذ الآلة ورتّب الجنود والمسالح، واستلحق العساكر من الروم والغزّ رامحة وناشنبة.
وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتّاب، وبعث في الأعمال ولبس شارة الملك والسلطان، واقتعد الكرسي ومحا آثار الدولة المؤمنية، وعطّل من الأمر والنهي دستها، ولم يترك من رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلّا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش، وتقلّد [1] العهد من يده تأنيسا للكافة ومرضاة للأكفّاء من قومه. ووفد عليه لأوّل دولته ابن وضّاح إثر الموحدين، أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس، فآثره وقرّب مجلسه وأكرم نزله، وأحلّه من الخلّة والشورى بمكان اصطفاه له. ووفد في جملته أبو بكر بن خطّاب المبايع لأخيه بمرسية، وكان مرسلا بليغا، وكاتبا مجيدا، وشاعرا محسنا، فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحّدين بمراكش وتونس في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ. ولم يزل يغمراسن محاميا عن غيله محاربا لعدوّه. وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم آل أبي حفص مواطن في التمرّس به ومنازلة بلده، نحن ذاكروها كذلك. وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعدّدة. وله على زناتة الشرف من توجين ومغراوة في فلّ جموعهم وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة، نشير إلى جميعها إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته)
لما استقلّ يغمراسن بن زيّان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط، وظفر بالسلطان وعلا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وتناول.(7/106)
كعبه على سائر أحياء زناتة، نفسوا عليه ما آتاه الله من العزّ، وكرّمه به من الملك، فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة، وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة، فشمّر لحربهم ونازلهم في ديارهم وأحجرهم في أمصارهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال ومتمنع الأمصار. وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع معروفة. وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن عبّاس شيخ بني توجين أقتالهم من بني يادين، والعباس بن منديل بن عبد الرحمن وإخوته أمراء مغراوة. وكان المولى الأمير أبو زكريا بن أبي حفص منذ استقلّ بأمر إفريقية واقتطعها من الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشرين وستمائة كما ذكرناه متطاولا إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسيّ الدعوة بمراكش، وكان يرى أنّ بمظاهرة زناتة له على شأنه يتمّ له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيرغّبهم ويراسلهم بذلك على الأحيان من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلّد طاعة بني عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليّهم وحربا على عدوّهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البرّ والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبع وثلاثين وستمائة تقمنا لمسرّاته، وميلا إليه عن جانب أقتال بني مرين المجلبين على المغرب والدولة. وأحفظ الأمير أبا زكريا بن عبد الواحد صاحب إفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد، وهو من جواره بالمحل القريب، واستكره ذلك. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القويّ بن عبّاس، وولد منديل بن محمد صريخين على يغمراسن وسهّلوا له أمره وسوّلوا له الاستيلاء على تلمسان، وجمع كلمة زناتة واعتدّا ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحّدين وانتظامه في أمره، وسلّما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا للولوج على أهله، فحركه املاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم، وأهبّ بالموحّدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان، واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه، ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة، وسرّح أمام حركته عبد القويّ بن العبّاس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة، وأتباعهم وذؤبان قبائلهم، وأحياء زغبة أحلافهم من العرب، وضرب لهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب، وافته هنالك أحياء زغبة(7/107)
من بني عامر وسويد، وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان، فجمع عساكر الموحّدين وحشد زناتة وظعن المغرب، بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء والطاعة فرجّعهم بالخيبة.
(ولما حلّت) عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران، وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا على ذويه وخاصته، واعترضه عساكر الموحّدين فصمد نحوهم وجندل بعض أبطالهم، فأفرجوا له، ولحق بالصحراء. وانسلّت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان، واكتساح الأموال. ولما تجلّى عشاء تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم، وأمعن الأمير نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة المؤمن والمدافعة عنها.
واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرّأ أمراء زناتة منه ضعفا عن مقاومة يغمراسن، وعلما بأنه الفحل الّذي لا يجدع أنفه، ولا يطرق غيله، ولا يصدّ عن فريسته، وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي العسكر فاختطفوا الناس من حوله، وأطلوا من المراقب عليه. وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكريا راغبا في القيام بدعوته بتلمسان، فراجعه بالاسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش، وسوّغه على ذلك جباية اقتطعها له، وأطلق أيدي العمّال ليغمراسن على جبايتها. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم وصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة، فأجابهم وقلّد عبد القويّ بن عطية التوجيني، والعبّاس بن منديل المغراوي، وعليّ بن منصور الملكيشي [1] على قومهم ووطنهم، وعهد إليهم بذلك، وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملك الموحّدين، وأقاموا مراسمها ببابه، وأغذّ السير لتونس قرير العين بامتداد ملكه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المليكشي.(7/108)
وبلوغ وطره، والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده وحكمه، وإدالة عبد المؤمن فيه بدعوته. ودخل يغمراسن بن زيّان ووفّى للأمير أبي زكريا بعهده، وأقام بها الدعوة له على سائر منابره، وصرف إلى مشاقيه من زناتة وجوه عزائمه، فأذاق عبد القويّ وأولاد عبّاس وأولاد منديل نكال الحرب، وسامهم سوء العذاب والفتنة، وجاس خلال ديارهم وتوغّل في بلادهم وغلبهم على الكثير من ممالكهم، وشرّد عن الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم، ورفع عن الرعيّة ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقيل عسفهم وجورهم. ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصيّة ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض السعيد صاحب مراكش ومنازلته يغمراسن بجبل تامزردكت ومهلكه هنالك)
لما انقضت دولة بني عبد المؤمن. وانتزى الثوّار والدعاة بقاصية أعمالهم. وقطعوها عن ممالكهم، فاقتطع ابن هود ما وراء البحر من جزيرة الأندلس واستبدّ بها، وورّى بالدعاء للمستنصر بن الظاهر خليفة بغداد من العبّاسيين لعهده، ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، وسما إلى جمع كلمة زناتة والتغلّب على كرسي الدعوة بمراكش، فنازل تلمسان وغلب سنة أربعين وستمائة وقارن ذلك ولاية السعيد علي بن المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان شهما حازما يقظا بعيد الهمّة، فنظر في أعطاف دولته، وفاوض الملأ في تثقيف أطرافها وتقويم مائلها، وأثار حفائظهم ما وقع من بني مرين في ضواحي المغرب. ثم في أمصاره واستيلائهم على مكناسة، وإقامتهم الدعوة الحفصيّة فيها كما نذكره. فجهّز الملوك والعساكر وأزاح عللهم، واستنفر عرب المغرب وما يليه [1] ، واحتشد كافة المصامدة. ونهض من مراكش آخر سنة خمس وأربعين وستمائة يريد القاصية، ويشرّد بني مرين عن الأمصار الدانية. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقبائله.(7/109)
وأغدّ السير إلى تازى، فوصلته هناك طاعة بني مرين كما نذكره. ونفر معه عسكر منهم، ونهض إلى تلمسان وما وراءها ونجا يغمراسن بن زيّان وبنو عبد الواد بأهليهم وأولادهم إلى قلعة تامزردكت قبلة وجدة، فاعتصموا بها.
ووفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغمراسن مؤدّيا للطاعة ثابتا في مذاهب الخدمة، ومتوليا من حاجات الخليفة بتلمسان ما يدعوه إليه ويصرفه في سبيله، ومعتذرا عن وصول يغمراسن، فلجّ الخليفة في شأنه ولم يعذره. وأبي إلّا مباشرة طاعته بنفسه، وساعده في ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه ومن حضر من الملأ [1] ورجعوا عبدونا لاستقدامه، فتثاقل خشية على نفسه. واعتمد السعيد الجبل في عساكره وأناخ بها في ساحة [2] وأخذ بمخنقهم ثلاثا، ولرابعها ركب مهجرا على حين غفلة من الناس في قائلة ليتطوّف على المعتصم، ويتقرّى مكامنه، فبصر به فارس من القوم يعرف بيوسف بن عبد المؤمن الشيطان، كان أسفل الجبل للاحتراس وقريبا منه يغمراسن بن زيّان وابن عمّه يعقوب بن جابر فانقضوا عليه من بعض الشعاب، وطعنه يوسف فأكبّه عن فرسه، وقتل يعقوب بن جابر وزيره يحيى بن عطوش. ثم استلحموا لوقتهم مواليه ناصحا من العلوج وعنبرا من الخصيان، وقائد جند النصارى أخو القمط، ووليدا يافعا من ولد السعيد.
(ويقال) إنما كان ذلك يوم عبّى العساكر وصعد الجبل للقتال، وتقدّم أمام الناس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعّرة في طريقه، فتواثب به هؤلاء الفرسان وكان ما ذكرناه، وذلك في صفر سنة ست وأربعين وستمائة. ووقعت النفرة في العساكر لطائر الخبر فأجفلوا، وبادر يغمراسن إلى السعيد وهو صريع بالأرض فنزل إليه وحيّاه وفدّاه وأقسم له على البراءة من هلكته، والخليفة وأجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فاض وانتهب المعسكر بجملته، وأخذ بنو عبد الواد ما كان به من الأخبية والغازات.
واختصّ يغمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه، واستولى على الذخيرة التي كانت فيه، منها مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه يزعمون أنه أخذ المصاحف التي انتسخت لعهد خلافته، وأنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الجلة.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم هذه الساحة في المراجع التي بين أيدينا.(7/110)
الرحمن الداخل، ثم صار في ذخائر لمتونة فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس، ثم إلى خزائن الموحّدين من خزائن لمتونة، وهو لهذا العهد في خزائن بني مرين فيما استولوا عليه من ذخيرة آل زيّان حين غلبهم إياهم على تلمسان، واقتحامها عنوة على ملكها منهم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن فريسة السلطان أبي الحسن، مقتحمها غلابا سنة سبع وثلاثين وسبعمائة كما نذكره. ومنها العقد المنتظم من خرزات الياقوت الفاخرة والدرر، المشتمل على مئين متعدّدة من حصبائه يسمى بالثعبان، وصار في خزائن بني مرين بعد ذلك الغلاب فيما اشتملوا عليه من ذخيرتهم إلى أن تلف في البحر عند غزو الأسطول بالسلطان أبي الحسن بمرسى بجاية مرجعه من تونس حسبما نذكره بعد إلى ذخائر من أمثاله وطرف من أشباهه مما يستخلصه الملوك لخزائنهم ويعنون به من ذخائرهم. ولما سكنت النفرة وركد عاصف تلك الهيعة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة، فجهّز ورفع على الأعواد إلى مدفنه بالعبّاد بمقبرة الشيخ أبي مدين عفا الله عنه. ثم نظر في شأن حرمه وأخته تاعزونت الشهيرة الذكر، بعد أن جاءها واعتذر إليها مما وقع، وأصحبهنّ جملة من مشيخة بني عبد الواد إلى مأمنهنّ وألحقوهنّ بدرعة من تخوم طاعتهم، فكان له بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم ورعى حقوق الملك ورجع إلى تلمسان. وقد خضدت شوكة بني عبد المؤمن وأمّنهم على سلطانه والله أعلم.
(الخبر عما كان بينه وبين بني مرين من الاحداث سائر أيامه)
قد ذكرنا ما كان بين هذين الحيين من المناغاة والمنافسة منذ الآماد المتطاولة بما كانت مجالات الفريقين بالصحراء متجاورة، وكان التخم بين الفريقين واديا إلى فيكيك. وكان بنو عبد المؤمن عند فشل الدولة وتغلّب بني مرين على ضاحية المغرب يستجيشون بني عبد الواد مع عساكر الموحّدين على بني مرين فيجوسون خلال المغرب ما بين تازى إلى فاس إلى القصر في سبيل المظاهرة للموحدين والطاعة لهم. وسنذكر أخبار بني مرين كثيرا من ذلك. فلما هلك السعيد وأسف بنو مرين إلى ملك المغرب(7/111)
سما ليغمراسن أمل في مزاحمتهم. وكان أهل فاس بعد تغلّب أبو يحيى بن عبد الحق عليهم قد نقموا على قومه سوء السيرة، وتمشّت رجالاتهم في اللياذ بطاعة الخليفة المرتضى ففعلوا فعلتهم في الفتك بعامل أبي يحيى بن عبد الحق، والرجوع إلى طاعة الخليفة. وأغدّ أبو يحيى المسير إلى منازلتهم، فحاصرهم شهورا وفي أثناء هذا الحصار اتصلت المخاطبة بين الخليفة المرتضى ويغمراسن بن زيان في الأخذ بحجزة أبي يحيى بن عبد الحق بفاس، فأجاب يغمراسن داعيه، واستنفر لها إخوانه من زناتة فنفر معه عبد القوي بن عطية بقومه من توجين وكافة القبائل من زناتة والمغرب، ونهضوا جميعا إلى المغرب. وبلغ خبرهم إلى أبي يحيى بن عبد الحق بمكانه من حصار فاس، فجهّز كتائبه عليها ونهض للقائهم في بقية العساكر، والتقى الجمعان بايسلي من ناحية وجدة، وكانت هناك الواقعة المشهورة بذلك المكان انكشف فيها جموع يغمراسن، وهلك منهم يغمراسن وغيره، ورجعوا في فلّهم إلى تلمسان، واتصلت بعد ذلك بينهم الحروب والفتنات سائر أيامه، وربما تخللتها المهادنات قليلا.
وكان بينه وبين يعقوب بن عبد الحق ذمّة مواصلة أوجب له رعيها، وكثيرا ما كان يثني عليه أخوه أبو يحيى من أجلها. ونهض أبو يحيى بن عبد الحق سنة خمس وخمسين وستمائة إلى قتاله وبرز إليه يغمراسن، وتزاحف جموعهم بأبي سليط، فانهزم يغمراسن واعتزم أبو يحيى على اتباعه، فردّه أخوه يعقوب بن عبد الحق.
(ولما) قفل إلى المغرب صمد يغمراسن إلى سجلماسة، لمداخلة كانت بينه وبين المنبات من عرب المعقل، أهل مجالاتها وذئاب فلاتها، حدّثته نفسه باهتبال الغرّة في سجلماسة من أجلها، وكانت قد صارت إلى إيالة أبي يحيى بن عبد الحق منذ ثلاث كما ذكرناه في أخبارهم. ونذر بذلك أبو يحيى، فسابق إليها يغمراسن بمن حضره من قومه فثقفها وسدّ فرجها. ووصل يغمراسن عقيب ذلك بعساكره، وأناح بها وامتنعت عليه فأفرج عنها قافلا إلى تلمسان. وهلك أبو يحيى بن عبد الحق إثر ذلك منقلبه إلى فاس، فاستنفر يغمراسن أولياءه من زناتة وأحياء زغبة، ونهض إلى المغرب سنة سبع وخمسين وستمائة وانتهى إلى كلدامان. ولقيه يعقوب بن عبد الحق في قومه فأوقع به. وولّى يغمراسن منهزما، ومرّ في طريقه بتافرسيت فانتسفها وعاث في نواحيها. ثم تداعوا للسلم ووضع أوزار الحرب، وبعث يعقوب بن عبد الحق ابنه أبا مالك بذلك، فتولّى عقده وإبرامه. ثم كان التقاؤهما سنة تسع وخمسين وستمائة(7/112)
بواجر [1] قبالة بني يزناسن، واستحكم عقد الوفاق بينهما بذلك، واتصلت المهادنة إلى أن كان بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن كائنة النصارى وإيقاع يغمراسن بهم)
كان يغمراسن بن زيان بعد مهلك السعيد وانفضاض عساكر الموحدين قد استخدم طائفة من جند النصارى الذين كانوا في جملته مستكثرا بهم معتدّا بمكانهم مباهيا بهم في المواقف والمشاهد. وناولهم طرفا من حبل عنايته، فاعتزوا به واستفحل أمرهم بتلمسان حتى إذا كان سنة اثنتين وخمسين وستمائة بعد مرجعه من بلاد توجين في إحدى حركاته إليها، كانت قصة غدرهم الشنعاء التي أحسن الله في دفاعها عن المسلمين. وذلك أنه ركب في بعض أيامه لاعتراض الجنود بباب القرمادين [2] من أبواب تلمسان. وبينما هو واقف في موكبه عند قائلة الضحا عدا عليه قائدهم، وبادر النصارى إلى محمد بن زيّان أخي يغمراسن فقتلوه، وأشار له بالنجوى فبرز من الصف لاسراره وأمكنه من أذنه، فتنكّبه النصراني [3] وقد خالطه روعة أحس منها يغمراسن بمكره فانحاص منه، وركض النصراني أمامه يطلب النجاة، وتبين الغدر، وثارت بهم الدهماء من الحامية والرعايا، فأحيط بهم من كل جانب وتناولتهم أيدي الهلاك بكل مهلك قعصا بالرماح وهبرا بالسيوف وشدخا بالعصي والحجارة حتى استلحموا، وكان يوما مشهودا. ولم يستخدم من بعدها جند النصارى بتلمسان حذرا من غائلتهم. ويقال إنّ محمد بن زيّان هو الّذي داخل القائد في الفتك بأخيه يغمراسن، وأنه إنما قتله عند ما لم يتم لهم الأمر تبرءا من مداخلته، فلم يمهله غاشي الهيعة للتثبّت في شأنها والله أعلم.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: براجر.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: المفرمادين وفي نسخة ثانية الغزمادين وأخرى: الترمادين.
[3] الضمير هنا يعود الى قائدهم.(7/113)
(الخبر عن تغلب يغمراسن على سجلماسة ثم مصيرها بعد الى إيالة بني مرين)
كان عرب المعقل منذ دخول العرب الهلاليين إلى صحراء المغرب الأقصى أحلافا وشيعا لزناتة، وأكثر انحياشهم إلى بني مرين إلّا ذوي عبيد الله منهم لما كانت مجالاتهم لصق مجالات بني عبد الواد ومشاركة لها. ولما استفحل شأن بني عبد الواد بين يدي ملكهم زاحموهم عنها بالمناكب، ونبذوا إليهم العهد واستخلصوا دونهم المنبات من ذوي منصور أقتالهم، فكانوا حلفاء وشيعة ليغمراسن ولقومه. وكانت سجلماسة في مجالاتهم ومنقلب رحلتهم، وكانت قد صارت إلى ملك بني مرين، ثم استبدّ بها القطراني، ثم ثاروا به ورجعوا إلى طاعة المرتضى. وتولّى كبر ذلك علي بن عمر كما ذكرناه في أخبار بني مرين. ثم تغلّب المنبات على سجلماسة وقتلوا عاملها علي بن عمر سنة اثنتين وستين وستمائة وآثروا يغمراسن بملكها، ودخل أهل البلد في القيام بدعوته وحملوهم عليها. فجأجئوا بيغمراسن فنهض إليها في قومه، وأمكنوه من قيادها فضبطها، وعقد عليها لولده يحيى. وأنزل معه ابن أخته حنينة، واسمه عبد الملك ابن محمد بن علي بن قاسم بن درم [1] من ولد محمد، وأنزل معهما يغمراسن بن حمامة فيمن معهم من عشائرهم وحشمهم فأقام ابنه يحيى أميرا عليها إلى أن غلب يعقوب ابن عبد الحق الموحدين على دار خلافتهم. وإطاعته طنجة وعامّة بلاد المغرب، فوجّه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من طاعة يغمراسن وزحف إليها في العساكر والحشود من زناتة والعرب والبربر، ونصب عليها آلات الحصار إلى أن سقط جانب من سورها فاقتحموها منه عنوة في صفر سنة ثلاث وسبعين وستمائة واستباحوها وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة ومن معهم من بني عبد الواد أمراء المنبات، وصارت إلى طاعة بني مرين آخر الأيام: والملك بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: درع.(7/114)
(الخبر عن حروب يغمراسن مع يعقوب بن عبد الحق)
قد ذكرنا ما كان من شأن بني عبد المؤمن عند فشل دولتهم، واستطالة بني مرين عليهم في الاستظهار ببني عبد الواد واتصال اليد بهم في الأخذ بحجزة عدوهم من بني مرين عليهم. ولما هلك المرتضى وولى أبو دبوس سنة خمس وستين وستمائة وحمي وطيس فتنته مع يعقوب بن عبد الحق، فراسل يغمراسن في مدافعته، وأكّد العهد وأسنى الهدية، وأجلب إليه يغمراسن وشنّ الغارات على ثغور المغرب وأضرمها نارا.
وكان يعقوب بن عبد الحق محاصرا لمراكش فأفرج عنها ورجع إلى المغرب. واحتشد جموعه، ونهض إلى لقائه وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وقد استكمل كل تعبيته، وكانت الوقيعة على يغمراسن استبيحت فيها حرمه واستلحم قومه، وهلك ابنه أبو حفص عمر أعزّ ولده عليه في أتراب له من عشيرته مثل: ابن أخته عبد الملك بن حنينة، وابن يحيى بن مكي، وعمر بن إبراهيم بن هشام، ورجع عنه يعقوب بن عبد الحق إلى مراكش حتى انقضى شأنه في التغلّب عليها، ومحى أثر بني عبد المؤمن منها، ونزع لمحاربة بني عبد الواد وحشد كافة أهل المغرب من المصامدة والجموع والقبائل، ونهض إلى بني عبد الواد سنة سبعين وستمائة فبرز إليه يغمراسن في قومه وأوليائه من مغراوة والعرب، وتزاحفوا بايسلى من نواحي وجدة، فكانت الدبرة على يغمراسن انكشفت جموعه، وقتل ابنه فارس، ونجا بأهله بعد أن أضرم معسكره نارا تفاديا من معرّة اكتساحه، ونجا إلى تلمسان فانحجر بها، وهدم يعقوب بن عبد الحق وجدة، ثم نازلة بتلمسان، واجتمع إليه هنالك بنو توجين مع أميرهم محمد ابن عبد القوي، وصل يده بيد السلطان على يغمراسن وقومه، وحاصروا تلمسان أياما فامتنعت عليهم، وأفرجوا عنها. وولّى كل إلى عمله ومكان ملكه حسبما نذكره في أخبارهم. وانعقدت بينهما المهادنة من بعد ذلك وفرغ يعقوب بن عبد الحق للجهاد، ويغمراسن لمغالبة توجين ومغراوة على بلادهم إلى أن كان من شأنهم ما نذكره والله أعلم.(7/115)
(الخبر عن شأن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وما كان بينهم من الأحداث)
كانت مغراوة في مواطنهم الأولى من نواحي شلف قد سالمتهم الدول عند تلاشي ملكهم، وساموهم الجباية فرضوا بها مثل: بني ورسفين وبني يلنث وبني ورتزمير، وكان فيهم سلطان لبني منديل بن عبد الرحمن من أعقاب آل خزر ملوكهم الأولى منذ عهد الفتح وما بعده على ما ذكرناه في خبرهم. فلما انتثر عقد الخلافة بمراكش وتشظّت عصاها وكثر الثّوار والخوارج بالجهات، استقل منديل بن عبد الرحمن وبنوه بتلك الناحية وملكوا مليانة وتنس وشرشال وما إليها، وتطاولوا إلى متيجة فتغلّبوا عليها. ثم مدّوا أيديهم إلى جبل وانشريش وما إليه، فتناولوا الكثير من بلاده ثم أزاحهم عنها بنو عطيّة الحيو وقومه من بني توجين المجاورون لهم في مواطنهم بأعالي شلف شرقي أرض السوس [1] وكان ذلك لأوّل دخول أحياء زناتة الناجعة بأرض القبلة إلى التلول، فتغلّب بنو عبد الواد على نواحي تلمسان إلى وادي صا. وتغلّب بنو توجين على ما بين الصحراء والتل من بلد المريّة إلى جبل وانشريس، إلى مرات الجعبات، وصار التخم لملك بني عبد الواد سبك والبطحاء، فمن قبليها مواطن بني توجين ومن شرقيها مواطن مغراوة. وكانت الفتنة بين بني عبد الواد وبين هذين الحيّين من أوّل دخولهم إلى التلول.
(وكان المولى) الأمير أبو زكريا بن أبي حفص يستظهر بهذين الحيّين على بني عبد الواد ويراغمهم بهم، حتى كان من فتح تلمسان ما قدّمناه، وألبس جميعهم شارة الملك على ما ذكرناه ونذكره في أخبارهم، فزاحموا يغمراسن بعدها بالمناكب وصرف هو إليهم وجه النقمة والحروب. ولم يزل الشأن ذلك حتى انقرض ملك هذين الحيّين لعهد ابنه عثمان بن يغمراسن وعلى يده، ثم على يد بني مرين من بعدهم كما يأتي ذكره.
(ولما رجع) يغمراسن بن زيّان من لقاء بني مرين بايسلي من نواحي وجدة التي كانت سنة سبع وأربعين وستمائة، وكان معه فيها عبد القوي بن عطية بقومه من بني
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: السرسو.(7/116)
توجين، وهلك مرجعه منها، أنفذ [1] يغمراسن العهد لابنه محمد الأمير بعده، وزحف إلى بلاده فجاس خلالها، ونازل حصونها فامتنعت عليه. وأحسن محمد بن عبد القوي في دفاعه، ثم زحف ثانية سنة خمسين وستمائة إليهم فنازل حصن تافركينت من حصونهم. وكان به علي بن أبي زيّان حافد محمد بن عبد القوي فامتنع به في طائفة من قومه. ورحل يغمراسن كظيما، ولم يزل يغمراسن بعدها يثير الغارات على بلادهم، ويجمع الكتائب على حصونهم. وكان بتافركينت صنيعة من صنائع بني عبد القوي ونسبه في صنهاجة أهل ضاحية بجاية، اختصّ بهذا الحصن ورسخت قدمه فيه، واعتزّ بكثرة ماله وولده فأحسن الدفاع عنه، وكان له مع يغمراسن في الامتناع عليه أخبار مذكورة حتى سطا به بنو محمد بن عبد القوي حين شرهوا إلى نعمته، وأنفوا من استبداده فأتلفوا نفسه وتخطفوا نعمته، فكان حتف ذلك الحصن في حتفه كما يأتي ذكره.
(وعند) ما شبّت نار الفتنة بين يغمراسن ومحمد بن عبد القوي وصل محمد يده بيعقوب بن عبد الحق. فلمّا نازل يعقوب تلمسان سنة سبعين وستمائة بعد أن هدم وجدة، وهزم يغمراسن بايسلي، جاءه محمد بن عبد القوي بقومه من بني توجين، وأقام معه على حصارها ورحلوا بعد الامتناع عليهم، فرجع محمد إلى مكانه. ثم عاود يعقوب بن عبد الحق منازلة تلمسان سنة ثمانين وستمائة بعد إيقاعه بيغمراسن في خرزوزة، فلقيه محمد بن عبد القوي بالقصبات واتصلت أيديهم على تخريب بلاد يغمراسن مليا، ونازلوا تلمسان أياما ثم افترقوا ورجع كل إلى بلده.
(ولما) خلص يغمراسن بن زيّان من حصاره زحف إلى بلادهم وأوطأ عسكره أرضهم، فغلب على الضاحية وخرّب عمرانها إلى أن تملكها بعده ابنه عثمان كما نذكره.
(وأمّا) خبره مع مغراوة فكان عماد رأيه فيهم التغريب [2] بين بني منديل بن عبد الرحمن للمنافسة التي كانت بينهم في رياسة قومهم. ولما رجع من واقعة تلاغ سنة ست وستين وستمائة وهي الواقعة التي هلك فيها ولده عمر زحف بعدها إلى بلاد مغراوة، فتوغّل فيها وتجاوزها إلى من وراءهم من مليكش والثعالبة، وأمكنه عمر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فنبد.
[2] وفي نسخة ثانية: التضريب.(7/117)
من مليانة سنة ثمان وستين وستمائة على شرط المؤازرة، والمظاهرة على إخوته، فملكها يغمراسن يومئذ وصار الكثير من مغراوة إلى ولايته، وزحفوا معه إلى المغرب سنة سبعين وستمائة ثم زحف بعدها إلى بلادهم سنة اثنتين وسبعين وستمائة فتجافى له ثابت ابن منديل عن تنس بعد أن أثخن في بلادهم ورجع عنها، فاسترجعها ثابت، ثم نزل له عنها ثانيا سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي مهلكه عند ما تمّ له الغلب عليهم والإثخان في بلادهم إلى أن كان الاستيلاء عليها لابنه عثمان على ما نذكره إن شاء الله.
(الخبر عن انتزاء الزعيم بن مكن ببلد مستغانم)
كان بنو مكن هؤلاء من علية القرابة من بني زيان يشاركونهم في نسب محمد بن زكراز ابن تيدوكس [1] بن طاع الله، وكان لمحمد هذا أربعة من الولد كبيرهم يوسف ومن ولده جابر بن يوسف أوّل ملوكهم وثابت بن محمد ومن ولده زيان بن ثابت أبو الملوك من بني عبد الواد، ودرع بن محمد ومن ولده عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم ابن درع المشتهر بأمه حنينة أخت يغمراسن بن زيّان ومكن بن محمد. وكان له من الولد يحيى وعمرس، وكان من ولد يحيى الزعيم وعلي، وكان يغمراسن بن زيّان كثيرا ما يستعمل قرابته في الممالك ويولّيهم على العمالات، وكان قد استوحش من يحيى بن مكن وابنه الزعيم وغرّبهما إلى الأندلس، فأجازا من هنالك إلى يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة ولقياه بطنجة في إحدى حركات جهاده. وزحف يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان عامئذ وهما في جملته فأدركتهما النغرة على قومهما وآثرا مفارقة السلطان إليهم، فأذن لهم في الانطلاق ولحقا بيغمراسن بن زيّان حتى إذا كانت الواقعة عليه بخرزوزة سنة ثمانين كما قدّمناه، وزحف بعدها إلى بلاد مغراوة وتجافى له ثابت بن منديل عن مليانة وانكفّ راجعا إلى تلمسان، استعمل على ثغر مستغانم الزعيم بن يحيى بن مكن. فلمّا وصل إلى تلمسان انتقض عليه. ودعا إلى الخلاف ومالأ عدوه من مغراوة على المظاهرة عليه، فصمد إليه يغمراسن وحجزه بها حتى لاذمنه بالسلم على شرط الإجازة إلى العدوة، فعقد له وأجازه. ثم أثره أباه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زكدان بن تيدوكسن وفي شجرة النسب تيدوكس وكذلك في النسخة الباريسية.(7/118)
يحيى واستقرّ بالأندلس إلى أن هلك يحيى سنة اثنتين وتسعين وستمائة ووفد الزعيم بعد ذلك على يوسف بن يعقوب وسخطه لبعض النزعات، فاعتقله وفرّ من محبسه. ولم يزل الاغتراب مطوّحا به إلى أن هلك والبقاء للَّه وحده. ونشأ ابنه الناصر بالأندلس فكانت مثواه وموقف جهاده إلى أن هلك.
(وأمّا) أخوه عليّ بن يحيى فأقام بتلمسان وكان من ولده داود بن علي كبير مشيخة بني عبد الواد صاحب شوراهم وكان منهم أيضا إبراهيم بن عليّ عقد له أبو حمو الأوسط على ابنته، فكان منها ولد ذكر، وكان لداود ابن اسمه يحيى بن داود استعمله أبو سعيد بن عبد الرحمن في دولتهم الثانية على وزارته فكان من شأنه ما نذكره في أخبارهم والأمر للَّه.
(الخبر عن شأن يغمراسن في معاقدته مع ابن الأحمر والطاغية على فتنة يعقوب بن عبد الحق والأخذ بحجزته)
كان يعقوب بن عبد الحق لما أجاز إلى الجهاد وأوقع بالعدوّ وخرّب حصونهم، ونازل إشبيليّة وقرطبة، وزلزل قواعد كفرهم. ثم أجاز ثانية، وتوغّل في دار الحرب وأثخن فيها، وتخلى له ابن اشقيلولة عن مالقة فملكها. وكان سلطان الأندلس يومئذ الأمير محمد المدعو بالفقيه ثاني ملوك بني الأحمر ملكهم، هو الّذي استدعى يعقوب بن عبد الحق للجهاد بما عهد له أبو الشيخ بذلك. فلما استفحل أمر يعقوب بالأندلس وتعاقب الثوار إلى اللياذ به خشيه ابن الأحمر على نفسه، وتوقّع منه مثل فعل يوسف بن تاشفين بابن عبّاد، فاعتمل في أسباب الخلاص مما توهّم وداخل الطاغية في اتصال اليد والمظاهرة عليه، وكانت عالقة لعمر يحيى بن علي [1] ، استعمله عليها يعقوب بن عبد الحق حين ملكها من يد أشقيلولة، فاستماله ابن الأحمر وخاطبه مقارنة وعدا وأداله بشلوبانية من مالقة طعمة خالصة له فتخلى عن مالقة إليها.
وأرسل الطاغية أساطيله في البحر لمنع الزقاق من إجازة السلطان وعساكره، وراسلوا يغمراسن من وراء البحر في الأخذ بحجزة يعقوب وشنّ الغارات على ثغوره ليكون
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بن محلى.(7/119)
ذلك شاغلا له عنهم. فبادر يغمراسن بإجابتهم وتردّدت الرسل إليه من الطاغية ومنه إلى الطاغية كما نذكره. وبثّ السرايا والبعوث في نواحي المغرب، فشغل يعقوب عن شأن الجهاد حتى لقد سأله المهادنة وأن يفرغ لجهاد العدوّ فأبى عليه. وكان ذلك مما دعا يعقوب إلى الصمود إليه ومواقعته بخرزوزة كما ذكرناه. ولم يزل شأنهم ذلك مع يعقوب بن عبد الحق وأيديهم متصلة عليه من كل جهة، وهو ينتهز الفرص في كل واحد منهم متى أمكنه حتى هلك وهلكوا. والله وارث الأرض ومن عليها سبحانه.
(الخبر عن شأن يغمراسن مع الخلفاء من بني أبي حفص الّذي كان يقيم بتلمسان دعوتهم ويأخذ قومه بطاعتهم)
كان زناتة يدينون بطاعة خلفاء الموحّدين من بني عبد المؤمن أيام كونهم بالقفار، وبعد دخولهم إلى التلول. فلما فشل أمر بني عبد المؤمن ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، ونصب كرسيّ الخلاف للموحدين بتونس انصرفت إليه الوجوه من سائر الآفاق بالعدوتين، وأملوه الكرّة، وأوفد زناتة عليه رسلهم من كل حيّ بالطاعة، ولاذ مغراوة وبنو توجين بظل دعوته ودخلوا في طاعته، واستنهضوه لتلمسان، فنهض إليها وافتتحها سنة أربعين وستمائة ورجع إليها يغمراسن واستعمله عليها وعلى سائر ممالكها، فلم يزل مقيما لدعوته واتبع أثره بنو مرين في إقامة الدعوة له فيما غلبوا عليه من بلاد المغرب، وبعثوا إليه ببيعة مكناسة وتازى والقصر كما نذكره في أخبارهم إلى ما دانوا به ولابنه المستنصر من بعده من خطاب التمويل والإشارة بالطاعة والانقياد حتى غلبوا على مراكش، وخطبوا باسم المستنصر على منابرها حينا من الدهر. ثم تبين لهم بعد تناول تلك القاصية عليه، فعطّلوا منابرهم من أسماء أولئك وأقطعوهم جانب الوداد والموالاة. ثم سموا إلى اللقب والتفنن في الشارة الملوكية كما تقتضيه طبيعة الدول، وأما يغمراسن وبنوه فلم يزالوا آخذين بدعوتهم واحدا بعد واحد متجافين عن اللقب أدبا معهم، مجدّدين البيعة لكل من يتجدّد قيامه بالخلافة، منهم يوفدون بها كبار أبنائهم وأولى الرأي من قومهم ولم يزل الشأن ذلك.
ولما هلك الأمير أبو زكريا وقام ابنه محمد المستنصر بالأمر من بعده، وخرج عليه أخوه(7/120)
الأمير أبو إسحاق في أحياء الزواودة من رياح، ثم غلبهم المستنصر جميعا. ولحق الأمير أبو إسحاق بتلمسان في أهله فأكرم يغمراسن نزلهم وأجاز إلى الأندلس للمرابطة بها، والجهاد حتى إذا هلك المستنصر سنة سبع وسبعين وستمائة واتصل به خبر مهلكه ورأى انه أحق بالأمر فأجاز البحر من حينه ونزل بمرسى هني [1] سنة سبع وسبعين وستمائة ولقّاه يغمراسن مبرّة وتوقيرا، واحتفل لقدومه وأركب الناس لتلقّيه، وأتاه ببيعته على عادته مع سلفه، ووعده النصرة على عدوه والمؤازرة على أمره. وأصهر إليه يغمراسن في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان ولي عهده. وأسعفه وأجمل في ذلك وعده. وانتقض محمد بن أبي هلال عامل بجاية على الواثق، وخلع طاعته ودعا للأمير أبي إسحاق واستحثّه للقدوم، فأغذّ إليه السير من تلمسان وكان من شأنه ما قدّمناه في أخباره فلما كانت سنة إحدى وثمانين وستمائة وزحف يغمراسن إلى بلاد مغراوة، وغلبهم على الضواحي والأمصار، بعث من هنالك ابنه إبراهيم وتسميه زناتة برهوم، ويكنّى أبا عامر أوفده في رجال من قومه على الخليفة أبي إسحاق لإحكام الصهر بينهما، فنزلوا منه على خير نزل من إسناء الجراية، ومضاعفة الكرامة والمبرّة، وظهر من آثاره في حروب ابن أبي عمارة ما مدّ الأعناق إليه وقصّر الشيم الزناتية على بيته. ثم انقلب آخرا بظعينته محبوّا محبورا، وابتنى بها عثمان لحين وصولها وأصبحت عقيلة قصره، فكان ذلك مفخرا لدولته وذكرا له ولقومه. ولحق الأمير أبو زكريا ابن الأمير أبي إسحاق بتلمسان بعد خلوصه من مهلك قومه في واقعة الدعيّ ابن أبي عمارة عليهم بمرماجنّة جنّة سنة اثنتين وثمانين وستمائة فنزل من عثمان بن يغمراسن صهره خير نزل برّا واحتفاء وتكريما وملاطفة. وسرّبت إليه أخته من القصر أنواع التحف والانس، ولحق به أولياؤهم من صنائع دولتهم وكبيرهم أبو الحسن محمد بن الفقيه المحدّث أبي بكر بن سيّد الناس اليعمريّ، فتفيئوا من كرامة الدولة بهم ظلا وارفا واستنهضوه إلى تراث ملكه. وفاوض أبا مثواه عثمان بن يغمراسن في ذلك، فنكره لما كان قد أخذه بدعوة الحضرة. أوفد عليه رجال دولته بالبيعة على العادة في ذلك، فحدّث الأمير أبو زكريا نفسه بالفرار عنه. ولحق بداود ابن هلال بن عطاف أمير البدو من بني عامر إحدى بطون زغبة، فأجاره وأبلغه مأمنه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هنين.(7/121)
بحي الزواودة أمراء البدو بعمل الموحدين. ونزل منهم على عطية بن سليمان بن سبّاع كما قدّمناه، واستولى على بجاية سنة أربع وثمانين وستمائة بعد خطوب ذكرناها، واقتطعها عن ملك عمه صاحب الدولة بتونس أبي حفص، ووفّى لداود بن عطاف وأقطعه بوطن بجاية عملا كبيرا أفرده لجبايته، كان فيه ايقداران بالخميس من وادي بجاية. واشتغل الأمير أبو زكريا بمملكة بونة وقسنطينة وبجاية والجزائر والزاب وما وراءها وكان هذا الصهر وصلة له مع عثمان بن يغمراسن وبنيه.
(ولما نازل) يوسف بن يعقوب تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة، وبعث الأمير أبو زكريا المدد من جيوشه إلى عثمان بن يغمراسن، وبلغ الخبر بذلك إلى يوسف بن يعقوب، فبعث أخاه أبا يحيى في العساكر لاعتراضهم، والتقوا بجبل الزاب، فكانت الدبرة على عسكر الموحّدين واستلحموا هناك. وتسمّى المعركة لهذا العهد بمرسى الرءوس. واستحكمت من أجل ذلك صاغية الخليفة بتونس إلى بني مرين، وأوفد عليهم مشيخة من الموحدين يدعوهم إلى حصار بجاية، وبعث معهم الهدية الفاخرة وبلغ خبرهم إلى عثمان بن يغمراسن من وراء جدرانه فتنكّر لها وأسقط ذكر الخليفة من منابره، ومحاه من عمله، فنسي لهذا العهد. والله مالك الأمر سبحانه.
(الخبر عن مهلك يغمراسن بن زيان وولاية ابنه عثمان وما كان في دولته من الاحداث)
كان السلطان يغمراسن قد خرج من تلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة واستعمل عليها ابنه عثمان، وتوغّل في بلاد مغراوة وملك ضواحيهم. ونزل له ثابت بن منديل عن مدينة تنس، فتناولها من يده. ثم بلغه الخبر بإقبال ابنه أبي عامر برهوم من تونس بابنة السلطان أبي إسحاق عرس ابنه عثمان، فتلوّم هنالك إلى أن لحقه بظاهر مليانة، فارتحل إلى تلمسان وأصابه الوجع في طريقه. وعند ما أحل سريره اشتدّ به وجعه فهلك هنالك آخر ذي القعدة من سنته، والبقاء للَّه وحده. فحمله ابنه أبو عامر على أعواد وواراه في خدر موريا لمرضه إلى أن تجاوز بلاد مغراوة إلى سيك. ثم أغذّ السير إلى تلمسان، فلقيه أخوه عثمان بن يغمراسن ولي عهد أبيه في قومه، فبايعه الناس وأعطوه صفقة أيمانهم. ثم دخل تلمسان فبايعه العامّة والخاصة، وخاطب(7/122)
لحينه الخليفة بتونس أبا إسحاق وبعث إليه ببيعته، فراجعه بالقبول وعقد له على عمله على الرسم. ثم خاطب يعقوب بن عبد الحق يخطب منه السلم، لما كان أبوه يغمراسن أوصاه به.
(حدّثنا) شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآيلي قال: سمعت من السلطان أبي حمّو موسى بن عثمان، وكان قهرمانا بداره، قال: أوصى دادا يغمراسن لدادا عثمان (ودادا حرف كناية عن غاية التعظيم بلغتهم) فقال له: يا بني إنّ بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش، لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا الوفور مددهم، ولا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرّة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها. فإيّاك واعتماد لقائهم، وعليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك، وحاول ما استطعت الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحّدين وممالكهم يستفحل به ملكك، وتكافئ حشد العدو بحشدك.
ولعلك تصيّر بعض الثغور الشرقية معقلا لذخيرتك. فعلقت وصية الشيخ بقلبه، وعقدا عليها ضمائره، وجنح إلى السلم مع بني مرين ليفرغ عزمه لذلك. وأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على يعقوب بن عبد الحق بمكانه من العدوة الأندلسية في إجازته الرابعة إليها فخاض إليه البحر ووصله بأركش، فلقاه برّا وكرامة، وعقد له على السلم ما أحب وانكفّ راجعا إلى أخيه، فطابت نفسه وفرغ لافتتاح البلاد الشرقية، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن شأن عثمان بن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وغلبه على معاقلهم والكثير من أعمالهم)
لما عقد عثمان بن يغمراسن السلم مع يعقوب بن عبد الحق صرف وجهه إلى الأعمال الشرقية من بلاد توجين ومغراوة وما وراءها من أعمال الموحّدين، فتغلّب أولا على ضواحي بني توجين ومغراوة وما وراءها، ودوّخ قاصيتها، وسار إلى بلاد مغراوة كذلك، ثم إلى متيجة فانتسب نعمها وخطم زرعها. ثم تجاوزها إلى بجاية فحاصرها كما نذكره بعد. وامتنعت عليه فانكفّ راجعا ومرّ في طريقه بمازونة، فحاصرها وأطاعته، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة ونزل له ثابت بن منديل أمير مغراوة عن(7/123)
تنس فاستولى عليها وانتظم سائر بلاد مغراوة في إيالته. ثم عطف في سنته على بلاد توجين فاكتسح حبوبها واحتكرها بمازونة استعدادا لما يتوقع من حصار مغراوة إياها.
ثم دلف إلى تافركنيت فحاصرها وأخذ بمخنقها. وداخل قائدها غالبا الخصيّ من موالي بني محمد بن عبد القوي، كان مولى سيّد الناس منهم، فنزل له غالب عنها واستولى عليها، وانكفأ إلى تلمسان. ثم نهض إلى بني توجين سنة سبع وثمانين وستمائة فغلبهم على وانشريس مثوى ملكهم ومنبت عزّهم، وفرّ أمامه أميرهم مولى بني زرارة من ولد محمد بن عبد القوي. وأخذ الحلف منهم فلحق بضواحي المرية في الأعشار وأولاد عزيز من قومه. واتبع عثمان بن يغمراسن آثارهم وشرّدهم من تلك القاصية، وهلك مولى زرارة في مغرّة. وكان عثمان قبل ذلك قد دوّخ بلاد بني يدللتين من بني توجين، ونازل رؤساءهم أولاد سلامة بالقلعة المنسوبة إليهم مرّات فامتنعوا عليه، ثم أعطوه أيديهم على الطاعة ومفارقة قومهم بني توجين إلى سلطان بني يغمراسن، فنبذوا العهد إلى بني محمد بن عبد القوي أمرائهم منذ العهد الأوّل. ووصلوا أيديهم بعثمان وألزموا رعاياهم وعمالهم المغارم له إلى أن ملك وانشريس من بعدها كما نذكر ذلك في أخبارهم. وصارت بلاد توجين كلها من عمله، واستعمل الحشم بجبل وانشريس. ثم نهض بعدها إلى المرية وبها أولاد عزيز من توجين فنازلها، وقام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة يعرفون بلمدية وإليهم ينسب، فأمكنوه منها سنة ثمان وثمانين وستمائة وبقيت في إيالته سبعة أشهر ثم انتقضت عليه ورجعت إلى ولاية أولاد عزيز [1] وصالحوه عليها، وأعطوه من الطاعة ما كانوا يعطونه محمد بن عبد القوي وبنيه. فاستقام أمره في بني توجين ودانت له سائر أعمالهم. ثم خرج سنة تسع وثمانين وستمائة إلى بلاد مغراوة لما كانوا عليه لبني مرين في إحدى حركاتهم على تلمسان، فدوّخها وأنزل ابنه أبا حمّو بشلف [2] مركز عملهم، فأقام به وقفل هو إلى الحضرة.
وتحيّز فلّ مغراوة إلى نواحي متيجة، وعليهم ثابت بن منديل أميرهم، فلم يزالوا به.
ونهض عثمان إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة بعدها فانحجزوا بمدينة برشك، وحاصرهم بها أربعين يوما ثم افتتحها. وخاض ثابت البحر إلى المغرب فنزل على يوسف بن يعقوب كما ذكرناه ونذكره. واستولى عثمان على سائر عمل مغراوة كما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وزحف الى ايالة أولاد عزيز.
[2] وفي النسخة الباريسية: شلب وفي قبائل الغرب: شلف.(7/124)
استولى على عمل بني توجين، فانتظم بلاد المغرب الأوسط كلّها وبلاد زناتة الأولى.
ثم اشغل بفتنة بني مرين كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن منازلة بجاية وما دعا إليها)
قد ذكرنا أنّ المولى أبا زكريا الأوسط ابن المولى أبي إسحاق بن أبي حفص لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة، ونزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل. ثم هلك الدعي ابن أبي عمارة واستقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة، وبعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة، وأوفد عليه وجوه قومه، ودسّ الكثير من أهل بجاية إلى الأمير أبي زكريا يستحثونه للقدوم، ويعدونه إسلام البلد إليه. وفاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبي عليه وفاء بحق البيعة لعمه الخليفة بالحضرة فطوى عنه الخبر وتردّد في النقض أياما. ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر، ونزل على داود بن هلال بن عطاف وطلب عثمان بن يغمراسن إسلامه فأبى عليه وارتحل معه إلى أعمال بجاية، ونزلوا على أحياء الزواودة كما قدّمناه ثم استولى المولى أبو زكريا بعد ذلك على بجاية في خبر طويل ذكرناه في أخباره.
واستحكمت القطيعة بينه وبين عثمان، وكانت سببا لاستحكام الموالاة بين عثمان وبين الخليفة بتونس. فلما زحف إليه عثمان سنة ست وثمانين وستمائة وتوغّل في قاصية المشرق، أعمل الرحلة إلى عمل بجاية، ودوّخ سائر أقطارها. ثم نازلها بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة خليفته بتونس، ويسر بذلك حسوا في ارتقاء، فأناخ عليها بعساكره سبعا، ثم أفرج عنها منقلبا إلى المغرب الأوسط، فكان من فتح تافركنيت ومازونة ما قدّمناه.
(الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وشأن تلمسان في الحصار الطويل)
لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقد بينه وبين بني عبد الواد لشغله بالجهاد، وقام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين(7/125)
اتبعهم أنفسهم شأن الجهاد. واسفهم يغمراسن وابنه بممالأة الطاغية وابن الأحمر فعقد يوسف بن يعقوب السلم مع الطاغية لحينه، ونزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم، وفرغ لحرب بني عبد الواد، واستتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه، دلف إلى تلمسان سنة تسع وثمانين وستمائة ولاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها صباحا، وقطع شجرها ونصب عليها المجانيق والآلات ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها وانكفأ راجعا. وتقبّل عثمان بن يغمراسن مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر والطاغية، وأوفد رسله عليها فلم يغن ذلك عنه شيئا. وكان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب بتلمسان فنالوا منه أعظم النيل. فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوّخها وغلبهم عليها، وأنزل ابنه أبا حمّو بها كما قدّمناه. فلما كانت سنة خمس وتسعين وستمائة نهض يوسف بن يعقوب إلى حركته الثانية فنازل ندرومة، ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران وأطاعه جبل كيدره وتاسكدلت رباط عبد الحميد ابن الفقيه أبي زيد اليرناسي [1] ثم كرّ راجعا إلى المغرب. وخرج عثمان بن يغمراسن فأثخن في تلك الجبال لطاعتهم عدوّه واعتراضهم جنده، واستباح رباط تاسكدلت.
ثم أغزاه يعقوب بن يوسف ثالثة سنة ست وتسعين وستمائة ثم رجع إلى المغرب. ثم أغزاه رابعة سنة سبع وتسعين وستمائة فتأثّل [2] تلمسان وأحاط بها معسكره وشرعوا في البناء. ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر، ومرّ في طريقه بوجدة، فأمر بتجديد بنائها وجمع الفعلة عليها. واستعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك، وأقام لشأنه، ولحق يوسف بالمغرب. وكان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب، وتولّى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بني يدللتين، وأصحاب القلعة المنسوبة إليهم. فلما أفرج عنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن فدوّخ بلادهم وحاصرهم بالقلعة ونال منهم أضعاف ما نالوا منه، وطال مغيبه في بلادهم، فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة فاقتحمها عنوة بعسكره بمداخلة من قائدها زكريا بن يخلف بن المطغري صاحب توقت [3] . فاستولى بنو مرين على ندرومة وتوقت، وجاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم ودلفوا جميعا إلى تلمسان. وبلغ الخبر إلى عثمان بمكانه من
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: اليزناسني.
[2] وفي نسخة ثانية: فنازل.
[3] وفي نسخة ثانية: ثاونت.(7/126)
حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان، فسبق إليها يوسف بن يعقوب بعض يوم.
ثم أشرفت طلائع بني مرين عشيّ ذلك اليوم، فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة وأحاط العسكر بها من جميع جهاتها. وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها، وفتح فيه أبوابا مداخل لحربها، واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سمّاها المنصورة. وأقام على ذلك سنين يغاديها القتال ويراوحها. وسرّح عسكره لافتتاح المغرب الأوسط وثغوره، فملك بلاد مغراوة وبلاد توجين كما ذكرناه في أخباره وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره. وإلى الله المصير سبحانه وتعالى لا رب غيره.
(الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده الى غايته)
لما أناخ يوسف بن يعقوب بعساكره على تلمسان، انحجز بها عثمان وقومه واستسلموا، والحصار آخذ بمخنقهم. وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد.
(أخبرني) شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الايلي، وكان في صباه قهرمان دارهم قال: هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس، وكان قد أعدّ لشربه لبنا، فلما أخذ منه الديماس وعطش، دعا بالقدح فشرب اللبن ونام فلم يكن بأوشك أن فاضت نفسه. وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفاديا من معرّة غلب عدوهم إياهم. قال: وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس، وخبرها الخبر فجاءت ووقعت عليه واسترجعت وخيّمت على الأبواب بسدادها. ثم بعثت إلى أبيه محمد أبي زيان وموسى أبي حمو فعزتهما عن أبيهما. وأحضرا مشيخة بني عبد الواد وعرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهما عن الشأن ومترجما عن القوم:
السلطان معنا آنفا، ولم يمتدّ الزمن لوقوع المرض، فإن يكن هلك فخبّرونا، فقال له أبو حمو: وإذا هلك فما أنت صانع؟ فقال: إنما نخشى من مخالفتك، وإلا فسلطاننا(7/127)
أخوك الأكبر أبو زيان. فقام أبو حمّو من مكانه وأكبّ على يد أخيه يقبّلها، وأعطاه صفقة يمينه واقتدى به المشيخة، فانعقدت بيعته لوقته واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم واجتمعوا إليه، وبرزوا إلى قتال عدوّهم على العادة فكأنّ عثمان لم يمت.
(وبلغ الخبر) إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجّع له، وعجب من صرامة قومه من بعده. واستمرّ حصاره إيّاهم إلى ثمانية سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله، نالهم فيها من الجهد ما لم ينله أمّة من الأمم، واضطروا إلى أكل الجيف والقطوط والفيران حتى أنهم زعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الناس، وخرّبوا السقف للوقود، وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجاوز حدود العوائد. وعجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الّذي يسمونه البرشالة ويتبايعون به، مقداره اثنا عشر رطلا ونصف مثقالين ونصفا من الذهب العين. وثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا، ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصفا، وأثمان اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال، ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم، تكون عشر المثقال والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما، والهرّ الداجن بمثقال ونصف، والكلب بمثله والفار بعشرة دراهم. والحية بمثله، والدجاجة بثلاثين درهما، والبيض واحدة بستة دراهم، والعصافير كذلك.
والأوقية من الزيت باثني عشر درهما، ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين، ومن الفول بمثلها، ومن الملح بعشرة، ومن الحطب كذلك. والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال. ومن الخس بعشرين درهما ومن اللفت بخمسة عشر درهما، والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما، والخيار بثلاثة أثمان الدينار، والبطيخ بثلاثين درهما، والحبة من التين والإجاص بدرهمين. واستهلك الناس أموالهم وموجودهم، وضاقت أحوالهم.
واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها، واتسعت خطة مدينة المنصور المشيّدة عليها. ورحل إليها التجّار بالبضائع من الآفاق، واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة، وخطب الملوك سلمه ووده، ووفدت عليه رسل الموحّدين وهداياهم من تونس وبجاية، وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم، واعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره وهلك الجند حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة، فكيّف الله لهم الصنيع(7/128)
الغريب. ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصيّ من العبيد، فأسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه، وطعنه بخنجر قطع أمعاءه، وأدرك فسيق إلى وزرائه فمزّقوه أشلاء. ولم يبق شيء من بقايا عهدهم كما ذكرناه والأمر للَّه وحده. وأذهب الله العناء عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم كأنما نشروا من الأجداث. وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها.
(وحدثني) شيخنا محمد بن إبراهيم الآيلي قال: جلس السلطان أبو زيّان صبيحة يوم الفرج وهو يوم الأربعاء في خلوة زوايا قصره، واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة؟ فقال له: إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمانها. وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمّو فأخبروه فوجم لها، وجلسوا سكوتا لا ينطقون. وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصائف بنت السلطان أبي إسحاق وحظية أبيهم خرجت من القصر إليهم، فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت: تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيّان حرمكم ما لنا وللبقاء، وقد أحيط بكم وأسف عدوّكم لاتهامكم، ولم يبق إلّا فواق بكيئة لمصارعكم. فأريحونا من معرّة السبي، وأريحوا فينا أنفسكم وقربوا إلى مهالكنا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم. فالتفت أبو حمو إلى أخيه وكان من الشفقة بمكان وقال: قد صدقتك الخبر فما تنظر بهنّ؟ فقال: يا موسى أرجئني ثلاثا لعلّ الله يجعل بعد عسر يسرا، ولا تشاورني بعدها فيهن، بل سرّح اليهود والنصارى إلى قتلهنّ وتعال إليّ نخرج مع قومنا إلى عدوّنا فنستميت، ويقضي الله ما يشاء. فغضب أبو حمو وأنكر الأرجاء في ذلك، وقال: إنما نحن والله نتربّص المعرّة بهنّ وبأنفسنا، وقام عنه مغضبا وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء. قال ابن حجاف: وأنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا ولا متقدّما إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلّا حرسيّ الباب يشير إليّ أن اذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين لسيدة القصر، فلم أطق رجع جوابه إلا بإشارة وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعا، فأذنته واستدعاه.
فلما وقف بين يديه قال له: إنّ يوسف بن يعقوب هلك الساعة، وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم، فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه حتى أبلغ الرسول رسالته(7/129)
بمسمع منهم، وكانت إحدى المغربات في الأيام [1] .
(وكان من خبر هذه الرسالة) أن يعقوب بن يوسف لما هلك تطاول للأمر الأعياص من إخوته وولده وحفدته، وتحيّز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤولة كانت له فيهم، فاستجاش بهم واعصوصبوا عليه وبعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الآلة ويكونوا مفزعا له ومأمنا إن أخفق مسعاه على أنه إن تمّ أمره قوّض عنهم معسكر بني مرين فعاقدوه عليها. ووفّى لهم لما تمّ أمره ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم، وجاء بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم وقفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط كلّها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن شأن السلطان أبي زيان من بعد الحصار إلى حين مهلكه)
كان من أوّل ما افتتح به السلطان أبو زيان أمره بعد الخروج من هون الحصار وتناوله الأعمال من يد بني مرين، أن نهض من تلمسان ومعه أخوه أبو حمو آخر ذي الحجة من سنة ست وسبعمائة، فقصد بلاد مغراوة وشرّد من كان هنالك منهم في طاعة بني مرين، واحتاز الثغور من يد عمّالهم. ودوّخ قاصيتها. ثم عقد عليها المسامح مولاه، ورجع عنها، فنهض إلى السرسو، وكان العرب قد تملكوه أيام الحصار، وغلبوا زناتة عليه من سويد والد يالم ومن إليهم من بني يعقوب بن عامر فأجفلوا أمامه. واتبعوا آثارهم إلى أن أوقع بهم وانكفأ راجعا ومرّ ببلاد بني توجين، فاقتضى طاعة من كان بقي بالجبل من بني عبد القوى والحشم فأطاعوه، ورياستهم يومئذ لمحمد بن عطيّة الأصمّ من بني عبد القوي. وقفل إلى تلمسان لتسعة أشهر من خروجه، وقد ثقف أطراف ملكه، ومسح أعطاف دولته. فنظر في إصلاح قصوره ورياضه، ورمّ ما تثلّم من بلده، وأصابه المرض خلال ذلك فاشتدّ وجعه سبعا، ثم هلك أخريات شوّال من سنة سبع وسبعمائة والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إحدى المقربات في الأنام.(7/130)
(الخبر عن محو الدعوة الحفصية من منابر تلمسان)
كانت الدعوة الحفصية بإفريقية قد انقسمت بين أعياصهم في تونس وبجاية وأعمالها، وكان التخم بينهما بلد عجيسة ووشتاتة. وكان الخليفة بتونس الأمير أبو حفص ابن الأمير أبي زكريا الأوّل منهم، وله الشفوف على صاحب بجاية والثغور الغربية بالحضرة. فكانت بيعة بني زيان له والدعاء على منابرهم باسمه، وكانت لهم مع المولى الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب بجاية وصلة لمكان الصهر بينهم وبينه، وكانت الوحشة قد اعترضت ذلك عند ما نزل عثمان بجاية كما قدّمناه. ثم تراجعوا إلى وصلتهم واستمرّوا عليها إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، والبيعة يومئذ للخليفة بتونس السلطان أبي عصيدة بن الواثق، والدعوة على منابر تلمسان باسمه، وهو حاقد عليهم ولايتهم للأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغر، فلما نزل يوسف بن يعقوب بأعلى تلمسان وبعث عساكره في قاصية الشرق استجاش عثمان بن يغمراسن بصاحب بجاية، فسرّح عسكرا من الموحدين لمدافعتهم عن تلك القاصية، والتقوا معهم بجبل الزاب فانكشف الموحّدون بعد معترك صعب واستلحمهم بنو مرين، ويسمى المعترك لهذا العهد بمرسى الرءوس لكثرة ما تساقط في ذلك المجال من الرءوس. واستحكمت المنافرة بين يوسف بن يعقوب وصاحب بجاية فأوفد الخليفة بتونس على يوسف بن يعقوب مشيخة من الموحّدين تجديدا لوصلة سلفهم مع سلفه وإغراء بصاحب بجاية وعمله، فجاء موقع ذلك من عثمان بن يغمراسن وأحفظه ممالأة [1] خليفته لعدوّه، فعطّل منابره من ذكره، وأخرج قومه وإيالته عن دعوته، وكان ذلك آخر المائة السابعة. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن دولة أبي حمو الأوسط وما كان فيها من الاحداث)
لما هلك الأمير أبو زيان قام بالأمر بعده أخوه أبو حمّو في أخريات سنة سبع كما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: موالاة الخليفة لعدوه.(7/131)
قدّمناه، وكان صارما يقظا حازما داهية، قويّ الشكيمة صعب العريكة، شرس الأخلاق مفرط الدهاء [1] والحدة. وهو أوّل ملوك زناتة، رتّب مراسم الملك وهذّب قواعده، وأرهف في ذلك لأهل ملكه حدّه، وقلب لهم مجنّ بأسه حتى ذلّوا لعزّ ملكه وتأدّبوا بآداب السلطان.
(سمعت) عريف بن يحيى أمير سويد من زغبة وشيخ المجالس الملوكية يقول ويعنيه:
موسى بن عثمان هو معلّم السياسة الملوكية لزناتة، وإنما كانوا رؤساء بادية حتى قام فيهم موسى بن عثمان، فحدّ حدودها، وهذّب مراسمها ونقل عنه ذلك أمثاله وأنظاره، فتقبّلوا مذهبه واقتدوا بتعليمه انتهى كلامه.
(ولما استقلّ) بالأمر افتتح شأنه بعقد السلم مع سلطان بني مرين لأوّل دولته فأوفد كبراء دولته على السلطان أبي ثابت، وعقد له السلم كما رضي. ثم صرف وجهه إلى بني توجين ومغراوة، فردّد إليهم العساكر حتى دوّخ بلادهم وذلّل صعابهم، وشرّد محمد بن عطية الأصمّ عن نواحي وانشريس، وراشد بن محمد عن نواحي شلف، وكان قد لحق بها بعد مهلك يوسف بن يعقوب فأزاحه عنها، واستولى على العملين، واستعمل عليهما، وقفل إلى تلمسان، ثم خرج سنة عشر وسبعمائة في عساكره إلى بلاد بني توجين، ونزل تافركينت وسط بلادهم فشرّد الفلّ من أعقاب محمد بن عبد القوي عن وانشريس، واحتاز رياستهم في بني توجين دونهم. وأدام منهم بالحشم وبني تيغزين [2] . وعقد لكبيرهم يحيى بن عطية على رياسة قومه في جبل وانشريس، وعقد ليوسف بن حسن من أولاد عزيز على المدية وأعمالها، وعقد لسعد من بني سلامة على قومه من بني يد لتين إحدى بطون بني توجين وأهل الناحية الغربية من عملهم. وأخذ من سائر بطون بني توجين الرهن على الطاعة والجباية، واستعمال عليهم جميعا من صنائعه قائده يوسف بن حيون الهواري، وأذن له في اتخاذ الآلة.
وعقد لمولاه مسامح على بلاد مغراوة وأذن له أيضا في اتخاذ الآلة. وعقد لمحمد بن عمه يوسف على مليانة، وأنزله بها وقفل إلى تلمسان. والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مفرط الذكاء.
[2] وفي نسخة ثانية: بني تيغرين.(7/132)
(الخبر عن استنزال زيرم بن حماد من ثغر برشك وما كان قبله [1] )
كان هذا الغمر من مشيخة هذا القصر لوفور عشيرته من مكلاته داخله وخارجة، واسمه زيري بالياء، فتصرّفت فيه العامّة وصار زيرم بالميم. ولما غلب يغمراسن على بلاد مغراوة دخل أهل هذا القصر في طاعته. حتى إذا هلك حدّثت هذا الغمر نفسه بالانتزاء والاستبداد بملك برشك ما بين مغراوة وبني عبد الواد، ومدافعة بعضهم ببعض. فاعتزم على ذلك وأمضاه وضبط برشك لنفسه سنة ثلاث وثمانين وستمائة ونهض إليه عثمان بن يغمراسن سنة أربع وثمانين وستمائة بعدها، ونازلة فامتنع. ثم زحف سنة ثلاث وتسعين إلى مغراوة، فلجأ ثابت بن منديل إلى برشك وحاصره عثمان بها أربعين يوما. ثم ركب البحر إلى المغرب كما قلناه. وأخذ زيري بعدها بطاعة عثمان بن يغمراسن دافعه بها، وانتقض عليه، مرجعه إلى تلمسان، وشغل بنو زيان بعدها بما دهمهم من شأن الحصار، فاستبدّ زيري هذا ببرشك واستفحل شأنه بها.
واتقى بني مرين عند غلبهم على بلاد [2] مغراوة وتردّد عساكرهم فيها بإخلاص الطاعة والانقياد، فلما انقشع إيالة بني مرين بمهلك يوسف بن يعقوب، وخرج بنو يغمراسن من الحصار رجع إلى ديدنه من التمريض في الطاعة، ومناولة طرفها على البعد حتى إذا غلب أبو حمّو على بلاد مغراوة وتجاوزت طاعته هذا المصر إلى ما وراءه، خشيه زيري على نفسه، وخطب منه الأمان على أن ينزل له عن المصر، فبعث إليه رئيس الفتيا بدولته أبا زيد عبد الرحمن بن محمد الإمام، كان أبوه من أهل برشك، وكان زيري قد قتله لأوّل ثورته غيلة. وفرّ ابنه عبد الرحمن هذا وأخوه عيسى، ولحقا بتونس فقرءا بها، ورجعا إلى الجزائر فأوطناها. ثم انتقلا إلى مليانة واستعملهما بنو مرين في خطة القضاء بمليانة. ثم وفدا بعد مهلك يوسف بن يعقوب على أبي زيان وأبي حمو مع عمّال بني مرين وقوّادهم بمليانة، وكان فيهم منديل بن محمد الكناني صاحب أشغالهم المذكور في أخبارهم. وكانا يقرءان ولده محمدا فأشادا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وما كان من قتله.
[2] وفي نسخة ثانية: أعمال.(7/133)
عند أبي زيان وأبي حو بمكانهما من العلم، ووقع ذلك من أبي حمو أبلغ المواقع حتى إذا استقلّ بالأمر ابتنى المدرسة بناحية المطهر من تلمسان لطلبة العلم. وابتنى لهما دارين على جانبيها وجعل لهما التدريس فيها في إيوانين معدّين لذلك. واختصّهما بالفتيا والشورى، فكانت لهما في دولته قدم علية فلما خطب زيري هذا الأمان من أبي حمّو وأن يبعث إليه من يأمن معه في الوصول إلى بابه، بعث إليه أبا زيد عبد الرحمن الأكبر منهما، فنهض لذلك بعد أن استأذنه في أن يثأر منه بأبيه إن قدر عليه، فأذن له. فلمّا احتلّ ببرشك أقام بها أياما يغاديه فيها زيري ويراوحه بمكان نزله، وهو يعمل الحيلة في اغتياله حتى إذا أمكنته فقتله في بعض تلك الأيام سنة ثمان وسبعمائة، وصار أمر برشك إلى السلطان أبي حمو وانمحى منه أثر المشيخة والاستبداد والأمور بيد الله سبحانه.
(الخبر عن طاعة الجزائر واستنزال ابن علان منها وذكر أوليته)
كانت مدينة الجزائر هذه من أعمال صنهاجة، ومختطها بلكّين بن زيري ونزلها بنوه من بعده. ثم صارت للموحّدين وانتظمها بنو عبد المؤمن في أمصار المغربين وإفريقية، ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر الموحدين وبلغت دولتهم بلاد زناتة. وكانت تلمسان ثغرا لهم، واستعملوا عليها يغمراسن وبنيه من بعده، وعلى ضواحي مغراوة بني منديل بن عبد الرحمن، وعلى وانشريس وما إليها من عمل توجين محمد بن عبد القوى وبنيه. وبقي ما وراء هذه الأعمال إلى الحضرة لولاية الموحّدين أهل دولته، فكان العامل على الجزائر من الموحدين أهل الحضرة.
وفي سنة أربع وستين وستمائة انتقضوا على المستنصر ومكثوا في ذلك الانتقاض سبعا.
ثم أوعز إلى أبي هلال صاحب بجاية بالنهوض إليها في سنة إحدى وسبعين وستمائة فحاصرها أشهرا وأفرج عنها. ثم عاودها بالحصار سنة أربع وسبعين وستمائة أبو الحسن ابن ياسين بعساكر الموحّدين فاقتحمها عليهم عنوة واستباحها. وتقبّض على مشيختها فلم يزالوا معتقلين إلى أن هلك المستنصر. ولما انقسم أمر بني أبي حفص واستقل الأمير أو زكريا الأوسط بالثغور الغربية وأبوه، بعثوا إليه بالبيعة، وولّى عليهم ابن أكمازير،(7/134)
وكانت ولايتها [1] من قبل، فلم يزل هو واليا عليها إلى أن أسنّ وهرم. كان ابن علّان من مشيخة الجزائر مختصا به، ومنتصبا في أوامره ونواهيه، ومصدّرا لإمارته وحصل له بذلك الرئاسة على أهل الجزائر سائر أيامه. فلمّا هلك ابن أكمازير حدّثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بمدينته، فبعث عن أهل الشوكة من نظائره ليله هلاك أميره. وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد، واتخذ الآلة واستركب واستلحق من الغرباء والثعالبة عرب متيجة، واستكثر من الرجال والرماة. ونازلته عساكر بجاية مرارا فامتنع عليهم. وغلب مليكش على جباية الكثير من بلاد متيجة، ونازلة أبو يحيى بن يعقوب بعساكر بني مرين عند استيلائهم على البلاد الشرقية، وتوغلهم في القاصية، فأخذ بمخنقها وضيّق عليها، ومرّ بابن علّان القاضي أبو العبّاس الغماري رسول الأمير خالد إلى يوسف بن يعقوب، فأودعه الطاعة للسلطان والضراعة إليه في الإبقاء، فأبلغ ذلك عنه وشفع له، فأوعز إلى أبيه يحيى بمسالمته [2] . ثم نازلة الأمير خالد بعد ذلك فامتنع عليه وأقام على ذلك أربع عشرة سنة وعيون الخطوب تحدّده [3] ، والأيام تستجمع لحربه. فلمّا غلب السلطان أبو حمو على بلاد توجين واستعمل يوسف بن حبون الهواري على وانشريس، ومولاه مسامحا على بلاد مغراوة، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض سنة اثنتي عشرة وسبعمائة الى بلاد شلف فنزل بها، وقدم مولاه مسامحا في العساكر فدوّخ متيجة من سائر نواحيها، وترس بالجزائر، وضيّق حصارها حتى مسهم الجهد وسأل ابن علّان النزول على أن يشترط لنفسه، فتقبّل السلطان اشتراطه، وملك السلطان أبو حمو الجزائر وانتظمها في أعماله. وارتحل ابن علّان في جملة مسامح، ولحقوا بالسلطان بمكانه من شلف فانكفأ إلى تلمسان وابن علّان في ركابه، فأسكنه هنالك ووفّي له بشرطه إلى أن هلك والبقاء للَّه سبحانه.
(الخبر عن حركة صاحب المغرب الى تلمسان وأولية ذلك)
لما خرج عبد الحق بن عثمان من أعياص الملك على السلطان أبي الربيع بفاس،
__________
[1] بياض بالأصل وفي نسخة اخرى: لبطة، وفي ثانية: ليطة.
[2] وفي نسخة ثانية: بمصالحته.
[3] وفي نسخة ثانية: تحرزه.(7/135)
وبايع له الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق صاحب بني مرين بمداخلة الوزير رحّو بن يعقوب كما قدّمناه في أخبارهم. وملكوا تازى، زحف إليهم السلطان أبو الربيع فبعثوا وفدهم إلى السلطان أبي حمو صريخا. ثم أعجلهم أبو الربيع وأجهضهم على تازى، فلحقوا بالسلطان أبي حمو ودعوه إلى المظاهرة على المغرب ليكونوا رداء له دون قومهم. وهلك السلطان أبو الربيع خلال ذلك واستقلّ بملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، فطالب السلطان أبا حمو بإسلام أولئك النازعين إليه، فأبى من إسلامهم وإخفار زمّته فيهم وأجازهم البحر إلى العدوة، فأغضى له السلطان أبو سعيد عنها، وعقد له السلم. ثم استراب يعيش بن يعقوب بن عبد الحق بمكانه عند أخيه السلطان أبي سعيد لما سعى فيه عنده، فنزع عنه إلى تلمسان وأجاره السلطان أبو حمو على أخيه فأحفظه ذلك، ونهض إلى تلمسان سنة أربع عشرة وسبعمائة وعقد لابنه الأمير أبي عليّ وبعثه في مقدّمته، وسار هو في الساقة. ودخل أعمال تلمسان على هذه التعبية فاكتسح بسائطها، ونازل وجدة فقاتلها وضيّق عليها.
ثم تخطّاها إلى تلمسان فنزل بساحتها وانحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على ضواحيها ورعاياها، وسار السلطان أبو سعيد في عساكره يتقرّى شعارها وبلادها بالحطم والانتساف والعيث. فلمّا أحيط به وثقلت وطأة السلطان عليه وحذر المغبة منه ألطف الحيلة في خطاب الوزراء الذين كان يسرّب أمواله فيهم ويخادعهم من نصائح سلطانهم حتى اقتضى مراجعتهم في جاره يعيش بن يعقوب وإدالته من أخته. ثم بعث خطوطهم بذلك إلى السلطان أبي سعيد فامتلاء قلبه منها خشية ورهبة، واستراب بالخاصّة والأولياء ونهض إلى المغرب على تعبيته. ثم كان خروج ابنه عمر عليه بعد مرجعه، وشغلوا عن تلمسان وأهلها برهة من الدهر حتى جاء أمر الله في ذلك عند وقته، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن مبدإ حصار بجاية وشرح الداعية اليه)
لما رجع السلطان أبو سعيد إلى المغرب وشغل عن تلمسان، فزع أبو حمو لأهل(7/136)
القاصية من عمله. وكان راشد بن محمد بن ثابت بن منديل قد جاء من بلاد زواوة أثناء هذه الغمرة، فاحتل بوطن شلف واجتمع إليه أوشاب قومه، وحين تجلت الغمرة عن السلطان أبي حمو نهض إليه بعد أن استعمل ابنه أبا تاشفين على تلمسان، وجمع له الجموع ففرّ أمامه ناجيا إلى مثوى اغترابه ببجاية. وأقام بنو سعيد بمعاقلهم من جبال شلف على دعوته، فاحتل السلطان أبو حمو بوادي تمل [1] فخيم به. وجمع أهل أعماله لحصار بني أبي سعيد شيعة راشد بن محمد، واتخذ هنالك قصره المعروف باسمه. وسرّح العساكر لتدويخ القاصية ولحق به هنالك الحاجب ابن أبي [2] حين مرجعه من الحج سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فأغراه بملك بجاية ورغبه فيه. وكان قد ثاب له طمع منذ رسالة السلطان مولانا أبي يحيى إليه.
وذلك أنه لما انتقض على أخيه خالد ودعا لنفسه بقسنطينة، ونهض إلى بجاية فانهزم عنها كما قدمنا في أخباره. وأوفد على السلطان أبي حمو بعض رجال دولته مغريا له بابن خلوف وبجاية ثم بعث إليه ابن خلوف أيضا يسأله المظاهرة والمدد فأطمعه ذلك في ملك بجاية.
(ولما هلك) ابن خلوف كما قدّمناه، لحق به كاتبه عبد الله بن هلال، فأغراه واستحثّه، وشغله عن ذلك شأن الجزائر. فلما استولى على الجزائر، بعث مولاه مسامحا في عسكر مع ابن أبي حي، فبلغوا إلى جبل الزاب وهلك ابن أبي حي ورجع مسامح. ثم شغله عن شأنها زحف، وفرغ من أمر عدوّه، ونزل بلد شلف كما ذكرناه آنفا ولحق به عثمان بن سباع بن يحيى بن سبّاع بن سهل أمير الزواودة، يستحثّه لملك الثغور الغربية من عمل الموحّدين، فاهتز لذلك وجمع له الجموع، وعقد لمسعود ابن عمه أبي عامر برهوم على عسكر وأمره بحصار بجاية، وعقد لمحمد ابن عمّه يوسف قائد مليانة على عسكر، ولمولاه مسامح على عسكر آخر، وسرّحهم إلى بجاية وما وراءها لتدويخ البلاد. وعقد لموسى بن عليّ الكردي على عسكر ضخم، وسرّحه مع العرب من الزواودة وزغبة على طريق الصحراء. فانطلقوا إلى وجههم ذلك، وفعلوا الأفاعيل كلّ فيما يليه وتوغّلوا في البلاد الشرقية، حتى انتهوا إلى بلاد بونة. ثم انقلبوا من هنالك ومرّوا في طريقهم بقسنطينة، ونازلوها أياما.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نهل.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة الاسم الكامل لهذا الحاجب في المراجع التي بين أيدينا.(7/137)
وصعدوا جبل ابن ثابت المطلّ عليها فاستباحوه. ثم مرّوا ببني باورار فاستباحوها وأضرموها، واكتسحوا سائر ما مرّوا عليه. وحدثت بينهم المناكرة حسدا ومنافسة، فافترقوا ولحقوا بالسلطان ولحق مسعود بن برهوم محاصرا لبجاية وبنى حصنا بأصفون لمقامه. وكان يسرّح الجيوش لقتالها فتجوّل في ساحتها، ثم تراجع إلى الحصن. ولم يزل كذلك حتى بلغه خبر خروج محمد بن يوسف فأجفل عنها على ما نذكره الآن فلم يرجعوا لحصارها إلا بعد مدّة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين وحروب السلطان معه)
لما رجع محمد بن يوسف من قاصية الشرق كما قدّمناه، وسابقه إلى السلطان موسى بن علي الكرديّ، وجوانحه تلتهب غيظا وحقدا عليه. وسعى به عند السلطان فعزله عن مليانة، فوجم لها وسأله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان، وهو ابن أخته فأذن له. وأوعز إلى ابنه بالقبض عليه، فأبى من ذلك، وأراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان فخلى سبيله. ولما وصل إليه تنكّر له وحجبه، فاستراب وملاء قلبه الرعب، وفرّ من المعسكر ولحق بالمرية [1] ، ونزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين. فيقال انه أوثقه اعتقالا حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه، لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزاعته، فأخذ له البيعة على قومه ومن إليهم من العرب. وزحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل، فلقيهم في عساكره، فكانت الدبرة على السلطان، ولحق بتلمسان وغلب محمد بن يوسف على بني توجين ومغراوة ونزل مليانة. وخرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها، وقد جمع الجموع وأزاح العلل وأوعز إلى مسعود بن برهوم بمكانه من حصار بجاية بالوصول إليه بالعساكر، ليأخذ بحجزتهم من ورائهم، وخرج محمد بن يوسف على مليانة لاعتراضه، واستعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز، فلقيه ببلاد مليكش وانهزم محمد بن يوسف. ولجأ إلى جبل مرصالة [2] وحاصره بها مسعود بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالمدية.
[2] وفي نسخة ثانية: موصاية.(7/138)
برهوم أياما، ثم أفرج عنه. ولحق بالسلطان فنازلوا جميعا مليانة. وافتتحها السلطان عنوة وجيء بيوسف بن حسن أسيرا من مكمنه ببعض المسارب فعفا عنه وأطلقه، ثم زحف إلى المرية فملكها وأخذ الرهن من أهل تلك النواحي، وقفل إلى تلمسان.
واستطال محمد بن يوسف على النواحي ففشت دعوته في تلك القاصية. وخاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة فبعث إليه بالهدية والآلة، وسوّغه سهام يغمراسن ابن زيّان بإفريقية، ووعده بالمظاهرة وغلب سائر بلاد بني توجين. وبايع له بنو تيغرين أهل جبل وانشريس، فاستولى عليه. ثم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة وسبعمائة وملك المرية واستعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعة محمد بن يوسف، واستبلغ في أخذ الرهن منه ومن أهل العمالات وقبائل زناتة والعرب، حتى من قومه بني عبد الواد. ورجع إلى تلمسان وأنزله بالقصبة وهي الغور الفسيح الخطّة تماثل بعض الأمصار العظيمة، اتخذها للرهن. وكان يبالغ في ذلك حتى يأخذ الرهن المتعدّدة من البطن الواحد والفخذ الواحد والرهط. وتجاوز ذلك إلى أهل الأمصار والثغور والمشيخة والسوقة فملأ تلك القصبة من أبنائهم وإخوانهم، وشحنها بالأمم بعد الأمم، وأذن لهم في ابتناء المنازل واتخاذ النساء. واختط لهم المساجد فجمعوا بها لصلاة الجمعة، ونفقت بها الأسواق والصنائع وكان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصور عن سجن. ولم يزل محمد بن يوسف بمكان خروجه من بلاد توجين إلى أن هلك السلطان، والبقاء للَّه.
(الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده)
كان السلطان أبو حمو قد اصطفى ابن عمه برهوم وتبناه من بين عشيرته وأولي قرباه لمكان صرامته ودهائه، واختصاص أبيه برهوم المكنّى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين إخوته [1] ، فكان يؤثره على بنيه ويفاوضه في شئونه، ويصله إلى خلواته. وكان دفع إلى ابنه عبد الرحمن أبا تاشفين أترابا له من العلوجين [2] يقومون
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من بين سائر الاخوة.
[2] وفي نسخة ثانية: المعلوجي.(7/139)
بخدمته في مرباه ومنتشئه، كان منهم: هلال المعروف بالقطاني [1] ، ومسامح المسمّى بالصغير، وفرج بن عبد الله وظافر ومهديّ وعليّ بن تاكررت وفرج الملقب شقّورة، وكان ألصقهم وأعلقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالا، وكان أبو حمو أبوه كثيرا ما يقرّعه ويوبّخه إرهاقا في اكتساب الخلال، وربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فيحفظه لذلك. وكان مع ذلك شديد السطوة متجاوزا بالعقاب وحدوده في الزجر والأدب، فكان أولئك العلوجين تحت رهب منه، وكانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه، ويبعثون غيرته لما يذكرون له من اصطفاء ابن أبي عامر دونه. وقارن ذلك أن مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد ابن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عند ما رجع من حصار بجاية، فاستحمد له السلطان ذلك، وعيّر ابنه عبد الرحمن بمكان ابن عمّه هذا من النجابة والصرامة يستجد له بذلك خلالا ويغريه بالكمال. وكان عمّه أبو عامر إبراهيم بن يغمراسن ثري بما نال من جوائز الملوك في وفاداته، وما أقطع له أبوه وأخوه سائر أيامهما.
ولما هلك سنة ست وتسعين وستمائة أوصى أخاه عثمان بولده فضمهم إليه، ووضع تراثهم بموضع ماله، حتى يأنس منهم الرشد في أحوالهم، حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان هذه، وعلا فيها ذكره وبعد صيته، رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله، فاحتمل إليه من المودع. ونمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين وباطنته السوء من العلوجين، فحسبوه مال الدولة قد حمل إليه لبعد عهدهم بما وقع في تراث أبي عامر أبيه، واتهموا السلطان بإيثاره بولاية العهد دون ابنه، فأغروا أبا تاشفين بالتوثّب على الأمر وحملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر، واعتقال السلطان أبي حمو ليتمّ له الاستبداد. وتحيّنوا لذلك قائلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه، وقد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصته من البطانة وفيهم مسعود بن أبي عامر والوزراء من بني الملاح. وكان بنو الملاح هؤلاء قد استخصهم السلطان بحجابته سائر أيامه، وكان مسمّى الحجابة عنده قهرمة الدار والنظر في الدخل والخرج، وهم أهل بيت من قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكّة الدنانير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: القطلاني.(7/140)
والدراهم، وربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأماناتهم، نزل أوّلهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى وزادوا إليها الفلاحة وتحلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن وابنه، وكان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة وعناية، فولّى على حجابته منهم لأوّل دولته محمد بن ميمون بن الملاح. ثم ابنه محمد الأشقر من بعده. ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما، واشترك معه من قرابته علي بن عبد الله بن الملّاح، فكانا يتولّيان مهمه بداره ويحضران خلوته مع خاصته، فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انقضاض مجلسه كما قلناه، ومعه من القرابة مسعود القتيل وحماموش بن عبد الملك بن حنينة. ومن الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن عليّ أمير بني يزيد [1] بن توجين، وكان السلطان قد استوزره.
(فلما علم) أبو تاشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم وغلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من اغلاقه، حتى إذا توسّطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه. وحام أبو تاشفين عنها، فلم يفرجوا عليه ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار، واستمكن من غلقها دونهم، فكسروا الباب وقتلوه، واستلحموا من كان هنالك من البطانة، فلم يفلت إلا الأقل. وهلك الوزراء بنو الملّاح واستبيحت منازلهم. وطاف الهاتف بسكك المدينة بأنّ أبا سرحان غدر بالسلطان، وأنّ ابنه أبا تاشفين ثأر منه، فلم يخف على الناس الشأن. وكان موسى ابن عليّ الكرديّ قائد العساكر قد سمع الصيحة فركب إلى القصر، فوجده مغلقا دونه، فظنّ الظنون فخشي استيلاء مسعود على الأمر فبعث إلى العبّاس بن يغمراسن كبير القرابة، فأحضره عند باب القصر حتى إذا مرّ بهم الهاتف واستيقن مهلك أبي سرحان، ردّ العباس على عقبه إلى منزله. ودخل إلى السلطان أبي تاشفين، وقد أدركه الدهش من المواقعة فثبته ونشطه فحفه، وأجلسه بمجلس أبيه وتولى له عقد البيعة على قومه خاصة وعلى الناس عامّة، وذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة.
وجهّز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم، وأصبح مثلا في الآخرين والبقاء للَّه.
وأشخص السلطان لأوّل ولايته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن،
__________
[1] وفي نسخة اخرى: يزناتن.(7/141)
وأجازهم إلى العدوة حذرا من مغبّة ترشيحهم، وما يتوقع من الفتن على الدولة من قبلهم وقلّد حجابته مولاه هلالا فاضطلع بأعبائها، واستبدّ بالعقد والحلّ والإبرام والنقض صدرا من دولته، إلى أن نكبه حسبما نذكره. وعقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولتهم على شلف وسائر أعمال مغراوة، وعقد لمحمد بن سلامة بن عليّ على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين، وعزل أخاه سعدا، فلحق بالمغرب.
وعقد لموسى بن عليّ الكردي على قاصية المشرق، وجعل إليه حصار بجاية، وأغرى دولته بتشييد القصور واتخاذ الرياض والبساتين، فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك أربى عليه، فاحتفلت القصور والمصانع في الحسن ما شاءت، واتسعت أخباره على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نهوض السلطان أبي تاشفين لمحمد بن يوسف بجبل وانشريس واستيلاؤه عليه
كان محمد بن يوسف بعد مرجع السلطان أبي حمو كما ذكرناه قد تغلّب على جبل وانشريس ونواحيه واجتمع إليه الفلّ من مغراوة فاستفحل أمره، واشتدّت في تلك النواحي شوكته. وأهمّ أبا تاشفين أمره فاعتزم على النهوض إليه، وجمع لذلك وأزاح العلل. وخرج من تلمسان سنة تسع عشرة وسبعمائة واحتشد سائر القبائل من زناتة والعرب، وأناخ على وانشريس وقد اجتمع به بنو توجين ومغراوة مع محمد بن يوسف. وكان يتغرين من بني توجين بطانة ابن عبد القويّ يرجعون في رياستهم إلى عمر بن عثمان بن عطيّة حسبما نذكره. وكان قد استخلص سواه من بني توجين دونه فأسفه بذلك، وداخل السلطان أبا تاشفين وواعده أن يتحرّك [1] عنه، فاقتحم السلطان عليهم الجبل وانحجزوا جميعا إلى حصن توكال، فخالفهم عمر بن عثمان في قومه إلى السلطان بعد أن حاصرهم ثمانيا، فتخرّم الجمع واختلّ الأمر وانفضّ الناس فاقتحم الحصن، وتقبّض على محمد بن يوسف وجيء به إلى السلطان أسيرا وهو في مركبه فعدّد عليه، ثم وخزه برمحه، وتناوله الموالي برماحهم فأقعصوه، وحمل رأسه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ان ينحرف عنه.(7/142)
على القناة إلى تلمسان، فنصب بشرفات البلد، وعقد لعمر بن عثمان على جبل وانشريس وأعمال بني عبد القوي، ولسعيد العربيّ من مواليه على عمل المرية.
وزحف إلى الشرق فأغار على أحياء رياح وهم بوادي الجنان حيث الثنية المفضية من بلاد حمزة إلى القبلة، وصبح أحياءهم فاكتسح أموالهم ومضى في وجهه إلى بجاية، فعرس بساحتها ثلاثا وبها يومئذ الحاجب يعقوب بن عمر فامتنعت عليه، فظهر له وجه المعذرة لأوليائهم في استحصانها لهم. وقفل إلى تلمسان إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حصار بجاية والفتنة الطويلة مع الموحدين التي كان فيها حتفه وذهاب سلطانه وانقراض الأمر عن قومه برهة من الدهر
لما رجع السلطان أبو تاشفين من حصار بجاية سنة تسع عشرة وسبعمائة اعتمل في ترديد البعوث إلى قاصية الشرق، والإلحاح بالغزو إلى بلاد الموحّدين، فأغزاها جيوشه سنة عشرين وسبعمائة فدوّخوا ضواحي بجاية وقفلوا. ثم غزاهم ثانية سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وعليهم موسى بن عليّ الكردي فانتهى إلى قسنطينة وحاصرها فامتنعت عليه فأفرج عنها، وابتنى حصن بكر لأوّل مضيق الوادي، وادي بجاية، وأنزل به العساكر لنظر يحيى بن موسى قائد شلف وقفل إلى تلمسان. ثم نهض موسى بن عليّ ثالثة سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فدوّخ نواحي بجاية ونازلها أياما وامتنعت عليه فأفرج عنها. ووفد سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة على السلطان حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو بإفريقية صريخا على صاحب إفريقية مولانا السلطان أبي يحيى، فبعث معهم العساكر من زناتة وعامّتهم من بني توجين وبني راشد، وأمّر عليهم القواد وجعلهم لنظر قائده موسى بن علي الكردي، ففصلوا إلى إفريقية، وخرج السلطان للقائهم، فانهزموا بنواحي مرماجنّة، وتخطّفتهم الأيدي فاستلحموا، وقتل مسامح مولاه، ورجع موسى بن عليّ، فاتهمه السلطان بالادهان وكان من نكبته ما نذكره في أخباره وسرّح العساكر سنة أربع وعشرين وسبعمائة فدوّخت نواحي بجاية، ولقيهم ابن سيّد الناس فهزموهم، ونجا إلى البلد.
ووفد على السلطان سنة خمس وعشرين وسبعمائة مشيخة سليم حمزة بن عمر بن(7/143)
أبي الليل وطالب بن مهلهل، الغملان المتزاحمان في رياسة الكعوب. ومحمد بن مسكين من بني القوس كبراء حكيم، فاستحثوه للحركة واستصرخوه على إفريقية، وبعث معهم العساكر لنظر قائده موسى بن علي ونصب لهم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد من أعياص الحفصيّين. وخرج مولانا السلطان أبو يحيى من تونس للقائهم وخشيهم على قسنطينة فسابقهم إليها، فأقام موسى بن عليّ بعساكره على قسنطينة، وتقدّم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد في أحياء سليم إلى تونس فملكها كما ذكرناه في أخبارهم. وامتنعت قسنطينة على موسى بن علي فأقلع [1] عنها لخمس عشرة ليلة من حصارها وعاد إلى تلمسان. ثم أغزاه السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة في الجيوش وعهد إليه بتدويخ الضاحية ومحاصرة الثغور، فنازل قسنطينة وأفسد نواحيها. ثم رجع إلى بجاية فحاصرها، ثم عزم على الإقلاع ورأى أن حصن بكر غير صالح لتجهيز الكتائب إليها لبعده، وارتاد للبناء عليها ما هو أقرب منه، فاختط بمكان سوق الخميس بوادي بجاية مدينة لتجهيز الكتائب لها على بجاية، وجمع الأيدي على بنائها من الفعلة والعساكر، فتمت لأربعين يوما وسمّوها تامزيزدكت باسم الحصن القديم الّذي كان لبني عبد الواد قبل الملك بالجبل قبلة وجدة، وأنزل بها عساكر تناهز ثلاثة آلاف، وأوعز السلطان إلى جميع عمّاله ببلاد المغرب الأوسط بنقل الحبوب إليها حيث كانت، والأدم وسائر المرافق حتى الملح، وأخذ الرهن من سائر القبائل على الطاعة واستوفوا جبايتهم. فثقلت وطأتهم على بجاية واشتدّ حصارها وغلت أسعارها.
(وبعث) مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه وقوّاده سنة سبع وعشرين وسبعمائة فسلكوا إلى بجاية على جبل بني عبد الجبّار، وخرج بهم قائدها أبو عبد الله بن سيّد الناس إلى ذلك الحصن. وقد كان موسى بن عليّ عند بلوغ خبرهم إليه استنفر الجنود من ورائه، وبعث إلى القوّاد قبله بالبراز فالتقى الجمعان بضاحية تامزيزدكت، فانكشف ابن سيّد الناس ومات ظافر الكبير مقدّم الموالي من العلوجين بباب السلطان واستبيح معسكرهم. ولمّا سخط السلطان قائده موسى بن عليّ ونكبه كما نذكره في أخباره أغزى يحيى بن موسى السنوسيّ في العساكر إلى إفريقية ومعه القوّاد، فعاثوا في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فأفرج عنها.(7/144)
نواحي قسنطينة وانتهوا إلى بلد بونة ورجعوا. وفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة بعدها وفد حمزة بن عمر على السلطان أبي تاشفين صريخا، ووفد معه أو بعده عبد الحق ابن عثمان، فحلّ الشول من بني مرين. وكان قد نزل على مولانا السلطان أبي يحيى منذ سنين، فسخط بعض أحواله ولحق بتلمسان، فبعث السلطان معهم جميع قوّاده بجيوشه لنظر يحيى بن موسى. ونصب عليهم محمد بن أبي بكر بن عمران من أعياص الحفصيّين، ولقيهم مولانا السلطان أبو يحيى بالدياس [1] من نواحي بلاد هوّارة، وانخزل عنه أحياء العرب من أولاد مهلهل الذين كانوا معه، وانكشفت جموعه واستولى على ظعائنه بما فيها من الحرم، وعلى ولديه أحمد وعمر، فبعثوا بهم إلى تلمسان، ولحق مولانا المنصور أبو يحيى بقسنطينة وقد أصابه بعض الجراحة في حومة الحرب، وسار يحيى بن موسى وابن أبي عمران إلى تونس، واستولوا عليها ورجع يحيى بن موسى عنهم بجموع زناتة لأربعين يوما من دخولها، فقفل إلى تلمسان وبلغ الخبر إلى مولانا السلطان أبي يحيى بقفول زناتة عنهم، فنهض إلى تونس وأجهض عنها ابن أبي عمران بعد أن كان أوفد من بجاية ابنه أبا زكريا يحيى ومعه محمد بن تافراكين من مشيخة الموحدين صريخا على أبي تاشفين، فكان ذلك داعية إلى انتقاض ملكه كما نذكره بعد. وداخل السلطان أبا تاشفين بعض أهل بجاية، ودلّوه على عورتها، واستقدموه فنهض إليها وحذر بذلك الحاجب ابن سيّد الناس فسابقه إليها، ودخل يوم نزوله عليها، وقتل من اتهمه بالمداخلة فانحسم الداء.
وأقلع السلطان أبو تاشفين عنها، وولّى عيسى بن مزروع من مشيخة بني عبد الواد على الجيش الّذي بتامزيزدكت، وأوعز إليه ببناء حصن أقرب إلى بجاية من تامزيزدكت فبناه بالياقونه من أعلى واد قبالة بجاية. فأخذ بمخنقها واشتدّ الحصار إلى أن أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم، فأجفلوا جميعا إلى تلمسان، ونفس مخنق الحصار عن بجاية. ونهض مولانا السلطان أبو يحيى بجيوشه من تونس إلى تامزيزدكت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فخرّبها في ساعة من نهار كأن لم تغن بالأمس، حسبما ذكرنا ذلك في أخباره. والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الرياس.
ابن خلدون م 10 ج 7(7/145)
(الخبر عن معاودة الفتنة بين بني مرين وحصارهم تلمسان ومقتل السلطان أبي تاشفين ومصائر ذلك)
كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأوّل دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب، فلما انتقض عليه ابنه أبو عليّ سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة، بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجزة أبيه عنه، ونهض هو إلى مراكش فدخلها. وزحف إليه السلطان أبو سعيد فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن عليّ في العساكر إلى نواحي تازى، فاستباح عمل كارث، واكتسح زروعه وقفل. واعتدّها عليه السلطان أبو سعيد، وبعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولا إلى السلطان أبي عليّ بسجلماسة، فرجع عنه مغاضبا وجنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسّك بسلم السلطان أبي سعيد، فعقد لهم ذلك وأقاموا عليها مدّة. فلما نفر ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب، وانعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم، وهلك السلطان أبو سعيد، نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدّم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع بجيوشه عن حصار بجاية، ويتجافى للموحدين عن عمل تنس [1] فأبى وأساء الردّ، وأسمع الرسل بمجلسه هجر القول. وأفزع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين، فأحفظ ذلك السلطان أبو الحسن ونهض في جيوشه سنة اثنتين وثلاثين إلى تلمسان فتخطّاها إلى تاسالت وضرب بها معسكره، وأطال المقام وبعث المدد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه، وركبوا في أساطيله من سواحل وهران ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية وقد جمع لحرب بني عبد الواد وهدم تامزيزدكت وجاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان، فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت وقد أجفل منها عساكر بني عبد الواد وتركوها قفرا [2] . ولحقت بها عساكر الموحدين، فعاثوا فيها تخريبا ونهبا.
وألصقت جدرانها بالأرض وتنفّس مخنق بجاية من الحصار، وانكمش بنو عبد الواد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تدلس.
[2] وفي نسخة ثانية: قواء.(7/146)
إلى ما وراء تخومهم.
وفي خلال ذلك انتقض أبو عليّ ابن السلطان أبي سعيد على أخيه، وصمد من مقرّه بسجلماسة إلى درعة، وفتك بالعامل وأقام فيها دعوته كما نذكر ذلك بعد. وطار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحلّته بتاسالت، فنهض [1] راجعا إلى المغرب لحسم دائه، وراجع السلطان أبو تاشفين عزّه وانبسطت عساكره في ضواحي عمله، وكتب الكتائب وبعث بها مددا للسلطان أبي عليّ. ثم استنفر قبائل زناتة وزحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ليأخذ بحجزة السلطان أبي الحسن عن أخيه، وانتهى إلى الثغر من تاوريرت ولقيه هناك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جهّزها أبوه معه هنالك لسدّ الثغور، ومعه منديل بن حمامة شيخ بني تيريفين من بني مرين في قومه. فلما برزوا إليه انكشف ورجع إلى تلمسان. ولمّا تغلّب السلطان أبو الحسن على أخيه وقتله سنة أربع وثلاثين وسبعمائة جمع لغزو تلمسان وحصارها ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد استنفذ وسعه في الاحتفال لذلك واضطربت بها عساكره وضرب عليها سياج الأسوار وسرادقات الحفائر أطيفت [2] عليهم، حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم ولا إليهم. وسرّح كتائبه إلى القاصية من كل جهة، فتغلّب على الضواحي وافتتح الأمصار جميعا، وخرّب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله. وألحّ عليها بالقتال يغاديها ويراوحها، ونصب المجانيق وانحجز بها مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين وبني عبد الواد وكان عليهم في بعض أيامها اليوم المشهور الّذي استلحمت فيه أبطالهم وهلك أمراؤهم. وذلك أنّ السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الأسحار فيطوف من وراء أسواره التي ضربها عليهم شوطا يرتّب المقاتلة ويثقف الأطراف ويسدّ الفروج ويصلح الخلل، وأبو تاشفين يبعث العيون في ارتصاد فرصه فيه، وأطاف في بعض الأيام منتبذا عن الجملة فكمنوا له حتى إذا سلك ما بين الجبل والبلد انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها، وضايقوه حتى كاد السرعان من الناس أن يصلوا إليه، وأحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات ووحدانا، وركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك جناحا عسكره، وعقابا جحافله وتهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جوّ، فانكشفت عساكر البلد ورجعوا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فنكص.
[2] وفي نسخة ثانية: أطبقت.(7/147)
القهقرى، ثم ولّوا الأدبار منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد، واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه، فكان الهالك يومئذ بالردم أكثر من الهالك بالقتل. وهلك من بني توجين يومئذ كبير الحشم وعامل جبل وانشريس، ومحمد بن سلامة بن علي أمير بني يدللتن وصاحب قلعة تاوغزوت [1] وما إليها من عملهم، وهما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما وأمثال استلحموا في هذه الوقعة فحط [2] هذا اليوم جناح الدولة وحطّم منها، واستمرّت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر رمضان من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فاقتحمها يوم السابع والعشرين منه غلابا. ولجأ السلطان أبو تاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه، ومعه ولداه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ وعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين، وهو الّذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه، وسيأتي ذكره وخبره. ومعه يومئذ ابنا أخيه أبو زيّان وأبو ثابت فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا ورفعت رءوسهم على عصيّ الرماح، فطيف بها، وغصت سكك البلد من خارجها وداخلها بالعساكر، وكظّت أبوابها بالزحام، حتى لقد كبّ الناس على أذقانهم وتواقعوا فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المذهب ما بين السقف ومسلك الباب وانطلقت الأيدي على المنازل نهبا واكتساحا، وخلص السلطان إلى المسجد الجامع، واستدعى رؤساء الفتيا والشورى أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى ابني الإمام، قدمهما من أعماله لمكان معتقده في أهل العلم، فحضروه ورفعوا إليه أمر الناس وما نالهم من معرة العسكر ووعظوه فأناب ونادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك، فسكن الاضطراب وأقصر العيث. وانتظم السلطان أبو الحسن أمصار المغرب الأوسط وعمله إلى سائر أعماله. وتاخم الموحدين بثغوره وطمس رسم الملك لآل زيّان ومعالمه، واستتبع زناتة عصبا تحت لوائه من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وأقطعهم ببلاد المغرب سهاما أدالهم بها من تراثهم من أعمال تلمسان، فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما نذكره، فأومض بارقه، وهبّت ريحه، والله يؤتي ملكه من يشاء.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تاوعزدوت.
[2] وفي نسخة ثانية: في هذه الوقائع. فقصّ هذا اليوم.(7/148)
(الخبر عن رجال دولته وهم موسى بن علي ويحيى بن موسى ومولاه هلال وأوليتهم ومصاير أمورهم واختصاصهم بالذكر لما صار من شهرتهم وارتفاع صيتهم)
فأمّا موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان، فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق، وقد أشرنا الى الخلاف في نسبهم بين الأمم. وذكر المسعودي منهم أصنافا سمّاهم في كتابه من الشاهجان والبرسان والكيكان إلى آخرين منهم، وأنّ مواطنهم ببلاد أذربيجان والشام والموصل، وأنّ منهم نصارى على رأي اليعقوبية وخوارج على رأي البراءة من عثمان وعلي انتهى كلامه.
(وكان) منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العجم وعامّتهم يتقلّبون في الرحلة.
وينتجعون لسائمتهم مواقع الغيث، ويتّخذون الخيام لسكناهم من اللبود، وجل مكاسبهم الشاء والبقر من الأنعام، وكانت لهم عزة وامتناع بالكثرة ورياسات ببغداد أيام تغلّب الأعاجم على الدولة واستبدادهم بالرياسة. ولما طمس ملك بني العباس وغلب التتر على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وقتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيّين، وهو المستعصم. ثم ساروا في ممالك العراق وأعماله، فاستولوا عليها وعبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارا أمام التتر لما كانوا يدينون بدين المجوسيّة وصاروا في إيالة الترك، فاستنكف أشرافهم وبيوتاتهم من المقام تحت سلطانهم. وجاز منهم إلى المغرب عشيرتان تعرفان ببني لوين وبني بابير [1] فيمن إليهم من الأتباع ودخلوا المغرب لآخر دولة الموحّدين ونزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن تلقيهم وأكرم مثواهم، وأسنى لهم الجراية والأقطاع وأحلّهم بالمحل الرفيع من الدولة.
(ولما انتقض) أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين، ولحق بعضهم بيغمراسن بن زيّان، ونزع المستنصر إلى إفريقية يومئذ بيت من بني بابير لا أعرفهم، كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار، صاحب مولانا السلطان أبي يحيى وآخرون غيره منهم ركان [2] من أشهر من بقي في إيالة بني مرين منهم. ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بني تابير.
[2] وفي نسخة ثانية: وكان.(7/149)
من بني بابير علي بن حسن بن صاف وأخوه سلمان، ومن بني لوين الخضر بن محمد، ثم بنو حمّور، ثم بنو بوصة. وكانت رياسة بني بابير لسلمان وعليّ، ورياسة لوين لخضر بن محمد. وكادت تكوّن الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الاولى، فإذا اتعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان، وكان نضالهم بالسهام وكانت القسيّ سلاحهم. وكان من أشهر الوقائع بينهم وقيعه بفاس سنة أربع وسبعين وستمائة، جمع لها خضر رئيس بني لوين وسلمان وعليّ رئيسا بني بابير، واقتتلوا خارج باب الفتوح. وتركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم، فلم يعرض لهم. وكان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطا بثغر طريف عام تسعين وستمائة، وكان لعليّ بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب، وكشف له الحجاب عن داره، وربى بين حرمه فتمكّنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه، فذهب مغاضبا ودخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن يعقوب محاصرا لها، فتلقّاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة والترحيب بما يناسب محلّه من قومه ومنزلته من اصطناع السلطان. وأشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقيه في حومة القتال وحادثة واعتذر له بكرامة القوم إياه، فحضّه على الوفاء لهم، ورجع إلى السلطان فخبّره الخبر فلم ينكر عليه. وأقام هو بتلمسان وهلك أبوه عليّ بالمغرب سنة سبع وسبعمائة.
ولما هلك عثمان بن يغمراسن بن زيّان زاده بنوه اصطناعا ومداخلة، وخلطوه بأنفسهم وعقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم. وولّوه الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة من الوزارة والحجابة. ولما هلك السلطان أبو حمو وقام بأمره ابنه أبو تاشفين، وكان هو الّذي تولّى له أخذ البيعة على الناس، وغصّ بمكانه مولاه هلال فلما استبدّ عليه وكان كثيرا ما ينافس موسى بن علي ويناقشه، فخشيه على نفسه، وأجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس، فبادره هلال وتقبّض عليه وغرّبه إلى العدوة ونزل بغرناطة، وانتظم في الغزاة المجاهدين وأمسك عن جراية السلطان فلم يمدّ إليها يدا أيام مقامه، وكانت من أنزه ما جاء به وتحدّث به الناس فأغربوا، واتقدت لها جوانح هلال حسدا وعداوة، فأغرى سلطانه فخاطب ابن الأحمر في استقدامه، فأسلمه إليه. واستعمله السلطان في حروبه على قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع وعشرين وسبعمائة. وكانت الدبرة(7/150)
عليه واستلحمت زناتة، ورجع في الفلّ فأغرى هلال السلطان وألقى في نفسه التهمة به. ونمي ذلك إليه فلحق بالعرب الزواودة، وعقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى ابن موسى صاحب شلف، ونزل هو على سليمان ويحيى بن علي بن سبّاع بن يحيى من أمراء الزواودة في أحيائهم [1] فلقوه مبرة وتعظيما، وأقام بين أحيائهم مدّة، ثم استقدمه السلطان ورجع إلى محلّه من مجلسه. ثم تقبّض عليه لأشهر، وأشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها وضيّق عليه محبسه ذهابا مع أغراض منافسة هلال، حتى إذا أسخط هلالا استدعاه من محبسه أضيق ما كان، فانطلق إليه. فلما تقبّض على هلال قلّد موسى بن عليّ حجابته، فلم يزل مقيما لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان، فهلك مع أبي تاشفين وبنيه في ساحة قصرهم كما قلناه. وانقضى أمره والبقاء للَّه.
وانتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي الحسن وكان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدوّ من الليل مثخنا بالجراح، وكانت حياته بعدها تعدّ من الغرائب، ودخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد، فكان له في سوقها نفاق حسبما نذكره والله غالب على أمره.
(وأمّا يحيى بن موسى) فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية، ولهم ولاء في بني كمين [2] بالاصطناع والتربية. ولمّا فصل بنو كمين إلى المغرب قعدوا عنهم واتصلوا ببني يغمراسن واصطنعوهم، ونشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان وبنيه واصطناعهم. (ولما كان) الحصار ولّاه أبو حمو مهمة من التطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار، وقسم القوت على المقاتلة بالمقدار، وضبط الأبواب والتقدّم في حومة الميدان [3] ، وكان له أعوان على ذلك من خدّامه قد لزموا الكون معه في البكر والآصال. والليل والنهار، وكان يحيى هذا منهم فعرفوا له خدمته وذهبوا إلى اصطناعه وكان من أوّل ترشيحه ترديد أبي يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم: فيما يدور بينهم من المضاربة، فكان يجلّي في ذلك ويوفي من عرض مرسلة [4] ، ولما خرجوا من الحصار أربوا به على رتب الاصطناع والتنويه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المذكورين في أخبارهم.
[2] وفي نسخة ثانية: بني كمي.
[3] وفي نسخة ثانية: في حومة القتال.
[4] وفي نسخة ثانية: ويؤتي غرض مرسلة.(7/151)
(ولما ملك أبو تاشفين) استعمله بشلف مستبدّا بها وأذن له في اتخاذ الآلة. ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين وقاصية الشرق عزله به، وكانت المرية وتنس من عمله. فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله بالطاعة والكون معه، فتقبّله وجاء به [1] من مكان عمله، فقدم عليه بمخيّمه على تلمسان، فاختصه بإقباله ورفع مجلسه من بساط، ولم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان والله مصرّف الأقدار.
(وأمّا هلال) فأصله من سبي النصارى القطلونيّين أهداه السلطان ابن الأحمر الى عثمان بن يغمراسن، وصار إلى السلطان أبي حمو فأعطاه إلى ولده أبي تاشفين فيما أعطاه من الموالي المعلوجين، ونشأ عنده وتربّى، وكان مختصّا عنده بالراحلة والدالة، وتولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو. ولمّا ولي بعده ابنه أبو تاشفين ولّاه على حجابته، وكان مهيبا فظّا غليظا، فقعد مقعد الفصل ببابه وأرف للناس سطوه [2] ، وزحزح المرشّحين عن رتب المماثلة إلى التعلّق بأهدابه، فاستولى على الأمر واستبدّ على السلطان. ثم حذر مغبة الملك وسوء العواقب، فاستأذن السلطان في الحج وركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله وشحنها بالعديد والعدّة والأقوات والمقاتلة، وأقام كاتبه الحاج محمد بن حواتة [3] بباب السلطان على رسم النيابة عنه، وأقلع سنة أربع وعشرين وسبعمائة فنزل بالإسكندرية وصحب الحاج من مصرفي جملة الأمير عليهم، ولقي في طريقه سلطان السودان من آل منسي موسى، واستحكمت بينهما المودّة. ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان. فلم يجد مكانه من السلطان ولم يزل من بعد ذلك يتنكر له وهو يسايسه بالمداراة والاستجداء إلى أن سخطه، فتقبّض عليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة وأودعه سجنه، فلم يزل معتقلا إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان، ومهلك السلطان بأيام، فكانت آية عجبا في تقارب مهلكهما واقتران سعادتهما ونحوسهما. وقد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو، وأفلت هلال هذا من عقابه بموته. والله بالغ حكمه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وجأجأ.
[2] وفي نسخة ثانية: وأرهب الناس سطوته.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حونته.(7/152)
الخبر عن انتزاء عثمان بن جرار على ملك تلمسان بعد نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان وعود الملك بذلك لبني زيان
كان بنو جرار هؤلاء من فضائل نيدوكسن [1] بن طاع الله وهم بنو جرار بن يعلى بن نيدوكسن، وكان بنو محمد بن زكراز يفضون إليهم من أوّل الأمر، حتى صار الملك إليهم واستبدوا به، فجرّوا على جميع الفصائل من عشائرهم ذيل الاحتقار. ونشأ عثمان بن يحيى بن محمد بن جرّار هذا من بينهم مرموقا بعين التجلّة والرئاسة، وسعى عند السلطان أبي تاشفين بأن في نفسه تطاولا للرئاسة فاعتقله مدّة. وفرّ من محبسه فلحق بملك المغرب السلطان سعيد فآثر محله وأكرم منزله، واستقرّ بمثواه فنسك وزهد. واستأذن السلطان عند تغلّبه على تلمسان في الحج بالناس فأذن له. وكان قائد الركب من المغرب إلى مكة سائر أيامه حتى استولى السلطان أبو الحسن على أعمال الموحّدين، وحشد أهل المغرب من زناتة والمغرب لدخول إفريقية اندرج عثمان هذا في جملته، واستأذنه قبيل القيروان في الرجوع إلى المغرب فأذن له ولحق بتلمسان فنزل على أميرها من ولد الأمير أبي عنّان، كان قد عقد له على عملها، ورشّحه لولاية العهد بولايتها، فازدلف إليه بما بثّه من الخبر عن أحوال أبيه، وتلطّف فيما أودع سمعه من تورّط أبيه في مهالك إفريقية، وإياسه من خلاصه، ووعده بمصير الأمر إليه على ألسنة الخبراء والكهّان. وكان يظنّ فيه أنّ لديه من ذلك علما، وعلى تفيئة ذلك كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. وظهر مصداق ظنّه وإصابة قياسه فأغراه بالتوثّب على ملك أبيه بتلمسان، والبدار إلى فاس لغلب منصور ابن أخيه أبي مالك عليها، كان استعمله جدّه أبو الحسن هنالك وأراه آية سلطانه وشواهد ملكه، وتحيّل عليه في إشاعة مهلك السلطان أبي الحسن وإلقائه على الألسنة حتى أوهم صدقه. وتصدّى الأمير أبو عنان للأمر، وتسايل إليه الفلّ من عساكر بني مرين، فاستلحق وبث العطاء وأعلن بابا لدعاء نفسه في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة وعسكر خارج تلمسان للنهوض إلى المغرب كما نذكره في أخبارهم ولما فصل دعا عثمان لنفسه وانتزى على كرسيه واتخذ الآلة وأعاد من ملك بني عبد الواد رسما لم
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية نيدوكسن وفي نسخة أخرى: تيدوكسن.(7/153)
يكن لآل جرار، واستبدّ أشهرا قلائل إلى أن خلص إليه من آل زيان من ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن من طمس معالمه، وخسف به وبداره، وأعاد أمر بني عبد الواد في نصابه حسبما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن دولة أبي سعيد وأبي ثابت من آل يغمراسن وما فيها من الأحداث)
كان الأمير أبو يحيى جدّهما من أكبر ولد يغمراسن بن زيّان، وكان ولي عهده بعد مهلك أخيه عمر الأكبر. ولما تغلّب يغمراسن على سجلماسة سنة إحدى وستين وستمائة استعمله عليها، فأقام بها حولا وولد له هناك ابنه عبد الرحمن. ثم رجع إلى تلمسان فهلك بها ونشأ عبد الرحمن بسجلماسة، ولحق بتلمسان بعد أمه [1] ، فأقام مع بني أبيه إلى أن غصّ السلطان بمكانه وغرّبه إلى الأندلس، فمكث بها حينا، وهلك في مرابطته بثغر قرمونة في بعض أيام الجهاد. وكان له بنون أربعة يوسف وعثمان والزعيم وإبراهيم، فرجعوا إلى تلمسان وأوطنوها أعواما حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على ملكهم، وأضاف إلى دولته دولتهم نقلهم من تلمسان إلى المغرب في جملة أعياصهم. ثم سألوا إذنه في المرابطة بثغور الأندلس التي في عمله، فأذن لهم وفرض لهم العطاء وأنزلهم بالجزيرة فكانت لهم بالجهاد مواقف مذكورة ومواطن معروفة. ولما استنفر السلطان أبو الحسن زناتة لغزو إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كانوا في جملته مع قومهم بني عبد الواد وفي رايتهم، ومكانهم معلوم بينهم. فلما اضطرب أمر السلطان أبي الحسن وتألّب عليه الكعوب من بني سليم أعراب إفريقية، وواضعوه الحرب بالقيروان، كان بنو عبد الواد أوّل النازعين عنه إليهم. فكانت النكبة وانحجز بالقيروان وانطلقت أيدي الأعراب على الضواحي وانتقض المغرب من سائر أعماله، أذنوا لبني عبد الواد في اللحاق بقطرهم ومكان عملهم، فمروا بتونس وأقاموا بها أياما، وخلص الملاء منهم نجيا في شأن أمرهم ومن يقدّمون عليهم فأصفقوا بعد الشورى على عثمان بن عبد الرحمن واجتمعوا إليه لعهده بهم يومئذ، وقد خرجوا به
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بعد أبيه.(7/154)
إلى الصحراء وأجلسوه بباب مصلى العيد من تونس على درقة. ثم ازدحموا عليه بحيث توارى شخصه عن الناس، يسلّمون عليه بالإمارة ويعطونه الصفقة على الطاعة والبيعة حتى استهلوا [1] جميعا. ثم انطلقوا به إلى رحالهم. واجتمع مغراوة أيضا إلى أميرهم عليّ بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل الّذي ذكرناه من قبل، وتعاهدوا على الصحابة إلى أعمالهم والمهادنة آخر الأيام واستئثار كل بسلطانه وتراث سلفه، وارتحلوا على تفيئة ذلك الى المغرب. وشنّت البوادي عليهم الغارات في كل وجه، فلم يظفروا منهم بقلامة ظفر: مثل ونيفن ونونة وأهل جبل بني ثابت. ولما مرّوا ببجاية وكان بها فلّ من مغراوة وتوجين، نزلوا بها منذ غلبوا على أعمالهم، وصاروا في جند السلطان فارتحلوا معهم. واعترضهم بجبل الزاب برابرة زواوة، فأوقعوا بهم وظهر من نجدتهم وبلائهم في الحروب ما هو معروف لأوليهم. ثم لحقوا بشلف فتلقّتهم قبائل مغراوة، وبايعوا لسلطانهم عليّ بن راشد فاستوسق ملكه.
وانصرف بنو عبد الواد والأميران أبو سعيد وأبو ثابت بعد أن أحكموا العقد [2] وأبرموا الوثاق مع عليّ بن راشد وقومه. وكان في طريقهم بالبطحاء أحياء سويد ومن معهم من أحلافهم قد نزلوا هناك مع شيخهم وترمار بن عريف، منهزمهم من تاسالت أمام جيوش السلطان أبي عنّان فأجفلوا من هنالك، ونزل بنو عبد الواد مكانهم، وكان في جملتهم جماعة من بني جرار بن نيدوكسن كبيرهم عمران بن موسى، ففرّ ابن عثمان بن يحيى بن جرار إلى تلمسان فعقد له على حرب أبي سعيد وأصحابه، فنزل الجند الذين خرجوا معه إلى السلطان أبي سعيد. وانقلب هو الى تلمسان والقوم في أثره، فأدرك بطريقة وقتل. ومرّ السلطان إلى البلد فثارت العامة بعثمان بن جرار فاستأمن لنفسه من السلطان فأمّنه ودخل إلى قصر الملك آخر جمادى الأخيرة من سنة تسع وأربعين وستمائة فاقتعد أريكته وأصدر أوامره واستوزر واستكتب، وعقد لأخيه أبي ثابت الزعيم على ما وراء بابه من متون [3] ملكهما، وعلى القبيل والحروب، واقتصر هو على ألقاب الملك وأسمائه ولزم الدعة. وتقبّض لأوّل دخوله على عثمان بن يحيى بن جرار فأودعه المطبق إلى أن مات في رمضان من سنته، ويقال قتيلا. وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حتى استكملوا جميعا.
[2] وفي نسخة ثانية: العهد.
[3] وفي نسخة ثانية: شئون.(7/155)
من أوّل غزوات السلطان أبي ثابت غزاته إلى كومية، وذلك أن كبيرهم إبراهيم بن عبد الملك كان شيخا عليهم منذ حين من الدهر، وكان ينتسب في بني عابد، وهم قوم عبد المؤمن بن عليّ من بطون كومية. فلما وقع الهرج بتلمسان حسب أنه لا ينجلي غمامه [1] وحدّثته نفسه بالانتزاء فدعا لنفسه، وأضرم بلاد كومية وما إليها من السواحل نارا وفتنة. فجمع له السلطان أبو ثابت ونهض إلى كومية فاستباحهم قتلا وسبيا واقتحم هنين، ثم ندرومة بعدها. وتقبّض على إبراهيم بن عبد الملك الخارج فجاء به معتقلا إلى تلمسان وأودعه السجن، فلم يزل به إلى أن قتل بعد أشهر.
وكانت أمصار المغرب الأوسط وثغوره لم تزل على طاعة السلطان أبي الحسن والقيام بدعوته، وبها حاميته وعمّاله وأقربها إلى تلمسان مدينة وهران، كان بها القائد عبد بن سعيد بن جانا من صنائع بني مرين، وقد ضبطها وثقفها وملأها أقواتا ورجلا وسلاحا، وملأ مرساها أساطيل، فكان أوّل ما قدّموه من أعمالهم النهوض إليه فنهض السلطان أبو ثابت بعد أن جمع قبائل زناتة والعرب ونزل على وهران وحاصرها أياما.
وكان في قلوب بني راشد أحلافهم مرض فداخلوا قائد البلد في الانقضاض على السلطان أبي ثابت ووعدوه الوفاء بذلك عند المناجزة، فبرز وناجزهم الحرب فانهزم بنو راشد وجرّوا الهزيمة على من معهم وقتل محمد بن يوسف بن عنّان بن فارس أخي يغمراسن بن زيّان من أكابر القرابة، وانتهب المعسكر ونجا السلطان أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن لقاء أبي ثابت مع الناصر ابن السلطان أبي الحسن وفتح وهران بعدها)
كان السلطان أبو الحسن بعد وقعة القيروان قد لحق بتونس، فأقام بها والعرب محاصرون له ينصبون الأعياص من الموحّدين لطلب تونس واحدا بعد آخر كما ذكرناه في أخبارهم. وبينما هو مؤمّل الكرّة ووصول المدد من المغرب الأقصى إذ بلغه الخبر بانتثار السكك أجمع، وبانتقاض ابنه وحافده، ثم استيلاء بني عنّان على المغرب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لا تتجلّى غيابته.(7/156)
كلّه، ورجوع بني عبد الواد ومغراوة وتوجين إلى ملكهم بالمغرب الأوسط ووفد عليه يعقوب بن علي أمير الزواودة، فاتفق مع عريف بن يحيى، أمير سويد وكبير مجلس السلطان، على أن يغرياه ببعث ابنه الناصر إلى المغرب الأوسط. للدعوة التي كانت قائمة بأمصاره في الجزائر ووهران وجبل وانشريس، وكان به نصر بن عمر بن عثمان ابن عطيّة قائما بدعوته، وأن يكون عريف بن يحيى في جملة الناصر لمكانه من السلطان ومكان قومه من الولاية. وكان ذلك من عريف تفاديا من المقام بتونس فأجاب إليه السلطان وبعثهم جميعا، ولحق الناصر ببلاد حصين فأعطوه الطاعة وارتحلوا معه، ولقيه العطاف والديالم وسويد فاجتمعوا إليه وتألّبوا معه، وارتحلوا يريدون منداس. وبينما الأمير أبو ثابت يريد معاودة الغزو إلى وهران إذ فجأه الخبر بذلك، فطيّر به إلى السلطان أبي عنّان وجاءه العسكر من بني مرين مددا صحبة أبي زيان ابن أخيه أبي سعيد، كان مستقرّا [1] بالمغرب منذ نهوضهم إلى القيروان وبعث عنه أبوه فجاء مع المدد من العساكر والمال، ونهض أبو ثابت من تلمسان أوّل المحرّم سنة خمسين وسبعمائة وبعث إلى مغراوة بالخبر فقعدوا عن مناصرته، ولحق ببلاد العطاف فلقيه الناصر هنالك في جموعه بوادي ورك آخر شهر ربيع الأوّل، فانكشفت جموع العرب وانهزموا، ولحق الناصر بالزاب فنزل على أبي مزني ببسكرة إلى أن أصحبه من رجالات سليم من أوصله إلى أبيه بتونس. ولحق عريف بن يحيى بالمغرب الأقصى، واحتل عند السلطان أبي عنّان بمكانه من مجلسهم، فحصل على البغية ورجع العرب كلّهم إلى طاعة أبي ثابت وخدمته، واستراب بصغير بن عامر بن إبراهيم فتقبّض عليه وأشخصه معتقلا مع البريد إلى تلمسان، فاعتقل بها إلى أن أطلق بعد حين. وقفل أبو ثابت إلى تلمسان فتلوم بها أياما، ثم نهض إلى وهران في جمادى من سنته، فحاصرها أياما، ثم افتتحها عنوة وعفا عن عليّ بن جانا [2] القائم بعد مهلك أخيه عبو وعلى من معه، وأطلق سبيلهم واستولى على ضواحي وهران وما إليها، ورجع إلى تلمسان وقد استحكمت العداوة بينه وبين مغراوة، وكان قد استجرّها ما قدّمناه من قعودهم عن نصره، فنهض إليهم في شوّال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مستنفرا.
[2] وفي نسخة ثانية: علي بن أجانا.(7/157)
من سنته والتقوا في عدوة وادي زهير [1] فاقتتلوا مليا. ثم انكشفت مغراوة ولحقوا بمعاقلهم واستولى أبو ثابت على معسكرهم وملك مازونة، وبعث ببيعتها إلى أخيه السلطان أبي سعيد. وكان على أثر ذلك وصول السلطان أبي الحسن من تونس، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن وصول السلطان أبي الحسن من تونس ونزوله بالجزائر وما دار بينه وبين أبي ثابت من الحروب ولحوقه بعد الهزيمة بالمغرب
كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان طال مقامه بتونس وحصار العرب إياه، واستدعاه أهل المغرب الأقصى وانتقض عليه أهل الجريد وبايعوا للفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، فأجمع الرحلة إلى المغرب وركب السفن من تونس أيام الفطر من سنة خمسين وسبعمائة فعصفت به الريح وأدركه الغرق، فغرق أسطوله على ساحل بجاية ونجا بدمائه إلى بعض الجزائر هنالك، حتى لحقه أسطول من أساطيله، فنجا فيه إلى الجزائر وبها حمو بن يحيى بن العسري قائده وصنيعة أبيه، فنزل عليه.
وبادر إليه أهل ضاحيتها من مليكش والثعالبة، فاستخدمهم وبثّ فيهم العطاء.
واتصل خبره بونزمار بن عريف وهو في أحياء سويد، فوفد عليه في مشيخة من قومه، ووفد معه نصر بن عمر بن عثمان صاحب جبل وانشريس من بني تيغرين، وعديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي الثائر بنواحي المرية من ولد عبد القوى، فأعطوه الطاعة واستحثوه للخروج معهم، فردّهم للحشد، فجمعوا من إليهم من قبائل العرب وزناتة. وبينما الأمير أبو ثابت ببلاد مغراوة محاصرا لهم في معاقلهم إذ بلغه الخبر بذلك في ربيع سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فعقد السلم معهم ورجع إلى قتال هؤلاء، فأخذ على منداس وخرج إلى السرسو قبلة وانشريس.
وأجفل أمامه ونزمار وجموع العرب الذين معه، ولحق به هنالك مدد السلطان أبي عنان قائدهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي، فاتبع آثار العرب وشرّدهم.
ولحقت أحياء حصين بمعاقلهم من جبل تيطرى، ثم عطف على المرية ففتحها وعقد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وادي رهيو.(7/158)
عليها لعمر بن موسى الجلولي من صنائعهم. ثم نهض إلى حصين فاقتحم عليهم الجبل فلاذوا بالطاعة وأعطوا أبناءهم رهنا عليها، فتجاوزهم إلى وطاء حمزة فدوّخها، واستخدم قبائلها من العرب والبربر، والسلطان أثناء ذلك مقيم بالجزائر. ثم قفل أبو ثابت إلى تلمسان وقد كان استراب بيحيى بن رحو وعسكره من بني مرين. وأنهم داخلوا السلطان أبا الحسن وبعث فيه إلى السلطان أبي عنّان، فأداله بعيسى بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب فبعثه قائدا على الحصة المرينية، فتقبّض على يحيى بن رحو ولحقوا مع أبي ثابت بتلمسان. ثم أجاز إلى المغرب وأوعز السلطان أبو الحسن إلى ابنه الناصر مع أوليائه من زناتة والعرب فاستولى على المرية وقتل عثمان بن موسى الجلولي. ثم تقدّم إلى مليانة فملكها، وإلى تيمزوغت كذلك.
وجاء على أثره السلطان أبو الحسن أبوه، وقد اجتمعت إليه الجموع من زغبة ومن زناتة ومن عرب إفريقية سليم ورباح مثل: محمد بن طالب بن مهلهل، ورجال من عشيرته، وعمر بن عليّ بن أحمد الزواودي، وأخيه أبي دينار، ورجالات من قومهما. وزحف على هذه التعبية وابنه الناصر أمامه، فأجفل عليه بن راشد وقومه مغراوة عن بلادهم إلى البطحاء، وطيّر الخبر إلى أبي ثابت فوافاه في قومه وحشوده، وزحفوا جميعا إلى السلطان أبي الحسن وقومه، فالتقى الجمعان بتيمغزين من شلف. وصابروا مليا، ثم انكشف السلطان أبو الحسن وقومه، وطعن ولده الناصر بعض فرسان مغراوة وهلك آخر يومه. وقتل محمد بن عليّ بن العربيّ قائد أساطيله وابن البواق والقبائلي كاتباه. واستبيح معسكره وما فيه من متاع وحرم، وخلص بناته إلى وانشريس، وبعث بهن أبو ثابت إلى السلطان أبي عنّان بعد استيلائه على الجبل. وخلص السلطان أبو الحسن إلى أحياء سويد، بالصحراء فنجا به ونزمار بن عريف إلى سجلماسة كما يأتي ذكره في أخباره، ودوّخ أبو ثابت بلاد بني توجين وقفل إلى تلمسان والله تعالى أعلم.
الخبر عن حروبهم مع مغراوة واستيلاء أبي ثابت على بلادهم ثم على الجزائر ومقتل عليّ بن راشد بتنس على أثر ذلك
كان بين هذين الحيّين من عبد الواد ومعراوة فتن قديمة سائر أيامهم، قد ذكرنا الكثير(7/159)
منها في أخبارهم. وكان بنو عبد الواد قد غلبوهم على أوطانهم حتى قتل راشد بن محمد في جلائه أمامهم بين زواوة. ولما اجتمعوا بعد نكبة القيروان على أميرهم علي بن راشد وجاءوه من إفريقية إلى أوطانهم مع بني عبد الواد، ولم يطيعوهم حينئذ أن يغلبوهم رجعوا حينئذ إلى توثيق العهد وتأكيد العقد [1] فأبرموه وقاموا على الموادعة والتظاهر على عدوهم، وعروق الفتنة تنبسط من كل منهم [2] . ولما جاء الناصر من إفريقية وزحف إليه أبو ثابت، قعد عنه علي بن راشد وقومه، فاعتدّها عليهم وأسرّها في نفسه. ثم اجتمع بعد ذلك للقاء السلطان أبي الحسن حتى انهزم ومضى إلى المغرب. فلما رأى أبو ثابت أنه قد كفى عدوّه الأكبر وفرغ إلى عدوّه الأصغر نظر في الانتقاض عليهم. فبينما هو يروم أسباب ذلك إذ بلغه الخبر أنّ بعض رجالات بني كمين [3] من مغراوة جاء إلى تلمسان فاغتالوه فحمى له أنفه وأجمع لحربهم.
وخرج من تلمسان فاتحة اثنتين وخمسين وسبعمائة وبعث في أحياء زغبة من بني عامر وسويد، فجاءوه بفارسهم وراجلهم وظعائنهم، وزحف إلى مغراوة فخافوا من لقائه، وتحصّنوا بالجبل المطل على تنس، فحاصرهم فيه أياما اتصلت فيها الحروب وتعدّدت الوقائع. ثم ارتحل عنهم فجال في نواحي البلد، ودوّخ أقطارها، وأطاعته مليانة والمرية وبرشك وشرشال. ثم تقدّم بجموعه إلى الجزائر فأحاط بها وفيها فلّ بني مرين وعبد الله بن السلطان أبي الحسن، تركه هناك صغيرا في كفالة علي بن سعيد ابن جانا، فغلبهم على البلد وأشخصهم في البحر إلى المغرب، وأطاعته الثعالبة ومليكش وقبائل حصين. وعقد على الجزائر لسعيد بن موسى بن علي الكردي، ورجع إلى مغراوة فحاصرهم بمعقلهم الأوّل بعد أن انصرفت العرب إلى مشاتيها، فاشتدّ الحصار على مغراوة وأصاب مواشيهم العطش، فانحطت دفعة واحدة من الجبل تطلب المورد فأصابهم الدهش. ونجا ساعتئذ عليّ بن راشد إلى تنس، فأحاط به أبو ثابت أياما. ثم اقتحمها عليه غلابا منتصف شعبان من سنته، فاستعجل المنية وتحامل على نفسه فذبح نفسه، وافترقت مغراوة من بعده وصارت أوزاعا في القبائل
__________
[1] وفي نسخة بولاق المصرية: توثيق العقد وتأكيد العهد.
[2] وفي نسخة أخرى: تنبض في كل منهم.
[3] وفي نسخة أخرى: بني كمي.(7/160)
وقفل أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان من حركة السلطان أبي عنّان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي عنان على تلمسان وانقراض أمر بني عبد الواد ثانية
لما لحق السلطان أبو الحسن بالمغرب، وكان من شأنه مع ابنه أبي عنّان إلى أن هلك بجبل هنتاتة على ما نذكره في أخبارهم. فاستوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنّان وفرغ لعدوّه وسما لاسترجاع الممالك التي ابتزّها أبوه وانتزعها ممن توثّب عليه، وكان قد بعث إليه عليّ بن راشد من مكان امتناعه من جبل تنس يسأل منه الشفاعة، ونذر بذلك أبو سعيد وأخوه، فخرج أبو ثابت وحشد القبائل من زناتة والعرب منتصف ذي القعدة، ونزل بوادي شلف. واجتمع الناس إليه وواصلته هناك بيعة تدلس في ربيع من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. غلب عليها الموحدون جانا الخراساني [1] من صنائعه، وبلغه من مكانه ذلك زحف السلطان أبي عنّان فرجع إلى تلمسان، ثم خرج إلى المغرب. وجاء على أثره أخوه السلطان أبو سعيد في العساكر من زناتة ومعه بنو عامر من زغبة والفل من سويد، إذ كان جمهورهم قد لحقوا بالمغرب لمكان عريف بن يحيى وابنه من ولاية بني مرين، فزحفوا على هذه التعبية وزحف السلطان أبو عنّان في أمم المغرب من زناتة والعرب المعقل والمصامدة وسائر طبقات الجنود والحشد، وانتهوا جميعا إلى انكاد من بسيط وجدة، فكان اللقاء هنالك آخر ربيع الثاني من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة واجتمع بنو عبد الواد على صدمة العساكر وقت القائلة، وبعد ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم، فأعجلوهم عن ترتيب المصاف. وركب السلطان أبو الحسن لتلافي الأمر، فاجتمع إليه أوشاب من الناس وانفض [2] سائر المعسكر ثم زحف إليهم فيمن حضره وصدقوهم القتال، فاختلّ مصافهم ومنحوا أكتافهم وخاضوا بحر الظلماء.
واتبع بنو مرين آثارهم وتقبّض على أبي سعيد ليلتئذ مقيدا أسيرا إلى السلطان أبي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: غلب عليها الموحدين جابر الخراساني.
[2] وفي نسخة بولاق المصرية: وانتقض.(7/161)
عنّان، فأحضره بمشهد الملأ ووبخه. ثم نقل إلى محبسه وقتل لتاسعة من ليالي اعتقاله. وارتحل السلطان أبو عنّان إلى تلمسان، ونجا الزعيم أبو ثابت بمن معه من فلّ بني عبد الواد ومن خلص إليه منهم ذاهبا إلى بجاية ليجد في إيالة الموحدين وليجة من عدوه، فبيّته زواوة في طريقه وألدّ عن أصحابه وأرجل عن فرسه [1] وذهب راجلا عاريا ومعه رفقاء من قومه منهم أبو زيّان محمد ابن أخيه السلطان أبي سعيد، وأبو حمو وموسى ابن أخيهم يوسف ابن أخيه، ووزيرهم يحيى بن داود بن فكن [2] وكان السلطان أبو عنان أوعز إلى صاحب بجاية يومئذ المولى أبي عبيد الله حافد مولانا السلطان أبي بكر بأن يأخذ عليهم الطرق، ويذكي في طلبهم العيون، فعثر عليهم بساحة البلد وتقبّض على الأمير أبي ثابت الزعيم وابن أخيه محمد بن أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود وأدخلوا إلى بجاية. ثم خرج صاحبها الأمير أبو عبد الله إلى لقاء السلطان أبي عنّان، واقتادهم في قبضة أسره فلقيه بمعسكره من ظاهر المرية [3] ، فأكرم وفادته وشكر صنيعه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان فدخلها في يوم مشهود. وحمل يومئذ أبو ثابت ووزيره يحيى على جملين يتهاديان بهما بين سماطي ذلك المحمل، فكان شأنهما عجبا. ثم سيقا ثاني يومهما الى مصرعهما بصحراء البلد، فقتلا قعصا بالرماح وانقرض ملك آل زيّان، وذهب ما أعاده لهم بنو عبد الرحمن هؤلاء من الدولة بتلمسان إلى أن كانت لهم الكرّة الثالثة على يد أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن المتولّي لهذا العهد على ما سنذكره ونستوفي من أخباره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن دولة السلطان أبى حمو الأخير مديل الدولة بتلمسان في الكرّة الثالثة لقومه وشرح ما كان فيها من الأحداث لهذا العهد
كان يوسف بن عبد الرحمن هذا في إيالة أخيه السلطان أبي سعيد بتلمسان هو
__________
[1] وفي نسخة بولاق المصرية: فبيتته زواوة في طريقه، وأبعد عن صحبه وأرجل عن فرسه.
[2] وفي نسخة ثانية: مكن.
[3] وفي نسخة ثانية: المدية.(7/162)
أخوه [1] أبو حمو موسى، وكان متكاسلا عن طلب الظهور، متجافيا عن التهالك في طلب العزّ جانحا إلى السكون ومذاهب أهل الخير، حتى إذا عصفت بدولتهم رياح بني مرين، وتغلّب السلطان أبو عنان عليهم وابتزّهم ما كان بيدهم من الملك، وخلص ابنه أبو حمو موسى مع عمه أبي ثابت إلى الشرق، وقذفت النوى بيوسف مع أشراف قومه إلى المغرب فاستقرّ به. ولما تقبّض على أبي ثابت بوطن بجاية أغفل أمر أبي حمو من بينهم ونبت عنه العيون، فنجا إلى تونس ونزل بها على الحاجب أبي محمد بن تافراكين، فأكرم نزله وأحلّه بمكان أعياص الملك من مجلس سلطانه، ووفر جرايته، ونظم معه آخرين من فل قومه، وأوعز السلطان أبو عنان إليه بإزعاجهم عن قرارهم في دولته، فحمى لها أنفه وأبى عن الهضيمة لسلطانه، فأغرى ذلك أبا عنّان بمطالبته، وكانت حركته إلى بلاد إفريقية ومنابذة العرب من رياح وسليم لعهده ونقضهم لطاعته كما نستوفي أخباره.
ولما كانت سنة تسع وخمسين وسبعمائة قبل مهلكه اجتمع أمر الزواودة من رياح إلى الحاجب أبي محمد بن تافراكين، ورغّبوه في لحاق أبي حمو موسى بن يوسف بالعرب من زغبة، وأنهم ركابه لذلك ليجلب على نواحي تلمسان، ويجعل السلطان أبي عنّا شغلا عنهم. وسألوه أن يجهّز عليه بعض آلة السلطان. ووافق ذلك رغبة صغير بن عامر أمير زغبة في هذا الشأن، وكان يومئذ في أحياء يعقوب بن عليّ وجواره، فأصلح الموحدون شأنه بما قدروا عليه ودفعوه إلى مصاحبة صغير وقومه من بني عامر، وارتحل معهم من الزواودة عثمان بن سبّاع ومن أحلافهم بنو سعيد دعّار بن عيسى بن رحاب وقومه ونهضوا بجموعهم يريدون تلمسان وأخذوا على القفر ولقيهم أثناء طريقهم الخبر عن مهلك السلطان أبي عنّان فقويت عزائمهم على ارتجاع ملكهم، ورجع عنهم صولة بن يعقوب. وأغذّ السير إلى تلمسان وبها الكتائب المجمهرة من بني مرين، واتصل خبر أبي حمو بالوزير الحسن بن عمر القائم بالدولة من بعد مهلك السلطان أبي عنّان، والمتغلّب على ولده السعيد من بعده، فجهّز المدد إلى تلمسان من الحامية والأموال، ونهض أولياء الدولة من أولاد عريف بن يحيى أمراء البدو من المغرب في قومهم من سويد ومن إليهم من العرب لموافقة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هو وولده أبو حمو.(7/163)
السلطان أبي حمو وأشياعه، فانفضّ جمعهم وغلبوا على تلك المواطن واحتل السلطان أبو حمو وجموعه بساحة تلمسان، وأناخوا ركابهم عليها، ونازلوها ثلاثا، ثم اقتحموها في صبيحة الرابع، وخرج ابن السلطان أبي عنان الّذي كان أميرا عليها في لمّة من قومه، فنزل على صغير بن عامر أمير القوم، فأحسن تجلّته وأصحبه من عشيرته إلى حضرة أخيه [1] ، ودخل السلطان أبو حمو تلمسان لثمان خلون من الربيع الأوّل سنة ستين وسبعمائة واحتلّ منها بقصر ملكه، واقتعد أريكته، وبويع بيعة الخلافة، ورجع إلى النظر في تمهيد قواعد ملكه وإخراج بني مرين من أمصار مملكته. والله أعلم.
(الخبر عن إجفال أبي حمو عن تلمسان أمام عساكر المغرب ثم عوده إليها)
كان القائم بأمر المغرب بعد السلطان أبي عنّان وزيره الحسن بن عمر كافل ابنه السعيد الّذي أخذ له البيعة على الناس، فاستبدّ عليه وملك أمره، وجرى على سياسة السلطان الهالك واقتفى أثره في الممالك الدانية والقاصية في الحماية والنظر لهم وعليهم. ولما اتصل به خبر تلمسان وتغلّب أبي حمو عليها قام في ركائبه وشاور الملأ في النهوض. إليه، فأشاروا عليه بالقعود وتسريح الجنود والعساكر، فسرّح لها ابن عمّه مسعود بن رحّو بن علي بن عيسى بن ماساي بن فودود [2] وحكمه في اختيار الرجال واستجادة السلاح وبذل الأموال واتخاذ الآلة، فزحف إلى تلمسان واتصل الخبر بالسلطان أبي حمّو وأشياعه من بني عامر، فأفرج عنها ولحق بالصحراء. ودخل الوزير مسعود بن رحّو تلمسان وخالفه السلطان أبي حمو إلى المغرب، فنزل بسيط أنكاد. وسرّح إليهم الوزير مسعود بن رحّو ابن عمه عامر بن عبد بن ماساي في عسكر من كتائبه ووجوه قومه، فأوقع بهم العرب وأبو حمّو ومن معهم واستباحوهم.
وطار الخبر إلى تلمسان واختلفت أهواء من كان بها من بني مرين، وبدا ما كان في قلوبهم من المرض لتغلّب الحسن بن عمر على سلطانهم، ودولتهم فتحيّزوا زرافات
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبيه.
[2] وفي نسخة ثانية: فردود.(7/164)
لمبايعة بعض الأعياص من آل عبد الحق. وفطن الوزير مسعود بن رحّو لما دبّروه، وكان في قلبه مرض من ذلك فاغتنمها وبايع لمنصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق كبير الأعياص المنفرد بالتجلّة. وارتحل به وبقومه من بني مرين إلى المغرب، وتجافى عن تلمسان وشأنها واعترضه عرب المعقل في طريقهم إلى المغرب، فأوقع بهم بنو مرين وصمّموا لصليهم، ورجع السلطان أبو حمّو إلى تلمسان، واستقرّ بحضرته ودار ملكه، ولحق به عبد الله بن مسلم فاستوزره وأسام إليه فاشتدّ به أزره وغلب على دولته كما نذكره إلى أن هلك، والبقاء للَّه وحده.
الخبر عن مقدم عبد الله بن مسلم من مكان عمله بدرعة ونزوله من ايالة بني مرين إلى أبي حمو وتقليده إياه الوزارة وذكر أوليته ومصاير أموره
كان عبد الله بن مسلم من وجوه بني زردال من بني بادين إخوة بني عبد الواد وتوجين ومصاب، إلا أن بني زردال اندرجوا في بني عبد الواد لقلّتهم واختلطوا بنسبهم، ونشأ عبد الله بن مسلم في كفالة موسى بن علي لعهد السلطان أبي تاشفين مشهورا بالبسالة والإقدام، طار له بها ذكر وحسن بلاؤه في حصار تلمسان. ولما تغلّب السلطان أبو الحسن علي بني عبد الواد وابتزهم ملكهم استخدمهم، وكان ينتقي أولي الشجاعة والإقدام منهم، فيرمي بهم ثغور المغرب، ولما اعترض بنو عبد الواد ومرّ به عبد الله هذا ذكر له شأنه ونعت ببأسه، فبعثه إلى درعة واستوصى عامله به، فكان له عنه غناء في مواقفه مع خوارج العرب وبلاء حسن، جذب ذلك بضبعه، ورقى عند السلطان منزلته، وعرّفه على قومه.
ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان ومرج أمر المغرب، وتوثّب أبو عنّان على الأمر، وبويع بتلمسان واستجمع حافده منصور بن أبي مالك عبد الواحد لمدافعته، وحشد حامية الثغور للقائه، وانفضّت جموعه بتازى وخلص إلى البلد الجديد ونازلة، وكان عبد الله بن مسلم في جملته. ولما نازلة السلطان أبو عنّان واتصلت الحرب بينهم أياما، كان له فيها ذكر. ولما رأى أنه أحيط بهم، سابق الناس إلى السلطان أبي عنّان فرأى سابقيته وقلّده عمل درعة، فاضطلع بها مدّة(7/165)
خلافته وتأكدت له أيام ولايته مع عرب المعقل وصلة وعهد ضرب بهما في مواخاتهم بسهم. وكان السلطان أبو عنّان عند خروج أخيه أبي الفضل عليه لحقه بجبل ابن حميدي من معاقل درعة، أوعز إليه بأن يعمل الحيلة في القبض عليه، فداخل ابن حميدي ووعده وبذل له فأجاب وأسلمه. وقاده عبد الله بن مسلم أسيرا إلى أخيه السلطان أبي عنّان فقتله. ولما استولى السلطان أبو سالم رفيق أبي الفضل في منوي اغترابهما بالأندلس على بلاد المغرب من بعد مهلك السلطان أبي عنّان، وما كان أثره من الخطوب، وذلك آخر سنة ستين وسبعمائة خشيه ابن مسلم على نفسه، ففارق ولايته ومكان عمله وداخل أولاد حسين أمراء المعقل في النجاة به إلى تلمسان فأجابوه، ولحق بالسلطان أبي حمو في ثروة من المال وعصبة من العشيرة وأولياء من العرب، فسرّ بمقدمه وقلّده لحينه وزارته وشدّ به أواخي سلطانه، وفوّض إليه تدبير ملكه، فاستقام أمره وجمع القلوب على طاعته وجاء بالمعقل من مواطنهم الغريبة، فأقبلوا عليه وعكفوا على خدمته. وأقطعهم مواطن تلمسان وآخى بينهم وبين زغبة، فعلا كعبه واستفحل أمره، واستقامت رياسته إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان ورجوعه الى المغرب بعد أن ولى عليها أبو زيّان حافد السلطان أبي تاشفين وما آل أمره
لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثر الخوارج على الدولة، سما إلى امتداد ظلّه إلى أقصى تخوم زناتة كما كان لأبيه وأخيه، وحرّكه إلى ذلك ما كان من فرار عبد الله بن مسلم إلى تلمسان بحيالة [1] عمله، فأجمع أمره على النهوض إلى تلمسان وعسكر بظاهر فاس منتصف إحدى وستين وسبعمائة وبعث في الحشود فتوافت ببابه واكتملت. ثم ارتحل إليها، وبلغ الخبر الى السلطان أبي حمو ووزيره عبد الله ابن مسلم فنادوا في العرب من زغبة والمعقل كافة فأجابوهم إلّا شرذمة قليلة من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بجباية.(7/166)
الأحلاف، وخرجوا بهم إلى الصحراء ونازل حللهم بعسكره. ولما دخل السلطان أبو سالم وبنو مرين تلمسان خالفوهم إلى المغرب فنازلوا وطاط وبلاد ملويّة وكرسف، وحطّموا زروعها وانتسفوا أقواتها وخرّبوا عمرانها. وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من صنيعهم، فأهمّه أمر المغرب وأجلاب المفسدين عليه. وكان في جملته من آل يغمراسن محمد بن عثمان ابن السلطان أبي تاشفين ويكنى بأبي زيّان، ويعرف بالفنز [1] ومعناه العظيم الرأس فدفعه للأمر وأعطاه الآلة وكتب له كتيبة من توجين ومغراوة كانوا في جملته، ودفع إليه أعطياتهم وأنزله بقصر أبيه بتلمسان وانكفأ راجعا إلى حضرته، فأجفلت العرب والسلطان أبو حمو أمامه وخالفوه إلى تلمسان فأجفل عنها أبو زيان وتحيّز إلى بني مرين بأمصار الشرق من البطحاء ومليانة ووهران وأوليائهم من بني توجين وسويد من قبائل زغبة ودخل السلطان أبو حمو ووزيره عبد الله بن مسلم إلى تلمسان، وكان مقير [2] بن عامر هلك في مذهبهم ذلك. ثم خرجوا فيمن إليهم من كافة عرب المعقل وزغبة في أتباع أبي زيّان ونازلوه بجبل وانشريس فيمن معه إلى أن غلبوا عليه وانفضّ جمعه، ولحق بمكانه من إيالة بني مرين بفاس.
ورجع السلطان أبو حمو إلى معاقل وطنه يستنقذها من ملكة بني مرين، فافتتح كثيرها وغلب على مليانة والبطحاء. ثم نهض إلى وهران ونازلها أياما واقتحمها غلابا، واستلحم بها من بني مرين عددا. ثم غلب على المرية والجزائر، وأزعج عنها بني مرين فلحقوا بأوطانهم. وبعث رسله إلى السلطان أبي سالم فعقد معه المهادنة [3] ووضعوا أوزار الحرب. ثم كان مهلك السلطان أبي سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده عمر بن عبد الله بن علي من أبناء وزرائهم مبايعا لولد السلطان أبي الحسن واحدا بعد آخر كما نذكره عند ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد من المغرب لطلب ملكه وما كان من أحواله
كان أبو زيّان هذا، وهو محمد ابن السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: القبى وفي نسخة ثانية الفتى.
[2] وفي نسخة أخرى: صغير.
[3] وفي نسخة أخرى: السلم.(7/167)
الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، لما تقبّض عليه مع عمه أبي ثابت ووزيرهم يحيى بن داود بجاية من أعمال الموحّدين، وسيقوا إلى السلطان أبي عنّان، فقتل أبا ثابت ووزيره واستبقى محمدا هذا وأودعه السجن سائر أيامه، حتى إذا هلك واستوسق أمر المغرب لأخيه أبي سالم من بعد خطوب وأهوال يأتي ذكرها، امتنّ عليه السلطان أبو سالم وأطلقه من الاعتقال ونظمه بمجلس ملكه في مراتب الأعياص وأعدّه لمزاحمة ابن عمه. وجرت بينه وبين السلطان أبي حمو سنة اثنتين وستين وسبعمائة بين يدي مهلكه نكراء بعد مرجعه من تلمسان، ومرجع أبي زيّان حافد السلطان أبي تاشفين من بعده، تحقق السعي فيما نصبه له، فسما له أمل في أبي زيّان هذا أن يستأثر بملك أبيه، ورأى أن يحسن الصنيع فيه فيكون فيئة له، فأعطاه الآلة ونصبه للملك، وبعثه إلى وطن تلمسان، وأتى إلى تازى ولحقه هنالك الخبر بمهلك السلطان أبي سالم. ثم كانت فتن وأحداث نذكرها في محلّها وأجلب عبد الحليم ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق على فاس، واجتمع إليه بنو مرين ونازلوا البلد الجديد. ثم انفضّ جمعهم ولحق عبد الحليم بتازى كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ورجا من السلطان أبي حمّو المظاهرة على أمره فراسله في ذلك واشترط عليه كبح ابن عمه أبي زيّان فاعتقله مرضاة له، ثم ارتحل إلى سجلماسة كما نذكره بعد ونازلة في طريقه أولاد حسين من المعقل بحللهم وأحيائهم فاستغفل أبو زيان ذات يوم الموكّلين به، ووثب على فرس قائم حذاءه وركضه من معسكر عبد الحليم إلى حلّة أولاد حسين مستجيرا بهم، فأجاروه. ولحق ببني عامر على حين غفلة، وجفوة كانت بين السلطان أبي حمو وبين خالد بن عامر أميرهم ذهب لها مغاضبا، فأجلب به على تلمسان. وسرّح إليهم السلطان أبو حمو عسكرا فشرّدهم عن تلمسان. ثم بذل المال لخالد بن عامر على أن يقصيه إلى بلاد رياح، ففعل وأوصله إلى الزواودة فأقام فيهم. ثم دعاه أبو الليل بن موسى شيخ بني يزيد وصاحب وطن حمزة وبني حسن وما إليه، ونصبه للأمر مشاقة [1] وعنادا للسلطان أبي حمو. ونهض إليه الوزير عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد وحشود العرب وزناتة فأيقن أبو الليل بالغلب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مشافهة.(7/168)
وبذل له الوزير المال وشرط له التجافي عن وطنه على أن يرجع عن طاعة أبي زيّان ففعل، وانصرف إلى بجاية ونزل بها على المولى أبي إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى أكرم نزل، ثم وقعت المراسلة بينه وبين السلطان أبي حمو وتمت المهادنة وانعقد السلم على إقصاء أبي زيان عن بجاية المتاخمة لوطنه، فارتحل إلى حضرة تونس. وتلقّاه الحاجب أبو محمد بن تافراكين، قيوم دولة الحفصيّين لذلك العهد من المبرّة والترحيب وإسناء الجراية له، وترفيع المنزلة بما لم يعهد لمثله من الأعياص.
ثم لم تزل حاله على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره ان شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم أبي زيّان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب الى تلمسان لطلب ملكها وما كان من أحواله
كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين وشيعة من عهد عريف بن يحيى مع السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنّان، فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوّهم من بني مرين مع طاغية [1] الدولة لبني عامر أقتالهم، فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام، وكان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسف في جوار بني مرين، مذ مهلك السلطان أبي عنّان، وكان مرموقا بعين التجلّة يرجعون إلى رأيه ويستمعون إلى قوله. وأهمه شأن إخوانه في موطنهم ومع أقتالهم بني عامر، فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها، وحمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرّح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب لملكه، ووافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمو وأحمد بن رحّو بن غانم كبير أولاد حسن من المعقل بعد أن كانوا فيئة له ولوزيره عبد الله بن مسلم، فاغتنمها عمر بن عبد الله وخرج أبو زيّان محمد بن عثمان سنة خمس وستين وسبعمائة فنزل في حلل المعقل بملوية. ثم نهضوا به إلى وطن تلمسان وارتاب السلطان أبو حمو بخالد بن عمر أمير بني عامر فتقبّض عليه وأودعه المطبق [2] ، ثم سرّح وزيره عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: صاغية.
[2] سجن تحت الأرض.(7/169)
والعرب، فأحسن دفاعهم وانفضّت جموعهم ورحلهم إلى ناحية الشرق، وهو في اتباعهم إلى أن نزلوا المسيلة من وطن رياح، وصاروا في جوار الزواودة. ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون الّذي عاود أهل العمران عامئذ من بعد ما أهلكهم سنة تسع وأربعين وسبعمائة قبلها، فانكفأ به ولده وعشيرته راجعين، وهلك في طريقه وأرسلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها. وخرج السلطان أبو حمو إلى مدافعة عدوّه وقد فتّ مهلك عبد الله في عضده. ولما انتهى إلى البطحاء وعسكر بها، ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب وأطلت راياته على المعسكر فداخلهم الرعب وانفضوا، وأعجلهم الأمر عن أبنيتهم وأزوادهم، فتركوها وانفضّوا وتسلّل أبو حمو يبغي النجاة إلى تلمسان واضطرب أبو زيّان فسطاطه بمكان معسكره، وسابقه أحمد بن رحّو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك وكرّ إليه السلطان أبو حمّو فيمن معه من خاصّته، وصدقوه الدفاع فكبا به فرسه وقطع رأسه. ولحق السلطان أبو حمو بحضرته وارتحل أبو زيان والعرب في اتباعه إلى أن نازلوه بتلمسان أياما. وحدثت المنافسة بين أهل المعقل وزغبة، واسف زغبة استبداد المعقل عليهم وانفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم، فاغتنمها أبو حمّو وأطلق أميرهم عامر بن خالد من محبسه، وأخذ عليه الموثق من الله ليخذلنّ الناس عنه ما استطاع، وليرجعنّ بقومه عن طاعة أبي زيّان وليفرقنّ جموعه، فوفّى له بذلك العهد ونفس عليه المخنق وتفرّقت أحزابهم ورجع أبو زيّان إلى مكانه من إيالة بني مرين واستقام أمر السلطان أبي حمّو وصلحت دولته بعد الالتياث، إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة السلطان أبي حمو على ثغور المغرب)
كان ونزمار بن عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو، وبعث الأعياص عليه واحدا بعد واحد، لما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدّمناه. وكان منزله كرسيف من ثغور المغرب. وكان جاره محمد بن زكراز [1] كبير بني علي من بني ونكاسن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زكدان.(7/170)
الموطنين بجبل دبدو، وكانت أيديهما عليه واحدة فلما سكن غرّب الثوار عنه وأزاحهم عن وطنه إلى المغرب، وانعقد سلمه معهم، رأى أن يعتور هذين الأميرين في ثغورهما، فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست وستين وسبعمائة وانتهى إلى دبدو وكرسيف، وأجفل ونزمار وامتنع بمعاقل الجبال، فانتهب أبو حمّو الزروع وشمل بالتخريب والعيث سائر النواحي. وقصد محمد بن زكراز أيضا في معقل دبدو فامتنع بحصنه الّذي اتخذه هناك، وعاج عليه أبو حمّو بركابه، وجاس خلال وطنه، وشمل بالتخريب والعيث نواحي بلده، وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقد عظمت في تخوم بني مرين وثغورهم نكايته، وثقلت عليهم وطأته، وانعقدت بينهما بعد بدء المهادنة والسلم. فانصرفت عزائمه إلى بلاد إفريقية، فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل ونكبته عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة السلطان أبي حمّو إلى بجاية ونكبته عليها)
كان صاحب بجاية المولى الأمير أبو عبد الله لما استولى عليها وعادت إليه العودة الثانية سنة خمس وستين وسبعمائة كما ذكرناه في أخباره، زحف إلى تدلس، فغلب عليها بني عبد الواد، وأنزل بها عامله وحاميته. ثم أظلم الجوّ بينه وبين صاحب قسنطينة السلطان أبي العباس ابن عمّه الأمير أبي عبد الله لما جرّته بينهما المتاخمة في العمالات، فنشأت بينهما فتن وحروب شغل بها عن حماية تدلس، وألحت عليها عسكر بني عبد الواد بالحصار. وأحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبي حمّو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس، فتسلّمها أبو حمو وأنزل بها حاميته. وعقد معه السلم وأصهر إليه في ابنته فأجابه، وزفّها إليه فتلقّاها قبلة زواوة بآخر عملهم من حدود بجاية. وفرغ صاحب بجاية لشأنه، وكان أثناء الفتنة معه قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمّه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس، ويشغل به السلطان أبا حمو عن فتنته.
وكان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه إلى أن دسّ إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد(7/171)
بتلمسان بالإجلاب على السلطان أبي حمو. ووعدوه عن أنفسهم الجنوح معه، فصغى إليها واعتدّها وارتحل يريد تخوم تلمسان وعمل بجاية. ومرّ بقسنطينة فتجافى عن الدخول إليها، وتنكّر لصاحبها، وبلغ خبره السلطان أبا العبّاس صاحبها يومئذ فأجمع أمره على صدّه عن وجهه، وحبسه بقسنطينة واتصلت الفتنة بينه وبين ابن عمه صاحب بجاية، وكان شديد الوطأة على أهل بلده مرهف الحدّ لهم بالعقاب الشديد، حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يبلغ سنتين في ملكه، فاستحكمت النفرة وساءت الملكة، وعضل الداء وفزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العبّاس باستنفاذهم من ملكة العسف والهلاك، بما كان أتيح له من الظهور على أميرهم، فنهض إليها آخر سنة سبع وستين وسبعمائة وبرز الأمير أبو عبد الله للقائه وعسكر بنامروا [1] الجبل المطل على تاكردت [2] وصبحه السلطان أبو العبّاس بمعسكره هنالك، فاستولى عليه وركّض هو فرسه ناجيا بنفسه. ومرّت الخيل [3] تعادي في أثره حتى أدركوه، فأحاطوا به وقتلوا قعصا بالرماح عفا الله عنه. وأجاز السلطان أبو العبّاس إلى البلد فدخلها منتصف يوم العشرين من شعبان، ولاذ الناس به من دهش الواقعة وتمسّكوا بدعوته، وآتوه طاعتهم، فانجلت القيامة واستقام الأمر، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فأظهر الامتعاض لمهلكه والقيام بثأره وسيّر من ذلك حشوده في ارتقاء ونهض يجرّ الأمم إلى بجاية من العرب وزناتة والحشد حتى أناخ بها وملأت مخيماته [4] الجهات بساحتها، وجنح السلطان الى مبارزته، فتمهّد به أهل البلد ولاذوا بمقامه فأسعفهم وطير البريد الى قسنطينة، فأطلق أبا زيّان من الاعتقال وسوّغه الملابس والمراكب والآلة، وزحف به مولاه بشير في عسكر إلى أن نزل حذاء معسكر أبي حمو واضطربوا محلهم بسفح جبل بني عبد الجبّار وشنوا الغارات على معسكر أبي حمو صباحا ومساء لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده والعرب الذين معه. وبدا للسلطان أبي حمو ما لم يحتسب من امتناعها، وكان تقدّم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها، ووثق بأنّ ذلك يغنيه عن الاستعداد، فاستبق إليها وأغفل الحزم فيما دونها، فلما امتنعت عليه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بليزو.
[2] وفي نسخة ثانية: تاكررت.
[3] وفي نسخة ثانية: الجنود.
[4] وفي نسخة ثانية: وملأ بخيامه.(7/172)
انطبق الجوّ على معسكره وفسدت السابلة على العير للميرة، واستجم الزبون في احياء معسكره بظهور العدوّ المساهم في الملك. وتفادت رجالات العرب من سوء المغبّة وسطوة السلطان، فتمشوا بينهم في الانفضاض وتحينوا لذلك وقت المناوشة، وكان السلطان لما كذبه وعد المشيخة أجمع قتالهم، واضطرب الفساطيط مضايقة للأسوار، متسنمة وعرا من الجبل لم يرضه أهل الرأي. وخرج رجل الجبل على حين غفلة فجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة فانهزموا أمامهم وتركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف. وعاين العرب على البعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا وانفضّ المعسكر بأجمعه. وحمل السلطان أبو حمو أثقاله للرحلة فأجهضوه عنها فتركها، وانتهب مخلفه أجمع. وتصايح الناس بهم من كل حدب، وضاقت المسالك من ورائهم وأمامهم، وكظّت بزحامهم، وتواقعوا لجنوبهم، فهلك الكثير منهم وكانت من غرائب الواقعات، تحدث الناس بها زمانا وسيقت حظاياه إلى بجاية، واستأثر الأمير أبو زيان منهنّ بحظيته الشهيرة ابنة يحيى الزابي، ينسب إلى عبد المؤمن بن علي. وكان أصهر فيها إلى أبيها أيام تقلبه في سبيل الاغتراب ببلاد الموحدين كما سبق، وكانت أعلق بقلبه من سواها، فخرجت في مغانم الأمير أبي زيّان. وتحرّج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك لحنث زعموا وقع من السلطان أبي حمو في نسائه. وخلص السلطان أبو حمو من هوّة ذلك العصب بعد غصّة الريق، ونجا إلى الجزائر لا يكاد يردّ النفس من شناعة ذلك الهول. ثم خرج منها ولحق بتلمسان، واقتعد سرير ملكه واشتدّت شوكة أبي زيّان ابن عمّه، وتغلب على القاصية واجتمعت إليه العرب، وكثر تابعه. وزاحم السلطان أبا حمو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعا نذكر الآن أخبارها، إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن خروج أبي زيان بالقاصية الشرقية من بلاد حصين وتغلبه على المرية والجزائر ومليانة وما كان من الحروب معه)
لما انهزم السلطان أبو حمّو بساحة بجاية عشيّ يومه من أوائل ذي الحجة، خاتم سنة سبع وستين وسبعمائة قرع الأمير أبو زيّان طبوله واتبع أثره، وانتهى إلى بلاد حصين(7/173)
من زغبة. وكانوا سائمين من الهضيمة والعسف إذا كانت الدول تجريهم مجرى الرعايا المعبّدة في المغرم، وتعدل بهم عن سبيل إخوانهم من زغبة أمامهم ووراءهم لبغية الغزو فبايعوه على الموت الأحمر ووقفوا بمعتصم [1] من جبل تيطري إلى أن دهمتهم عساكر السلطان. ثم أجلبوا على المرية [2] وكان بها عسكر ضخم للسلطان أبي حمو لنظر وزرائه: عمران بن موسى بن يوسف، وموسى بن برغوث، ووادفل ابن عبو بن حمّاد، ونازلوهم أياما ثم غلبوهم على البلد. وملكها الأمير أبو زيان ومن على الوزراء ومشيخة بني عبد الواد وترك سبيلهم إلى سلطانهم، وسلك سبيلهم الثعالبة في التجافي عن ذلّ المغرم، فأعطوه يد الطاعة والانقياد للأمير أبي زيّان، وكانت في نفوس أهل الجزائر نفرة من جور العمّال عليهم، فاستمالهم بها سالم بن إبراهيم بن نصر أمير الثعالبة إلى طاعة الأمير أبي زيان. ثم دعا أبو زيّان أهل مليانة إلى مثلها فأجابوه. واعتمل السلطان أبو حمو نظره في الحركة الحاسمة لدائهم [3] ، فبعث في العرب وبذل المال، وأقطع البلاد على أشطاط منهم في الطلب. وتحرّك إلى بلاد توجين ونزل قلعة بني سلامة سنة ثمان وستين وسبعمائة يحاول طاعة أبي بكر بن عريف أمير سويد. فلم يلبث عنه خالد بن عامر ولحق بأبي بكر بن عريف، واجتمعا على الخلاف عليه ونقض طاعته. وشنّوا الغارة على معسكره، فاضطرب وأجفلوا وانتهبت محلّاته وأثقاله، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض إلى مليانة فافتتحها، وبعث إلى رياح على حين صاغية [4] إليه من يعقوب بن علي بن أحمد وعثمان بن يوسف بن سليمان بن علي أميري الزواودة لما كان وقع بينهما وبين السلطان مولانا أبي العباس من النفرة، فاستنظره للحركة على الأمير أبي زيان وبعدها إلى بجاية.
وضمنوا له طاعة البدو من رياح، وبعثوا إليه رهنهم على ذلك فردّها وثوقا بهم، ونهض من تلمسان وقد اجتمع إليه الكثير من عرب زغبة. ولم يزل أولاد عريف بن يحيى وخالد بن عامر في أحيائهما منحرفين عنه بالصحراء. وصمّم إليهم فاجفلوا أمامه، وقصد المخالفين من حصين والأمير أبا زيّان إلى معتصمهم بجبل تيطري.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ووثقوا بمعتصمهم.
[2] المرية: مدينة كبيرة من بلاد الأندلس وليست هي المقصودة في بحثنا هذا والمقصود المدية وهي بلدة من بلاد توجين في المغرب الأوسط.
[3] وفي نسخة بولاق المصرية: لرأيهم.
[4] وفي نسخة ثانية: على حين طاعتهم إليه.(7/174)
وأغذّ إليه السير يعقوب بن علي وعثمان بن يوسف بمن معهم من جموع رياح حتى نزلوا بالقلعة حذاءهم. وبدر أولاد عريف وخالد بن عامر إلى الزواودة ليشرّدوهم عن البلاد قبل أن تتصل يد السلطان بيدهم، فصبحوهم يوم الخميس أخريات ذي القعدة من سنة تسع وستين وسبعمائة ودارت بينهم حرب شديدة، وأجفلت الزواودة أوّلا، ثم كان الظهور لهم آخرا. وقتل في المعركة من زغبة عدد، ويئسوا من صدّهم عما جاءوا إليه، فانعطفوا إلى حصين والأمير أبي زيّان، وصعدوا إليهم بناجعتهم، وصاروا لهم مددا على السلطان أبي حمّو، وشنّوا الغارة على معسكره، فصمدوا نحوه وصدقوه القتال، فاختلّ مصافه، وانهزمت عساكره، ونجا بنفسه إلى تلمسان على طريق الصحراء. وأجفل الزواودة إلى وطنهم، وتحيّز كافة العرب من زغبة إلى الأمير أبي زيان، واتبع آثار المنهزمين، ونزل بسيرات. وخرج السلطان أبو حمو في قومه ومن بقي معه من بني عامر. وتقدّم خالد إلى مصادمته ففلّه السلطان وأجفل القوم من ورائه. ثم تلطّف في مراسلته وبذل المال له وأوسع له في الاشتراط فنزع إليه والتبس بخدمته، ورجع الأمير أبو زيّان إلى أوليائه من حصين متمسّكا بولاية أولاد عريف.
ثم نزع محمد بن عريف إلى طاعة السلطان، وضمن له العدول بأخيه عن مذاهب الخلاف عليه، وطال سعيه في ذلك فاتهمه السلطان وحمله خالد بن عامر عدوّه على نكبته، فتقبّض عليه وأودعه السجن. واستحكمت نفرة أخيه أبي بكر، ونهض السلطان بقومه وكافة بني عامر إليه سنة سبعين وسبعمائة واستغلظ أمر أبي بكر فجمع الحرث بن أبي مالك ومن وراءهم من حصين، واعتصموا بالجبال من دراك وتيطري، ونزل السلطان بجموعه لعود بلاد الديالمة من الحرث، فانتسفها والتمعها وحطّم زروعها ونهب مداثرها. وامتنع عليه أبو بكر ومن معه من الحرث وحصين والأمير أبي زيان بينهم، فارتحل عنهم وعطف على بلاد أولاد عريف وقومهم من سويد فملأها عيثا، وخرّب قلعة ابن سلّامة لما كانت أحسن أوطانهم. ورجع عليهم إلى تلمسان وهو يرى ان كان قد شفا نفسه في أولاد عريف، وغلبهم على أوطانهم، ورجع عليهم منزلة عدوّهم، فكان من لحاق أبي بكر بالمغرب وحركة بني مرين ما نذكره
.(7/175)
(الخبر عن حركة السلطان عبد العزيز على تلمسان واستيلائه عليها ونكبة أبي حمو وبني عامر بالدوس من بلاد الزاب وخروج أبي زيان من تيطري الى أحياء رياح)
لما تقبّض أبو حمو على محمد بن عريف وفرق شمل قومه سويد، وعاث في بلادهم أجمع، رأى أخيه الأكبر الصريخ بملك المغرب. فارتحل إليه بناجعته من بني مالك أجمع من أحياء سويد والديالم والعطاف حتى احتل بسائط ملوية من تخوم المغرب.
وسار إلى أخيه الأكبر ونزمار بمقرّه من قصر مرادة الّذي اختطّه بإرجاع وادي ملوية في ظل دولة بني مرين وتحت جوارهم لما كان ملاك أمرهم بيده، ومصادرهم عن آرائه خطّة ورثها عن أبيه عريف بن يحيى مع السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وابنه أبي عنان. فتقبّل ملوك المغرب مذاهب سلفهم فيه، وتيمنوا برأيه واستأمنوا إلى نصيحته. فلمّا قدم عليه أخوه أبو بكر مستحفيا بملك المغرب، وأخبر باعتقال أخيه الآخر محمد، قدح عزائمه، وأوفد أخاه أبا بكر ومشيخة قومهم من بني مالك على السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن منصرفه من افتتاح جبل هنتاتة، وظفر بعامر بن محمد بن عليّ النازع إلى الشقاق في معتصمه، فلقوه في طريقه ولقاهم مبرة وتكرمة واستصرخوه لاستنقاذ أخيهم فأجاب صريخهم، ورغبوه في ملك تلمسان وما وراءها، فوافق صاغيته لذلك بما كان في نفسه من الموجدة على السلطان أبي حمو لقبوله كل من ينزع إليه من عربان المعقل أشياع الدولة وبدوها، وما كان بعث إليه في ذلك، وصرف عن استماعه، فاعتزم على الحركة إلى تلمسان، وألقى زمامه بيد ونزمار وعسكر بساحة فاس. وبعث الحاشدين في الثغور والنواحي من المغرب، فتواقف الحاشدون ببابه، وارتحل بعد قضاء النسك من الأضحى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة واتصل الخبر بالسلطان أبي حمو وكان معسكرا بالبطحاء، فانكفأ راجعا إلى تلمسان، وبعث في أوليائه عبيد الله والأحلاف من عرب المعقل، فصموا عن إجابته ونزعوا إلى ملك المغرب، فأجمع رأيه إلى التحيّز إلى بني عامر وأجفل غرّة المحرم سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة واحتلّ السلطان عبد العزيز تلمسان في يوم عاشوراء بعدها.
وأشار ونزمار بن عريف بتسريح العساكر في اتباعه، فسرّح السلطان وزيره أبا بكر بن(7/176)
غازي بن السكّاء [1] حتى انتهى إلى البطحاء. ثم لحق به هنالك ونزمار وقد حشد العرب كافة، وأغذّ السير في اتباع السلطان أبي حمو وبني عامر، وكانوا قد أبعدوا المذهب، ونزلوا على الزواودة وسرّح إليهم السلطان يومئذ عبد العزيز يحملهم على طاعته، والعدول بهم عن صحابة بني عامر وسلطانهم. وسرّح فرج بن عيسى بن عريف إلى حصين لاقتضاء طاعتهم واستدعاء أبي زيان إلى حضرته، ونبذهم عهده، وانتهيا جميعا إلى أبي زيّان مقدمة أوليائه [2] ، ولحق بأولاد يحيى بن عليّ ابن سبّاع من الزواودة، وانتهيت أنا إليهم فخفظت عليهم الشأن في جواره لما كانت مرضاة السلطان، وحذّرتهم شأن أبي حمو وبني عامر، وأوفدت مشيختهم على ونزمار والوزير أبي بكر بن غازي فدلّوهما على طريقه، فأغذّوا السير وبيّتوهم بمنزلهم على الدوس آخر عمل الزاب من جانب المغرب ففضوا جموعهم، وانتهبوا جميع معسكر السلطان أبي حمو بأموالهم وأمتعته وظهره. ولحق فلّهم بمصاب ورجعت العساكر من هنالك، فسلكت على قصور بني عامر بالصحراء قبلة جبل راشد التي منها ربا ولون ساعون [3] إليها فأنتهبوها وخرّبوها وعاثوا فيها وانكفؤا راجعين إلى تلمسان. وفرّق السلطان عمّاله في بلاد المغرب الأوسط من وهران ومليانة والجزائر والمرية وجبل وانشريس. واستوسق به ملكه ونزع عنه عدوّه، ولم يبق به يومئذ إلّا ضرمة من نار الفتنة ببلاد مغراوة بوعد من ولد عليّ بن راشد، سخط خالد في الديوان ولحق بجبل بني سعيد. واعتصم به فجهّز السلطان الكتائب لحصاره، وسرّح وزيره عمر بن مسعود لذلك كما ذكرناه في أخبار مغراوة. واحتقر شأنه. وأوفدت أنا عليه يومئذ مشيخة الزواودة، فأوسعهم حباء وكرامة، وصدروا مملوءة حقائبهم خالصة قلوبهم منطلقة بالشكر ألسنتهم. واستمرّ الحال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن الكاس.
[2] وفي نسخة ثانية: ففارقه أولياؤه.
[3] وفي نسخة أخرى: التي منها ربا ولون سمعون، وفي نسخة ثانية: التي منها ريا بن سمعون.
ابن خلدون م 12 ج 7(7/177)
(الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان الى تيطري واجلاب أبي حمو على تلمسان ثم انهزامهما وتشريدهما على سائر النواحي)
كان بنو عامر من زغبة شيعة خالصة لبني عبد الواد من أوّل أمرهم، وخلص سويد لبني مرين كما قدّمناه، فكان من شأن عريف وبنيه عند السلطان أبي الحسن وبنيه ما هو معروف. فلما استبيحت أحياؤهم بالدوس مع أبي حمو، ذهبوا في القفر إشفاقا ويأسا من قبول بني مرين عليهم لما كان ونزمار بن عريف وإخوانه من الدولة، فحدبوا على سلطانهم أبي حمو يتقلّبون معه في القفار. ثم نزع إليهم رحّو بن منصور فيمن أطاعه من قومه عبيد الله من المعقل، وأجلبوا على وجدة فاضطرم النفاق على الدولة نارا، وخشي حصين مغبة أمرهم من السلطان بما تسموا به من الشقاق والعناد، فمدّوا أيديهم إلى سلطانهم أبي زيّان، وأوفد مشيختهم لاستدعائه من حلّة أولاد يحيى بن علي فاحتلّ بينهم وأجلبوا به على المرية فملكوا نواحيها، وامتنع عليهم مصرها، واستمرّ الحال على ذلك واضطرب المغرب الأوسط على السلطان، وانتقضت به طاعته وسرّح الجيوش والعساكر إلى قتال مغراوة وحصين، فأجمع أبو حمو وبنو عامر على قصده بتلمسان حتى إذا احتلوا قريبا منها دسّ السلطان عبد العزيز بعض شيعته إلى خالد بن عامر وزغبة في المال والحظ منه، وكان أبو حمّو قد آسفه بمخالطة بعض عشيرة وتعقّب رأيه برأي من لم يسم إلى خطته. ولم يرتض كفاءته فجنح إلى ملك المغرب، ونزع يده من عهد أبي حمّو، وسرّح السلطان عبد العزيز عسكره إلى خالد فأوقع بأبي حمّو ومن كان من العرب عبيد الله وبني عامر، وانتهب معسكره وأمواله، واحتقبت حرمه وحظاياه إلى قصر السلطان، وتقبّض على مولاه عطيّة، فمنّ عليه السلطان وأصاره في حاشيته ووزرائه، وأصفقت زغبة على خدمة ملك المغرب وافق هذا الفتح عند السلطان فتح بلاد مغراوة، وتغلّب وزيره أبو بكر بن غازي على جبل بني سعيد، وتقبّض على حمزة بن علي بن راشد في لمّة من أصحابه، فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدّة السلطان، وصلب أشلاءهم بساحة مليانة معظم الفتح واكتمل الظهور. وأوعز السلطان إلى وزيره أبي بكر بن غازي بالنهوض إلى(7/178)
حصين، فنهض إليهم وخاطبني وأنا مقيم ببسكرة في دعايته بأن احتشد أولياءه من الزواودة ورياح، والتقى الوزير والعساكر على حصن تيطري، فنازلناه أشهرا. ثم انفضّ جمعهم وفرّوا من حصنهم، وتمزّقوا كل ممزق، وذهب أبو زيّان على وجهه، فلحق ببلد واركلا قبلة الزاب لبعدها عن منال الجيوش والعساكر، فأجاروه وأكرموا نزله. وضرب الوزير على قبائل حصين والثعالبة المغارم الثقيلة، فأعطوها عن يد وجهضهم باقتضائها، ودوّخ قاصية الثغور ورجع إلى تلمسان عالي الكعب عزيز السلطان ظاهر اليد. وقعد له السلطان بمجلسه يوم وصوله قعودا فخما، وصل فيه إليه، وأوصل من صحبه من وفود العرب والقبائل فقسّم فيهم برّه وعنايته وقبوله على شاكلته. واقتضى من أمراء العرب زغبة أبناءهم الأعزة رهنا على الطاعة، وسرّحهم لغزو أبي حمّو بمنتبذه من تيكورارين فانطلقوا لذلك، وهلك السلطان عبد العزيز لليال قلائل من مقدم وزيره، وعساكره أواخر شهر ربيع الآخر من سنة أربع وسبعين وسبعمائة لمرض مزمن كان يتفادى بالكتمان والصبر من ظهوره. وانكفأ بنو مرين راجعين إلى ممالكهم بالمغرب بعد أن بايعوا لولده دراجا حماسيا، ولقّبوه بالسعيد وجعلوا أمره إلى الوزير أبي بكر بن غازي، فملك أمرهم عليهم واستمرّت حاله كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن عود السلطان أبي حمو الأخير الى تلمسان الكرّة الثالثة لبني عبد الواد في الملك)
لما هلك السلطان عبد العزيز ورجع بنو مرين إلى المغرب، نصبوا من أعياص بني يغمراسن لمدافعة أبي حمو من بعدهم عن تلمسان، إبراهيم بن السلطان أبي تاشفين، كان ناشئا بدولتهم مذ هلك [1] أبوه. وتسلّل من جملتهم عطيّة بن موسى مولى السلطان أبي حمو وخالفهم إلى البلد غداة رحيلهم، فقام بدعوة مولاه ودافع إبراهيم بن تاشفين عن مرامه، وبلغ الخبر أولياء السلطان أبي حمو من عرب المعقل أولاد يغمور بن عبيد الله، فطيّروا إليه النحيب على حين غلب عليه اليأس. وأجمع الرحلة إلى بلاد السودان لما بلغه من اجتماع العرب للحركة عليه كما قلناه، فأغذّ السير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: منذ مهلك أبيه.(7/179)
من مطرح اغترابه. وسابقه ابنه ولي عهده في قومه عبد الرحمن أبو تاشفين مع ظهيرهم عبد الله بن صغير فدخلوا البلد، وتلاهم السلطان لرابعة دخولهم، وعاود سلطانه واقتعد أريكته، وكانت إحدى الغرائب وتقبّض ساعتئذ على وزرائه، اتهمهم بمداخلة خالد بن عامر فيما نقض من عهده وظاهر عليه عدوه، فأودعهم السجن وذبحهم ليومهم حنقا عليهم. واستحكم لها نفرة خالد وعشيرته، وحصلت ولاية أولاد عريف بن يحيى لمنافرة بني عامر إيّاه، وإقبال السلطان عبد العزيز عليه، ووثق بمكان ونزمار كبيرهم في تسكين عادية ملوك المغرب عليه [1] . ورجع إلى تمهيد وطنه، وكان بنو مرين عند انفضاضهم إلى مغربهم قد نصبوا من اقتال مغراوة، ثم بني منديل علي بن هارون بن ثابت بن منديل وبعثوه إلى شلف مزاحمة للسلطان أبي حمو، ونقضا لأطراف ملكه. وأجلب أبو زيان ابن عمّه على بلاد حصين، فكان من خبره معهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن رجوع أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد إلى بلاد حصين ثم خروجه عنها)
كان الأمير أبو زيان ابن السلطان أبي سعيد، لمّا هلك السلطان عبد العزيز وبلغه الخبر بمنجاته من واركلا، نهض منها إلى التلول، واسفّ إلى الناحية التي كان منتزيا بها مساهما لأبي حمو فيها، فاقتطعت لدعوته كما كانت، ورجع أهلها إلى ما عرفوا من طاعته، فنهض السلطان أبو حمو لتمهيد نواحيه وتثقيف أطراف ملكه، ودفع الخوارج عن ممالكه، وظاهره على ذلك أمير البدو من زغبة أبو بكر ومحمد ابنا عريف بن يحيى، دسّ إليهما بذلك كبيرهما ونزمار، وأخذهما بمناصحة السلطان ومخالصته، فركبا من ذلك أوضح طريق وأسهل مركب. ونبذ السلطان العهد إلى خالد وعشيرة، فضاقت عليهم الأرض ولحقوا بالمغرب لسابقة نزوعهم إلى السلطان عبد العزيز. وابتدأ السلطان بما يليه، فأزعج بمظاهرتهما عليّ بن هارون عن أرض شلف سنة خمس وسبعين وسبعمائة بعد حروب هلك في بعضها أخوه رحمون بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تسكين عادية ملوك العرب عنه.(7/180)
هارون. وخلص إلى بجاية، فركب منها السفن إلى المغرب، ثم تخطّى السلطان أبو حمو إلى ما وراء شلف. وسفر محمد بن عريف بينه وبين ابن عمه بعد أن نزع إليه الكثير من أوليائه حصين والثعالبة بما بذل لهم من الأموال، وبما سئموا من طول الفتنة، فشارطه على الخروج من وطنه إلى جيرانهم من رياح على أتاوة وتحمل اليه، فقبل ووضع أوزار الحرب، وفارق مكان ثورته، وكان لمحمد بن عريف فيها أثر محمود، واستألف سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة المتغلّب على بسيط متيجة وبلد الجزائر، بعد أن كان خبّ في الفتنة، وأوضع فاقتضى له من السلطان عهده من الأمان والولاية على قومه وعمله. وقلّد السلطان أبناءه ثغور أعماله. فأنزل ابنه بالجزائر لنظر سالم بن إبراهيم من تحت استبداده، وابنه أبا زيّان بالمدية، وانقلب السلطان إلى حضرته بتلمسان بعد أن دوّخ قاصيته، وثقف أطراف عمله، وأصلح قلوب أوليائه واستألف شيعة عدوه، فكان فتحا لا كفاء له من بعد ما خلع من ربقة الملك، ونزع من شرع [1] السلطان وانتبذ من قومه وممالكه إلى قاصية الأرض، ونزل في جوار من لا ينفذ أمره ولا يقوم بطاعته. والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.
(الخبر عن اجلاب عبد الله بن صغير وانتقاض أبي بكر بن عريف وبيعتهما للأمير أبي زيان ورجوع أبي بكر الى الطاعة)
كانت خالد بن عامر وابن أخيه عبد الله بن صغير وسائر إخوانهم من ولد عامر بن إبراهيم قد لحقوا بالمغرب صرخى ببني مرين لما وقع بينهم وبين أبي حمو من الفعلة التي فعل خالد معه. ويئس عبد الله بن صغير من صريخهم بما عقد ونزمار بن عريف من السلم بين صاحب المغرب وصاحب تلمسان، فخاض القفر بمن معه من قومه ولحق بوطن زغبة، وأجلب على جبل راشد وبه العمّور أحلاف سويد من بني هلال.
فاعترضتهم سويد ودارت بينهم حرب شديدة، كان الظهور فيها لسويد عليهم. وفي خلال ذلك فسد ما بين السلطان وبين أبي بكر بن عريف بسبب صاحب جبل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من لبوس.(7/181)
وانشريس يوسف بن عمر [1] بن عثمان، أراده السلطان على النزول عن عمله، فغضب له أبو بكر لقديم الصداقة بين سلفهما، ووصل يده بعبد الله بن صغير بعد الواقعة. ودعاه إلى بيعة أبي زيان فأجابه وأوفدوا رجالاتهم عليه بمكانه من مجالات رياح، فوصلوه معهم ونصّبوه للأمر، وتحيّز محمد بن عريف إلى السلطان في جموع سويد. ونهض السلطان من تلمسان سنة سبع وسبعين وسبعمائة فيمن معه من قبائل بني عبد الواد وعرب المعقل وزغبة، ودس إلى أولياء أبي زيّان يرغّبهم في المواعد.
وحكم أبا بكر في الاشتراط عليه ففاء إلى الطاعة والمخالصة. ورجع أبو زيّان إلى مكانه من حلل الزواودة، وأغذّ السلطان السير إلى حضرته فتملّى أريكته، وحدث بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وصول خالد بن عامر من المغرب والحرب التي دارت بينه وبين سويد وأبي تاشفين هلك فيها عبد الله بن صغير وإخوانه)
لما بلغ خالد بن عامر بمكانه من المغرب خبر عبد الله ابن أخيه صغير، قفل من المغرب يئسا من مظاهرة بني مرين فخفق السعي في صريخه بهم لما كانوا عليه من افتراق الأمر كما ذكرناه قبل. ووصل معه ساسي بن سليم في قومه بني يعقوب، وتظاهر الحيّان على العيث في بلاد أبي حمّو. واجتمع إليهم أبناء الفتنة من كل أوب، فأجلبوا على الأطراف وشنّوا الغارة في البلاد، وجمع أولاد عريف لحربهم قومهم من سويد وأحلافهم من العطاف، وبعثوا بالصريخ إلى السلطان فسيّر لحرب عدوّه وعدوّهم ابنه أبا تاشفين وليّ عهده في قومه، وبرز لذلك في العساكر والجنود. ولما انتهى إلى بلاد هوّارة، واضطرب عسكره بها، أعجله صريخ أوليائه عن مناخ الركاب، فاستعجل الرحلة ولحق بأوليائه أولاد عريف ومن معهم من أشياع الدولة من زغبة.
وأغذّوا السير إلى واد هناك شرقي القلعة، فتلاقى [2] الجمعان وتواقفوا للقاء سائر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يوسف بن عاجز.
[2] وفي نسخة ثانية: فتراءى.(7/182)
يومهم. واستضاءوا بإضرام النيران مخافة البيات، وأصبحوا على التعبية. وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب، فأعجبهم مناشبة القوم، وتزاحفت الصفوف، وأعلم الكماة، وكشفت الحرب عن ساقها، وحمي الوطيس، وهبت الريح المبشرة، فخفقت لها رايات الأمير وهدرت طبوله، ودارت رحى الحرب وصمدت إليها كتائب العرب، فبرئ [1] فيها الأبطال منهم وانكشفوا، وأجلت المعركة عن عبد الله ابن صغير صريعا، فأمر أبو تاشفين فاحتزّ رأسه وطيّر به البريد إلى أبيه. ثم عثرت المواكب بأخيه ملّوك بن صغير مع العبّاس ابن عمه موسى بن عامر، ومحمد بن زيّان من وجوه عشيرتهم متواقعين بجنودهم متضاجعين في مراقدهم كأنما أقعدوا للردي، فوطأتهم سنابك الخيل وغشيهم قتام المراكب. وأطلقت العساكر أعنّتها في اتباع القوم فاستاقوا نعمهم وأموالهم. وكثرت يومئذ الأنفال، وغشيهم الليل فتستّروا بجناحه. ولحقهم فلّهم بجبل راشد، وأطرب أبو تاشفين أباه بمشتهى ظهوره وأملاه السرور بما صنع الله على يده، وما كان له ولقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه. وطار له بها ذكر على الأيام، ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال والجوانح بالسرور والأيام بالذكر عنه وعن قومه، ومضى خالد لوجهه في فلّ من قومه. ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم ومظاهرته خالد بن عامر على الخلاف وبيعتهما للأمير أبي زيان ثم مهلك خالد ومراجعة سالم الطاعة وخروج أبي زيان الى بلاد الجريد)
كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلّبين على حصن متيجة منذ انقراض مليكش، وكانت الرئاسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل. ولما كانت فتنة أبي زيّان بعد نكبة أبي حمّو على بجاية، وهبّت ريح العرب واستغلظ أمرهم، وكان سالم هذا أوّل من غمس يده في تلك الفتنة، ومكر بعليّ بن غالب من بيوتات الجزائر، كان مغربا عنها منذ تغلّب بني مرين على المغرب الأوسط
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتردى.(7/183)
أيام بني عثمان [1] ولحق بها عند ما أظلم الجوّ بالفتنة، واستحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو، فأظهر بها الاستبداد واجتمع بها إليه الأوشاب والطغام. ونكره سالم أمير الضاحية أطمعه في الاستيلاء على الجزائر، فداخل في شأنه الملأ من أهل المدينة، وحذّرهم منه أنه يروم الدعوة للسلطان أبي حمّو، فاستشاطوا نفرة وثاروا به، حتى إذا رأى سالم أنه قد أحيط به خلّصه من أيديهم وأخرجه إلى حيّه. وأبلغه [2] هنالك. وحوّل دعوة الجزائر إلى الأمير أبي زيّان تحت استبداده، حتى إذا كان من أمر بني مرين وحلول السلطان عبد العزيز بتلمسان كما قدّمناه، أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين مهلكه ورجوع أبي حمّو إلى تلمسان. وأقبل جيش أبي زيّان إلى تيطري، فأقام سالم هذا دعوته في أحيائه وفي بلد الجزائر، خشية على نفسه من السلطان أبي حمو، لما كان يعتمد عليه في الادالة من أمره بالجزائر بأمر ابن عمّه. ولما كان من خروج أبي زيّان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدّمناه. واقتضى سالم عهده من السلطان، وولي سالم على الجزائر، أقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال واستضافة جبايتها لنفسه، وأوعز السلطان إلى سائر عمّاله باستيفاء جبايتها، فاستراب وبقي في أمره على المداهنة.
وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامر، فتربّص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له، فيشغل السلطان عنه. ثم بدا له ما لم يحتسب، وكان الغلب للسلطان ولأوليائه. وكان قد حدثت بينه وبين بني عريف عداوة خشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه، فبادر إلى الانتقاض على أبي حمو، واستقدم الأمير أبو زيان فقدم عليه وجأجأ بخالد بن عامر من المخالفين معه من العرب، فوصلوا إليه أوّل سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وعقد بينهم حلفا مؤكّدا، وأقام الدعوة للأمير أبي زيّان بالجزائر. ثم زحفوا إلى حصار مليانة وبها حامية السلطان فامتنعت عليهم، ورجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه ودفن بها، وولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير، ونهض إليهم السلطان أبو حمّو من تلمسان في قومه وأوليائه من العرب، فامتنعوا بجبال حصين وناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل فغلبوهم عليها، وانفضّت الناجعة عنهم من الديالم والعطاف وبني عامر، فلحقوا بالقفر.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أيام أبي عنّان.
[2] وفي نسخة ثانية: واتلفه هنالك.(7/184)
ورأى سالم أصحابه أن قد أحيط بهم فلاذ بالطاعة، وحمل عليها أصحابه. وعقد لهم السلطان من ذلك ما أرادوه على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا. وارتحل عنهم فلحق ببلاد المغرب ريغ، ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد، ثم إلى توزر، فنزل على مقدّمها يحيى بن يملول، فأكرم نزله وأوسع قراره إلى أن كان من أمره ما نذكر.
ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان وفي نفسه من سالم حرارة لكثرة اضطرابه ومراجعته الفتن، حتى توسّط فصل الشتاء، وأبعدت العرب في مشاتيها، فنهض من تلمسان في جيوش زناتة، وأغذّ السير فصبح بحصن متيجة بالغارة الشعواء. وأجفلت الثعالبة فلحقوا برءوس الجبال وامتنع سالم بجبل بني خليل. وبعثوا ابنه وأولياءه إلى الجزائر فامتنعوا بها وحاصروه أياما. ثم غلبوه على مكامنه. فانتقل إلى بني ميسرة من جبال صنهاجة. وخلّف أهله ومتاعه، وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة، وابتهلوا بأمان السلطان وعهده إلى فحص متيجة، وبعث هو أخاه ثانيا إلى السلطان بانتقاضه العهد [1] ، ونزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، فأخفر عهده وذمّة ابنه، وتقبّض عليه صبيحة ليلته. وبعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها، وأوفد عليه مشيختها فتقبّض عليهم، وعقد على الجزائر لوزيره موسى بن مرعوت [2] ، ورجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر، ثم أخرج سالم بن إبراهيم من محبسه إلى خارج البلد، وقتل قعصا بالرماح، ونصب شلوه وأصبح مثلا للآخرين، وللَّه البقاء.
وعهد السلطان لابنه المنتصر على مليانة وأعمالها، ولابنه أبي زيان على وهران.
وراسله ابن يملول صاحب توزر، وصهره ابن قرى صاحب بسكرة وأولياؤهما من الكعوب والزواودة لما أهمهم أمر السلطان أبي العبّاس، وخافوه على أمصارهم فراسلوا أبا حمّو يضمنون له مسالمة أبي زيّان على أن يوفي لهم بما اشترط له من المال، وعلى أن يشبّ نار الفتنة من قبله على بلاد الموحّدين ليشغل السلطان أبا العباس عنهم على حين عجزه [3] وضعف الدولة عنه. فأوهمهم من نفسه القدرة وأطمعهم في ذلك.
__________
[1] وفي نسخة ثانية العبارة مختلفة تماما: وبعث هو أخاه ثابتا الى السلطان، فاقتضى له العهد.
[2] وفي نسخة ثانية: موسى بن برغوث وقد مرّ معنا من قبل في غير هذا المكان.
[3] الضمير هنا يعود الى أبي حمّو.(7/185)
وما زال يراجعهم ويراجعونه بالمقاربة والوعد إلى أن أحيط بابن يملول، واستولى السلطان على بلده فلحق ببسكرة وهلك بها لسنة من خروجه آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وبقي ابن مزني من بعده متعلّلا بتلك الأماني الكاذبة إلى أن ظهر أمره وتبيّن عجزه، فراجع طاعة السلطان أبي العباس واستقام على الموادعة، ولحق الأمير أبو زيّان بحضرة السلطان بتونس فنزل بها أكرم نزل مؤمّلا منه المظاهرة على عدوّه.
والحال بالمغرب الأوسط لهذا العهد على ما شرحناه مرارا من تغلّب العرب على الضواحي والكثير من الأمصار. وتقلّص ظلّ الدولة عن القاصية وارتدادها على عقبها إلى مراكزها بسيف البحر، وتضاؤل قدرتها على قدرتهم، وإعطاء اليد في مغالبتهم ببذل رغائب الأموال. وإقطاع البلاد والنزول عن الكثير من الأمصار، والقنوع بالتغريب بينهم وإغراء بعضهم ببعض والله وليّ الأمور.
(قسمة السلطان للأعمال بين ولده وما حدث بينهم من التنافس)
كان لهذا السلطان أبي حمّو جماعة من الولد كبيرهم أبو تاشفين عبد الرحمن. ثم بعده أربعة لأم واحدة، كان تزوّجها بميلة من أعمال قسنطينة أيام جولته في بلاد الموحدين، كبيرهم المنتصر. ثم أبو زيان محمد، عمر ويلقب عميرا، ثم بعد ولد كثيرون أبناء علات. وكان أبو تاشفين ولي عهده، وقد رفعه على الباقين وأشركه في رأيه [1] ، وأوجب له الحق على وزراء دولته، فكان لذلك رديفه في ملكه ومظهر سلطانه. وكان مع ذلك يتعاهد أولئك الإخوة الأشقاء بحنوه، ويقسّم لهم من ترشيحه والنجاء في خلوته، فتنغّص أبو تاشفين منهم، فلما استفحل أمر السلطان وانمحت من دولته آثار الخوارج [2] ، أعمل نظره في قسمة الأعمال بين ولده وترشيحهم للإمارة والبعد بهم عن أخيهم أبي تاشفين، أن يصيبهم بمكروه عند إيناس الغيرة منهم، فولّى المنتصر كبيرهم على مليانة وأعمالها، وأنفذه إليها ومعه أخوه عمر الأصغر في كفالته، وولّى أخاهما الأوسط أبا زيّان على المرية وما إليها من بلاد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أشركه في أمره.
[2] وفي نسخة ثانية: اثار الخلاف.(7/186)
حصين. وولّى ابنه يوسف ابن الزابية على تدلس وما إليها من آخر أعماله. واستقرّ أمرهم على ذلك. ثم كان من انتقاض سالم الثعلبي بالجزائر ما قدّمناه، فنمي إلى السلطان أنّ ابنه أبا زيّان داخله في الخلاف، فلمّا فرغ من أمر سالم كما مرّ وطرد أبا زيان ابن عمه عن أعماله إلى الجريد، أعمل نظره في نقل ابنه أبي زيان من المرية إلى ولاية وهران وأعمالها بعدا له عن العرب المجلبين في الفتن، وأنزل معه بعض وزرائه عينا عليه، وأقام واليا عليها والله أعلم.
(وثبة أبي تاشفين بيحيى بن خلدون كاتب أبيه)
كان أوّل شيء حدث من منافسة أبي تاشفين لإخوته، أن السلطان لمّا ولّى ابنه أبا زيّان على وهران وأعمالها طلبه أبو تاشفين في ولايتها لنفسه فأسعفه ظاهرا، وعهد إلى كاتبه يحيى بن خلدون بمماطلته في كتابها حتى يرى المخلص من ذلك، فأقام الكاتب يطاوله. وكان في الدولة لئيم من سفلة الشرط يدعى بموسى بن يخلف، صحبهم أيام الاغتراب بتيكورارين أيام ملك تلمسان عليهم السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن كما مرّ. وخلاله وجه السلطان أبي حمو وابنه، فتقرّب إليه بخدمته ورعاها له. فلما رجع السلطان إلى تلمسان بعد مهلك عبد العزيز قدّمه وآثره واستخلصه، فكان من أخلص بطانته. وكان أبو تاشفين أيضا استخلصه وجعله عينا على أبيه.
وكان هو أيضا يغص بابن خلدون كاتب السلطان، ويغار من تقدّمه عنده ويغري به أبا تاشفين جهده، فدسّ إليه أثناء هذه المطاولة أنّ الكاتب ابن خلدون إنما مطله بالكتاب خدمة لأبي زيّان أخيه وإيثارا له عليه، فاستشاط له أبو تاشفين، وترصّد له منصرفه من القصر إلى بيته بعد التراويح في احدى ليالي رمضان سنة ثمانين وسبعمائة في رهط من الأوغاد، كان يطوف بهم في سكك المدينة، ويطرق معهم بيوت أهل السرّ والحشمة في سبيل الفساد، فعرضوا له وطعنوه بالخناجر حتى سقط عن دابته ميتا. وغدا الخبر على السلطان صبيحة تلك الليلة فقام في ركائبه وبثّ الطلب عن أولئك الرهط في جوانب المدينة. ثم بلغه أنّ ابنه أبا تاشفين صاحب الفعلة، فأغضى وطوى عليها جوانحه، وأقطع أبا تاشفين مدينة وهران كما وعده. وبعث ابنه أبا زيّان(7/187)
على بلاد حصين والمرية كما كان. ثم طلب أبو تاشفين من أبيه أن تكون الجزائر خالصة له فأقطعه إيّاها، وأنزل بها من إخوته يوسف ابن الزابية بما كان شيعة له من بينهم وفيئة في صحبته ومخالصته، فأقام واليا عليها، والله أعلم.
(حركة أبي حمو على ثغور المغرب الأوسط ودخول ابنه أبي تاشفين الى جهات مكناسة)
كان أبو العبّاس بن السلطان أبي سالم ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد نهض في عساكره سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة [1] الى مراكش، وبها الأمير عبد الرحمن بن يفلوس ابن السلطان أبي عليّ مقاسمة في نسبه وملكه. وكان قد سوّغ له مراكش وأعمالها عند ما أجلب معه على البلد الجريد سنة خمس وسبعين وسبعمائة كما في أخبارهم. واستقرّ الأمير عبد الرحمن بمراكش. ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أحمد، ونهض إليه من فاس فحاصره أوّلا وثانيا يفرج فيهما عنه. ثم نهض إليه سنة أربع وثمانين وسبعمائة فحاصره وأخذ بمخنقه وأطال حصاره. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير المعقل من العرب منتقضا على السلطان وقد بعث السلطان العساكر إلى أحيائه، فهزموه وخرّبوا بيوته وبساتينه بسجلماسة ورجعوا. وأقام هو بصحرائه منتقضا. فلما جهد الحصار الأمير عبد الرحمن بمراكش، بعث أبا العشائر ابن عمّه منصور بن السلطان أبي علي إلى يوسف بن علي بن غانم، ليجلب به على فاس وبلاد المغرب، فيأخذ بحجزة السلطان عنه وينفس من مخنقه، فسار يوسف بن على مع أبي العشائر إلى السلطان أبي حمّو بتلمسان يستنجده على هذا الغرض لقدرته عليه دون العرب، بما له من العساكر والأبهة، فأنجده على ذلك. وقدم ابنه أبا تاشفين معهم، وخرج هو في أثرهم، فساروا إلى المغرب. ونزل يوسف بن علي بقومه قريبا من مكناسة، ومعه الأميران أبو العشائر وأبو تاشفين. وجاء أبو حمّو من خلفهم فحصر تازى سبعا، وخرّب قصر تازروت المعدّ هنالك لنزل السلطان.
وكان السلطان قد استخلف على فاس في مغيبه علي بن مهدي العسكري من عمّال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إحدى وثمانين.(7/188)
دولته ووجوه قبيله، وكان هنالك عرب المنبأة [1] من المعقل قد أخذوا الميرة، فأهاب بهم ونزمار بن عريف ولي الدولة من عرب سويد، وهو نازل بقصر مرادة من جوار [2] تازى، فاستألفهم لمدافعة أبي حمو وابنه. وخرج بهم علي بن مهدي. ثم وصل الخبر باستيلاء السلطان على مراكش منتصف خمس وثمانين وسبعمائة فأجفل أبو تاشفين وأبو العشائر ومن معهما من العرب، واتبعهم علي بن مهدي بمن معه من المنباة. وأجفل أبو حمّو على تازى ومرّ بمرادة على قصر ونزمار فهدمه وعاث فيه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان. وفارق ابنه أبو تاشفين أصحابه أبا العشائر والعرب ولحق بأبيه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(نهوض السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب إلى تلمسان واستيلاؤه عليها واعتصام أبي حمو بجبل تاحجموت [3] )
لما استولى السلطان أبو العبّاس على مراكش كما قلناه، رجع إلى دار ملكه بفاس وقد آسفه السلطان أبو حمو باجلابه على وطنه هو وابنه أبو تاشفين مع العرب أيام مغيبه بمراكش، فأجمع الرحلة إلى تلمسان، وخرج في عساكره. وراجع يوسف بن علي الطاعة ورحل معه في جموعه. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فتردد بين الحصار بتلمسان أو مفارقتها. وكان بينه وبين ابن الأحمر صاحب الأندلس مواصلة، ولابن الأحمر دالة على السلطان أبي العباس كما مرّ. فكان يحفظ له الشأن في قصد تلمسان ويلبثه عنها فيعطيه المقادة في ذلك، فيعلّل هو السلطان أبا حمو بأنّ السلطان أبا العبّاس لا يصل إليه. ثم أجمع السلطان أبو العبّاس أمره، ونهض على حين غفلة مغذّا إلى تلمسان. وتقدّم الخبر إلى أبي حمو فأجمع مفارقة تلمسان بعد أن أظهر لأوليائه وأهل دولته أنه على الحصار. ثم خرج حين غشية الليل الى معسكره بالصفيف، وافتقده أهل بلده من صبيحتهم، فتبادر أكثرهم إليه متعلّقين بأذياله خوفا من معرّة العدوّ، ثم ارتحل يطوي المراحل إلى البطحاء، ودخل السلطان أبو
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المنبات.
[2] وفي نسخة ثانية: من أحواز.
[3] وفي نسخة ثانية: بحصن تاجحمومت.(7/189)
العبّاس تلمسان واستولى عليها، وجهّز العساكر لاتباع أبي حمو وقومه، فأجفل من البطحاء ولحق بتاحجموت فاعتصم بمعقلها ولحق به ابنه المنتصر من مليانة بما كان معه من الذخيرة، فاستمدّ بها وأقام هناك عازما على الامتناع والله تعالى أعلم.
(رجوع السلطان أبي العباس الى المغرب واختلال دولته ورجوع السلطان أبي حمو الى ملكه بتلمسان)
كان السلطان أبو العباس لما استولى على مملكة تلمسان، طيّر كتبه ورسله بفتحها إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس، ويعتذر إليه من مخالفة رأيه في الحركة إليها. وقد كان ابن الأحمر آسفه ذلك إلى ما انتظم إليه من النزعات الملوكية التي يؤسف بها بعضهم بعضا، وهو يطوي جوانحه عليها، واطلع على فساد طاقة السلطان أبي العبّاس في أهل دولته وفقد [1] ضمائرهم له، فأزعج لوقته موسى ابن السلطان أبي عنان من أعياص ملكهم، كان عنده بالأندلس، وجهّزه بما يحتاج إليه وبعث في خدمته مسعود بن رحّو بن ماسالي [2] وزيرهم المشهور، وأركبه السفن إلى سبتة، فنزلوا بساحتها أوّل ربيع سنة ست وثمانين وسبعمائة واستولوا عليها. ثم تقدّموا إلى فاس فنازلوا دار الملك أياما وبها محمد بن حسن كاتب محمد بن عنان القائم بدولة السلطان أبي العباس والمستبدّ عليه، واشتدّوا في حصارها وتوافت إليهم الأمداد والحشود فداخله الخور وألقي بيده، وداخل السلطان موسى إلى دار الملك تاسع عشر ربيع الأوّل من السنة، وجلس على أريكته، وآتاه الناس طاعتهم. وطار الخبر إلى السلطان أبي العباس بتلمسان وقد تجهّز لاتباع أبي حمو، ونزل على مرحلة من تلمسان بعد أن أغراه ونزمار بن عريف أمير سويد بتخريب قصور الملك بتلمسان، وكانت لا يعبّر عن حسنها، اختطّها السلطان أبو حمو الأوّل وابنه أبو تاشفين، واستدعى لها الصنّاع والفعلة من الأندلس لحضارتها وبداوة دولتهم يومئذ بتلمسان، فبعث إليهما السلطان أبو الوليد صاحب الأندلس بالمهرة والحذّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم القصور والمنازل والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ونغل.
[2] وفي نسخة ثانية: ماساي.(7/190)
فأشار ونزمار على السلطان أبي العبّاس بتخريب هذه القصور وأسوار تلمسان انتقاما بزعمه من أبي حمو، وأخذا بالثأر منه فيما أعتمده من تخريب قصر الملك بتازى، وتخريب قصره هو بمرادة، فأتى عليها الخراب أسرع من لمح البصر. وبينما هو في ذلك وهو يروم السفر لاتباع أبي حمو، إذ جاءه الخبر بأنّ السلطان موسى ابن عمه السلطان أبي عنّان قد استولى على دار ملكهم بفاس، واقتعد أريكتهم، فكرّ راجعا إلى المغرب لا يلوي على شيء، وترك تلمسان لشأنها، وكان من أمره ما يأتي ذكره في أخبارهم، وطار الخبر إلى السلطان أبي حمو بمكانه من تاحجموت، فاغذّ السير إلى تلمسان ودخلها، وعاد إلى ملكه بها، وتفجّع لتلك القصور بما ذهب من رونق حسنها، وراجع دولته بني عبد الواد وسلطانهم بتلمسان والله سبحانه وتعالى أعلم.
(تجدّد المنافسة بين أولاد السلطان أبي حمو ومجاهرة أبي تاشفين بذلك لهم ولأبيه)
كان التنافس بين هؤلاء الأولاد خفيّا على الناس بما كان السلطان أبوهم يؤامل بينهم ويداري بعضهم عن بعض. فلما خرجوا أمام بني مرين وعادوا إلى تلمسان صار تنافسهم إلى العداوة. واتّهم أبو تاشفين أباه بممالأة إخوته عليه، فشمّر لعقوقه وعداوته! وشعر السلطان بذلك فأعمل الحركة إلى ناحية البطحاء موريا بإصلاح العرب، ومعتزما على لقاء ابنه المنتصر بمليانة جناحه، ويتخطّى إلى الجزائر فيجعلها دار ملكه بعد أن استخلف بتلمسان ابنه أبا تاشفين وحالفه على المناصحة. واطلع موسى بن يخلف على خبيئة السلطان بذلك، فدسّ بها إلى أبي تاشفين على عادته، فطار به الأسف كل مطار وأغذّ السير من تلمسان فيمن معه من العسكر، وصبح أباه بأسافل البطحاء قبل أن يتصل بالمنتصر، وكشف القناع عن التكبّر والتسخط على ما بلغه، فحلف له السلطان على ذلك وأرضاه بالرجوع معه إلى تلمسان فرجعا جميعا.
(خلع السلطان أبي حمو واستبداد ابنه أبي تاشفين بالملك واعتقاله إياه)
ولما رجع السلطان من البطحاء وبطل ما كان يؤمّله من الاتصال بالمنتصر، دسّ إليه(7/191)
مع خالصة من أهل دولته يعرف بعلي بن عبد الرحمن بن الكليب بأحمال من المال يودعها إلى أن يجد السبيل لحاجة نفسه. وكتب له بولاية الجزائر ليقيم بها حتى يخلص إليه. واطلع موسى على ذلك فأطلع أبا تاشفين على الخبر، فبعث في أثره من حاشيته من اغتال ابن الكليب وجاء إليه بالمال والكتب، فاطلع منها على حقيقة أمرهم وأنهم متربّصون به، فاستشاط وجاهر أباه وغدا عليه بالقصر، فأوقفه على الكتاب وبالغ في عذله. وتحيّز موسى بن يخلف إلى أبي تاشفين، وهجر باب السلطان وأغرى به ابنه فغدا على أبيه بالقصر بعد أيام وخلعه، وأسكنه بعض حجر القصر، ووكّل به، واستخلص ما كان معه من الأموال والذخيرة. ثم بعث به إلى قصبة وهران فاعتقله بها، واعتقل من حضر بتلمسان من إخوته، وذلك آخر ثمان وثمانين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى المنتصر بمليانة وأبي زيان وعمير، فلحقوا بقبائل حصين واستذمّوا بهم، فأذمّوهم وأنزلوهم عندهم بجبل تيطري. وجمع أبو تاشفين العساكر واستألف العرب من سويد وبني عامر، وخرج في طلب المنتصر وإخوته، ومرّ بمليانة فملكها. ثم تقدّم إلى جبل تيطري وأقام في حصارهم به، وهم ممتنعون عليه. والله تعالى أعلم.
(خروج السلطان أبي حمو من الاعتقال ثم القبض عليه وتغريبه الى المشرق)
لما طال مقام أبي تاشفين على تيطري لحصار إخوته، ارتاب بأمر أبيه وطول مغيبه عنه. وشاور أصحابه في شأنه، فأشاروا بقتله واتفقوا على ذلك، فبعث أبو تاشفين ابنه أبا زيّان في لمة من حاشيته فيهم ابن الوزير عمران بن موسى، وعبد الله ابن الخراساني، فقتلوا من كان معتقلا بتلمسان من أبناء السلطان، وتقدّموا إلى وهران وسمع أبو حمّو بقدومهم، فأوجس الخيفة منهم واطلع من جدران القصبة ينادي بالصريخ في أهل البلد، فتبادروا إليه من كل جهة، وتدلى لهم بحبل وصله من عمامته التي كان متعمما بها، فشالوه حتى استقرّ بالأرض واجتمعوا إليه. وكان الرهط الذين جاءوا والقتلة بباب القصر، وقد أغلقه دونهم. فلما سمعوا الهيعة واستيقنوا الأمر، طلبوا(7/192)
النجاة بدمائهم. واجتمع أهل البلد على السلطان، وتولى كبر ذلك خطيبهم، وجدّدوا له البيعة وارتحل من حينه إلى تلمسان، فدخلها أوائل تسع وثمانين وسبعمائة وهي يومئذ عورة بما كان بنو مرين هدموا من أسوارها وأزالوا حصنها. وبعث فيمن كان مخلفا بأحياء بني عامر من أكابرهم ووجوههم، فقدموا عليه. وطار الخبر إلى أبي تاشفين بمكانه من حصار تيطري، فانكفأ راجعا إلى تلمسان فيمن معه من العساكر والعرب، وبادره قبل أن يستكمل أمره فأحيط به. ونجا إلى مئذنة الجامع فاعتصم بها، ودخل أبو تاشفين القصر، وبعث في طلبه. وأخبر بمكانه فجاء إليه بنفسه واستنزله من المئذنة، وأدركته الرقّة، فجهش بالبكاء وقبّل يده، وغدا به إلى القصر واعتقله ببعض الحجر هنالك، ورغب إليه أبوه في تسريحه إلى المشرق لقضاء فرضه، فشارط بعض تجّار النصارى المتردّدين إلى تلمسان من القيطلان على حمله إلى الإسكندرية، وأركبه السفن معهم بأهله من فرضة وهران ذاهبا لطيبة موكّلا به، وأقبل أبو تاشفين على القيام بدولته، والله تعالى أعلم.
(نزول السلطان أبي حمو ببجاية من السفين واستيلاؤه على تلمسان ولحاق أبي تاشفين بالمغرب)
لما ركب السلطان أبو حمّو السفين ذاهبا إلى الإسكندرية، وفارق أعمال تلمسان وحاذى بجاية، داخل صاحب السفينة في أن ينزله ببجاية، فأسعفه بذلك. فخرج من الطارمة التي كان بها معتقلا، وصار الموكّلون به في طاعته. وبعث إلى محمد بن أبي مهدي قائم الأسطول ببجاية المستبدّ على أميرها من ولد السلطان أبي العبّاس بن أبي حفص. وكان محمد خالصة المستنصر بن أبي حمو من ناحية دولتهم. قد خلص إلى بجاية من تيطري بعد ما تنفس لحصار عنهم فبعثه ابن أبي مهدي إلى السلطان أبي حمّو بالإجابة إلى ما سأل. وأنزله ببجاية آخر تسع وثمانين وسبعمائة وأسكنه بستان الملك المسمّى بالرفيع، وطيّر بالخبر إلى السلطان بتونس، فشكر له ما آتاه من ذلك، وأمره بالاستبلاغ في تكريمه، وأن يخرج عساكر بجاية في خدمته إلى حدود عمله متى احتاج إليها. ثم خرج السلطان أبو حمو من بجاية ونزل متيجة واستنفر طوائف العرب من كل ناحية فاجتمعوا إليه ونهض يريد تلمسان واعصوصب(7/193)
قومه بنو عبد الواد على أبي تاشفين بما بذل فيهم من العطاء وقسم من الأموال، فنابذوا السلطان أبا حمّو واستصعب عليه أمرهم. وخرج إلى الصحراء وخلف ابنه أبا زيّان في جبال شلف مقيما لدعوته. وبلغ إلى تاسة [1] من ناحية المغرب. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فبعث عسكرا إلى شلف مع ابنه أبي زيّان ووزيره محمد بن عبد الله ابن مسلم، فتواقفوا مع أبي زيّان ابن السلطان أبي حمو فهزمهم. وقتل أبو زيان بن أبي تاشفين ووزيره ابن مسلم، وجماعة من بني عبد الواد. وكان أبو تاشفين لما بلغه وصول أبيه إلى تاسة، سار إليه من تلمسان في جموعه، فأجفل أبو حمو إلى وادي صا [2] واستجاش بالأحلاف من عرب المعقل هنالك، فجاءوا لنصره، ورعوا زمامه فنزلها، وأقام أبو تاشفين قبالته وبلغه هنالك هزيمة ابنه ومقتله، فولّى منهزما إلى تلمسان وأبو حمّو في اتباعه. ثم سرّح أبو تاشفين مولاه سعادة في طائفة من العسكر لمحاولة العرب في التخلّي عن أبي حمو، فانتهز فيه الفرصة وهزمه وقبض عليه، وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين بتلمسان، وكان يؤمّل النجاح عند سعادة فيما توجه فيه، فأخفق سعيه، وانفض عنه بنو عبد الواد والعرب الذين معه، وخرج هاربا من تلمسان مع أوليائه من سويد إلى مشاتيهم بالصحراء. ودخل السلطان أبو حمّو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة وقدم عليه أبناؤه فأقاموا معه بتلمسان، فطرق المنتصر ابنه المرض فهلك بها لأيام من دخوله تلمسان، واستقرّ الأمر على ذلك، والله أعلم.
(نهوض أبي تاشفين بعساكر بني مرين ومقتل السلطان أبي حمو)
لما خرج أبو تاشفين من تلمسان أمام أبيه، واتصل بأحياء سويد، أجمعوا رأيهم على الاستنجاد بصاحب المغرب، فوفد أبو تاشفين ومعه محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صاحب فاس، وسلطان بني مرين صريخين على شأنهما، فقبل وفادتهما ووعدهما بالنصر من عدوّهما. وأقام أبو تاشفين عنده ينتظر إنجاز وعده،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تامة.
[2] ويدعى وادي (زا) وهو الى يمين وادي ملوية. ونطقه عند أهل المغرب بين الصاد والزاي.(7/194)
وكان بين أبي حمو وابن الأحمر صاحب الأندلس وشيجة ودّ وعقيدة وصلة، ولابن الأحمر دالة وتحكّم في دولة أبي العبّاس صاحب المغرب بما سلف من مظاهرته على أمره منذ أول دولته، فبعث أبو حمو في الدفاع عنه من إجازة أبي تاشفين من المغرب إليه، فلم يجبه صاحب المغرب وفاء بذمّته وعلّله بالقعود عن نصره. وألحّ عليه ابن الأحمر في ذلك، فتعلّل بالمعاذير. وكان أبو تاشفين قد عقد لأوّل قدومه مع وزير الدولة محمد بن يوسف بن علّال حلفا اعتقد الوفاء به، فكان هواه في إنجاده ونصره من عدوّه، فلم يزل يفتّل لسلطانه في الذروة والغارب، ويلوي عن ابن الأحمر المواعيد حتى أجابه السلطان إلى غرضه.
وسرّح ابنه الأمير أبا فارس والوزير محمد بن يوسف بن علال في العساكر لمصارخة أبي تاشفين. وفصلوا عن فاس أواخر إحدى وتسعين وسبعمائة وانتهوا إلى تازى. وبلغ خبرهم إلى السلطان أبي حمّو فخرج من تلمسان وجمع أشياعه من بني عامر والخراج [1] بن عبيد الله وقطع جبل بني ورنيد المطل على تلمسان، وأقام بالغيران من جهاته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فقدم إلى تلمسان فجدد المكر والخديعة وشيطان الفتنة والشر موسى بن يخلف، فاستولى عليها وأقام دعوة أبي تاشفين فيها، فطيّر الخبر إلى أبي حمو ابنه عمير، فصبحه بها لليلة من مسيرة، فأسلمه أهل البلد.
وتقبّض عليه، وجاء به أسيرا إلى أبيه بمكانه من الغيران، فوبّخه أبو حمّو على فعاله. ثم أذاقه أليم عقابه ونكاله، وأمر به فقتل أشنع قتلة. وجاءت العيون إلى أبي فارس ابن صاحب المغرب ووزيره ابن علال بمكان أبي حمّو واغرابه بالغيران، فنهض الوزير ابن علال في عساكر بني مرين لغزوه، وسار أمامهم سليمان بن ناجي من الأحلاف إحدى بطون المعقل، يدل بهم طريق القفر حتى صبحوه ومن معه من أحياء الخراج في مكان مقامتهم بالغيران. وناوشوهم القتال فلم يطيقوهم لكثرتهم، وولّوا منهزمين، وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط وأدركه بعض فرسانهم وعرفه فقتله قعصا بالرماح، وجاءوا برأسه إلى الوزير ابن علّال وأبي تاشفين، وجيء بابنه عمير أسيرا. وهمّ أبو تاشفين أخوه بقتله فمنعوه أياما، ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل أبو تاشفين تلمسان أواخر إحدى وتسعين وسبعمائة وخيّم الوزير وعساكر بني مرين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الجراح.(7/195)
بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام هو بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب ويخطب له على منابره، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(مسير أبي زيان بن أبي حمو لحصار تلمسان ثم اجفاله عنها ولحاقه بصاحب المغرب)
كان السلطان أبو حمو قد ولّى على الجزائر ابنه أبا زيّان لما عاد إلى ملكه بتلمسان، وأخرج منها أبا تاشفين. فلما قتل أبو حمّو بالغيران كما قلناه، وخرج أبو زيّان من الجزائر ناجيا إلى أحياء حصين يؤمّل الكرّة بهم والأخذ بثأر أبيه وأخيه، فاشتملوا عليه وأجابوا صريخه. ثم وفد عليه أمراء بني عامر من زغبة يدعونه لملكه، فسار إليهم وقام بدعوته وطاعته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصروها أياما، وسرّب أبو تاشفين المال في العرب، فافترقوا على أبي زيّان، وخرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة. ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوّال، وبعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب، فجاءه بمدد من العسكر. ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان، وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوفد عليه صريخا، فتلقّاه وبرّ مقدمه، ووعده النصر من عدوّه، وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين والله تعالى أعلم.
(وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان)
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم، ومؤدّيا للضريبة التي فرضها عليه منذ أوّل ملكه، وأخوه الأمير أبو زيّان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه(7/196)
حتى تغيّر السلطان أبو العبّاس على أبي تاشفين في بعض النزغات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان، فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازي وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به. ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم، وكان يمت إليه بخؤولة، فولّى بعده مكانه صبيا من أبنائه وقام بكفالته، وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلما بلغه الخبر أغذّ السير مع العرب، ودخل تلمسان فقتل أحمد بن العز والصبيّ المكفول ابن أخيه تاشفين. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب، خرج إلى تازى وبعث من هناك ابنه أبا فارس في العساكر، ورد أبا زيان بن أبي حمو إلى فاس ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام فيها دعوة أبيه، وتقدّم وزير أبيه صالح بن حمو إلى مليانة فملكها، وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف ابن الزابية بحصن تاحجموت. وأقام الوزير صالح يحاصره، وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط، والله غالب على أمره.
(وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط)
كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى، وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الّذي تقدّم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حجّ سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق، وتقدّمت إلى السلطان فئة وأخبرته بمحلّه من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله بعد قضاء حجّة هدية إلى صاحب المغرب، يطوقه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك.
فلمّا قدم بها يوسف على السلطان أبي العباس عظم موقعها، وجلس في مجلس جعله لعرضها والمباهاة بها، وشرع في المكافأة عنها بتخيّر الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه، واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول.
وأنه يرسله من تازى أيام مقامته هناك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم(7/197)
سنة ست وتسعين وسبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى، وولّوه مكانه، ورجعوا به إلى فاس، وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال، وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها، وقائما بعد السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها، وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عند ما بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك وأسلموه إلى ثقات أبي زيان، وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله، وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان فسكنت أحواله، وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته، وهم على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره.
وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، (وبقي) علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين منذ أول الدولة، وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندور أمرائهم بمراكش، فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
.(7/198)
(الخبر عن بني كميّ أحد بطون بني القاسم بن عبد الواد وكيف نزعوا إلى بني مرين وما صار لهم بنواحي مراكش وأرض السوس من الرئاسة)
قد تقدّم لنا أوّل الكلام في بني عبد الواد أنّ بني كمي هؤلاء من شعوب القاسم، وأنهم بنو كمي بن يمل بن يزكن بن القاسم إخوة طاع الله وبني دلول وبني معطي دلول. وبني معطي بن جوهر بن علي [1] . وذكرنا ما كان بين طاع الله وبين إخوانهم بني كمي من الفتنة، وكيف قتل كندوز بن عبد الله كبير بني كمي زيّان بن ثابت بن محمد كبير بني طاع الله، وأنّ جابر بن يوسف بن محمد القائم بالأمر من بعده ثار منهم بزيّان، وقتل كندوزا غيلة أو حربا، وبعث برأسه إلى يغمراسن بن زيّان فنصب عليها أهل. بيته القدور شفاية لنفوسهم. واستمرّ الغلب بعدها على بني كمي، فلحقوا بحضرة تونس وكبيرهم إذ ذاك عبد الله بن كندوز. ونزلوا على الأمير أبي زكريا حتى كان من استيلائه على تلمسان ما قدّمنا ذكره. وطمع عبد الله في الاستبداد بتلمسان، فلم يتفق ذلك. ولما هلك مولانا الأمير أبو زكريا، وولي ابنه المنتصر، أقام عبد الله صدرا من دولته. ثم ارتحل هو وقومه إلى المغرب ونزل على يعقوب بن عبد الحق قبل فتح مراكش، فاهتزّ يعقوب لقدومه وأحلّه بالمكان الرفيع من دولته. وأنزل قومه بجهات مراكش، وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم.
وجعل السلطان انتجاع إبله وراحلته في أحيائهم. وقدّم على رعايتها حسّان بن أبي سعيد الصبيحي وأخاه موسى، وصلا في لفيفه من بلاد المشرق، وكانا عارفين برعاية الإبل والقيام عليها، وأقاموا يتقلّبون في تلك البلاد، ويتعدّون في نجعتها إلى أرض السوس. وأوفد يعقوب بن عبد الحق عبد الله بن كندوز هذا على المنتصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين وستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدّمناه. والتحم بنو كمي ببني مرين وأصبحوا إحدى بطونهم. وهلك عبد الله بن كندوز، وصارت رياستهم من بعده لابنه عمر بن عبد الله. فلمّا نهض يوسف بن يعقوب بن عبد الحق
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وبني دلوك وبني موطي بن جوهر بن علي.(7/200)
إلى المغرب الأوسط وشغل بحصار تلمسان، وتحدّث الناس بما نزل بعبد الواد من بني مرين، أخذت بني كمي الحمية وامتعضوا لقومهم، وأجمعوا الخلاف والخروج على السلطان. ولحقوا بحاجة [1] سنة ثلاث وسبعمائة، واستولوا على بلاد السوس، فخرج إليهم أخو السلطان الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب، فناجزوه الحرب بتادارت وغلبوه، واستمرّوا على خلافهم. ثم عاود محاربتهم بتامطولت سنة أربع وسبعمائة بعدها، فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصّت جناحهم. وقتل عمر بن عبد الله وجماعة من كبرائهم، وفرّوا أمامه إلى الصحراء، ولحقوا بتلمسان وهدم يعيش بن يعقوب تارودنت قاعدة أرض السوس، وأقام بنو كندوز بعدها بتلمسان نحوا من ستة أشهر. ثم توجّسوا الغدر من ولد عثمان بن يغمراسن فرجعوا إلى مراكش. واتبعهم عساكر السلطان وأبلى منهم في القتال عنهم محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز، وخلصوا إلى منجاتهم مشرّدين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان يوسف بن يعقوب. وراجعوا طاعة الملوك بالمغرب فعفوا لهم عما سلف من هذه الجزيرة وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة. وكان أميرهم من بعد عمر ابنه محمد، وأقام في إمارتهم سنين [2] ثم ابنه موسى بن محمد من بعده كذلك.
واستخلصه السلطان أبو الحسن أيام الفتنة بينه وبين أخيه أبي عليّ، لعهد أبيهما السلطان أبي سعيد ومن بعده، فكانت له في المدافعة عن نواحي مراكش آثار وأيام. ثم هلك موسى بن محمد فولّى السلطان أبو الحسن مكانه ابنه يعقوب بن موسى. ولما غلب على تلمسان وأصار بني عبد الواد في خوله وجنوده، تمشّت رجالاتهم وساموا أشجانهم حتى إذا كانت واقعة القيروان وتواقف السلطان وبني سليم داخلهم يعقوب بن موسى في أن ينخذل عن السلطان إليهم ببني عبد الواد ومن إليهم من مغراوة وتوجين، وأوعدهم لذلك، ثم مشى في قومه وكافة بني عبد الواد فأجابوه الى ذلك. ولحقوا جميعا ببني سليم، فجرّوا بذلك الهزيمة على السلطان وكانت نكبة القيروان المشهورة. ولحقوا [3] بعدها بتلمسان، وولّوا أمرهم في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ولحقوا بالحاحة. ولم يذكر صاحب معجم البلدان هذه ولا تلك وانما ذكر حاجة:
موضع في قول لبيد: فذكّرها مناهل آجنات بحاجة، لا تنزّح بالدّوالي.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: سنتين.
[3] الضمير يعود الى بني عبد الواد.(7/201)
بني يغمراسن. وهلك يعقوب بن موسى بإفريقية، ولحق أخوه رحو بالمغرب. وكان السلطان أبو عنّان قد استعمل على جماعتهم وعملهم عبو بن يوسف بن محمد. وهو ابن عمهم دنيا، فأقام فيهم كذلك حتى هلك، فولي من بعده ابنه محمد بن عبو وهم على ذلك لهذا العهد، يعسكرون للأمير بمراكش، ويتولون من خدمة السلطان هنالك ما لهم فيه الغناء والكفاية. فكأنّهم بمعزل عن بني عبد الواد لاستحكام العداوة بمقتل زيان بن ثابت. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، لا رب غيره ولا معبود سواه
.(7/202)
(الخبر عن بني راشد بن محمد بن يادين وذكر أوّليتهم وتصاريف أحوالهم)
وإنما قدّمنا ذكرهم قبل استتمام بطون بني يادين لأنهم لم يزالوا أحلافا لبني عبد الواد ومن جملتهم، فكانت أخبارهم من أخبارهم، وأمّا راشد أبوهم فهو أخو يادين.
واختصّ بنوه كما قلنا ببني عبد الواد، وكانت مواطنهم بالصحراء بالجبل المعروف براشد اسم أبيهم. وكانت مواطن مديونة من قبائل البربر قبلة تاسالت وبنو ورنيد من بطون دمر قبلة تلمسان الى قصر سعيد. وكان جبل هوّارة موطنا لبني يلوما الذين كان لهم الملك كما قدّمنا. ولما اضمحل أمر بني يلوما وذهبت دولتهم، زحف بنو راشد هؤلاء من بطونهم بجبل راشد إلى بسائط مديونة وبني ورنيد، فشنّوا عليهم الغارات، وطالت بينهم الحرب إلى أن غلبوهم على مواطنهم وألجئوهم إلى الأوعار، فاستوطن بنو ورنيد الجبل المطل على تلمسان، واستوطن مديونة جبل تاسالت. وملك بنو راشد بسائطهم القبلية. ثم استوطنوا جبلهم المعروف بهم لهذا العهد، وهو بلد بني يفرن الذين كانوا ملوك تلمسان لأوّل الإسلام، وكان منهم أبو قرّة الصفري كما قدّمناه.
وكان منهم بعد ذلك يعلى بن محمد الأمير الّذي قتله جوهر الصقلي قائد الشيعة كما ذكرناه في أخبارهم. ويعلى هذا هو الّذي اختط بهذا الجبل مدينة ايفكان التي هدمها جوهر يوم قتله. فلما ملك بنو راشد هذا الجبل استوطنوه وصار حصنا لهم، ومجالاتهم في ساحة القبلة إلى أن غلبهم العرب عليها لهذا العهد، وألجئوهم إلى الجبل.
وكان غلب بني راشد على هذه الأوطان بين دخول بني عبد الواد إلى المغرب الأوسط، وكانوا شيعة لهم وأحلافا في فتنتهم مع بني توجين وبني مرين، وكانت رياستهم في بيت منهم يعرفون ببني عمران، وكان القائم بها لأوّل دخولهم إبراهيم بن عمران واستبدّ عليه أخوه وترمار [1] وقام بأمرهم إلى أن هلك، فولى ابنه مقاتل بن وترمار وقتل عمه إبراهيم وافترقت رياسة بني عمران من يومئذ بين بني إبراهيم وبني وترمار إلا أنّ رياسة بني إبراهيم أظهر، فولي بعد إبراهيم بن عمران ابنه وترمار وكان معاصرا ليغمراسن بن زيّان وطال عمره، ولما هلك لتسعين من المائة السابعة ولي
__________
[1] هكذا في الجدول المرفق وترمار وفي نسخة أخرى: وترمار.(7/203)
أمرهم غانم ابن أخيه محمد بن إبراهيم. ثم كان فيهم من بعده موسى بن يحيى بن وترمار، لا أدري معاقبا لغانم أو توسطهما أحد. ولما زحف بنو مرين إلى تلمسان آخر زحفهم، صار بنو راشد هؤلاء إلى طاعة السلطان أبي الحسن، وشيخهم لذلك العهد أبو يحيى موسى بن عبد الرحمن بن وترمار بن إبراهيم. وانحصر بتلمسان بنو عمه كرجون بن وترمار وانقرض أمر بني عبد الواد وأشياعهم. ونقل بنو مرين رءوس زناتة أجمع إلى المغرب الأقصى، فكان بنو وترمار هؤلاء ممن صار إلى المغرب وأوطنوه إلى أن صار الأمر لبني عبد الواد الكرّة الثالثة على يد أبي حمو الأخير موسى بن يوسف. وكان شيخ بني راشد لعهده ابن أبي يحيى بن موسى المذكور أقبل إليهم من المغرب من إيالة بني مرين، فاتهمه أبو حمّو بمداخلتهم، فتقبّض عليه واعتقله مدّة بوهران. وفرّ من معتقله فلحق بالمغرب وارتحل بين أحيائهم مدّة. ثم رجع إلى الطاعة واقتضى العهد من السلطان أبي حمو، وولّاه على قومه. ثم تقبّض عليه واعتقله إلى أن قتله بمحبسه سنة ثمان وستين وسبعمائة، وانقرض أمر بني وترمار بن إبراهيم، وأمّا بنو وترمار بن عمران فقام بأمرهم بعد مقاتل بن وترمار أخوه أبو زركن [1] بن وترمار، ثم ابنه يوسف بن أبي زركن، ثم آخرون من بعدهم لم تحضرني أسماؤهم إلى أن غلب عليهم بنو وترمار بن إبراهيم. وقد ذهبت لهذا العهد رياسة أولاد عمران جميعا، وصار بنو راشد هؤلاء خولا للسلطان وجباية، وبقيتهم بجبلهم على الحال التي ذكرناها، والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تورزكن.(7/204)
(الخبر عن بني توجين من شعوب بني يادين من أهل هذه الطبقة الثالثة من زناتة وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب الأوسط وأوّلية ذلك ومصايره)
كان هذا الحيّ من أعظم أحياء بني يادين وأوفرهم عددا. وكانت مواطنهم حفافي وادي شلف قبلة جبل وانشريس من أرض السرسو، وهو المسمّى لهذا العهد نهر صا [1] وكان بأرض السرسو بجهة الغرب منه بطون من لواتة، وغلبهم عليها بنو وجديجن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نهر واصل واما صاحب معجم البلدان فقد ذكر صا: بالقصر كورة بمصر، وصا مسماة بصا بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح.(7/205)
ومطماطة. ثم صارت أرض السرسو لبني توجين هؤلاء واستضافوها الى مواطنهم الأولى وصارت مواطنهم ما بين موطن بني راشد وجبل دراك في جانب القبلة. وكانت لهم رياسة أيام صنهاجة لعطيّة بن دافلتن، وابن عمه لقمان بن المعتز كما ذكره ابن الرقيق. ولما كانت فتنة حمّاد بن بلكين مع عمه باديس، ونهض إليه باديس من القيروان حتى احتل بوادي شلف، تحيّز إليه بنو توجين هؤلاء، وكان لهم في حروب حمّاد آثار مذكورة. وكان لقمان بن المعتز أظهر من عطية بن دافلتن، وكان قومهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف. وأوفد لقمان ابنه بدرا على باديس قبل اللقاء طاعة له وانحياشا. فلما انهزم حمّاد رعى لهم باديس انحياشهم إليه، وسوّغ لهم ما غنموه، وعقد للقمان على قومه ومواطنه، وعلى ما يفتحه من البلاد بدعوته. ثم انفرد برياستهم بعد حين بنو دافلتن. ويقال إنه دافلتن بن أبي بكر بن الغلب. وكانت رياستهم لعهد الموحدين لعطية بن مناد بن العبّاس بن دافلتن، وكان يلقّب عطية الحيو.
وكانت بينهم لعهده وبين بني عبد الواد حروب، كان متولي كبرها من بني عبد الواد شيخهم لذلك العهد عدوى بن يكنيجن [1] بن القاسم، فلم تزل تلك الفتنة بينهم إلى أن غلبهم بنو عبد الواد آخرا على مواطنهم كما نذكره.
ولما هلك عطية الحيو قام بأمرهم أبو العبّاس، وكانت له آثار في الإجلاب على ضواحي المغرب الأوسط. ونقض طاعة الموحدين إلى أن هلك سنة سبع وستمائة، دسّ عامل تلمسان يومئذ أبو زيد بن لوحان [2] من اغتاله فقتله. وقام بأمرهم من بعده ابنه عبد القوي، فانفرد برياستهم وتوارثها عقبه من بعده كما نذكره. وكان من أشهر بطون بني توجين هؤلاء يومئذ بنو يدللتن وبنو قمري [3] وبنو مادون وبنو زنداك وبنو وسيل وبنو قاضي وبنو مامت، ويجمع هؤلاء الستة بنو مدن. ثم بنو تيغرين وبنو يرناتن وبنو منكوش، ويجمع هؤلاء الثلاثة بنو سرغين [4] ، ونسب بني زنداك دخيل فيهم، وإنما هم من بطون مغراوة. وبنو منكوش هؤلاء منهم عبد القوي بن العبّاس ابن عطية الحيو، هكذا رأيت نسبه لبعض مؤرّخي زناتة المنكوشي. وكانت رياسة بني
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يكنمن.
[2] وفي نسخة ثانية: بوجان.
[3] وفي نسخة ثانية: نمزي.
[4] وفي نسخة ثانية: رسوغين.(7/206)
توجين جميعا عند انقراض أمر بني عبد المؤمن لعبد القويّ بن العبّاس بن عطية الحيو، وأحياؤهم جميعا بتلك المجالات القبلية.
فلمّا وهن أمر بني عبد المؤمن وتغلّب مغراوة على بسائط متيجة، ثم على جبل وانشريس، نازعهم عبد القوي هذا وقومه أمر وانشريس، وغالبوهم إلى أن غلبوهم عليه، واستقرّ في ملكهم وأوطنه بنو تيغرين وبنو منكوش من أحيائهم. ثم تغلبوا على منداس وأوطنها أحياء بني مدن جميعا. وكان الظهور منهم لبني يدللتن، ورياسة بني يدللتن لبني سلامة. وبقي بنو يرناتن من بطونهم بمواطنهم الأولى قبلة وانشريس. وكان من أحلاف بني عطية الحيو بنو تيغرين منهم خاصة، وأولاد عزيز بن يعقوب، ويعرفون جميعا بالوزراء [1] ولما تغلّبوا على الأوطان والتلول، وأزاحوا مغراوة عن المدية ووانشريس وتافركينت، واستأثروا بملكها وملك الأوطان عن غربيها مثل:
منداس والجعبات وتاوغزوت، ورئيسهم لذلك العهد عبد القويّ بن العبّاس، والكل لأمره. فصار له ملك بدوي ولم يفارق فيه سكنى الخيام ولا أبعاد النجعة ولا ائتلاف الرحلتين. ينتابون في مشاتيهم إلى مصاب والزاب، وينزلون في المصايف بلادهم هذه من التل ولم يزل هذا شأن عبد القوي وابنه محمدا، إلى أن تنازع بنوه الأمر من بعده، وقتل بعضهم بعضا. وتغلّب بنو عبد الواد على عامّة أوطانهم وأحيائهم، واستبدّ عليهم بنو يرناتن وبنو يدللتن فصاروا إلى بني عبد الواد. وبقي أعقابهم بجبل وانشريس إلى أن انقرضوا على ما نذكره بعد.
وكان عبد القويّ لما غلب مغراوة على جبل وانشريس، اختطّ حصن مرات، بعد أن كان منديل المغراوي شرع في اختطاطه، فبنى منه القصبة ولم يكمله، فأكمله محمد بن عبد القوي من بعده. ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر إفريقية، وصارت لهم خلافة الموحّدين نهض الأمير أبو زكريا إلى المغرب الأوسط، ودخلت في طاعته قبائل صنهاجة، وفرّت زناتة أمامه. وردّد إليهم الغزو فأصاب منهم. وتقبّض في بعض غزواته على عبد القوي بن العبّاس أمير بني توجين فاعتقله بالحضرة. ثم من عليه وأطلقه على أن يستألف له قومه، فصاروا شيعة له ولقومه آخر الدهر. ونهض الأمير أبو زكريا بعدها إلى تلمسان، فكان عبد القوي وقومه في جملته حتى إذا ملك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالحشم.(7/207)
تلمسان، ورجع إلى الحضرة عقد لعبد القويّ هذا على قومه ووطنه، وأذن له في اتخاذ الآلة، فكانت أوّل مراسم الملك لبني توجين هؤلاء. وكانت حالهم مع بني عبد الواد تختلف في السلم والحروب. ولما هلك السعيد على يد يغمراسن وقومه كما ذكرناه، استنفر يغمراسن سائر أحياء زناتة لغزو المغرب، ومسابقة بني مرين إليه، فنفر معه عبد القوي في قومه سنة سبع وأربعين وستمائة وانتهوا إلى تازى، واعترضهم أبو يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين في قومه، فنكصوا واتبعهم إلى انكاد فكان اللقاء، وانكشفت جموع بني يادين وكانت الهزيمة التي ذكرناها في أخبار بني عبد الواد. وهلك عبد القوي مرجعه منها في سنته بالموضع المعروف باحمون [1] من مواطنهم. وتصدّى للقيام بعده بأمرهم ابنه يوسف، فمكث في تلك الإمارة أسبوعا، ثم قتله على جدث أبيه أخوه محمد بن عبد القويّ، وولي عهد أبيه سابع مواراته. وفرّ ابنه صالح بن يوسف إلى بلاد صنهاجة بجبال المدية، فأقام بها هو وبنوه. واستقلّ محمد برياسة بني توجين، واستغلظ ملكه، وكان الفحل الّذي لا يقرع أنفه. ونازعه يغمراسن أمره ونهض إلى حربه سنة تسع وأربعين وستمائة وعمد إلى حصن تافركينت فنازله، وبه يومئذ حافده عليّ بن زيان بن محمد في عصابة من قومه، فحاصره أياما وامتنعت عليه فارتحل عنها، ثم تواضعوا أوزار الحرب ودعاه يغمراسن إلى مثل ما دعا إليه أباه من غزو بني مرين في بلادهم فأجاب. ونهضوا سنة سبع وخمسين وستمائة ومعهم مغراوة فانتهوا إلى كلدمان ما بين تازى وأرض الريف. ولقيهم يعقوب بن عبد الحق في جموعه فانكشفوا ورجعوا منهزمين إلى بلادهم كما ذكرناه. وكانت بينه وبين يغمراسن بعد ذلك فتن وحروب، فنازله فيها بجبل وانشريس مرّات، وجاس خلال وطنه. ولم يقع بعدها بينهما مراجعة لاستبداد يغمراسن بالملك، وسمّوه إلى التغلّب على زناتة أجمع وبلادهم، وكانوا جميعا منحاشين إلى الدولة [2] الحفصيّة. وكان محمد بن عبد القوي كثير الطاعة للسلطان المستنصر.
(ولما نزل) النصارى الإفرنجة بساحل تونس سنة ثمان وستين وستمائة وطمعوا في ملك الحضرة، بعث المستنصر إلى ملوك زناتة بالصريخ فصرفوا وجوههم إليه، وخفّ من بينهم محمد بن عبد القويّ في قومه ومن احتشد من أهل وطنه، ونزل على السلطان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ماحنون، وفي نسخة أخرى: ماحيون.
[2] وفي نسخة ثانية: الدعوة الحفصيّة.(7/208)
بتونس وأبلى في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وكانت له في أيامه معهم مقامات مذكورة، ومواقف مشهورة، وعند الله محتسبة معدودة. ولما ارتحل العدوّ عن الحضرة وأخذ محمد بن عبد القويّ في الانصراف إلى وطنه، أسنى السلطان جائزته، وعمّ بالإحسان وجوه قومه وعساكره، وأقطعه بلاد مغراوة وأوماش من وطن الزاب، وأحسن منقلبه. ولم يزل بعد ذلك معتقلا بطاعته مستظهرا على عدوه بالانحياش إليه. ولما استغلظ بنو مرين على يغمراسن بعد استيلائهم على أمصار المغرب واستبدادهم بملكه، وصل محمد يده بهم في الاستظهار على يغمراسن، وأوفد ابنه زيّان بن محمد عليهم.
ولما نهض يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان سنة سبعين وستمائة وأوقع بيغمراسن في الوقيعة التي هلك فيها ابنه فارس. نهض محمد بن عبد القوي للقائه ومرّ في طريقه بالبطحاء، وهي يومئذ ثغر لأعمال يغمراسن فهدمها. ولقي يعقوب بن عبد الحق في ساحة تلمسان مباهيا بآلته فأكرم يعقوب وفادته وبرّ مقدمه. ونازلوها أياما فامتنعت عليهم، وأجمعوا على الإفراج وتأذن لهم يعقوب بن عبد الحق متلوما عليها إلى أن يلحق محمد وقومه ببلادهم، حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ففعل، وملأ حقائبهم باتحافه، وجنّب لهم مائة من الجياد العتاق بالمراكب الثقيلة، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب، وعمّهم بالصلات والخلع الفاخرة، واستكثر لهم من السلاح والفازات والأخبية والحملان وارتحلوا، ولحق محمد بن عبد القويّ بمكانه من جبل وانشريس، واتصلت حروبه مع يغمراسن، وكثر اجلابه على وطنه وعيثه في بلاده. وهو مع ذلك مقيم على موالاة يعقوب واتحافه بالعتاق من الخيل والمستجاد من الطرف. حتى أنّ يعقوب إذا اشترط على يغمراسن في مهادنته جعل سلمهم من سلمه، وحربهم من حربه، وبسببهم كان نهوض يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة لما اشترط عليه ذلك، ولجّ في قبوله، فنهض إليه وأوقع به بخرزوزة. ثم أناخ عليه بتلمسان، ووافاه هنالك محمد بن عبد القويّ فلقيه بالقصاب [1] ، وعاثوا في نواحي تلمسان نهبا وتخريبا. ثم أذن يعقوب لمحمد وقومه في الانطلاق إلى بلادهم، وتلوم هو بمكانه من ضواحي تلمسان مدة منجاتهم إلى مكانهم من وانشريس حذرا عليهم من اعتراض
__________
[1] وهي القصبات: مدينة بالمغرب من بلاد البربر: معجم البلدان.
ابن خلدون م 14 ج 7(7/209)
يغمراسن. ولم يزل شأنهما ذلك إلى أن هلك يغمراسن بسدلونة [1] من بلاد مغراوة خاتمة إحدى وثمانين وستمائة وفي خلال ذلك استغاظ بنو مرين على بني عبد الواد، واستوسق لمحمد هذا ملكه، فتغلب على أوطان صنهاجة بجبال المدية، وأخرج الثعالبة من جبل تيطري بعد أن غدر بمشيختهم وقتلهم، فانزاحوا عنه إلى بسائط متيجة وأوطنوها. واستولى محمد على حصن المدية وهو المسمى بأهله لمديّة (بفتح اللام والميم وكسر الدال وتشديد الياء بعدها وهاء النسب في آخرها) . وهم بطن من بطون صنهاجة وكان المختط لها بلكّين بن زيري. ولما استولى محمد عليها وعلى ضواحيها انزل أولاد عزيز بن يعقوب من حشمه بها، وجعلها لهم موطنا وولاية. وفرّ بنو صالح ابن أخيه يوسف بن عبد القوي من مكانهم بين صنهاجة منذ مقتل أبيه يوسف كما ذكرناه. ولحقوا ببلاد الموحدين بإفريقية، فلقوهم مبرّة وتكريما. وأقطعوا لهم بضواحي قسنطينة، وكانوا يقولون عليهم أيام حروبهم وفي مواطن قتالهم.
وكان من أظهرهم عمر بن صالح وابناه صالح ويحيى بن عمر، وحافده يحيى بن صالح بن عمر في آخرين مشاهير.
وأعقابهم لهذا العهد بنواحي قسنطينة وفي إيالة الملوك من آل أبي حفص، يعسكرون معهم في غزواتهم ويبلون في حروبهم، ويقومون بوظائف خدمتهم. وكان الوالي من أولاد عزيز على المدية حسن بن يعقوب، وبنوه من بعده يوسف وعليّ، وكانت مواطنهم ما بين المدية وموطنهم الأوّل ماخنون. وكان بنو يدللتن أيضا من بني توجين قد استولوا على حصن الجعبات وقلعة تاوغزوت. ونزل القلعة كبيرهم سلامة بن علي مقيما على طاعة محمد بن عبد القوي وقومه، فاتصل ملك محمد بن عبد القوي في ضواحي المغرب الأوسط ما بين مواطن بني راشد إلى جبال صنهاجة بنواحي المدية، وما في قبلة ذلك من بلاد السرسو وجباله إلى أرض الزاب. وكان يبعد الرحلة في مشتاه فينزل الروسن ومغرة [2] والمسيلة. ولم يزل دأبه ذلك. ولما هلك يغمراسن سنة إحدى وثمانين وستمائة كما ذكرناه استجدّت الفتنة بين عثمان ابنه وبين محمد بن عبد القوى على أثر ذلك سنة أربع وثمانين وستمائة وولي من بعده ابنه سيّد الناس، فلم تطل مدّة ملكه. وقتله أخوه موسى لسنة أو نحوها من بعده مهلك أبيه. وقام موسى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شدبوية ولم يذكرها ياقوت الحموي في معجمه.
[2] وفي نسخة ثانية: الدوسن والمقرة.(7/210)
محمد في إمارة بني توجين نحوا من عامين. وكان أهل مرات من أشدّ أهل وطنه شوكة وأقواهم غائلة، فحدّثته نفسه أن يستلحم مشيختهم ويريح نفسه من محاذرتهم، فأجمع لذلك ونزلها، ونذروا بشأنه ورأيه فيهم فاستماتوا جميعا وثاروا به فقاتلهم. ثم انهزم مثخنا بالجراحة وألجئوه إلى مهاوي الحصن فتردّى منها وهلك. وولي من بعده عمر ابن أخيه إسماعيل بن محمد مدّة أربعة أعوام، ثم غدر به أولاد عمّه زيان بن محمد فقتلوه وولّوا كبيرهم إبراهيم بن زيان وكان حسن الولاية عليهم، يقال: ما ولي بعد محمد فيهم مثله. وفي خلال هذه الولايات استغلظ عليهم بنو عبد الواد واشتدّت وطأة عثمان بن يغمراسن عليهم بعد مهلك أبيهم محمد، فنهض إليهم سنة ست وثمانين وستمائة وحاصرهم بجبل وانشريس وعاث في أوطانهم ونقل زروعها إلى مازونة حين غلب عليها مغراوة. ثم نازل حصن تافركينت وملكها بمداخلة القائد بها غالب الخصيّ مولى سيّد الناس بن محمد، وقفل إلى تلمسان. ثم نهض إلى أولاد سلامة بقلعة تاوغزوت، وامتنعوا عليه مرارا، ثم أعطوه اليد على الطاعة ومفارقة بني محمد بن عبد القوي فنبذوا لهم العهد، وصاروا إلى إيالة عثمان بن يغمراسن. وفرضوا لهم المغارم على بني يدللتن. وسلك عثمان بن يغمراسن مسلك التضريب بين قبائل بني توجين وتحريضهم على إبراهيم بن زيّان أميرهم، فعدا عليه زكراز [1] بن أعجمي شيخ بني مادون وقتله بالبطحاء في إحدى غزواته لسبعة أشهر من ملكه. وولي بعده موسى بن زرارة بن محمد بن عبد القوي، بايع له بنو تيغرين واختلف سائر بني توجين فأقام بعض سنة. وعثمان بن يغمراسن في خلال هذا يستألف بني توجين شعبا فشعبا إلى أن نهض إلى جبل وانشريس فملكه. وفرّ أمامه موسى بن زرارة إلى نواحي المدية وهلك في مفرّه ذلك. ثم نهض عثمان إلى المدية سنة ثمان وثمانين وستمائة بعدها فملكها بمداخلة المدية من قبائل صنهاجة، غدروا بأولاد عزيز وأمكنوه منها. ثم انتقضوا عليه لسبعة أشهر ورجعوا إلى إيالة أولاد عزيز، فصالحوا عثمان بن يوسف على الإتاوة والطاعة كما كانوا مع محمد بن عبد القوي وبنيه، فملك عثمان بن يغمراسن عامّة بلاد توجين. ثم شغل بما دهمه من مطالبة بني مرين أيام يوسف بن يعقوب، فولّى على بني توجين من بني محمد بن عبد القوي أبو بكر بن إبراهيم بن محمد مدّة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان.(7/211)
عامين، أخاف فيها الناس وأساء السيرة. ثم هلك فنصب بنو تيغرين بعده أخاه عطية المعروف بالأصمّ، وخالفهم أولاد عزيز وجميع قبائل توجين فبايعوا ليوسف ابن زيان بن محمد. وزحفوا إلى جبل وانشريس فحاصروا به عطية وبني تيغرين عاما أو يزيد. وكان يحيى بن عطية كبير بني تيغرين هو الّذي تولّى البيعة لعطية الأصمّ.
فلما اشتدّ بهم الحصار واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان ورغبه في ملك جبل وانشريس فبعث معه الجيوش لنظر أخيه أبي سرحان، ثم أخيه أبي يحيى. وكان نهوض أبي يحيى سنة إحدى وسبعمائة، فتوغّل في ناحية الشرق، ولما رجع صمد إلى جبل وانشريس، فهدم حصونه، وقفل ونهض ثانية إلى بلاد بني توجين فشرّدهم عنها، وأطاعه أهل تافركينت، ثم انتهى إلى المدية فافتتحها صلحا، واختطّ قصبتها ورجع إلى أخيه يوسف بن يعقوب، فانتقض أهل تافركينت بعد صدوره عنهم. ثم راجع بنو عبد القوي بصائرهم في التمسّك بالطاعة. ووفدوا على يوسف بن يعقوب فتقبّل طاعتهم وأعادهم إلى بلادهم، وأقطعهم. وولّى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي، وجعل وزارته ليحيى بن عطية فغلبه على دولته، واستقام ملكه. وهلك خلال ذلك فعقد يوسف بن بن يعقوب مكانه لمحمد بن عطية الأصمّ، واستقام على طاعته وقتا، ثم انتقض بين يدي مهلكه سنة ست وسبعمائة وحمل قومه على الخلاف. ولما هلك يوسف بن يعقوب وتجافى بنو مرين من بعدها لبني يغمراسن عن جميع الأمصار التي تملّكوها بالمغرب الأوسط، استمكن بنو يغمراسن منها ودفعوا المتغلّبين عنها. ولحق الفلّ من أولاد عبد القوي ببلاد الموحدين، فحلّوا من دولتهم محل الإيثار والتكرمة. وكان للعبّاس بن محمد بن عبد القوي مع الملوك من آل أبي حفص مقام الخلّة والمصافاة إلى أن هلك، وبقي عقبه في جند السلطان. ولما خلا الجوّ من هؤلاء المرشحين تغلّب على جبل وانشريس من بعدهم كبير بني تيغرين أحمد بن محمد من أعقاب يعلى بن محمد سلطان بني يفرن.
فأقام يحيى بن عطية هذا في رياستهم أياما، ثم هلك، وقام بأمره من بعده أخوه عثمان بن عطية. ثم هلك وولي من بعده ابنه عمر بن عثمان، واستقل مع قومه بجبل وانشريس، واستقلّ أولاد عزيز بالمدية ونواحيها ورياستهم ليوسف وعليّ ابني حسن ابن يعقوب، والكل في طاعة أبي حمو سلطان بني عبد الواد لما غلبهم على أمرهم،(7/212)
وانتزع الرئاسة من بني عبد القوي [1] أمرائهم إلى أن خرج على السلطان أبي حمو ابن عمه يوسف بن يغمراسن، ولحق بأولاد عزيز فبايعوه وداخلوا في كشانة عمر بن عثمان كبير بني تيغرين وصاحب جبل وانشريس، فأجابهم وأصفق معهم سائر الأعشار ويكوشة [2] وبنو يرناتن. وزحفوا مع محمد بن يوسف إلى السلطان أبي حمو في عسكره بتهل ففضّوه، وكان من شأن فتنته معهم ما ذكرناه في أخبار بني عبد الواد إلى أن هلك السلطان أبو حمو وولي ابنه أبو تاشفين، فنهض إليهم في العساكر، وكان عمر بن عثمان قد لحقته الغيرة من مخالصة محمد بن يوسف لأولاد عزيز دون قومه، فداخل السلطان أبا تاشفين في الانحراف عنه، فلما نزل بالجبل، ولحق محمد بن يوسف بحصن توكال ليمتنع له، نزع عنه عمر بن عثمان ولحق بأبي تاشفين ودلّه على مكامن الحصن، فدلف إليه أبو تاشفين وأخذ بمخنقه. وافترق عن محمد بن يوسف أولياؤه وأشياعه فتقبّض عليه، وقيد أسيرا إلى السلطان أبي تاشفين فقتل بين يديه قعصا بالرماح سنة تسع عشرة وسبعمائة وبعث برأسه إلى تلمسان، وصلب شلوه بالحصن الّذي امتنع فيه أيام انتزائه. ورجع أمر وانشريس إلى عمر بن عثمان هذا، وحصلت ولايته لأبي تاشفين إلى أن هلك بتلمسان في بعض أيامهم مع بني مرين، أعوام نازلها السلطان أبو الحسن كما ذكرنا في أخبار الحصار.
ثم لما تغلّب بنو مرين على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن ابنه نصر بن عمر على الجبل، وكان خير وال وفاء بالذمّة والطاعة [3] وخلوصا في الولاية، وصدقا في الانحياش، وإحسانا للمملكة، وتوفيرا للجباية. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان، وتطاول الأعياص من زناتة إلى استرجاع ملكهم، انتزى بضواحي المدية من آل عبد القوي عديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي، وناغى الخوارج في دعوتهم، واشتمل عليه بنو عزيز هؤلاء وبنو يرناتن جيرانهم، وزحف إلى جبل وانشريس لينال مع الحشم من يلي أمرهم والمداخلين لعدوّهم في قطع دابرهم، وكبيرهم يومئذ نصر بن عمر بن عثمان. وبايع نصر المسعود ابن أبي زبد بن خالد بن محمد بن عبد القوي من أعقابهم، ثم خلص إليهم من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من بني عبد الواد.
[2] وفي نسخة ثانية: منكوشة.
[3] وفي نسخة ثانية: وفاء بأزمّة الطاعة.(7/213)
جملة عدي بن يوسف حذرا على نفسه من أصحابه. وقاتلهم عدي وقومه فامتنعوا عليه، ودارت بينهم حروب كانت العاقبة فيها والظهور لنصر بن عمر وقومه. ثم دخل عدي في جملة السلطان أبي الحسن لما خلص من تونس إلى الجزائر، وبقي مسعود بينهم وملّكه أبو سعيد بن عبد الرحمن لما ملك تلمسان هو وقومه. فلم يزل هنالك الى أن غلبهم السلطان أبو عنان، فسار في جملته بعد أن فرّ إلى زواوة. واستنزله منها ونقله إلى فاس، وانقضى ملكهم ودولتهم، وانقطع أثر بني محمد بن عبد القوي. وأقام نصر بن عمر في ولاية جبل وانشريس وعقد له السلطان أبو عنان عليه سائر دولته. ولم يزل قائما بدعوة بني مرين من بعده إلى أن غلبهم السلطان أبو حمو الأخير، وهو ابن موسى بن يوسف على الأمر، فأعطاه نصر الطاعة. ثم اضطرمت نار الفتنة بين العرب وبين بني عبد الواد أعوام سبعين وسبعمائة، وقاموا بدعوة أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو، فانحاش نصر بن عمر إليهم، وأخذ بدعوة الأمير أبي زيان حينا. ثم هلك أيام تلك الفتنة وقام بأمرهم من بعده أخوه يوسف بن عمر متقبّلا مذاهبه. وهو لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة صاحب جبل وانشريس، وحاله مع أبي حمّو مختلف في الطاعة والخلاف، والله مالك الأمور، لا رب غيره ولا معبود سواه
.(7/214)
(الخبر عن بني سلامة أصحاب قلعة تاوغزوت رؤساء بني يدللتن من بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وأوّليتهم ومصايرهم)
كان بنو يدللتن هؤلاء من شعوب بني توجين وأشدّهم شوكة وأوفرهم عددا، وكان لهم ظهور من بين سائر تلك البطون. وكان بنو عبد القويّ ملوك بني توجين يعرفون لهم ذلك، ويوجبون لهم حقّه. ولما دخلوا إلى التلول بعد انقراض بني يلومي وبني ومانوا نزل بنو قاضي وبنو مادون بأرض منداس، فأوطنوها. وجاء بنو يدللتن على أثرهم، فأوطنوا الجعبات وتاوغزوت ورياستهم يومئذ لنصر بن سلطان بن عيسى. ثم هلك فقام بأمرهم ابنه مناد بن نصر، ثم أخوه عليّ بن نصر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن عليّ من بعده. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه سلامة بن عليّ على حين استفحل ملك عبد القويّ وبنيه، فاستفحل أمره هو في قومه واختطّ القلعة بتاوغزوت المنسوبة إليه وإلى بنيه، وكانت من قبل رباطا لبعض المنقطعين من عرب سويد. ويزعم بنو سلامة هؤلاء أنهم دخلاء في نسب توجين، وأنهم من العرب من بني سليم بن منصور. وجاء جدّهم عيسى أو سلطان نازعا عن قومه لدم أصابه فيهم، فخلطه شيخ بني يدللتن من بني توجين بنسبه، وكفل بنيه من بعده فكانت له سببا في رياسته على بني يدللتن وبنيه من بعده.
ولما هلك سلامة بن علي قام بأمرهم من بعده ابنه يغمراسن بن سلامة، على حين استغلظ بنو عبد الواد على بني توجين من بعد مهلك محمد بن عبد القوي سلطانهم الأكبر. فكان عثمان بن يغمراسن يتردّد إلى بلادهم بالغزو، ويطيل فيها العيث.
ونازل في بعض غزواته قلعتهم هذه، وبها يغمراسن فامتنع عليه. وخالفه يوسف بن يعقوب وبنو مرين إلى تلمسان، فأجفل على القلعة وسابق بني مرين إلى دار ملكه.
واتبعه يغمراسن بن سلامة مغيرا في أعقابه، فكرّ عليه بالمكان المعروف بتليوان.
ودارت بينهم هناك حروب هلك فيها يغمراسن بن سلامة، وقام بالأمر من بعده أخو محمد بن سلامة، فأذعن لطاعة عثمان بن يغمراسن، وخالف بنو عبد القوي وجعل الإتاوة على قومه ووطنه لملوك بني عبد الواد، فلم تزل عليهم لملوك تلمسان. ولحق(7/216)
اخوه سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان يوسف بن يعقوب في غزوته التي حاصر فيها تلمسان حصاره الطويل، فرعى لسعد بن سلامة هجرته إليه وولّاه على بني يدللتن والقلعة. وفرّ أخوه محمد بن سلامة فلحق بجبل راشد وأقام هنالك الى أن هلك يوسف بن يعقوب ورجع أمر المغرب الأوسط لبني عبد الواد فوضعوا الإتاوة على بني توجين وأصاروهم الى الجباية. ولم يزل سعد على ولايته إلى أن هلك أبو حمو وولي تاشفين، فسخط سعدا وبعث عن أخيه محمد من جبل راشد، فولّاه مكانه.
ولحق سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان أبي الحسن، ودخل أخوه محمد مع أبي تاشفين فانحصر بتلمسان، وولي سعد بن سلامة مكانه. ثم هلك محمد في بعض أيام الحصار وحروبه. ولما انقرض أمر بني عبد الواد رغب سعد من السلطان تخلية سبيله لقضاء فرضه، فحجّ وهلك مرجعه من الحج في طريقه. وعهد إلى السلطان أبي الحسن واستوصاه ببنيه على لسان وليّه عريف بن يحيى كبير بني سويد. فولّى السلطان أبو الحسن ابنه سليمان بن سعد على بني يدللتن والقلعة، وانتقض أمر السلطان أبي الحسن وعاد الأمر إلى أبي سعيد وأبي ثابت ابني عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فكانت بينه وبينهم ولاية انحراف. وكان أولياؤهم من العرب بني سويد من زغبة لما كانوا جيرانهم في مواطنهم من ناحية القبلة، فطمع وترمار بن عريف شيخهم في التغلّب على وطن بني يدللتن، ومانعه دونه سليمان هذا، وبالغ في دفاعه إلى أن ملك السلطان أبو عنّان بلاد المغرب الأوسط، ورعى لوترمار وابنه عريف حق انحياشهم إليه وهجرتهم إلى قومه، فأقطع وترمار بن عريف القلعة وما إليها وجباية بني يدللتن أجمع. وألحق سليمان بن سعد بن سلامة في جنده ووجوه عسكره إلى أن هلك السلطان، وعاد الأمر لبني عبد الواد على يد أبي حمو الأخير، فولّي سليمان على القلعة وعلى قومه. واستغلظ أمر العرب عليه فاستراب سليمان هذا ونذر بالشرّ منه، فلحق بأولاد عريف، ثم راجع الطاعة فتقبّض عليه واغتاله، وذهب دمه هدرا. ثم غلبه العرب على عامّة المغرب الأوسط، وأقطع القلعة وبني يدللتن لأولاد عريف استئلافا لهم. ثم أقطعهم بني مادون ثم منداس، فأصبحت بطون بني توجين كلّها خولا لسويد وعبدا لجبايتهم إلّا جبل وانشريس فإنه لم يزل لبني تيغرين والوالي عليهم يوسف بن عمر منهم كما قلناه. ونظّم أبو حمو أولاد سلامة في جنده وأثبتهم في ديوانه وأقطعهم القصبات من نواحي تلمسان في عطائهم.(7/217)
وهم على ذلك لهذا العهد. وللَّه الخلق والأمر، لا ربّ سواه ولا معبود إلّا إيّاه، له الحكم وإليه ترجعون، وهو نعم المولى ونعم النصير، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم.
الخبر عن بني يرناتن إحدى بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم من التقلب والامارة وذكر أوّليتهم ومصايره
كان بنو يرناتن هؤلاء من أوفر قبائل بني توجين وأعزّهم جانبا وأكبرهم صيتا. ولما دخل بنو توجين إلى تلول المغرب الأوسط، أقاموا بمواطنهم الأولى ما بين واضون وزمتة [1] . ثم يعودون من القبلة يجولون جانبي نهر واصل من أعلى وادي شلف.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: رينه.(7/218)
وكانت رياستهم في نصر بن عليّ بن تميم بن يوسف بن بونوال، وكان شيخهم مهيب ابن نصر منهم، وكان عبد القوي بن العبّاس وابنه محمد أمراء بني توجين يختصّونهم بالإثرة والتجلّة لمكانهم من قومهم، وما يؤنسون من عظيم عنائهم. وكان محمد بن عبد القوي في سلطانه يؤثر عليهم من الحشم أولاد عزيز، وكان واليهم لعهده وعهد بنيه عبو بن حسن بن عزيز. وقد كان أصهر مهيب بن نصر إلى عبد القوي في ابنته، فأنكحه إياها وولدت له نصر بن مهيب، فشرفت خؤولته لمحمد بن عبد القوي وعلا كعبه في إمارته. ثم ولي بعده ابنه عليّ بن نصر، وكان له من الولد نصر وعنتر وآخرون يعرفون بأمّهم، واسمها تاسرغينت. وولي بعده ابنه نصر بن علي فطال أمد إمارته في قومه. واختلف بنو عبد القوي وغلبهم بنو عبد الواد على ما بأيديهم، فصرفت ملوك زناتة وجه العناية إليه، فبعد صيته وعرف بنوه من بعده بشهرته، وكان ولودا فيقال: إنّه خلّف ثلاثة عشر من البنين، ما منهم إلّا صاحب حرب أو مقنب. ومن مشاهيرهم عمر الّذي قتله السلطان أبو الحسن بمرات حين سعى به أنه داخل في اغتياله، ففرّ وأدرك فقتل بمرات. ومنهم منديل الّذي قتله بنو تيغرين أيام ولّوا عليّ ابن الناصر وقتلوا معه عبو بن حسن بن عزيز، ومنهم عنّان ومات قتيلا في حصار تلمسان أيام أبي تاشفين، ومنهم مسعود ومهيب وسعدو وداود وموسى ويعقوب والعبّاس ويوسف في آخرين معروفين عندهم. هذا شأن أولاد نصر بن علي بن نصر ابن مهيب.
وأمّا ولد عنتر أخيه فكان منهم أبو الفتوح بن عنتر. ثم من ولده عيسى بن أبي الفتوح، فكان رئيسا على بني أبيه، وكانت إحدى وصائفهم سقطت بدار عثمان بن يغمراسن، وادّعت الحمل من سيّدها أبي الفتوح، وجاءت بأخ لعيسى يسمّى معروفا، ربّي بدارهم. واستوزره أبو حمو وابنه من بعده، وبلغ المبالغ في دولتهم وكان يدعى معروفا الكبير. ولحق به أيام رياسته في دولة أبي حمو الأوّل أخوه عيسى ابن أبي الفتوح مغاضبا لقومه، فسعى له في الولاية على بني راشد وجباية أوطانهم، وأنزله بلد سعيدة، فكانت له بها إمارة، وكان له من الولد أبو بكر وعبو وطاهر ووترمار، وعند ما غلب بنو مرين على بني عبد الواد ولّاهم السلطان أبو الحسن على بني يرناتن متداولين وأما ولد تاسرغينت من بني علي بن نصر بن مهيب، فلم يكن لهم ذكر في رياسة قومهم، إلا أنّ بعض وصائفهم سقطت أيضا إلى دار أبي تاشفين(7/219)
فولدت غلاما يعرف بعطية بن موسى نشأ في دارهم ينسب إلى بني تاسرغينت هؤلاء.
وتناولته النجابة في خدمتهم، فولّوه الأعمال النبيهة، وهو لهذا العهد عامل أبي حمو الأخير على شلف وما إليها. وقد غلب العرب لهذا العهد على وطن بني يرناتن، وملكوا عليهم يعود ماحنون. وبقيت صبابتهم بجبل ورنيد [1] . وعليهم لهذا العهد سعيد بن عمر من ولد نصر بن عليّ بن نصر بن مهيب، يعطون المغرم للسلطان ويصانعون العرب بالإتاوة. وبيد الله تصاريف الأمور سبحانه لا رب غيره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جبل ورينة.(7/220)
الخبر عن بني مرين وأنسابهم وشعوبهم وما تأثلوا بالمغرب من السلطان والدولة التي استعملت سائر زناتة وانتظمت كراسيّ الملك بالعدوتين وأولية ذلك ومصايره
قد ذكرنا أنّ بني مرين هؤلاء من شعوب بني واسين، وذكرنا نسب واسين في زناتة، وذكرنا أنهم بنو مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن جديج بن فاتن بن يدر بن يخفت ابن عبد الله بن ورتنيص بن المعز بن إبراهيم بن سجيك بن واسين، وأنهم إخوة بني يلومي ومديونة. وربّما يشهد بذلك جوار مواطنهم قبل الملك ما بين صا [1] وملويّة.
وذكرنا كيف اقتسموا الضاحية والقفر مع إخوانهم بني بادين [2] بن محمد، وكيف اتصلت فتنتهم معهم سائر أيامهم. وكان الغلب أولا لبني بادين بن محمد لكثرة عددهم، فإنّهم كما ذكرنا خمسة بطون: بنو عبد الواد وتوجين ومصاب، وبنو زردال وإخوانهم بنو راشد بن محمد. وكانوا أهل تلول المغرب الأوسط دونهم. وبقي هذا الحي من بني مرين بمجالات القفر من فيكيك إلى سجلماسة إلى ملويّة. وربما يتخطّون في ظعنهم إلى بلاد الزاب. ويذكر نسّابتهم أن الرئاسة فيهم قبل تلك العصور كانت لمحمد بن ورزين [3] بن فكوس بن كوماط بن مرين، وأنه كان لمحمد إخوة آخرون يعرفون بأمهم تنالفت. وكان بنو عمّه ونكاسن بن فكوس. وكان لمحمد من الولد سبعة: شقيقان وهما حمامة وعسكر. وأبناء علات أمهات أولاد، وهم سنكمان وسكميان وسكم ووراغ وقزونت [4] وتسمّى هذه الخمسة في لسانهم تيريغين، ومعناه عندهم الجماعة.
يزعمون أن محمدا لما هلك قام بأمره في قومه ابنه حمامة، وكان الأكبر. ثم من بعده أخوه عسكر، وكان له من الولد ثلاثة: نكوم وأبو يكنى، ويلقب المخضّب، وعلي ويلقّب لاعدر. ولما هلك قام برياسته فيهم ابنه المخضّب، فلم يزل أميرا عليهم إلى أن كان أمر الموحّدين. وزحف عبد المؤمن إلى تاشفين بن علي بن يوسف، فحاصره
__________
[1] كذا، وهو وادي (زا) . (وقد مرّ معنا من قبل ولم نجد له ذكر في معجم البلدان) .
[2] وفي نسخة ثانية: بني يادين.
[3] كذا، وفي نسخة: ورزير.
[4] كذا، وفي نسخة: فرونت.(7/221)
بتلمسان. وسرّح الشيخ أبا حفص في العساكر لحرب زناتة بالمغرب الأوسط، وجمع له بنو بادين كلّهم وبنو يلومي وبنو مرين ومغراوة، ففضّ الموحّدون جموعهم واستلحموا أكثرهم. ثم راجع بنو يلومي وبنو بادين طاعتهم، وأخلص بنو عبد الواد في خدمتهم ونصيحتهم. ولحق بنو مرين بالقفر، فلما غلب عبد المؤمن على وهران واستولى على أموال لمتونة وبعث ذخيرتهم بتلك الغنائم إلى جبل تين ملّل حيث داره، ومن أين كان منبعث الدعوة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بمكانهم من الزاب، وشيخهم يومئذ المخضّب بن عسكر، فأجمع اعتراضهما بقومه. ولحق العير بوادي تلاغ، فاحتازها من أيدي الموحدين. واستنفر عبد المؤمن لاستنقاذها أولياءه من زناتة، وسرّحهم مع الموحدين لذلك، فأبلى بنو عبد الواد فيها بلاء حسنا. وكان اللقاء في فحص مسون، وانكشف بنو مرين، وقتل المخضّب بن عسكر، واكتسح بنو عبد الواد حللهم، وذلك سنة أربعين وخمسمائة. فلحق بنو مرين بعدها بصحرائهم ومجالات قفرهم، وقام بأمرهم من بعد المخضّب أبو بكر ابن عمّه حمامة ابن محمد إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه محيو، ولم يزل مطاعا فيهم إلى أن استنفرهم المنصور لغزاة الأركة، فشهدوها وأبلوا البلاء الحسن. وأصابت محيو يومئذ جراحة انتقضت عليه مرجعه منها، فهلك بصحراء الزاب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
وكان من رياسة عبد الحق ابنه من بعده، وبقائها في عقبه ما نذكره إن شاء الله تعالى
.(7/222)
الخبر عن إمارة عبد الحق بن محيو المستقرة في بنيه وإمارة ابنه عثمان من بعده ثم أخيه محمد بن عبد الحق بعدهما وما كان فيها من الأحداث
لمّا هلك محيو بن أبي بكر بن حمامة من جراحته كما قلناه، وكان له من الولد عبد الحق ووسناف ويحياتن. وكان عبد الحق أكبرهم، فقام بأمر بني مرين، وكان خير أمير عليهم قياما بمصالحهم وتعففا عما في أيديهم، وتقويما لهم على الجادة ونظرا في العواقب، واستمرّت أيامهم. ولما هلك الناصر رابع خلفاء الموحّدين بالمغرب سنة عشر وستمائة مرجعه من غزاة العقاب، وقام بأمر الموحّدين من بعده ابنه يوسف المستنصر، نصبه الموحّدون للأمر غلاما لم يبلغ الحلم. وشغلته أحوال الصبا وجنونه عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم وأغفل الأمور. وتواكل الموحّدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه. ونفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور وضعفت الحامية. وتهاونوا بأمرهم، وفشلت ريحهم. وكان هذا الحي لذلك العهد بمجالات القفار، من فيكيك الى صا وملويّة كما قدمناه من شأنهم. وكانوا يطرقون في صعودهم إلى التلول والأرياف منذ أول دولة الموحدين وما قبلها جهات كرسيف إلى وطاط، ويأنسون بمن هنالك من بقايا زناتة الأولى: مثل مكناسة بجبال تازى، وبني يرنيان من مغراوة الموطنين قصور وطاط من أعالي ملوية. فيتقلّبون بتلك الجهات عام المربع والمصيف، وينحدرون إلى مشاتيهم بما امتاروه من الحبوب لأقواتهم. فلما رأوا من اختلال بلاد المغرب ما رأوا انتهزوا فيها الفرصة، وتخطّوا إليها القفر، ودخلوا ثناياه، وتفرّقوا في جهاته.
وأرجفوا بخيلهم وركابهم على ساكنه، واكتسحوا بالغارة والنهب عامة بسائطهم. ولجأت الرعايا إلى معتصماتهم ومعاقلهم، وكثر شاكيهم. وأظلم الجو بينهم وبين السلطان والدولة، فآذنوهم بالحرب وأجمعوا لغزوهم وقطع دابرهم. وأغرى الخليفة المستنصر عظيم الموحّدين أبا علي بن وانودين بجميع العساكر والحشود من مراكش، وسرّحه إلى السيد أبي إبراهيم ابن أمير الموحّدين يوسف بن عبد المؤمن بمكانه من إمارة فاس. وأوعز إليه أن يخرج لغزو بني مرين، وأمره أن يثخن ولا(7/224)
يستبقي. واتصل الخبر ببني مرين وهم في جهات الريف وبلاد بطويّة، فتركوا أثقالهم بحصن تازوطا، وصمدوا إليهم. والتقى الجمعان بوادي نكور، فكان الظهور لبني مرين والدبرة على الموحّدين. وامتلأت الأيدي من أسلابهم وأمتعتهم، ورجعوا إلى تازى وفاس عراة يخصفون عليهم من ورق النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشغلة. يوارون به سوءاتهم لكثرة الخصب عامئذ، واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلّاء. حتى لقد سميت الواقعة يومئذ بعام المشغلة.
وصمد بنو مرين بعدها إلى تازى، ففلّوا حاميتها أخرى. ثم اختلفت بنو محمد رؤساؤهم وانتبذ عنهم من عشائرهم بنو عسكر بن محمد، لمنافسة وجدوها في أنفسهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم، بعد أن كان أومض عندهم منها في عسكر، وابنه المخضّب إيماض من أخلف بارقه. فحالفوا عبد الحق أميرهم وقومه إلى مظاهرة أولياء الموحدين، وحامية المغرب من قبائل رياح الموطنين بالهبط وأزغار لحديث عهدهم بالتوحّش والعزّ منذ إنزال المنصور إيّاهم بذلك القطر من إفريقية، فتحيّزوا إليهم وكاثروهم على قومهم.
وصمدوا جميعا للقاء بني مرين سنة أربع عشرة وستمائة، ودارت بينهم حرب تولّى الصبر مقامها. وهلك فيها أميرهم عبد الحق وكبير بنيه إدريس. وتذامر لمهلكها بنو مرين. وجلّى في تلك الحومة حمامة بن يصليتن من بني عسكر، والأمير ابن محيو السكمي. فانكشفت رياح آخرا، وقتل منهم أبطال. وولّى بنو مرين عليهم بعد مهلك عبد الحق ابنه عثمان تلو إدريس، وشهرته بينهم أدرغال، ومعناه برطانتهم الأعور. وكان لعبد الحق من الولد عشرة، تسعة ذكور وأختهم ورتطليم: فإدريس وعبد الله ورحو لامرأة من بني علي اسمها سوط النساء، وعثمان ومحمد لامرأة من بني ونكاسن اسمها النّوار بنت تصاليت، وأبو بكر لامرأة من بني تنالفت وهي تاغزونت بنت أبي بكر بن حفص، وزيّان لامرأة من بني ورتاجن، وأبو عياد لامرأة من بني وللوى إحدى بطون عبد الواد واسمها أم الفرج، ويعقوب لأم اليمن بنت محلى من بطوية. وكان أكبرهم إدريس الهالك مع أبيه عبد الحق، فقام بأمر بني مرين من بعد عبد الحق ابنه عثمان، بايعه لوقته حمامة بن يصليتن ولمير بن محيو ومن إليهما من مشيخة قومهما. واتبعوا منهزمة رياح وأثخنوا فيهم. وثار عثمان بأبيه وأخيه حتى شفا نفسه منهم ولاذوا بالسلم، فسالمهم على أتاوة يؤدونها إليه وإلى قومه كل سنة. ثم(7/225)
استشرى من بعد ذلك داء بني مرين وأعضل خطبهم، وكثر الثّوار بالمغرب، وامتنع عامة الرعايا عن المغرم، وفسدت السابلة. واعتصم الأمراء والعمّال من السلطان فمن دونه بالأمصار والمدن، وغلبوا أولئك على الضاحية. وتقلّص ظل الحكّام عن البدو جملة. وافتقد بنو مرين الحامية دون الوطن والدفاع، فمدوا إلى البلاد يدا. وسار بهم أميرهم أبو سعيد عثمان بن عبد الحق في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه، ويضع المغارم على أهله حتى دخل أكثرهم في أمره، فبايعه من الظواعن الشاوية والقبائل الآهلة: هوّارة وزكارة، ثم تسول ومكناسة، ثم بطوية وقشتالة، ثم سدراتة وبهلولة ومديونة. ففرض عليهم الخراج وألزمهم المغارم، وفرّق فيهم العمّال. ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس وتازى ومكناسة وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها إليه على رأس كل حول، على أن يكفّ الغارة عنهم ويصلح سابلتهم. ثم غزا ظواعن زناتة سنة عشرين وستمائة، وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وقبض أيديهم عمّا امتدت إليه من الفساد والنهب. وعطف بعدها على رياح أهل أزغار والهبط وأثأر به بأبيه، فأثخن فيهم وأبادهم. ولم يزل دأبه ذلك إلى أن هلك باغتيال علجة سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وقام بأمر بني مرين من بعده أخوه محمد بن عبد الحق، فتقبّل سنن أخيه في تدويخ بلاد المغرب وأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم والوضائع من ظواعنه وبدوه وسائر رعاياه. وبعث الرشيد أبا محمد بن وانودين لحربهم. وعقد له على مكناسة، فدخلها وأجحف بأهلها في المغارم. ثم نزل بنو مرين بمتيجة وغيرها من ضواحيها، فنادى في عساكره وخرج إليهم، فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها خلق من الجانبين. وبارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائدا من الروم، واختلفا ضربتين هلك العلج بإحداهما، وانجرح محمد في وجهه بالأخرى. واندمل جرحه، فصار أثر في وجهه لقب من أجله أبا ضربة. ثم شدّ بنو مرين على الموحّدين، فانكشفوا ورجع ابن وانودين إلى مكناسة مفلولا. وبقي بنو عبد المؤمن أثناء ذلك في مرض من الأيام، وتثاقل عن الحماية. ثم أومضت دولتهم آخرا إيماض الخمود. وذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين وستمائة، وولي أخوه علي وتلقّب بالسعيد، وبايعه أهل المغرب، انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين، وقطع أطماعهم عما سمت إليه من تملّك الوطن، فأغزى عسكر الموحّدين لقتالهم، ومعهم قبائل العرب والمصامدة(7/226)
وجموع الروم. فنهضوا سنة اثنتين وأربعين وستمائة في جيش كثيف يناهز عشرين ألفا فيما زعموا. وزحف إليهم بنو مرين بوادي ياباش، وصبر الفريقان، وهلك الأمير محمد بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم من زعماء الروم. وانكشفت بنو مرين واتبعهم الموحدون، ودخلوا تحت الليل، فلحقوا بجبال غياثة من نواحي تازى واعتصموا بها أياما. ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء، وولّوا عليهم أبا يحيى بن عبد الحق، فقام بأمرهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من امرائهم
لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين وأربعين وستمائة، كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه، أن قسّم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين. وأنزل كلّا منهم في ناحية تسوّغها سائر الأيام طعمة. فاستركبوا الرجل أتباعهم، واستلحقوا من غاشيتهم، وتوفّرت عساكرهم. ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر جماعتهم، وصاروا إلى الموحدين، فحرّضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق وبني حمامة وأغروهم بهم. وبعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان، فوصل في قومه إلى فاس. واجتمعوا جميعا إلى قائد الموحّدين. وأعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى وأتباعه. وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة، ثم إلى كرت [1] . وأعجزهم فانكفّوا راجعين إلى فاس. ونذر يغمراسن بغدر الموحدين، فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر. وعارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو، فلم يطق حربهم. ورجع عنهم عسكر الموحدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد. ثم بعثوا إليهم لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة ومذاهب الخدمة، القائد عنبر الخصيّ مولى الخليفة في حصّة من الروم والناشبة، فتقبّض عليهم بنو عسكر وتمسّكوا بهم في رهنهم. وقتلوا كافة النصارى، فأطلق أبناءهم ولحق
__________
[1] هي كرت: مدينة في أقصى بلاد المغرب قرب بلاد السودان وربما قبلت بالثاء. (معجم البلدان) .(7/227)
يغمراسن وقومه بتلمسان. ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى. واجتمع بنو مرين لشأنهم وتملّكوا الأعمال. ثم مدوا عينهم إلى تملّك الأمصار، فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون. ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية، لما كان يومئذ على دعوته وفي ولايته، فحاصرها وضيّق عليها بقطع المرافق وترديد الغارات ومعاودة الحرب، إلى أن أذعنوا لطاعته، فافتتحها صلحا بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعيمها أبي الحسن بن أبي العافية.
وبعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة، كان قاضيا فيهم يومئذ، فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها، ثم أحسّ الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد، ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة. وبلغ الخبر إلى السعيد بتغلّبه على مكناسة وصرفها إلى دعوة ابن أبي حفص، فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره، وأراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئا فشيئا:
فابن أبي حفص اقتطع إفريقية. ثم يغمراسن بن زيّان وبنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان والمغرب الأوسط، وأقاموا فيها دعوة ابن أبي حفص، وأطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم. وابن هود اقتطع عدوة الأندلس، وأقام فيها دعوة بني العباس، وابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص. وهؤلاء بنو مرين تغلّبوا على ضواحي المغرب، ثم سموا إلى تملّك الأمصار. ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة وأظهر فيها دعوة ابن أبي حفص، وجاهر بالاستبداد. ويوشك إن رضينا هذه الدّنيّة، وأغضينا عن هذه الواقعات، أن يختلّ الأمر أو تنقرض الدعوة. فتذامروا وامتعضوا وتداعوا للصمود إليهم، فجهّز السعيد عساكره.
واحتشد عرب المغرب وقبائله، واستنفر الموحدين والمصامدة، ونهض من مراكش سنة خمس وأربعين وستمائة يريد مكناسة: وبني مرين أوّلا، ثم تلمسان ويغمراسن ثانيا، ثم إفريقية وابن أبي حفص آخرا. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت.
ووصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متواريا عنهم عينا لقومه، حتى صدقهم كنه الخبر. وعلم أن لا طاقة له بهم، فأفرج عن البلاد. وتناذر بنو مرين بذلك من أماكنهم، فتلاحقوا به واجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف. ونزل سعيد مكناسة، ولاذ أهلها بالطاعة، وسألوا العفو عن الجريرة. واستشفعوا بالمصاحف، برز بها الأولاد على رءوسهم، وانتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من(7/228)
الخشوع ووجوم الذنب والتوسّل. فعفا عنهم وتقبّل فيئهم، وارتحل إلى تازى في اتباع بني مرين. وأجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة ومناسفة، ودس إليه بذلك مهيب من مشيختهم، فترحّل عنهم إلى بلاد بني يزناسن، ونزل بعين الصفا.
ثم راجع نظره في مسالمة الموحّدين والفيئة إلى أمرهم ومظاهرتهم على عدوّهم يغمراسن وقومه من بني عبد الواد، ليكون فيها شفاء نفسه منهم، فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى، فأدوا طاعته وفيئته، فتقبّلها وصفح لهم عن الجرائر التي أتوها.
وسألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان ويغمراسن، على أن يمده بالعساكر رامحة وناشبة، فاتهمهم الموحدون وحذروا منهم غائلة العصبيّة، فأمرهم السعيد بالعسكرة معه، فأمده الأمير أبو يحيى بخمسمائة من قبائل بني مرين. وعقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة، وخرجوا تحت رايات السلطان. ونهض من تازى يريد تلمسان وما وراءها، وكان من خبر مهلكه على جبل تامززدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم.
ولما هلك وانفضت عساكره متسابقين إلى مراكش، وجمهورهم مجتمعون إلى عبد الله ابن الخليفة السعيد ولي عهده، وتحت رايات أبيه. وطار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وهو بجهات بني يزناسن. وقد خلص إليه هنالك ابن عمه أبو عياد. وبعث بني مرين من تيار تلك الصدمة، فانتهز الفرصة وأرصد لعسكر الموحدين وفلّهم بكرسيف، فأوقع بهم وامتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم، وانتزعوا الآلة من أيديهم. وأصار إليه كتيبة الروم والناشبة من الغزو، واتخذ الموكب الملوكي. وهلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة، ويئسوا للموحدين بعدها من الكرّة. ونهض الأمير أبو يحيى وقومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين، أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم، فكانوا يبيحونه حرم المغرب ويوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس، إلى القصر مع عساكر الموحدين، فكان ليغمراسن وقومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين وجدّع من أنوفهم.
وكان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط، فافتتح حصونهم بملوية(7/229)
ودوّخ جبلهم. ثم رحل إلى فاس، وقد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بني عبد المؤمن، وإقامة الدعوة لابن أبي حفص بها وبسائر نواحيها. والعامل بها يومئذ السيد أبو العبّاس، فأناخ عليها بركابه. وتلطّف في مداخلة أهلها، وضمن لهم جميل النظر وحميد السياسة. وكفّ الأيدي عنهم، والحماية لهم بحسن المغبّة، وصالح العائدة، فأجابوه ووثقوا بعهده وعنائه. وآووا إلى ظلّه وركنوا إلى طاعته، وانتحال الدعوة الحفصيّة بأمره. ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم وكثرتهم. وحضر أبو محمد القشتالي، وأشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذبّ عنهم، وحسن الملكة والكفالة. وتقبّل مذاهب العدل فيهم، فكان حضوره ملاك تلك العقدة والبركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة. وكانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح. ودخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد، فاتح ست وأربعين وستمائة. وأخرج السيد أبا العبّاس من القصبة، وبعث معه خمسين فارسا أجازوه أم ربيع ورجعوا. ثم نهض إلى منازلة تازى، وبها السيد أبو علي، فنازلها أربعة أشهر. ثم نزلوا على حكمه، فقتلهم ومن على آخرين منهم. وسدّ ثغرها، وثقف أطرافها، وأقطع رباط تازى وحصون ملويّة لأخيه يعقوب بن عبد الحق. ورجع إلى فاس، فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة، وجددوا بيعتهم وعاودوا طاعتهم. ولحق بهم على أثرهم أهل سلا ورباط الفتح، فتملّك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمّهات أمصار المغرب. واستولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع، فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص، وبعث بها إليه. واستبدّ بنو مرين بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وخمد ذبال آل عبد المؤمن، وركدت ريحهم، وآذنت بالانقراض دولتهم، وأشرف على الفناء أمرهم. وإلى الله عاقبة الأمور.
الخبر عن انتقاض أهل فاس على أبي يحيى بن عبد الحق وظفره بهم بعد إيقاعه بيغمراسن وقومه بايسلى
لما ملك الأمر أبو يحيى بن عبد الحق بمدينة فاس سنة ست وأربعين وستمائة، استولى على بلاد المغرب بعد مهلك السعيد. وقام بأمر الموحّدين بمراكش أبو حفص عمر(7/230)
المرتضى ابن السيّد أبي إبراهيم إسحاق الّذي كان قائد عسكر الموحدين في حربهم مع بني مرين عام المشغلة، ابن أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. كان السعيد تركه واليا بقصبة رباط الفتح من سلا، فاستدعاه الموحدون وبايعوه بيعة الخلافة. وقام بأمرهم، فلما تغلّب الأمير أبو يحيى على بلاد المغرب وملك مدينة فاس كما ذكرناه، خرج إلى بلاد فازاز والمعدن لفتح بلاد زناتة وتدويخ نواحيها.
واستعمل على فاس مولاه السعود بن خرباش، من جماعة الحشم أخلاف بني مرين وصنائعهم. وكان الأمير أبي يحيى استبقى بها من كان فيها من عسكر الموحدين من غير عيصهم في السبيل التي كانوا عليها من الخدمة. وكان فيهم طائفة من الروم، استخدمهم إلى نظر قائدهم شأنه، وكانوا من حصّة السعود هنالك. ووقعت بينهم وبين شيع الموحدين من أهل البلد مداخلة، وفكوا بالسعود عاملهم وقلبوا الدعوة للمرتضى الخليفة بمراكش سكيت الحلبة ومخلف المضمار. وكان المتولي لكبر تلك الثورة ابن حشّار المشرف وأخوه وابن أبي طاهر [1] وابنه، اجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن المغيلي، زعيم فئة الشورى بينهم يومئذ وتوامروا فيها. وأغروا قائد الروم بقتل السعود، وعدوا عليه بمقعد حكمه من القصبة، وهاجوه ببعض المحاورات فغضب. ووثب عليه الرومي، فقتله وطاف برأسه الهاتف بسكك المدينة في شوال سنة سبع وأربعين وستمائة. وانتهبت داره، واستبيحت حرمه. ونصبوا قائد الروم لضبط البلد، وبعثوا بيعتهم إلى المرتضى. واتصل الخبر بالأمير أبي يحيى، وهو منازل بلد فازاز، فأفرج عنها. وأغذّ السير إلى فاس، فأناخ بعساكره عليها. وشمّر لحصارها، وقطع السابلة عنها. وبعثوا إلى المرتضى بالصريخ، فلم يرجع إليهم قولا، ولا ملك لهم ضرّا ولا نفعا، ولا وجّه لما نزل بهم وجها. حاشا إنّه استجاش بالأمير أبي يحيى يغمراسن بن زيان على أمره، وأغراه بعدوه، وأمّله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته.
وتعلّقت أطماع يغمراسن بطروق بلاد المغرب، فاحتشد لحركته. ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي يحيى عن فاس، وإجابة صريخ الخليفة لذلك. وبلغ الأمير أبا يحيى خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته البلد، فجمّر الكتائب عليها.
__________
[1] كذا، في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: طاطو.(7/231)
صمد إليه قبل وصوله من تخوم بلاده، والتقى الجمعان بايسلى من بسائط وجدة، فتزاحف القوم وأبلوا. وكانوا ملحمة عظيمة، هلك فيها عبد الحق بن محمد بن عبد الحق بيد إبراهيم بن هشام من بني عبد الواد. ثم انكشف بنو عبد الواد، وهلك يغمراسن بن تاشفين من أكابر مشيختهم، ونجا يغمراسن بن زيّان إلى تلمسان.
وانكفأ الأمير أبو يحيى إلى معسكره للأخذ بمخنق فاس، فسقط في أيدي أهلها، ولم يجدوا وليجة من دون طاعته، فسألوا الأمان، وبذله لهم على غرم ما تلف له من المال بداره يوم الثورة، وقدره مائة ألف دينار، فتحمّلوها. وأمكنوه من قياد البلد، فدخلها في جمادى من سنة ثمان وأربعين وستمائة. وطالبهم بالمال، فعجزوا ونقضوا شرطه، فحقّ عليهم القول. وتقبّض على القاضي أبي عبد الرحمن وابن أبي طاطو وابنه، وابن حشار وأخيه المتولّين كبر الفعلة فقتلهم، ورفع على الشرفات رءوسهم.
وأخذ الباقين بغرم المال طوعا أو كرها، فكان ذلك مما عبّد رعية فاس وقادهم لأحكام بني مرين. وضرب الرهب على قلوبهم لهذا العهد، فخشعت منهم الأصوات وانقادت الهمم، ولم يحدّثوا بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة. والله مالك الأرض ومن عليها.
الخبر عن تغلب الأمير أبي يحيى على مدينة سلا وارتجاعها من يده وهزيمة المرتضى بعدها
لما كمل للأمير أبي يحيى فتح مدينة فاس، واستوسق أمر بني مرين بها، رجع إلى ما كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها. ودوّخ أوطان زناتة، واقتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين فيها. ثم تخطّى إلى مدينة سلا ورباط الفتح سنة تسع وأربعين وستمائة، فملكها وتاخم الموحّدين بثغرها. واستعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله ابن عبد الحق، وعقد له على ذلك الثغر، وضمّ إليه الأعمال. وبلغ الخبر بذلك إلى المرتضى، فأهمّه الشأن. وأحضر الملأ من الموحّدين وفاوضهم، واعتزم على حرب بني مرين. وسرّح العساكر سنة خمسين وستمائة، فأحاطت بسلا، فافتتحوها وعادت إلى طاعة المرتضى. وعقد عليها لأبي عبد الله بن أبي يعلو من مشيخة الموحدين. وكان المرتضى قد صمد بنفسه سنة تسع وأربعين وستمائة إلى محاربة بني(7/232)
مرين في جموع الموحّدين وعساكر الدولة، صمد بنو مرين للقائه. والتقى الجمعان بايملولين، ففضّوا جموعه، وكانت الدبرة عليه والظهور لهم. ثم كان بعدها فتح سلا، وغلب الموحدين عليها. وأجمع المرتضى بعدها على احتشاد أهل سلطانه، ومعاودة الخروج بنفسه إلى غزوهم لما خشي من امتداد أمرهم. وتقلّص ملك الموحّدين، فعسكر خارج حضرته سنة ثلاث وخمسين وستمائة وبعث الحاشرين في الجهات، فاجتمع إليه أمم الموحدين والعرب والمصامدة. وأغذّ السير تلقاءهم، حتى إذا انتهى إلى جبال بهلولة من نواحي فاس، وصمد إليه الأمير أبو يحيى في عساكر بني مرين، ومن اجتمع إليهم من دونهم. والتقى الجمعان هنالك. وصدقهم بنو مرين القتال، فاختلّ مصاف السلطان، وانهزمت عساكره وأسلمه قومه. ورجع إلى مراكش مفلولا. واستولى القوم على معسكره واستباحوا سرادقه وفساطيطه، وانتهبوا جميع ما وجدوا بها من المال والذخيرة، واستاقوا سائر الكراع والظهر، وامتلأت أيديهم من الغنائم. واعتزّ أمرهم، وانبسط سلطانهم، وكان يوما له ما بعده. وأغرى أثر هذه الحركة عساكر بني مرين تادلا [1] واستباح بني جابر حاميتها من جشم ببلد أبي نفيس، واستلحم أبطالهم، وألان من حدّهم، وخضّد من شوكتهم. وفي أثناء هذه الحروب كان مقتل علي بن عثمان بن عبد الحق، وهو ابن أخي الأمير أبي يحيى. شعر منه بفساد الدخلة والاجتماع للتوثّب به، فدسّ لابنه أبي حديد مفتاح بقتله، بجهات مكناسة سنة إحدى وخمسين وستمائة. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن فتح سجلماسة وبلاد القبلة وما كان في ذلك من الاحداث)
لما يئس بنو عبد المؤمن من غلبهم بني مرين على ما صار في أيديهم من بلاد المغرب وعادوا إلى مدافعتهم عن صمامة الدولة التي تحملت إياها شفافهم لو أطاقوا المدافعة عنها وملك بنو مرين عامّة بلاد التلول، اعتزم الأمير أبو يحيى بعدها على الحركة إلى بلاد القبلة ففتح سجلماسة ودرعة وما إليها سنة ثلاث وخمسين وستمائة وافتتحها بمداخلة من ابن القطراني، غدر بعامل الموحّدين فتقبّض عليه، وأمكن منها الأمير
__________
[1] كذا بالأصل في جميع النسخ، وفي معجم البلدان: تادلة.(7/233)
أبا يحيى فملكها، وما إليها من درعة سائر بلاد القبلة. وعقد لابنه أبي حديد. وبلغ الخبر إلى المرتضى فسرّح العساكر سنة أربع وخمسين وستمائة لاستنقاذها، وعقد عليهم لابن عطّوش، ففرّ راجعا إلى مراكش، ثم نهض سنة خمس وخمسين وستمائة إلى محاربة يغمراس وبنيه بأبي سليط، فأوقع بهم واعتزم على اتباعه، فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق لعهد تأكد بينه وبين يغمراس فرجع. ولما انتهى إلى المقر مدة هذه، بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة ودرعة لمداخلة من بعض أهلها أطمعته في ملكها، فأغذّ السير إليها بجموعه، ودخلها ولصبيحة دخوله وصل يغمراسن لشأنه، فلمّا علم بمكان أبي يحيى من البلد سقط في يده ويئس من غلابه، ودارت بينهم حرب تكافئوا فيها وهلك سليمان بن عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي يحيى، وانقلب يغمراسن إلى بلده، وعقد الأمير أبو يحيى على سجلماسة ودرعة وسائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، واستعمل على الجباية عبد السلام الأوربي وداود بن يوسف، وانكفأ راجعا إلى فاس. والله تعالى أعلم.
الخبر عن مهلك أبي يحيى وما كان اثر ذلك من الاحداث التي تمحضت عن استبداد أخيه يعقوب بن عبد الحق بالأمر
لما رجع الأمير أبو يحيى من حرب يغمراسن بسجلماسة، أقام أياما بفاس. ثم نهض إلى سجلماسة متفقدا لثغورها، فانقلب منها عليلا. وهلك حتف أنفه على سرير ملكه في رجب سنة ست وخمسين وستمائة أمضى ما كان عزما، وأطول إلى تناول الملك يدا. اختطفته المنون عن شأنه ودفن بمقبرة باب الفتوح من فاس، ضجيعا للمولى أبي محمد الفشتالي كما عهد لأهل بيته. وتصدّى للقيام بأمره ابنه عمر واشتمل عليه عامّة قومه. ومالت المشيخة وأهل الحل والعقد إلى عمّه يعقوب بن عبد الحق، وكان غائبا عن مهلك أخيه بتازي، فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق بفاس وتوجهت إليه وجوه الأكابر. وأحس عمر بصاغية الناس إليه، وحرّضه أتباعه على الفتك بعمه [1] ، فاعتصم بالقصبة، وسعى الناس في إصلاح ذات بينهما، فتفادى يعقوب عن الأمر، ودفعه لابن أخيه، على أن تكون له بلاد تازى وبطوية وملوية، ولما لحق
__________
[1] وفي نسخة ثانية: به.(7/234)
بتازى واجتمع إليه كافة بني مرين، عذلوه فيما كان منه فاستلأم، وحملوه على العودة في الأمر، ووعدوه من أنفسهم المظاهرة والمؤازرة فأجاب، وبايعوه وصمد إلى فاس، وبرز عمر للقائه فانتهى إلى المسجدين، ولما تراءى الجمعان خذ له جنوده وأسلموه، فرجع إلى فاس مغلولا، ووجّه الرغبة إلى عمه أن يقطعه مكناسة وينزل له عن الأمر، فأجابه إلى ذلك، ودخل السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق مدينة فاس فملكها سنة سبع وخمسين وستمائة وتمشت طاعته في بلاد المغرب ما بين ملوية وأم الربيع وسجلماسة وقصر كتامة. واقتصر عمر على إمارة مكناسة فتولاها أياما، ثم اغتاله من عشيرة عمر وإبراهيم ابنا عمّه عثمان بن عبد الحق والعباس ابن عمه محمد بن عبد الحق فقتلوه وثأروا منه بدم كانوا يعتدّونه عليه. وهلك لعام أو بعد عام من إمارته، فكفى يعقوب شأنه واستقام سلطانه، وذهب التنازع والمشاق عن أمره. وكان يغمراسن بعد مهلك قرنه الأمير أبي يحيى سما له أمل في الاجلاب على المغرب، فجمع لذلك قومه واستجاش بني توجين ومغراوة وأظمعهم في غيل الأسود ونهضوا إلى المغرب حتى انتهوا إلى كلدامان وصمد السلطان يعقوب بن عبد الحق إلى لقائهم فغلبهم ورجعوا الى تفيئته [1] ، ومرّ يغمراسن ببلاد بطوية فأحرق وانتسف واستباح وأعظم فيها النكاية. ورجع السلطان إلى فاس وتقبّل مذاهب أخيه الأمير أبي يحيى في فتح أمصار المغرب وتدويخ أقطاره. وكان مما أكرمه الله به أن فتح أمره باستنقاذ مدينة سلا من أيدي النصارى، فكان له بها أثر جميل وذكر خالد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فجأة العدو مدينة سلا واستنقاذها من أيديهم)
كان يعقوب بن عبد الله [2] قد استعمله عمّه الأمير أبو يحيى على مدينة سلا لما ملكها كما ذكرناه. ولما استرجعها الموحّدون من يده أقام يتغلب في جهاتها مراصدا لأهلها وحاميتها. ولما بويع عمّه يعقوب بن عبد الحق اسقته بعض الأحوال، فذهب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ورجعوا على تعبية.
[2] وفي نسخة ثانية: بن عبد الحق.(7/235)
مغاضبا حتى نزل غبولة، وألطف الحيلة في تملك رباط الفتح وسلا ليعتدّها ذريعة لما أسرّ في نفسه، فتمّت له الحيلة، وركب عاملها ابن يعلو البحر فارا إلى أزمور.
وخلف أمواله وحرمه فتملّك يعقوب بن عبد الله البلد وجاهر بالخلع، وصرف إلى منازعة عمه السلطان أبي يوسف وجوه العزم، وداخل تجار الحرب في الامداد بالسلاح. فتماروا في ذلك وكثر سفر المتردّدين بينهم، حتى كثروا أهلها وأسملوا فيها غرّة عيد الفطر من سنة ثمان وخمسين وستمائة عند شغل الناس بعيدهم. وثاروا بسلا، وسبوا الحرم وانتهبوا الأموال، وضبطوا البلد وامتنع يعقوب بن عبد الله برباط الفتح، وطار الصريخ إلى السلطان أبي يوسف، وكان بتازى مستشرفا لأحوال يغمراسن، فنادى في قومه، وطار بأجنحة الخيول ووصلها ليوم وليلة، وتلاحقت به أمداد المسلمين من أهل الديوان والمطوعة. ونازلها أربع عشرة ليلة، ثم اقتحمها عليهم عنوة، وأثخن فيهم بالقتل. ثم رمّ بالبناء ما كان متثلّما بسورها الغربي حيث أمكنت منه الفرصة في البلد وتناول البناء فيه بيده والله لا يضيع عمل عامل.
وخشي يعقوب بن عبد الله بادرة السلطان، فخرج من رباط الفتح وأسلمه فضبطه السلطان وثقفه. ثم نهض إلى بلاد تامسنا وأنفى، فملكها وضبطها ولحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة، فامتنع به وسرّح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد وعليّ بن زيّان لمنازلته. وسار إلى لقاء يغمراسن لقاء المهادنة، فلقيه بجوحرمان [1] وافترقا على السلم ووضع أوزار الحرب، ورجع السلطان إلى المغرب فخرج عليه أبناء أخيه أولاد إدريس. ولحقوا بقصر كتامة. شايعوا يعقوب ابن عمهم عبد الله على رأيه. واجتمعوا إلى أكبرهم محمد بن إدريس فيمن إليهم من العشير والصنائع، فنهض إليهم واعتصموا بجبال غمارة، ثم استنزلهم واسترضاهم وعقد لعامر ابن إدريس سنة ستين وستمائة على عسكر من ثلاثة آلاف فارس أو يزيدون من المطوعة من بني مرين، وأغزاهم إلى العدوة لجهاد العدوّ وحملهم، وفرض لهم. وشفع بها عمله في واقعة سلا وهو أوّل جيش أجاز من بني مرين، فكان لهم في الجهاد والمرابطة مقامات محمودة وذكر خالد تقبّل سلفهم فيها خلفهم من بعدهم حسبما نذكره.
وأقام يعقوب بن عبد الله خارجا بالنواحي مثقلا في الجهات إلى أن قتله طلحة بن على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فلقيه بوادي محرمان.(7/236)
بساقيه غبّولة من ناحية سلا سنة ثمان وستين وستمائة فكفى السلطان شأنه. وكان المرتضى مذ توالت عليهم الوقائع واستمرّ الظهور لبني مرين انحجر في جدرانه وتوارى بالأسوار عن عدوّه، فلم يسم إلى لقاء زحف ولا حدّث نفسه بشهود حرب، واستأسد بنو مرين على الدولة وشرهوا إلى التهام البقية، وأسفوا إلى منازلة مراكش دار الخلافة، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن منازلة السلطان أبي يوسف حضرة مراكش دار الخلافة وعنصر الدولة وما كان أثر ذلك من نزوع أبي دبوس إليه وكيف نصبه للامر وكان مهلك المرتضى على يده ثم انتقض عليه
لما فرغ السلطان من شأن الخوارج عليه من عشيرة، استجمع لمنازلة المرتضى والموحّدين في دارهم، ورأى أنه أوهن لدولتهم وأقوى لأمره عليهم. وبعث قومه واحتشد أهل ممالكه، واستكمل تعبيته وسار حتى انتهى إلى ايكليز [1] واعتزم على ذلك سنة ستين وستمائة وشارف دار الخلافة. ثم نزل بقعرها وأخذ بمخنقها. وعقد المرتضى لحربهم للسيد أبي العلاء إدريس المكنّى بأبي دبّوس ابن السيّد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن، فعبّى كتائبه ورتّب مصافه، وبرز لمدافعتهم ظاهر الحضرة، فكانت بينهم حروب بعد العهد بمثلها، استشهد فيها الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وكانوا يسمونه برطانتهم المعجوب [2] ففتّ مهلكه في عضدهم، وارتحلوا عنها إلى أعمالهم، واعترضهم عساكر الموحّدين بوادي أمّ الربيع، وعليهم يحيى بن عبد الله بن وانودين، فاقتتلوا في بطن الوادي وانهزمت عساكر الموحدين. وكان في مسيل الوادي كدي تحسر عنها غمر الماء تبدو كأنها أرجل، فسميت الواقعة بها أمّ الرجلين. ثم سعى سماسرة الفتن عند الخليفة المرتضى في ابن عمّه وقائد حربه السيّد أبي دبوس بطلبه الأمر لنفسه، وشعر بالسعاية فخشي
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ايكلين.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: ايعجوب.(7/237)
بادرة المرتضى ولحق بالسلطان أبي يوسف مدخله إلى فاس من منازلته آخر سنة إحدى وستين وستمائة نازعا إليه، فأقام عنده مليا. ثم سأل منه الإعانة على أمره بعسكر يمدّه وآلة يتّخذها لملكه، ومال يصرفه في ضروراته على أن يشركه في القسمة والفتح والسلطان، فأمدّه بخمسة آلاف من بني مرين، وبالكفاية من المال والمستجاد من الآلة وأهاب له بالعرب والقبائل من أهل مملكته ومن سواهم أن يكونوا يدا معه. وسار في الكتائب حتى شارف الحضرة، ودسّ إلى أشياعه ومن يداخله من الموحّدين في أمره، فثاروا بالمرتضى وأخفضوه [1] عنها، فلحق بأزمور مستجيشا بصهره ابن عطوش. ودخل أبو دبوس الحضرة في المحرّم فاتح خمس وستين وستمائة وتقبّض ابن عطوش عامل أزمور على المرتضى واقتاده أسيرا إلى أبي دبوس، فبعث مولاه مزاحما فاحتزّ رأسه في طريقه، واستقلّ بالخلافة صبابه آل عبد المؤمن. ثم بعث إليه السلطان في الوفاء بالمشارطة، فاستنكف، وعثا ونقض العهد وأساء الخطاب، فنهض إليه في جموع بني مرين وعساكر المغرب، فخام عن اللقاء وانحجز بمراكش. ونازلة السلطان أياما تباعا ثم سار في الجهات والنواحي يحطّم الزرع وينسف الأقوات. وعجز أبو دبوس عن دفاعه، فاستجاش عليه بيغمراسن بن زيان ليفت في عضده ويشغله عما وراءه، ويأخذ بحجزته عن التهامه على ما نذكر لو أمهلته الأيام، وانفسح له الأجل.
الخبر عن وقيعة تلاغ بين السلطان يعقوب بن عبد الحق ويغمراسن بن زيان بإغراء أبي دبوس وتضريبه
لما نازل السلطان أبو يوسف حضرة مراكش وقعد على ترائبه للتوثّب عليها، لم يجد أبو دبّوس وليجة من دون قصده إلّا استجاشته بيغمراسن وقومه عليه، ليأخذوا بحجزته عنه، ويشغلوه من ورائه. فبعث إليه الصريخ في كشف بلواه ومدافعة عدوّه. وأكد العهد وأسنى الهديّة، فشمّر يغمراسن لاستنقاذه وجذب عدوّه من ورائه، وشنّ الغارات على ثغور المغرب وأضرم نارا فأهاج عليه وعلى قومه من السلطان يعقوب ليثا عاديا، وأرهف منه عزما ماضيا، وأفرج يعقوب على مراكش بعزم النهوض إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اجهضوه.(7/238)
تلمسان، ونزل بفاس، فتلوم بها أياما حتى أخذ أهبة الحرب، وأكمل استعدادها ورحل فاتح ست وستين وستمائة وسلك على كرسيف، ثم على تافرطا، وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وعبّى كل منهم كتائبه ورتّب مصافه، وبرز النساء سافرات الوجوه على سبيل التحريض لحسن وسعد بن ويرغين [1] ولما فاء الفيء ومال النهار، وكثرت حشود المغرب وجموع بني عبد الواد ومن إليهم، انكشفوا ومنحوا العدوّ أكتافهم. وهلك أبو حفص عمر كبير ولد يغمراسن وولي عهده في جماعة من عشيرة، ذكرناهم في أخباره. وأخذ يغمراسن بأعقاب قومه، فكان لهم ردءا إلى أن خلصوا من المعترك ووصلوا إلى بلادهم في جمادى من سنتهم، وعاد السلطان أبو يوسف إلى مكانه من حصار مراكش والله أعلم.
الخبر عن السفارة والمهاداة التي وقعت بين السلطان يعقوب ابن عبد الحق وبين المستنصر الخليفة بتونس لن آل أبي حفص
كان الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص منذ دعا لنفسه بتونس سنة خمس وعشرين وستمائة طموحا إلى ملك مرّاكش مقر الدعوة ومنبعث الدولة وأصل الخلافة. وكان يؤمّل لذلك زناتة، وإلّا فما دونه من خضد شوكة آل عبد المؤمن، وتقليم أظافر بأسهم، وردّهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه، وتغلّب على تلمسان سنة أربعين وستمائة ودخل يغمراسن بن زيان في دعوته وصار فيئة له وتبعه على عدوّه كما ذكرناه، فوصل به جناحة للمدافعة. وناغاه بنو مرين في مراسلة ابن أبي حفص ومخاطبته، والتخفيض عليه فيما يهمه من شأن عدوه، وحمل ما يفتحون من بلاد المغرب على البيعة له والطاعة مثل: فاس ومكناسة والقصر. وكان هو يلاطفهم بالتحف والهدايا، ويريهم البرّ في الكتاب والخطاب والمعاملة والتكريم للوفد غير سبيل آل عبد المؤمن، فكانوا يجنحون بذلك إلى مراسلته، وإيفاد قرابتهم عليه.
وولي ابنه المستنصر بعده سنة سبع وأربعين وستمائة فتقبّل مذاهب أبيه وأوفى عليه بالإيعاز إليهم بمنازلة مراكش، وضمان الإنفاق عليهم فيها، فكان يبث لذلك أحمالا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على سبيل التحريض، يحيين ويعدين ويرغبن.(7/239)
من المال والسلاح وأعدادا وافرة من الخيل بمراكبها للحملان، ولم يزل ذلك دأبه معهم. ولما فعل أبو دبّوس فعلته في نقض العهد واستجمع السلطان لمنازلته، قدم بين يدي عمله مراسلة الخليفة المستنصر يخبره الخبر ويتلطّف له في استنزال المدد، فأوفد عليه ابن أخيه عامر بن إدريس بن عبد الحق، وأصحبه عبد الله بن كندوز لعبد الواد كبير بني كمي، وقريع يغمراسن الّذي ثأر يغمراسن من أبيه كندوز بأبيه زيان كما ذكرناه في أخبارهم. وكان خلص إليه من حضرة المستنصر فلقاه مبرّة وتكريما، وأوفد معهم الكاتب أبا عبد الله محمد الكناني من صنائع دولة آل عبد المؤمن، كان نزع إلى أخيه الأمير أبي يحيى لما رأى من اختلال الدولة، وأنزله مكناسة وآثره بالصحبة والخلّة، فجمع له يعقوب بن عبد الحق في هذا الوفد من الأشراف من يحسن الرئاسة، ويعرب عما في ضمائر الناس، ويدله على شرف مرسلة. فوفدوا على المستنصر سنة خمس وستين وستمائة وأدّوا رسالتهم وحركوا له جوار المظاهرة على صاحب مراكش وكبح عنانه، فحنّ واهتز سرورا من أعواده، ولقاهم مبرّة التكريم وإحسان النزل، وردّ الأمير عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز لوقتهما. وتمسّك بالكناني من بينهم لمصاحبة وفده، فطال مقامه عنده إلى أن كان من فتح مراكش ما نذكره.
ثم أوفد المستنصر على السلطان يعقوب بن عبد الحق آخر سنة تسع وستين وستمائة بعدها شيخ الجماعة من الموحّدين لعهده أبا زكريا يحيى بن صالح الهنتاني مع جماعة من مشيخة الموحدين في مرافقة محمد الكناني، وبعث معهم إلى السلطان هدية سنيّة يلاطفه بها ويتاحفه، انتخب فيها من الجياد والسلاح وأصناف الثياب الغريبة العمل ما انتقاه. ووفق رضاه وهمته على الاستكثار منه، فحسن موقعها وتحدّث وانقلب وفده أحسن منقلب بعد أن تلطّف محمد الكناني في ذكر الخليفة المستنصر على منبر مراكش، فتم له، وشهد له وفد الموحّدين فعظم سرورهم وانقلبوا محبورين مسرورين، واتصلت بعد ذلك مهاداة المستنصر ليعقوب بن عبد الحق إلى أن هلك، وحذا ابنه الواثق من بعده على سننه، فبعث إليه سنة سبع وسبعين وستمائة هدية حافلة، بعث بها القاضي أبا العباس الغماريّ قاضي بجاية فعظم موقعها، وكان لأبي العبّاس الغماري بالمغرب ذكر تحدّث به الناس والله أعلم
.(7/240)
(الخبر عن فتح مراكش ومهلك أبي دبوس وانقراض دولة الموحدين من المغرب)
لما رجع السلطان أبو يوسف من حرب يغمراسن ورأى أن قد كفى عدوّه وكف غربة وردّ من كيده وكيد أبي دبوس صريخه، صرف حينئذ عزائمه إلى غزو مراكش، والعودة إلى مضايقتها كما كان لأول أمره، ونهض لغزاته من فاس في شعبان من سنته. ولما جاوزوا أمّ الربيع، بثّ السرايا وسرّح الغارات، وأطلق الأيدي والأعنة للنهب والعيث، فحطّموا زروعها وانتسفوا آثارها، وتقرى نواحيها كذلك بقية عامة.
ثم غزا عرب الخلط من جشم بتادلا، فأثخن فيهم واستباحهم. ثم نزل وادي العبيد، ثم غزا بلاد صنهاجة، ولم يزل ينقل ركابه بأنحاء البلاد المراكشية وأحوازها حتى حضرت صدور بني عبد المؤمن وقومه، وأغزاهم أولياء الدولة من عرب جشم بنهوض الخليفة لمدافعة عدوّه، فجمع لذلك وبرز في جيوش ضخمة وجموع وافرة، واستجرّه أبو يوسف بالفرار أمامه ليبعد عن مدد الصريخ، فيستمكن منه حتى نزل عفو. ثم كرّ إليه والتحم القتال فاختل مصافه وفرّت عساكره. وانهزم يريد مراكش فأدركوه دون أمله. واعتاقه أجله، فطعن في مفرّه وخرّ صريعا لليدين وللفم واجتز رأسه. وهلك بمهلكه وزيره عمران وكاتبه عليّ بن عبد الله المغيلي. وارتحل السلطان أبو يوسف إلى مراكش وفرّ من كان بها من الموحدين، فلحقوا بجبل تين ملّل، وبايعوا إسحاق أخا المرتضى، فبقي ذبالة هنالك سنين. ثم تقبّض عليه سنة أربع وسبعين وستمائة، وسيق إلى السلطان هو وأبو سعيد ابن عمّه السيد أبي الربيع والقبائلي وأولاده فقتلوا جميعا. وانقرض أمر بني عبد المؤمن. والله وارث الأرض ومن عليها.
وخرج الملاء وأهل الشورى من الحضرة إلى السلطان فأمّنهم ووصلهم. ودخل مراكش في بروز فخم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وورث ملك آل عبد المؤمن وتولّاه. واستوسق أمره بالمغرب، وتطامن الناس لبأسه، وسكنوا لظلّ سلطانه. وأقام بمراكش إلى رمضان من سنته، وأغزى ابنه الأمير أبا مالك إلى بلاد السوس فافتتحها وأوغل في ديارها ودوّخ أقطارها، ثم خرج بنفسه إلى بلاد درعة فأوقع بهم(7/241)
الوقيعة المشهورة التي خضدت من شوكتهم، ورجع لشهرين من غزاته، ثم أجمع الرحلة إلى داره بفاس فعقد على مراكش وأعمالها لمحمد بن عليّ بن يحيى من كبار أوليائهم ومن أهل خؤولته، وكان من طبقة الوزراء حسبما يأتي التعريف به وبعشيرته، وأنزله بقصبة مراكش، وجعل المسالح في أعمالها لنظره، وعهد إليه بتدويخ الأقطار ومحو آثار بني عبد المؤمن، وفصل إلى حضرته في شوّال وأراح بسلا، فكان من خبر عهده لابنه ما نذكره ان شاء الله تعالى.
الخبر عن عهد السلطان لابنه أبي مالك وما كان عقب ذلك من خروج القرابة عليه أولاد أخيه إدريس واجازتهم الى الأندلس
لما تلوم السلطان بسلا منصرفه من رباط الفتح وأراح بها ركائبه عرض له طائف من المرض ووعك وعكا شديدا. فلمّا أبلّ جمع قومه وعهد لابنه فيهم أبي مالك عبد الواحد كبير ولده، لما علم من أهليته لذلك. وأخذ له البيعة عليهم، فأعطوها طواعية، وأسف القرابة من ولد أخويه عبد الله وإدريس لأمّهما سوط النساء، ووجدوا في أنفسهم لما يرون أنّ عبد الله وإدريس أكابر ولد عبد الحق، ولهما التقدّم على من بعدهما من ولده، وأنهما أحق بالأمر، فرجعت هنت إلى أذنابها [1] ، ونفسوا عن ابن السلطان لما أخذ له من البيعة والعهد. ونزعوا عنه إلى جبل علودان من جبال غمارة عشّ خلافهم. ومدرج فتنتهم، وذلك سنة تسع وستين وستمائة ورياستهم يومئذ لمحمد بن إدريس وموسى بن رحّو بن عبد الله، وخرج معهم ولد أبي عياد بن عبد الحق وأغزاهم السلطان ولده أبا يعقوب يوسف في خمسة آلاف من عسكره، فأحاط بهم وأخذ بمخنقهم، ولحق به أخوه أبو مالك في عسكره، ومعه مسعود بن كانون شيخ سفيان. ثم خرج في أثرهم السلطان أبو يوسف واجتمع معسكرهم بتافركا ونازلوهم ثلاثا. وهلك في حروبهم منديل بن ورتطليم. ولما رأوا أن أحيط بهم سألوا الأمان، فبذله وأنزلهم. واستلّ سخائمهم ومسح ما في صدورهم، ووصل بهم إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فعادت هيف الى أديانها.(7/242)
حضرته. وسألوا منه الاذن في اللحاق بتلمسان حياء من كبر ما ارتكبوه، فأذن لهم، وأجازوا البحر إلى الأندلس، وخالفهم عامر بن إدريس لما أنس من صاغية السلطان إليه، فتخلّف عنهم بتلمسان حتى توثق لنفسه بالعهد وعاد الى قومه بعد منازلة السلطان بتلمسان كما نذكره الآن.
واحتلّ بنو إدريس وعبد الله وابن عمهم أبو عياد بأندلس على حين أقفر من الحامية جوها، واستأسد العدوّ على ثغرها. وغلبت شفاههم فاحتلّوها أسودا ضارية، وسيوفا ماضية، معوّدين لقاء الأبطال وقراع الحتوف والنزال. مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة العز وبسالة التوحّش فعظمت نكايتهم في العدوّ واعترضوا شجي في صدره دون الوطن الّذي كان طعمه له في ظنّه، وارتدّوه على عقبه، ونشطوا من همم المسلمين المستضعفين وراء البحر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم. وزاحموا أمير الأندلس في رياستها بمنكب، فتجافى لهم عن خطّة الحرب ورياسة الغزاة من أهل العدوة من أعياصهم وقبائلهم ومن سواهم من أمم البرابرة، وتناقلوه وساهموه في الجباية لفرط العطاء والديوان، فبذله لهم واستمدّوا على العدوّ [1] وحسن أثرهم فيها كما نذكره بعد في أخبار القرابة. ثم أعمل السلطان نظره في غزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حركة السلطان أبي يوسف الى تلمسان وواقعيته على يغمراسن وقومه بايسيلى
لما غلب السلطان أبو يوسف على بني عبد المؤمن وفتح مراكش واستولى على ملكهم سنة ثمان وستين وستمائة وعاد إلى فاس كما ذكرناه، تحرّك ما كان في نفسه من ضغائن يغمراسن وبني عبد الواد، وما أسفوا به من تخذيل عزائمه ومجادلته [2] عن قصده.
ورأى أنّ واقعة تلاغ لم تشف صدره، ولا أطفأت نار موجدته، فأجمع أمره على غزوهم. واقتدر بما صار إليه من الملك والسلطان على حشد أهل المغرب لحربهم وقطع دابرهم، فعسكر بفاس، وسرّح ولده وولّي عهده أبا مالك إلى مراكش في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واستمروا على ذلك لهذا العهد.
[2] وفي نسخة اخرى: مجاذبته.(7/243)
خواصّه ووزرائه حاشدين في مدائنها وضواحيها وقبائل العرب والمصامدة وبني ورا وغمرة وصنهاجة، وبقايا عساكر الموحدين بالحضرة، وحامية الأمصار من جند الروم وناشبة الغزو فاستكثر من أعدادهم واستوفى حشدهم. واحتفل السلطان بحركته وارتحل عن فاس سنة سبعين وستمائة وتلوم بملوية إلى أن لحقته الحشود وتوافت إليه أمداد العرب من قبائل جشم أهل تامسنا الذين هم سفيان والخلط والعاصم، وبنو جابر ومن معهم من الأثبج، وقبائل ذوي حسّان والشبانات من المعقل أهل السوس الأقصى، وقبائل رياح أهل أزغار والهبط. فاعترض هنالك عساكر وعبّى مواكبه، فيقال بلغت ثلاثين ألفا. وارتحل يريد تلمسان، ولما انتهى إلى أنكاد [1] وافته رسل ابن الأحمر هنالك ووفد المسلمين بالأندلس صريخا على العدوّ يستجيشون بإخوانهم المسلمين ويسألونهم الإعانة، فتحرّكت همته للجهاد ونصر المسلمين من عدوّهم. ونظر في صرف الشواغل عن ذلك، وجنح إلى السلم مع يغمراسن، وصوّب الملاء في ذلك رأيه لما كانوا عليه من إيثار الجهاد. وانتدب جماعة من المشيخة إلى السعي في صلاح ذات بينهما، وانكفأ من غرب عدوتهما.
وساروا إلى يغمراسن فوافوه بظاهر تلمسان وقد أخذ أهبته واستعدّ للقاء. واحتشد زناتة أهل ممالكه بالشرق من بني عبد الواد وبني راشد ومغراوة وأحلافهم من العرب زغبة. فلجّ في ذلك واستكبر وصم عن إسعافهم. وزحف في جموعه، والتقى الجمعان بوادي ايسيلي من بسائط وجدة، والسلطان أبو يوسف قد عبى كتائبه، ورتّب مصافه وجعل ولديه الأميرين أبا مالك وأبا يعقوب في الجناحين، وسار في القلب، فدارت بينهم حرب شديدة انجلت عن هلاك فارس بن يغمراسن، وجماعة من بني عبد الواد. وكاثرهم حشود المغرب الأقصى وقبائله، وعساكر الموحدين والبلاد المراكشية، فولوا الأدبار. وهلك عامّة عسكر الروم لثباتهم بثبات السلطان فطحنتهم رحى الحرب. وتقبّض على قائدهم بيرنيس. ونجا يغمراسن بن زيان في فلّه مدافعا دون أهله إلى تلمسان. ومرّ بفساطيطه، فأضرمها نارا، وانتهب معسكره، واستبيحت حرمه. وأقام السلطان أبو يوسف على وجدة حتى خرّبها وأصرع بالتراب
__________
[1] انكاد: مدينة قرب تلمسان من بلاد البربر من أرض المغرب، كانت لعليّ بن أحمد قديما، ذات سور من تراب في غاية الارتفاع والعرض، وواديها يشقها نصفين، منها الى تاهرت بالعرض مشرقا ثلاث مراحل (معجم البلدان) .(7/244)
أسوارها، وألصق بالرغام جدرانها. ثم نهض إلى تلمسان فحاصرها أياما وأطلق الأيدي في ساحتها بالنهب والعيث، وشنّ الغارات على البسائط، فاكتسحها سبيا ونسفها نسفا.
وهلك في طريقه إلى تلمسان وزيره عيسى بن ماساي، وكان من علية وزرائه وحماة ميدانه له في ذلك أخبار مذكورة. وكان مهلكه في شوّال من هذه السنة. ووصله بمثواه من حصارها محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، ومستصرخه على بني عبد الواد لما نال منه يغمراسن من طبخ القهر وذلّ الغلب والتحيف في كافة قبيلة مباهيا بآلته، فأكرم السلطان أبو يوسف وفادته واستركب الناس للقائه وبرور مقدمه. واتخاذ رتبة السلاح لمباهاته، وأقام محاصرا لتلمسان معه أياما حتى وقع اليأس وامتنع البلد، واشتدّ شوكة حاميته ثم أجمع السلطان أبو يوسف على الإفراج عنها وأشار على الأمير محمد بن عبد القويّ وقومه بالقفول قبل قفوله، وان يغذّوا السير إلى بلادهم.
وملاء حقائبهم باتحافه وجنب لهم من المائة من المقرّبات بمراكبها، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب. وعمهم بالخلع مع الصلات والخلع الفاخرة. واستكثر لهم من السلاح والفازات والفساطيط، وحملهم على الظهر، وارتحلوا وتلوّم السلطان أياما لمنجاتهم إلى مقرّهم من جبل وانشريس حذرا من غائلة يغمراسن من انتهاز الفرصة فيهم.
ثم دخل إلى فاس ودخلها مفتتح إحدى وسبعين وستمائة وهلك ولده الأمير أبو مالك وليّ عهده لأيام من مقدمه، فأسف لمهلكه. ثم تعزّى بالصبر الجميل عن فقده، ورجع إلى حاله في افتتاح بلاد المغرب. وكان في غزوته هذه ملك حصن تاونت، وهو معقل مطغرة، وشحنه بالأقوات لما رآه ثغرا مجاورا لعدوّه. وأسلمه لنظر هارون ابن شيخ مطغرة. ثم ملك حصن مليلة بساحل الريف مرجعه من غزاته هذه. وأقام هارون بحصن تاونت، ودعا لنفسه. ولم يزل يغمراسن يردّد الغزو إليه حتى فرّ من الحصن واستلمه سنة خمس وسبعين وستمائة ولحق بالسلطان أبي يوسف كما ذكرناه في أخباره، عند ذكر قبيلة مطغرة وكان من شأنه ما ذكرناه.
الخبر عن افتتاح مدينة طنجة وطاعة أهل سبتة وفرض الاتاوة عليهم وما قارن ذلك من الاحداث
كانت هاتان المدينتان سبتة وطنجة من أوّل دولة الموحّدين من أعظم عمالاتهم وأكبر(7/245)
ممالكهم بما كانت ثغر العدوة ومرفأ الأساطيل، ودارا لإنشاء الآلات التجرية [1] ، وفرضة الجواز إلى الجهاد. فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة بني عبد المؤمن.
وقد ذكرنا أن الرشيد كان عقد علي أعمالها لأبي عليّ بن خلاص من أهل بلنسية، وأنه بعد استفحال الأمير أبي زكريا بإفريقية ومهلك الرشيد، صرف الدعوة إليه سنة أربعين وستمائة وبعث إليه بالمال والبيعة مع ابنه أبي القاسم. وولّى على طنجة يوسف ابن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمدانيّ المعروف بابن الأمير قائدا على الرجل الأندلسيين، وضابطا للقصبة. وعقد الأمير أبو زكريا على سبتة لأبي يحيى بن أبي زكريا، ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص فنزل بها واستراب أبو علي ابن خلاص من العواقب عند مهلك ابنه الوافد على السلطان غريقا في البحر، فرحل بجملته إلى تونس في السفن، وأراح ببجاية، فكان فيها هلاكه سنة ست وأربعين وستمائة ويقال هلك في سفينته ودفن بجاية، ولما هلك الأمير أبو زكريا سنة سبع وأربعين وستمائة بعدها انتقض أهل سبتة على ابنه المستنصر وطردوا ابن الشهيد، وقتلوا العمّال الذين كانوا معه، وصرفوا الدعوة للمرتضى. وتولّى ذلك حجفون [2] الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي كبير المشيخة بسبتة، وأعظمهم تجلّة، نشأ في حجر أبيه الفقيه الصالح أبي العبّاس أحمد مكنوفا بالجلالة مغذّوا بالعلم والدين، لما كان له فيها قدم إلى أن هلك، فأوجب أهل البلد لابنه ما عرفوه من حقّه وحق أبيه من قبله، وكانوا يفزعون إليه في المهمّات ويسلمون له في الشورى، فأغرى الرنداحي بهذه الفعلة ففعلها وعقد المرتضى لأبي القاسم العزفي على سبتة مستقلا من غير إشراف أحد من السادة، ولا من الموحّدين. واكتفى بغنائه في ذلك الثغر وعقد لحجبون الرنداحي على قيادة الأساطيل بالمغرب، فورثها عنه بنوه إلى أن زاحمهم العزفي بمناكب رياسته، فقوضوا عن سبتة فمنهم من نزل بمالقة على ابن الأحمر ومنهم من نزل بجاية على أبي حفص، ولهم في الدولتين آثار تشهد برياستهم. واستقل الفقيه أبو القاسم العزفي برياسة سبتة، وأورثها بنيه من بعده على ما نذكره بعد.
وكانت طنجة تالية سبتة في سائر الأحوال وتبعا لها، فاتبع ابن الأمير صاحبها إمارة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: البحرية.
[2] وفي نسخة اخرى: حجبون الرنداحي وفي نسخة ثانية: حجبون الزنداحي.(7/246)
الفقيه أبي القاسم. ثم انتقض عليه لسنة واستبدّ وخطب لابن أبي حفص، ثم للعباسي، ثم لنفسه، وسلك فيها مسلك العزفي في سبتة، ولبثوا كذلك ما شاء الله، حتى إذا ملك بنو مرين المغرب وانبثوا في شعابه، ومدّوا اليد في ممالكه فتناولوها، ونزلوا معاقلة وحصونه فافتتحوها، وهلك الأمير أبو يحيى عبد الحق وابنه عمر من بعده. وتحيّز بنوه في ذويهم وأتباعهم وحشمهم إلى ناحية طنجة وأصيلا، فأوطنوا ضاحيتها وأفسدوا سابلتها وضيقوا على ساكنها، واكتسحوا ما حواليها، وشارطهم ابن الأمير على خراج معلوم على أن يكفوا الأذيّة ويحموا الحوزة ويصلحوا السابلة.
فاتصلت يده بيدهم، وتردّدوا إلى البلد لاقتضاء حاجاتهم. ثم مكروا وأضمروا الغدر ودخلوا في بعض أيامهم متأبطين السلاح، وفتكوا بابن الأمير غيلة، فثارت بهم العامّة لحينهم واستلحموا في مصرع واحد سنة خمس وستين وستمائة واجتمعوا إلى ولده وبقيت في ملكته خمسة أشهر. ثم استولى عليها العزفي فنهض إليها بعساكره من الرجل برّا وبحرا، واستولى عليها، وفرّ ابن الأمير ولحق بتونس ونزل على المستنصر واستقرّت طنجة في إيالة العزفي فضبطها وقام بأمرها، وولّى عليها من قبله. وأشرك الملاء من أشرافها في الشورى. ونازلها الأمير أبو مالك سنة ست وستين وستمائة فامتنعت عليه وأقامت على ذلك ستا، حتى إذا انتظم السلطان أبو يوسف ببلاد المغرب في ملكته، واستولى على حضرة مراكش ومحا دولة بني عبد المؤمن، وفرغ من أمر عدوه يغمراسن، وهم بتلك الناحية واستضافة عملها، فأجمع الحركة إليها ونازل طنجة مفتتح سنة اثنتين وسبعين بما كانت في البسيط من دون سبتة، وأقام عليها أياما. ثم اعتزم على الإفراج عنها، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وافترق بينهم. وتنادى في بعض الناشية من السور بشعاب بني مرين، فبادر سرعان أناس إلى تسوّر حيطانها فملكوها عليهم، وقاتلوا أهل البلد ظلام ليلتهم، ثم دخلوا البلد من صبيحتها عنوة، ونادى منادي السلطان في الناس بالأمان والعفو عن أهل البلد، فسكن روعهم ومهد وفرغ من شأن طنجة. ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في عساكر ضخمة لمنازلة العزفي في سبتة وارغامه على الطاعة، فنازلها أياما، ثم لاذ بالطاعة على المنعة. واشترط على نفسه خراجا يؤديه كل سنة، فتقبّل السلطان منه، وأفرجت عساكره عنهم، وقفل إلى حضرته. وصرف نظره إلى فتح سجلماسة وإزعاج بني عبد الواد المتغلّبين عليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى.(7/247)
الخبر عن فتح سجلماسة الثاني ودخولها عنوة على بني عبد الواد والمنبات من عرب المعقل
قد ذكرنا ما كان من تغلّب الأمير أبي يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وبلاد درعة، وأنه عقد عليها وعلى سائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، وأنزل معه ابنه مفتاحا المكنّى بأبي حديد في مشيخته لحياطتها. وأنّ المرتضى سرّح وزيره ابن عطوش سنة أربع وخمسين وستمائة في العساكر لارتجاعها، فنهض الأمير أبو يحيى إليه وشرّده عنها ورجعه على عقبه. وأن يغمراسن بن زيّان من بعد واقعة أبي سليط سنة خمس وخمسين وستمائة، قصدها لعورة دلّ عليها، وغرّة أمل إصابتها، فسابقه إليها الأمير أبو يحيى ومالقة من دونها ورجع عنها خائب المسعى مفلول الحامية. وكان الأمير أبو يحيى من بعد أن عقد عليها ليوسف بن يزكاسن عقد عليها من بعده لسنة ونصف من ولايته ليحيى بن أبي منديل كبير بني عسكرا قتالهم، ومقاسميهم نسب محمد بن وطيص [1] ثم عقد عليها لشهرين لمحمد بن عمران ابن عبلة من بني يرنيان صنائع دولتهم. واستعمل معه على الجباية أبا طالب الحبشي [2] وجعل مسلحة الجند بها لنظر أبي يحيى القطراني، وملّكه قيادتهم. وأقاموا على ذلك سنتين اثنتين.
ولما هلك الأمير أبو يحيى وشغل السلطان أبو يوسف بحرب يغمراسن ومنازلة مراكش، سما للقطراني أمل في الاستبداد بها، وداخل في ذلك بعض أهل الفتن وظاهره يوسف بن الغزي [3] وفتكوا بعمّار الورند غزاني شيخ الجماعة بالبلد. وائتمروا بمحمد بن عمران بن عبلة، فخرج ولحق بالسلطان، واستبدّ القطراني بها. ثم ثار به أهل البلد سنة ثمان وخمسين وستمائة لسنة ونصف من لدن استبداده وقتلوه.
وصرفوا بيعتهم إلى الخليفة المرتضى بمراكش. وتولّى كبر ذلك القاضي ابن حجّاج وعليّ بن عمر، فعقد له المرتضى عليها وأقام بها أميرا. ونازلتهم عساكر بني مرين والسلطان أبو يوسف سنة ستين وستمائة ونصب عليها آلات الحصار فأحرقوها وامتنعوا،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ورصيص.
[2] وفي نسخة ثانية: أبا طالب بن الحبسي.
[3] وفي نسخة أخرى: يوسف بن فرج العزفي.(7/248)
وأفرج عنهم. وأقام عليّ بن عمر في سلطانه ذلك ثلاث سنين، ثم هلك. وكان الأمير يغمراسن بن زيان منذ غلب الموحدين على تلمسان والمغرب الأوسط، وصار في ملكته، تحيّز إليه من عرب المعقل قبيل المنبات من ذوي منصور، بما كانت مجالات المعقل مجاورة لمجالات بني يادين في القفر. وإنما ارتحلوا عنها من بعد ما جأجأ يغمراسن من بني عامر بمجالاتهم من مصاب ببلاد بني يزيد، فزاحموا المعقل بالمناكب عن مجالاتهم ببلاد فيكيك وصا. ورحّلوهم إلى ملويّة وما وراءها من بلاد سجلماسة، فملكوا تلك المجالات.
ونبذ يغمراسن العهد إلى ذوي عبيد الله منهم واستخلص المنبات هؤلاء، فكانوا له حلفاء وشيعة ولقومه ودعوته خالصة. وكانت سجلماسة في مجالاتهم منقلب ظعنهم وناجعتهم، ولهم فيها طاعة معروفة. فلما هلك عليّ بن عمر آثروا يغمراسن بملكها، فحملوا أهل البلد على القيام بطاعته، وخاطبوه وجأجئوا به، فغشيها بعساكره وملكها وضبطها. وعقد عليها لعبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع من ولد محمد بن زكراز بن يندوكس [1] ويعرف بابن حنينة نسبه إلى أمّ أبيه أخت يغمراسن ومعه يغمراسن بن حمامة. وأنزل معهما ولده الأمير يحيى لإقامة الرسم الملوكي. ثم أداله بأخيه من السنة الأخرى، وكذا كان شأنه في كل سنة. ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب وانتظم أمصاره ومعاقلة في طاعته، وغلب بني عبد المؤمن على دار خلافتهم، ومحا رسمهم، وافتتح طنجة وطوع سبتة مرفأ الجواز إلى العدوة، وثغر المغرب، سما أمله إلى بلاد القبلة فوجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلّبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين وستمائة فنازلها وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرّادات، وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانه أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة تردّ الأفعال إلى قدرة باريها. فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال ويراوحها، إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوها عنوة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زكدان بن تيدوكسن.(7/249)
تلك الفرجة في صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة فقتلوا المقاتلة والحامية وسبوا الذرية [1] ، وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة، ومن كان معهم من بني عبد الواد وأمراء المنبات، وكمل فتح بلاد المغرب للسلطان أبي يوسف، وتمشّت طاعته في أقطاره. فلم يبق فيه معقل يدين بغير دعوته، ولا جماعة تتحيّز إلى غير فيئته ولا أمل ينصرف إلى سواه، ولما كملت له نعم الله في استيساق ملكه وتمهيد أمره، انصرف أمله إلى الغزو وإيثار طاعة الله بجهاد أعدائه، واستنقاذ المستضعفين من وراء البحر من عباده على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ولما انكفأ راجعا من سجلماسة، قصد مراكش من حيث جاء، ثم وقف إلى سلا فأراح بها أياما ونظر في شئونها، وسدّ ثغورها. وبلغه الخبر بوفادة أبي طالب صاحب سبتة الفقيه أبي القاسم العزفي على فاس، فأغذّ السير إلى حضرته، وأكرم وفادته وأحسن منقلبه إلى أبيه مملوء الحقائب ببرّه، رطب اللسان بشكره. ثم شرع في إجازة ولده كما نذكره الآن إن شاء الله تعالى.
الخبر عن شأن الجهاد وظهور السلطان أبي يوسف على النصارى وقتل زعيمهم ذننه وما قارن ذلك
كانت عدوة الأندلس منذ أوّل الفتح ثغرا للمسلمين، فيه جهادهم ورباطهم ومدارج شهادتهم وسبيل سعادتهم. وكانت مواطنهم فيه على مثل الرضف، وبين الظفر والناب من اسود الكفر لتوقر أممهم جوارها [2] وإحاطتهم بها من جميع جهاتها، وحجز البحر بينهم وبين إخوانهم المسلمين وقد كان عمر بن عبد العزيز رأى أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم وأهل دينهم، وبعدهم عن الصريخ.
وشاور في ذلك كبار التابعين وأشراف العرب فرأوه رأيا. واعتزم عليه لولا ما عاقه من المنية وعلى ذلك، فكان للإسلام فيه اعتزاز على من جاورهم من أهل الكفر، بطول دولة العرب من قريش ومضر واليمن. وكانت نهاية عزّهم وسورة غلبهم أيام بني أمية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سبوا الرعية.
[2] وفي نسخة ثانية: لتوفر أمتهم في جوارها.(7/250)
بها، الطائرة الذكر الباسطة جناحها على العدوتين منذ ثلاث مئات من السنين أو ما يقاربها.
حتى انتثر سلكها بعد المائة الرابعة من الهجرة، وافترقت الجماعة طوائف وفشلت ريح المسلمين وراء البحر بفناء دولة العرب. واعتز البربر بالمغرب واستفحل شأنهم وجاءت دولة المرابطين فجمعت ما كان مفترقا بالمغرب من كلمة الإسلام. وتمسكوا بالسنّة وتشوّقوا إلى الجهاد، واستدعاهم إخوانهم من وراء البحر للمدافعة عنهم، فأجازوا إليهم وأبلوا في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وأوقعوا بالطاغية ابن أدفوش يوم الزلّاقة وغيرها. وفتحوا حصونا واسترجعوا أخرى واستنزلوا الثوّار ملوك الطوائف، وجمعوا الكلمة بالعدوتين. وجاء على أثرهم الموحّدون سالكين أحسن مذاهبهم، فكان لهم في الجهاد آثار على الطاغية أيام، منها يوم الأرك ليعقوب بن المنصور وغيره من الأيام، حتى إذا فشلت ريح الموحدين وافترقت كلمتهم وتنازع الأمر سادة بني عبد المؤمن الأمراء بالأندلس، وتحاربوا على الخلافة واستجاشوا بالطاغية وأمكنوه من كثير من حصون المسلمين طعمة على الاستظهار، فخشي أهل الأندلس على أنفسهم وثاروا بالموحدين وأخرجوهم وتولى ذلك ابن هود بمرسية وشرق الأندلس، وعمّ بدعوته سائر أقطارها، وأقام الدعوة فيها للعبّاسيّين، وخاطبهم ببغداد كما ذكرناه في أخبارهم. واستوفينا كلا بما وضعناه في مكانه. ثم انحجز ابن هود على الغريبة [1] لبعدها عنه، وفقده للعصابة المتناولة لها، وأنه لم تكن صنعته في الملك مستحكمة وتكالب الطاغية على الأندلس من كل جهة، وكثر اختلاف المسلمين بينهم. وشغل بنو عبد المؤمن بما دهمهم من المغرب من شأن بني مرين وزناتة. فتلافى محمد بن يوسف بن الأحمر أمر الغربية، وثار بحصنه أرجونة وكان شجاعا قدما ثبتا في الحروب، فتلقّف الكرّة من يد ابن هود خلع الدعوة العبّاسية، ودعا للأمير أبي زكريا بن أبي حفص سنة تسع وعشرين وستمائة فلم يزل في فتنة ابن هود يجاذبه الحبل ويقارعه على عمالات الأندلس واحدة بعد أخرى إلى أن هلك ابن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وتكالب العدو خلال ذلك على جزيرة الأندلس من كل جانب ووفر له ابن هود
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم عجز ابن هود عن الغربية.(7/251)
الجزية وبلغ بها أربعمائة ألف من الدنانير في كل سنة. ونزل له على اثنتين [1] من حصون المسلمين. وخشي ابن الأحمر أن يستغلظ عليه بالطاغية فجنح هو إليه وتمسّك بعروته، ونفر في جملته إلى منازلة إشبيليّة نكاية لأهلها. ولما هلك الأمير أبو زكريا نبذ الدعوة الحفصيّة، واستبدّ لنفسه، وتسمّى بأمير المسلمين، ونازعه بالشرق أعقاب ابن هود وبني مردنيش، ودعاه الأمر إلى النزول للطاغية من بلاد الفرنتيرة، فنزل عليها بأسرها. وكانت هذه المدّة من سنة اثنتين وعشرين إلى سنة سبعين، فترة ضاعت فيها ثغور المسلمين واستبيح حماهم، والتهم العدوّ بلادهم وأموالهم نهبا في الحروب، ووضيعة ومداراة في السلم. واستولى طواغيت الكفر على أمصارها وقواعدها فملك ابن أدفوش قرطبة سنة ست وثلاثين، وجيان سنة أربع وأربعين، وإشبيليّة سنة ست وأربعين.
وتملك قمط برشلونة مدينة بلنسية سنة سبع وثلاثين إلى ما بينهما من الحصون والمعاقل التي لا تعدّ ولا تحصى، وانقرض أمر الثوار بالشرق وتفرّد ابن الأحمر بغرب الأندلس، وضاق نطاقه على الممانعة دون البسائط الفيح من الفرنتيرة وما قاربها، ورأى أنّ التمسك بها مع قلّة العدد وضعف الشوكة مما يوهن أمره ويطمع فيه عدوّه، فعقد السلم مع الطاغية على النزول عنها أجمع. ولجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره من عدوّهم. واختار لنزله مدينة غرناطة، وابتنى بها لسكناه حصن الحمراء حسبما شرحنا ذلك كله في مواضعه. وفي أثناء هذا كلّه لم يزل صريخه ينادي بالمسلمين من وراء البحر والملأ من أهل الأندلس يفدون على أمير المسلمين أبي يوسف للإعانة ونصر الملة، واستنقاذ الحرم والولدان من أنياب العدو فلا يجد مفزعا إلى ذلك بما كان فيه من مجاذبة الحبل مع الموحدين، ثم مع يغمراسن. ثم شغله بفتح بلاد المغرب وتدويخ أقطاره إلى أن هلك السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن الأحمر المعروف بالشيخ، وأبي دبوس، لقبين كانا له على حين استكمال أمير المسلمين فتح المغرب وفراغه من شأن عدوّه سنة إحدى وسبعين وستمائة على أن بني مرين كانوا يؤثرون الجهاد ويسمون إليه وفي نفوسهم جنوح إليه وصاغية.
ولما استوحش بنو إدريس بن عبد الحق وخرجوا سنة إحدى وستين وستمائة على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثلاثين.(7/252)
السلطان يعقوب بن عبد الحق واسترضاهم واستصلحهم انتدب الكثير منهم للغزو وإجازة البحر لصريخ المسلمين بالأندلس، واجتمع إليهم من مطوعة بني مرين عسكر ضخم من الغزاة ثلاثة آلاف أو يزيدون وعقد السلطان على ذلك العسكر لعامر بن إدريس فوصلوا إلى الأندلس فكان لهم فيها ذكر ونكاية في العدوّ، وكان الشيخ ابن الأحمر عهد إلى ولده القائم بالأمر بعده محمد، الشهير بالفقيه، لانتحاله طلب العلم أيام أبيه. وأوصاه أن يتمسّك بعروة أمير المسلمين ويخطب نصره، ويدرأ به ويقدّمه عن نفسه وعن المسلمين تكالب الطاغية. فبادر لذلك لحين مواراة أبيه وأوفد مشيخة الأندلس كافة عليه، ولقيه وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة خاتم الفتوح بالثغور المغربية وملاذ العز ومقاد الملك. وتبادروا للإسلام [1] وألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو على المسلمين، وثقل وطأته، فحيّا وفدهم ورؤساءهم، وبادر لإجابة داعي الله واستئثار الجنة. وكان أمير المسلمين منذ أوّل أمره مؤثرا أعمال الجهاد كلفا به مختارا له حتى أعطي الخيار سائر آماله، حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى الأندلس أيام أخيه الأمير أبي يحيى وطلب إذنه في ذلك عند ما ملكوا مكناسة سنة ثلاث وأربعين وستمائة فلم يأذن له وفصل إلى الغزو في حشمه وذويه ومن أطاعه من عشيرته. وأوعز الأمير أبو يحيى لصاحب الأمر بسبتة لذلك العهد أبي علي بن خلاص بأن يمنعه الإجازة، ويقطع عنه أسبابها. ولما انتهى إلى قصر الجواز، ثنى عزمه عن ذلك الولي يعقوب بن هارون الخبري، ووعده بالجهاد أميرا مستنفرا للمسلمين ظاهرا على العدوّ، فكان في نفسه من ذلك شغل وإليه صاغية.
فلما قدم عليه هذا الوفد نبّهوا عزائمه وذكروا همته، فأعمل في الاحتشاد وبعث في النفير. ونهض من فاس شهر شوّال من سنة ثلاث وسبعين وستمائة إلى فرضة المجاز من طنجة. وجهّز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم واستوفى أعطياتهم وعقد عليهم لابنه منديل وأعطاه الراية. واستدعى من الغد صاحب سبتة في السفن لإجازتهم فوافاه بقصر الجواز عشرون من الأساطيل، فأجاز العسكر ونزل بطريف، وأراح ثلاثا، ودخل دار الحرب وتوغّل فيها، وأجلب على ثغورها وبسائطها. وامتلأت أيديهم من المغانم وأثخنوا بالقتل والأسر وتخريب العمران ونسف الآثار، حتى نزل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وتنادوا للإسلام بالثأر.(7/253)
بساحة شريس، فخام حاميتها عن اللقاء وانحجروا في البلد، وقفل عنها إلى الجزيرة وقد امتلأت أيديهم من الأموال وحقائبهم من السبي وركائبهم من الكراع والسلاح.
ورأى أهل الأندلس قد ثاروا بعام العقاب حتى جاءت بعدها الطاعة الكبرى على أهل الكفر، واتصل الخبر بأمير المسلمين فاعتزم على الغزو بنفسه، وخشي على ثغور بلاده من عادية يغمراسن في الفتنة، فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد في وفد من بني مرين لعقد السلم مع يغمراسن والرجوع للاتفاق والموادعة. ووضع أوزار الحرب بين المسلمين للقيام بوظيفة الجهاد فأكرم موصله وموصل قومه. وبادر إلى الإجابة والألفة، وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السلطان لعقد السلم. وبعث معهم الرسل وأسنى الهديّة وجمع الله كلمة الإسلام، وعظم موقع هذا السلم من أمير المسلمين لما كان في نفسه من الصاغية إلى الجهاد، وإيثاره مبرورات الأعمال. وبثّ الصدقات يشكر الله على ما منحه من التفرّغ لذلك. ثم استنفر الكافة واحتشد القبائل والجموع، ودعا المسلمين إلى الجهاد. وخاطب في ذلك كافة أهل المغرب من زناتة والعرب والموحّدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأوربة ومكناسة وجميع قبائل البرابرة وأهل المغرب من المرتزقة والمطّوعة. وأهاب بهم وشرع في إجازة البحر، فأجازه من فرضة طنجة لصفر من سنة أربع وسبعين وستمائة واحتلّ بساحة طريف.
وكان لما استصرخه السلطان ابن الأحمر وأوفد عليه مشايخ الأندلس اشترط عليه النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره، فتجافى له عن رندة وطريف. ولما احتل بطنجة بادر إليه ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء، وأجاز البحر إليه. ولقيه بظاهر طنجة فأدّى له طاعته وأمكنه من قياد بلده. وكان الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو إسحاق صهر السلطان ابن الأحمر تبعا له في أمره ومؤازرا له على شأنه كله. وأبوهما أبو الحسن هو الّذي تولى كبر الثورة على ابن هود ومداخلة أهل إشبيليّة في الفتك بابن الباجي. فلما استوت قدمه في ملكه وغلب الثوّار على أمره فسد ما بينهما بعد أن كان ولّى أبا محمد على مقاله وأبا إسحاق على وادي آش [1] ، فامتنع أبو محمد بن أشقيلولة بمالقة واستأثر بها وبغربيتها دونه. ومع ذلك فكانوا على
__________
[1] أش: بالفتح والشين مخففة، وربما مدت همزته: مدينة الأشات بالأندلس من كورة البيرة وتعرف بوادي أش، والغالب على شجرها الشاهبلوط، وتنحدر إليها أنهار من جبال الثلج، بينها وبين غرناطة أربعون ميلا، وهي بين غرناطة وبجّانة (معجم البلدان) .(7/254)
الصاغية فيئة ولحمة. ولما أحس أبو محمد بإجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق، قدم إليه الوفد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم، وانحاش إلى جانب السلطان وولايته، وأمحضه المخالصة والنصيحة. فلما احتل السلطان بناحية طريف ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينهما وبين الجزيرة وتسابق السلطان ابن الأحمر، وهو الفقيه أبو محمد ابن الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة والرئيس أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة والغربية، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش إلى لقاء السلطان وتناغوا في برور مقدمه والإذعان له، ففاوضهما في أمور الجهاد، وأرجعهما لحينه إلى بلديهما. وانصرف ابن الأحمر مغاضبا لبعض النزعات أحفظته وأغذّ السير إلى الفرنتيرة، وعقد لولده الأمير أبي يعقوب على خمسة آلاف من عسكره. وسرّح كتائبه في البسائط وخلال المعاقل تنسف الزرع وتحطّم الغروس وتخرّب العمران وتنتهب الأموال وتكتسح السرح وتقتل المقاتلة وتسبي النساء والذرّية، حتى انتهى إلى المدور وتالسة [1] وأبدة [2] واقتحم حصن بلمة عنوة. وأتى على سائر الحصون في طريقه فطمس معالمها واكتسح أموالها. وقفل والأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجة من تخوم دار الحرب. وجاء النذير باتباع العدو وآثارهم لاستنقاذ أسراهم وارتجاع أموالهم. وأنّ زعيم الروم وعظيمهم ذنّته [3] خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوقه. فقدّم السلطان الغنائم بين يديه وسرّح ألفا من الفرسان أمامها، وسار يقتفيها، حتى إذا طلّت رايات العدو من ورائهم كان الزحف، ورتّب المصاف وحرّض وذكّر. وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحرّكت هممها، وأبلت في طاعة ربّها والذبّ عن دينها. وجاءت بما يعرف من بأسها وبلائها في مقاماتها ومواقفها.
ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى هبت ريح النصر وظهر أمر الله وانكشفت جموع النصرانية، وقتل الزعيم ذنّنه والكثير من جموع الكفر. ومنح الله المسلمين أكتافهم، واستمرّ القتل فيهم. وأحصي القتلى في المعركة فكانوا ستة آلاف، واستشهد من المسلمين ما يناهز الثلاثين أكرمهم الله بالشهادة وآثرهم بما عنده. ونصر الله حزبه
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: بايسة.
[2] أبّدة: بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس من كورة جيّان تعرف بأبدة العرب، اختطها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وتمّمها ابنه محمد. (معجم البلدان) .
[3] وفي نسخة أخرى دتنه، وكذا في نفح الطيب ج 1 ص 449 وقد ذكر أيضا ذونّنه ودونّنه.(7/255)
وأعزّ أولياءه ونصر دينه. وبدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملّة وقيامها بنصر الكلمة. وبعث أمير المسلمين برأس الزعيم ذنّنه إلى ابن الأحمر فردّه زعموا سرا إلى قومه بعد أن طيّبه وأكرمه، ولاية أخلصها لهم، مداراة وانحرافا عن أمير المسلمين، ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره، وقفل أمير المسلمين من غزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته، فقسّم في المجاهدين الغنائم وما نفلوه من أموال عدوّهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم، بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنّة ليصرفه في مصارفه. ويقال: كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر وأربعة وعشرين ألفا، ومن الأسارى سبعة آلاف وثمان مائة وثلاثين، ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستمائة، وأمّا الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة، حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد، وكذلك السلاح. وأقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما ثم خرج لجمادى غازيا إلى إشبيليّة فجاس خلالها وتقرّى نواحيها وأقطارها، وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها وعمرانها. وارتحل إلى شريش فأذاقها وبال العيث والاكتساح. ورجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته، ونظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر وجفائهم. وتحيّز لها مكانا لصق الجزيرة، فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية وجعل ذلك لنظر من يثق به من ذويه [1] . ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من سنة أربع وسبعين وستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر، واحتل بقصر مصمودة وأمر ببناء السور على بادس مرفأ الجواز ببلاد غمارة. وتولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو. ثم رحل إلى فاس فدخلها في شعبان، وصرف النظر إلى أحوال دولته، واختطاط البلد الجديد لنزله ونزل حاشيته، واستنزال الثوّار عليه بالمغرب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس وما كان على بقية ذلك من الأحداث)
لما قفل السلطان أمير المسلمين من غزاتة الجهاديّة، وتمّ صنع الله لديه في ظهور
__________
[1] وفي نسخة ثانية: دونه.(7/256)
الإسلام على يديه، واعتزاز أهل الأندلس بفيئته، راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه وحسم أدواء الفساد في دولته، شفعت مواهب السعادة، وأجملت [1] عوائد الصنع، وذلك أنّ صبابة بني عبد المؤمن وفلّهم، لمّا فرّوا من مراكش عند الفتح لحقوا بجبل تين ملّل جرثومة أمرهم، ومنبعث دعوتهم. وملاحد خلفائهم، وحضرة سلفهم، ودار إمامهم، ومسجد مهديّهم. كانوا يعكفون عليه متيّمنين بطيره، ملتمسين بركة زيارته، ويقدمون ذلك أمام غزواتهم قرية بين يدي أعمالهم يعتدّونها من صالح مساعيهم. فلما خلص الفلّ إليه اعتصموا بمعقله وآووا إلى ركونه، ونصبوا للقيام بأمرهم عيصا من أعياص خلفاء بني عبد المؤمن ضعيف المنبه [2] خاسر الصفقة من مواهب الحظ، وهو إسحاق أخو المرتضى. وبايعوه سنة تسع وستين وستمائة يرجون منه رجع الكرّة، وإدالة الدولة، وكان المتولي لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطّوش.
ولما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش، لم يقدّم عملا على محاربتهم، وتخذيل الناس عنهم، واستمالة أشياعهم. وجمعوا له سنة أربع وسبعين وستمائة على غرّة ظنّوها، فأوقع بهم وفلّ من غربهم. ثم صمد إلى الجبل لشهر ربيع من سنته فافتضّ عذرته وفضّ ختامه، واقتحمه عليهم عنوة بعد مطاولة النزال والحرب. وهلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة، وتقبّض على خليفته المستضعف. وابن عمّه أبي سعيد ابن السيّد أبي الربيع ومن معهما من الأولياء. وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة بمراكش، فضربت أعناقهم وصلبت أشلاؤهم. وكان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي وأولاده، وعاثت العساكر في جبل تينما [3] واكتسحت أمواله. وبعثرت قبور خلفاء بني عبد المؤمن. واستخرج شلو يوسف وابنه يعقوب المنصور، فقطعت رءوسهم. وتولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته ومواطن انتزائه كما قدّمناه وكان السلطان أقطعه بلاد أغوات إكراما لوفادته، فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأكملت.
[2] وفي نسخة ثانية: ضعيف المنية.
[3] تين ملل: جبال بالمغرب بها قرى ومزارع يسكنها البرابرة، بين أوّلها ومراكش، سرير ملك بني عبد المؤمن، نحو ثلاثة فراسخ، بها كان أول خروج محمد بن تومرت المسمّى بالمهديّ الّذي أقام الدولة.(7/257)
وراى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم، والعيث بأشلائهم لما نقم منه الموحّدون. وأزعجوه من قراره، فنكرها السلطان لجلاله. وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره، وعدّها من هناته.
ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد، ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة، وقطع دابر بني عبد المؤمن، فتظاهر السرور لديه، وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه. ولما سكن غرب الثوار، وتمهّد أمر المغرب، ورأى أمير المسلمين أنّ أمره قد استفحل، وملكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته وكثر وافده، رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه. فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع وسبعين وستمائة هذه.
وجمع الأيدي عليها، وحشد الصنّاع والفعلة لبنائها. وأحضر لها الحزّى والمعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية مما يرضون أثره، ورصدوا أوانه.
وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطّان وأبو عبد الله بن الحبّاك، المقدّمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي. ونزلها بحاشيته، وذويه سنة أربع وسبعين وستمائة كما ذكرناه. واختطّوا بها الدور والمنازل، وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام. ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة، فشرع في بنائها من سنته، وكان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو [1] نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة، فاغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه. واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة. وحسم الداء من خروجه. واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي، وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم. ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي أتحفه بها بين يدي غزاته. وكان شغله عنها أمر الجهاد، فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش، وحكمات مموهة بالذهب والفضة، وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج، والنسوانية من الولايا، وأحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي، إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أزور.(7/258)
وفي سنة خمس وسبعين وستمائة من بعدها أهدى له محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، وصاحب جبل وانشريش أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة، ورأى أنها على قلّة عددها أحفل هدية. وفي نفسه أثناء هذا كله من الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما نذكر.
(الخبر عن إجازة أمير المسلمين ثانية وما كان فيها من الغزوات)
لما قفل أمير المسلمين من غزاته الأولى، واستنزل الخوارج وثقف الثغور، وهادي الملوك واختط المدينة لنزله كما ذكرنا ذلك كله. ثم خرج فاتح سنة ست وسبعين وستمائة إلى جهة مراكش لسدّ ثغوره، وتثقيف أطرافه. وتوغّل في أرض السوس، وبعث وزيره فتح الله السدراتي بالعساكر فجاس خلاله، ثم انكفأ راجعا. وخاطب قبائل المغرب كافة بالنفير إلى الجهاد، فتباطئوا واستمرّ على تحريضهم، ونهض إلى رباط الفتح وتلوم بها في انتظار الغزاة فثبطوا، فخفّ هو واحتل بطريف آخر محرم.
ثم ارتحل إلى الجزيرة، ثم إلى رندة. ووافاه هنالك الرئيسان أبو إسحاق بن أشقيلولة صاحب قمارش، وأبو محمد صاحب مالقة للغزو معه. وارتحلوا إلى منازلة إشبيليّة فعرسوا عليها يوم المولد النبوي. وكان بها ملك الجلالقة ابن أدفونش، فخام عن اللقاء وبرز إلى ساحة البلد محاميا عن أهلها. ورتّب أمير المسلمين مصافه وجعل ولده الأمير أبا يعقوب في المقدّمة، وزحف في التعبية فأحجروا العدو في البلد، واقتحموا أثرهم الوادي وأثخنوا فيهم. وباتت العساكر ليلتهم يجادون في متون الخيل وقد أضرموا النيران بساحتها. وارتحل من الغد إلى أرض الشرط، وبثّ السرايا والغوازي في سائر النواحي. وأناخ بجمهور العسكر عليها، فلم يزل يتقرّى تلك الجهات حتى أباد عمرانها وطمس معالمها. ودخل حصن قطيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنوة، وأثخن في القتل والسبي. ثم ارتحل بالغنائم والأثقال [1] إلى الجزيرة لسرار شهره، فأراح وقسّم الغنائم في المجاهدين. ثم خرج غازيا إلى شريش منتصف ربيع الآخر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تم قفل بالغنائم والأنفال.(7/259)
فنازلها وأذاقها نكال الحرب. وأقفر نواحيها، وقطع أشجارها وأباد خضراءها وحرق ديارها، ونسف آثارها، وأثخن فيها بالقتل والأسر. وبعث ولده الأمير أبي يعقوب في سريّة من معسكره للغوار على اشبيلية وحصون الواد [1] ، فبالغ في النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطير [2] . ثم صبح إشبيلية بمقارة فاكتسحها وانفكأ إلى أمير المسلمين، فقفلوا جميعا إلى الجزيرة. وأراح وقسّم في المجاهدين غنائمهم. ثم ندب إلى غزو قرطبة، ورغبهم في عمرانها وثروة مساكنها، وخطب بلادها، فانعطفوا إلى إجابته، وخاطب ابن الأحمر يستنفره. وخرج لأوّل جمادى من الجزيرة، ووافاهم ابن الأحمر بناحية أرشدونة، فأكرم وصوله وشكر حفوفه الى الجهاد وبداره. ونازلوا حصن بني بشير فدخلته عنوة، وقتلت المقاتلة وسبيت النساء، ونفلت الأموال وخرّب الحصن. ثم بثّ السرايا والغارات في البسائط فاكتسحها وامتلأت الأيدي وأثرى العسكر. وتقرّوا المنازل والعمران في طريقهم حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها، وانحجرت حامية العدوّ من وراء الأسوار وانبثت بعوث المسلمين وسراياهم في نواحيها، فنسفوا آثارها وخرّبوا عمرانها واكتسحوا قراها وضياعها. وتردّدوا على جهاتها، ودخل حصن بركونة عنوة، ثم أرجونة كذلك، وقدّم بعثا إلى حيانة [3] قاسمها حظها من الخسف والدمار. وخام الطاغية عن اللقاء وأيقن بخراب عمرانها. وإتلاف بلده. فجنح إلى السلم وخطبه من أمير المسلمين، فدفعه إلى ابن الأحمر وجعل الأمر في ذلك إليه تكرمة لمشهده ووفاء بحقه، وأجابهم ابن الأحمر إليه بعد عرضه على أمير المسلمين والتماس إذنه فيه لما فيه من المصلحة وجنوح أهل الأندلس إليه منذ المدد الطويلة، فانعقد السلم. وقفل أمير المسلمين من غزاته وجعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان ابن الأحمر وخرج له عن الغنائم كلّها، فاحتوى عليها. ودخل أمير المسلمين الى الجزيرة في أوّل رجب من عامئذ، فأراح ونظر في ترتيب المسالح على الثغور، وتملّك مالقة كما نذكره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حصون الوادي.
[2] وفي نسخة ثانية: القناطير.
[3] حيانة: لا وجود لحيانة وإنما حيّانية وهي في أرض دمشق والمقصود جيان كما في نسخة أخرى.(7/260)
(الخبر عن تملك السلطان مدينة مالقة من يد ابن اشقيلولة)
كان بنو اشقيلولة هؤلاء من رؤساء الأندلس المؤمّلين لمدافعة العدوّ، وكانوا نظراء لابن الأحمر في الرئاسة، وهما أبو محمد عبد الله وأبوا إسحاق إبراهيم ابنا أبي الحسن بن أشقيلولة. وكان أبو محمد منهم صهرا له على ابنته فكانوا له بذلك خاصة فأشركهم في أمره واعتضد بعصابتهم وبأبيهم من قبل على مقاومة ابن هود وسائر الثوّار حتى إذا استمكن من فرصته واستوى على كرسيه استبدّ دونهم وأنزلهم الى مقامات الوزراء.
وعقد لأبي محمد صهره على ابنته على مدينة مالقة والغربيّة، وعقد لأبي الحسن صهره على أخته على وادي آش وما إليها، وعقد لابنه أبي إسحاق إبراهيم بن عليّ على قمارش وما إلى ذلك. ووجدوا في أنفسهم، واستمرّ الحال على ذلك. ولما هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة وولي ابنه الفقيه محمد، سموا إلى منازعته. وأوفد أبو محمد صاحب مالقة ابنه أبا سعيد على السلطان يعقوب بن عبد الحق، وهو منازل طنجة. ووفد معه أبو محمد إلى السلطان بطاعته وبيعته أهل مالقة سنة ثلاث وسبعين وستمائة وعقد له عليها. ونزع ابنه أبو سعيد فرج إلى دار الحرب، ثم رجع لسنته فقتل بمالقة. ولما أجاز السلطان إلى الأندلس إجازته الأولى سنة أربع وسبعين وستمائة تلقّاه أبو محمد بالجزيرة مع ابن الأحمر وفاوضهما السلطان في أمر الجهاد وردّهما إلى أعمالها. ولما أجاز إجازته الثانية سنة ست وسبعين وستمائة لقيه بالجزيرة الرئيسان ابنا أشقيلولة: أبو محمد صاحب مالقة، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش وقمارش، فشهدا معه الغزاة. ولما قفل اعتلّ أبو محمد صاحب مالقة، ثم هلك غرة جمادى من سنته فلحق ابنه محمد بالسلطان آخر شهر رمضان. وهو متلوّم بالجزيرة، منصرفه عن الغزو كما ذكرناه، فنزل له عن البلد ودعاه إلى احتيازها، فعقد عليها لابنه أبي زيّان منديل، فسار إليها في بعث، وكان ابن أشقيلولة لحين فصوله إلى لقاء السلطان، أمر ابن عمّه محمد الأزرق بن أبي الحجّاج يوسف بن الزرقاء بإخلاء منازل السلطان بالقصبة واعدادها، فتمّ ذلك لثلاث ليال، واضطرب الأمير أبو زيّان معسكره بخارجها، وأنفذ محمد بن عمران بن عيلة في(7/261)
رهط من رجال بني مرين إلى القصبة فنزلها وملك أمر البلد. وكان السلطان ابن الأحمر لما بلغه وفاة أبي محمد بن أشقيلولة سما أمله إلى الاستيلاء على مالقة وأنّ ابن أخته شيعة له. وبعث لذلك وزيره أبا سلطان عزيز الداني، فوافى معسكر الأمير أبي زيان بساحتها. ورجا أن يتجافى عنها لسلطانه، فأعرض عن ذلك وتجهّم له.
ودخل إليها لثلاث بقين من رمضان. وانقلب الداني عنها بخفي حنين، ولما قضى السلطان بالجزيرة صومه ونسكه، خرج إلى مالقة فوافاها سادس شوّال، وبرز إليه أهلها في يوم مشهود، واحتفلوا له احتفال أيام الزينة سرورا بمقدم السلطان، ودخولهم في إيالته. وأقام فيهم إلى خاتم سنته. ثم عقد عليها لعمر بن يحيى بن محلى من صنائع دولتهم. وأنزل معه المسالح وزيان بن أبي عيّاد بن عبد الحق في طائفة لنظره من أبطال بني مرين. واستوصاه بمحمد بن أشقيلولة وارتحل إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب سنة سبع وسبعين وستمائة وقد اهتزت الدنيا لقدومه وامتلأت القلوب سرورا بما كيّفه الله من نصر المسلمين بالعدوة، وعلوّ راية السلطان على كل راية.
وعظمت لذلك موجدة ابن الأحمر، ونشأت الفتنة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن تظاهر ابن الأحمر والطاغية على منع السلطان أبي يوسف من إجازة ابن الأحمر واصفاق يغمراسن بن زيان معهم من وراء البحر على الأخذ بحجزته عنهم وواقعة السلطان على يغمراسن بخرزوزة
لما أجاز أمير المسلمين إلى العدوة إجازته الأولى، ولقي العدو بأستجة، وقتل الله ذنّنه بأيدي عسكره. وصنع له من الظهور والعزّ ما لا كفاء له، ارتاب ابن الأحمر بمكانه، فبدا له ما لم يكن يحتسب، وظنّ بأمير المسلمين الظنون، واعترض ذكره شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عبّاد سلطان الأندلس. وأكّد ذلك عنده جنوح الرؤساء من بني أشقيلولة وغيرهم إليه وانقيادهم لأمره، فشرق بمكانه وحذر غوائله. وتكدّر الجو بينهما وأجاز الإجازة الثانية، فانقبض ابن الأحمر عن لقائه، ودارت بينهما مخاطبات شعريّة في معنى العتاب على ألسنة كتّابهما نسردها الآن،(7/262)
(فمن ذلك قصيدة كتبها إليه ابن الأحمر سنة أربع وسبعين وستمائة بعد واقعة ذنّنه واعتزامه على الرجوع إلى المغرب، فخاطبه بها ليلة الإقامة بالجزيرة حذرا من غائلة العدو، وينحو فيها منحى الاستعطاف وهي من نظم كاتبه أبي عمر بن المرابط:
هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو من منجد
هذا الهوى داع فهل من مسعف ... بإجابة وإنابة أو مسعد
هذا سبيل الرشد قد وضحت فهل ... بالعدوتين من امرئ مسترشد
يرجو النجاة بجنّة الفردوس أو ... يخشى المصير إلى الجحيم الموقد
يا آمل النصر العزيز على العدا ... أجب الهدى تسعد به وتؤيّد
سرّ النجاة إلى النجاة مشمّرا ... إنّ الهدى لهو النجاة لمن هدي
يا من يقول غدا أتوب ولا غد ... ألديك علم أن تعيش إلى غد
لا تغترر بنسيئة الأجل الّذي ... إن لم يحن لك نقده فكأن قد
سفر عليك طويلة أيامه ... لم تستعدّا لطوله فاستعدد
أو ما علمت بأنّه لا بدّ من ... زاد لكلّ مسافر فتزوّد
هذا الجهاد رئيس أعمال التقى ... خذمنه زادك لارتحالك تسعد
هذا الرباط بأرض أندلس فرح ... منه لما يرضي إلهك واغتدي
سوّدت وجهك بالمعاصي فالتمس ... وجها للقيا الله غير مسوّد
وامح الخطايا بالدموع فربّما ... محت الدموع خطيئة المتعمد
من ذا يتوب لربّه من ذنبه ... أو يقتدي بنبيّه أو يهتدي
وتعوّضت منهم بكلّ معاند ... مستكبر قد كان لم يتشهّد
كم من أسير عندهم وأسيرة ... فكلاهما يبغي الفداء فما فدي
كم من عقيلة معشر معقولة ... فيهم تودّ لو انها في ملحد
كم من وليد بينهم قد ودّ من ... ولداه ودّا أنّه لم يولد
كم من تقيّ في السلاسل موثق ... يبكي لآخر في الكبول مقيّد
وشهيد معترك توزّعه الردى ... ما بين حدّي ذابل ومهنّد
ضجّت ملائكة السماء لحالهم ... ورثى لهم من قلبه كالجلمد
أفلا تذوب قلوبكم إخواننا ... مما دهانا من ردى أو من ردي(7/263)
أفلا تراعون الأذمّة بيننا ... من حرمة ومحبّة وتودد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم ... وسيوفكم للثأر لم تتقلّد
يا حسرتى لحميّة الإسلام قد ... خمدت وكانت قبل ذا تتوقّد
أين العزائم ما لها لا تقتضي [1] ... هل يقطع الهنديّ غير مجرّد
أبني مرين أنتم جيراننا ... وأحق من في صرخة بهم ابتدي
فالجار كان به يوصّي المصطفى ... جبريل حقا في الصحيح المسند
أبني مرين والقبائل كلّها ... في المغرب الأدنى لنا والأبعد
كتب الجهاد عليكم فتبادروا ... منه إلى الفرض الأحقّ الأوكد
وارضوا بإحدى الحسنيين وأقرضوا ... حسنا تفوزوا بالحسان الخرد
هذي الجنان تفتّحت أبوابها ... والحور قاعدة لكم بالمرصد
هل من بايع [2] من ربّه من مشتر ... منه الحصول على النعيم السرمد
للَّه في نصر الخليفة [3] موعد ... صدق فثوروا لانتجاز الموعد
هذي الثغور بكم إليكم تشتكي ... شكوى العديم إلى الغنيّ الأوجد
ما بال شمل المسلمين مبدّد ... فيها وشمل الكفر غير مبدّد
أنتم جيوش الله ملء فضائه ... تأسون للدّين الغريب المفرد
ماذا اعتذاركم غدا لنبيّكم ... وطريق هذا العذر غير ممهّد
إن قال لم فرّطتم في أمّتي؟ ... وتركتموهم للعدوّ المعتدي؟
تاللَّه لو أنّ العقوبة لم تخف ... لكفى الحياء من وجه ذاك السيّد
إخواننا صلّوا عليه وسلّموا ... وسلوا الشفاعة منه يوم المشهد
واسعوا لنصرة دينه يسقيكم ... من حوضه في الحشر أعذب مورد
وصدر جوابها من نظم عبد العزيز شاعر السلطان يعقوب بن عبد الحق بما نصّه:
لبيّك لا تخش اعتداء المعتدي إلخ وكذلك أجاب عنها أيضا مالك بن المرحل بقوله:
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لا تنقضي.
[2] وفي نسخة ثانية: من بائع.
[3] وفي نسخة ثانية: الخليفة.(7/264)
شهد الإله وأنت يا أرض اشهدي إلخ فأجابهما أبو عمرو بن المرابط كاتب ابن الأحمر بقوله:
قل للبغاة وللعداة الحسّد إلخ ولما أجاز السلطان يعقوب بن عبد الحق الإجازة الثانية سنة ست وسبعين وستمائة كما نذكره، صار ابن الأحمر إلى الاستعتاب والرضا ولقي يعقوب بن عبد الحق فأنشد كاتبه أبو عمرو بن المرابط يوم اجتماعهما قوله بشرى لحزب الله والإيمان إلخ ولما انقضى المجلس أمر السلطان شاعره عبد العزيز بمساجلة قصيدته، وأنشدها ثاني المجلس بحضرة ابن الأحمر ونصّها اليوم كن في غبطة وأمان إلخ ثم كان أثناء ذلك ما وقع من استيلاء السلطان يعقوب بن عبد الحق على مدينة مالقة والغربيّة، جلّ عمله بعد مهلك صاحبها أبي محمد عبد الله بن أشقيلولة، فبرم لذلك وخيل عليه، ففزع الى مداخلة الطاغية في شأنه واتصال يده بيده، وان يعود إلى مكان أبيه من ولايته ليدافع به السلطان وقومه عن أرضه، ويأمن معه من زوال سلطانه، لما كانت كلمة الإسلام حجزا دونه. فاهتبل الطاغية غرّتها، ونكث عهد أمير المسلمين، ونقض السلم، ونبذ إليه العهد. واغزى أساطيله الجزيرة الخضراء حيث مسالح السلطان وعساكره. وأرست بالزقاق حيث فراض الجواز. هنا وانقطع المسلمون من جنود السلطان وقومه وراء البحر ويئسوا من صريخه. وانتبذ عمر ابن يحيى بن محلى عن قومه بمكان إمارته مالقة، وكان بنو محلى هؤلاء من كبار قومهم بطويّة وكانوا حلفاء لبني حمامة بن محمد منذ دخولهم المغرب. وأصهر عبد الحق أبو الأملاك إلى أبيهم محلى في ابنته أم اليمن، فكان من ولدها السلطان يعقوب بن عبد الحق. وكانت امرأة صالحة خرجت إلى الحجّ سنة ثلاث وأربعين وستمائة فقضت فريضة الله عليها وعادت إلى المغرب رابعة من السنين سنة سبع وأربعين وستمائة ثم خرجت ثانية سنة اثنتين وخمسين وستمائة فتطوّعت بحجة أخرى وهلكت بمصر منصرفها من تلك السنة سنة ثلاث وخمسين وستمائة فكان لبني محلى أبيها مكان من الدولة ودالة على السلطان لخؤولتهم ووشايج قرابتهم وغنائهم في قومهم ولما استولى السلطان على حضرة الموحّدين مراكش، عقد لمحمد بن علي بن محلى على جميع أعمالها، فكانت له بالاضطلاع بها مقاما محمودة. واتصلت ولايته عليها من لدن سنة ثمان وستين إلى سنة سبع وثمانين وستمائة ثم كان مهلكه أيام يوسف بن يعقوب كما نذكر. ولما نزع محمد بن أشقيلولة إلى السلطان بالجزيرة سنة ست وسبعين وستمائة(7/265)
متجافيا له عن ولاية مالقة بعد وفاة أبيه الرئيس أبي محمد، واستولى السلطان عليها، واعتزم على الإجازة كما قدّمناه، وعقد على مالقة والغربية وسائر ثغورها وأعمالها لعمر بن يحيى بن محلى. وكان أخوه طلحة بن يحيى ذا بأس وصرامة وقوة شكيمة، واعتزاز على السلطان بمكان الخئولة، وهو الّذي قتل يعقوب بن عبد الحق بغبولة سنة ثمان وستين وستمائة كما قلناه، وظاهر فتح الله الهدراي [1] مولى السلطان ووزيره على قتال أبي العلاء بن أبي طلحة بن أبي قريش، عامل المغرب بكدية العرايش بظاهر فاس سنة اثنتين وستين وستمائة ونزع سنة أربع وسبعين وستمائة إلى جبل آزروا عند مرجع السلطان من إجازته الأولى، فاستنزله ورجّعه إلى مجلسه من جملته. ثم نزع من الجزيرة إلى غرناطة سنة ست وسبعين وستمائة عند مرجع السلطان من أمر مالقة، وأجاز البحر إلى بلاد الريف. ثم رجع إلى القبلة وأقام بين بني توجين. ثم أجازا إلى الأندلس سنة سبع وسبعين وستمائة عند ما أضرم نار هذه الفتنة بين هذا السلطان وبين ابن الأحمر والطاغية، واحتل أسطول النصارى بالزقاق، وانقطعت عساكر السلطان وراء البحر. وأحس أخوه عمر صاحب مالقة باظلام الجوّ بينه وبين السلطان بما كان من أمر أخيه طلحة من قبل فلاطفه ابن الأحمر عند استقراره بغرناطة في مداخلة أخيه عمر في النزول عن مالقة، والاعتياض عنها بشلوبانية [2] والمنكب طعمة. وخاطبه في ذلك أخوه طلحة فأجاب وخرج ابن الأحمر بعساكره إلى مالقة، وتقبّض عمر بن محلى على زيّان بن بو عياد قائد بني مرين ومحمد بن أشقيلولة. وأمكن ابن الأحمر من البلد فداخلها آخر رمضان من سنته.
وأنزل ابن محلى بشلوبانية واحتمل ذخيرته وما كان السلطان ائتمنه عليه من المال والعدد الجهاديّة. واتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية على منع أمير المسلمين من الإجازة، وراسلوا يغمراسن بن زيّان من وراء البحر وراسلهم في مشاقة السلطان وإفساد ثغوره وإنزال العوائق به المانعة من حركته، والأخذ بأذياله عن النهوض إلى الجهاد. وأسنوا فيما بينهما الإتحاف والمهاداة. وجنب يغمراسن إلى ابن الأحمر ثلاثين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السدراتي وقد مرّ معنا من قبل السدراتي.
[2] هي شلوبينية حصن بالأندلس من أعمال كورة إلبيرة على شاطئ البحر كثير الموز وقصب السكر والشاه بلوط (معجم البلدان) .(7/266)
من عتاق الخيل مع ثياب من عمل الصوف، وبعث إليه ابن الأحمر صحبة ابن مروان التجاني كفء ذلك عشرة آلاف دينار، فلم يرض بالمال في هديته وردّه.
وأصفقت أيديهم جميعا على السلطان، ورأوا أن قد بلغوا في إحكام أمرهم وسدّ مذاهبه إليهم، واتصل الخبر بأمير المسلمين وهو بمراكش. كان صمد إليها مرجعه من الغزو في شهر المحرّم فاتح سبع وسبعين وستمائة لما كان من عيث العرب جشم بتامسنا وإفسادهم السابلة. فنقف أطرافها وحسم أدواءها. ولما بلغه خبر ابن محلى ومالقة ومنازلة الطاغية للجزيرة، نهض لثالثة من شوّال يريد طنجة. ولما انتهى إلى تامسنا، وافاه الخبر بنزول الطاغية على الجزيرة، وإحاطة عساكره بها سادس شوال، بعد أن كانت أساطيله منازلتها منذ ربيع، وأنه مشرف على التهامها. وبعثوا إليه يستعدونه فاعتزم على الرحيل.
ثم اتصل به الخبر بخروج مسعود بن كانون أمير سفيان من جشم ببلاد نفيس من المصامدة خامس ذي القعدة. وأنّ الناس اجتمعوا إليه من قومه وغيرهم. فكرّ إليه راجعا وقدم بين يديه حافده تاشفين بن أبي مالك، ووزيره يحيى حازم، وجاء على ساقتهم وفرّوا أمام جيوشه، وانتهب معسكرهم وحللهم، واستباح عرب الحرث ابن سفيان. ولحق مسعود بمعقل السكسيوي، ونازلة السلطان بعساكره أياما.
وسرّح ابنه الأمير أبا زيّان منديل إلى بلاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها، فأوغل في ديارها وقفل إلى أبيه خاتم سنته. واتصل بالسلطان ما نال أهل الجزيرة من ضيق الحصار وشدّة القتال وإعواز الأقوات، وأنهم قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرّة الكفر، فأهمه ذلك وأعمل النظر فيه، وعقد لولي عهده ابنه الأمير أبي يعقوب من مراكش على الغزو إليها. وأغزى الأساطيل في البحر إلى جهاد عدوهم، فوصل إلى طنجة لصفر من سنة ثمان وسبعين وستمائة وأوعز إلى البلاد البحرية لاعداد الأساطيل بسبتة وطنجة وسلا، وقسّم الأعطيات وتوفّرت همم المسلمين على الجهاد، وصدقت عزائمهم على الموت. وأبلى الفقيه أبو حاتم العزفي صاحب سبتة لما بلغه خطاب أمير المسلمين في ذلك البلاء الحسن، وقام فيه المقام المحمود. واستقرّ كافة أهل بلده فركبوا البحر أجمعين من المحتلم فما فوقه.
ورأى ابن الأحمر ما نزل بالمسلمين في الجزيرة، وإشراف الطاغية على أخذها، فندم في ممالأته ونبذ عهده، وأعدّ أساطيل سواحله من المنكب والمريّة ومالقة مددا(7/267)
للمسلمين. واجتمعت الأساطيل بمرفإ سبتة تناهز السبعين، قد أخذت بطرفي الزقاق في أحفل زيّ وأحسن قوّة وأكمل عدة وأوفر عدد، وعقد عليهم الأمير أبو يعقوب رايته، وأقلعوا عن طنجة ثامن ربيع الأوّل. وانتشرت قلوعهم في البحر فأجازوه، وباتوا ليلة المولد الكريم بمرقى الجبل، وصبحوا العدوة وأساطيلهم تناهز أربعمائة، فتظاهروا في دروعهم وأسبغوا من شكّتهم، وأخلصوا للَّه عزائمهم، وصدقوا مع الله نياتهم، وتنادوا بالجنّة شعارهم. ووعظ وذكر خطباؤهم، والتحم القتال ونزل الصبر. ولم يكن إلا كلّا ولا حتى نضحوا العدوّ بالنبل، فانكشفوا وتساقطوا في العباب. فاستلحمهم السيف وغشيهم اليم، وملك المسلمون أساطيلهم ودخلوا مرقى الجزيرة وفرضتها عنوة، فاختل معسكر الطاغية. وداخلهم الرعب من إجازة الأمير أبي يعقوب ومن معه من الحامية، فأفرج لحينه عن البلد، وانتشرت النساء والصبيان بساحته، وغلبت المقاتلة كثيرا من العسكر على مخلفهم، فغنموا من الحنطة والأدم والفواكه ما ملأ أسواق البلد أياما، حتى وصلتها الميرة من النواحي.
وأجاز الأمير أبو يعقوب من حينه فأرهب العدوّ في كل ناحية، وصدّه عن الغزو شأن الفتنة مع ابن الأحمر، فرأى أن يعقد مع الطاغية سلما، ويصل به لمنازلة غرناطة يدا. وأجابه إلى ذلك الطاغية رهبة من بأسه، وموجدة على ابن الأحمر في مدد أهل الجزيرة. وبعث أساقفته لعقد ذلك فأجازهم الأمير أبو يعقوب إلى أبيه أمير المسلمين فغضب لها، ونكر على ابنه. وزوى عنه وجه رضاه، ورجّعهم إلى طاغيتهم مخفقي السعي. وأجاز أبو يعقوب ابن السلطان إلى أبيه ومعه وفد أهل الجزيرة، فلقوا السلطان بمكانه من بلاد السوس. وولّى عليهم ابنه أبا زيّان فنزل بالجزيرة، وأحكم العقدة مع الطاغية، ونازل المريلة [1] من طاعة ابن الأحمر برا وبحرا فامتنعت عليه. وانضوى إليه أهل الحصون الغربيّة بطاعتهم حذرا من الطاغية فتقبّلهم. ثم جاءه المدد من المغرب، ونازل رندة فامتنعت. والطاغية أثناء ذلك يجوس خلال الأندلس. ونازل ابن الأحمر بغرناطة مع بني أشقيلولة وابن الدليل. ثم راجع ابن الأحمر مسالمة بني مرين، وبعث لأبي زيّان ابن السلطان بالصلح، واجتمع معه بأحواز مريلة كما نذكر بعد.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مرتلة وفي نسخة ثانية: مديلة.(7/268)
ولما ارتحل السلطان من معسكره إلى جبل السكسيوي يريد السوس، ثم أغزى العساكر ورجع من طريقه الى مراكش حتى إذا انقضت غزاة البربر رجع إلى فاس، وبعث خطابه إلى الآفاق مستنفرا للجهاد. وفصل في رجب من سنة ثمان وسبعين وستمائة حتى انتهى إلى طنجة وعاين ما اختلّ من أحوال المسلمين في تلك الفترة، وما جرت إليه فتنة ابن الأحمر من اعتزاز الطاغية، وما حدّثته نفسه من التهام الجزيرة الأندلسية ومن فيها. وظاهره على ابن الأحمر منافسوه في رياسته بنو أشقيلولة، فاستجرّه الرئيس أبو الحسن بن أبي إسحاق صاحب وادي آش، ونازل معه غرناطة سنة تسع وسبعين وستمائة خمسة عشر يوما ثم أفرجوا، ولقيتهم عساكر غرناطة من زناتة بعد ذلك من سنتهم. وغلبهم [1] طلحة بن محلى وتاشفين بن معطي كبير تيربيغين بحصن المسلى، فأظهرهم الله عليهم. وهلك من النصارى ما يناهز سبعمائة من فرسانهم. واستشهد فيها من أعياص بني مرين عثمان بن محمد بن عبد الحق. واستجر الطاغية سنة ثمانين وستمائة بعدها الرئيس أبو محمد عبد الله أخو صاحب وادي آش إلى منازلة غرناطة، فنازلها الطاغية وأقام عليها أياما. ثم ارتحل وقد اعتز عليهم، وأشفق السلطان على المسلمين وعلى ما نال ابن الأحمر من خسف الطاغية، فراسله في الموادعة واتفاق الكلمة وشرط عليه النزول عن مالقة، فرجع السلطان إلى إزالة العوائق عن شأنه من الجهاد، وكان من أعظمها فتنة يغمراسن.
واستيقن ما دار بينه وبين ابن الأحمر والطاغية ابن أخي أدفونش من الاتصال والاصفاق في تجديد الصلح والاتفاق، فلجّ وكشف الوجه في العناد وأعلن بما وقع بينه وبين أهل العدوة مسلمهم وكافرهم من الوصلة، وأنه معتزم على طيّ [2] بلاد المغرب. فصرف أمير المسلمين عزمه إلى غزو يغمراسن. وقفل إلى فاس لثلاثة أشهر من نزوله طنجة، فدخلها آخر شوّال وأعاد الرسل إلى يغمراسن لإقامة الحجّة عليه، والتجأ بمسالمة بني توجين والتجافي عنهم لموالاتهم أمير المسلمين. فقام يغمراسن في ركائبه وقعد ولج في طغيانه. وارتحل أمير المسلمين من فاس سنة تسع وسبعين وستمائة وقدم ابنه أبا يعقوب في العساكر وأدركه بتازى. ولما انتهى إلى ملوية تلوّم في انتظار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وعليهم.
[2] وفي نسخة ثانية: وصلي.(7/269)
العساكر ثم ارتحل إلى تاسة ثم تاقيا [1] وصمد إليه يغمراسن بحشود زناتة والعرب بحللهم وكافة ناجعتهم، والتقت عيون القوم، فكانت بينهم حرب. وركب على آثارهما العسكران والتحم القتال، وكان الزحف بخرزوزة من ملعب تيفني [2] ، ورتّب أمير المسلمين مصافه وجعل كتيبته وكتيبة ابنه الأمير أبي يعقوب جناحين للعسكر. واشتد القتال سائر النهار، وانكشف بنو عبد الواد عند ما أراح القوم، وانتهب جميع مخلفهم وما كان في معسكرهم من المتاع والكراع والسلاح والفساطيط، وبات عسكر أمير المسلمين ليلتهم في صهوات خيلهم، واتبعوا من الغد آثار عدوّهم. واكتسحت أموال العرب الناجعة الذين كانوا مع يغمراسن، وامتلأت أيدي بني مرين من نعمهم وشائهم. ودخلوا بلاد يغمراسن وزناتة. ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، لقيه بناحية القصبات، وعاثوا جميعا في بلاده نهبا وتخريبا ثم أذن لبني توجين في اللحاق ببلادهم وأخذ هو بمخنق تلمسان متلوّما لوصول محمد بن عبد القوي وقومه إلى منجاتهم من جبل ونشريس حذرا عليهم من غائلة يغمراسن. ثم أفرج عنها وقفل إلى المغرب ودخل فاس شهر رمضان من سنة ثمانين وستمائة ثم نهض إلى مراكش فاحتلّ بها فاتح إحدى وثمانين وستمائة بعدها، وسرّح ابنه الأمير أبا يعقوب إلى السوس لتدويخ أقطاره، ووافاه بمراكش صريخ الطاغية على ابنه شانجة الخارج عليه، فاغتنم الفرصة في فساد بينهم لقضاء أربه من الجهاد، وارتحل مبادرا بالإجازة إلى الأندلس. والله تعالى أعلم.
الخبر عن اجازة السلطان أبي يوسف صريخا للطاغية لخروج ابنه شانجة عليه وافتراق كلمة النصرانية وما كان في هذه الأخبار من الغزوات
لما رجع السلطان من غزاة تلمسان إلى فاس، وارتحل إلى مراكش وافاه بها وفد الطاغية من بطارقته وزعماء دولته، وقواميس ملّته صريخا على ابنه شانجة. خرج عليه في طائفة من النصارى وغلبوه على أمره، فانتصر أمير المسلمين ودعاه لحربهم
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية ونسخة أخرى، وفي نسخة ثانية: ثم ارتحل الى نامه ثم إلى تافنا.
[2] وفي نسخة ثانية: منقي.(7/270)
وأمّله لاسترجاع ملكه من أيديهم، فأجاب أمير المسلمين داعية رجاء للكرة بافتراقهم، وارتحل حتى انتهى إلى قصر المجاز، وأوعز إلى الناس بالنفير إلى الجهاد، وأجاز إلى الخضراء فاحتل بها لربيع الثاني من سنة إحدى وثمانين وستمائة واجتمعت عليه مسالح الثغور بالأندلس وسار حتى نزل صخرة عبّاد [1] ، فوافاه بها الطاغية ذليلا لعزّ الإسلام مؤمّلا صريخ السلطان، فأكبر وفادته وأكرم موصله وعظّم قدره وأمدّه لنفقاته بمائة ألف من مال المسلمين استرهن فيها التاج الذخيرة عند سلفه، وبقي بدارهم فخرا للأعقاب لهذا العهد. ودخل معه دار الحرب غازيا حتى ينازل قرطبة، وبها شانجة ابن الطاغية الخارج عليه مع طائفة، فقاتلها أياما ثم أفرج عنها.
وتنقّل في جهاتها ونواحيها وارتحل إلى طليطلة فعاث في جهاتها، وخرّب عمرانها حتى انتهى إلى حصن مجريط من أقصى الثغر، فامتلأت أيدي المسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم التي استاقوها. وقفل إلى الجزيرة فاحتلّ بها لشعبان من سنته، وكان عمر بن محلى نزع إلى طاعة السلطان فهمّ به ابن الأحمر، ونبذ إليه عهده. وارتجع المنكب من يده ونازلة بعساكره فاتح هذه السنة، فجهّز السلطان إليه لوصوله الجزيرة أسطوله. وأفرج ابن الأحمر عنه، فبادر إلى السلطان بطاعته، ووصل بيعة شلوبانية فأبقاه فيها بدعوته. ثم راجع طاعة ابن الأحمر في شوّال من سنته، فتقبّل فيئته وأعاضه عنها بالمنكب [2] إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن شأن السلم مع ابن الأحمر وتجافي السلطان له عن مالقة ثم تجدّد الغزو بعد ذلك
لما اتصلت يد السلطان بيد الطاغية، خشي ابن الأحمر غائلته، فجنح إلى موالاة شانجة الخارج عن أبيه. ووصل يده بيده، وأكّد له العقد على نفسه وأضرمت له الأندلس نارا وفتنة. ولم تغن شانجة عن ابن الأحمر شيئا ورجع السلطان من غزاته مع الطاغية، وقد ظهر على ابنه فأجمع على منازلة مالقة، ونهض إليها من الجزيرة فاتح اثنتين وثمانين وستمائة فتغلّب على الحصون الغربيّة كلّها. ثم أسعف إلى مالقة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عياد.
[2] المنكب: كان حصنا قويا، وهو اليوم فرضة صغيرة على البحر تابعة لمركز مطريل في مديرية غرناطة.(7/271)
فأناخ عليها بعساكره. وضاق النطاق على ابن الأحمر وبدا له سوء المغبّة في شأن مالقة ومداخلة ابن محلى في الغدر بها، وأعمل نظره في الخلاص من ورطتها. ولم ير لها إلّا وليّ عهد السلطان ابنه أبا يوسف، فخاطبه بمكانه من المغرب مستصرخا لرقع هذا الخرق، وجمع كلمة المسلمين على عدوّهم، فأجابه واغتنم المثوبة في مسعاه.
وأجاز لشهر صفر، فوافى أمير المسلمين بمعسكره على مالقة. ورغب منه السلم لابن الأحمر عن شأن مالقة والتجافي له عنها، فأسعف رغبة ابنه لما يؤمّل في ذلك من رضى الله في جهاد عدوّه وإعلاء كلمته. وانعقد السلم وانبسط أمل ابن الأحمر، وتجدّدت عزائم المسلمين، وقفل السلطان إلى الجزيرة وبثّ السرايا في دار الحرب فأوغلوا وأثخنوا. ثم استأنف الغزو بنفسه إلى طليطلة فخرج من الجزيرة غازيا غرّة ربيع الثاني من سنة اثنتين وثمانين وستمائة حتى انتهى إلى قرطبة، فأثخن وغنم وخرّب العمران وافتتح الحصون. ثم ارتحل نحو البرت وخلف معسكره بظاهر بيّاسة [1] وأغذ السير في أرض قفر لليلتين انتهى إلى البرت من نواحي طليطلة [2] ، فسرّح الخيل في البسائط حتى تقرّى جميع ما فيها. ولم ينته إلى طليطلة لتثاقل الناس بكثرة الغنائم، وأثخن في القتل، وقفل على غير طريقه فأثخن وخرّب وانتهى إلى أبدّة. ووقف بساحتها والعدوّ منحجزون، ثم رجع إلى معسكره بساسة وأراح ثلاثا ينسف آثارها ويقتلع أشجارها. وقفل إلى الجزيرة فاحتلّ بها شهر رجب وقسّم الغنائم ونفل من الخمس. وولّى على الجزيرة حافده عيسى ابن الأمير أبي مالك ابنه، فهلك شهيدا بالمعترك لشهرين من ولايته، وأجاز السلطان غرّة شعبان إلى المغرب، ومعه ابنه أبو زيّان منديل، وأراح بطنجة ثلاثا. وأغذّ السير إلى فاس فاحتل بها آخر شعبان، ولما قضى صيامه ونسكه، ارتحل إلى مراكش لتمهيدها. وتفقّد أحوالها. وقسّم من نظره لنواحي سلا وأزدرد [3] فأقام برباط الفتح شهرين اثنين، واحتل مراكش فاتح ثلاث وثمانين وستمائة وبلغه مهلك الطاغية ابن أدفونش واجتماع النصرانية على ابنه شانجة الخارج عليه، فتحرّكت إلى الجهاد عزائمه وسرّح الأمير أبا يعقوب وليّ عهده
__________
[1] بياسة: بينها وبين جيّان عشرون ميلا وتطل على النهر الكبير، استولى عليها الروم سنة 632 هجرية.
[2] طليطلة: كانت عاصمة الأندلس قبل دخول طارق بن زياد، وهي مشرفة على ما يليها من الأندلس الى الجنوب، وكانت من أولى المدن التي انتزعت من يد العرب إذ استولى عليها الفونش السادس عام 478 هـ وجرّ ذلك الى معركة الزلّاقة.
[3] وفي نسخة ثانية: أزور.(7/272)
بالعسكر إلى بلاد السوس لغزو العرب، وكفّ عاديتهم، ومحو آثار الخوارج المنتزين على الدولة، فأجفلوا أمامه، واتبع آثارهم إلى الساقية الحمراء آخر العمران من بلاد السوس، فهلك أكثر العرب في تلك القفار مسغبة وعطشا، وقفل لما بلغه من اعتلال أمير المؤمنين، ووصل إلى مراكش وقد أبلّ، وقد اعتزم على الجهاد والغزو وشكر الله، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن إجازة السلطان أبي يوسف الرابعة ومحاصرة شريش وما تخلل ذلك من الغزوات
لما اعتزم أمير المسلمين على الإجازة واعترض جنوده وحاشيته، وأزاح عللهم، وبعث في قبائل المغرب بالنفير، ونهض من مراكش في جمادى الآخرة لثلاث وثمانين وستمائة واحتل رباط الفتح منتصف شعبان فقضى به صومه ونسكه، ثم ارتحل إلى قصر مصمودة وشرع في إجازة العساكر والحشود من المرتزقة والمطوّعة خاتم سنته. ثم أجاز البحر بنفسه غرّة صفر من سنة أربع وثمانين وستمائة بعدها واحتلّ بظاهرها [1] . ثم سار منها إلى الخضراء وأراح أياما. ثم خرج غازيا حتى انتهى إلى وادلك [2] ، وسرّح الخيول في بلاد العدوّ وبسائطها يحرق وينسف. فلمّا خرّب بلاد النصرانية ودمّر أرضهم قصد مدينة شريش [3] ، فنزل بساحتها وأناخ عليها، وبثّ السرايا والغارات في جميع نواحيها، وبعث المسالح التي كانت بالثغور، فتوافت لديه. ولحقه حافده عمر بن أبي مالك بجمع وافر من المجاهدين من أهل المغرب فرسانا ورجالا، ووافته حصة العزفي من سبتة غزاة ناشبة تناهز خمسمائة من الرجل. وأوعز إلى وليّ عهده الأمير أبي يعقوب باستنفار من بقي بالعدوة من المسلمين الى الجهاد، وعقد لحافده الآخر منصور بن عبد الواحد على ألف فارس من الغزاة. وأعطاه الراية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واحتل بطريق.
[2] وفي نسخة ثانية: وادي لك وفي نفح الطيب ج 1 ص 249 وادي لكة.
[3] شريش: قال الحجاري: ان مدينة شريش بنت إشبيليّة- تقع الى الجنوب الشرقي من بطليوس وتشتهر اليوم بالنبيذ الجيّد- وواديها ابن واديها. وهي مدينة جليلة ضخمة الأسواق، لأهلها همم، وظرف في اللباس وإظهار الرفاهيّة وتخلّق بالآداب. ولا تكاد ترى فيها إلّا عاشقا ومعشوقا. تشتهر بالمجنبات وهي نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها (نفح الطيب ج 1 ص 184) .(7/273)
وسرّحه لغزو إشبيلية لآخر صفر من سنته، فغنموا ومرّوا بقرمونة [1] في منصرفهم.
فاستباحوها وأثخنوا بالقتل والأسر ورجعوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم. وبعث وزيره محمد بن عطو [2] ومحمد بن عمران بن عبلة عيونا، فوافوا حصن القناطر وروطة، واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور، فعقد ثانية لحافده عمر بن عبد الواحد على مثلها من الفرسان لثالثة من ربيع وأعطاه الراية، وسرّحه إلى بسائط وادلكّ، فرجعوا من الغنائم بما ملأ العساكر بعد أن أثخنوا فيها بالقتل والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع الثمار، وأبادوا عمرانها. ثم سرّح ثامن ربيع عسكرا للإغارة على حصن أركش، ووافوه على غرّة فاكتسحوا أموالهم. ثم عقد تاسع ربيع لابنه أبي معروف على ألف من الفرسان. وسرّحه لغزو إشبيلية فساروا حتى توقف عليها.
وانحجزت منه حاميتها، فخرّب عمرانها وحرق زروعها وقطع شجرها. وامتلأت أيدي عسكره سبيا وأموالا، ورجع إلى معسكر السلطان مملوء الحقائب. ثم عقد ثالثة لحافده عمر منتصف ربيع لغزو حصن كان بالقرب من معسكره، وسرّح الرجل من الناشبة والفعلة بالآلات. وأمدّه بالرجل من المصامدة. وغزاة سبتة فاقتحموه عنوة على أهله، وقتلوا المقاتلة وسبوا النساء والذريّة، وأرغموا خده بالتراب.
ولسبع عشرة من الشهر ركب السلطان إلى حصن سقوط قريبا من معسكره، فخرّبه وحرّقه بالنار، واستباحة. وقتل المقاتلة وسبى أهله. ولعشرين من شهره وصل وليّ عهده، الأمير أبو يعقوب من العدوة بنفير أهل المغرب وكافّة القبائل في جيوش ضخمة، وعساكر موفورة، وركب أمير المسلمين للقائهم وبرور مقدمهم. واعترض العساكر الموافية يومئذ فكانت ثلاثة عشر ألفا من المصامدة، وثمانية آلاف من برابرة المغرب متطوّعون كلّهم بالجهاد، فعقد السلطان له على خمسة آلاف من المرتزقة وألفين من المتطوّعة وثلاثة عشر ألفا من الرجل والفين من الناشبة وسرّحه لغزو إشبيلية والإثخان في نواحيها، فعبّى كتائبه ونهض لوجهه. وبث الغارات بين يديه، فأثخنوا وسبوا وقتلوا واقتحموا الحصون واكتسحوا الأموال. وعاج على الشرق والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم من حصونها عدة، وقفل إلى معسكر أمير المسلمين
__________
[1] قرمونة: مدينة الى الشمال الشرقي من إشبيلية على بعد 35 كلم وكانت كورة واسعة تضم عدة مدن وحصون.
[2] وفي نسخة ثانية: محمد بن عتّو.(7/274)
ظاهرا عزيزا غانما. ولسادس ربيع الثاني وصل الأمير أبو زيّان منديل بن طريف بعسكر وافر من المسلمين فعقد له غداة وصوله وأمدّه بعسكر آخر وأغزاه قرمونة والوادي الكبير، فأغار على قرمونة. وطمعت حاميتها في المدافعة فبرزوا له وصدقهم القتال فانكشفوا حتى احجزوهم في البلد. ثم أحاطوا ببرج كان قريبا من البلد، فقاتلوه ساعة من نهار واقتحموه عنوة، ولم يزل يتقرّى المنازل والعمران حتى وقف بساحة إشبيلية، فأغار واقتحم برجا كان هنالك عينا على المسلمين، وأضرمه نارا.
وامتلأت أيدي عساكره، وقفل إلى معسكر أمير المسلمين.
ولثلاث عشرة من ربيع الثاني عقد للأمير أبي يعقوب لمنازلة جزيرة كيوثر [1] ، فصمد إليها وقاتلها واقتحمها عنوة. وفي ثاني جمادى عقد لطلحة بن يحيى بن محلى، وكان بعد مداخلته أخاه عمر في شأن مالقة سنة خمس وسبعين وستمائة خرج إلى الحجّ، فقضى فرضه ورجع، ومرّ في طريقه بتونس واتهمه الدعي ابن أبي عمارة كان بها يومئذ فاعتقله سنة اثنتين وثمانين، ثم سرّحه ولحق بقومه بالمغرب. ثم أجاز الأندلس غازيا في ركاب السلطان، فعقد له في هذه الغزاة على مائتين من الفرسان وسرّحه إلى إشبيلية ليكون رتبة [2] للمعسكر وبعث معه لذلك عيونا من اليهود والمعاهدين من النصارى، يتعرّفون له أخبار الطاغية شانجة وأمير المسلمين أثناء ذلك يغادي شريش ويراوحها بالقتال والتخريب، ونسف الآثار، وبث السرايا كل يوم وليلة في بلاد العدو، فلا يخلو يوما عن تجهيز عسكر أو اغزاء جيش أو عقد راية أو بعث سرية، حتى انتسف العمران في جميع بلاد النصرانيّة، وخرّب بسائط إشبيلية وليلة [3] وقرمونة واستجة وجبال الشرق وجميع بسائط الفرنتيرة. وأبلى في هذه الغزوات عيّاد العاصمي من شيوخ جشم، وخضر الغزي أمير الأكراد بلاء عظيما.
وكان لهم فيها ذكر. وكذلك غزاة سبتة وسائر المجاهدين والعرب من جشم وغيرهم.
فلما دمّرها تدميرا ونسفها تخريبا واكتسحها غارة ونهبا، وزحم فصل الشتاء وانقطعت الميرة عن العسكر، اعتزم على القفول وأفرج عن شريش لآخر رجب، ووافاه مدد غرناطة من عساكر الغزاة وقائدهم يعلى بن أبي عياد بن عبد الحق بوادي بردة،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جزيرة كبوتر.
[2] بمعنى قائدا وفي نسخة ثانية: ربيبة وليس لها أي معنى حسب مقتضى السياق.
[3] وفي نسخة ثانية: لبلة كما في نفح الطيب 1/ 141.(7/275)
فلقاهم مبرّة، وتكريما وانقلبوا إلى أهلهم. واتصل به أنّ العدو أوعز إلى أساطيله باحتلال الزقاق والاعتراض دون الفراض فأوعز أمير المسلمين الى جميع سواحله من سبتة وطنجة والمنكب وجزيرة وطيف وبلاد الريف ورباط الفتح. واستدعى أساطيله فتوافت منها ستة وثلاثون أسطولا متكاملة في عدّتها وعديدها، فأحجمت أساطيل العدوّ عنها وارتدت على أعقابها. واحتلّ بالجزيرة غرّة رمضان. واستيقن الطاغية شانجة وأهل ملّته أنّ بلادهم قد فنيت وأرضهم خربت وتبيّنوا العجز عن المدافعة والحماية، فجنحوا إلى السلم وضرعوا إلى أمير المسلمين في كفّ عاديته عنهم على ما يذكر ووصل إلى السلطان بمكانه من منازلة شريش عمر بن أبي يحيى بن محلى نازعا إلى طاعته، فاتهمه لما سبق من تلاعبه وأمر أخاه طلحة فنكبه. واحتمل إلى طريف فاعتقل بها، وسار طلحة إلى المنكب فاستصفى أموال أخيه عمر وذخائره وسار إلى السلطان. وأقرّ ثانية أخاه موسى على عمله بالمنكب، وأمدّه بعسكر من الرجل. ثم أطلق عمر لليال من اعتقاله. وأجاز طلحة وعمر في ركاب السلطان.
ونزع منصور بن أبي مالك حافد السلطان إلى غرناطة، ثم لحق منها بالمنكب وأقام مع موسى بن أبي يحيى بن محلى، فأقرّه السلطان ورضي بمقامه والله تعالى أعلم.
(الخبر عن وفادة الطاغية شانجة وانعقاد السلم ومهلك السلطان على تفيئة ذلك)
لما نزل ببلاد النصرانية بلاد ابن أدفونش من أمير المسلمين ما نزل من تدمير قراهم واكتساح أموالهم وسبي نسائهم وإبادة مقاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف عمرانهم، زاغت منهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر واستيقنوا أن لا عاصم من أمير المسلمين، فاجتمعوا إلى طاغيتهم شانجة، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة، متوجعين مما أذاقهم جنود الله من سوء العذاب وأليم النكال. وحملوه على الضراعة لأمير المسلمين في السلم وإيفاد الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك. وإلّا فلا تزال تصيبهم منه قارعة، وتحل قريبا من دارهم فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف والهضيمة لدينه. وأوفد على أمير المسلمين من بطارقتهم وشما مستهم وأساقفهم يخطبون السلم ويضرعون في المهادنة والإبقاء ووضع أوزار الحرب، فردّهم أمير المسلمين(7/276)
اعتزازا عليهم. ثم أعادهم الطاغية بترديد الرغبة على أن يشترط ما شاء من عزّ دينه وقومه. فأسعفهم أمير المسلمين وجنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه وذلّهم لعزّ الإسلام. وأجابهم إلى ما سألوه واشترط عليهم ما تقبّلوه من مسالمة المسلمين كافة من قومه وغير قومه، والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو غداوتهم، ورفع الضريبة عن تجّار المسلمين بدار الحرب من بلاده، وترك التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة. وبعث لعمّه عبد الحق ابن الترجمان باشتراط ذلك وأحكام عقده. فاستبلغ وأكّد في الوفاء. ووفدت رسل ابن الأحمر على الطاغية وهو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين على قومه، ومدافعته عنهم، فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان وأسمعهم ما عقد أمير المسلمين على قومه وأهل ملّته. وقال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم والحرب، وهذا أمير المسلمين ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عنكم فانصرفوا. ولما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان وسوس إليه بالوفادة لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة، وأراه مغبة ذلك في سل السخيمة وتسكين الحفيظة وتمكين الألفة، فصغى إلى وفاته. وسأل لقيّ الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه، فوصل إليه ولقيه على فراسخ من شريش.
وباتا بمعسكر المسلمين هنالك. ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين وقد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه وإظهار شعار الإسلام أبهته، فاحتفلوا وتأهّبوا وأظهروا عزّ الملّة وشدّة الشوكة ووفور الحامية.
ولقيه أمير المسلمين بأحسن مبرّة وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء الملل. وقدّم الطاغية بين يديه هديّة أتحف بها أمير المسلمين وابنه من ظرف بلاده، كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمّى بالفيل، وحمارة من حمر الوحش إلى غير ذلك من الظرف. فقبلها السلطان وابنه وقابلوه بكفائها ومضاعفتها، وكمل عقد السلم، وتقبّل الطاغية سائر الشروط ورضي بعزّ الإسلام عنه. وانقلب إلى قومه بملء صدره من الرضا والمسرّة وسأل منه أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام، فاستكثر من أصنافها في ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه، فوقفها السلطان بالمدرسة التي أسسها بفاس لطلب العلم.
وقفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان، فقضى صومه ونسكه. وجعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم. وأعدّ الشعراء كلمات أنشدوها يوم الفطر بمشهد(7/277)
الملأ في مجلس أمير المسلمين. وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة عزّوز المكناسي. ذكر فيها سير أمير المسلمين وغزواته على نسق.
ثم أعمل أمير المسلمين نظره في الثغور فرتّب بها المسالح وعقد عليها لابنه الأمير أبي زيّان منديل، وأنزله بركوان مقربة مالقة، واستوصاه بأن لا يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا. وعقد لعيّاد بن أبي عيّاض العاصمي على مسلحة أخرى، وأنزله بأصطبونة. وأجاز ابنه الأمير أبا يعقوب لتفقد أحوال المغرب ومباشرة أموره، فأجاز في أسطول القائد محمد بن القاسم الرنداحي قائد سبتة. وأوعز إليه بالبناء على قبر أبيه أبي الملوك عبد الحق، ولقيه إدريس بتافرطست، فاختطّ هنالك رباطا وبنى على قبورهم أسمنة من الرخام، ونقشها بالكتابة، ورتّب عليها قرّاء لتلاوة القرآن، ووقف على ذلك ضياعا وفدنا. وهلك خلال ذلك وزيره يحيى بن أبي منديل العسكري لمنتصف رمضان. ثم اعتلّ بعد ذلك أمير المسلمين لشهر ذي الحجة واشتدّ وجعه وهلك لآخر محرّم سنة خمس وثمانين وستمائة والله أعلم.
(الخبر عن دولة السلطان وما كان فيها من الاحداث وشأن الخوارج لأوّل دولته)
لما اعتل أمير المسلمين أبو يوسف بالجزيرة، مرّضه نساؤه، وطيّرن الخبر إلى ولي العهد الأمير أبي يعقوب وهو بمكانه من المغرب، فأغذّ السير، وقضى أمير المسلمين قبل وصوله، فأخذ له البيعة على الناس وزراء أبيه وعظماء قومه، وأجاز إليهم البحر، فجدّدوا بيعته غرّة صفر سنة خمس وثمانين وستمائة وأخذوها على الكافة. وانعقد أمر السلطان يومئذ ففرّق الأموال وأجزل الصلات، وسرّح السجون ورفع عن الناس الأخذ بزكاة الفطر، ووكّلهم فيها إلى أمانتهم. وقبض أيدي العمّال عن الظلم والاعتداء والجور على الرعايا، ورفع المكوس ومحا رسم الرتب، وصرف اعتناءه إلى إصلاح السابلة. وكان أوّل شيء أحدث من أمره إلى أن بعث ابن الأحمر وضرب موعدا للقائه، فبدر إليه ولقيه بظاهر مربالة [1] لأوّل ربيع. ولقاه مبرّة وتكريما
__________
[1] وفي نفح الطيب ج 5 ص 85: مربلة.(7/278)
وتجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي كانت لمملكته ما عدا الجزيرة وطريف.
وتفرّقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة، ورجع السلطان إلى الجزيرة ووافاه بها وفد الطاغية شانجة مجدّدين عقد السلم الّذي عقد له أمير المسلمين عفا الله عنه فأجابهم. ولمّا تمهّد أمر الأندلس ومرّ عن النظر فيها، عهد لأخيه أبي عطيّة العبّاس على الثغور الغربية والإمارة عليها. وعقد لعلي بن يوسف بن يزكاسن على مسالحها، وأمدّه بثلاثة آلاف من عساكره. وأجاز إلى المغرب فاحتلّ بقصر مصمودة سابع ربيع الثاني. ثم ارتحل إلى فاس، واحتلّ بها لاثنتي عشرة خلت من جمادى، ولحين استقراره بدار ملكه، خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في إخوته وبنيه وذويهم، ولحق بجبل ورغة [1] . ودعا لنفسه، وسرّح إليه السلطان أخاه أبا معروف، فبدا له في النزوع إليهم، ولحق بهم. فأغزاهم السلطان عساكره وردّد إليهم البعوث والكتائب، وتلطّف في استنزال أخيه، فنزل عن الخلاف وعاد إلى حسن طاعته. وفرّ أولاد إدريس إلى تلمسان، وتقبّض عليهم أثناء طريقهم، وسرّح السلطان أخاه أبا زيّان إلى تازى، وأوعز إليه بقتلهم بمليلي خارج تازى لرجب من سنة خمس وثمانين وستمائة ورهب الأعياص عند ذلك من بادرة السلطان ففرقوا ولحق بغرناطة أولاد أبي العلاء إدريس بن عبد الحق، وأولاد يحيى بن عبد الحق، وأولاد عثمان بن يزول.
ورجع أولاد أبي يحيى إلى السلطان بعد اقتضاء عهده وأمانه. وهلك أخوه محمد بن يعقوب بن عبد الحق لشعبان من منته. وهلك عمر ابن أخيه أبي مالك بطنجة. ثم خرج على السلطان عمر بن عثمان بن يوسف العسكري بقلعة قندلاوة، ونبذ الطاعة وأذن بالحرب. وأوعز السلطان إلى بني عسكر ومن إليهم من القبائل المجاورين لها، فاحتشدوا له ونازلوه. ثم نهض بركابه وعساكره إلى منازلته، واحتل بسدورة [2] ، وخافه عمر على نفسه، وأيقن أنه أحيط به، فسأل الأمان.
وبذله السلطان على شريطة اللحاق بتلمسان، فبعث من يوثق به من الخيرة فنزل.
فوفّى له السلطان بعهده، ولحق بتلمسان بأهله وولده.
ثم ارتحل السلطان في رمضان من سنته إلى مراكش لتمهيد أنحائها، وتثقيف أطرافها،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جبل درعة.
[2] وفي نسخة ثانية: بنبدورة.(7/279)
واحتل بها في شوّال، واعتمل النظر في مصالحها، ونزع خلال ذلك طلحة بن محلى البطوي إلى بني حسّان من المعقل، وخرج على السلطان ودعا لنفسه. وعقد السلطان لمنصور ابن أخيه أبي مالك على العساكر، وعهد له بولاية السوس وسرّحه لاستنزال الخوارج، ومحو آثار الفساد. وارتاب بمكان أخيه عمر فغرّبه إلى غرناطة، فقتله أولاد أبي العلاء يوم وصوله إليها، فسار الأمير منصور في الجيوش والكتائب، وغزا عرب المعقل وأثخن فيهم. وقتل طلحة بن محلى في بعض حروبهم لثلاث عشرة في جمادى سنة ست وثمانين وستمائة وبعث برأسه إلى سدّة السلطان فعلق بتازى. ثم نهض في رمضان لغزو المعقل بصحراء درعة لما أضرّوا العمران وأفسدوا السابلة. وسار إليهم في اثني عشر ألفا من الفرسان، ومرّ على بلاد هسكورة معترضا جبل درن. وأدركهم بالقفر نواجع، فأثخن فيهم بالقتل والسبي. واستكثر من رءوسهم فعلّقت بشرافات مراكش وسجلماسة وفاس. وعاد من غزوة إلى مراكش آخر شوّال، فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم الولاية عليها من لدن غلب الموحدين، لما وقع من الارتياب بأولاد محلى لما آتاهم كبيرهم طلحة، فنكب غرّة المحرّم من سنة سبع وثمانين وستمائة. وهلك في محبسه لشهر صفر بعده. وهلك على ذلك المزوار قاسم بن عتوّ [1] . وعقد السلطان على مراكش وأعمالها لمحمد بن عطو الجاناتي من موالي دولتهم ولاء الحلف. وترك معه ابنه أبا عامر. ثم ارتحل إلى حضرة فاس، فاحتل بها منتصف ربيع، ووافته بها عرسه بنت موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق من غرناطة في وفد من وزراء ابن الأحمر وأهل دولته، فأعرس بها وكان بعث إلى أبيها من قبل في الاصهار بها. ووافت معها رسل ابن الأحمر يسألونه التجافي عن وادي آش، فأسعفهم بها، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن دخول وادي آش في طاعة السلطان ثم رجوعها الى طاعة ابن الأحمر)
كان أبو الحسن بن أشقيلولة ظهير السلطان ابن الأحمر على ملكه، ومعينة على شأنه، وكان له في الدولة بذلك مكان. ولما هلك خلف من الولد أبا محمد عبد الله وأبا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قاسم بن عبّو.(7/280)
إسحاق إبراهيم، فعقد ابن الأحمر لأبي محمد على مالقة ولأبي إسحاق على قمارش ووادي آش. ولما هلك السلطان ابن الأحمر حدثت مغاضبات ومنافسات بينهما وبينه، وتأدى ذلك إلى الفتنة كما قلناه ودخل أبو محمد في طاعة السلطان أبي يوسف. ثم هلك فلحق ابنه محمد بالسلطان، ونزل له عن البلد سنة ست وسبعين وستمائة ثم هلك أبو إسحاق سنة اثنتين وثمانين وستمائة وغلب ابن الأحمر على حصن قمارش وصار إليه. وكان الرئيس أبو إسحاق قد عقد لابنه أبي الحسن على وادي آش وحصونها، واتصلت الفتنة بينه وبين ابن الأحمر، وظاهر أبو الحسن عليه الطاغية وأجلب أخوه أبو محمد معه على غرناطة هو وابن الدليل. وطال أمر الفتنة بينهما وبين ابن الأحمر. ثم انعقد السلم بين المسلمين والنصارى، وخشي أبو محمد بن أشقيلولة على نفسه عادية ابن الأحمر، فتذمم بطاعة صاحب المغرب، وأقام دعوته بوادي آش سنة ست وثمانين وستمائة فلم يعرض لها ابن الأحمر حتى إذا وقعت المواصلة بينه وبين ابن السلطان أبي يعقوب، وكان شأن هذا الصهر على يده، بعث رسله إلى السلطان يسأله التجافي عن وادي آش، فتجافى له عنها وبعث إلى أبي الحسن بن أشقيلولة بذلك فتركها. وارتحل إليه سنة سبع وثمانين وستمائة ولقيه بسلا، فأعطاه القصر الكبير وأعماله طعمة سوّغه إياها. ثم نزل لبنيه آخر دولتهم. واستمكن ابن الأحمر من وادي آش وحصونها، ولم يبق له بالأندلس منازع من قرابته. والله يؤتي ملكه من يشاء، والله أعلم.
(الخبر عن خروج الأمير أبي عامر ونزوعه الى مراكش ثم فيئته الى الطاعة)
لما احتل السلطان بفاس وأقام بها خرج عليه ابنه أبو عامر، ولحق بمراكش، ودعا لنفسه أخريات شوال من سنة سبع وثمانين وستمائة وساعده على الخلاف والانتزاء عاملها محمد بن عطّو. وخرج السلطان في أثره إلى مراكش، فبرز إلى لقائه، فكانت الدائرة عليهم وحاصرهم السلطان بمراكش أياما. ثم خلص أبو عامر إلى بيت المال فاستصفى ما فيه وقتل المشرف ابن أبي البركات، ولحق بجبال المصامدة، ودخل السلطان من غده إلى البلد يوم عرفة، فعفا وسكن ونهض منصور ابن أخيه(7/281)
الأمير أبو مالك من السوس إلى حاجة فدوّخ انحاءها. ثم سرّح إليه المدد من مراكش، فأوقعوا بوكنة [1] من برابرة السوس، وقتل منهم ما يناهز أربعين من سرواتهم. وكان فيمن قتل منهم شيخهم حيون [2] بن إبراهيم. ثم إنّ ابنه أبا عامر ضاق ذرعه بسخط أبيه وإجلابه في الخلاف، فلحق بتلمسان ومعه وزيره ابن عطو فاتح سنة ثمان وثمانين وستمائة فآواهم عثمان بن يغمراسن، ومهّد لهم المكان ولبثوا عنده أياما. ثم عطف السلطان على ابنه رحم لما عطفت ابنته عليه، فرضي عنه وأعاده إلى مكانه، وطالب عثمان بن يغمراسن أن يسلم إليه ابن عطو الناجم في النفاق مع ابنه، فأبى من إضاعة جواره وإخفار ذمّته، وأغلظ له الرسول في القول فسطا به واعتقله، فثارت من السلطان الحفائظ الكامنة، وتحرّكت الإحن القديمة، والنزلات المتوارثة. واعتزم على غزو تلمسان والله أعلم.
(الخبر عن تجدد الفتنة مع عثمان بن يغمراسن وغزو السلطان مدينة تلمسان ومنازلته إياها)
كانت الفتنة بين هذين الحيّين قديمة من لدن مجالاتهم بالقفر من حمراء ملويّة إلى صا، إلى فيكيك، ولما انتقلوا إلى التلول وتغلّبوا على الضواحي بالمغرب الأقصى والأوسط، لم تزل فتنتهم متّصلة وأيام حروبهم فيها مذكورة. وكانت دولة الموحدين عند اختلالها والتياثها تستنصر منهم بالتضريب بينهم والفتنة، فتأكدت لذلك أحوالها واتصلت أيامها. وكان بين يغمراسن بن زيّان وأبي يحيى بن عبد الحق فيها وقائع ومشاهد، نقلنا منها بعضا من كل. واستظهر الموحدون بيغمراسن عليه في بعضها.
وكان الغلب أكثر ما يكون لأبي يحيى بن عبد الحق لوفور قبيلة. إلّا أنّ يغمراسن كان يتصدّى لمقاومته في سائر وقائعه. ولما طمس أثر بني عبد المؤمن واستولى يعقوب ابن عبد الحق على ملكهم، وصارت في جملته عساكرهم، وتضاعف عليه، وأسف على ملك يغمراسن ملكه. وجمع له فأوقع به في تلاغ الواقعة المعروفة. ثم أوقع به ثانية وثالثة. ولما استوت قدم يعقوب بن عبد الحق في ملكه، واستكمل فتح
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكنة.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حبون- حبور- حنون.(7/282)
المغرب وسائر أمصاره، وكبح يغمراسن عن التطاول إلى مقاومته، وأوهن قواه بفلّ جموعه ومنازلته في داره، ومظاهرة أقتاله من زناتة بني توجين ومغراوة عليه.
فانصرف بعد ذلك إلى الجهاد، فكان له فيه شغل عمّا سواه كما نقلناه في أخباره.
ولما انصرف ارتاب ابن الأحمر بمكان السلطان يعقوب بن عبد الحق من الأندلس، وحذّره على ملكه، وتظاهر مع الطاغية على منعه من الإجازة إلى عدوتهم، ثم خشوا أن لا يستقلوا بمدافعته، فراسلوا يغمراسن في الأخذ بحجزته. وأجابهم إليها وجرّد عزائمه لها، واتصلت أيديهم في التظاهر عليه. ثم فسد ما بين ابن الأحمر والطاغية ولم يكن له بدّ من ولاية يعقوب بن عبد الحق، فتولى [1] بواسطة ابنه يوسف بن يعقوب كما ذكرناه وأطلعوه على خباء يغمراسن في مظاهرتهم، فأغزاه سنة تسع وسبعين وستمائة وهزمه بخرزونة [2] . ونازلة بتلمسان ووطأ عدوّه من بني توجين بساحته كما ذكرناه. ثم انصرف إلى شأنه من الجهاد، وهلك يغمراسن بن زيّان على تفيئة ذلك سنة إحدى وثمانين وستمائة، وأوصى ابنه عثمان ولي عهده، زعموا أن لا يحدّث نفسه بمقاومة بني مرين ومساماتهم في الغلب، وأن لا يبرز إلى لقائهم بالصحراء، وأن يلوذ منهم بالجدران متى سموا إليه. وألقى إليه، زعموا أنّ بني مرين بعد تغلّبهم على مراكش، وانضياف سلطان الموحدين إلى سلطانهم، ازدادت قوّتهم وتضاعف غلبهم. وقال له زعموا فيما أوصاه. ولا يغرّنك أني رجعت إليهم بعدها، وبرزت إلى لقائهم، فإنّي أنفت أنّ أرجع عن مقاومتهم بعد اعتيادها، وأترك مبارزتهم وقد عرفها الناس. وأنت لا يضرّك العجز عن مبارزتهم والنكول عن لقائهم، فليس لك في ذلك مقام معلوم، ولا عادة سالفة، واجهد جهدك في التغلّب على إفريقية وراءك، فإن فعلت كانت المناهضة. وهذه الوصاة زعموا هي التي حملت عثمان وبنيه من بعده على طلب ملك إفريقية، ومنازلة بجاية وحربهم مع الموحدين. ولمّا هلك يغمراسن ذهب ابنه إلى مسالمة بني مرين، فبعث أخاه محمدا إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق، وأجاز البحر إليه بالأندلس. ووافاه بأركش في إجازته الرابعة سنة أربع وثمانين وستمائة فعقد له ما جاء إليه من السلم والمهادنة، ورجّعه إلى أخيه وقومه ممتلئا كرامة وسرورا. وهلك يعقوب بن عبد الحق أثر ذلك سنة خمس وثمانين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتولاه.
[2] وفي نسخة ثانية: خرزوزة.(7/283)
وستمائة وقام بالأمر ابنه يوسف بن يعقوب. وانتزى الخوارج عليه بكل جهة، فشمّر لهم واستنزلهم وحسم أدواءهم. ثم خرج عليه ابنه آخرا كما ذكرناه بممالأة وزير السلطان محمد بن عطّو. ثم فاء إلى طاعة أبيه ورضي عنه، وأعاده إلى مكانه من حضرته. وطالب عثمان بن يغمراسن كما ذكرناه في ابن عطو المنتزي عليه مع ابنه، فأبى عثمان من تسليمه وتحرّكت حفيظة السلطان واعتزم على غزوهم، فارتحل من مراكش لصفر من سنة سبع وثمانين [1] وعقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الرحمن. ثم نهض لغزاته من فاس آخر ربيع من سنته في عساكره وجنوده، وحشد القبائل وكافة أهل المغرب، وسار حتى نزل تلمسان فانحجز عثمان وقومه بها، ولاذوا منه بجدرانها.
فسار في نواحيها ينسف الآثار ويخرب العمران ويحطم الزرع. ثم نزل بذراع الصابون بساحتها. ثم انتقل منه إلى تامة [2] وحاصرها أربعين يوما، وقطع أشجارها، وأباد خضراءها. ولما امتنعت عليه أفرج عنها وانكفأ راجعا إلى المغرب. وقضى نسك الفطر بعين الصفا من بلاد بني يرناتن، ونسك الأضحى وقربانه بتازى، وتلبّث بها، ومنها كان فصوله للغزو عند انتقاض الطاغية كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض الطاغية واجازة السلطان لغزوه)
لما رجع السلطان من غزو تلمسان وافاه الخبر بأنّ الطاغية شانجة انتقض ونبذ العهد، وتجاوز التخوم وأغار على الثغور، فأوعز إلى قائد المسالح علي بن يوسف بن يزكاسن بالدخول إلى دار الحرب ومنازلة شريش. وشنّ الغارات على بلاد الطاغية، فنهض لذلك في ربيع الآخر من سنة تسعين وستمائة وجاس خلالها، وتوغّل في أقطارها، وأبلغ في النكاية. وفصل السلطان من تازى غازيا على أثره في جمادى، واحتل قصر مصمودة، واستنفر أهل المغرب وقبائله. ونفروا وشرع في إجازتهم البحر. وبعث الطاغية أساطيله إلى الزقاق حجزا دون الإجازة، فأوعز السلطان إلى قوّاد أساطيله بالسواحل فأغزاهم. والتقت الأساطيل ببحر الزقاق في شعبان فاقتتلوا وانكشف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تسع وثمانين.
[2] وفي نسخة ثانية: ثمامة.(7/284)
المسلمون ومحصهم الله. ثم أغزاهم ثانية وخامت أساطيل العدو عن اللقاء، وصاعدوا عن الزقاق. وملكته أساطيل السلطان فأجاز أخريات رمضان واحتلّ بطريف. ثم دخل دار الحرب غازيا، فنازل حصن بجير ثلاثة أشهر، وضيّق عليهم. وبثّ السرايا في أرض العدو، وردّد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيها إلى أن بلغ في النكاية والإثخان. وقضى من الجهاد وطرا، وزاحمه فصل الشتاء وانقطاع الميرة عن العسكر، فأفرج عن الحصن ورجع إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب فاتح إحدى وتسعين وستمائة فتظاهر ابن الأحمر والطاغية على منعه كما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن انتقاض ابن الأحمر ومظاهرته للطاغية على طريف أعادها الله للمسلمين)
لما قفل السلطان من غزاتة فاتح إحدى وتسعين وستمائة كما ذكرناه، وقد أبلغ في نكاية العدوّ وأثخن في بلاده، فأهمّ الطاغية أمره، وثقلت عليه وطأته، والتمس الوليجة من دونه. وحذّر ابن الأحمر غائلته، ورأى أنّ مغبّة حاله الاستيلاء على الأندلس وغلبه على أمره، ففاوض الطاغية وخلصوا نجيّا. وتحدّثوا أنّ استمكانه من الإجازة إليهم إنّما هو لقرب مسافة بحر الزقاق، وانتظام ثغور المسلمين حفافيه لتصرف شوانيهم وسفنهم متى أرادوا فضلا عن الأساطيل وأن أمّ تلك الثغور طريف، وأنهم إذا استمكنوا منها كانت ربيئة لهم على بحر الزقاق. وكان أسطولهم بمرقاها بمرصد الأساطيل صاحب المغرب الخائضين لجّة ذلك البحر، فاعتزم الطاغية على منازلة طريف. وزعم له ابن الأحمر بمظاهرته على ذلك، وشرط له المدد والميرة لأقوات العسكر أيام منازلتها، على أن تكون له إن خلصت. وتعاونوا على ذلك وأناخ الطاغية بعساكر النصرانية على طريف. وألحّ عليها بالقتال ونصب الآلات وانقطع عنها المدد والميرة. واحتلت أساطيله ببحر الزقاق، فحالفوا دون الصريخ من السلطان وإخوانهم المسلمين. وضرب ابن الأحمر معسكره بمالقة قريبا منه، وسرّب إليه المدد من السلاح والرجال والميرة من الأقوات، وبعث عسكرا لمنازلة حصن أصطبونة، وتغلّب عليه بعد مدة من الحصار. واتصلت هذه الحال أربعة أشهر حتى أصاب(7/285)
أهل طريف الجهد، ونال منهم الحصار، فراسلوا الطاغية في الصلح والنزول عن البلد، فصالحهم واستنزلهم سنة إحدى وتسعين وستمائة ووفّى لهم بعهده. واستشرف ابن الأحمر إلى تجافي الطاغية عنها لما عقدوا عليه، فأعرض عن ذلك واستأثر بها بعد أن كان نزل له عن ستة من الحصون عوضا منها، ففسد ذات بينهما، ورجع ابن الأحمر إلى تمسّكه بالسلطان واستعانته به لأهل ملّته على الطاغية. وأوفد ابن عمّه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف ووزيره أبا سلطان عزيز الداني في وفد من أهل حضرته لتجديد العهد وتأكيد المودّة وتقرير المعذرة عن شأن طريف.
فوافوه بمكانه من منازلة تازوطا كما يذكر بعد. فأبرموا العقد وأحكموا الصلح وانصرفوا إلى ابن الأحمر سنة اثنتين وتسعين وستمائة بأسعاف غرضه من المواخاة واتصال اليد. وهلك خلال ذلك قائد المسالح بالأندلس علي بن يزكاسن في ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين وستمائة وعقد السلطان لابنه ولي عهده، الأمير أبي عامر على ثغور الأندلس التي في طاعته، وعهد له بالنظر في مصالحها. وأنفذه إلى قصر المجاز بعسكره فوافاه هنالك السلطان ابن الأحمر كما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن وفادة ابن الأحمر على السلطان والتقائهما بطنجة)
لما رجعت الرسل الى ابن الأحمر، وقد كرّمت وفادتهم وقضيت حاجتهم، وأحكمت في المواخاة مقاصدهم، وقع ذلك من ابن الأحمر أجمل موقع، وطار سرورا من أعواده. وأجمع الرحلة إلى السلطان لإحكام الودّ والاستبلاغ في العذر عن واقعة طريف وشأنها، واستعدادهم لإغاثة المسلمين ونصرهم من عدوّهم. فاعتزم على ذلك وأجاز البحر ذا القعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة واحتل بنيونش من ساحة سبتة. ثم ارتحل إلى طنجة، وقدّم بين يدي نجواه هدية سنيّة أتحف بها السلطان، كان من أحفلها وأحسنها موقعا لديه فيما زعموا المصحف الكبير، أحد مصاحف عثمان ابن عفّان أحد الأربعة المنبعثة إلى الآفاق، المختص هذا منها بالمغرب، كما نقله السلف. كان بنو أمية يتوارثونه بقرطبة، فتلقاه الأمير أبو عامر هنالك، وأخوه الأمير(7/286)
أبو عبد الرحمن ابنا السلطان واحتفلا في مبرّته. ثم جاء السلطان على أثرهما من حضرته لتلقّيه وبرور مقدمه، ووافاه بطنجة، وبلغ في تكرمته وبرّ وفادته ما يكرّم به مثله. وبسط ابن الأحمر العذر عن شأن طريف فتجافى السلطان عن العذل وأعرض عنه وقبل منه. وبرّ واحتفى ووصل وأجزل، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة والغربية وعشرين حصنا من ثغور الأندلس كانت من قبل لطاعة صاحب المغرب ونزل عساكره. وعاد ابن الأحمر إلى الأندلس خاتم اثنتين وتسعين وستمائة محبوّا محبورا. وأجازت عساكر السلطان معه لحصار طريف وعقد على حربها ومنازلتها لوزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن الخرباش الجشمي، فنازلها مدّة، وامتنعت فأفرج عنها. وصرف السلطان همّته إلى غزو تلمسان وحصارها. كما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتزاء الوزير الوساطي بحصن تازوطا من جهات الريف واستنزال السلطان إياه)
كان بنو الوزير هؤلاء رؤساء بني واطاس من قبل بني مرين، ويرون أن نسبهم دخيل في بني مرين. وأنّهم من أعقاب علي بن يوسف بن تاشفين لحقوا بالبدو ونزلوا على بني واطاس، ورسخت فيهم عروقهم حتى لبسوا جلدتهم. ولم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك، والرئاسة شامخة بأنوفهم. وكانوا يرومون الفتك بالأمراء من أولاد عبد الحق، فلم يطيقوه. ولما احتلّ السعيد بتازى غازيا إلى تلمسان كما ذكرناه، ولحق ببلدهم الأمير أبو يحيى بن عبد الحق ائتمروا في الفتك به. ونذر بشأنهم فارتحل، ففرّوا إلى غبولة وعين الصفا من بلاد بني يزناسن، وهنالك بلغه خبر مهلك السعيد.
وكانت بلاد الريف لبني واطاس من لدن دخول بني مرين المغرب واقتسامهم لأعماله فكانت ضواحيها لنزلهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم. وكان حصن تازوطا بها من أمنع المعاقل بالمغرب وكان الملوك من أولاد عبد الحق يعتنون بشأنه، وينزلونه من أوليائهم من يثقون بغنائه واطلاعه، ليكون آخذا بناصية هؤلاء الرهط. وشجا في صدورهم عمّا يسيمون إليه. وكان السلطان قد عقد عليه لمنصور ابن أخيه الأمير أبي مالك بعد مهلك ابنه أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق. وكان عمر بن يحيى ابن الوزير وأخوه(7/287)
عامر رئيسين على بني واطاس لذلك العهد، فاستوهنوا أمر السلطان بعد مهلك أبيه، وحدّثوا أنفسهم بالانتزاء بتازوطا والاستبداد بتلك الناحية، فوثب عمر منهم بمنصور ابن أخي السلطان شهر شوال من سنة إحدى وتسعين وستمائة وفتك برجاله وذويه وأزعجه عنها، وغلبه على مال الجباية الّذي كان بقصره، فاستصفاه واستأثر به.
واستبدّ وشحن الحصن برجاله وحاشيته ووجوه قومه. ووصل منصور إلى السلطان وهلك لليال من منجاته أسفا لما أصابه. وسرّح السلطان وزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن خرباش بالعساكر لمنازلته فأناخ عليه. ثم نهض السلطان على أثره ووافاه واضطرب معسكره بساحته. وخالف عامر أخاه عمر إلى السلطان بقومه حذرا من مغبّة الأمر، وأشفق عمر لشدّة الحصار ويئس من الخلاص، وظنّ أن قد أحيط به ودسّ إلى أخيه عامر، فاستأذن السلطان في مداخلته في الدخول على الحصن فأذن له. واحتمل ذخيرته وفرّ إلى تلمسان. وبدا لعامر في رأيه عند ما خلص إلى الحصن وخلاله من أخيه عمر الجوّ. وحذر غائلة السلطان وخشي أن يثأر منه بابن أخيه، فامتنع بالحصن. ثم ندم وسقط في يده، وفي خلال ذلك كان وصول وفد الأندلس، وأرسوا أساطيلهم بمرسى غساسة، فبعث إليهم عامر أن يشفعوا له عند السلطان لوجاهتهم لديه، فتقبّلت شفاعتهم على شريطة إجازته إلى الأندلس، وكره ذلك وقدّم بين يديه بعض حاشيته إلى الأسطول مكرا بهم، وخاض الليل إلى تلمسان، وتقبّض السلطان على ولده وقتل. وأسلم أهل الاسطول من كان من حاشيته لديهم، وتجافوا عن إجازتهم على السلطان لما مكر بهم عامر فامر فاستلحموا مع من كان بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذريّاتهم [1] وتملّك السلطان حصن تازوطا وأنزل به عمّاله، ومسلحته وقفل إلى حضرته بفاس آخر جمادى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن نزوع أبي عامر ابن السلطان الى بلاد الريف وجهات غمارة)
كان الأمير أبو عامر بعد إجازة ابن الأحمر إلى السلطان أبيه ورضاه عنه، وتأكيد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ذويهم.(7/288)
مؤاخاته وإغراء وزيره بمنازلة طريف، واستنزاله أولاد الوزير المنتزين بحصن تازوطا رجع من قصر مصمودة إلى بلاد الريف بإيعاز أبيه إليه بذلك لتسكين أحوالها. وكان أولاد الأمير أبي يحيى بن عبد الحق قد نزعوا إلى تلمسان لسعاية فيهم، وقرت في صدر السلطان، فأقاموا بها أياما، ثم استعطفوا السلطان واسترضوه، فرضي وأذن لهم في الرجوع في محلّهم من قومهم ودولتهم. وبلغ الخبر الأمير أبا عامر وهو بمعسكره من الريف، فأجمع على اغتيالهم في طريقهم فظنّ أنه يرضي بذلك أباه.
واعترضهم بوادي القطف من ملويّة سنة خمس وتسعين وستمائة فاستلحمهم وانتهى الخبر إلى السلطان فقام في ركائبه وقعد، وتبرّأ إلى ابنه [1] من إخفار ذمّته. ومن صنيع ابنه. وسخطه وأقصاه، فذهب مغاضبا ولحق ببلاد الريف. ثم صعد إلى جبل غمارة، فلم يزل طريدا بينهم. ونازلته عساكر أبيه لنظر ميمون بن وردار [2] الجشميّ، ثم لنظر يرزيكن بن المولاة تاميمونت. وأوقع بهم مرارا آخرها بيرزيكن سنة سبع وتسعين وستمائة، وذكر الربجي [3] مؤرّخ دولتهم أنّ خروجه بجبل غمارة كان سنة أربع وتسعين وستمائة وقتله لأولاد الأمير أبي يحيى كان سنة خمس وتسعين وستمائة بعدها أغزاهم [4] من مثوى انتزائه، وقتلهم كما ذكرناه والله أعلم. ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك ببني سعيد من جبال غمارة سنة ثمان وتسعين وستمائة ونقل شلوه إلى فاس فووري بباب الفتوح ملحد قومهم هنالك. وأعقب ولدين نقلهما السلطان جدّهما، فكانا الخليفتين من بعده ملي ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن حصار تلمسان الكبير وما تخلل ذلك من الاحداث)
كان عثمان بن يغمراسن بعد إفراج السلطان سنة تسع وثمانين وستمائة وانتقاض الطاغية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إلى الله.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وردان.
[3] وفي نسخة ثانية: الزليخي.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أغرابهم من مثوى انتزائه.(7/289)
وابن الأحمر عليه كما قلناه، صرف إلى ولايتهما وجه تدبيره وأوفد على الطاغية ابن بريدي من صنائع دولته سنة اثنتين وتسعين وستمائة ووجّهه الطاغية مع الريك ريكسن رسول من كبار قومه. ثم عاد إليه الحاج مسعود من حاشيته، ووصل يده بيده يظنّ ذلك دافعا عنه. واعتدّها السلطان عليه وطوى له على النثّ. حتى إذا فرغ من شأن الأندلس وهلك الطاغية شانجة سنة ثلاث وتسعين وستمائة لإحدى عشرة من سني ملكه، وارتحل السلطان إلى طنجة لمشارفة أحوال الأندلس سنة أربع وتسعين وستمائة فأجاز إليه السلطان ابن الأحمر ولقيه بطنجة، وأحكم معه المؤاخاة. ولما استيقن سكون أحوالها، نزل لابن الأحمر عن جميع الثغور التي بها الطاغية، وأجمع غزو تلمسان، ولحق به بين يدي ذلك ثابت بن منديل المغراوي صريخا على ابن يغمراسن ومستجيشا بقومه فتقبله وأجاره.
وكان أصاب الناس أعوام اثنتين وتسعين وستمائة قحط، ونالتهم سنة وهنوا لها. ثم أنّ الله رحم خلقه وأدرّ نعمته، وأعاد الناس إلى ما عهدوه من سبوغ نعمهم وخصب عيشهم. ووفد عليه سنة أربع وتسعين وستمائة ثابت بن منديل أمير مغراوة مستصرخا به من عثمان بن يغمراسن، فبعث من كبار قومه موسى بن أبي حمّو إلى تلمسان شغيعا في ثابت بن منديل فردّه عثمان أقبح ردّ وأساء في إجابته، فعاود الرسالة إليهم في شأنه، فلم يزدهم إلّا إصرارا [1] فاعتزم على غزو بلادهم واستعدّ لذلك، ونهض سنة أربع وتسعين وستمائة حتى انتهى إلى بلاد تاوريرت، وكانت تخما لعمل بني مرين وبني عبد الواد في جانبها عامل السلطان أبي يعقوب، وفي جانبها الآخر عامل عثمان بن يغمراسن. فطرد السلطان عامل ابن يغمراسن وتميز بها، واختطّ الحصن الّذي هنالك لهذا العهد. تولاه بنفسه يغادي الفعلة ويراوحهم، وأكمل بناءه في شهر رمضان من سنته. واتخذه ثغرا لملكه، وأنزل بني عسكر لحياطته وسدّ فروجه.
وعقد عليهم لأخيه أبي يحيى بن يعقوب، وانكفأ راجعا إلى الحضرة.
ثم خرج من فاس سنة خمس وتسعين وستمائة غازيا إلى تلمسان، ومرّ بوجدة، فهدم أسوارها وتغلّب على مسيفة والزغاوة [2] . وانتهى إلى ندرومة، ونازلها أربعين يوما ورماها بالمنجنيق. وضيّق عليها وامتنعت عليه فأفرج عنها ثاني الفطر. ثم أغزى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فلم تزدهم إلا ضرارا.
[2] وفي نسخة ثانية: الزغّارة.(7/290)
تلمسان سنة ست وتسعين وستمائة وبرز لمدافعته عثمان بن يغمراسن، فهزمه وحجزه بتلمسان، ونزل بساحتها وقتل خلقا من أهلها، ونازلها أياما. ثم أقلع عنها وقفل إلى المغرب وقضى منسك الأضحى من سنته بتازى. فأعرس هنالك لحافدة أبي ثابت ابن منديل، كان أصهر فيها إلى جدّها قبل مهلكه سنة ست وتسعين وستمائة قتيلا ببحيرة الزيتون من ظاهر فاس. قتله بعض بني ورتاجن في دم كان لهم في قومه، فثأر السلطان به من قاتله وأعرس بحافدته. وأوعز ببناء القصر بتازى، وقفل إلى فاس فاتح سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم ارتحل إلى مكناسة وانكفأ إلى فاس. ثم نهض جمادى غازيا تلمسان ومرّ بوجدة فأوعز ببنائها وتحصين أسوارها، واتخذ بها قصبة ودارا لسكناه ومسجدا وأغزى إلى تلمسان، ونزل بساحتها، وأحاطت عساكره إحاطة الهالة بها، ونصب عليها القوس البعيدة النزع العظيمة الهيكل المسمّاة بقوس الزيار ازدلف إليه الصنّاع والمهندسون بعملها، وكانت توقر على أحد عشر بغلا. ثم لما امتنعت عليه تلمسان أفرج عنها فاتح سنة ثمان وتسعين وستمائة ومرّ بوجدة، فأنزل بها الكتائب من بني عسكر لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب كما كانوا بتاوريرت، وأوعز إليهم بترديد الغزاة على أعمال ابن يغمراسن وإفساد سابلتها. وضاقت أحوالهم ويئسوا من صريخ صاحبهم، فأوفدوا على الأمير أبي يحيى وفدا منهم يسألون الأمان بمن وراءهم من قومهم، على أن يمكّنوه من قياد بلدهم، ويدينوا بطاعة السلطان، فبذل لهم من ذلك ما أرضاهم، ودخل البلد بعساكره، واتبعهم أهل تاوونت وأوفد مشيختهم جميعا على السلطان آخر جمادى، فقدموا عليه لحضرته وأدّوا طاعتهم، فقبلها. ورغبوا إليه في الحركة إلى بلادهم ليريحهم من ملكة عدوّه وعدوّهم ابن يغمراسن، ووصفوا من عسفه وجوره وضعفه عن الحماية، ما استنهض السلطان لذلك على ما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن الحصار الكبير لتلمسان وما تخلل ذلك من الأحداث)
لما توفّرت عزائم السلطان عن النهوض إلى تلمسان، ومطاولة حصارها إلى أن يظفر بها وبقومها، واستيقن أنه لا مدافع له عن ذلك، نهض من فاس شهر رجب من سنة(7/291)
ثمان وتسعين وستمائة بعد أن استكمل حشده. ونادى في قومه، واعترض عساكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم. وارتجل في التعبية واحتل بساحة تلمسان ثاني شعبان وأناخ عليها وضرب معسكره بفنائها. وحجز عثمان بن يغمراسن وحاميتها من قومه، وأدار الأسوار سياجا على عمرانها كلّه، ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى.
ورتّب المسالح على أبوابها وفرجها، وسرّح عساكره لمحاصرتها فاقتحموها [1] وآتوا طاعتهم، وأوفد مشيختهم وسط شعبان. ثم سرّح عساكره لمحاصرة وهران وتقرّى البسائط ومنازلة الأمصار، فأخذت مازونة في جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين وستمائة وتنس في شعبان بعده، وتالموت [2] والقصبات وتامزردكت في رمضان منه، وفيه كان فتح مدينة وهران. وسارت عساكره في الجهات إلى أن بلغت بجاية كما نذكره. وأخذ الرعب بقلوب الأمم بالنواحي، وتغلّب على ضواحي مغراوة وتوجين، وسارت فيها عساكره ودوّختها كتائبه، واقتحمت أمصارها مثل مليانة ومستغانم وشرشال والبطحاء ووانشريش والمرية [3] وتافركينت، وأطاعه زيري المنتزي ببرشك. وأتى بيعته، وابن علان المنتزي بالجزائر. وأزعج الناكثين منهم عن طاعته، واستألف أهل الطاعة [4] كما نذكره. وحذره الموحدون من ورائهم بإفريقية ملوك بجاية وملوك تونس، فمدّوا إليه يد المواصلة ولاطفوه بالمتاحفة والمهاداة كما نذكره، وخاطب صاحب الديار المصرية ملك الترك وهاداه وراجعه كما نذكره، ووفد عليه شرفاء مكة بني أبي نمى كما نذكر. وهو في خلال ذلك مستجمع للمطاولة بالحصار والتضييق، متجاف عن القتال إلّا في بعض الأيام، ولم تبلغ أربعة أو خمسة ينزل شديد العقاب والسطوة بمن يميرها ويأخذ بالمرصاد على من يتسلّل بالأقوات اليها. قد جعل سرداق الأسوار المحيطة ملاكا لأمره في ذلك، فلا يخلص إليهم الطيف ولا يكاد يصل إليهم العيث مدّة مقامه عليها، إلى أن هلك بعد مائة شهر كما نذكره. واختطّ بمكان فسطاط المعسكر قصرا لسكناه، واتّخذ به مسجدا لمصلّاه وأدار عليها السور، وأمر الناس بالبناء فبنوا الدور الواسعة والمنازل الرحيبة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وسرّح عساكره الى هنين فافتتحها.
[2] وفي نسخة ثانية: تاللوت.
[3] وفي نسخة ثانية: المدية.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخ أخرى: أهل الظاعنة. وأهل الصاغية وأهل الطاغية.(7/292)
والقصور الأنيقة، واتخذوا البساتين وأجروا المياه. ثم أمر بإدارة السور سياجا على ذلك سنة اثنتين وسبعمائة، وصيّرها مصرا، فكانت من أعظم الأمصار والمدن وأحفلها اتساع خطة وكثرة عمران ونفاق أسواق، واحتفال بناء وتشييد منعة. وأمر باتخاذ الحمامات والمارستان، وابتنى مسجدا جامعا، وشيّد له مئذنة رفيعة، فكان من أحفل مساجد الأمصار وأعظمها، وسمّاها المنصورة، واستبحر عمرانها ونفقت أسواقها [1] ، ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق فكانت إحدى مدائن المغرب.
وخرّبها آل يغمراسن عند مهلكه، وارتحال كتائبه عنها، بعد أن كان بنو عبد الواد أشرفوا على الهلاك، وأذنوا بالانقراض كما نذكره، فتداركهم من لطف الله ما شأنه أن يتدارك المتورطين في المهالك، والله غالب على أمره.
(الخبر عن افتتاح بلاد مغراوة وما تخلل ذلك من الأحداث)
لما أناخ السلطان على تلمسان وتغلّب على ضواحي بني عبد الواد، وافتتح أمصارهم، سما إلى التغلّب على ممالك مغراوة وبني توجين. وكان ثابت بن منديل قد وفد على السلطان بمقرّ ملكه من فاس سنة أربع وتسعين وستمائة وأصهر إليه في حافدته، فعقد له عليها. وهلك ثابت بمكان وفادته من دولتهم، وأعرس السلطان بحافدته سنة ست وتسعين وستمائة كما ذكرنا ذلك من قبل، فلمّا تغلّب السلطان على مال بني عبد الواد جهّز عساكره إلى بلاد مغراوة، وعقد عليها لعلي بن محمد من عظماء بني ورتاجن، فتغلّبوا على الضواحي وشرّدوا مغراوة إلى رءوس المعاقل.
واعتصم راشد بن محمد بن ثابت بن منديل صهر السلطان بمليانة فنازلوه بها. ثم استنزلوه على الأمان تسع وتسعين وستمائة فأوفدوه على السلطان، فلقاه مبرّة وتكرمة، وخلطه بجملته (لمكان) صهره معه. ثم افتتحوا مدينة تدلس [2] ومازونة وشرشال.
وأعطى زيري بن حمّاد المنتزي على برشك من بلادهم يد الطاعة. وأوفد على السلطان للبيعة، واستولوا على ضواحي شلف كلّها. ولاذت مغراوة بطاعة السلطان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وهالت أسواقها.
[2] وفي نسخة ثانية: تنس.(7/293)
وعقد عليهم وعلى جميع بلادهم لعمر بن ويفرن بن منديل فآسف ذلك راشد بن محمد لما كان يراه لنفسه من الاختصاص. ولما كانت أخته حظيّة السلطان وكريمته، ونافس عمر بن ويفرن في إمارة قومه، فلحق بجبال متيجة، وأجلب على من هنالك من عمّال السلطان وعساكره وانحاش إليه مرضى القلوب من قومه، فاعصوصبوا عليه. وداخلوا أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وملّكوه أمرهم في ربيع من المائة السابعة. ثم بيّت عمر بن ويفرن بمعسكره من أزمور، فقتله واستباح المعسكر. وبلغ الخبر إلى السلطان، فسرّح العساكر من بني مرين وعقد لعليّ بن الحسن بن أبي الطلاق على قومه من بني عسكر، ولعليّ بن محمد الخيريّ على قومه من بني ورتاجن، وجعل الأمر شورى بينهما، وأشرك معهما عليها الحسّاني من صنائع دولته، وأبا بكر بن إبراهيم بن عبد القوي من أعياص بني توجين. وعقد على مغراوة محمد بن عمر بن منديل، وأشركه معهم، وزحفوا إلى راشد. ولمّا أحس بالعساكر لجأ إلى معقل بني بو سعيد فيمن معه من شيعة مغراوة. وأنزل بمازونة عليا وحمّو ابني عمه يحيى بن ثابت، واستوصاهم بضبط البلد، وأنه مشرف عليهم من الجبل.
وجاءت عساكر السلطان إلى بلاد مغراوة فتغلّبوا على البسائط وأناخوا بمازونة، وضربوا معسكرهم بساحتها، وأخذوا بمخنقها، واهتبل عليّ وقومه غرّة في معسكر بني مرين فبيّتهم سنة إحدى وسبعمائة. وانفضّ المعسكر وتقبّض على علي بن محمد الخيريّ، ثم امتنعوا عليه وعاد المعسكر إلى مكانهم من حصارهم، وجهدهم حالهم فنزل إليهم حمّو بن يحيى على حكم السلطان. وأنفذوه إليه فتقبّض عليه. ثم نزل عليّ ثانية من غير عهد، فأشخصوه إلى السلطان فلقاه مبرّة وتكريما، تأنيسا الراشد المنتزي بمعقله.
واقتحمت على أهلها عنوة سنة ثلاث وسبعمائة فمات منهم عالم واحتملت رءوسهم إلى سدّة السلطان، رءوسهم إلى سدّة السلطان، فرميت في حفائر البلد المحصور إرهابا لهم وتخذيلا، ولما عقد السلطان لأخيه أبي يحيى على بلاد الشرق وسرّحه لتدويخ التخوم، نازل راشد بمعقله من بني بو سعيد، فبيت راشد معسكرهم إحدى لياليه، فانفضّوا وقتل طائفة من بني مرين. ووجد السلطان لها فأمر بقتل عليّ وحمّو ابني عمه يحيى، ومن كان معتقلا معهما من قومهما. ورفعوا على الجذوع وأثبتوهم بالسهام، ونزل راشد بعدها عن معقلة ولحق بمتيجة، وانحاش إليه منيف بن ثابت، وأوشاب من مغراوة وتحيّز الآخرون إلى أميرهم محمد بن عمر بن منديل الّذي عقد له السلطان(7/294)
عليهم. ثم تأشّبت على راشد ومنيف خوارج الثعالبة ومليكش، وصمد إليهم الأمير ابو يحيى في عساكره ثانية، ونازلهم بمعاقلهم ورغبوا في السلم، فبذله السلطان لهم، وأجاز منيف بن ثابت إلى الأندلس فيمن إليه من بنيه وعشيرة، فاستقرّوا بها آخر الأيام. ولحق راشد ببلاد الموحّدين ووفد محمد بن منديل سنة خمس وسبعمائة على السلطان، فأوسعه حبّا وتكريما. وتمهّدت بلاد مغراوة واستبدّ بملكها السلطان، وصرف إليها العمّال، ولم يزل كذلك إلى أن هلك سنة ست وسبعمائة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن افتتاح بلاد توجين وما تخلل ذلك)
لما نازل يوسف بن يعقوب تلمسان وأحاط بها، وتغلّب على بني عبد الواد، وسما إلى تملك بلاد توجين. وكان عثمان بن يغمراسن قد غلبهم على مواطنهم، وملك جبل وانشريش وتصرّف في بني عبد القوي بالولاية والعزل وأخذ الإتاوة سنة إحدى وسبعمائة، وأوعز إليه السلطان ببناء البطحاء التي هدمها محمد بن عبد القويّ، فبناها وتوغّل في قاصية المشرق، ثم انكفأ راجعا إلى حضرة أخيه وعطف على بلاد بني توجين سنة اثنتين وسبعمائة وفرّ بنو عبد القوي إلى ضواحيهم بالقفر، ودخل إلى جبل وانشريش وهدم حصونهم به، ورجع إلى الحضرة. ثم بادر أهل تافركينت سنة ثلاث وسبعمائة بإيتاء طاعتهم [1] . وانتقضوا طاعتهم بعدها. ثم بعث أهل المرية بطاعتهم السلطان، فتقبّلها وأوعز ببناء قصبتها. وراجع بنو عبد القوي بعد ذلك بصائرهم فدخلوا في طاعة السلطان، ووفدوا عليه بمكانه من المنصورة مدينته المحيطة على تلمسان سنة ثلاث وسبعمائة فتقبّل طاعتهم ورعى سابقتهم، وأعادهم إلى بلادهم وأقطعهم، وولّى عليهم عليّ بن الناصر بن عبد القوي، وأوعز ببناء قصبة المريّة سنة أربع وكملت سنة خمس وسبعمائة وهلك عليّ بن الناصر خلال ذلك، فعقد عليهم لمحمد بن عطية الأصمّ كما ذكرناه. فاستمرّ على الطاعة، ثم انتقض سنة ست وسبعمائة وحمل قومه على الخلاف، وانتبذوا عن الوطن إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما نذكره إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بإتيان الطاعة.(7/295)
(الخبر عن مراسلة الموحدين ملوك افريقية بتونس وبجاية لزناتة وأحوالهم معهم)
كان لبني أبي حفص ملوك إفريقية مع زناتة هؤلاء أهل المغرب من بني مرين وبني عبد الواد سوابق مذكورة، فكان لهم على يغمراسن وبنيه طاعة معروفة يؤدّون بيعتها ويخطبون على منابرهم بدعوتها مذ تغلّب الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد على تلمسان. وعقده عليها ليغمراسن، واستمرّ حالهم على ذلك. وكانت لهم أيضا مع بني مرين ولاية وسابقة بما كان بنو مرين مذ أول أمرهم يخاطبون الأمير أبا زكريا، ويبعثون له بيعة البلاد التي يتغلّبون عليها، مثل مكناسة والقصر ومراكش آخرا. ثم صارت مخالصته من لدن عهد المستنصر ويعقوب بن عبد الحق. وكانوا يتحفونهم بالمال والهدايا في سبيل المدد على صاحب مراكش، وقد ذكرنا السفارة التي وقعت بينهما سنة خمس وستين وستمائة وأن يعقوب أوفد عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز ومحمد الكناني، وأوفد عليه المستنصر سنة سبع وستين وستمائة بعدها كبير الموحّدين يحيى بن صالح الهنتاتي في وفد من مشيخة الموحّدين، ومعهم هدية سنيّة. ثم أوفد الواثق ابنه سنة تسع وسبعين قاضي بجاية المذكور أبا العبّاس أحمد الغماري، وأسنى الهديّة معه. ولم يزل الشأن بينهم هذا إلى أن افترق أمر آل أبي حفص. وطار الأمير أبو زكريا بابن الأمير أبي إسحاق بن يحيى بن عبد الواحد من عشه بتلمسان في وكر عثمان بن يغمراسن، وأسف إلى بجاية فاستولى عليها سنة ثلاث وثمانين وستمائة، واستضاف إليها قسنطينة وبونة، وصيّرهما عملا لملكه، ونصب لهما كرسيا لأمره، وأسف عثمان بن يغمراسن لفراره من بلده لما كان عليه من التمسّك بدعوة عمّه أبي حفص صاحب تونس، فشقّ ذلك عليه ونكره، واستمرّت الحال على ذلك. ولما نزل السلطان يوسف بن يعقوب بمخنق تلمسان وأرسى قواعد ملكه بساحتها، وسرّح عساكره لالتهام الأمصار والجهات، وتوجّس الموحّدون الخيفة منه على أوطانهم.
وكان الأمير أبو زكريا في جهات تدلس محاميا عن حوزته وعمله. ووصله هنالك راشد بن محمد نازعا عن السلطان أبي يعقوب. ثم طلعت العساكر على تلك الجهات في اتباعه، فزحف إليه عسكر الموحّدين سنة تسع وتسعين وستمائة بناحية(7/296)
جبل الزاب، ففضّوا جمعه وأوقعوا به واستلحموا جنوده، واستمرّ القتل فيهم، وبقيت عظامهم ماثلة بمصارعهم سنين.
ورجع الأمير أبو زكريا إلى بجاية فانحصر بها وهلك على تفيئة ذلك على رأس المائة السابعة. وقارن ذلك مغاضبة بينه وبين أمير الزواودة لعهده عثمان بن سبّاع بن يحيى ابن دريد بن مسعود البلط، فوفد على السلطان أخريات إحدى وسبعمائة، ورغّبه في ملك بجاية. واستمدّه للسير إليها، فأوعز إلى أخيه الأمير أبي يحيى بمكانه من منازلة مغراوة ومليكش والثعالبة، بأن ينهض إلى أعمال الموحّدين. وسار عثمان بن سبّاع وقومه بين يدي العساكر يتقصّون الطريق إلى أن تجاوز الأمير أبو يحيى بعساكره بجاية، واحتل بتاكرارت من أوطان سدويكش من أعمال بجاية. وأطلّ على بلاد سدويكش وانكفأ راجعا، فأوطأ عساكره ساحة بجاية وبها الأمير خالد بن يحيى، وناشبهم القتال بعض أيام، جلا فيها أولياء السلطان أبي البقاء عن أنفسهم وسلطانهم. وأمر بروض السلطان المسمّى بالبديع فخرّبه، وكان من آنق الرياض وأحفلها. وقفل إلى مكانه من تدويخ البلاد، وأعرض عن أعمال الموحّدين. وكان صاحب تونس لذلك العهد محمد بن المستنصر الملقّب بأبي عصيدة بن يحيى الواثق، فأوفد على السلطان شيخ الموحدين بدولته محمد بن أكمازير عاقدا أسباب الولاية، ومحكما مذاهب الوصلة، ومقرّرا سوابق السلف. فوفد في مشيخة من قومه لشعبان سنة ثلاث وسبعمائة. وناغاه الأمير أبو البقاء خالد صاحب بجاية، وأوفد مشيخة من أهل دولته كذلك. وبرّ السلطان وفادتهم وأحسن منقلبهم.
ثم عاد ابن أكمازير سنة أربع وسبعمائة، ومعه شيخ الموحدين وصاحب السلطان أبو عبد الله بن يزريكن في وفد من عظماء الموحدين، وأوفد صاحب بجابة حاجبه أبا محمد الرخامي، وشيخ الموحّدين بدولته عيّاد بن سعيد بن عثيمن. ووفدوا جميعا على السلطان ثالث جمادى، فأحسن السلطان في تكرمتهم ما شاء، ووصلهم إلى نفسه بمساكن داره وأراهم أريكة [1] ملكه وأطافهم قصوره ورياضه بعد أن فرشت ونمّقت، فملأ قلوبهم جلالا وعظمة، ثم بعثهم إلى المغرب ليطوفوا على قصور الملك بفاس ومراكش، ويشاهدوا آثار سلفهم، وأوعز إلى عمّال المغرب بالاستبلاغ في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبهة.(7/297)
تكرمتهم واتحافهم، فانتهوا من ذلك إلى الغاية، وانقلبوا إلى حضرته آخر جمادى، وانصرفوا إلى ملكهم [1] بالحديث عن شأن رسالتهم وكرامة وفدهم.
ثم أعاد ملوكهم مراسلة السلطان سنة خمس وسبعمائة بعدها، فوفد أبو عبد الله بن أكمازير من تونس وعيّاد بن سعيد من بجاية. وأوفد السلطان على صاحب تونس مع رسوله صاحب الفتيا بحضرته الفقيه أبا الحسن التونسي [2] وعليّ بن يحيى البركشي رسولين يسألان المدد بأسطوله، فقضوا رسالتهم وانقلبوا سنة خمس وسبعمائة. ووصل بخبرها أبو عبد الله المزدوري من مشيخة الموحدين، واقترن بذلك وصول حسّون بن محمد بن حسّون المكناسي من صنائع السلطان، كما أوفده مع ابن عثيمن على مراسلة الأمير أبي البقاء خالد صاحب بجاية في طلب الأسطول أيضا، فرجعوه بالمعاذير.
وأوفدوا معه عبد الله بن عبد الحق بن سليمان فتلقّاهم السلطان بالمبرّة، وأوعز إلى عامله بوهران أن يستبلغ في تكريم عمرة الأسطول، فجرى في ذلك على مذهبه وانقلبوا جميعا أحسن منقلب. وغنى السلطان عن أسطولهم لفوات وقت الحاجة إليه من منازلة بلاد السواحل إذ كان قد تملّكها أيام مما طلتهم ببيعته. واتصل الخبر بصاحب تلمسان الأمير أبي زيان بن عثمان المبايع أيام الحصار عند مهلك أبيه عثمان بن يغمراسن آخر سنة ثلاث وسبعمائة فبلغه صنيع الموحدين في موالاة عدوه السلطان يوسف بن يعقوب ومظاهرته بأساطيلهم عليه، فأسفهم ذلك وأخرسوا منابرهم عما كانت تنطق به من الدعاء من عهد يغمراسن، فلم يراجعوا دعوتهم من بعد، وهلك السلطان على نفيئة ذلك، والبقاء للَّه وحده.
الخبر عن مراسلة ملوك المشرق الأقصى ومهاداتهم ووقادة أمراء الترك على السلطان وما تخلل ذلك
لما استولى السلطان على المغرب الأوسط بممالكه وأعماله، وهنأته ملوك الأقطار وأعراب الضواحي والقفار، وصلحت السابلة ومشت الرفاق إلى الآفاق، واستجد أهل المغرب عزما في قضاء فرضهم، ورغبوا من السلطان إذنه لركب الحاج في السفر إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملوكهم.
[2] وفي نسخة ثانية: التنسي.(7/298)
مكة، فقد كان عهدهم بمثلها الفساد السابلة واستهجان الدول. فبينما السلطان في ذلك آمل إذ داخله لحرم الله وروضة نبيّه صلى الله عليه وسلّم شوق، فأمر بانتساخ مصحف رائق الصنعة، كتبه ونمقه أحمد بن الحسن الكاتب المحسن، واستوسع في جرمه وعمل غشاءه من بديع الصنعة، واستكثر فيه من معالق الذهب المنظّم بخرزات الدرّ والياقوت، وجعلت منها حصاة وسط المعلق تفوق الحصيات مقدارا وشكلا وحسنا، واستكثر من الأصونة عليه ووقفه على الحرم الشريف، وبعث به مع الحاج سنة ثلاث وسبعمائة وعني بشأن هذا الركب، فسرّح معهم حامية من زناتة تناهز خمسمائة من الأبطال، وقلّد القضاء عليهم محمد بن رغبوش من أعلام أهل المغرب، وخاطب صاحب الديار المصريّة واستوصاه بحاج المغرب من أهل مملكته، وأتحفه بهدية من طرف بلاده استكثر فيها من الخيل العراب والمطايا الفارهة، يقال إنّ المطايا كانت منها أربعمائة حدّثني بذلك من لقيته إلى ما يناسب ذلك من طرف المغرب وما عونه. ونهج بها السبيل للحاج من أهل المغرب، فأجمعوا الحج سنة أربع سبعمائة بعدها وعقد السلطان على دلالتهم لأبي زيد الغفاريّ، وفصلوا من تلمسان لشهر ربيع الأوّل.
وفي شهر ربيع الآخر بعده كان مقدم الحاج الأولين حملة المصحف ووفد معهم على السلطان الشريف لبيدة بن أبي نمي نازعا عن سلطان الترك لما كان تقبض على أخويه حميضة ورميثة اثر مهلك أبيهم أبي نمي صاحب مكة سنة إحدى وسبعمائة، فاستبلغ السلطان في تكريمه وسرّحه إلى المغرب ليجول في أقطاره، ويطوف على معالم الملك وقصوره، وأوعز إلى العمّال بتكريمه واتحافه على شاكلته. ورجع إلى حضرة السلطان سنة خمس وسبعمائة وفصل منها إلى المشرق، وصحبه من أعلام المغرب أبو عبد الله موري [1] حاجا، ولشعبان من سنة خمس وسبعمائة وصل أبو زيد الغفاريّ دليل ركب الحاج الآخرين، ومعه بيعة الشرفاء أهل مكّة للسلطان، لما اسفهم صاحب مصر بالتقبّض على إخوانهم، وكان شأنهم ذلك متى غاظهم السلطان. فقد سبق في أخبار المستنصر بن أبي حفص مثلها، وأهدوا إلى السلطان ثوبا من كسوة البيت شغف به، واتخذ منه ثوبا للباسه في الجمع والأعياد يستبطنه بين ثيابه تبركا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبو عبد الله فوزي.(7/299)
به، ولما وصلت هدية السلطان إلى صاحب مصر لعهده الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي حسن موقعها لديه، وذهب إلى المكافأة، فجمع من طرف بلاده من الثياب والحيوان ما يستغرب جنسه وشكله، من نوع الفيل والزرافة، وأوفد بها من عظماء دولته الأمير اليليلي [1] وفصل من القاهرة أخريات سنة خمس وسبعمائة ووصلت إلى تونس في ربيع من سنة ست وسبعمائة بعدها. ثم كان وصولها إلى سدّة السلطان بالمنصورة من البلد الجديد في جمادى الآخرة، واهتز السلطان لقدومها وأركب الناس إلى لقائها، واحتفل للقاء هذا الأمير اليليلي ومن معه من أمراء الترك، وبرّ وفادتهم، واستبلغ في تكريمهم نزلا وقرى، وبعثهم إلى المغرب على العادة في مبرّة أمثالهم، وهلك السلطان خلال ذلك وتقبّل أبو ثابت سنة من بعده في تكريمهم، فأحسن منقلبهم وملاء حقائبهم صلة، وفصلوا من المغرب لذي الحجة سنة سبع وسبعمائة ولما انتهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة ثمان وسبعمائة اعترضهم الأعراب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إلى مصر بجريعة الزمن [2] . فلم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا ولا لفتوا إليه وجها. وطالما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له، ويهادونهم ويكافئون ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا، وكان الناس لعهدهم ذلك يتهمون أنّ الذين نهبوهم أعراب حصين بدسيسة من صاحب تلمسان أبي حمو لعهدهم، منافسة لصاحب المغرب لما بينهم من العداوات والإحن القديمة.
(أخبرني) شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلّي قال: حضرت بين يدي السلطان وقد وصله بعض الحاج من أهل بلده مستصحبا كتاب الملك الناصر بالعتاب عن شأن هؤلاء الأمراء، وما أصابهم في طريقهم من بلاده، وأهدى له مع ذلك كوبين من دهن البلسان المختص ببلدهم، وخمسة مماليك من الترك رماة بخمسة أقواس من قسي الغزّ المؤنّقة الصنعة من العرى والعقب، فاستقل السلطان هديته تلك بالنسبة إلى ما أهدوا إلى ملك المغرب، ثم استدعى القاضي محمد بن هدية، وكان يكتب عنه فقال له: اكتب الآن إلى الملك الناصر كما أقول لك، ولا تحرّف كلمة عن موضعها إلّا ما تقتضيه صناعة الإعراب، وقل له: أمّا عتابك عن شأن الرسل وما أصابهم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: التليلي.
[2] وفي نسخة اخرى: بجريعة الذقن.(7/300)
في طريقهم فقد حضروا عندي وأبنت لهم الاستعجال حذرا مما أصابهم، وأريتهم مخاوف بلادنا وما فيها من غوائل الأعراب، فكان جوابهم أنّا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف مغترّين بشأنهم يحسبون أنّ أمره نافذ في أعراب فلاتنا [1] . وأمّا الهدية فتردّ عليك، أمّا دهن البلسان فنحن قوم بادية لا نعرف إلّا الزيت وحسبنا به دهنا. وأمّا المماليك الرماة فقد افتتحنا بهم إشبيلية وصرفناهم إليك لتستفتح بهم بغداد والسلام. قال لي شيخنا وكان الناس إذ ذاك لا يشكّون أنّ انتهابهم كان باذن منه.
وكان هذا الكتاب دليلا على ما في نفسه. وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون.
الخبر عن انتقاض ابن الأحمر واستيلاء الرئيس سعيد على سبتة وخروج عثمان بن العلاء في غمارة
لما أحكم السلطان عقد المهادنة والولاية مع السلطان ابن الأحمر المعروف بالفقيه، عند إجازته إليه بطنجة سنة اثنتين وتسعين وستمائة كما ذكرناه، وفرغ لعدوّه تمسّك ابن الأحمر بولايته تلك إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة في شهر شعبان منه. وقام بالأمر الأندلسي من بعده ابنه محمد المعروف بالمخلوع. واستبدّ عليه كاتبه أبو عبد الله بن الحكيم من مشايخ رندة، كان اصطفاه لكتابته أيام أبيه. فاضطلع بأموره وغلب عليه. وكان هذا السلطان المخلوع ضرير البصر ويقال إنه ابن الحكيم، فغلب عليه واستبدّ إلى أن قتلهما أخوه أبو الجيوش نصر سنة ثمان وسبعمائة كما نذكره، وكان من أوّل آرائه عند استيلائه على الأمر من بعد أبيه المبادرة إلى إحكام ولاية السلطان، واتصال يده بيده، فأوفد إليه لحين ولايته وزير أبيه السلطان أبي عزيز الداني، ووزيره الكاتب أبا عبد الله بن الحكيم، فوصلا الى [2] السلطان بمعسكره من حصار تلمسان وتلقّاهما بالقبول والمبرّة، وجدّدت له أحكام الودّ والولاية، وانقلبا إلى مرسلهما خير منقلب. وتقدّم السلطان إليهم في المدد برجل الأندلس وناشبتهم المعوّدين منازلة الحصون والمناغرة بالرباط، فتبادروا إلى إسعافه، وبعثوا حصّتهم لحين مرجعهم إلى سلطانهم، فوصلت سنة اثنتين وسبعمائة. وكانت لهم نكاية في العدو وأثر
__________
[1] وفي نسخة اخرى: في أعراب قبائلنا.
[2] وفي نسخة ثانية: فوفدوا على السلطان.(7/301)
البلد المخروب. ثم بدا لمحمد بن الأحمر المخلوع في ولاية السلطان لمنافسات جرت إلى ذلك. وبعث إلى أدفونش هراندة بن شانجة، وأحكم له عقد السلم ولاطفة في الولاية، فانعقد ذلك بينهما سنة ثلاث وسبعمائة واتصل خبره بالسلطان فسخطه ورجّع إليه حصتهم آخر سنة ثلاث وسبعمائة، واتصل خبره بالسلطان لسنة من مقدمهم بعد أن أبلوا وأثخنوا، وطوى لهم على النث واعتمل ابن الأحمر وشيعته في الاستعداد لمدافعة السلطان والارصاد لسطوته بهم. وأوعز إلى صاحب مالقة ابن عمّه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن محمد بن نصر، وليه من دون القرابة بما كان له من الصهر على أخته، والمضطلع له بثغر الغربيّة، فأوعز إليه بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان والقبض على ابن العزفي، والرجوع إلى ولاية ابن الأحمر. وكان أهل سبتة منذ هلك إبراهيم الفقيه أبو القاسم العزفي سنة سبع وسبعين وستمائة قام بأمرهم ولده أبو حاتم. وكان أبو طالب رديفا له في الأمر إلا أنه استبدّ عليه بصاغيته إلى الرئاسة، وإيثار أبي حاتم للخمول مع إيجابه حق أخيه الأكبر، واجابته الداعي من دون دفع [1] إليه فاستقام أمرهما مدّة. وكان من سياستهما من أوّل أمرهما، الأخذ بدعوة السلطان فيما لنظرهما، والعمل بطاعته والتجافي عن السكني بقصور الملك والتحرّج من أبّهة السلطان لمكانهم، فأنزلوا بالقصبة عبد الله بن مخلص قائدا من البيوتات اصطنعوه وجعلوا إليه أحكام البلد، وضبط الحامية له فاضطلع بذلك سنين. ثم أسفه يحيى بن أبي طالب ببعض النزغات الرئاسيّة وحجر عليه الأحكام في ذويه. ثم أغرى به أباه وطالبه، بحساب الخرج لعطاء الحامية وغفلوا عما وراءها من التظنن فيه والريبة به ثقة بمكانه واستنامة إليه. وهم مع ذلك على أوّلهم في موالاة السلطان والأخذ بدعوته والوفود عليه في أوقاته. ولما فسدت ولاية ابن الأحمر للسلطان وعقد على محاولة سبتة وجدّ السبيل إلى ذلك بما طوى صاحب الأحكام بالقصبة على النثّ، فداخله الرئيس أبو سعيد صاحب الثغر بمالقة جاره بسبتة، ووعده الغدر ببني العزفي وأن يصحبهم في أساطيله، فشرّع الرئيس أبو سعيد في إنشاء الأساطيل البحرية، واستنفار الناس للمثاغرة، وأنّ العدو لمالقة بالمرصاد، وشحنها بالفرسان والرجل والناشبة والأقوات، وأخفى وجه قصده عن الناس، حتى إذا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: متى روفع إليه.(7/302)
افلعت أساطيله بيّت سبتة لسبع وعشرين من شوّال سنة خمس وسبعمائة وأرسى بساحتها الموعد صاحب القصبة، فأدخله إلى حصنه فملكه، ونشر راياته بأسوارها، وسرّب جيوشه إلى البلد فتسايلوا وركب إلى دور بني العزفي فتقبّض عليهم، وعلى والدهم وحاشيتهم. وطيّر الخبر إلى السلطان بغرناطة، فوصل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم، ونادى في الناس بالأمان، وبسط المعدلة، وأركب ابن العزفي السفن إلى مالقة. ثم أجازوا غرناطة وقدموا على ابن الأحمر، فأجل قدومهم وأركب الناس إلى لقائهم، وجلس لهم جلوسا فخما حتى أدّوا بيعتهم وقضوا وفادتهم، وأنزلوا بالقصور وأجريت عليهم سنية الأرزاق. واستقروا بالأندلس إلى أن صاروا بعد إلى المغرب كما نذكر واستبدّ الرئيس أبو سعيد بأمر سبتة وثقف أطرافها وسدّ ثغورها، وأقام دعوة ابن عمه صاحب الأندلس بأنحائها. وكان عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص الملك المريني أجاز معه البحر إليها أميرا على الغزاة بمالقة، وقائدا لعصبتهم تحت لوائه. فموّه بنصبه للملك بالمغرب. وخاطب قبائل غمارة في ذلك، فوقفوا بين الإقدام والإحجام واتصل ذلك كله بالسلطان وهو بمعسكره من حصار تلمسان، فاستشاط لها غيظا وحمي أنفه نفرة، واستنفره الصريخ، فبعث ابنه الأمير أبا سالم لسدّ تلك الفرجة، وجمع إليه العساكر وتقدّم إليه باحتشاد قبائل الريف وبلاد تازى، فأغذّ السير إليها وأحاطت عساكره بها، فحاصرها مدّة. ثم بيته عثمان بن أبي العلاء فاختلّ معسكره، وأفرج عنها منهزما، فسخطه السلطان وذوى عنه وجه رضاه، وسار عثمان بن أبي العلاء في نواحي سبتة، وبلاد غمارة، وتغلّب على تكيساس، وانتهى إلى قصر ابن عبد الكريم في آخر سنة ست وسبعمائة لسنة من استيلائهم على سبتة، مقيما رسم السلطان مناديا بالدعاء لنفسه، فاعتزم السلطان على النهوض إليه من أمر تلمسان، لما كانت على شفا هلكة ومحا بينة انفضاض، لولا عوائق الأقدار بمهلكه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض بني كمي من بني عبد الواد وخروجهم بأرض السوس)
كان هؤلاء الرهط من بني عبد الواد من بطون بني علي من شعب أبي القاسم،(7/303)
وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كندوز بن [1] بن كمي ولما استقل زيان برياسة أولاد علي بن ثابت بن محمد من أولاد طاع الله، ونفس عليه كنذوز هذا ما آتاه الله من الرئاسة، وجاذبه حبلها، واحتقر زيّان شأنه فلم يحفل به. ثم تأشب عليه أخلاط من قومه وواضعه الحرب [2] . وهلك زيّان بيد كندوز، وقام بأمر أولاد علي جابر بن يوسف بن محمد. ثم تناقلت الرئاسة فيهم إلى أن عادت لولد ثابت بن محمد، واستقل بها أبو عزة زكراز [3] بن زيّان ولم تطل أيامه. والتحم بين أولاد كمي وبين أولاد طاع الله، وتناسوا الإحن، وصارت رياسة طاع الله لولد يغمراسن بن زيّان، واستتبعوا قبائل عبد الواد كافة، واعتمل يغمراسن في الثأر بأبيه زيّان من قاتله كندوز، فاغتاله ببيته، دعاه لمأدبة جميع لها بني أبيه، حتى إذا اطمأنّ المجلس تعاوروه بأسيافهم واحتزّوا رأسه، وبعثوا به إلى أمّهم، فنصبت عليه القدر ثالث أثافيها تشفّيا منه وحفيظة. وطالب يغمراسن بقيّة بني كندوز ففرّوا أمام مطالبته، وأبعدوا المذهب ولحقوا بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، فأقاموا بسدّته أحوالا، وكانوا يرجعون في رياستهم لعبد الله بن كندوز، ثم تذكروا عهد البداوة وحنّوا إلى عشير زناتة، فراجعوا المغرب ولحقوا ببني مرين أقتالهم. ونزل عبد الله بن كندوز على يعقوب بن عبد الحق خير نزل، فلقاه من البرّ والترحيب بما ملأ صدره وأكد اغتباطه، وأقطعه بناحية مراكش الكفاية له ولقومه، وأنزلهم هنالك. وجعل انتجاع إبله وراحلته لحسّان بن أبي سعيد الصبيحي وأخيه موسى من ذويهم وحاشيتهم، وألطف منزلة عبد الله ورفع مكانه بمجلسه، واكتفى به في كثير من أموره، وأوفده على المستنصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين وستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدّمناه. واستقرّ بنو كندوز هؤلاء بالمغرب الأقصى، واستمرّت الأيام على ذلك، وصاروا من جملة قبائل بني مرين وفي عدادهم.
وهلك عبد الله بن كندوز وصارت رياستهم لعمر ابنه من بعده.
ولما لفت السلطان يوسف بن يعقوب عزائمه إلى بني عبد الواد ونازل تلمسان، وطاول حصارها، واستطال بنو مرين وذووهم على بني عبد الواد، وأحسّوا بهم أخذتهم
__________
[1] بياض بالأصل ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا اي ذكر لوالد كندوز هذا.
[2] وفي نسخة ثانية: ناشب عليه اخلاط من قومهم، وواضعهم الحرب.
[3] وفي نسخة ثانية: زكدان.(7/304)
العزّة بالإثم، وأدركتهم النعرة، فأجمع بنو كندوز هؤلاء الخلاف والخروج على السلطان ولحقوا بحاجة سنة ثلاث وسبعمائة. واحتفل الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب لغزوهم سنة أربع وسبعمائة، فناجزوه الحرب بتادرت، واستمروا على خلافهم. ثم قاتلهم يعيش وعساكره ثانية بتامطريت سنة أربع وسبعمائة فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصّت جناحهم وأوهت من رياستهم [1] . وقتل جماعة من بني عبد الواد بأزعار وتاكما [2] ، وأثخن يعيش بن يعقوب في بلاد السوس، وهدم تارودانت قاعدة أرضها وأمّ قراها، كان بها عبد الرحمن بن الحسن بن يدّر من بقية الأمراء على السوس من قبل بني عبد المؤمن، وقد مرّ ذكرهم. وكانت بينه وبين عرب المعقل من الشبانات وبني حسّان منذ انقرضت دولة الموحّدين حرب سجال هلك في بعضها عمه عليّ بن يدّر سنة ثمان وستين وستمائة وصارت إمارته بعد حين إلى عبد الرحمن هذا، ولم يزالوا في حربه إلى أن تملّك السوس يعيش بن يعقوب، وهدم تارودانت قاعدة أرضها. ثم راجع عبد الرحمن أمره وبنى بلده تارودانت هذه سنة ست بعدها. ويزعم بنو يدر هؤلاء أنهم مستقرّون بذلك القصر من لدن عهد الطوالع من العرب، وأنهم لم يزالوا أمراء به تعقد لهم ولايته كابرا عن كابر، ولقد أدركت على عهد السلطان أبي عنّان وأخيه أبي سالم من بعده شيخا كبيرا من ولد عبد الرحمن، فحدّثني بمثل ذلك، وأنهم من ولد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، والله أعلم. ولم يزل بنو كندوز مشرّدين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان، وراجعوا طاعة الملوك من بني مرين من بعده وعفوا لهم عما سلف من هذه الجريمة، وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة إلى هذا العهد كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك المشيخة من المصامدة بتلبيس أبي الملياني)
قد ذكرنا شأن أبي علي الملياني وأوليته في أخبار مغراوة الثانية، وما كان من ثورته
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأوهنت بأسهم
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: بارعارن بامكا.(7/305)
بمليانة وانتزائه عليها. ثم إزعاج العسكر إيّاه منها ولحاقه بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وما أحلّه من مراتب التكرمة والمبرّة. وأقطعه بلد أغمات طعمة، فاستقرّ بها، وما كان منه في العبث بأشلاء الموحّدين ونبش أجداثهم، وموجدة السلطان والناس عليه لذلك. وأرصد له المصامدة الغوائل لما كان منه في ذلك، ولمّا هلك يعقوب بن عبد الحق استعمله يوسف بن يعقوب على جباية المصامدة، فلم يضطلع بها وسعى به مشيختهم عند السلطان أنه احتجز المال لنفسه، وحاسبوه فصدقوه السعاية، فاعتقله السلطان وأقصاه، وهلك سنة ست وثمانين وستمائة واصطنع السلطان أحمد ابن أخيه واستعمله في كتابته، وأقام على ذلك ببابه وفي جملته.
وكان السلطان سخط على مشيخة المصامدة عليّ بن محمد كبير هنتاتة، وعبد الكريم بن عيسى كبير كدميوة، وأوعز إلى ابنه الأمير علي بمراكش باعتقالهما، فاعتقلهما فيمن لهما من الولد والجاشية. وأحسن بذلك أحمد بن الملياني فاستعجل الثأر. وكانت العلامة السلطانية على الكتاب في الدولة لم تختص بكاتب واحد، بل كل منهم يضع العلامة بخطّه على كتابه إذا أكمله، لما كانوا كلّهم ثقاتا أمناء، وكانوا عند السلطان كأسنان المشط. فكتب أحمد بن الملياني إلى ابن السلطان الأمير بمراكش سنة سبع وتسعين وستمائة كتابا عن أمر أبيه، يأمره فيه بقتل مشيخة المصامدة ولا يمهلهم طرفة عين. ووضع عليها العلامة التي تنفّذ بها الأوامر، وختم الكتاب. وبعث به مع البريد ونجا بنفسه إلى البلد الجديد. وعجب الناس بشأنه. ولما وصل الكتاب إلى ابن السلطان بمراكش أخرج أولئك الرهط المعتقلين من المصامدة إلى مصارعهم، وقتل علي بن محمد وولده، وعبد الكريم بن عيسى وولده عيسى، وعلي ومنصور وابن أخيه عبد العزيز. وطيّر الأمير وزيره إلى أبيه بالخبر فقتله لحينه حنقا عليه، وأنفذ البريد باعتقال ابنه، وجرّد على ابن الملياني ففقد ولحق بتلمسان.
ونزل على آل زيّان. ثم لحق من بعدها بالأندلس عند إفراج السلطان عنها في تلك السنة كما ذكرناه. وبها هلك. واقتصر السلطان من يومئذ في علامته على من يختاره من صنائعه ويثق بأمانته. وجعلها لذلك العهد لعبد الله بن أبي مدين خالصته المضطلع بأمور مملكته، فاختصّت من بعده لهذا العهد، والله تعالى أعلم
.(7/306)
(الخبر عن رياسة اليهود بني رقاصة ومقتلهم)
كان السلطان يعقوب [1] في صباه مؤثرا للذاته ومستترا بها عن أبيه يعقوب بن عبد الحق لمكانه من الدين والوقار. وكان يشرب الخمر ويعاقر بها الندمان. وكان خليفة بن رقاصة من اليهود المعاهدين بفاس قهرمانا لداره على عادة الأمراء في مثله من المعاهدين، فكان يزدلف إليه بوجوه الخدم ومذاهبها، فاستعمله هذا الأمير في اعتصارها والقيام على شئونها، فكانت له بذلك خلوة منه أوجبت له الحظّ عنده، حتى إذا هلك يعقوب بن عبد الحق واستقلّ ابنه يوسف بأعباء ملكه، واتصلت خلواته في معاقرة الندمان، وانفرد ابن وقاصة بخلوته ذلك مع ما كان من القهرمة، عظمت رياسته وعلا كعبه في الدولة. وتلقى الخاصة الأوامر منه، فصار له الوجه بينهم وعظم قدره بعظم الدولة.
(أخبرني) شيخي الأبلّي قال: وكان لخليفة هذا أخ يسمى إبراهيم، وابن عم يسمى خليفة، لقّبوه بالصغيرة لمكانه هو من هذا الاسم. وكان له صهر يعرفون ببني السبتي، كبيرهم موسى، وكان رديفه في قهرمته، فلم يفق السلطان من نشوة صباه وملهاه حتى وجدهم على حال استتبعوا فيها العلية من القبيل والوزراء والشرفاء والعلماء. وأوجده السبيل عليهم، فسطا بهم سطوة واحدة واعتقلوا في شعبان من سنة إحدى وسبعمائة بمعسكره من حصار تلمسان. وقتل خليفة الكبير وأخوه إبراهيم وموسى بن السبتي وإخوته بعد أن امتحنوا ومثّل بهم، وأتت النكبة على حاشيتهم وذويهم وأقاربهم، فلم تبق منهم باقية. واستبقى منهم خليفة الأصغر احتقارا لشأنه، حتى كان من قتله بعد ما نذكر، وعبث بسائرهم، وطهّرت الدولة من رجسهم، وأزيل منها معرّة رياستهم، والأمور بيد الله سبحانه.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي يعقوب)
كان في جملة السلطان وحاشيته مولى من العبيد الخصيان من موالي ابن الملياني يسمى
__________
[1] حسب مقتضى السياق السلطان يوسف.(7/307)
سعادة، صار إلى السلطان من لدن استعماله إيّاه بمراكش، وكان على ثبج من الجهل والغباوة. بمكان، وكان السلطان يخلط الخصيان بأهله ويكشف لهم الحجاب عن ذوات محارمه، ولما كانت واقعة العزّ مولاه، واتهم بمداخلة بعض الحرم، وقتل بالظنّة، واستراب السلطان بكثير من حاشيته الملابسين لداره، اعتقل جملة من الخصيان كان فيهم عنبر الكبير عريفهم. وحجب سائرهم فارتاعوا لذلك وسوّلت لهذا الخصيّ الخبيث نفسه الشيطانية الفتك بالسلطان، فعمد إليه وهو في بعض الحجر من قصره، وآذنه فأذن له فألفاه مستلقيا على فراشه مختضبا بالحنّاء، فوثب عليه وطعنه طعنات قطع بها أمعاءه وخرج هاربا. وانطلق بعض الأولياء في أثره، فأدرك من العشيّ بناحية تاسالة فتقبّض عليه، وسيق إلى القصر فقتله العبيد والحاشية. وصابر السلطان ميتته إلى آخر النهار، ثم قضى رحمه الله يوم الأربعاء سابع ذي القعدة من سنة ست وسبعمائة وقبر هنالك. ثم نقل بعد ما سكنت الهيعة إلى مقبرتهم بشالة، فدفن بها مع سلفه والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن ولاية السلطان أبي ثابت) واستلحامه المرشحين وما تخلل ذلك من الاحداث
كان الأمير أبو عامر ابن السلطان أبي يعقوب وولي عهده لما هلك طريدا ببلاد بني سعيد بغمارة والريف سنة ثمان وتسعين وستمائة كما ذكرنا، خلّف ولديه عامرا وسليمان في كفالة السلطان جدّهما، فكان لهما بعينه حلاوة وفي قلبه لوطة، لمكان حبه لأبيهما واغترابه عنه، فحدب عليهما وآثرهما من نفسه بمكان. وكان الأمير أبو ثابت عامر أصغر قومه، إقداما وشجاعة وجراءة، وكانت له في بني ورتاجن خؤلة. فلحين مهلك السلطان عرضوا له ودعوه للبيعة فبايعوه، وحضر لها الأمير أبو يحيى بن يعقوب عمّ أبيه، عز بمجتمعهم [1] اتفاقا، وحملوه على الطاعة، وكان أقرب للأمر منه لو حضره رجال، فأعطى القياد في المساعدة، وطوى على النث. وبادر الحاشية والوزراء بالبلد الجديد عند مهلك السلطان، فبايعوا ابنه الأمير أبا سالم. وكاد أمر بني
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عثر بمجمعهم.(7/308)
مرين أن يفترق وكلمتهم أن تفسد، فبعث الأمير أبو ثابت لحينه إلى تلمسان للأمير أبي زيان وأبي حمو ابني عثمان بن يغمراسن. وعقد لهما حلفا على الإفراج عنهم. ثم أمره أن يمدّه بالآلة ويرفعا له كسر البيت إن كان غير ما أمل. وحضر للعقد أبو حمو فأحكمه ومال أكثر بني مرين وأهل الحل والعقد إلى الأمير أبي ثابت. وتفرّد ببيعة أبي سالم البطانة والوزراء والحاشية والأجناد ومن إليهم، وكان بالبلد الجديد مسكنه، وأشاروا عليه بالمناجزة فخرج وقد عبّى كتائبه، فوقف وتهيّب [1] وخام عن اللقاء ووعدهم الإقدام بالغداة، وكرّ راجعا إلى قصره، فيئسوا منه، وتسلّلوا إذا إلى الأمير أبي ثابت، وهو بمرقب من الجبل مطل عليهم حتى إذا انحجر أبو سالم بالبلد، انحاش إليه الجملة دفعة واحدة. فلما استوفت القبائل والعساكر لديه، زحف إلى البلد الجديد مثوى السلطان وسياج قصوره ومختط عزمه، وانتهى إلى ساحتها مغتنما الفرصة. وخرج إليه أبو زيد [2] يخلف بن عمران الفودودي، فأرجل عن فرسه بأمر أبي يحيى، وقتل بين يديه قعصا بالرماح. وكان قريب عهد بالوزارة، استوزره السلطان قبيل مهلكه في شعبان من سنة ست وسبعمائة.
وفرّ أبو سالم إلى جهة المغرب وصحبه من عشيرة من أولاد رحّو بن عبد الله بن عبد الحق العبّاسي وعيسى وعلي ابنا رحّو وابن أخيهم جمال الدين بن موسى. وأتبعهم الأمير أبو ثابت شرذمة من عسكره أدركوهم بندرومة، فتقبّضوا عليهم ونفذ أمر السلطان بقتل أبي سالم وجمال الدين، واستبقى الآخرين. وأمر بإحراق باب البلد ليفتحها العسكر، فأطلّ عليهم قهرمان دارهم عبد الله بن أبي مدين الكاتب، وأخبره بفرار أبي سالم، وباتفاق الناس على طاعته. ورغب إليه في المسالمة ليلتهم حتى ينفجر الصباح خشية على دارهم من معرّة العساكر وهجومها ففعل. وأمره الأمير أبو يحيى باعتقال أبي الحجّاج بن اشقيلولة، فاعتقله لقديم من العداوة كانت بينهما، ثم أمر بقتله، وإنفاذ رأسه فقتل. وأمر السلطان ليلتئذ بإضرام النيران حتى إذا أضاء الظلام وبات راكبا، ودخل القصر لصبحه فوارى جده بعد أن صلّى عليه.
وغصّ بمكان الأمير أبي يحيى لما تعدّد فيه الترشيح وفاوض في شأنه كبير القرابة يومئذ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وبهت.
[2] وفي نسخة ثانية: الوزير.(7/309)
عبد الحق بن عثمان ابن الأمير أبي يفرن [1] ، محمد بن عبد الحق ومن حضره من الوزراء مثل إبراهيم بن عبد الجليل الونكاسي وإبراهيم بن عيسى اليرنياني وغيرهما من الخاصة، فأشاروا بقتله، ونميت عنه كلمات في معنى التربّص بالسلطان ودولته، وابتغاء العصابة لأمره. وركب الأمير أبو يحيى إلى القصر ثالث البيعة، فأخذ السلطان بيده ودخل معه إلى الحرم لعزائهنّ عن أخيه السلطان. ثم خرج على الخاصّة وتخلّف عنه السلطان وقد دسّ إلى عبد الحق بن عثمان أن يتقبّض عليه ففعل. ثم برز السلطان إليهم وهو موثق فأمر بالإجهاز عليه، ولم يمهله، وألحق به يومئذ وزيره عيسى بن موسى الفودودي، وفشا الخبر بمهلك هؤلاء الرهط، فرهب منه القرابة، وفرّ يعيش بن يعقوب أخو السلطان وابنه عثمان المعروف بأمّه قضينت [2] ومسعود بن الأمير أبي مالك، والعبّاس بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق ولحقوا جميعا بعثمان بن أبي العلاء بمكانه من غمارة، وخلا الجو من المرشحين، واستبدّ السلطان بملك قومه، وأمن غوائل المنازعين.
ولما تمّ له الأمر واستوسق أمر الملك، وفّى لبني عثمان بن يغمراسن بالإفراج عنهم، ونزل لهم عن جميع البلاد التي صارت إلى طاعته من بلاد المغرب الأوسط من أعمالهم، وأعمال بني توجين ومغراوة. ودعاه إلى بدار المغرب، ما كان من اختلال عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق بسبتة، ودعائه لنفسه بين يدي مهلك السلطان، وخروجه إلى بلاد غمارة، واستيلائه على قصر كتامة، فاعتزم على الرحلة إلى المغرب وفوّض الأمر في الرحلة بأهل المدينة الجديدة للوزير إبراهيم بن عبد السلام لما كانت حينئذ غاصّة بالساكن مستبحرة في الاعتمار، ممتلئة من الخرثيّ [3] والآلة، فأحسن السياسة في أمرهم وضرب لهم الآجال والمواعيد إلى أن استوقوا الرحلة، وتركوها قواء، خرّبها بنو عثمان بن يغمراسن عند رحلة بني مرين إلى المغرب، وتحيّنوا لذلك فترات الفتن، فطمسوا معالمها طمسا ونسفوها نسفا. وقدّم السلطان بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون [4] في العساكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبي معرّف.
[2] وفي نسخة ثانية: قضيب.
[3] وفي نسخة بولاق المصرية: من الخزائن.
[4] وفي نسخة بولاق المصرية: اتعجوب.(7/310)
والجنود، وعقد له على حرب ابن أبي العلاء. وتلوّم بالبلد الجديد لموافاة المسالح التي كانت بثغور المشرق، ولما نزل عنها جميعا لبني عثمان بن يغمراسن ارتحل غرّة ذي الحجة، ودخل فاس فاتح سبع وسبعمائة والله أعلم.
(الخبر عن انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش وتغلّب السلطان عليه)
لما فصل أبو ثابت عن معسكرهم بتلمسان إلى المغرب، قدّم بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون ابن السلطان أبي يوسف في العساكر والجنود، وعقد له على حرب عثمان بن أبي العلاء كما ذكرناه. وعقد على بلاد مراكش ونواحيها لابن عمه الآخر يوسف بن محمد بن أبي عيّاد بن عبد الحق، وعهد له بالنظر في أحوالها، فسار إليها واحتل بها. ثم حدّثته نفسه بالانتزاء، فقتل الوالي بمراكش، واستركب واستلحق، واتخذ الآلة، وجاهر بالخلعان. وتقبّض على والي البلد فقتله بالسوط في جمادى سنة سبع وسبعمائة، ودعا لنفسه. واتصل الخبر بالسلطان لأوّل قدومه، فسرّح إليه وزيره يوسف بن عيسى بن السعود الجشميّ، ويعقوب بن أصناك، في خمسة آلاف من عساكره، ودفعهم إلى حربه. وخرج في أثرهم بكتائبه. وبرز يوسف بن أبي عيّاد، وأجازوا أم الربيع فانهزم أمام الوزير وعساكره واتبعه الوزير ففرّ إلى أغمات. ثم فرّ إلى جبال هسكورة، ولحق به موسى بن سعيد الصبيحي من أغمات، تدلّى من سورها، ودخل الوزير يوسف إلى مراكش.
ثم خرج إثره ولحقه، فكانت بينهما جولة، وقتل منهم خلق، ولحق بهسكورة.
ودخل السلطان أبو ثابت مراكش منتصف رجب من سنة سبع وسبعمائة وأمر بقتل أوربة المداخلة كانوا له في انتزائه فاستلحموا. ولما لحق يوسف بن أبي عياد بجبال هسكورة، ونزل على مخلوف بن عبّو، وتذمّم بجواره، فلم يجره على السلطان.
وتقبّض عليه، واقتاده إلى مراكش مع ثمانية من أصحابه تولوا كبر ذلك الأمر، فقتلوا في مصرع واحد بعد أن مثّل بهم السلطان بالسياط. وبعث برأس يوسف إلى فاس، فنصب بسورها وأثخن القتل فيمن سواهم ممن داخله في الانتزاء، فاستلحم منهم أمم بمراكش وأغمات. وسخط خلال ذلك وزيره إبراهيم بن عبد الجليل(7/311)
فاعتقله واعتقل عشيرة من بني دولين ومن بني ونكاسن، وقتل الحسن بن دولين منهم، ثم عفا عنهم. وخرج منتصف شعبان إلى منازلة السكسيوي وتدويخ جهات مراكش، فتلقّاه السكسيوي بطاعته المعروفة. وأسنى الهديّة فتقبّل طاعته وخدمته.
ثم سرّح قائده يعقوب بن آصناد في اتباع زكنة حتى توغّل في بلاد السوس ففرّوا أمامه إلى الرمال. وانقطع أثرهم ورجع إلى معسكر السلطان. وانكفأ السلطان بعساكره إلى مراكش، فاحتل بها غرّة رمضان. ثم قفل إلى فاس بعد أن قتل جماعة من شيوخ بني ورا. وجعل طريقه في بلاد صنهاجة، وسار في بلاد تامسنا، وتلقّاه عرب جشم من قبائل الخلط وسفيان وبني جابر والعاصم، فاستصحبهم إلى آنفى وتقبّض على ستين من أشياخهم، فاستلحم منهم عشرين ممن نمي عنهم إفساد السابلة. ودخل رباط الفتح أخريات رمضان فقتل هنالك من الأعراب أمّة ممن يؤثر عنه الحرابة. ثم ارتحل منتصف شوّال الغز ورياح أهل آزغار والهبط. واثار بالإحن القديمة، فأثخن فيهم بالقتل والسبي وقفل إلى فاس، فاحتلّ بها منتصف ذي القعدة. وفجأه الخبر بهزيمة عبد الحق بن عثمان، واستلحام الروم من عساكره، ومهلك عبد الواحد الفودودي من رجالات دولته. وأن عثمان بن أبي العلاء قد استفحل أمره بجهات غمارة، فأجمع لغزوه، والله أعلم
(الخبر عن غزاة السلطان لمدافعة عثمان بن أبي العلاء ببلاد الهبط ومهلكه بطنجة بعد ظهوره)
لما ملك الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر سبتة سنة خمس وسبعمائة، وأقام بها الدعوة لابن عمّه المخلوع محمد بن محمد الفقيه ابن محمد الشيخ ابن يوسف بن نصر كما ذكرناه، وأجاز معه رئيس الغزاة المجاهدين بمحل إمارته من مالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص هذا البيت، كان مرشّحا للملك فيهم. واستقدمه معه ليفرّق به الكلمة في المغرب بفتنة الدولة مدافعة عن سبتة لما كان هاج السلطان قومه فأخذها [1] واستقام ملكها. وطمع
__________
[1] وفي نسخة بولاق المصرية: لما كانوا اهاجوا السلطان وقدمه بأخذها.(7/312)
عثمان في ملك المغرب بامدادهم ومظاهرتهم، وسوّلت له نفسه ذلك، فخرج من سبتة وولّى على جيش الغزاة بعده عمر ابن عمّه رحّو بن عبد الله. ونجم هو ببلاد غمارة، فدعا لنفسه وإجابته القبائل منهم. واحتلّ بحصن علودان من أمنع معاقلهم، وبايعوه على الموت. ثم نهض إلى أصيلا والعريش فغلب عليها. واتصل ذلك كلّه بالسلطان الهالك أبي يعقوب فلم يحركه استهانة بأمرهم. وبعث ابنه أبا سالم بالعساكر، فنازل سبتة أياما. ثم أقلع عنها. وبعث بعده أخاه يعيش بن يعقوب وأنزله طنجة، وجمّر معه الكتائب وجعلها ثغرا. وزحف إليه عثمان بن أبي العلاء فتأخّر عن طنجة إلى القصر. ثم اتبعه فخرج إليه أهل القصر فرسانا ورجالا ورماة مع يعيش، فوصلوا إلى وادي وراء، ثم انهزموا إلى البلد. ومات عمر بن ياسين، ونزل عثمان عليهم القصر يوما، ثم دخله من غده. ثم كان مهلك السلطان، وفرّ يعيش بن يعقوب خيفة من أبي ثابت، فلحق بعثمان بن أبي العلاء واستقام أمره بتلك الجهات برهة. وكان السلطان أبو ثابت لمّا احتل بالمغرب شغله ما كان من انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش كما قدّمناه، فعقد على حرب عثمان بن أبي العلاء مكان عمّه يعيش بن يعقوب لعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من رجال بيته، فزحف إليه. ونهض عثمان إلى لقائه منتصف ذي الحجّة سنة سبع وسبعمائة فهزمه واستلحم من كان معه من جند الروم. وهلك في تلك الوقعة عبد الواحد الفودودي من رجالات السلطان المرشّحين ردفاء الوزارة. وسار عثمان إلى قصر كتامة فنزله، واستولى على جهاته. وعلى تفيئة ذلك كان رجوع السلطان من غزاة مراكش وقد حسم الداء ومحا أثر النفاق، فاعتزم على الحركة إلى بلاد غمارة يمحو منها أثر دعوة ابن أبي العلاء التي كادت تلج عليه ممالكه بالمغرب، ويردّه على عقبه ويستخلص سبتة من يد ابن الأحمر لما صارت ركابا لمن يروم الانتزاء والخروج من القرابة والأعياص المستنفرين وراء البحر غزاة في سبيل الله، فنهض من فاس منتصف ذي الحجة من سنة سبع وسبعمائة ولما انتهى إلى قصر كتامة تلوم به ثلاثا حتى توافت عساكره وحشوده، وكمل اعتراضها وفرّ عثمان بن أبي العلاء أمامه، وارتحل السلطان في اتباعه فنازل حصن علودان واقتحمه عنوة. واستلحم به زهاء أربعمائة.
ثم نازل بلد الدمنة، واقتحمها وأثخن فيها قتلا وسبيا لتمسّكهم بطاعة ابن أبي العلاء ومظاهرتهم له. ثم كبس القصر واستباحة. ثم ارتحل إلى طنجة واحتلّ بها غرّة ثمان(7/313)
وسبعمائة وانحجر ابن أبي العلاء بسبتة مع أوليائه وسرّح السلطان عساكره، فتفرّقت نواحي سبتة بالاكتساح والغارة. وأمر باختطاط بلد تيطاوين لنزول معسكره والأخذ بمخنق سبتة. وأوفد كبير الفقهاء بمجلسه أبا يحيى بن أبي الصبر إليهم في شأن النزول عن البلد. وفي خلال ذلك اعتلّ السلطان فمرض وقضى أياما قلائل وهلك في ثامن صفر من سنته، ودفن بظاهر طنجة. ثم حمل شلوه بعد أيام إلى مدفن آبائه بشالة فووري هنالك. رحمة الله عليه وعليهم.
(الخبر عن دولة السلطان أبي الربيع وما كان فيها من الاحداث)
لما ملك السلطان أبو ثابت تصدّى للقيام بالأمر عمّه علي ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمّه رزيكة، وخلص الملأ من بني مرين أهل الحلّ والعقد إلى أخيه أبي الربيع فبايعوه. وتقبّض على عمه عليّ بن رزيكة المستام للإمرة، فاعتقله بطنجة إلى أن هلك بها سنة عشر وسبعمائة لجمادى. وبثّ العطاء في الناس وأجزل وارتحل نحو فاس. واتبعه عثمان بن أبي العلاء في جيش كثيف، وبيّته وقد نذر به العسكر فأيقظوا ليلتهم ووافاهم على الظهر بساحة علودان، فناجزهم الحرب. وكانت الدائرة على عثمان وقومه. وتقبّض على ولده وكثير من عساكره. وأثخن أولياء السلطان فيهم بالقتل والسبي، وكان الظهور الّذي لا كفاء له. ووصل أبو يحيى بن أبي الصبر إلى الأندلس، وقد أحكم عقدة الصلح. وقد كان ابن الأحمر جاء للقاء السلطان أبي ثابت، ووصل إلى الجزيرة الخضراء فأدركه خبر مهلكه، فتوقف عن الجواز، وأجاز ابن أبي الصبر بأحكام المؤاخاة. واجتاز عثمان بن أبي العلاء إلى العدوة فيمن معه من القرابة. فلحق بغرناطة. وأغذّ السلطان السير إلى حضرته، فدخل فاس آخر ربيع من سنة ثمان وسبعمائة واستقامت الأمور وتمهّد الملك، وعقد السلم مع صاحب تلمسان موسى بن عثمان بن يغمراسن، وأقام وادعا بحضرته. وكانت أيامه خير أيام، هدنة وسكونا وترفا لأهل الدولة. وفي أيامه تغالى الناس في أثمان العقار، فبلغت قيمتها فوق المعتاد. حتى لقد بيع كثير من الدور بفاس بألف دينار من الذهب العين.
وتنافس الناس في البناء فعالوا الصروح، واتخذوا القصور المشيّدة بالصخر والرخام(7/314)
وزخرفوها بالزليج والنقوش. وتناغوا في لبس الحرير وركوب الفاره. وأكل الطيب واقتناء الحلي من الذهب والفضة. واستبحر العمران، وظهرت الزينة والترف، والسلطان وادع بداره متملّى أريكته إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن مقتل عبد الله بن أبي مدين)
كان أبو شعيب بن مخلوف من بني أبي عثمان من قبائل كتامة المجاورين للقصر الكبير، وكان منتحلا للدين ومشتهرا به. ولما أجلب بنو مرين على المغرب وجالوا في بسائطه، وتغلّبوا على ضواحيه، صحب البرّ منهم البرّ والفاجر من أهله مثله. وكان بنو عبد الحق قد تحيّزوا لأبي شعيب هذا فيمن تحيّزوه للصحابة من أهل الدين، فكان إمام صلاتهم. وكان يعقوب بن عبد الحق أشدّهم صحابة له، وأوفاهم به ذماما فاتصل به حبله، واتصلت [1] صحابته، وعظم في الدولة قدره وانبسط بين الناس جاه ولده وأقاربه وحاشيته. وربى بنو شعيب هذا عبد الله ومحمد المعروف بالحاج، وأبو القاسم ومن بعدهم من إخوتهم بقصر كتامة في جو ذلك الجاه. وهلك السلطان يعقوب بن عبد الحق فاستخلصهم يوسف بن عبد الحق لخدمته، واستعملهم على مختصاته. ثم ترقى بهم في رتب خدمته وأخصّائه، درجة بعد أخرى إلى أن هلك أبوهم أبو مدين شعيب سنة سبع وتسعين وستمائة وكان المقدّم منهم عند السلطان عبد الله، فاربى [2] على ثنيات العزّ والوزارة والخلّة والولاية. وتقدّم لحظوته في مجلسه كل حظوة، واختصه بوضع علامته على الرسائل والأوامر الصادرة عنه، وجعل إليه حسبان الخراج والضرب على أيدي العمّال، وتنفيذ الأوامر بالقبض والبسط فيهم. واستخلصه لمناجاة الخلوات والإفضاء بذات الصدور، فوقف ببابه الإشراف من الخاصة والقبيل والقرابة والولد، وسوّدوه وخطبوا نائله. وكان عبد الله قد استعمل مع ذلك أخاه محمدا على جباية المصامدة بمراكش، وهنّأ أبا القاسم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: استمرت.
[2] وفي نسخة ثانية: فأوفى.(7/315)
الدعة بفاس، فأقام بها متمليا راحته عريضا جاهه، طاعما كاسيا، تتسرّب إليه أموال العمّال في سبيل الإتحاف، وتقف ببابه صدور الركائب إلى أن هلك السلطان أبو يوسف. ويقال إنّ له خائنة في دمه مع سعاية الملياني. ولما ولي من بعده أخوه أبو الربيع فتقبّل فيه مذاهب سلفه. وكان بنو وقاصة اليهود حين نكبوا، باشر نكبتهم لمكانه من إصدار الأوامر. ويزعمون أنّ له فيهم سعاية. وكان خليفة الأصغر منهم قد استبقى كما ذكرناه، فلما أفضى الأمر إلى السلطان أبي الربيع استعمل خليفة بداره في بعض المهن، وباشر [1] الخدم حتى اتصل بمباشرة السلطان، فجعل غايته السعاية بعبد الله بن أبي مدين. وكان يؤثر عن السلطان أبي الربيع بأنه لا تؤمن بوائقه مع حرم ذويه، وتعرف خليفة ذلك من مقالات الناس، فدسّ إلى السلطان أنّ عبد الله بن أبي مدين يعرض باتهام السلطان في ابنته، وأن صدره وغر بذلك، وأنه مترصد بالدولة. وكان يخشى العائلة بما كان عليه من مداخلة القبيل، ولما كان داعيته من دواعي آل يعقوب، فتعجّل السلطان دفع غائلته واستدعاه صبيحة زفاف ابنته، زعموا عن زوجها فاستحثّه قائد الروم من داره بفاس. ونذر بالشر، فلم يغنه النذر، ومرّ في طريقه إلى دار السلطان بمقبرة أبي يحيى بن العربيّ، فطعنه القائد هنالك من ورائه طعنة أكبته على ذقنه. واحتزّ رأسه وألقاه بين يدي السلطان.
ودخل الوزير سليمان بن يرزيكن فوجده بين يديه، فذهبت نفسه عليه وعلى مكانه من الدولة حسرة وأسفا، وأيقظ السلطان لمكر اليهودي، فوقفه على براءة كان ابن أبي مدين بعثها للسلطان معه بالتنصّل والحلف، فتيقّظ وعلم مكر اليهودي به، فندم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة وذويه من اليهود المتصدّين للخدمة، وسطا بهم سطوة الهلكة، فأصبحوا مثلا للآخرين، والله أعلم.
(الخبر عن ثورة أهل سبتة بالأندلسيين ومراجعتهم طاعة السلطان)
لما قفل السلطان أبو الربيع من غزاة سبتة بعد أن شرّد عثمان بن أبي العلاء وأحجره
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولابس.(7/316)
بسبتة، وأجاز منها إلى العدوة ومن كان معه من القرابة كما قلناه، بلغه الخبر بضجر أهل سبتة، ومرض قلوبهم من ولاية الأندلسيين وسوء ملكتهم. ودسّ إليه بعض أشياعه بالبلد بمثل ذلك، فأغزى صنيعته تاشفين بن يعقوب الوطاسي أخا وزيره في عساكر ضخمة من بني مرين. وسائر الطبقات من الجند. وأوعز إليه بالتقدّم إلى سبتة ومنازلتها، فأغذّ إليها السير ونزل بساحتها، ولما أحسّ به أهل البلد تمشت رجالاتهم [1] وتنادوا بشعارهم، وثاروا على من كان بينهم من قوّاد ابن الأحمر وعمّاله وأخرجوا منها حاميته وجنوده. واقتحمها العساكر واحتل بقصبتها تاشفين بن يعقوب عاشر صفر من سنة تسع وسبعمائة. وطير الفوائق بالخبر إلى السلطان فعمّ السرور وعظم شأن الفرح. وتقبّض على قائد القصبة أبي زكريا يحيى بن مليلة، وعلى قائد البحر أبي الحسن بن كماشة، وعلى قائد الحروب بها من الأعياص عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق. كان صاحب الأندلس عقد له مكان ابن عمّه عثمان بن أبي العلاء عند إجازته البحر إلى الجهاد كما ذكرناه. وكتب إلى السلطان بالفتح، وأوفد عليه الملأ من مشيخة أهل سبتة وأهل الشورى. وبلغ الخبر إلى ابن الأحمر فارتاع لذلك وخشي عادية السلطان، وجيوش المغرب حين انتهوا إلى الفرضة. وقد كان الطاغية في تلك الأيام نازل الجزيرة الخضراء، وأقلع عنها على الصلح بعد أن أذاقها من الحصار شدّة، وبعد أن نازل جبل الفتح، فتغلّب عليه وملكه. وانهزم زعيم من زعمائه يعرف بألفنش بيرس، هزمه أبو يحيى بن عبد الله بن أبي العلاء صاحب الجيش بمالقة، لقيه وهو يجوس خلال البلاد بعد تملّك الجبل، فهزم النصارى وقتلوا أبرح قتل. وأهم المسلمين شأن الجبل فبادر السلطان أبو الجيوش.
بإنفاذ رسله راغبين في السلم خاطبين للولاية. وتبرّع بالنزول عن الجزيرة ورندة وحصونها، ترغيبا للسلطان في الجهاد، فتقبّل منه السلطان وعقد له الصلح على ما رغب، وأصهر إليه في أخته، فأنكحه إياها. وبعث بالمدد للجهاد، أموالا وخيولا وجنائب مع عثمان بن عيسى اليرنياني. واتصلت بينهما الولاية إلى مهلك السلطان والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بهشت. وتبهّش القوم: اجتمعوا (قاموس) .(7/317)
(الخبر عن بيعة عبد الحق بن عثمان بممالأة الوزير والمشيخة وظهور السلطان عليهم ثم مهلكه باثر ذلك)
كانت رسل ابن الأحمر خلال هذه المهادنة والمكاتبات تختلف إلى باب السلطان، ووصل منهم في بعض أحيانها خلف من مترفيهم، فجاهر بالكبائر، فكشف صفحة وجهه في معاقرة الخمر والإدمان عليه. وكان السلطان منذ شهر جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة قد عزل القاضي بفاس أبا غالب المغيلي، وعهد بأحكام القضاء لشيخ الفتيا المذكور بها أبي الحسن الملقّب بالصغير. وكان على نهج [1] من تغيير المنكرات والتعسّف فيها، حتى لقد كان مطاوعا في ذلك وسواس النسك الأعجمي، ومتجاوزا به الحدود المتعارفة بين أهل الشريعة في سائر الأمصار. وأحضر عنده ذات يوم هذا الرسول ثملا، وحضر العدول فاستروحوه، ثم أمضى حكم الله فيه، وأقام عليه الحدّ. وأضرمته هذه الموجدة، فاضطرم غيظا وتعرّض للوزير رحّو بن يعقوب الوطاسي منصرفه من دار السلطان في موكبه، وكشف عن ظهر يريه السياط وينعي عليهم سوء هذا المرتكب مع الرسل. فتبرّم لذلك الوزير وأدركته الحفيظة، وسرّح وزعته [2] وحشمه في إحضار القاضي على أسوإ الحالات من التنكيل والتلّ لذقنه، فمضوا لتلك الوجهة، واعتصم القاضي بالمسجد الجامع، ونادى المسلمين، فثارت العامّة فيهم، ومرج أمر الناس. واتصل الخبر بالسلطان فتلافاه بالبعث في أولئك النفر من وزعة الوزير، وضرب أعناقهم، وجعلهم عظة لمن وراءهم، فأسرّها الوزير في نفسه، وداخل الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق من بني عسكر بن محمد شيخ بني مرين، والمسلم له في شوارهم. وقائد الروم غنصالة المنفرد برياسة العسكر وشوكته، وكان لهم بالوزير اختصاص آثروه له على سلطانه، فدعا لهم لبيعة [3] عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق كبير القرابة وأسد الأعياص، وخلع طاعة السلطان فأجابوه وبايعوا له، وتمّ أمرهم نجيّا. ثم خرج عاشر جمادى من سنة عشر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ثبج.
[2] الوزعة: ج وازع وهو الّذي يدير أمر الجيوش (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: فدعاهم إلى بيعة.(7/318)
وسبعمائة إلى ظاهر البلد الجديد بمكان الرمكة، وجاهروا بالخلعان وأقاموا الآلة وبايعوا سلطانهم عبد الحق على عيون الملأ. وعسكروا بالعدوة القصوى من سبّو تخم بلاد العسكر، وإزاء نبدورة من معاقل الحسن بن علي زعيم تلك الثورة. ثم ارتحلوا من الغد إلى تازى وخرج السلطان في أثرهم فعسكر بسبّو وتلوّم لاعتراض العساكر، وإزاحة العلل، واحتل القوم برباط تازي، وأوفدوا على موسى بن عثمان بن يغمراسن سلطان بني عبد الواد يدعونه إلى المظاهرة واتصال اليد، والمدد بالعساكر والأموال جنوحا إلى التي هي آثر لديه من تفريق كلمة عدوّه، فتثاقل عن ذلك لمكان السلم الّذي عقد له السلطان مذ أوّل الدولة، وليستبين سبيل القوم. وقدّم السلطان بين يديه يوسف بن عيسى الجشميّ، وعمر بن موسى الفودودي في جموع كتيبة من بني مرين. وسار في ساقتهم، فانكشف القوم عن تازى ولحقوا بتلمسان صرخا.
وحمد السلطان مغبّة تثاقله عن نصرهم ووجد بها الحجة عليهم، إذ غاية مظاهرته إياهم أن يملّكهم تازى، وقد انكشفوا عنها فيئسوا من صريخه. وأجاز عبد الحق بن عثمان ورحّو بن يعقوب إلى الأندلس، فأقام رحّو بها إلى أن قتله أولاد ابن أبي العلاء، ورجع الحسن بن علي إلى مكانه من قبيله ومحلّه من مجلس السلطان بعد أن اقتضى عهده بالأمان على ذلك. ولما احتلّ السلطان بتازى حسم الداء ومحا أثر الشقاق، وأثخن في حاشية الخوارج وذويهم بالقتل والسبي. ثم اعتلّ أثناء ذلك وهلك لليال من اعتلاله سلخ جمادى الأخيرة من سنة عشر وسبعمائة ووري بصحن الجامع الأعظم من تازى، وبويع السلطان أبو سعيد، كما نذكره إن شاء الله.
(الخبر عن دولة السلطان أبي سعيد وما كان فيها من الأحداث)
لما هلك السلطان أبو الربيع بتازى تطاول للأمر عمّه عثمان ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمّه قضنيت [1] . واستام المنصب وأسدى في ذلك وألحم. وحضر الوزراء والمشيخة بالقصر بعد هدء من الليل، وأثاروا شيخ القرابة يومئذ وكبير الأعياص
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: قضيب.(7/319)
المرشحين، وسرّبت إليهم الأموال. وجاءهم عثمان ابن السلطان أبي يعقوب مستاما، فزجروه واستدعوا السلطان أبا سعيد، فحضر وبايعوه ليلتئذ وأنفذ كتبه إلى النواحي والجهات باقتضاء البيعة. وسرّح ابنه الأكبر الأمير أبا الحسن إلى فاس، فدخلها غرّة رجب من سنة عشر وسبعمائة. ودخل القصر واطلع على أمواله وذخيرته، وفي غد ليلته أخذت البيعة للسلطان بظاهر تازي على بني مرين، وسائر زناتة والعرب والقبائل والعساكر والحاشية والموالي والصنائع والعلماء والصلحاء ونقباء الناس وعرفائهم والخاصة والدهماء. فقام بالأمر واستوسق له الملك. وفرّق الأعطيات وأسنى الجوائز، وتفقّد الدواوين ورفع الظلامات، وحطّ المغارم والمكوس. وسرّح أهل السجون، ورفع عن أهل فاس وظيفة الرباع [1] وارتحل لعشرين من رجب إلى حضرته، فاحتلّ بفاس. وقدم عليه وفود التهنئة من جميع بلاد المغرب. ثم خرج لذي القعدة بعدها إلى رباط الفتح لتفقّد الأحوال والنظر في أحوال الرعايا، واهتمّ بالجهاد، وأنشأ الأساطيل للغزو في سبيل الله. ولما قضى منسك الأضحى بعده، رجع إلى حضرته بفاس. ثم عقد سنة إحدى عشرة وسبعمائة لأخيه الأمير أبي البقاء يعيش على ثغور الأندلس: الجزيرة ورندة وما إليها من الحصون. ثم نهض من الحصون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة إلى مراكش لما كان بها من اختلال الأحوال، وخروج عدي بن هنّو الهسكوري، ونقضه للطاعة، فنازله وحاصره مدّة، واقتحم حصنه عنوة عليه، وحمله إلى دار ملكه عنوة، فأودعه المطبق. ثم رجع إلى غزو تلمسان، والله أعلم.
(الخبر عن حركة السلطان أبي سعيد الى تلمسان أولى حركاته اليها)
لما خرج عبد الحق بن عثمان على السلطان أبي الربيع، وتغلّب على تازى بمظاهرة الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق كبير بني عسكر، واختلف رسلهم إلى أبي حمّو موسى بن عثمان سلطان بني عبد الواد، اسف ذلك بني مرين وحرّك من
__________
[1] يعني أنه رفع عنهم ضريبة الربع التي كانوا يدفعونها للحاكم.(7/320)
إحنهم [1] ، ولما لحق الخارجون على الدولة بالسلطان أبي حمّو وأقبل عليهم أضرم ذلك حقد بني مرين. وولّى السلطان أبو سعيد الأمر وفي أنفسهم من بني عبد الواد غصّة. فلما استوسق أمر السلطان، ودوّخ الجهات المراكشية، وعقد على البلاد الأندلسية وفرغ من شأن المغرب، اعتزم على غزو تلمسان فنهض إليه سنة أربع عشرة وسبعمائة ولما انتهى إلى وادي ملويّة قدّم ابنيه أبا الحسن وأبا عليّ في عسكرين عظيمين في الجناحين، وسار في ساقتهما، ودخل بلاد بني عبد الواد على هذه التعبية، فاكتسح نواحيها واصطلم نعمها. ونازل وجدة، فقاتلها قتالا شديدا وامتنعت عليه ثم نهض إلى تلمسان فنزل بالملعب من ساحتها. وانحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على معاقلها ورعاياها وسائر ضواحيها، فحطّمها حطما، ونسف جهاتها نسفا، ودوّخ جبال بني يرناسن وفتح معاقلها وأثخن فيها وانتهى إلى وجدة. وكان معه في معسكره أخوه يعيش بن يعقوب، وقد أدركته بعض استرابة بأمره ففرّ إلى تلمسان، ونزل على أبي حمّو ورجع السلطان على تعبيته إلى تازى، فأقام بها. وبعث ابنه الأمير أبا عليّ إلى فاس فكان من خروجه على أبيه ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي وما كان بينه وبين أبيه من الواقعات)
كان للسلطان أبي سعيد اثنان من الولد أكبرهما لأمته الحبشية، وهو عليّ، والأصغر لمملوكة من سبي النصارى وهو عمر. وكان هذا الأصغر آثرهما لديه، وأعلقهما بقلبه منذ نشأ، فكان عليه حدبا وبه مشغوفا. ولما استولى على ملك المغرب، رشّحه بولاية عهده، وهو شاب لم يطرّ شاربه. ووضع له ألقاب الإمارة، وصيّر معه الجلساء والخاصّة والكتّاب وأمره باتخاذ العلامة في كتبه. وعقد على وزارته لإبراهيم بن عيسى اليرنياني من صنائع دولتهم وكبار المرشحين بها. ولما رآه أخوه الأكبر أبو الحسن صاغية أبيه إليه، وكان شديد البرور بوالديه، انحاش إليه وصار في جملته، وخلط نفسه بحاشيته طاعة لأبيه واستمرّت حال الأمير أبي عليّ على هذا، وخاطبه الملوك من
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: وحرّك مزاجهم.(7/321)
النواحي وخاطبهم، وهادوه وعقد الرايات، وأثبت في الديوان ومحا وزاد في العطاء ونقص، وكاد أن يستبدّ. ولما قفل السلطان أبو سعيد من غزاته إلى تلمسان سنة أربع عشرة وسبعمائة أقام بتازى وبعث ولديه إلى فاس، فلما استقرّ الأمير أبو عليّ بفاس حدّثته نفسه بالاستبداد على أبيه، وخلعه وراوضه المداخلون له في المكر بالسلطان حتى يتقبّض عليه، فأبي وركب الخلاف وجاهر بالخلعان ودعا لنفسه، فأطاعه الناس لما كان السلطان جعل إليه من أمرهم. وعسكر بساحة البلد الجديد يريد غزو السلطان، فبرز من تازى بعسكره يقدّم رجلا ويؤخر أخرى.
ثم بدا للأمير أبي عليّ في شأن وزيره، وحدّثته نفسه بالتقبّض عليه استرابة به لما كان بلغه من المكاتبة بينه وبين السلطان، فبعث لذلك عمر بن يخلف الفردودي، وتفطّن الوزير لما حاوله من المكر، فتقبّض عليه ونزع إلى السلطان أبي سعيد فتقبّله ورضي عنه. وارتحل إلى لقاء ابنه، ولما تراءى الجمعان بالقرمدة ما بين فاس وتازى، واختل مصاف السلطان وانهزم عسكره وأفلت بعد أن أصابته جراحة في يده وهن لها، ولحق بتازى فليلا جريحا. ولحق به ابنه الأمير أبو الحسن نازعا إليه من جملة أخيه أبي علي بعد المحنة وفاء لحق أبيه، فاستبشر السلطان بالظهور والفتح، وحمد المغبة، وأناخ الأمير أبو علي بعساكره على تازى، وسعى الخواص بين السلطان وابنه في الصلح على أن يخرج له السلطان عن الأمر ويقتصر على تازى وجهاتها، فتمّ ذلك بينهما وانعقد. وشهد الملأ من مشيخة العرب وزناتة وأهل الأمصار، واستحكم عقده وانكفأ الأمير أبو عليّ إلى حضرة فاس مملّكا. وتوافت إليه بيعات الأمصار بالمغرب ووفودهم، واستوسق أمره.
ثم اعتلّ على أثر ذلك واشتدّ وجعه، وصار إلى حال الموت وخشي الناس على أنفسهم تلاشى الأمر بمهلكه، فسايلوا إلى السلطان بتازى، ثم نزع على الأمير أبي عليّ وزيره أبو بكر بن النوار [1] وكاتبه منديل بن محمد الكتاني، وسائر خواصه، ولحقوا بالسلطان وحملوه على تلافي الأمر، فنهض من تازى واجتمع إليه كافة بني مرين والجند. وعسكر على البلد الجديد وأقام محاصرا لها، وابتنى دارا لسكناه وجعل لابنه الأمير أبي الحسن ما كان لأخيه أبي علي من ولاية العهد وتفويض الأمر.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: أبو بكر بن النوان.(7/322)
وتفرد أبو عليّ بطائفة من النصارى المستخدمين بدولتهم، كان قائدهم يمتّ إليه بخؤولة، وضبط البلد مدّة مرضه حتى إذا أفاق وتبيّن اختلال أمره، بعث إلى أبيه في الصفح والرضى، وان ينزل له عما انتزى عليه من الأمر على أن يقطعه سجلماسة وما إليها، ويسوغه ما احتمل من المال والذخيرة من دراهم، فأجابه لذلك، وانعقد بينهما سنة خمس عشرة وسبعمائة وخرج الأمير أبو علي بخاصّته وحشمه، وعسكر بالزيتون من ظاهر البلد. وفي له السلطان بما اشترط وارتحل إلى سجلماسة، ودخل السلطان إلى البلد الجديد ونزل بقصره، وأصلح شئون ملكه، وأنزل ابنه الأمير أبا الحسن بالدار البيضاء من قصوره، وفوّض إليه في سلطانه تفويض الاستقلال. وأذن له في اتخاذ الوزراء والكتّاب، ووضع العلامة على كتبه وسائر ما كان لأخيه. ووفدت إليه بيعات الأمصار بالمغرب، ورجعوا إلى طاعته.
ونزل الأمير أبو علي بسجلماسة فأقام بها ملكا، ودوّن الدواوين، واستلحق واستركب، وفرض العطاء واستخدم ظواعن العرب من المعقل، وافتتح معاقل الصحراء وقصور تاورت [1] وتيكورارين وتمنطيت، وغزا بلاد السوس فافتتحها وتغلب على ضواحيها، وأثخن في أعرابها من ذوي حسّان والشبانات وزكنة، حتى استقاموا على طاعته.
وبيّت عبد الرحمن بن يدر أمير الأنصار بالسوس في تارودانت مقرّه، فافتتحها عليه عنوة وقتله، واصطلم نعمته وأباد سلطانه. وأقام لبني مرين في بلاد القبلة ملكا وسلطانا، وانتقض على السلطان سنة عشرين وسبعمائة وتغلّب على درعة، وسما إلى طلب مراكش، فعقد السلطان على حربه لأخيه الأمير أبي الحسن، وجعله إليه، وأغزاه ونهض على أثره، واعتلّ [2] بمراكش، وثقف أطرافها وحسم عللها. وعقد عليها لكندوز بن عثمان من صنائع دولتهم، وقفل بعساكره إلى الحضرة. ثم نهض الأمير أبو علي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بجموعه من سلجماسة وأغذّ السير إلى مراكش، فاختلفت عساكره بها قبل أن يجتمع لكندوز أمره. فتقبّض عليه وضرب عنقه ورفعه على القناة وملك مراكش وسائر ضواحيها. وبلغ الخبر إلى السلطان، فخرج من حضرته في عساكره بعد أن احتشد. وأزاح العلل، واستوفى
__________
[1] وفي النسخة المصرية: توات.
[2] وفي النسخة المصرية: فاحتلوا.(7/323)
الأعطيات، وقدّم بين يديه ابنه الأمير أبا الحسن ولي عهده الغالب على أمره في عساكره وجموعه. وجاء في ساقته، وسار على هذه التعبية. ولما انتهى إلى بويو [1] من وادي ملويّة نذروا بالبيات من أبي علي وجنوده، فحذروهم وأيقظوا ليلتهم.
وبيّتهم بمعسكرهم ذلك، فكانت الدبرة عليه. وفلّ عسكره. وارتحلوا من الغد في أثره. وسلك على جبال درن، وافترقت جنوده في أوعاره، ولحقهم من معراتها شناعات، حتى ترجّل الأمير أبو عليّ عن فرسه، وسعى على قدميه، وخلص من ورطة ذلك الجبل بعد عصب الريق، ولحق بسجلماسة، ومهّد السلطان نواحي مراكش، وعقد عليها لموسى بن علي بن محمد الهنتاتي، فعظم غناؤه في ذلك واضطلاعه وامتدّت أيام ولايته وارتحل السلطان إلى سجلماسة، فدافعه الأمير أبو علي بالخضوع في الصفح والرضا والعودة إلى السلم، فأجابه السلطان لما كان شغفه من حبّه، فقد كان يؤثر عنه من ذلك غرائب. ورجع إلى الحضرة وأقام الأمير أبو علي بمكانه من ملك القبلة إلى أن هلك السلطان، وتغلّب عليه أخوه السلطان أبو الحسن كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نكبة منديل الكتاني ومقتله)
كان أبوه محمد بن محمد الكتاني [2] من علية الكتاب بدولة الموحّدين، ونزع من مراكش عند ما انحل نظام بني عبد المؤمن وانفض جمعهم إلى مكناسة، فأوطنها في إيالة بني مرين. واتصل بالسلطان يعقوب بن عبد الحق فصحبه فيمن كان يثائر على صحابته من أعلام المغرب. وسفر عنه إلى الملوك كما ذكرناه في سفارته إلى المستنصر سنة خمس وستين وستمائة وهلك السلطان يعقوب بن عبد الحق فازداد الكتاني عند ابنه يوسف بن يعقوب حظوة ومكانه إلى أن سخطه ونكبه سنة سبع وستين وستمائة وأقصاه من يومئذ وهلك في حال سخطته وبقي من بعده ابنه منديل هذا في جملة السلطان أبي يعقوب متبرما بمقام عبد الله بن أبي مدين المستولي على قهرمة دار
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية توتو وفي نسخة أخرى نونو.
[2] وفي النسخة المصرية: الكناني.(7/324)
السلطان ومخالصته في خلواته مغضيا لذلك. متوقعا النكبة في أكثر أيامه مضطرمة له بالحسد جوانحه، مع ما كان عليه من القيام على حسبان الديوان عرف فيه بسبقه وتشابه صديقه وعدوه. ولما تغلّب السلطان على ضواحي شلف ومغراوة واستعمل على حسبان الجباية، وجعل إليه ديوان العسكر هنالك، وإلى نظره اعتراضهم وتمحيصهم، فنزل على مليانة مع من كان هنالك من الأمراء مثل علي بن محمد الخيريّ والحسن بن علي بن أبي الطلاق العسكري إلى أن هلك السلطان أبو يعقوب، ورجّع أبو ثابت البلاد إلى أبي زيّان وأخيه أبي حمّو فخفّ عليهما، وحلا بعيونهما، واستبلغا في تكريمه وانصرف إلى مغربه. وكان معسكر السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان قد صحب أخاه أبا سعيد عثمان بن يعقوب في حال خموله، وتأكّدت بينهما الخلّة التي رعاها له السلطان أبو سعيد. فلمّا ولي أمر المغرب متّ بذلك إليه، فعرفه له واختصّه وخالصة، وجعل إليه وضع علامته وحسبان جبايته، ومستخلص أحواله، والمفاوضة بذات صدره. ورفع مجلسه في بسائطه، وقدّمه على خاصته. وكان كثير الطاعة للأمير أبي علي ابنه المتغلّب على أبيه قبل أوّل أمره [1] .
ولما استبدّ وخلع أباه انحاش منديل هذا إليه. ثم نزع عنه حين تبيّن اختلال أمره، وكان الأمير أبو الحسن يحقد عليه ولاية أخيه أبي عليّ لما كان بينهما من المنافسة.
وكان كثيرا ما يوغر صدره بإيجاب حق عمر عليه، وامتهانه في خدمته. وطوى له على النث حتى إذا انفرد بمجلس أبيه وفصل عمر إلى سجلماسة أحكم السعاية فيه وإلحاح [2] في الهلكة التي أحكم [3] السلطان عليها أذنا واعية، حتى تأذّن الله بإهلاكه. وكان منديل هذا كثيرا ما يغضب السلطان في المحاورة والخطاب دالة عليه وكبرا، فاعتدّ عليه من ذلك كلمات وأحوالا، وسخطه سنة ثمان عشرة وسبعمائة واذن لابنه الأمير أبي الحسن في نكبته، فاعتقله واستصفى أمواله، وطوى ديوانه وامتحنه أياما، ثم قتله بمحبسه خنقا، ويقال جوعا. وذهب مثلا في الغابرين، والله خير الوارثين.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: المتغلب على أبيه أول مرّة.
[2] وفي النسخة المصرية: الآلاء.
[3] وفي النسخة المصرية: صرّ.(7/325)
(الخبر عن انتقاض العزفي بسبتة ومنازلته ثم مصيرها الى طاعة السلطان بعد مهلكه)
كان بنو العز في لما تغلب عليهم الرئيس أبو سعيد ونقلهم إلى غرناطة سنة خمس وسبعمائة استقرّوا بها في إيالة المخلوع ثالث ملوك بني الأحمر، حتى إذا استولى السلطان أبو الربيع على سبتة سنة تسع وسبعمائة أذنوه في الإجازة إلى المغرب، فأجازوا إلى فاس، فاستقروا بها. وكان يحيى وعبد الرحمن ابنا أبي طالب من سراتهم وكبارهم، وكانوا يغشون مجالس أهل العلم، لما كانوا عليه من انتحال الطلب [1] .
وكان أبو سعيد أيام إمارة بني أبيه يجالس بالمسجد الجامع القرويين شيخ الفتيا أبا الحسن الصغير. وكان يحيى بن أبي طالب يلازمه، فاتصل به وصارت له وسيلة يحتسبها عنده. فلمّا ولي الأمر واستقلّ به، رعى لهم زمام صحابتهم، ووفّى لهم مقاصدهم. وعقد ليحيى على سبتة، ورجّعهم إلى مقرّ إمارتهم منها ومحل رياستهم، فارتحلوا إليها سنة عشر وسبعمائة وأقاموا دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته. ثم تغلّب الأمير أبو علي على أمر أبيه، واستبدّ عليه فعقد على سبتة لأبي زكريا حيّون بن أبي العلاء القرشي، وعزل يحيى بن أبي طالب عنها. واستقدمه إلى فاس فقدمها هو وأبوه أبو طالب وعمّه حاتم، واستقرّوا في جملة السلطان. وهلك أبو طالب بفاس خلال ذلك حتى إذا كان من خروج الأمير أبي علي على أبيه ما قدّمناه، لحق يحيى بن أبي طالب وأخوه بالسلطان نازعين من جملة الأمير أبي علي. فلما اعتلّ بالبلد الجديد ونازلة السلطان بها فحينئذ عقد السلطان ليحيى بن أبي طالب على سبتة، وبعثه إليها ليقيم دعوته بتلك الجهات. وتمسّك بابنه محمد رهنا على طاعته، فاستقلّ بإمارتها، وأقام دعوة السلطان وطاعته بها. وأخذ بيعته على الناس، واتصل ذلك سنتين [2] . وهلك عمّه أبو حاتم هنالك بعد مرجعه معه من المغرب سنة ست عشرة وسبعمائة. ثم انتقض على طاعة السلطان ونبذ طاعة الأمراء، ورجع إلى حال سلفه من أمر الشورى في البلد. واستقدم من الأندلس عبد الحق بن
__________
[1] وفي النسخة المصرية: الطب.
[2] وفي نسخة ثانية: سنين.(7/326)
عثمان فقدم عليه وعقد له على الحرب ليفرّق الكلمة به، ويوهن ببأسه عزائم السلطان في مطالبته. وجهّز السلطان إليه العساكر من بني مرين وعقد علي حربه للوزير إبراهيم بن عيسى، فزحف إليه وحاصره، وتعلّل عليهم بطلب ابنه، فبعث به السلطان إلى وزيره إبراهيم ليعطي طاعته، فيسلمه، وجاءه الخبر من عيون كانت بالعسكر وأن ابنه كائن بفسطاط الوزير بساحة البحر، بحيث تتأتى الفرصة في أخذه، فبيّت المعسكر، وهجم عبد الحق بن عثمان بحشمه وذويه على فسطاط الوزير، فاحتمله إلى أبيه وركبت العساكر للهيعة، فلم يقفوا على خبر حتى تفقّد الوزير ابن العز في.
واتهموا قائدهم إبراهيم بن عيسى الوزير بممالأة العدوّ على ذلك، فاجتمعت مشيختهم وتقبّضوا عليه، وحملوه إلى السلطان ابتلاء للطاعة واستبصارا في نصح السلطان، فشكر لهم وأطلق وزيره لابتلاء نصيحته. ورغب يحيى بن العزفي بعدها في رضى السلطان وولايته. ونهض السلطان سنة تسع عشرة وسبعمائة إلى طنجة لاختبار طاعته، فعقد له على سبتة واشترط هو على نفسه الوفاء لجباية السلطان، وأسنى هديته في كل سنة. واستمرّت الحال على ذلك إلى أن هلك يحيى العزفي سنة عشرين وسبعمائة. وقام بالأمر بعده ابنه محمد إلى نظر عمّه محمد بن عليّ بن الفقيه أبي القاسم شيخ قرابتهم. وكان قائد الأساطيل بسبتة ووليّ النظر فيها بعد أن نزع القائد يحيى الرنداحي إلى الأندلس، واختلف الغوغاء بسبتة، وانتهز السلطان الفرصة فأجمع على النهوض إليها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وبادروا بإيتاء طاعتهم. وعجز محمد ابن يحيى عن المناهضة، وظنّها محمد بن عيسى من نفسه، فتعرّض للأمر في أوغاد من اللفيف، فاجتمعوا إليه وادفعهم الملأ عن ذلك، وحملوهم على الطاعة، واقتادوا بني العز في إلى السلطان فانقادوا، واحتل السلطان بقصبة سبتة، وثقف جهاتها ورمّ منثلمها وأصلح خللها. واستعمل كبار رجالاته وخواصّ مجلسه في أعمالها، فعقد لحاجبه عامر بن فتح الله الصدراتي على حاميتها، وعقد لأبي القاسم بن أبي مدين على جبايتها والنظر في مبانيها، وإخراج الأموال للنفقات فيها. وأسنى جوائز الملأ من مشيختها، ووفر أقطاعاتهم وجراياتهم. وأوعز ببناء البلد المسمّى أفراك على سبتة، فشرعوا في بنائها سنة تسع وعشرين وسبعمائة وانكفأ راجعا إلى حضرته، والله تعالى أعلم
.(7/327)
(الخبر عن استقدام عبد المهيمن للكتابة والعلامة)
كان بنو عبد المهيمن من بيوتات سبتة، ونسبهم في حضرموت. وكانوا أهل تجلّة ووقار، منتحلين للعلم. وكان أبو محمد قاضيا بسبتة أيام أبي طالب وأبي حاتم، وكان له معهم صهر. ونشأ ابنه عبد المهيمن هذا في حجر الطلب والجلالة، وقرأ صناعة العربيّة على الأستاذ الغافقي وحذق فيها. ولما نزلت بهم نكبة الرئيس أبي سعيد سنة خمس وسبعمائة واحتملوا إلى غرناطة، احتمل فيهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه. وقرأ عبد المهيمن بغرناطة على مشيختها، وازداد علما وبصرا باللسان والحديث. واستكتب بدار السلطان محمد المخلوع، واختصّ بوزيره المتغلّب على دولته محمد بن الحكيم الرنديّ فيمن اختص به من رؤساء بني العزفي. ثم رجع بعد نكبة ابن الحكيم إلى سبتة، وكتب عن قائدها ابن مسلمة مدّة. ولما استخلص بنو مرين سبتة سنة تسع وسبعمائة اقتصر على الكتابة، وأقام منتحلا مذاهب سلفه في انتحال العلم ونزول المروءة. ولما استولى السلطان أبو سعيد على المغرب واستقل بولاية العهد، وتغلّب على الأمر ابنه أبو علي، وكان محبّا للعلم مولعا بأهله منتحلا لفنونه.
وكانت دولته خلوا من صناعة التراسل مذ عهد الموحدين للبداوة الموجودة في أوّلهم [1] . وحصل للأمير أبي عليّ بعض البصر بالبلاغة واللسان تفطّن به لشأن ذلك، وخلو دولتهم من الكتّاب المرسلين، وأنهم إنما يحكمون الخطّ الّذي حذقوا فيه. ورأى الأصابع تشير إلى عبد المهيمن في رياسة تلك الصناعة، فولع به. وكان كثير الوفادة مع أهل بلده أوقات وفادتهم، فيختصه الأمير أبو علي بمزيد برّه وكرامته، ويرفع مجلسه، ويخطبه للكتابة وهو يمتنع عليه. حتى إذا أمضى عزيمته في ذلك أوعز إلى عامله بسبتة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أن يشخصه إلى بابهم فقلده كتابته وعلامته حتى إذا خرج أبو علي على أبيه تحيز عبد المهيمن الى الأمير أبي الحسن، فلما صولح أبو علي على النزول عن البلد الجديد وكتب شرطه على السلطان كان من جملتها كون عبد المهيمن معه، وأمضى له السلطان ذلك وأنف الأمير أبو
__________
[1] وفي طبعة بولاق: الموجدة في دولتهم.(7/328)
الحسن منها، فأقسم ليقتلنّه إن عمل بذلك، فرفع عبد المهيمن أمره إلى السلطان ولاذ به، وألقى نفسه بين يديه، فرقّ لشكواه وأمره باعتزالهما معا والرجوع إلى خدمته. وأنزله بمعسكره وأقام على ذلك، واختصه منديل الكتاني كبير الدولة وزعيم الخاصة، وأنكحه ابنته، ولما نكب منديل جعل السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين، وكان غفلا خلوا من الآداب، فكان يرجع إلى عبد السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين، وكان غفلا خلوا من الآداب، فكان يرجع إلى عبد المهيمن في قراءة الكتب وإصلاحها، وإنشائها حتى عرف السلطان له ذلك، فاقتصر عليه وجعل وضع العلامة إليه سنة ثمان عشرة وسبعمائة فاضطلع بها ورسخت قدمه في مجلس السلطان، وارتفع صيته. واستمرّ على ذلك أيام السلطان وابنه أبي الحسن من بعده إلى أن هلك بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة والله سبحانه وتعالى خير الوارثين.
(الخبر عن صريخ أهل الأندلس ومهلك بطرة على غرناطة)
كان الطاغية شانجة بن أدفونش قد تكالب على أهل الأندلس من بعد أبيه هراندة الهالك سنة اثنتين وثمانين وستمائة. ومنذ غلب على طريف شغل السلطان يوسف بن يعقوب بعده ببني يغمراسن، ثم تشاغل حفدته من بعده بأمرهم وتقاصرت مددهم، وهلك شانجة سنة ثلاث وسبعين [1] وولى ابنه هراندة ونازل الجزيرة الخضراء فرضة الجهاد لبني مرين حولا كاملا، ونازلت أساطيله جبل الفتح واشتدّ الحصار على المسلمين. وراسل هراندة بن أدفونش صاحب برشلونة أن يشغل أهل الأندلس من ورائهم، ويأخذ بحجزتهم، فنازل المريّة وحاصرها الحصار المشهور سنة تسع وسبعمائة ونصب عليها الآلات. وكان منها برج العود المشهور بطول الأسوار بمقدار ثلاث قامات، وتحيّل المسلمون على إحراقه فأحرق. وحفر العدوّ تحت الأرض مسربا مقدار ما يسير فيه عشرون راكبا. وتفطّن المسلمون واحتفر قبالتهم مثله إلى أن نفذ بعضهم
__________
[1] الصحيح ثلاث وتسعين وستمائة.(7/329)
لبعض، واقتتلوا من تحت الأرض وعقد ابن الأحمر لعثمان بن أبي العلاء زعيم الأعياص على عسكر بعثه مددا لأهل المريّة، فلقيه جمع من النصارى كان الطاغية بعثهم لحصار مرشانة [1] ، فهزمهم عثمان واستلحمهم، ونزل قريبا من معسكر الطاغية وألحّ بمغاداتهم ومراوحتهم الى أن رغبوا إليه في السلم وأفرج عن البلد. وتغلّب الطاغية، خلال ذلك على جبل الفتح، وأقامت عساكره على سماتة [2] واسطبونة [3] ، وزحف العبّاس بن رحّو بن عبد الله وعثمان بن أبي العلاء في العساكر لاغاثة البلدين، فأوقع عثمان بعسكر اسطبونة، وقتل قائدهم ألفنش بيرش [4] في نحو ثلاثة آلاف فارس واستلحموا. ثم زحف عثمان لاغاثة العبّاس وكان دخل عوجين فحاصرته جموع النصارى به، فانفضوا الخبر زحفه، وبلغ الخبر إلى الطاغية بمكانه من ظاهر الجزيرة بفتكة عثمان في قومه، فسرّح جموع النصرانية، ولقيهم عثمان فأوقع بهم، وقتل زعماءهم. وارتحل الطاغية يريد لقاءهم فخالف أهل البلد إلى معسكره، وانتهبوا محلاته وفساطيطه، وأتيحت للمسلمين عليهم الكرّة، وامتلأت الأيدي من غنائمهم وأسراهم. ثم هلك الطاغية أثر هذه الهزائم سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وهو هراندة بن شانجة. وولي بعد ابنه الهنشة طفلا صغيرا، جعلوه لنظر عمّه دون بطرة ابن شانجة، وزعيم النصرانيّة جوان فكفلاه. واستقام أمرهم على ذلك، وشغل السلطان أبو سعيد ملك المغرب بشأن ابنه وخروجه، فاهتبل النصرانية الغرّة في الأندلس وزحفوا إلى غرناطة سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأناخوا عليها بعسكرهم وأممهم. وبعث أهل الأندلس صريخهم إلى السلطان واعتذر لهم بمكان أبي العلاء من دولتهم، ومحله من رياستهم، وأنه مرشّح للأمر في قومه بني مرين، يخشى معه تفريق الكلمة. وشرط عليهم أن يدفعوه إليه برمّته حتى يتم أمرّ الجهاد، ويعيده إليهم حوطة على المسلمين. ولم يمكنهم ذلك لمكان عثمان بن أبي العلاء لصرامته وعصابته
__________
[1] مرشانة: مدينة من أعمال قرمونة بالأندلس (معجم البلدان) .
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي طبعة بولاق شمانة وفي نسخة أخرى: سماية وفي معجم البلدان ذكر سمانة وهو اسم موضع ولم يزد على ذلك.
[3] اسطبونة: لم يذكرها صاحب معجم البلدان ولعلها اسطبة المذكورة في نفح الطيب ج 1 ص 165 وتبعد عن قرطبة 36 ميلا.
[4] وفي نسخة ثانية: ألفنس بترس.(7/330)
من قومه، فأخفق سعيهم واستلحموا. وأطالت أمم النصرانية بغرناطة، وطمعوا في التهامها. ثم إنّ الله نفّس مخنقهم، ودافع قدرته عنهم، وكيّف لعثمان بن أبي العلاء وعصبته واقعة فيهم كانت أغرب الوقائع. صمدوا إلى موقف الطاغية بجملتهم، وكانوا زهاء مائتين أو أكثر، وصابروهم حتى خالطوهم في مراكزهم، فصرعوا بطرة وجوان، وولوهم الأدبار. واعترضتهم من ورائهم مسارب الماء للشرب من شقيل [1] فتطارحوا فيها. وهلك أكثرهم، واكتسحت أموالهم، وأعزّ الله دينه، وأهلك عدوّه. ونصب رأس بطرة بسور البلد عبرة لمن يذكر، وهو باق هنالك لهذا العهد.
والله تعالى أعلم.
(الخبر عن صهر الموحدين والحركة الى تلمسان على اثره وما تخلل ذلك من الاحداث)
لما انفرج الحصار عن ولد يغمراسن بن زيّان أحد ملوك بني عبد الواد سنة ست وسبعمائة وتجافى أبو ثابت عن بلادهم، ونزل لهم عما كان بنو مرين ملكوه منها بسيوفهم. واستقل أبو حمّو بملك بني عبد الواد على رأس الحول منها، صرف نظره واهتمامه إلى بلاد المشرق، فتغلّب على بلاد مغراوة، ثم على بلاد بني توجين، ومحا منها أثر سلطانهم. ولحق أعياصهم من ولد عبد القوي بن عطيّة ولد منديل بن عبد الرحمن بالموحّدين بني أبي حفص مع من تبعهم من رءوس قبائلهم، وصاروا في جملة عساكرهم. واستلحق مولانا السلطان أبو يحيى وحاجبه يعقوب بن عمر منهم جندا كثيفا أثبتهم في الديوان، وغالب بهم الخوارج والمنازعين للدولة. ثم زحف أبو حمّو إلى الجزائر وغلب ابن علّان عليها سنة [2] ونقله إلى تلمسان ووفى له.
وفرّ بنو منصور أمراء ملكيش أهل بسيط متيجة من صنهاجة، فلحقوا بالموحّدين واصطنعوهم. وتملّك قاصية المغرب الأوسط وتاخم عمل الموحدين بعمله. ثم تغلّب على تدلس سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وتجنى على مولانا السلطان أبي يحيى بما وقع بينهم من المراسلة أيام انتزى ابن مخلوف ببجاية كما ذكرناه في أخباره. فحثّ عزائمه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شنيل.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.(7/331)
لمنزلتها وطلب بلاد الموحّدين، وأوطأ عساكره أرضهم، ونازل أمصارهم بجاية وقسنطينة. واختصّ بجاية بشوكته من ذلك، وجهّز العساكر مع مسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم لمضايقتها. وكان خلال ذلك ما قدّمناه من خروج محمد بن يوسف ابن يغمراسن عليه سنة [1] وقيام بني توجين بأمره، واقتطاع جبل وانشريس من عمالة ملكه.
واستمرّت الحال على ذلك حتى هلك السلطان أبو حمّو سنة ثمان عشرة وسبعمائة وقام بأمرهم ابنه أبو تاشفين عبد الرحمن فصنع له في ابن عمه محمد بن يوسف. ونهض إليه بعساكر بني عبد الواد حتى نازلة بمعتصمه من جبل وانشريش وداخله عمر بن عثمان كبير بني تيغرين في المكر به، فتقبّض عليه وقتله سنة تسع عشرة وسبعمائة وارتحل إلى بجاية حتى احتل بساحتها، وامتنع عليه الحاجب ابن عمر فأقام يوما أو بعضه. ثم انكفأ راجعا إلى تلمسان، وردّد البعوث إلى أوطان بجاية، وابتنى الحصون لتجمير الكتائب، فابتنى بوادي بجاية من أعلاه حصن بكر، ثم حصن تامزردكت. ثم اختط بتيكلات على مرحلة منها بلدا سمّاها تامزيزدكت على اسم المعقل الّذي كان لأوليهم بالجبل قبالة وجدة. وامتنع يغمراسن به على السعيد كما قدّمناه، فاختطّ بلد تيكلات هذه، وشحنها بالأقوات والعساكر، وصيّرها ثغرا لملكه، وأنزل بها جنده.
وعقد عليها لموسى بن علي الكردي كبير دولته، ودولة أبيه [2] . واستحثّه أمراء الكعوب من بني سليم لملك إفريقية حين مغاضبتهم لمولانا السلطان أبي يحيى اللحياني، وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي عمران، وأبي إسحاق بن أبي يحيى الشهيد، مرّة بعد أخرى كما ذكرناه في أخبارهم جميعا. وكانت حروبهم سجالا إلى أن كان بين جيوش زناتة والموحدين الزحف المشهور بالرياش من نواحي مرماجنّة سنة تسع وعشرين وسبعمائة زحفت فيه إلى السلطان أبي يحيى عساكر زناتة مع حمزة بن عمر أمير بني كعب. ومن إليه من البدو، وعليهم يحيى بن موسى من صنائع دولة آل يغمراسن. وقد نصبوا للملك محمد بن أبي عمران بن أبي حفص، ومعهم عبد الحق بن عثمان من أعياض بني عبد الحق في بنيه وذويه. وكان نزع إليهم من عند الموحّدين كما ذكرناه، فاختلّ مصاف مولانا السلطان أبي يحيى
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة ثانية: لموسى بن علي العزفي كبير دولته ودولة ابنه.(7/332)
وانهزم، واستولوا على فساطيطه بما فيها من الذخيرة والحرم، وانتهبوا معسكره وتقبّضوا على ولديه الموليين أحمد وعمر، وأشخصوهما إلى تلمسان. وأصيب السلطان في بدنه بجراحات أوهنته، وخلص إلى بونة ناجيا برمقه. وركب السفين منها إلى بجاية، فأقام بها يدمل جراحة، واستولت زناتة على تونس. ودخلها محمد بن أبي عمران وسمّوه باسم السلطان ومقادته في يد يحيى بن موسى أمير زناتة. واعتزم مولانا السلطان أبو يحيى على الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد صريخا على آل يغمراسن. وأشار حاجبه محمد بن سيّد الناس بإنفاذ ابنه الأمير أبي زكريا صاحب الثغر استنكافا له عن مثلها، فتقبّل إشارته وأركب ابنه البحر لذلك. وبعث إليه معه أبا محمد عبد الله بن تاشفين من مشيخة الموحّدين نافضا أمامه طرف المقاصد والمحاورات، ونزلوا بغسّاسة من سواحل المغرب، وقدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته، وأبلغوه صريخ مولانا السلطان أبي يحيى، فاهتزّ لذلك هو وابنه الأمير أبو الحسن، وقال لابنه الأمير في ذلك المحفل: يا بني لقد قصدك أكبر أقوامنا وموصلك، وو الله لأبذلنّ في مظاهرتكم مالي وقومي ونفسي، ولأسيرنّ بعساكري إلى تلمسان فأنزلها مع أبيك، فانصرفوا إلى منازلهم مسرورين. وكان فيما شرطه عليهم السلطان أبو سعيد مسير مولانا السلطان أبي يحيى بعساكره إلى منازلة تلمسان معه فقبلوا. ونهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة ثلاثين وسبعمائة ولما انتهوا إلى وادي ملويّة وعسكر بضره، جاءهم الخبر اليقين باستيلاء السلطان أبي يحيى على حضرة تونس وإجهاضه زناتة وسلطانهم عنها. فاستدعى مولانا السلطان الأمير أبا زكريا يحيى ابنه ووزيره أبا محمد عبد الله بن تافراكين وأمرهم بالانصراف إلى صاحبهم وأسنى جوائزهم وحاجاتهم [1] . وركبوا أساطيلهم من غسّاسة وأرسل معهم للخطبة الصهر إبراهيم بن أبي حاتم العزفي والقاضي بحضرته أبي عبد الله بن عبد الرزاق، وانكفأ على عقبه راجعا إلى حضرته. ولما انعقد الصهر بين الأمير أبي الحسن، والسلطان أبي يحيى في ابنته شقيقة الأمير يحيى، زفّها إليهم في أساطيله مع مشيخة من الموحدين، كبيرهم أبو القاسم بن عبّو [2] . ووصلوا بها إلى موسى غسّاسة سنة إحدى وثلاثين بين يدي مهلك السلطان أبي سعيد، فقاموا لها على أقدام البرّ
__________
[1] وفي النسخة المصرية: وحباءهم.
[2] وفي النسخة المصرية: بن عقّور.(7/333)
والتكرمة، وبعثوا الظهر إلى غسّاسة لركوبها وحمل أثقالها، وصيغت حكمات الذهب والفضّة ومدّت ولايا الحرير المغشّاة بالذهب، واحتفل لوافدها وأعراسها غاية الاحتفال بما لم يسمع مثله في دولتهم. وتولت قهارمة الدار من عجز النساء ما يتولاه مثلهم من ذلك فطم الصنيع، وتحدّث الناس به. وهلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها، والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد عفا الله عنه وولاية السلطان أبي الحسن وما تخلل ذلك من الاحداث)
كان السلطان لما بلغه وصول العروس بنت مولانا السلطان أبي يحيى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة واهتزّت الدولة لقدومها عليهم تعظيما لحق أبيها وقومها واحتفاء بها، ارتحل السلطان أبو سعيد إلى تازى ليشارف أحوالها بنفسه احتفاء [1] في تكرمتها وسرورا بعرس ابنه. واعتلّ هنالك ومرض حتى إذا أشفى على الهلكة، ارتحل به وليّ العهد الأمير أبو الحسن إلى الحضرة، وحمله في فراشه على أكتاف الحاشية والخول، حتى نزل بسبو، ثم أدخله كذلك ليلا إلى داره. وأدركته المنية في طريقه، فقضى رحمة الله عليه، فوضعوه بمكانه من البيت. واستدعى الصالحين لمواراته، فووري لشهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة والبقاء للَّه وحده، وكل شيء هالك إلّا وجهه.
ولما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصّة من المشيخة ورجالات الدولة لوليّ عهده الأمير أبي الحسن، وعقدوا له على أنفسهم، وآتوه طاعتهم وبيعتهم. وأمر بنقل معسكره من سبو، وأضرب بالزيتون من ساحة فاس. ولما ووري السلطان، خرج إلى معسكره بالتعبية، واجتمع إليه الناس على طبقاتهم لأداء البيعة، وجلس بفسطاطه، وتولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس المزوار عبّو بن قاسم رئيس الوزعة [2] ، والمتصرّفين وحاجب الباب القديم الولاية بذلك في دارهم منذ عهد السلطان يوسف بن يعقوب. وزفّت إليه يومئذ عروسه بنت السلطان أبي يحيى،
__________
[1] وفي النسخة المصرية: استبلاغا.
[2] ج وازع وهو الّذي يتولى أمر الجيوش. (قاموس) .(7/334)
فأعرس بها بمكانه من المعسكر، وأجمع أمره على الانتقام لأبيها من عدوّه. وبدأ باستكشاف حال أخيه أبي عليّ، وكان السلطان أبوهما يستوصيه به لما كان له بقلبه من العلاقة. وكان ولي العهد هذا يؤثر لرضاه جهده، فاعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة أحواله، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن حركة السلطان أبي الحسن إلى سجلماسة وانكفائه عنها الى تلمسان بعد الصلح مع أخيه والاتفاق)
لما هلك السلطان أبو سعيد وكملت بيعة السلطان أبي الحسن، وكان كثيرا ما يستوصيه بأخيه أبي علي لما كان كلفا به شفوقا عليه، فأراد مشارفة أحواله قبل النهوض إلى تلمسان، فارتحل من معسكره بالزيتون قاصدا سجلماسة، وتلقته في طريقه وفود الأمير أبي علي أخيه مؤدّيا حقه، موجبا مبرّته، مهنئا له بما آتاه الله من الملك، متجافيا عن المنازعة فيه، قانعا من تراث أبيه بما سأل، في يده، طالبا العقد له بذلك من أخيه. فأجابه السلطان أبو الحسن إلى ما سأل، وعقد له على سجلماسة وما إليها من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيهما. وشهد الملأ من القبيل وسائر زناتة والعرب، وانكفأ راجعا إلى تلمسان لإجابة صريخ الموحّدين، وأغذّ السير إليها.
ولما انتهى إلى تلمسان تنكّب عنها متجاوزا إلى جهة المشرق لوعد مولانا السلطان أبي يحيى بالنزول معه على تلمسان، كما كان عليه وفاقهم ومشارطتهم مع الأمير أبي زكريا الرسول إليهم. فاحتل بتاسالت في شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وتلوّم بها وأوعز إلى أساطيله بمراسي المغرب فأغزاها إلى سواحل تلمسان. وجهّز لمولانا السلطان أبي يحيى مددا من عسكره أركبهم الأساطيل من سواحل وهران، وعقد عليهم لمحمد البطوي من صنائع دولته. ونزلوا بجاية، ووافوا بها مولانا السلطان أبا يحيى فصاروا في جملته. ونهضوا معه إلى تيكلات ثغر بني عبد الواد المجمّرة بها الكتائب لحصار بجاية، وبها يومئذ ابن هزرع من قوّادهم، وأجفل من كان بها من العسكر قبل وصوله إليهم، فلحقوا بآخر عملهم من المغرب الأوسط. وأناخ مولانا السلطان أبو يحيى عليها بعساكر من الموحّدين والعرب والبربر وسائر الحشود، فخرّبوا عمرانها وانتهبوا ما كان من الأقوات مختزنا بها، وكان بحرا لا يدرك ساحله، لما كان(7/335)
السلطان أبو حمو من لدن اختطها قد أوعز إلى العمّال بسائر البلاد الشرقيّة، منذ عمل البطحاء أن ينقلوا أعشار الحبوب إليها وسائر الأقوات. وتقبّل ابنه السلطان أبو تاشفين مذهبه في ذلك. ولم يزل دأبهم إلى حين حلّت بها هذه الفاقرة فانتهب الناس من تلك الأقوات ما لا كفاء له. وأضرعوا مختطّها بالأرض فنسفوها نسفا، وذروها قاعا صفصفا. والسلطان أبو الحسن خلال ذلك متشوّف لأحوالهم منتظر قدوم مولانا السلطان أبي يحيى عليه لمنازلة تلمسان، حتى وافاه الخبر بانتقاض أخيه كما نذكره، فانكفأ راجعا، واتصل الخبر بمولانا السلطان أبي يحيى فقفل إلى حضرته. وحمل البطوي معه وأسنى جائزته وجوائز عسكره، وانصرفوا إلى السلطان مرسلهم في سفنهم من ساعتها. وانقبض عنان السلطان أبي تاشفين عن غزو بلاد الموحّدين إلى أن انقرض أمره، والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي ونهوض السلطان أبي الحسن اليه وظفره به)
لما توغّل السلطان أبو الحسن في غزاة تلمسان وتجاوزها إلى تاسالت لوعد مولانا السلطان أبي يحيى، دسّ أبو تاشفين إلى الأمير أبي علي في اتصال اليد والاتفاق على السلطان أبي الحسن، وأن يأخذ كل واحد منهما بحجزته عن صاحبه متى همّ به، وانعقد بينهما على ذلك. وانتقض الأمير أبو علي على أخيه السلطان أبي الحسن، ونهض من سجلماسة إلى درعة فقتل بها عامل السلطان، واستعمل عليه من ذويه، وسرّح العسكر إلى بلاد مراكش. واتصل الخبر بالسلطان وهو بمعسكره بتاسالت، فأحفظه شأنه، وأجمع على الانتقام منه، فانكفأ راجعا إلى الحضرة.
وأنزل بثغر تاوريرت تخم عمله معسكرا، وعقد عليه لابنه تاشفين، وجعله إلى نظر وزيره منديل بن حمامة بن تيربيغين، وأغذّ السير إلى سجلماسة، فنزل عليها وأحاطت عساكره بها، وأخذ بمخنقها وحشد الفعلة والصنّاع لعمل الآلات لحصارها، والبناء بساحتها. وأقام يغاديها القتال ويراوحها حولا كريتا. ونهض أبو تاشفين في عساكره وقومه إلى ثغر المغرب ليوطئه عساكره، وبعث في نواحيه يجاذب السلطان عن مكانه من حصاره. ولما انتهى إلى تاوريرت برز إليه ابن السلطان في وزرائه وعساكره،(7/336)
وزحفوا إليه في التعبية، فاختلّ مصافه وانهزم ولم يلق أحدا، وعاد إلى منحجره وبادر إلى إمداد الأمير أبي علي بعسكره، فعقد على حصة من جنده وبعث بهم إليه، فتسرّبوا إلى البلد زرافات ووحدانا حتى استكملوا عنده، وطاولهم السلطان الحصار وأنزل بهم أنواع الحرب والنكال حتى تغلّب عليهم، واقتحم البلد عنوة، وتقبّض على الأمير أبي علي عند باب قصره. وسيق إلى السلطان فأمهله واعتقله، واستولى على ملكه. وعقد على سجلماسة واستعمل عليها، ورحل منكفئا إلى الحضرة، فاحتل بها سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقل أخاه في إحدى حجر القصر إلى أن قتله لأشهر من اعتقاله خنقا بمحبسه. وعدد له هذا الفتح بفتح الجبل واسترجاعه من يد العدّ ودمره الله بأيدي عسكره، وتحت راية ابنه أبي مالك، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن منازلة جبل الفتح واستئثار الأمير أبي مالك والمسلمين به)
لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد المتغلّب على ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش، قام بالأمر بعده ابنه محمد طفلا صغيرا لنظر وزيره محمد بن المحروق من بيوت الأندلس وصنائع الدولة. واستبدّ عليه. فلمّا شب وناهز أنف من الاستبداد عليه، وأغراه المعلوجي من حشمه بالوزير، فاغتاله وقتله سنة تسع وعشرين وسبعمائة وشمّر للاستبداد وشدّ أواخي الملك. وكان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع، وجاورت النصرانية به ثغور الفرضة، وكان شجى في صدرها، وأهمّ المسلمين شأنه. وشغل عنهم صاحب المغرب بما كان فيه من فتنة ابنه، فرجّعوا الجزيرة وحصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لأوّل المائة الثامنة.
واستغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك فرجّعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة تسع وعشرين وسبعمائة وولّي عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان بن مهلهل من عرب الخلط أخواله. وأسفّ الطاغية إلى حصونها عند مهلك السلطان أبي سعيد فملك أكثرها، ومنع البحر من الإجازة. وقارن ذلك استبداد صاحب الأندلس، وقتله لوزيره ابن المحروق. وأهمّه شأن الطاغية، فبادر لإجازة البحر. ووفد على ابن خلدون م 22 ج 7(7/337)
السلطان أبي الحسن بدار ملكه من فاس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأكبر موصله وأركب الناس للقائه، وأنزله بروض المصارّة لصق داره، واستبلغ في تكريمه.
وفاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر، وما أهمّهم من عدوّهم، وشكا إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدر الثغور، فأشكاه السلطان. وعامل الله في أسباب الجهاد، وكان مشغوفا به متقبّلا مذهب جدّه يعقوب فيه. وعقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين، وأنفذه مع السلطان محمد بن إسماعيل لمنازلة الجبل، فاحتل بالجزيرة، وتتابع إليه الأطول بالمدد. وأرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس، فتسايلوا إليه، وأضربوا معسكرهم جميعا بساحة الجبل.
وأبلوا في حربه ومنازلته البلاء الحسن، إلى أن تغلّبوا عليه سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واقتحمه المسلمون عنوة، ونفلهم الله من كان به من النصرانيّة بما معهم، ووافاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه، وقد شحنه المسلمون بالأقوات، نقلوها من الجزيرة على خيولهم. وباشر نقلها الأمير أبو مالك وابن الأحمر، فنقلها الناس عامّة. وتحيّز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة وترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه.
ووصل الطاغية بعد ثلاث فأناخ عليه. وبرز أبو مالك بعساكره، فنزل بحذائه [1] وبعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس. فوصل بحشد المسلمين بعد أن دوّخ أرض النصرانيّة. وخرج فنزل بإزاء عسكر الطاغية، وتحصّن العدوّ في محلّتهم.
وقاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه، وخفّة ما به من الحامية والسلاح، فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية. وسبق الناس إلى فسطاطه عجلا بائعا نفسه من الله في رضى المسلمين، وسدّ فرجتهم، فتلقاه الطاغية راجلا حاسرا إعظاما لموصله، وأجابه إلى ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل، وأتحفه بذخائر مما لديه، وارتحل لفوره. وأخذ الأمير أبو مالك في تثقيف أطراف الثغر، وسدّ فروجه، وأنزل الحامية به، ونقل الأقوات إليه، وكان فتحا طوّق دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر إلى آخر الأيام. ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: قبالته.(7/338)
(الخبر عن حصار تلمسان وتغلب السلطان أبي الحسن عليها وانقراض أمر بني عبد الواد بمهلك أبي تاشفين)
لما تغلّب السلطان على أخيه وحسم علّة انتزائه ومنازعته وسدّ ثغور المغرب، وعظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية، وارتجاع جبل الفتح من أيديهم بعد أن أقام في ملكة الطاغية نحوا من عشرين سنة. فرغ لعدوه وأجمع على غزو تلمسان.
ووفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح والأخذ بحجزة أبي تاشفين على الثغور. وأوفد السلطان إلى أبي تاشفين شفعاء في أن يتخلى عن عمل الموحّدين جملة، ويتراجع لهم عن تدلس، ويرجع إلى تخوم عمله منذ أوّل الأمر، ولو عامئذ ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك، ويقدّروه حقّ قدره، واستنكف أبو تاشفين مع ذلك وأغلظ للرسل في القول، وأفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبيد في الردّ عليهم والنيل من مرسلهم، فانقلبوا إليه بما أحفظه، فانبعثت عزائم السلطان للصمود إليهم. وعسكر بساحة البلد الجديد، وبعث وزراءه إلى قاصية البلاد المراكشيّة لحشد القبائل والعساكر. ثم تعجّل فاعترض جنوده وأزاح عللهم وعبّى مواكبه، وسار في التعبية. وفصل بمعسكره من فاس أواسط خمس وثلاثين وسبعمائة وسار يجرّ الشوك والمدر من أمم المغرب وجنوده. ومرّ بوجدة، فجمّر الكتائب لحصارها. ثم مرّ بند رومة فقاتلها بعض يوم واقتحمها، فقتل حاميتها واستولى عليها آخر سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ثم سار على تعبيته حتى أناخ على تلمسان، وبلغه الخبر بتغلّب عساكره على وجدة سنة ست وثلاثين وسبعمائة فأوعز إليه بتخريب أسوارها، فأضرعوها بالأرض.
وتوافت إليه إمداد النواحي وجهاتها وحشودها، وربض على فريسته. ووفدت إليه قبائل مغراوة وبني توجين فآتوه طاعتهم. ثم سرّح عساكره إلى الجهات فتغلّب على وهران وهنين، ثم على مليانة وتنس والجزائر كذلك سنة ست وثلاثين وسبعمائة ونزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من عمله، والمتاخم كان لعمل الموحّدين، والقائم بحصار بجاية بعد نكبة موسى بن علي فلقاه مبرّة وتكريما، ورفع بساطه ونظمه في طبقات وزرائه وجلسائه. وعقد على فتح البلاد الشرقيّة ليحيى(7/339)
ابن سليمان العسكري كبير بني عسكر بن محمد وشيخ بني مرين، وصاحب شوراهم بمجلس السلطان، والمخصوص بصهر من السلطان. عقد له على ابنته فسار في الألوية والجنود وطوّع ضاحية الشرق وقبائله، وافتتح أمصاره حتى انتهى إلى المريّة [1] . ونظّم البلاد في طاعة السلطان، وأحشد مقاتلتها إلى معسكره فلحقوا له وكاثروا جنوده. واستعمل السلطان على وانشريش وعمل الحشم من بني توجين.
وعقد لسعد بن سلامة بن علي على بني يدللتين. وجعل الوالي بالقلعة إلى نظره. وكان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعا عن أبي تاشفين لمكان أخيه قريعة محمد من الدولة.
واستعمل السلطان أيضا على شلف وسائر أعمال المغرب الأوسط. واختطّ السلطان بغربي [2] تلسمان البلد الجديد لسكناه، ونزل عساكره وسماه المنصورية [3] . وأدار على البلد المخروب سياجا من السور ونطاقا من الخندق. ونصب المجانيق والآلات من وراء خندقه وشيّد قبالة كل برج من أبراج البلد برجا على ساقة خندقه ينضح رماته بالنبل رماتهم، ويشغلونهم بأنفسهم حتى شيّد برجا آخر أقرب منه، وترتفع شرفاته فوق خندقهم. ولم يزل يتقرّب بوضع الأبراج من حدّ إلى ما بعده، حتى اختطها من قرب على ساقه خندقهم. وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعيالها، ورتّب المجانيق إلى رجمها ودكّها، فنالت من ذلك فوق الغاية. واشتدّ الحرب وضاق نطاق الحصار. وكان السلطان يصحبهم كل يوم بالبكور والتطواف على البلد من جميع جهاته لتفقّد المقاتلة في مراكزهم، وربما ينفرد في طوافه بعض الأيام عن حاشيته، فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرّة. وصفّوا جيوشهم من وراء السور مما يلي الجبل المطلّ على البلد، حتى إذا حاذاه السلطان في تطوافه فتحوا أبوابهم، وأرسلوا عليه عقبان جنودهم، واضطرّوه إلى سفح الجبل حتى لحق بأوعاره، وكاد أن ينزل عن فرسه هو وولّيه عريف بن يحيى أمير سويد. ووصل الصائح إلى المعسكر فركب الأميران ابناه:
ابو عبد الرحمن وأبو مالك، في جموع بني مرين، وتهاوت فرسان المعسكر من كلّ جانب، فشمّر جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم. ثم دفعوهم عنها، وحملوهم على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المدية.
[2] وفي نسخة ثانية: بقرب تلسمان.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية المنصورة.(7/340)
هوّة الخندق فتطارحوا فيه وترادفوا وهلك بالكظيظ أكثر ممن هلك بالقتل. واستلحم في ذلك اليوم زعماء ملئهم [1] مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بني توجين، ومحمد بن سلامة بن عليّ كبير بني يدللتن منهم أيضا وغيرهم. وكان يوما له ما بعده. واعتز بنو مرين عليهم من يومئذ. ونذر بنو عبد الواد بالتغلّب عليهم، واتصلت الحرب مدّة عامين. ثم اقتحمها السلطان غلابا لسبع وعشرين من رمضان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. ووقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصّته، وقاتل هنالك حتى قتل ابناه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ ووليّه عبد الحق بن عثمان من أعياص عبد الحق. نزع إليه من جملة الموحّدين كما أشرنا إليه ونستوفي خبره. فهلك هو وابنه وابن أخيه، وأثخنت السلطان أبا تاشفين الجراحة ووهن لها، فتقبّض عليه. واختبنه [2] بعض الفرسان إلى السلطان فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب وأورد غمرتها بنفسه، فاعترضه وقد غضّ الطرف بموكبه، فأمر به في الحين فقتل، واحتزّ رأسه، وسخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه وتفريعه، وذهب مثلا في الغابرين. واقتحم السلطان بكافّة عساكره، وتواقع الناس بباب كشوط [3] لجنوبهم من كظيظ الزحام، فهلك منهم أمم.
وانطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرّات في أموالهم وحرمهم.
وخلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمّة من خواصه وحاشيته. واستدعى شيوخ الفتيا بالبلد أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام، وفاء بحق العلم وأهله، فخلصوا إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب، فركب لذلك بنفسه وسكن وأوزع جنوده وأشياعه من الرعيّة، وقبض أيديهم عن الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد. وقد كمل الفتح وعزّ النصر، وشهد ذلك اليوم أبو محمد بن تافراكين، وافاه رسولا عن مولانا السلطان أبي يحيى مجدّدا للعهد، فأعجله السلطان إلى مرسلة بالخبر وسابق السابقين. ودخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح، فعظم السرور عند السلطان أبي يحيى بمهلك عدوّه والانتقام منه بشارة، واعتدّها بمساعيه. ورفع السلطان أبو الحسن القتل عن بني عبد الواد أعدائهم، وشفى نفسه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملاحمهم.
[2] اختبن الشيء: اخذه في خبنة ثيابه (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: كشوك.(7/341)
بقتل سلطانهم، وعفا عنهم وأثبتهم في الديوان، وفرض لهم العطاء، واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم،. وجمع كلمة بني واسين من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين، وسائر زناتة وأنزلهم ببلاد المغرب وسدّ بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله، وساروا عصبا تحت لوائه، فأنزل منهم بقاصية السوس وبلاد غمارة، وأجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين، واندرجوا في جملته، واتسع نطاق ملكه. وأصبح ملك زناتة بعد أن كان ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب.
والأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
(الخبر عن نكبة الأمير عبد الرحمن بمتيجة وتقبض السلطان عليه ثم مهلكه آخرا)
قد قدّمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحّدين منازلتهم تلمسان مع عساكره، وتلوّم السلطان أبي الحسن بتاسالت لانتظار مولانا السلطان أبي يحيى.
ولما نازل تلمسان بعساكره المرّة الثانية، لم يطالبهم بذلك. وكان أبو محمد بن تافراكين يتردّد إليه وهو بمعسكره من حصار تلمسان مؤدّيا حقه مستخبرا مآل عدوّهم. فلمّا تغلّب على تلمسان أسرّ إليه سفيره أبو محمد بن تافراكين بأنّ سلطانه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوّه. وتشوّف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به، وارتحل من تلمسان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وعسكر ببسيط بمتيجة منتظرا وفادة مولانا السلطان أبي يحيى عليه، وتكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه المتحكّم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها، وقال له: إنّ لقاء سلطانين لا يتّفق إلّا في يوم على أحدهما، فكره ذلك السلطان وتقاعد عنه: وطال مقام السلطان أبي الحسن في انتظار الموعد الّذي ألقى إليه أبو محمد بن تافراكين، واعتل لأشهر من مقامه ومرض بفسطاطه. وتحدّث أهل المعسكر بمهلكه. وكان ابنا الأمير أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين في ولاية عهده منذ أيام جدّهما أبي سعيد. وكان السلطان قد جعل لهما من أوّل دولته ألقاب الإمارة وأحوالها من اتخاذ الوزراء والكتّاب ووضع العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء. واستلحاق الفرسان والانفراد بالعساكر، فكانا من ذلك على ثبج. وجعل لهما مع ذلك الجلوس لمقعد فصله،(7/342)
مناوية لتنفيذ الأوامر السلطانيّة، فكانا لذلك رديفين له في سلطانه.
ولما اشتدّ وجع السلطان تمشّت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين وحزّب أهل المعسكر لهما أحزابها، وبثّ كل واحد منهما المال وحمل على المقربات. وصارت شيعا وانقسموا فرقا. وهمّ الأمير أبو عبد الرحمن بالتوثّب على الأمر قبل أن يتبيّن حال السلطان بإغراء وزرائه وبطانته بذلك. وتفطّن خاصّة السلطان لها، فأخبروه الخبر وحضّوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتّسع الخرق، فبرز إلى فسطاط جلوسه وتسامع أهل المعسكر به، فازدحموا على مجلسه وتقبيل يده. وتقبّض على أهل الظنّة من العساكر، فأودعهم السجن وسخط على الأميرين. ورحل الناس من معسكرهما، فردّهما إلى معسكره. ثم رجع إلى فسطاطه فارتاب الأميران لذلك ووجما، وطفئت نار فتنتهما وسكن سعي المفسدين عندهما وانتبذ الناس عنهما.
فاشتدّت روعة الأمير أبي عبد الرحمن، وركب من فساطيطه وخاض الليل، وأصبح بحلّة أولاد علي [1] أمراء زغبة الموطّنين بأرض حمزة، فتقبّض عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل. وردّه إلى أبيه، فاعتقله بوجدة، ورتّب العيون لحراسته من حشمه إلى أن قتل بعد ذلك سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. وثبت بالسجّان فقتله. وأنفذ السلطان حاجبه علّان بن محمد فقضى عليه. ولحق وزيره زيّان بن عمر الوطاسي بالموحدين فأجاروه. ورضي السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك، وعقد له على ثغور عمله بالأندلس، وصرفه إليها، وانكفأ إلى تلمسان.
والله أعلم.
(الخبر عن خروج ابن هيدور وتلبسيه بابي عبد الرحمن)
لما تقبّض السلطان على ابنه عبد الرحمن وأودعه السجن، تفرّق خدمة وحشمه وانذعروا في الجهات. وهمل جازر من مطبخه، كان يعرف بابن هيدور، كان شبيها له في الصورة، فلحق ببني عامر من زغبة، وكانوا لذلك العهد منحرفين عن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أولاد زغلي.(7/343)
الطاعة، خوارج على الدولة لما كان السلطان وأبوه اختصا عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم، منذ نزع إليهم عن أبي تاشفين. فركبوا سنن الخلاف ولبسوا جلدة النفاق، وانتبذوا بالقفار. ورياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر وإخوته. وعقد السلطان على حربهم لونزمار ابن وليّه عريف. وكان سيّد البدو يومئذ، فجمع لهم وشمّر لطلبهم، وأبعدوا أمامه في المذاهب، وأوقع بهم مرارا. ولحق بهم هذا الجازر، وانتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن وأنه أبو عبد الرحمن ابنه النازع عنه، فشبّه لهم وبايعوه وأجلبوا به على نواحي المرية [1] . وبرز إليهم قائدها مجاهد بن [2] من صنائع الدولة، ففضّوا جمعه وانهزم أمامهم. ثم جمع لهم ونزمار وفرّوا عن تلك النواحي وافترق جمعهم. ونبذوا لذلك الجازر عهده، فلحق ببني يرناتن من زواوة، ونزل على سيّدتهم شمسي فقامت بأمره. وحمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته. وشاع في الناس خبره فمن مصدّق ومن مكذّب حتى تبيّنت ووقفوا على كذبه في انتسابه، فنبذوا عهده ولحق بالزواودة أمراء رياح، ونزل على سيّدهم يعقوب بن عليّ، وانتسب له في مثل ذلك، فأجاره إن صدق نسبه.
وأوعز السلطان إلى السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية في شأنه، فبعث إلى يعقوب وأشخصه إلى السلطان مع ذويه، فلحق به بمكانه من سبتة فامتحنه السلطان وقطعه من خلاف وانحسم دواؤه. وبقي بالمغرب تحت جراية من الدولة إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وسبعمائة [3] والله تعالى أعلم.
(الخبر عن شأن الجهاد واغزاء السلطان ابنه الأمير ابا مالك واستشهاده)
لما فرغ السلطان من أمر عدوّه وما تبع من ذلك من الأحوال، صرف اعتزامه إلى الجهاد لما كان كلفا به. وكان الطاغية منذ شغل بني مرين عن الجهاد منذ عهد يعقوب بن عبد الحق قد اعتزوا على المسلمين بالعدوة. ونازلوا معاقلهم،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المدية.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد مجاهد هذا في المراجع التي بين أيدينا.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: ثمان وستين.(7/344)
وتغلّبوا على الكثير منها، وارتجعوا الجبل ونازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة. ووضعوا عليه الجزية فتقبّلها وأسفّوا إلى التهام المسلمين بالأندلس. فلما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوّه وعلت على الأيدي يده، وانفسح نطاق ملكه، دعته نفسه إلى الجهاد.
وأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور من عمله بالعدوة سنة أربعين وسبعمائة بالدخول إلى دار الحرب، وجهّز إليه العساكر من حضرته وأنفذ إليه الوزراء، فشخص غازيا في الحفل، وتوغّل في بلاد الطاغية واكتسحها، وخرج بالسبي والغنائم إلى أدنى صدره من أرضهم وأناخ بها. واتصل به الخبر بأنّ النصارى جمعوا له، وأغذّوا السير في اتباعه. وأشار عليه الملأ بالخروج من أرضهم وإجازة الوادي الّذي كان تخما بين أرض الإسلام ودار الحرب. وأن يصير إلى مدن المسلمين فيمتنع بها، فلج في إبايته وصمّم على التعريس. وكان قرما ثبتا إلا أنه غير بصير بالحروب لمكان سنه، فصبحهم عساكر النصرانيّة في مضاجعهم قبل أن يركبوا وخاطبوهم في ابايتهم. وأدرك الأمير أبو مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه، واحتووا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين وأموالهم، ورجعوا على أعقابهم. واتصل الخبر بالسلطان فتفجّع لهلاك ابنه، واسترحم له، واحتسب عند الله أجره وفي سبيله قتله. وشرع في إجازة العساكر للجهاد وتجهيز الأساطيل.
(الخبر عن واقعة الملند والظفر به وظهور اساطيل المسلمين على اسطول النصارى)
لما بلغ الخبر إلى السلطان باستشهاد ابنه، أخرج وزراءه إلى السواحل لتجهيز الأساطيل. وفتح ديوان العطاء، واعترض الجنود وأزاح عللهم. واستنفر أهل المغرب وارتحل إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد. وتسامعت أمم النصرانية بذلك، فاستعدّوا للدفاع. وأخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق ليمنع السلطان من الإجازة. واستحثّ السلطان أساطيل المسلمين من مراسي العدوة. وبعث إلى الموحدين بتجهيز أسطولهم إليه، فعقدوا عليه لزيد بن فرحون قائد أسطول بجاية من صنائع دولتهم، ووافى ستة(7/345)
في ستة عشر من أساطيل إفريقية، كان من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجّاية. وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز المائة. وعقد السلطان عليها لمحمد بن عليّ العزفي الّذي كان صاحب سبتة يوم فتحها، وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق. وقد اكتمل عديدهم وعدّتهم، فاستلأموا وتظاهروا في السلاح.
وزحفوا إلى أسطول النصارى وتواقفوا مليا. ثم قرّبوا الأساطيل بعضها إلى بعض وقرنوها للمصاف، فلم يمض إلا كلا ولا [1] حتى هبّت ريح النصر، وأظفر الله المسلمين بعدوّهم، وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبرا بالسيوف، وطعنا بالرماح، وألقوا أشلاءهم في اليم وقتلوا قائدهم الملند واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة، فبرز الناس لمشاهدتها وطيف بكثير من رءوسهم في جوانب البلد.
ونظمت أصفاد الأسرى بدار الإنشاء. وعظم الفتح وجلس السلطان للتهنئة، وأنشدت الشعراء بين يديه، وكان يوما من أعز الأيام، والمنّة للَّه.
(الخبر عن واقعة طريف وتمحيص المسلمين)
لما ظفر المسلمون بأسطول النصارى وخضّدوا شوكتهم عن ممانعة الجواز، شرع السلطان في إجازة العساكر الغزاة من المطوّعة والمرتزقة، وانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة. ولما استكمل إجازة العساكر أجاز هو في أسطوله مع خاصّته وحشمه آخر سنة أربعين وسبعمائة ونزل بساحة طريف وأناخ بعساكره عليها، واضطرب معسكره بفنائها، وبدأ بمنازلتها. ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجّاج ابن السلطان أبي الوليد بعسكر الأندلس من غزاة زناتة وحامية الثغور ورجل البدو، فعسكروا حذاء معسكره وأحاطوا بطريف نطاقا واحدا، وأنزلوا بهم أنواع القتال، ونصبوا عليها الآلات. وجهّز الطاغية أسطولا آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن المعسكر، وطال ثواؤهم [2] بمكانهم من حصار البلد، ففنيت أزودتهم وافتقدوا العلوفات، فوهن الظهر واختلّت أحوال المعسكر. واحتشد الطاغية أمم النصرانيّة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولم يكن إلا كلا ولا.
[2] بمعنى مقامهم.(7/346)
وظاهره البرتقال صاحب أشبونة، وغرب الأندلس، فجاء معه في قومه. وزحف إليهم لستة أشهر من نزولهم. ولما قرب معسكرهم سرّب إلى طريف جيشا من النصارى أكمنه بها، فدخلوه ليلا على حين غفلة من العسس الّذي أرصد لهم. وأحسّوا بهم آخر ليلتهم، فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عددا ولبسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم حذرا من سطوته. وزحف الطاغية من الغد في جموعه، وعبّى السلطان مواكب المسلمين صفوفا، وتزاحفوا ولما نشب الحرب برز الجيش الكمين من البلد وخالفوهم إلى المعسكر، وعمدوا إلى فسطاط السلطان ودافعهم عنه الناشبة الذين أعدّوا لحراسته فاستلحموهم. ثم دافعهم النساء عن أنفسهنّ فقتلوهنّ وخلصوا إلى خطايا السلطان: عائشة بنت عمه أبي يحيى بن يعقوب، وفاطمة بنت مولانا السلطان أبي يحيى ملك إفريقية، وغيرهما من حظاياه فقتلوهنّ واستلبوهنّ. وانتهبوا سائر الفساطيط وأضرموا المعسكر نارا وأحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم فاختلّ مصافهم وارتدّوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم، فأحاطوا به وتقبّضوا عليه، وولّى السلطان متحيزا إلى فئة المسلمين، واستشهد كثير من الغزاة ووصل الطاغية إلى فسطاط السلطان من المحلّة وأنكر قتل النساء والولدان، ووقف منه لمنتهى أثره، وانكفأ راجعا إلى بلاده، ولحق ابن الأحمر بغرناطة، وخلص السلطان إلى الجزيرة، ثم إلى الجبل. ثم ركب السفين إلى سبتة في ليله ومحّص الله المسلمين وأجزل ثوابهم. وأرجأ لهم الكرّة على عدوّهم.
(الخبر عن منازلة الطاغية الجزيرة، ثم تغلبه عليها بعد أن غلب على القلعة من ثغور ابن الأحمر)
لما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس، وطمع في التهامهم، وجمع عساكر النصرانية، ونازل قلعة بني سعيد ثغر غرناطة. وعلى مرحلة منها وجمع الآلات والأيدي على حصارها، واشتدّ مخنقها وأصابهم الجهد من العطش، فنزلوا على حكمه سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وأدال الله الطيب منها بالخبيث، وانصرف إلى بلده. وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعودة إلى الجهاد لرجع(7/347)
الكرّة وبعث في الأمصار للاستنفار، وأخرج قوّاده إلى سواحل البحر لتجهيز الأساطيل حتى اكتمل له منها عدد. ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفتها، وقدّم عساكره إلى العدوة مع وزيره عسكر بن تاحضريت. وبعث على الجزيرة محمد بن العبّاس بن تاحضريت من قرابة الوزير، وبعثه إليها مددا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليرنياني من المرشحين للوزارة ببابه، وبلغ الطاغية خبره فجهّز أسطوله وأجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته. وتلاقت الأساطيل ومحّص الله المسلمين واستشهد منهم أعاد وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق وملكوه دون المسلمين وأقبل الطاغية من إشبيلية في عساكر النصرانية حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء مرفا أساطيل المسلمين وفرضة المجاز. وأمّل أن ينظمها في مملكته مع جارتها طريف، وحشد الفعلة والصنّاع للآلات، وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار. واتخذ أهل المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة. وجاء السلطان أبو الحجّاج بعساكر الأندلس فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل الفتح في سبيل الممانعة. وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة ليسرّب عليها المدد من الفرسان والمال والزرع في أحايين الفعلة من أساطيلهم، وتحت جناح الليل، فلم يغنهم ذلك، واشتدّ عليهم الحصار وأصابهم الجهد. وأجاز إليه السلطان أبو الحجّاج يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية، بعد إذن الطاغية له في الإجازة مكرا به وترصّد له بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال وخلصوا إلى الساحل بعد غصّ الريق، وضاقت أحوال الجزيرة ومن كان بها من عساكر السلطان. وسألوا من الطاغية الأمان على أن ينزلوا عن البلد فبذله وخرجوا فوفّى لهم.
وأجازوا إلى المغرب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فأنزلهم السلطان ببلاده على خير نزل، ولقّاهم من المبرّة والكرامة ما أعاضهم ممّا فاتهم، وخلع عليهم وحملهم وأجازهم بما تحدّث به الناس. وتقبّض على وزيره عسكر بن تاحضريت عقوبة على تقصيره في المدافعة، مع تمكّنه منها بما كان لديه من العساكر. وانكفأ السلطان إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله، وإنجاز وعده في رجوع الكرّة وعلوّ الدين. والله متمّ نوره ولو كره الكافرون
.(7/348)
(الخبر عن شفاعة صاحب تونس في أولاد أبي العلاء ووصولهم الى السلطان)
كان عثمان بن أبي العلاء من أعياض آل عبد الحق، شيخ الغزاة المجاهدين من زناتة والبربر بالأندلس. وكان له فيها مقام معلوم في حماية الثغور ومدافعة العدوّ، وغزو دار الحرب، ومساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما نستوفي أخباره. وكان السلطان أبو سعيد لما استصرخ بأهل الأندلس اعتذر بمكانه بينهم. واشترط عليهم أن يمكّنوه من قياده حتى يقضي نوبة الجهاد، فلم يسعفوه بذلك. ولمّا هلك عثمان بن أبي العلاء، قام بالأمر من بعده في مراسم الجهاد بنوه وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم أبي ثابت عامر. وقويت عصابتهم بالموالي والأبناء، وغلبت على يد السلطان يدهم، واستبدّوا عليه في أكثر الأحوال، واستنكف لها، وكان ذلك مما دعاه إلى القدوم على السلطان أبي الحسن. وارتاب بنو أبي العلاء في إجازته إليه، واتهموه على أنفسهم، وأسعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره. فلمّا تغلّب المسلمون عليه، وقضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة ما قضى كما ذكرناه، واعتزم على القفول إلى حضرته، أجمعوا الفتك به في طريقه. وداخلوا في ذلك مولاه ابن المعلوجي لما أسفهم به من إرهاف حدّه والتضييق عليهم في جاههم، فبرموا وطووا على البث [1] ، حتى إذا وجدوا من أبي العلاء صاغية إلى ذلك، خفّوا إلى إجابتها، ونذر بهم محمد بن الأحمر فبعث عن السفن تعرضه في طريقه [2] وساحل إليهم، وتسابقوا لشأنهم قبل فوته، فأدركوه دون حصن أصطبونة. وعتبوه فاستعتب، وأغلظوا له في القول، وقتلوا مولاه عاصما صاحب ديوان العطاء تجنّيا عليه. ونكر ذلك السلطان فتناولوه بالرماح قعصا وطعنا حتى أقعصوه. ورجعوا إلى المعسكر فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي. وجاءوا بأخيه أبي الحجّاج يوسف بن أبي الوليد، فبايعوا له وأصفقوا على تقديمه. وسرّح لحينه قائده ابن عزّون، فاستولى له على دار ملكه، وتمّ أمره وحجبه رضوان مولى أبيهم، واستبدّ عليه، وسكن بين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على النث.
[2] وفي نسخة ثانية: فبعث على السفين يعترضه في طريقه.(7/349)
جنبيه من بني أبي العلاء وقتلهم لأخيه داء دخيل، حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد، وأجاز المدد إلى ثغور عمله بالأندلس، وعقد لابنه الأمير أبي مالك، أسرّ إليهم في شأن بني أبي العلاء بما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط عليهم في مثلها. ووافق منه داعية لذلك فتقبّض عليهم أبو الحجّاج وأودعهم المطبق أجمع. ثم أشخصهم في السفين إلى مراسي إفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى. وبعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه فاعتقلهم، ثم أوعز إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته، فتوقّف عنها. وأبى من إخفار ذمّتهم ووسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد السلطان فيهم غير ما ظنّوا به من الشرّ. ورغب ببعثهم إليه والمبالغة في الشفاعة فيهم، علما بأنّ شفاعته لا تردّ فأجابه لذلك، وجنبوهم إليه مع ابن بكرون. واتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتاب الشفاعة فيهم من السلطان. وقدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة فتلقّاهم بالبرّ والترحيب إكراما لشفيعهم. وأنزلهم بمعسكره وجنّب لهم المقرّبات بالمراكب الثقيلة، وضرب لهم الفساطيط، وأسنى لهم الخلع والجوائز وفرض لهم أعلى رتب العطاء وصاروا في جملته. ولمّا احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة، سعى عنده فيهم بأنّ كثيرا من المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثّب على الملك، فتقبّض عليهم وأودعهم في السجن بمكناسة، إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنّان ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن هدية السلطان الى المشرق وبعثه بنسخ المصحف من خطه الى الحرمين والقدس)
كان للسلطان أبي الحسن مذهب في ولاية ملوك المشرق، والكلف بالمعاهد الشريفة تقبّله من سلفه. وضاعفه لديه متن ديانته. ولمّا قضى من أمر تلمسان ما قضى، وتغلّب على المغرب الأوسط، وصار أهل النواحي تحت ربقة منه، واستطال بجناح سلطانه، خاطب لحينه صاحب مصر والشام محمد بن قلاوون الملك الناصر، وعرّفه بالفتح وارتفاع العوائق عن الحاج في سابلتهم. وكان فرانقه [1] في ذلك
__________
[1] الفرانق: البريد وربما سمعوا دليل الجيش فرانقا، فارسي معرب (قاموس) .(7/350)
فارس بن ميمون بن وردار. وعاد بجواب الكتاب وتقرير المودّة بين السلف. وأجمع السلطان على كتب نسخة عتيقة من المصحف الكريم بخط يده ليوقفها بالحرم الشريف قربة إلى الله تعالى، وابتغاء للمثوبة، فانتسخها وجمع الورّاقين لمعاناة تذهيبها وتنميقها، والقرّاء لضبطها وتهذيبها حتى اكتمل شأنها، وصنع لها وعاء مؤلفا من خشب الأبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة وغشي بصفائح الذهب ونظم الجوهر والياقوت واتخذ له اصونه الجلد المحكمة الصنعة وغشّي بصفائح الذهب، ونظم بالجوهر والياقوت، واتخذت له أصونة الجلد المحكمة الصناعة، المرقوم أديمها بخطوط الذهب من فوقها غلاف الحرير والديباج وأغشية الكتّان. وأخرج من خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القرّاء فيها، وأوفد على الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر والشام، خواص مجلسه وكبار أهل دولته، مثل عريف بن يحيى أمير زغبة، والسابق المقدّم في بساطه على كل خالصة عطيّة بن مهلهل بن يحيى كبير الخولة. وبعث كاتبه أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين وعريف الوزعة ببابه وصاحب دولته عبو بن قاسم المزوار [1] ، واحتفل في الهدية للمزوار للسلطان صاحب مصر احتفالا تحدّث الناس به دهرا. ووقفت على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي مدين هذا الرسول ووعيته وأنسيته وذكر لي بعض قهارمة الدار أنه كان فيها خمسمائة من عتاق الخيل المقرّبات، بسروج الذهب والفضة ولجمها، خالصا ومغشي ومموها، وخمسمائة حمل من متاع المغرب وما عونه وأسلحته، ومن نسج الصوف المحكّم ثيابا وأكسية وبرانس وعمائم، وأزرا معلمة وغير معلمة. ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملوّنا وغير ملوّن، وساذجا ومنمّقا.
ومن الدّرق المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة بالدباغ المتعارف، وتنسب إلى اللمط.
ومن خرثيّ المغرب وما عونه وما يستظرف صناعته بالمشرق، حتى لقد كان فيها مكيل من حصى الجوهر والياقوت. واعتزمت حظية من حظايا أبيه على الحج في ركابه ذلك، فأذن لها واستبلغ في تكريمها. واستوصى بها وافده وسلطان مصر في كتابه.
وفصلوا من تلمسان سنة [2] وأدّوا رسالتهم إلى الملك الناصر وهديتهم،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وعريف الوزعة بدولته، وصاحب الباب عبّو بن قاسم المزوار.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.(7/351)
فتقبّلها وحسن لديه موقعها. وكان يوم وفادتهم عليه بمصر يوما مشهودا، تحدّث به الناس دهرا، ولقاهم في طريقهم أنواع البرّ والتكرمة حتى قضوا فرضهم، ووضعوا المصحف الكريم حيث أمرهم صاحبهم. وأسنى هدية السلطان من فساطيطهم الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب، ومن ثياب الإسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب، ورجّعهم بها إلى مرسلهم وقد استبلغ في تكريمهم ووصلتهم. وبقي حديث هذه الهديّة مذكورا بين الناس لهذا العهد.
ثم انتسخ السلطان نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأوّل، ووقفها على القراءة بالمدينة، وبعث بها من تخيّره لذلك العهد من أهل دولته. سنة [1] واتصلت الولاية بينه وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسماعيل، فخاطبه السلطان وأتحفه وعزّاه عن أبيه، وأوفد عليه كاتبه وصاحب ديوان الخراج أبا الفضل بن عبد الله بن أبي مدين فقضى من وفادته ما حمل. وكان شأنه عجبا في إظهار أبّهة سلطانه، والإنفاق على المستضعفين من الحاج في طريقه، واتحاف رجال الدولة التركيّة بدأت يده والتعفّف عمّا في أيديهم. ثم شرع بعد استيلائه على إفريقية كما نذكره في كتاب نسخة أخرى من المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس، فلم يقدر إتمامها، وهلك قبل فراغه من نسخها، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن هدية السلطان الى ملك مالي من السودان المجاورين للمغرب)
كان للسلطان أبي الحسن مذهب في الفخر يتطاول به إلى مناغات الملوك الأعاظم واقتفاء سننهم في مهاداة الأقتال والأمصار [2] ، وإيفاد الرسل على ملوك النواحي القاصية والتخوم البعيدة. وكان ملك مالي أعظم ملوك السودان لعهده مجاورا لملكه بالمغرب على مائة مرحلة في القفر من ثغور ممالكه القبليّة. ولمّا غلب بني عبد الواد على تلمسان وابتزّهم ملكهم، واستولى على ممالك المغرب الأوسط، وتحدّث الناس
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة ثانية: الانظار.(7/352)
بشأن أبي تاشفين وحصاره ومقتله، وما كان للسلطان في ذلك من سورة التغلّب وآية العزّ وإهانة العدو وشاعت أخبار ذلك في الآفاق. وسما سلطان مالي منسا موسى المتقدّم ذكره في أخبارهم إلى مخاطبته. فأوفد عليه فرانقين من أهل مملكته مع ترجمان من الملثّمين المجاورين لممالكهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان في التهنئة بالغلب والظفر بالعدو، فأكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم. ونزع إلى طريقته في الفخر، فأتحف طرفا من متاع المغرب وماعونه من ذخيرة داره وأسناها، وعيّن رجالا من أهل دولته، كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مدين ومولاه عنبر الخصيّ. وأوفدهم بها على ملك مالي منسا سليمان بن منسا موسى، لمهلك أبيه قبل مرجع وفده. وأوعز إلى أعراب الفلاة من المعقل بالسير معهم ذاهبين وجائين، فشمّر لذلك علي بن غانم أمير أولاد جار الله من المعقل، وصحبهم في طريقهم امتثالا لأمر السلطان. وتوغّل ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول المشقة، فأحسن مبرّتهم وأعظم موصلهم وأكرم وفادتهم ومنقلبهم. وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظّمون سلطانه، ويوجبون حقّه، ويؤدّون طاعته من خضوع مرسلهم وقيامه بحق السلطان واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به، فأدّوا رسالتهم وبلغ السلطان أربا من اعتزازه على الملوك وخضوعهم لسلطانه، وقضاء حقّ الشكر للَّه في صنعه.
(الخبر عن اصهار السلطان الى صاحب تونس)
لما هلكت ابنة السلطان أبي يحيى بطريف فيمن هلك من حظايا السلطان أبي الحسن بفساطيطه، بقي في نفسه منها شيء حنينا إلى ما شغفته به من خلالها وعزة سلطانها، وقيامها على بيتها، وظفرها في تصريفها [1] ، والاستمتاع بأصول الترف ولذاذة العيش في عشيرتها، فسما أمله إلى الاعتياض عنها ببعض أخواتها. وأوفد في خطبتها وليّه عريف بن يحيى أمير زغبة، وكاتب الجباية والعساكر بدولته أبا الفضل ابن عبد الله بن أبي مدين، وفقيه الفتوى بمجلسه أبا عبد الله محمد بن سليمان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تصرفاتها. ابن خلدون م 23 ج 7(7/353)
السطي، ومولاه عنبر الخصّي، فوفدوا يوم مثنى من سنة ست وأربعين وسبعمائة وأنزلوا منزل البرّ، واستبلغ في تكريمهم ودسّ الحاجب أبو عبد الله بن تافراكين إلى سلطانه غرض وفادتهم، فأبى من ذلك صونا لحرمة عن جولة الأقطار وتحكّم الرجال، واستعظاما لمثل هذا العرس. ولم يزل حاجبه ابن تافراكين يخفض عليه الشأن ويعظّم عليه حقّ السلطان أبي الحسن في ردّ خطبته مع الأذمّة السابقة بينهما من الصهر والمخالصة إلى أن أجاب وأسعف. وجعل ذلك إليه فانعقد الصهر بينهما وأخذ الحاجب في شوار العروس، وتأنق فيه واحتفل واستكثر وطال ثواء الرسل إلى أن استكمل وارتحلوا من تونس لربيع من سنة تسع [1] وأربعين وسبعمائة وأوعز مولانا السلطان أبو يحيى إلى ابنه الفضل صاحب بونة وشقيق هذا العروس أن يزفّها على السلطان أبي الحسن قياما بحقّه، وبعث من بابه مشيخة من الموحدين مقدّمهم عبد الواحد بن محمد بن أكمازير، صحبوا ركابها إليه. ووفدوا جميعا على السلطان واتصل الخبر أثناء طريقهم بمهلك مولانا السلطان أبي يحيى عفا الله عنه، فعزاهم السلطان أبو الحسن عنه عند ما وصلوا إليه، واستبلغ في تكريمهم وأجمل موعد أخيها الفضل بسلطانه ومظاهرته على تراث أبيه فاطمأنت به الدار الى أن سار في جملة السلطان وتحت ألويته إلى إفريقية كما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة السلطان الى إفريقية واستيلائه عليها)
كان السلطان أبو الحسن قد امتدّت عينه إلى ملك إفريقية لولا مكان السلطان أبي يحيى من ولايته وصهره، وأقام يتحيّن لها الأوقات، ولمّا بعث إليه في الصهر وأشيع بتلمسان أن الموحدين ردّوا خطبته، نهض من المنصورة بتلمسان وأغذّ السير إلى فاس ففتح ديوان العطاء، وأزاح علل العسكر، وعقد على المغرب الأقصى لحافده منصور ابن الأمير أبي مالك، وفوّض إلى الحسن بن سليمان بن يرزيكن في أحكام الشرطة، وعقد له على الضاحية، وارتحل إلى تلمسان مضمرا الحركة إلى إفريقية حتى إذا جاء الخبر اليقين بالإسعاف والزفاف سكن عزمه [2] وهدأ طائره. فلمّا هلك السلطان أبو
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سنة سبع.
[2] وفي نسخة ثانية: سكن غربة.(7/354)
يحيى في رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وكان من قيام ابنه عمر بالأمر، ونزوع الحاجب أبي محمد بن تافراكين في رمضان منها ما ذكرناه، تحرّكت عزائم السلطان لذلك. ورغبه ابن تافراكين في ملك الموحّدين، فرغب وجاء على أثره الخبر بما كان من قتل عمر لأخيه أحمد وليّ العهد، وكان يستظهر على عهده بكتاب أبيه، وما أودعه السلطان بحاشيته من الوفاق على ذلك بخطه، واقتضاه منه حاجبه أبو القاسم بن عتّو في سفارته إليه، فامتعض السلطان لما أضاع عمر من عهد أبيه، وهدر من دم أخيه. وارتكب مذاهب العقوق فيهم، وخرق السباج الّذي فرضه بخطّه عليهم، فأجمع الحركة إلى إفريقية ولحق به خالد بن حمزة بن عمر نازعا إليه ومستغذّا مسيره، ففتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالمسير إلى إفريقية، وأزاح عللهم. وكان صاحب بجاية المولى أبو عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى، وفد على السلطان أبي الحسن إثر مهلك جدّه بقرب المآب [1] بسفارة أبيه إليه، ويطلب الإقرار على عمله. فلما استيأس منه واستيقن حركته بنفسه إلى إفريقية، طلب الرجوع إلى مكانه فأسعف وفصل إلى بجاية.
ولما قضى السلطان منسك الأضحى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد لابنه الأمير أبي عنّان على المغرب الأوسط، وعهد إليه بالنظر في أموره كافة، وجعل إليه جبايته، وارتحل يريد إفريقية. وسار في جملته هو وخالد بن حمزة أمير البدو. ولما احتلّ بوهران ووافاه هنالك وفد قسطيلة وبلاد الجريد، يقدمهم أحمد بن مكي أمير حربه [2] ورديف أخيه عبد الملك في إمارته، ويحيى بن محمد بن يملول أمير توزر سقط إليها بعد خروج الأمير أبي عمر العبّاس ولي العهد عنها، ومهلكه بتونس، وأحمد بن عامر بن العابد رئيس نفطة، رجعا إليهما كذلك بعد مهلك وليّ العهد، فلقيه هؤلاء الرؤساء بوهران في ملإ من وجوه بلادهم، فآتوه بيعتهم وقضوا حق طاعته. وتثاقل محمد بن ثابت أمير طرابلس عن اللحاق به، فبعث بيعته معهم، فأكرم وفدهم وعقد لهم على أمصارهم، وصرفهم إلى أعمالهم. وتمسّك بأحمد بن مكي لصحابة ركابه، وفي جملته، وأغذّ السير. ولما احتل ببني حسن من أعمال بجاية، وافاه بها منصور بن فضل بن مزني أمير بسكرة وبلاد الزاب في وفد من أهل
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: المتات وفي نسخة ثانية: المتاب وفي أخرى المناب.
[2] وفي نسخة أخرى: أمير جربة.(7/355)
وطنه، ويعقوب بن علي بن أحمد سيّد الزواودة وأمير البدو بضاحية بجاية وقسنطينة، فتلقّاهم بالمبرّة والاحتفاء وألزمهم ساقته. وسرّح بين يديه قائده حمو بن يحيى العسكري [1] من صنائع أبيه، فلمّا عسكر بساحة بجاية أبو عبد الله وأبي عليه أهل البلد رهبة من السلطان ورغبة فيه، وانفضّوا من حوله، ولحقت مشيختهم من القضاة وأهل الفتيا والشورى بمجلس السلطان. وسابقهم إليه حاجبه فارح مولى ابن سيد الناس، فأدّى طاعته ورجّعه إليه للخروج للقاء ركابه. وارتحل حتى إذا أطلّت راياته على البلد، بادر المولى أبو عبد الله ولقيه بساحة البلد، واعتذر من تخلّفه فتقبّل عذره وأحله من البرّ والتكرمة محل الولد العزيز. وأقطعه عمل كومية من نواحي هنين، وأسنى جرايته بتلمسان وأصحبه إلى ابنه أبي عنّان صاحب المغرب الأوسط واستوصاه به. ودخل بجاية فرفع عنهم الظلامات وحطّ عنهم الربع من المغارم. ونظر في أحوال ثغورها فثقفها وسدّ فروجها. وعقد عليها لمحمد بن النوار [2] من طبقة الوزراء والمرشحين لها، وأنزل معه حامية من بني مرين. وكاتب الخراج ببابه بركات بن حسّون بن البوّاق، وارتحل مغذّا لسيرة حتى احتل بقسطينة. وتلقّاه أميرها أبو زيد حافد مولانا السلطان أبي يحيى وأخواه أبو العبّاس أحمد وأبو يحيى زكريا وسائر إخوتهم، فأتوه ببيعتهم ونزلوا له عن عملهم. وأدالهم السلطان منه بندرومة من عمل تلمسان، عقد للمولى أبي زيد على إمارتها، وجعل له إسوة إخوته في أقطاع جبايتها، ودخل البلد وعقد عليها لمحمد بن العبّاس، وانزل معه العبّاس بن عمر في قومه من بني عسكر. وأمضى أقطاعات الزواودة ووافاه هنالك عمر بن حمزة سيّد الكعوب لعهده وأمير البدو مستحثا لركابه. وأخبره برحيل السلطان عمر ابن مولانا السلطان أبي يحيى من تونس فيمن اجتمع إليه من أولاد مهلهل أقتالهم من الكعوب موجها إلى ناحية قابس. وأشار على السلطان بتسريح العساكر لاعتراضه قبل أن يخلص إلى طرابلس، فسرّح معه حمّو بن يحيى العسكري قائده في عسكر من بني مرين والجند. وارتحلوا في اتباع السلطان أبي حفص، وتلوّم السلطان أبو الحسن بقسنطينة، واعترض عساكره بسطح الجعاب منها. وصرف يوسف بن مزني إلى عمله بالزاب، بعد أن خلع عليه وحمله.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: العشري.
[2] وفي نسخة ثانية: بن الثوار.(7/356)
ثم عقد للمولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى على مكان عمله ببونة، وملأ حقائبه جائزة وخلعا نفيسة وسرّحه، ثم ارتحل على أثرهم وأوعز حمّو بن يحيى مع الناجعة من أولاد أبي الليل، ولحقوا بالأمير أبي حفص بمباركة من ناحية قابس، فأوقعوا به وتردّى عن فرسه في حومة القتال هو ومولاه ظافر السنان القائم بدولته من المعلوجي، فتقبّض عليهما وسيقا إلى أبي حمّو فاعتقلهما إلى الليل، ثم ذبحهما وأنفذ برءوسهما إلى السلطان. ولحق الفلّ بقابس، فتقبّض عبد الملك بن مكي على أبي القاسم بن عتّو صاحب الأمير أبي حفص وشيخ الموحدين، وعلى صخر بن موسى شيخ بني سكين من سدويكش فيمن تقبّض عليه من ذلك الفلّ، وأشخصهم مقرنين في الأصفاد إلى السلطان. وسرّح السلطان عساكره إلى تونس، وعقد عليهم ليحيى بن سليمان صهره من بني عسكر على ابنته، وأنفذ معه أحمد بن مكي فاحتلوا بتونس، واستولوا عليها. وانطلق ابن مكي إلى مكان عمله من هنالك لما عقد له السلطان عليه وسرّحه إليه بعد أن خلع عليه وعلى حاشيته وحمّلهم. ونزل السلطان بناحية باجة، فوافاه هنالك البريد برأس الأمير أبي حفص. وعظم الفتح.
ثم ارتحل إلى تونس واحتلّ بها يوم الأربعاء الثامن لجمادى الآخرة من سنة ثمان.
وتلقّاه وفد تونس وملؤها من شيوخ الشورى وأرباب الفتيا، فآتوا طاعتهم وانقلبوا مسرورين بملكتهم. ثم عبّى يوم السبت إلى دخولها مواكبه، وصفّ جنوده سماطين من معسكره بسيجوم إلى باب البلد يناهز ثلاثة أميال أو أربعة. وركب بنو مرين إلى مراكزهم في جموعهم وتحت راياتهم. وركب السلطان من فسطاطه وراكبه من على يمينه وليّه عريف بن يحيى أمير زغبة، ويليه أبو محمد عبد الله بن تافراكين ومن على يساره الأمير أبو عبد الله محمد أخو مولانا السلطان أبي يحيى، ويليه الأمير أبو عبد الله ابن أخيه خالد، كانا معتقلين بقسنطينة مع ولدهما منذ خروج أخيه الأمير أبي فارس فأطلقهم السلطان أبو الحسن وصحبوه إلى تونس، فكانوا طرازا في ذلك الموكب فيمن لا يحصى من أعياص بني مرين وكبرائهم. وهدرت طبوله، وخفقت راياته، وكانت يومئذ مائة. وجاء والمواكب تجتمع عليه صفّا صفّا إلى أن وصل إلى البلد، وقد ماجت الأرض بالجيوش، وكان يوما لم ير مثله فيما عقلناه. ودخل السلطان إلى القصر وخلع على أبي محمد بن تافراكين كسوته وقرّب إليه فرسه بسرجه ولجامه.
وطعم الناس بين يديه وانتشروا. ودخل السلطان مع أبي محمد بن تافراكين إلى حجر(7/357)
القصر ومساكن الخلفاء، فطاف عليها ودخل منه إلى الرياض المتصلة به المدعوّة برأس الطابية، فطاف على بساتينه وجوائزه، وأفضى منه إلى معسكره وأنزل يحيى ابن سليمان بقصبة تونس في عسكر لحمايتها. ووصل إليه فلّ الأمير أبي حفص والأسرى بقابس مقرنين في أصفادهم، فأودعهم السجن بعد أن قطع أبا القاسم بن عتّو وصخر بن موسى من خلاف، لفتيا الفقهاء بحرابتهم [1] . وارتحل من الغد إلى القيروان فجال في نواحيها. ووقف على آثار الأوّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين، وزار أجداث العلماء والصالحين.
ثم سار إلى المهديّة ووقف على ساحل البحر، ونظر في عاقبة الذين كانوا من قبل أشدّ قوّة وآثارا في الأرض، واعتبر بأحوالهم. ومرّ في طريقه بقصر الأجم ورباط المنستير، وانكفأ راجعا إلى تونس، واحتل بها غرّة رمضان وأنزل المسالح على ثغور إفريقية، وأقطع بني مرين البلاد والضواحي، وأمضى أقطاعات الموحّدين للعرب. واستعمل على الجهات وسكن القصر وقد عظم الفتح وعظمت في الاستيلاء على الممالك والدول المنّة. واتصلت ممالكه ما بين مسراته والسوس الأقصى من هذه العدوة، وإلى رندة من عدوة الأندلس. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين ودفع إليه الشعراء بتونس يهنّئونه بالفتح، وكان سابقهم في تلك النوبة أبو القاسم الرحوي من ناشئة أهل الأدب فرفع إليه قوله:
أجابك شرق إذ دعوت ومغرب ... فمكّة هشّت للّقاء ويثرب
وناداك مصر والعراق وشامه ... بدارا، فصدع الدين عندك يشعب
وحيّتك أو كادت تحيّى منابر ... عليها دعاة الحقّ باسمك تخطب
فسارع منّا كلّ دان وشاسع ... إلى طاعة من طاعة الله تحسب
وتاقت لك الأرواح حبّا ورغبة ... وأنت على الآمال تنأى وتقرب
ففي البلدة البيضاء معشر ... وأنت بأفق الناصريّة ترقب
ووافتك من ذات النخيل وفودها ... فلقاهم أهل لديك ومرحب
ولم تتلكّأ عن إباء بجاية ... ولكنّ تراض الصعب حينا وتركب
تأبّت فلمّا أن أطلّت عساكر ... ترى الشهب منها تستباح وتنهب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بجرايتهم.(7/358)
تبادر منهم مذعن ومسلم ... وأذعن منهم شاغب ومؤلّب
وما تونس إلّا بمصر مروع ... وفي حرم أمست لديك تسرّب
وما أهلها إلا بغاث لصائد ... وبالعزّ منها استنصروا وتعقّبوا
وقد كنت قبل اليوم كهف زعيمهم ... فها أنت كهف للجميع ومهرب
فكل يرى أنّ الزمان أداله ... بكم فأجاب العيش والعيش مخصب
وكذلك ابن طائع وإن اعتلت ... به السنّ أحوالا وأنت له أب
وما ذاك إلا أن عدلك ينتمي ... إلى الخلفاء الراشدين وينسب
تساميت في ملك ونسك بحظة ... حذيّاك محراب لديها ومركب
إذا لذّ للأملاك خمر مدامة ... فلذّ لك القرآن يتلى ويكتب
وإن أد من القوم الصبوح فإنّما ... على ركعات بالضحى أنت تدأب
وإن حمدوا الشرب الغبوق فإنّما ... شرابك بالإمساء ذكر مرتّب
وإن خشنت أخلاقهم وتحجّبوا ... فما أنت فظّ بل، ولا متحجّب [1]
لقد كرمت منك السجايا فأصبحت ... إذا ما أمرّ الدهر تحلو وتعذب
كما شيّدت بيتا في ذؤابة معشر ... يزيدهم قحطان فخرا ويغرب
هم التاركو قلب القساور خضّعا ... وعن شأوهم كفّت عبيد وأغلب
هم الناس والأملاك تحت جوارهم ... هم العظم الأرض العظيمة مغرب [2]
هم المالكو الملك العظيم فبيتهم [3] ... على كاهل السبع الشداد مطنّب
لقد أصبحت بغداد تحسد بأسهم ... وحلة ودّت أن تكون مناسب [4]
تجلّت ببيت [5] المجد منهم كواكب ... لقد حلّ منها شارق ومغرّب
فاللَّه منهم ثلّة بغريبة [6] ... يروم بناها الأعجميّ فيعرب
لقد قام عبد الحقّ للحقّ طالبا ... فما فاته منه الّذي قام يطلب
وأعقب يعقوبا يؤم سبيله ... فلم يخطه وهو السبيل المنجب [7]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فما أنت فظ لا ولا متحجب.
[2] وفي نسخة ثانية: تغرب.
[3] وفي نسخة ثانية: ودستهم.
[4] وفي نسخة ثانية: ودجلة ودّت ان يكون بها سب.
[5] وفي نسخة ثانية: تحلت سماء.
[6] وفي نسخة ثانية: «ثلّة يعربية يروم ثباها» .
[7] وفي نسخة ثانية: الملحّب.(7/359)
وخلّف عثمانا فلله صارم ... به بان للإسلام شرع ومذهب
فكم في سبيل الله شنّ إغارة ... لما شاد أهل الكفر أمست تخرّب
ولمّا أراد الله إتمام منّة ... تقلّدها منّا مطيع ومذنب
أتى بك للدين الحنيفيّ آية ... تعرّى بها عن لامع الحقّ غيهب
فجئت بما يرضى به الله سالكا ... سبيلا إلى رضوانه بك يذهب
وقمت بأمر الله حقّ قيامه ... يناضل عنه منك نضل مدرّب
وأصبح أهل الله أهلا وشيعة ... لكم ولهم منكم مكان ومنصب
وحلّ بأهل الفتك ما حلّ عزمهم ... وقام لديهم واعظ مترقّب [1]
وجاهدت في الرحمن حقّ جهاده ... فراهب أهل الكفر بأسك يرهب
وأنقذت من أيدي الإغارة أمّة ... وأولى جهاد كان بل هو أوجب
فأصبحت الدنيا عروسا يزفّها ... لأمرك من جاري المقادير [2] مغرب
فلا مصر إلا قد تمنّاك أهله ... ولا أرض إلّا باذّكارك تخصب
وما الأرض إلّا منزل أنت ربّه ... وما حلّها إلّا الودود المرجّب
تملّكت شطر الأرض كسبا وشطرها ... وراثا [3] فطاب الكلّ إرثا ومكسب [3]
بجيش على الألواح والماء يمتطي ... وجيش على الضمر السوابق يركب
وجيش من الإحسان والعدل والتقى ... وذلك لعمر الله أغلى وأغلب
فلا مركب إلا يزيّن راكبا ... ولا راكب إلّا به ازدان مركب
ولا رمح إلّا وهو أهيف خاطر ... ولا سيف إلّا وهو أبيض فأضب [4]
فكم كاتب خطّيّه ودواته ... ولم يقر خطا يغتدى وهو يكتب [5]
يمرّ على الأبطال وهو كأنّه ... هزبر وأبطال الفوارس ربرب
وكم كاتب لا ينكر الطعن رمحه ... خبير بأيام الأعاريب معرب
له من عجيب السّحر بالقول أضرب ... وفي هامة القوم المضارب مضرب
فها هو في الأقوال واش محبّر ... وها هو في الأمثال ثاو مجرّب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ومثّوب.
[2] وفي نسخة ثانية: التقادير.
[3] وفي نسخة ثانية: تراثا فطاب الملك إرثا ومكسب.
[4] وفي نسخة ثانية: مقضب.
[5] ولم يقر خطا لا، ولا هو يكتب.(7/360)
ومن ساحب بردا من العلم والتقى ... عليه ذيول الداوديّة تسحب
له صبغة في العلم جاءت بأصبغ ... وشهبان فهم لم يشمهنّ أشهب
فيا عسكرا قد ضمّ أعلام عالم ... به طاب في الدنيا لنا متقلّب
هم الفئة العلياء والمعشر الّذي ... إذا حلّ شعبا [1] فهو للحق مشعب
لك الفضل في الدنيا على كل قاطن ... ومرتحل أنّى يجيء ويذهب
ويا مالكا [2] عدلا رضى متورّعا ... مناقبه العلياء تتلى وتكتب
شرعت من الإحسان فينا شريعة ... تساوى بهاناء ومن يتقرّب
وأسميت أهل النسك إذ كنت منهم ... فمنك أخو التقوى قريب مقرّب
وأعليت قدر العلم إذ كنت عالما ... فقيها وفي طلّابه لك مأرب
فمدحك محتوم على كلّ قائل ... ومن ذا الّذي يحصي الرمال ويحسب
فلله كم تعطي وتمطي وتجتبي ... فللبحر من كفيك قد صحّ منسب
فلا برحت كفّاك في الأرض مزنة ... يطيب بها للخلق مرعى ومشرب
ولا زلت في علياء مجدك راقيا ... وشانئك المدحوض ينكى وينكب
توافي على أقصى أمانيك آمنا ... فلا برّ يستعصى ولا يتعصّب
الخبر عن واقعة العرب مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما تخللها من الأحداث
كان هؤلاء الكعوب من بني سليم رؤساء البدو بإفريقية، وكان لهم اعتزاز على الدولة لا يعرفون غيره مذ أوّلها بل وما قبله، إذ كان سليم هؤلاء منذ تغلّب العرب من مضر على الدول والممالك أوّل الإسلام انتبذوا إلى الضواحي والقفار، وأعطوا من صدقاتهم عن عزّة، وارتاب الخلفاء بهم لذلك حتى لقد أوصى المنصور ابنه المهدي أن لا يستعين بأحد منهم كما ذكر الطبري. فلما انثالت الدولة العبّاسية واستبدّ الموالي من العجم عليهم، اعتز بنو سليم هؤلاء بالقفر من أرض نجد، وأجلبوا على الحاج بالحرمين، ونالتهم منهم معرّات، ولما انقسم ملك الإسلام بين العبّاسية والشيعة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: صعبا.
[2] وفي نسخة ثانية: يا ملكا.(7/361)
واختطّوا القاهرة، نفقت لهم أسواق الفتنة والتعزز، وساموا الدولتين بالهضيمة وقطع السابلة. ثم أغراهم العبيديّون بالمغرب وأجازوا إلى برقة على أثر الهلاليّين فخرّبوا عمرانها وأجروا في خلائها، حتى إذا خرج ابن غانية على الموحّدين وانتزى بالثغور الشرقيّة طرابلس وقابس، واجتمع معه قراقش الغزيّ مولى بني أيوب ملوك مصر والشام، وانضاف إليهم أفاريق العرب من بني سليم هؤلاء وغيرهم، أجلبوا معه على الضواحي والأمصار، وصاروا في جملتهم من ناعق فتنتهم. ولمّا هلك قراقش وابن غانية واستبدّ آل أبي حفص بإفريقية وأعزّ الزواودة على الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص، استظهر عليهم ببني سليم هؤلاء، وزاحمهم بظواعنهم وأقطعهم بإفريقية ونقلهم عن مجالاتهم بطرابلس وأنزلهم بالقيروان، فكان لهم من الدولة مكان وعليها اعتزاز، ولما افترق سلطان بني أبي حفص، واستبدّ الكعوب برياسة البدو، وضربوا بين أعياصها وسعوا في شقاقها، وأصابت منهم وأصابوا منها، وكان بين مولانا الأمير أبي يحيى وبين حمزة بن عمر أخي الأمير منازعة وفتن وحرب سجال أعانه عليها ما كان من زحف بني عبد الواد إلى إفريقية وطمعهم في تملّك ثغورها، فكان يستجرّ جيوشهم لذلك، وينصب الأعياص من بني أبي حفص يزاحم بهم، ثم غلبه مولانا السلطان أبو بكر آخرا واستجرّه إلى الطاعة ما كان من قطع كلمة الزبون [1] عن مولانا السلطان أبي يحيى، وهلاك عدوّه من آل يغمراسن، بسيف وليّه وظهيره السلطان أبي الحسن، فأذعن وسكن غرب اعتزازه. وحمل بني سليم على إعطاء صدقاتهم، فأعطوها بالكراهة. ثم هلك باغتيال الدولة له فيما يزعمون، وقام بالأمر بنوه ولم يعرفوا عواقب الأمور ولا أبلوا باعتساف الدولة، ولم يعهدوا ولا سمعوا لسلفهم غير الاعتزاز فحدّثتهم أنفسهم بالفتنة والاعتزاز على قائد الدولة. وحاربوه فغلبوه، وأجلبوا على السلطان في ملكه، ونازلوه بعقر داره سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ولما سامهم الأمير ابن مولانا السلطان أبي يحيى الهضيمة بعد مهلك أبيه، نزعوا إلى أخيه وليّ العهد، فجاء إلى تونس وملكها سبعا. ثم اقتحم عليه أخوه الأمير أبو حفص فقتله. وتقبّض يوم اقتحامه البلد
__________
[1] الزبن: دفع الشيء عن الشيء، وجرب زبون. تزين الناس، أي تصدعهم وتدفعهم، على التشبيه بالناقة التي تزبن ولدها عن ضرعها وتزبن الحالب أي تدفعه بثفناتها وقال الجوهري: أما الزبون للغبي والحريف فليس من كلام أهل البادية (لسان العرب) .(7/362)
على أبي الهول بن حمزة أخيهم، فقتله صبرا بباب داره بالقصبة، فأسفهم بها.
ونزعوا الى السلطان أبي الحسن ورغّبوه في ملك إفريقية واستعدّوه إليها.
ولما تغلب السلطان على الوطن وكانت حاله في الاعتزاز على من في طاعته غير حال الموحدين وملكته للبدو غير ملكتهم، وحين رأى اعتزازهم على الدولة وكثرة ما أقطعتهم من الضواحي والأمصار، نكره وأدالهم من الأمصار التي أقطعهم الموحدون بأعطيات فرضها لهم في الديوان. واستكثر جبايتهم، فنقصهم الكثير منها وشكا إليه الرعيّة من البدو وما ينالونهم به من الظلامات والجور بفرض الاتاوة التي يسمونها الخفارة، فقبض أيديهم عنها وأوعز إلى الرعايا بمنعهم منها، فارتابوا لذلك، وفسدت نياتهم وثقلت وطأة الدولة عليهم فترصّدوا لها. وتسامع ذؤبانهم وبواديهم بذلك، فأغاروا على قياطين [1] بني مرين ومسالحهم بثغور إفريقية وفروجها، واستاقوا أموالهم، وكثر شاكيهم [2] وأظلم الجو منهم بينهم وبين السلطان والدولة.
ووفد عليه بتونس بعد مرجعه من المهديّة وفد من مشيختهم، كان فيهم خالد بن حمزة مستحبة [3] إلى إفريقية، وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين، وابن عمه خليفة بن بو زيد من أولاد القوس، فأنزلهم السلطان وأكرمهم.
ثم رفع إليه الأمير عبد الرحمن ابن السلطان أبي يحيى زكريا بن اللحياني كان في جملته، وكان من خبره أنه رجع من المشرق بعد مهلك أبيه بمصر كما قدّمناه سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فدعا لنفسه بجهات طرابلس. وتابعه أعراب ذباب، وبايع له عبد الملك بن مكي صاحب قابس. ونهض معه إلى تونس في غيبة السلطان لتخريب تامزيزدكت كما ذكرناه، فملكها أياما وأحس بمرجع السلطان فأجفل عنها. ولحق عبد الواحد بن اللحياني إلى تلمسان، إلى أن دلف إليها السلطان أبو الحسن بعساكره، ففارقهم وخرج إليه، فأحلّه محل التّكرمة والمبرة واستقرّ في جملته إلى أن ملك تونس. ورفع إليه عند مقدم هذا الوفد أنّهم دسّوا إليه مع بعض حشمه، وطلبوه في الخروج معهم لينصّبوه للأمر بإفريقية وتبرّأ إلى السلطان من
__________
[1] القيطون: المخدع، أعجمي، وقيل: بلغة أهل مصر وبربر: قال ابن بري: القيطون بيت في بيت (لسان العرب) .
[2] وفي نسخة ثانية: كثر شكاتهم.
[3] كذا في النسخة الباريسية ولا معنى لها هنا وفي نسخة ثانية: مستحثه.(7/363)
ذلك، فأحضروا بالقصر ووبخهم الحاجب علال بن محمد بن المصمود، وأمر بهم، فسحبوا إلى السجن.
وفتح السلطان ديوان العطاء وعسكر بسيجوم من ساحة البلد بعد قضائه منسك الفطر من سنته. وبعث في المسالح والعساكر فتوافت إليه واتصل الخبر بأولاد أبي اليل وأولاد القوس باعتقال وفدهم وعسكرة السلطان لهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتعاقدوا على الموت، وبعثوا إلى أقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد.
وكانوا بعد مهلك سلطانهم أبي حفص قد لحقوا بالقفر وانتبذوا عن إفريقية فرارا من مطالبة السلطان بما كانوا شيعة لعدوّهم. فأغذّ السير إليهم أبو الليل بن حمزة متطارحا عليهم بنفسه في الاجتماع على الخروج على السلطان، فأجابوه وارتحلوا معه. وتوافت أحياء بني كعب وحكيم جميعا بتوزر من بلاد الجريد، فهدروا الدماء بينهم وتدامروا وتبايعوا على الموت، والتمسوا من أعياص الملك من ينصبونه للأمر، فدلّهم بعض سماسرة الفتن على رجل من أعقاب أبي دبّوس فريسة بني مرين من خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش، عند ما استولى عليها. وكان من خبره أنّ أباه عثمان بن إدريس بن أبي دبّوس لحق بمهلك أبيه بالأندلس، وصحب هنالك مرغم بن صابر شيخ بني ذباب وهو أسير ببرشلونة. فلما انطلق من أسره صحبه إلى وطن ذباب بعد أن عقد قمص برشلونة بينهما حلفا، وأمدّهما بأسطول على مال التزماه له. ونزل بضواحي طرابلس وجبال البربر بها، ودعا لنفسه هنالك وقام بدعوته كافة العرب من ذباب، وقاتل طرابلس، فامتنعت عليه. ثم بايعه أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب بإفريقية، وأجلب به على تونس، فلم يتم أمره لرسوخ دعوة الحفصيّين بإفريقية وانقطاع أمر بني عبد المؤمن منها، وآثارهم منذ الأحوال العديدة والآماد المتقادمة فنسي أمرهم.
وهلك عثمان بن إدريس هذا بجربة، ثم ابنه عبد السلام بعده، وترك من الولد ثلاثة: أصغرهم أحمد، وكان صناع اليدين. ولحقوا بتونس بعد ما طوّحت بهم طوائح الاغتراب، وظنّوا أن قد تنوسي شأن أبيهم، فتقبّض عليهم مولانا السلطان أبو يحيى وأودعهم السجن إلى أن غرّبهم إلى الاسكندرية سنة أربع وأربعين وسبعمائة ورجع أحمد إلى إفريقية، واحتل بتوزر محترفا بالخياطة يتعيّش منها، فاستدعاه بنو كعب هؤلاء حين اتفقت أهواؤهم ومن اتبعهم من أحلافهم أولاد القوس، وسائر(7/364)
شعوب علاق. وخرج إليهم من توزر فنصّبوه للأمر وجمعوا له شيئا. من الفساطيط والآلة والكسوة الفاخرة والمقربات. وأقاموا له رسم السلطان، وعسكروا عليه بحللهم وقياطينهم، وارتحلوا لمناجزة السلطان، ولما قضى منسك الأضحى من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ارتحل من ساحة تونس يريدهم، فوافاهم في الفرح بين بسيط تونس وبسيط القيروان المسمى بالثنيّة، فأجفلوا أمامه وصدقوه القتال منهزمين، وهو في اتباعهم إلى أن احتلّ بالقيروان، ورأوا أن لا ملجأ منه، فتذامروا واتفقوا على الاستماتة، ودسّ إليهم من عسكر السلطان بنو عبد الواد ومغراوة وبنو توجين فغلبوا بني مرين، ووعدوهم بالمناجزة صبيحة يومهم ليتحيّزوا إليهم براياتهم، وصبحوا معسكر السلطان، وركب إليهم في الآلة والتعبية، فاختلّ المصاف، وتحيّز إليهم الكثير، ونجا السلطان إلى القيروان فدخلها في الفلّ من عساكره ثامن المحرم سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وتدافعت ساقات العرب في أثره وتسابقوا إلى المعسكر، فانتهبوه ودخلوا فسطاط السلطان، فاستولوا على ذخيرته والكثير من حرمه، وأحاطوا بالقيروان، وأحاطت [1] حللهم بها سياجا، وتعاوت ذئابهم بأطراف البقاع، وأجلب ناعق الفتنة من كل مكان. وبلغ الخبر إلى تونس فاستحصن بالقصبة أولياء السلطان وحرمه، ونزع ابن تافراكين من جملة السلطان بالقيروان إليهم، فعقدوا له على حجابة سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس ودفعوه إلى محاربة من كان بالقصبة بتونس، وأغذّ إليها السير واجتمع إليه أشياخ الموحّدين وزعانف الغوغاء والجند، وأحاطوا بالقصبة، وعاودها [2] القتال، ونصب المنجنيق لحصارها. ووصل سلطانه أحمد على أثره، فامتنعت عليهم، ولم يغنوا فيها غناء، وافترق أمر الكعوب وخالف بعضهم بعضا إلى السلطان، وتساقطوا إليه، فتنفّس مخنق الحصار عن القيروان، واختلفت إليه رسل أولاد مهلهل، وأحسن بهم أولاد أبي الليل بن حمزة بنفسه، وعاهد السلطان على الإفراج، ولم يفوا بعهده. وداخل السلطان أولاد مهلهل في الخروج إلى سوسة، فعاهدوه على ذلك. وأوعز أسطوله بمرساها وخرج معهم ليلا على تعبية، فلحق بسوسة وبلغ الخبر إلى ابن تافراكين بمكانه من حصار القصبة، فركب السفين ليلا إلى الإسكندرية. وارتاب سلطانهم ابن أبي دبّوس، لما وقف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأحدقت.
[2] وفي نسخة ثانية: وغاداها.(7/365)
على خبره فانفضّ جمعهم وأفرجوا عن القصبة. وركب السلطان أسطوله من سوسة، ونزل بتونس آخر جمادى واعتمل في إصلاح أسوارها وإدارة الخندق عليها، وأقام لها من الامتناع والتحصين رسما ثبت له من بعده، ودفع به في نحر عدوّه.
واستقلّ من نكبة القيروان وعثرتها، وخلص من هوّتها والله يفعل ما يشاء.
ولحق أولاد أبي الليل وسلطانهم أحمد بن أبي دبّوس بتونس، فأحاطوا بالسلطان واستبلغوا في حصاره، وخلصت ولاية أولاد مهلهل للسلطان، فعوّل عليهم ثم راجع بنو حمزة رأيهم في طاعة السلطان فدخل كبيرهم عمر إليه في شعبان، وتقبّضوا على سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس وقادوه إلى السلطان استبلاغا في الطاعة، وامحاضا للولاية فتقبّل فيئتهم، وأودع ابن أبي دبّوس السجن، وأصهر إلى عمر بابنه أبي الفضل، فعقد له على بنته، واختلفت أحوالهم في الطاعة والانحراف إلى أن كان ما نذكر. والله غالب على أمره.
(الخبر عن انتقاض الثغور الغربية ورجوعها إلى دعوة الموحدين)
كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، لمّا قدم على السلطان أبي الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع وأربعين وسبعمائة بعد ما اتصل به في طريقه مهلك أبيه، أوسع له السلطان كنفه، ومهّد له جانب كرامته وبرّه، وغمز له بوعد في المظاهرة على ملك أبيه تعزى به عن فقده. وارتحل السلطان إلى إفريقية. والمولى الفضل يرجو أن يجعل سلطانها إليه، حتى إذا استولى السلطان على الثغرين بجاية وقسنطينة، وارتحل إلى تونس، عقد له على مكان إمارته أيام أبيه ببونة، فصرفه إليه، فانقطع أمله وفسد ضميره وطوى على البث [1] حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان، سما إلى التوثّب على ملك سلفه. وكان أهل قسنطينة وبجاية قد برموا من الدولة، واستنقلوا وطأة الإيالة لما اعتادوا من الملك الرفيق [2] ، فأشرأبّوا إلى الثورة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى النث. ونثّ الخبر أفشاه. وبثّ الخبر اذاعه ونشره.
والأصح البث بمعنى أشدّ الحزن أو الحزن الشديد (قاموس) وقد مرّت معنا هذه الكلمة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
[2] وفي نسخة ثانية: لما اعتادوا من الملكة الرقيقة(7/366)
عند ما بلغهم خبر النكبة. وقد كان توافي بقسنطينة ركاب من المغرب في طوائف من الوفود والعساكر، وكان فيهم ابن صغير من أبناء السلطان، عقد له على عسكر من أهل المغرب، وأوعز إليه باللحاق بتونس، وفيهم عمّال المغرب قدموا عند رأس الحول بجبايتهم وحسبانهم، وفيهم أيضا وفد من زعماء النصارى بعثهم الطاغية ابن أدفونش مع تاشفين ابن السلطان لما أطلقه من الأسر بعد ما عقد السلم والمهادنة، وكان أسيرا عندهم من لدن واقعة طريف كما ذكرناه. وكان أصابه مسّ من الجنون.
فلمّا خلصت الولاية بين السلطان والطاغية، وعظم عنه الإتحاف والمهاداة، وبلغه خبر السلطان وتملّكه إفريقية، أطلق ابنه تاشفين وبعث معه هؤلاء الزعماء للتهنئة، وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب، أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنئة بسلطان إفريقية. وكان معهم أيضا يوسف بن مزتي عامل الزاب وأميره، قدم بجباية عمله. واتصل به خبر الركّاب بقسنطينة فلحق بهم مؤثرا صحابتهم إلى سدّة السلطان. وتوافت هؤلاء الوفود جميعا بقسنطينة، واعصوصبوا على ولد السلطان.
فلما وصل خبر النكبة اشرأبّ الغوغاء من أهل البلد إلى الثورة، وتحلّبت شفاههم إلى ما بأيديهم من أموال الجباية وأحوال الثورة، فنقموا عليهم سوء الملكة، ودسّ مشيختهم إلى المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى بمكانه من بونة، وقد كشف القناع في الانتزاء على عمله والدعاء لنفسه، فخطبوه للأمر، واستحثّوه للقدوم، فأغذّ السير. وتسامع بخبره أولياء السلطان، فخشي ابن مزني على نفسه، وخرج إلى معسكره بحلّة أولاد يعقوب ابن علي أمير الزواودة، ولجأ ابن السلطان وأولياؤه إلى القصبة. ومكر بهم أهل البلد في الدفاع دونهم حتى إذا أطلت رايات المولى الفضل وثبوا بهم، وحجزوهم إلى القصبة وأحاطوا بها حتى استنزلوهم على أمان عقدوه لهم. ولحقوا بحلة يعقوب، فعسكروا بها بعد أن نقض أهل البلاد عهدهم في ذات يدهم، فاستصفوه وأشار عليهم ابن مزني باللحاق ببسكرة لتكون ركابهم إلى السلطان، فارتحلوا جميعا في جوار يعقوب لما له في تلك الضواحي، حتى لحقوا ببسكرة، ونزلوا منها على ابن مزني خير نزل، وكفاهم كل شيء يهمهم على طبقاتهم ومقاماتهم، وعناية السلطان بمن كان وافدا منهم، حتى سار بهم يعقوب بن علي إلى السلطان وأوفدهم عليه في رجب من سنته. واتصل الخبر بأهل بجاية بالفعلة التي فعل أهل قسنطينة، فساجلوهم في الثورة. وكنسوا منازل أولياء السلطان وعمّاله،(7/367)
فاستباحوها واستلبوهم وأخرجوهم من بين ظهرانيهم عراة، فلحقوا بالمغرب وطيّروا الخبر إلى المولى الفضل، واستحثّوه للقدوم، فقدم عليهم وعقد على قسنطينة وبونة لمن استكفى به من خاصّته ورجالات دولته، واحتل بجاية لشهر ربيع من سنته.
وأعاد ملك سلفه. واستوسق أمره بهذه الثغور إلى أن كان من خبره مع السلطان بعد خروجه من بجاية ما نذكره ان شاء الله.
الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب الأوسط والأقصى ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب
لما اتصل خبر النكبة بالقيروان بالأمير أبي عنان ابن السلطان، وكان صاحب تلمسان والمغرب الأوسط، وتساقط إليه الفلّ من عسكر أبيه عراة زرافات ووحدانا، وأرجف الناس بمهلك السلطان بالقيروان، فتطاول الأمير أبو عنّان للاستئثار بسلطان أبيه دون الأبناء، لما كان له من الإيثار عند أبيه لصيانته وعفافه، واستظهاره القرآن، فكان محلا بعين أبيه لأمثالها. وكان عثمان بن يحيى بن جرار من مشيخة بني عبد الواد وأولاد يندوكسن [1] بن طاع الله منهم، وكان له محل من الدولة كما ذكرناه عند أخباره، وكان السلطان أذن له في الرجوع إلى المغرب، فرجع من معسكره بالمهدية، ونزل بزاوية العبّاد من تلمسان، وكان مسمتا وقورا، جهينة خبر ممتعا في حديثه، وكان مرجما فيه الوقوف على الحدثان. وكان الأمير أبو عنّان متشوّقا إلى خبر أبيه، ففزع إلى عثمان بن جرار في تعرفها. واستدعاه وأنس به، وكان في قلبه مرض من السلطان، فأودع إذن الأمير أبي عنّان ما أراد من الأماني بتورّط السلطان في المهلكة، وبشرّه بمصير الأمر إليه، فصادف منه إذنا واعية. واشتمل عليه ابن جرار من بعدها. وردّ الخبر بنكبة السلطان فأغراه ابن جرار بالتوثّب على الملك، وسوّل له الاستئثار به من دون إخوانه يقينا بمهلك السلطان. ثم أوهمه الصدق بإرجاف الناس بموت السلطان، فاعتزم وشحذ عزيمته في ذلك ما اتصل به من حافد السلطان منصور ابن الأمير أبي مالك صاحب فاس وأعمال المغرب من الانتزاء على عمله، وأنه فتح ديوان العطاء واستلحق واستركب لغيبة بني مرين عن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تيدوكسن.(7/368)
بلادهم، وخلاء جوّه من عساكرهم، وأظهر العسكر والحشد لاستنقاذ السلطان من هوّة القيروان يسدّ منها حسوا في ارتقاء، وتفطّن لشأنه الحسن بن سليمان بن يرزيكن عامل القصبة بفاس، وصاحب الشرطة بالضواحي، فاستأذنه باللحاق بالسلطان، فأذن له راحة من مكانه. وأصحبه عمال المصامدة ونواحي مراكش ليستقدمهم على السلطان بجباياتهم، فلحق بالأمير أبي عنّان على حين أمضى عزيمته على التوثّب والدعاء لنفسه، فقبض أموالهم وأخرج ما كان بموضع السلطان بالمنصورة من المال والذخيرة، وجاهر بالدعاء لنفسه، وجلس للبيعة بمجلس السلطان من قصره في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة فبايعه الملأ. وقرأ كتاب بيعتهم على الإشهاد، ثم بايعه العامّة، وانفض المجلس وقد عقد سلطانه ورست قواعد ملكه. وركب في التعبية والآلة حتى نزل بقبة الملعب. وطعم الناس وانتشروا وعقد على وزارته للحسن بن يرزيكن، ثم لفارس بن ميمون بن وردار وجعله رديفا له وتبعا. ورفع مكان ابن جرار عليهم. واختصّ لولايته ومناجاة خلوته كاتبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمر [1] وسنذكر خبره. ثم فتح الديوان واستركب من تساقط إليه من فلّ أبيه، وخلع عليهم ودفع إليهم أعطياتهم وأزاح عللهم. وبينما هو يريد الرحلة إلى المغرب بلغه أن ونزمار بن عريف وليّ السلطان، وخالصته عريف بن يحيى، وكان أمير زغبة لعهده ومقدّما على سائر البدو، وبلغه أنه قد جمع له يريد حربه، وغلبه على ما صار إليه من الانتزاء والثورة على أبيه. وأنه قصد تلمسان بجموعه من العرب وزناتة المغرب الأوسط، فعقد للحسن بن سليمان وزيره على حربه وأعطاه الآلة وسرّحه للقائه، وسرّح معه من حضر من بني عامر أقتال سويد، وارتحل في عسكره حتى احتلّ تسالة، وناجزه ونزمار الحرب، ففلّت جموعه ومنحوا أكتافهم، واتبع الوزير عسكرهم [2] ، واكتسح أموالهم وحللهم، وعاد إلى سلطانه بالفتح والغنائم.
وارتحل الأمير أبو عنّان إلى المغرب، وعقد على تلمسان لعثمان بن جرّار وأنزله بالقصر القديم منها، حتى كان من أمره مع عثمان بن عبد الرحمن ما ذكرناه في أخبارهم.
ولما انتهى إلى وادي الزيتون وشى إليه بالوزير الحسن بن سليمان أنه مضمر الفتك به بتازى تزلفا إلى السلطان ووفاء بطاعته، وأنه داخل في ذلك الحافد منصورا صاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابا عبد الله بن محمد ابن القاضي عبد الله بن أبي عمر.
[2] وفي نسخة ثانية: وابتع الوزير وعسكره آثارهم. ابن خلدون م 24 ج 7(7/369)
أعمال المغرب، بما كان يظهر من طاعة جدّه، فارتاب الأمير أبو عنّان به واستظهر واشيه على ذلك بكتابه. فلما قرأه تقبّض عليه، وقتله بالمساء خنقا، وأغذ السير إلى المغرب.
وبلغ الخبر منصور بن أبي مالك صاحب فاس فزحف للقائه، والتقى الجمعان بناحية تازى وبوادي أبي الاجراف، فاختلّ مصاف منصور وانهزمت جموعه ولحق بفاس. وانحجر بالبلد الجديد وارتحل الأمير أبو عنّان في أثره، وتسايل الناس على طبقاتهم إليه، وآتوه الطاعة وأناخ بعساكره على البلد الجديد في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين، وأخذ بمخنقها وجمع الأيدي والفعلة على الآلات لحصارها، ولحين نزوله على البلد الجديد أوعز إلى الوالي بمكانه، أن يطلق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة، فأطلقهم ولحقوا به فأقاموا معه على حصار البلد الجديد، وطال تمرّسه بها إلى أن ضاقت أحوالهم واختلفت أهواؤهم، ونزع إليه أهل الشوكة منهم. ونزع إليهم عثمان بن إدريس بن أبي العلاء فيمن إليه من الحاشية بإذنه له في ذلك سرا ليمكن إليه [1] ، فدسّ إليه وواعدوه الثورة بالبلد، فثار بها واقتحمها الأمير أبو عنّان عليهم، ونزل منصور بن أبي مالك على حكمه، فاعتقله إلى أن قتله بمحبسه، واستولى على دار الملك وسائر أعمال المغرب وتسابقت إليه وفود الأمصار للتهنئة بالبيعة.
وتمسّك أهل سبتة بطاعة السلطان والانقياد لقائدهم عبد الله بن علي بن سعيد من طبقة الوزراء حينا، ثم توثّبوا به وعقدوا على أنفسهم للأمير أبي عنّان، وقادوا عاملهم إليه. وتولى كبر الثورة فيهم زعيمهم الشريف أبو العبّاس أحمد بن محمد بن رافع من بيت أبي الشريف من آل الحسين [2] ، كانوا انتقلوا إليها من صقلّيّة، واستوسق للأمير أبي عنان ملك المغرب، واجتمع إليه قومه من بني مرين للأمر، وأقام مع السلطان بتونس وفاء بحقّه، وحصّ جناح أبيه عن الكرّة على الكعوب الناكثين لعهده، الناكبين عن طاعته، فأقام بتونس يرجو الأيام، ويؤمّل الكرّة.
والأطراف تنتقض والخوارج تتجدّد إلى أن ارتحل إلى المغرب بعد اليأس، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ليمكنه منهم.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: آل الحسن.(7/370)
الخبر عن انتقاض النواحي وانتزاء بني عبد الواد بتلمسان ومغراوة بشلف وتوجين بالمرية
لما كانت نكبة السلطان بالقيروان وانتثر ملك زناتة، وانتقضت قواعد سلطانهم، اجتمع كل قوم منهم لإبرام أمرهم والنظر في شأن جماعتهم، وكانوا جميعا نزعوا إلى الكعوب الخارجين على السلطان، وبنزوعهم تمت الدبرة عليه. ولحقوا بتونس مع الحاجب أبي محمد بن تافراكين ليلحقوا منها بأعمالهم. وكان في جملة السلطان جماعة من أعياصهم منهم عثمان وإخوته الزعيم ويوسف وإبراهيم أبناء عبد الرحمن بن يحيى ابن يغمراسن بن زيّان سلطان بني عبد الواد، صار في إيالة السلطان منذ فتح تلمسان وإنزالهم بالجزيرة للرباط. ثم رجعوا بعد استئثار الطاغية بها من مكانهم من دولته، وساروا إلى القيروان تحت لوائه ومنهم علي بن راشد بن محمد بن منديل. وقد ذكرنا أخبار أبيه وأنه ربي في إيالة السلطان وجوّ الدولة يتيما، وكفلته نعمتها منذ نشأته حتى كأنه لا يعرف سواها، فاجتمع بنو عبد الواد بتونس وعقدوا على أنفسهم لعثمان ابن عبد الرحمن لما كان كبير إخوته، وأتوه ببيعتهم شرقي المصلى العتيق المطلّ على سيجوم من ساحة البلد، لعهده بهم يومئذ. وقد وضعوا له درقة بالأرض من اللمط أجلسوه عليها، ثم ازدحموا مكبين على يده يقبّلونها للبيعة. ثم اجتمع من بعدهم مغراوة إلى علي بن راشد وبايعوه وحفوا به. وتعاهد بنو عبد الواد ومغراوة على الألفة وانتظام الكلمة وهدر الدماء. وارتحلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط، فنزل علي بن راشد قومه بموضع عملهم من ضواحي شلف، وتغلّبوا على أمصاره وافتتحوا تدلس [1] وأخرجوا منها أولياء السلطان وعسكره، وقتلوا القاضي بمازونة سرحان، كان مقيما بها لدعوة السلطان، ثم سولت له نفسه التوثّب والانتزاء، فدعا لنفسه، وقتله علي بن راشد وقومه.
وأجاز عبد الرحمن وقومه من بني عبد الواد إلى محل ملكهم بتلمسان، فألفوا عثمان ابن جرار قد انتزى بها بعد منصرف الأمير أبي عنّان ودعا لنفسه، فتجهّم له الناس لتوثّبه على المنصب الّذي ليس لأبيه، واستمسك بالبلد أياما يؤمّل نزوع قومه إليه. ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تنس(7/371)
زحف إليه بنو عبد الواد وسلطانهم فصدقوه الزحف، وثارت به الغوغاء، وكسروا أبواب البلد، وخرجوا إلى السلطان فأدخلوه القصر، واحتلّ به في جمادى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة وتسابق الناس إلى مجلسه مثنى وفرادى، وبايعوه البيعة العامّة.
ثم تفقد ابن جرار، ثم أغرى به البحث، فعثر عليه ببعض زوايا القصر، واحتمل إلى المطبق فأودع به إلى أن سرّب إليه الماء فمات غريقا في هوته. وساهم السلطان أبو سعيد عثمان أخاه أبا ثابت الزعيم في سلطانه، وأشركه في أمره، وأردفه في ملكه، وجعل إليه أمر الحرب والضواحي والبدو كلها. واستوزر قريبه يحيى بن داود بن مكن، من ولد محمد بن يندوكس بن طاع الله، واستوسق ملكهم، وأوفدوا مشيختهم على الأمير أبي عنّان صاحب المغرب، وسلطان بني مرين، فعقدوا معه السلم والمهادنة، واشترطوا له عن أنفسهم دفاع السلطان إليه. وزحفوا إلى وهران من ثغور أعمالهم، ونازلوا بها أولياء السلطان وعساكره، وعاملها يومئذ عبد الله بن أجانا [1] من صنائع السلطان أبي الحسن إلى أن غلبوه عليها، واستنزلوه صلحا لأشهر من حصارها.
واستمسك أهل الجزائر بطاعة السلطان، واعتصموا بها، وعقد عليها لقائده محمد ابن يحيى بن العسكري [2] من صنائع أبيه، بعثه إليهم من تونس بعد نكبة القيروان.
ونجم بالمدية علي [3] بن يوسف بن زيّان بن محمد بن عبد القوي داعيا لنفسه، وطالبا سلطان سلفه، وامتنع عليه معقل ملكهم بجبل وانشريش لمكان ولد عمر بن عثمان وقومهم من بني تيغرين في رياسته، وانحاش إليه أولاد عزيز من بني توجين أهل ضاحية المدية فقاموا بأمره، واعصوصبوا عليه، وكانت بينه وبين أبناء عمر بن عثمان بوانشريش حرب سجال إلى أن هلك، وخلص أمر بني توجين لأبناء عمر بن عثمان، وهم على مذهبهم من طاعة السلطان وتمسّكهم بدعوته، وهو مقيم خلال هذا بتونس إلى أن أزمع الرحلة، واحتل بالجزائر كما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عبّو بن جانا.
[2] وفي نسخة ثانية: محمد بن يحيى العشري.
[3] وفي نسخة ثانية: عدي.(7/372)
(الخبر عن رجوع الثغور الغربية لأمراء الموحدين ببجاية وقسنطينة)
لما توثّب الأمير أبو عنان على ملك أبيه وبويع بتلمسان، وكانت للأمير أبي عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية لديه خلّة ومصافاة، من لدن بعثه إليه السلطان أبوه من بجاية. وأنزله بتلمسان فدعا له السابقة وآثره بالإمارة، وعقد له على محل إمارته من بجاية، وأمدّه بما يرضيه من المال والسلاح. ودفعه إليها ليكون حجرا دون السلطان بتونس، وضمن له هذا الأمير صدّه عن الخلوص إليه، وسدّ المذاهب دونه. وأوعز أبو عنّان إلى أساطيله بوهران، فركبها الأمير إلى تدلس ودخلها. ونزل إليه صنهاجة أهل ضاحية بجاية، عن عمّه الأمير أبي العبّاس الفضل، واعصوصبوا عليه، وقاموا بأمره لقديم نعمته وسالف إمارة أبيه. ولما ارتحل الأمير أبو عنّان إلى المغرب، رحل في جملته الأمير أبو زيد عبد الرحمن ابن الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة ومعه إخوته، فاختصّهم يومئذ بتغريبه وخلطهم بنفسه.
فلما غلب الأمير أبو عنان منصور ابن أخيه أبي مالك على البلد الجديد، واستولى على المغرب، رأى أن يبعث ملوك الموحّدين إلى بلادهم، ويدفع في صدر أبيه بمكانهم، فسرّح الأمير أبا زيد وإخوته، وكان منهم السلطان أبو العبّاس الّذي جبر الله به الصدع، ونظم الشمل، فوصلوا إلى موطن ملكهم ومحل إمارتهم. وكان مولاهم نبيل حاجب أبيهم قد تقدّم إلى بجاية، ولحق بالأمير أبي عبد الله من حصارها. ثم تقدّم إلى قسنطينة وبها مولى من موالي السلطان المتغلّب عليها، وهو الأمير أبو العبّاس الفضل. فلحين إطلاله على جهاتها وشعور أهلها بمكانه، لفحت منهم عزائز المودّة، وذكروا جميع الإيالة، وأجمعوا التوثّب بواليهم. واحتلّ نبيل بظاهر قسنطينة، فشرهت العامّة إلى إمارته، والقيام بدعوة مواليه. وتوثّب أشياعهم على أولياء عمّهم، فأخرجوهم، واستولى القائد نبيل على قسنطينة وأعمالها، وأقام دعوة الأمير أبي زيد وإخوته كما كانت أوّل مرّة بها: وجاءوا من المغرب إلى مراكز إمارتهم، ودعوتهم بها قائمة، ورايتهم على أنحائها خافقة، فاحتلوا بها حلول الآساد(7/373)
بعرانينها [1] والكواكب بآفاقها، ونهض الأمير أبو عبد الله محمد فيمن اجتمع إليه من البطانة والأولياء، إلى محاصرة بلد بجاية، فأحجر عمّه بالبلد، وأخذ بمخنقها أياما، ثم أفرج عنها، ثم رجع إلى مكانه من حصارها. ودسّ إليه بعض أشياعه بالبلد، وسرّب إليه المال في الغوغاء، فواعدوه فتح أبواب الربض في إحدى ليالي رمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة واقتحم البلد وملاء الفضاء بهدير طبوله، فهبّ الناس من مراقدهم فزعين وقد ولج الأمير وقومه البلد. ونجا الأمير الفضل إلى شعاب الجبل وكواريه المطلّ على القصبة راجلا حافيا، فاختفى به إلى أن عثر عليه ضحى النهار، وسيق إلى ابن أخيه، فحنّ عليه وأركبه السفين إلى محل إمارته من بونة.
وخلص ملك بجاية للأمير أبي عبد الله هذا واقتعد سرير آبائه بها، وكتبوا للأمير أبي عنان بالفتح، وتجديد المخالصة والموالاة، والعمل عن مدافعة أبيه من جهاته، والله تعالى أعلم.
الخبر عن نهوض الناصر ابن السلطان ووليه عريف بن يحيى من تونس الى المغرب الأوسط
لما بلغ السلطان خبر ما وقع بالمغرب من انتقاض أطرافه، وتغلّب الأعياص من قومه وسواهم على أعماله، ووصل إليه يعقوب بن علي أمير الزواودة بولده وعماله ووفده، نظر في تلافي أمره بتسريح ولده الناصر إلى المغرب الأوسط لارتجاع ملكه، ومحو آثار الخوارج من أعمالهم. فنهض مع يعقوب بن علي وأصحبه وليه عريف بن يحيى أمير زغبة ليستظهر به على ملك المغرب، وقدّمهما طليعة بين يديه، وسار الناصر إلى بسكرة، واضطرب معسكره بها، ثم فصل من بلاد رياح إلى بلاد زغبة، واجتمع إليه أولياؤهم من العرب ومن زناتة من بني توجين أهل وانشريش وغيرهم. وزحف إليهم الزعيم أبو ثابت من تلمسان في قومه من بني عبد الواد وغيرهم للمدافعة. والتقى الجمعان بوادي ورك فانفضّت جموع الناصر وانذعروا، ورجع على عقبه إلى بسكرة وخلص عريف بن يحيى إلى قومه سويد، ثم قطع القفر إلى المغرب الأقصى. ولحق
__________
[1] العرانين جمع عرنين وهو السيد الشريف والصحيح ان يقول عرائنها: جمع عرين وهو مأوى الأسد (قاموس) .(7/374)
بالأمير أبي عنان فنزل منه بألطف محل، ورجع الناصر إلى بسكرة، وارتحل مع أوليائهم أولاد مهلهل لمدافعة أولاد أبي الليل وسلطانهم المولى الفضل عن تونس كما ذكرناه. وأحسّوا به، فنهض إليهم، وفرّوا أمامه، إلى أن خلص الناصر إلى بسكرة ثانية، واتخذها مثوى إلى أن لحق بأبيه بالجزائر عند رحلته من تونس إليها كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن رحلة السلطان أبي الحسن الى المغرب وتغلب المولى الفضل على تونس وما دعا إلى ذلك من الأحوال
لما خلص المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى من نكبة بجاية، وامتنّ عليه ابن أخيه، فلحق بمحل إمارته من بونة. ووافته بها مشيخة أولاد أبي الليل، أوفدهم عليه بنو حمزة بن عمر يستحثّونه لملك إفريقية، يرغّبونه فيه، فأجاب داعيتهم ونهض إليهم بعد قضاء نسك الفطر من سنة تسع وأربعين، ونزل مجللهم وأوجفوا بخيلهم وركابهم على ضواحي إفريقية، وجبوها، وصمدوا إلى تونس فنازلوها وأخذوا بمخنقها أياما، ثم أخذ بحجزتهم عنها شيعة السلطان وأولياؤه من أولاد مهلهل وابنه الناصر عند قفوله من المغرب الأوسط مفلولا فرحلوهم وشرّدوهم.
ثم رجعوا إلى مكانهم من حصارها، ثم انفضوا عنها. وتحيّز خالد بن حمزة إلى شيعة السلطان أبي الحسن مع أولاد مهلهل وقومه، فاعتزّوا به وذهب عمر بن حمزة إلى المشرق لقضاء فرضه، وأجفل أبو الليل أخوه مع المولى الفضل إلى القفر حتى كان من دخول أهل الجريد في طاعته ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكان السلطان لمّا خلص من القيروان إلى تونس، وفد إليه أحمد بن مكي مهنيا ومفاوضا في شأن الثغر وما مني به من انتقاض الأطراف وفساد الرعية. وتدارك السلطان أمره عند فواته بالتولية على أهل القطر من جنسهم استئلافا للكافة. واستبقاء لطاعتهم. فعقد على عمل قابس وجربة والحامة [1] ، وما إليها لعبد الواحد ابن السلطان زكريا بن أحمد اللحياني، وأنفذه مع أحمد بن مكي إلى عمله، فهلك بجربة لليال من مقدمه في الطاعون
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحمة وهي أصح، وهي مدينة بإفريقية من عمل قسطيلية من نواحي بلاد الجريد (معجم البلدان) .(7/375)
الجارف عامئذ.
وعقد لأبي القاسم بن عتّو شيخ الموحدين على توزر ونفطة وسائر بلاد الجريد، بعد أن كان استخلصه بعد مفرّ أبي محمد بن تافراكين قريعة، وما أضمر [1] من سوء دخلته، فنزل بتوزر وجمع أهل الجريد على الولاية والمخالصة، ولما نازل المولى أبو العبّاس الفضل تونس مرتين، وشرّد أولاد مهلهل وامتنعت عليه، عمد إلى الجريد سنة خمس وأربعين وسبعمائة يحاول فيه ملكا، وخاطب أبا القاسم بن عتّو يذكّره عهده وعهد سلفه وحقوقهم، فتذكّر وحنّ، ونظر إلى ما ناله به السلطان من المثلة في أطرافه.
واستثار كامن حقده، فانحرف وحمل الناس على طاعة المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، فسارعوا إلى الإجابة وبايعه أهل توزر وقفصة ونفطة والحامة، ثم دعا ابن مكين إلى طاعته فأجاب إليها وبايعه أهل قابس وجربة أيضا.
وانتهى الخبر إلى السلطان باستيلاء المولى الفضل على أمصار إفريقية، وأنه ناهض إلى تونس، فأهمّه الشأن وخشي على أمره، وكانت بطانته يوسوسون إليه بالرحلة إلى المغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه، فأجابهم إليه وشحن أساطيله بالأقوات، وأزاح علل المسافرين. ولما قضى منسك الفطر من سنة خمسين وسبعمائة ركب البحر أيام استفحال فصل الشتاء، وعقد لابنه أبي الفضل على تونس ثقة بما بينه وبين أولاد حمزة من الصهر، وتفاديا بمكانه من معرّة الغوغاء وثورتهم. وأقلع من مرسى تونس، ولخمس دخل مرسى بجاية، وقد احتاجوا إلى الماء فمنعهم صاحب بجاية من الورود، وأوعز إلى سائر سواحله بمنعهم، فزحفوا إلى الساحل وقاتلوا من صدّهم عن الماء إلى أن غلبوهم واستقوا وأقلعوا، وعصفت بهم الريح ليلتئذ وجاءهم الموج من كل مكان، وألقاهم اليمّ بالساحل بعد أن تكسّرت الأجفان، وغرق الكثير من بطانته وعامّة الناس، وقذف الموج بالسلطان فألقاه إلى الجزيرة قرب الساحل من بلاد زواوة مع بعض حشمه عراة، فمكثوا ليلتهم وصبحهم جفن من الأساطيل كان قد سلم من ذلك العاصف، فقرّبوا إليه حين رأوه وقد تصايح به البربر من الجبال وتواثبوا إليه فاختطفه أولياؤه من أهل الجفن قبل أن يصل إليه البربر،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وما ظهر.(7/376)
وقذفوا به إلى الجزائر فنزل بها، ولأم صدعه. وخلع على من وصل من فلّ الأساطيل ومن خرج إليه من أوليائه، ولحق به ابنه الناصر من بسكرة، واتصل بالمولى الفضل خبر رحيله من تونس وهو ببلاد الجريد، فأغذ السير إلى تونس، ونزل بها على ابنه ومن كان بها من مخلف أوليائه، فغلبوهم عليها. واتصل أهل البلد بهم وأحاطوا يوم منى بالقصبة. واستنزلوا ابن السلطان أبا الفضل الأمير بالقصبة على الأمان، فخرج إلى بيت أبي الليل بن حمزة، وأنفذ معه من أبلغه إلى مأمنه، فلحق بأبيه بالجزائر وبادر إلى السلطان عليّ بن يوسف المنتزى بالمدية من بني عبد القوي، فصار في جملته، وخرج له عن الأمر، وزعم أنه إنما كان قائما بدعوته، فتقبّل منه وأقرّه على عمله.
ووفد عليه أولياؤه من العرب سويد والحرث والحصين ومن إليهم ممن اجتمع إلى وليه ونزمار بن عريف المتمسّك بطاعته. ووفد عليه أيضا علي بن راشد أمير مغراوة، وأغزاه بني عبد الواد [1] ، واشترط عليه إقراره بوطنه وعمله إذا تمّ أمره، فأبى من قبول الاشتراط ظنّا بعهده عن النكث، فنزع عنه وصار إلى مظاهرة بني عبد الواد عليه. وبعث أبو سعيد عثمان صاحب تلمسان إلى الأمير أبي عنان في المدد، فبعث إليه بعسكر من بني مرين عقد عليهم ليحيى بن رحّو بن تاشفين بن معطي من تيربيغن، وزحف الزعيم أبو ثابت إلى حرب السلطان أبي الحسن فيمن اجتمع له من عسكر بني مرين ومغراوة. وخرج السلطان من الجزائر وعسكر بمتيجة، واحتشد ونزمار سائر العرب بحللهم، ووافاه بهم، وارتحلوا إلى شلف، ولما التقى الجمعان بشدبونة صدقه مغراوة الحملة وصابرهم ابنه الناصر وطعن في الجولة فهلك واختلّ مصاف السلطان واستبيح معسكره، وانتهب فساطيطه، وخلص مع وليّه ونزمار بن عريف وقومه بعد أن استبيحت حللهم، فخرجوا إلى جبل وانشريش، ثم لحقوا بجبل راشد، ورجع القوم عن اتباعهم، وانكفؤا إلى الجزائر فتغلّبوا عليها، وأخرجوا من كان بها من أولياء السلطان ومحوا آثار دعوته من المغرب الأوسط جملة.
والأمر بيد الله يؤتيه من يشاء.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأغراه ببني عبد الواد.(7/377)
الخبر عن استيلاء السلطان على سجلماسة ثم فراره عنها امام ابنه إلى مراكش واستيلائه عليها وما تخلل ذلك
لما انفضت جموع السلطان بشدبونة وقلّ عساكره، وهلك الناصر ابنه، خلص إلى الصحراء مع وليّه ونزمار ولحق بحلل قومه سويد وأوطانهم قبلة جبل وانشريش، وأجمع أمره على قصد المغرب موطن قومه ومنبت عزّه ودار ملكه. وارتحل معه وليّه ونزمار بالنازعة [1] من قومه، وخرجوا إلى جبل راشد. ثم أبعدوا المذاهب وقطعوا المفاوز إلى سجلماسة في القفر. فلما أطلوا عليها وعاين أهلها السلطان تهافتوا عليه تهافت الفراش، وخرج إليه العذارى من وراء ستورهنّ صاغية إليه، وإيثارا لإيالته. وفرّ العامل بسجلماسة إلى منجاته. وكان الأمير أبو عنان لما بلغه الخبر بقصد سجلماسة، ارتحل إليها في قومه وكافة عساكره بعد أن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم، وكان ببني مرين نفرة عن السلطان وحذر من غائلته لجنايتهم بالتخاذل في المواقف، والفرار عنه في الشدائد، ولما كان يبعد بهم في الأسفار ويتجشّم بهم المهالك، فكانوا لذلك مجتمعين على منابذته، ومخلصين في مناصحة ابنه منازعة، فما لبث السلطان أن جاءه الخبر بوصولهم إليه في العساكر الضخمة، مغذّين السير إلى دفاعه، وعلم من حاله أنه لا يطيق دفاعهم، وأجفل عنه ونزمار وليّه في قومه سويد. وكان من خبره أنّ عريف بن يحيى كان نزع إلى الأمير أبي عنان وأحلّه بمحله المعهود من تشريفهم وولايتهم، حتى إذا بلغه الخبر بمناصحة ونزمار للسلطان ومظاهرته وقصده المغرب معه بناجعته، زوى عنه وجه رضاه بعض الشيء، وأقسم له لئن لم تفارق السلطان لأوقعنّ بك وبابنك عشر [2] وكان معه في جملة الأمير أبي عنان، وأمره بأن يكتب له بذلك، فآثر ونزمار رضى أبيه. وعلم أنّ غناءه عن السلطان في وطن المغرب قليل، فأجفل عنه ولحق بالزاب وانتبذ عن قومه، وألقى عصاه ببسكرة، فكان ثواؤه بها إلى أن لحق بالأمير أبي عنان على ما نذكره.
ولما أجفل السلطان عن سجلماسة، دخل الأمير أبو عنان إليها وثقف أطرافها وسدّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالناجعة.
[2] وفي نسخة ثانية: عنتر.(7/378)
فروجها، وعقد عليها ليحياتن بن عمر بن عبد المؤمن كبير بني ونكاسن، وبلغه قصد السلطان إلى مراكش، فاعتزم على الرحلة إليها وأبى عليه قومه، فرجع بهم إلى فاس إلى أن كان من خبرهم مع السلطان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن استيلاء السلطان على مراكش ثم انهزامه أمام الأمير أبي عنان ومهلكه بجبل هنتاتة عفا الله عنه
لما أجفل السلطان عن سجلماسة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بين يدي الأمير أبي عنان وعسكر بني مرين، قصد مراكش، وركب إليها الأوعار من جبال المصامدة.
ولما شارفها تسارع إليه أهل جهاتها بالطاعة من كل أوب، ونسلوا من كل حدب.
ولحق عامل مراكش بالأمير أبي عنان ونزع إلى السلطان صاحب ديوان الجباية أبو محمد [1] بن محمد بن أبي مدين بما كان في المودع من مال الجباية، فاختصّه واستكتبه وجعل إليه علامته، واستركب واستلحق وجبى الأموال، وبثّ العطاء، ودخل في طاعته قبائل العرب من جشم وسائر المصامدة. وثاب له بمراكش ملك أمّل معه أن يستولي على سلطانه، ويرتجع فارط أمره من يد مبتزّه. وكان الأمير أبو عنان لما رجع إلى فاس عسكر بساحتها، وشرع في العطاء وإزاحة العلل، وتقبّض على كاتب الجباية يحيى بن حمزة بن شعيب بن محمد بن أبي مدين، اتّهمه بممالأة بني مرين في الإمالة عليه عن اللحاق بمرّاكش من سجلماسة. وأثار حقده في ذلك ما كان من نزوع عمّه أبي المجد إلى السلطان بأموال الجباية، ووسوس إليه في السعاية به كاتبه وخالصته أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن أبي عمر [2] لما بينهما من المنافسة، فتقبّض عليه وامتحنه، ثم قطع لسانه وهلك في ذلك الامتحان، وارتحل الأمير أبو عنان وجموع بني مرين إلى مراكش، وبرز السلطان إلى لقائهم ومدافعتهم، وانتهى كل واحد من الفريقين إلى وادي أم ربيع، وتربّص كل بصاحبه إجازة الوادي. ثم أجازه السلطان أبو الحسن وأصبحوا جميعا في التعبية،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابو المجد.
[2] وفي نسخة ثانية: ابو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمرو.(7/379)
والتقى الجمعان بتامرغوست [1] في آخر صفر من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلّ مصاف السلطان وانهزم عسكره، ولحق به أبطال بني مرين فرجعوا عنه حياء وهيبة.
وكبا به فرسه يومئذ في مفرّه، فسقط إلى الأرض والفرسان تحوم حوله. واعترضهم دونه أبو دينار سليمان بن علي بن أحمد أمير الزواودة، ورديف أخيه يعقوب، كان هاجر مع السلطان من الجزائر، ولم يزل في جملته إلى يومئذ. فدافع عنه حتى ركب وسار من ورائه ردءا له. وتقبّض على حاجبه علال بن محمد، فصار في يد الأمير أبي عنان وأودعه السجن إلى أن امتن عليه بعد مهلك أبيه.
وخلص السلطان إلى جبل هنتاتة ومعه كبيرهم عبد العزيز بن محمد بن علي، فنزل عليه وأجاره واجتمع إليه الملأ من قومه هنتاتة ومن انضاف إليهم من المصامدة، وتدامروا وتعاهدوا على الدفاع عنه، وبايعوه على الموت، وجاء أبو عنان على أثره حتى احتل بمرّاكش، وأنزل عساكره على جبل هنتاتة، ورتّب المسالح لحصاره وحربه، وطال عليه ثواؤه، وطلب السلطان من ابنه الإبقاء، وبعث في حاجبه محمد بن أبي عمر فحضر عنده، وأحسن العذر عن الأمير أبي عنان والتمس له الرضى منه، فرضي عنه، وكتب له بولاية عهده. وأوعز إليه بأن يبعث له مالا وكسى، فسرّح الحاجب ابن أبي عمر بإخراجها من المودع بدار ملكهم، واعتلّ السلطان خلال ذلك، فمرّضه أولياؤه وخاصّته، وافتصد لإخراج الدم، ثم باشر الماء لفصده للطهارة، فورم وهلك لليال قريبة عفا الله عنه، لثلاث وعشرين من ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وبعث أولياؤه الخبر إلى ابنه بمعسكره من ساحة مراكش، ورفعوه على أعواده إليه فتلقّاه حافيا حاسرا، وقبّل أعواده وبكى، واسترجع ورضي عن أوليائه وخاصّته، وأنزلهم بالمحل الّذي رضوه من دولته، ووارى أباه بمراكش إلى أن نقله إلى مقبرة سلفهم بشالة في طريقه إلى فاس وتلقى أبا دينار ابن علي بن أحمد بالقبول والكرامة، وأحلّه محل الرحب والسعة، وأسنى جائزته، وخلع عليه وحمّله. وانصرف من فاس إلى قومه يستحثّهم للقاء السلطان أبي عنان بتلمسان لما كان أجمع على الحركة إليها بعد مهلك أبيه، ورعى لعبد العزيز بن محمد أمير هنتاتة إجارته للسلطان واستماتته دونه، فعقد له على قومه وأحلّه بالمحل الرفيع من دولته ومجلسه، واستبلغ في تكريمه، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تامدغرست.(7/380)
الخبر عن حركة السلطان أبي عنان إلى تلمسان وإيقاعه ببني عبد الواد بانكاد ومهلك سلطانهم سعيد
لما هلك السلطان أبو الحسن وانقضى شأن الحصار ارتحل السلطان أبو عنان إلى فاس ونقل شلو أبيه إلى مقبرتهم بشالة فدفنه مع من هنالك من سلفه. وأغذّ السير إلى فاس وقد استبدّ بالأمر، وخلت الدولة عن المنازع، فاحتل بفاس وأجمع أمره على غزو بني عبد الواد لارتجاع ما بأيديهم من الملك الّذي سموا لاستخلاصه. ولما كان فاتح سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة نادى بالعطاء وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد، واعترض العساكر وارتحل يريد تلمسان، واتصل الخبر بأبي سعيد وأخيه، فجمعوا قومهم ومن إليهم من الأشياع والأحزاب من زناتة والعرب، وارتحلوا إلى لقائه، ونزل السلطان بعساكره وادي ملوّية، وتلوّم به أياما لاعتراض الحشود والعرب. ثم رحل على التعبية حتى إذا احتل ببسيط أنكاد وتراءى الجمعان، انفضّ سرعان المعسكر ولحقوا بالعرب [1] وركب السلطان في التعبية وخاض بحر القتال، وقد أظلم الجوّ به حتى إذا خلص إليهم من غمره، وخالطهم في صفوفهم، ولّوا الأدبار، ومنحوهم الأكتاف، واتبع بنو مرين آثارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوه واستباحوهم قتلا وسبيا، وصفدوهم أسرى، وغشيهم الليل وهم متسايلون في أثرهم، وتقبّض على أبي سعيد سلطانهم، فسيق إلى السلطان فأمر باعتقاله، وأطلق أيدي بني مرين من الغد على حلل العرب من المعقل، فاستباحوهم واكتسحوا أموالهم جزاء بما شرهوا إليه من النهب في المحلّة في هيعة ذلك المجال. ثم ارتحل على تعبيته إلى تلمسان فاحتلّ بها لربيع من سنته، واستوت في ملكها قدمه، وأحضر أبا سعيد فقرّعه ووبّخه وأراه أعماله حسرة عليها، وأحضر الفقهاء وأرباب الفتيا، فأفتوا بحرابته وقتله. فأمضى حكم الله فيه، فذبح في محبسه لتاسعة من اعتقاله، وجعله مثلا للآخرين. وخلص أخوه الزعيم أبو ثابت إلى قاصية الشرق، فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالمغرب.(7/381)
الخبر عن شأن أبي ثابت وإيقاع بني مرين به بوادي شلف وتقبض الموحدين عليه بجاية
لما أوقع السلطان ببني عبد الواد بأنكاد، وتقبّض على أبي سعيد سلطانهم، خلص أبو ثابت أخوه في فلّ منهم، ومرّ بتلمسان، فاحتمل حرمهم ومخلفهم، وأجفل إلى الشرق، فاحتل بشلف من بلاد مغراوة وعسكر هنالك. واجتمع إليه أوشاب من زناتة، وحدّث نفسه باللقاء، ووعدها بالصبر والثبات، وسرّح السلطان وزيره فارس بن ميمون بن ودرار في عساكر بني مرين والجند، فأغذ السير إليهم وارتحل من تلمسان على أثره، ولما تراءى الجمعان صدق الفريقان المجاولة، وخاضوا النهر بالقراع. ثم صدق بنو مرين الحملة واجتازوا النهر إليهم، فانكشفوا واتبعوا آثارهم واستلحموهم، واستباحوا معسكرهم واستاقوا أموالهم ودوابهم ونساءهم، وارتحلوا في اتباعهم، وكتب الوزير بالفتح إلى السلطان، ومرّ أبو ثابت بالجزائر طارقا، وأجاز إلى قاصية المشرق، فاعترضهم قبائل زواوة وأرجلوهم عن خيلهم، وانتهبوا أسلابهم، ومرّوا حفاة عراة، واحتل الوزير بالجزائر، واستولى عليها واقتضى بيعة السلطان منهم فآتوها، واحتل الوزير بالمدية وأوعز إلى أمير بجاية المولى أبي عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى مع وليّه ونزمار وخالصته يعقوب بن علي بالتقبّض على أبي ثابت وأشياعه فأذكوا العيون عليهم وقعدوا لهم بالمرصاد، وعثر بعض الحشم على أبي ثابت وأبي زيّان ابن أخيه أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود، فرفعوهم إلى الأمير ببجاية، فاعتقلهم وارتحل للقاء السلطان بالمدية وبعثهم مع مقدّمته، وجاء على أثرهم ونزل على السلطان بمعسكره من المدية خير نزل، بعد أن تلقّاه بالمبرّة والاحتفاء، وركب للقائه، ونزل عن فرسه للسلطان، فنزل السلطان برّا له، وأودع أبا ثابت السجن. وتوافت إليه وفود الزواودة بمكانه من المدية، فأكرم وفدهم وأسنى أعطياتهم من الخلع والحملان والذهب، وانقلبوا خير منقلب، ووافته بمكانه ذلك بيعة ابن مزني عامل الزاب ووفدهم، فأكرمهم ووصلهم. وفرغ السلطان من شأن المغرب الأوسط، وبثّ العمّال في نواحيه، وثقف أطرافه، وسما إلى ملك إفريقية كما نذكره إن شاء الله تعالى
.(7/382)
(الخبر عن تملك السلطان أبي عنان بجاية وانتقال صاحبها الى المغرب)
لما وصل السلطان أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا يحيى صاحب بجاية إلى السلطان بمكانه من المدية في شعبان من سنته، وأقبل السلطان عليه، وبوّأه كنف ترحيبه وكرامته، خلص الأمير به نجيّا، وشكا إليه ما يلقاه من أهل عمله من الامتناع من الجباية والسعي في الفساد، وما يتبع ذلك من زبون الحامية واستبداد البطانة. وكان السلطان متشوّقا لمثلها، فأشار عليه بالنزول عنها، وأن يديله عنها بما شاء من بلاده، فسارع إلى قبول إشارته، ودسّ إليه مع حاجبه محمد بن أبي عمرو أن يشهد بذلك على رءوس الملاء، ففعل، ونقم عليه بطانته ذلك، وفرّ بعضهم من معسكره، فلحق بإفريقية، ومنهم علي ابن القائد محمد بن الحكيم. وأمره السلطان أن يكتب بخطّه إلى عامله على البلد بالنزول عنها وتمكين عمّال السلطان منها ففعل وعقد السلطان عليها لعمر بن علي الوطاسي من أولاد الوزير الّذي ذكرنا خبر انتزائهم بتازوطا من قبل، ولما قضى السلطان حاجته من المغرب الأوسط واستولى على بجاية، انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود الفطر بها، ودخلها في يوم مشهود، وحمل أبا ثابت ووزيره يحيى بن داود على جملين يخطوان بهما في ذلك المحفل بين السماطين، فكانا عبرة لمن حضر وسيقا من الغد إلى مصارعهما، فقتلا قعصا بالرماح، وأنزل السلطان المولى الأمير أبا عبد الله صاحب بجاية خير نزل، وفرش له في مجلسه تكرمة له إلى أن كان من توثّب صنهاجة وأهل بجاية بعمر بن علي ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ثورة أهل بجاية ونهوض الحاجب اليها في العساكر)
كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب ملكانة [1] ملوك القلعة وبجاية، نزل أولوهم بوادي
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تكلاته.(7/383)
بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين في مواطن بني ورياكل منذ أوّل دولة الموحدين، وأقطعوهم على العسكرة معهم، ولما ضعفت جنود الموحّدين وقلّ عددهم انفردوا بالعسكرة مع السلطان، وصار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة.
وكان الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأوّل أمره، وقتل محمد بن تميم من أكابر مشيختهم، وكان صاحبه فارح مولى ابن سيّد الناس عريفا عليه من عهد أبيه الأمير أبي زكريا، وكان مستبدّا على المولى أبي عبد الله، فلما نزل عن إمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك ونقمه عليه، وأسرّها في نفسه ولم يبدها لكماله، وسرّحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون داره، فوصل إليها وشكا إليه الصنهاجيون مغبّة أمرهم في ثقل الوطأة وسوء الملكة فأشكاهم ودعاهم إلى الثّورة ببني مرين، والقيام بدعوة الموحّدين للمولى أبي زيّان صاحب قسنطينة، فأجابوه وتواعدوا بالفتك بعمر بن علي بمجلسه من القصبة. وتولى كبرها منصور بن الحاج من مشيختهم، وباكره بداره على عادة الأمراء، ولما أكبّ عليه ليلثم أطرافه طعنه بخنجره، وفرّ إلى بيته جريحا فولجوا عليه واستلحموه. وثارت الغوغاء من أهل البلد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
وركب الحاجب فارح وهتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد صاحب قسنطينة، وطيروا بالخبر واستدعوه، فتثاقل عن إجابتهم، وبعث مولى ابن المعلوجي للقيام بأمرهم.
وبلغ الخبر إلى السلطان فاتّهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبة، فاعتقله بداره.
واعتقل وفدا من ملاء بجاية كان ببابه، وثبتت آراء المشيخة من أهل بجاية، وتمشّت رجالاتهم وأولو الرأي والشورى منهم في الفتك بصنهاجة والعلج، وداخلهم القائد هلال مولى ابن سيّد الناس من المعلوجي، وعلي بن محمد بن ألميت حاجب الأمير أبي زكريا يحيى، ومحمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيّد الناس وتواعدوا للفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب قسنطينة، فجهروا بالنكير على الحاجب، ودعوه إلى المسجد ليؤامروه. ونذر بأمرهم فاعتدّ دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس فاقتحموا عليه الدار، وباشره مولاه محمد بن سيّد الناس، فطعنه وأشواه، ورمي بشلوه من سقف الدار، وقطع رأسه، فبعثوا به إلى السلطان، وفرّ منصور بن الحاج وقومه صنهاجة من البلد، وكان بالمرسي أحمد بن سعيد القرموني من خاصّة السلطان، جاء في السفن لبعض حاجاته من تونس، ووافى مرسي بجاية يومئذ فأنزلوه(7/384)
واعصوصبوا عليه، وتنادوا بدعوة السلطان وطاعته، فأشار عليهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة بني مرين يحياتن [1] بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي، فاستدعوه ووصل إليهم في جملة [2] من العسكر، وبعثوا بأخبارهم إلى السلطان وانتظروا. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أمر حاجبه محمد بن أبي عمر بالنهوض إلى بجاية، فعسكر بساحة تلمسان. وانتقى له السلطان من قومه وجنوده خمسة آلاف فارس أزاح عللهم، واستوفى أعطياتهم وسرّحه فنهض من تلمسان بعد قضاء منسك الأضحى، وأغذ السير إلى بجاية، ولما نزل ببني حسن جمع له بمعسكرهم من تيكلات، وخرج إليه المشيخة والوزراء، فتقبّض على القائد هلال وأشخصه إلى السلطان ودخل البلد على التعبية، واحتلّ بقصبتها لمحرّم فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وسكن الناس وخلع على المشيخة، واختص علي بن ألميت [3] ومحمد بن سيّد الناس، واستظهر بهم على أمره، وتقبّض على جماعة من الغوغاء وعلى من تحت أيديهم ممن يتهم بالمداخلة في الثورة [4] يناهزون مائتين، واعتقلهم وأركبهم السفن إلى المغرب، فودّع الناس وسكنوا وتوافت وفود الزواودة من كل جهة، فأجزل صلاتهم واقتضى الطاعة منهم [5] . ووصل عامل الزاب يوسف، وسدّ فروجه وارتحل إلى تلمسان أوّل جمادى لشهرين من مدخله، وأغذّ السير بمن معه من العرب والوفود، وكنت يومئذ في جملتهم، وقد خلع عليّ وحملني وأجزل صلتي، وضرب لي الفساطيط، فوفدت في ركابه، وقدم تلمسان لأوّل جمادى الأخيرة، فجلس السلطان للوفد واعترض ما جنب له من الجياد والهديّة، وكان يوما مشهودا.
ثم أسنى السلطان جوائز الوفد، واختصّ يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد من البرّ والصلة، وخصوا بجاه من الكرامة، وآمرهم في شأن إفريقية ومنازلة قسنطينة.
ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمر على كره منه لما نذكره من أخباره، وانصرفوا إلى مواطنهم لأوّل شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة وانقلبت معه بعد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يحيى.
[2] وفي نسخة ثانية: في لمّة.
[3] وفي نسخة ثانية: المنت.
[4] وفي نسخة ثانية: التوثب.
[5] وفي نسخة ثانية: واقتضى على الطاعة رهنهم. ابن خلدون م 25 ج 7(7/385)
إسناء الجائزة والخلع والحملان من السلطان، والوعد الجميل بتجديد ما إلى قومه ببلده من الأقطاع والله أعلم.
الخبر عن الحاجب ابن أبي عمرو وما عقد له السلطان على ثغر بجاية وعلى منازلة قسنطينة ونهوضه لذلك
سلف هذا الرجل من أهل المهديّة من أجواد العرب من بني تميم بإفريقية، وانتقل جدّه عليّ إلى تونس باستدعاء السلطان المستنصر، وكان فقيها عارفا بالفتيا والأحكام، وقلّده القضاء بالحضرة واستعمله على كتب علامته في الرسائل والأوامر الكبرى والصغرى، فاضطلع بذلك، وهلك على حالة من التجلّة والمنصب، وقلّد ابنه عبد الله من بعده العلامتين أيام أبي حفص عمر ابن الأمير أبي زكريا كما كان لأبيه، فاضطلع لذلك وكان أخوه أحمد بن علي مستنا [1] وقورا منتحلا للعلم.
ونشأ ابنه محمد وقرأ بتونس، وتفقّه على مشيختها. ولما التاثت أمورهم وتلاشت أحوالهم، خرج محمد بن أحمد بن على مبتغيا للرزق والمعاش، وطوّحت به الطوائح إلى بلد القلّ. وكان منتحلا للطلب [2] والكتابة، فاستعمل شاهدا بمرسى القلّ أيام رياسة الحاجب ابن أبي عمرو [3] ، وكانت له صحبة مع حسن بن محمد السبتي المنتحل بنسب الشرف. وكانا رفيقين في مطارح اغترابهما، فسعى له في مرافقة الشهرة، فأسعفا واتصلا بابن أبي عمرو فحمد مذاهبهما، ولما نزع الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس إلى طاعة الموحّدين أيام التياث أبي حمّو بخروج محمد بن يوسف عليه، واعتلال الدولة، ودخل في أمر ابن أبي عمرو وجملته، فبعث محمد ابن أبي عمرو هذا وصاحبه إلى تدلس، واستعمل حسن الشريف في القضاء، ومحمد بن أبي عمرو في شهادة الديوان. فلما برئت الدولة من مرضها، واستفحل أمر أبي حمّو وتغلّب على تدلس، وصار رئيس الفتيا من الإمام لاقتضاء طاعتها، وإنفاذ أهلها على السلطان في الوفد، واستقرّا بتلمسان يومئذ واستعملا في خطة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مسمتا، واستعملت هنا بمعنى مرضعا.
[2] أي لطلب العلم. وربّما تكون محرفة عن (الطب) .
[3] وفي نسخة ثانية: الحاجب ابن غمر.(7/386)
القضاء متعاقبين أيام بني عبد الواد وأيام السلطان أبي الحسن. وتعصّب على بن أبي عمرو أيام قضائه جماعة من مشيخة البلد، وسعوا به إلى السلطان أبي الحسن، وتظلّموا فأشكاهم على علم ببراءته، واختصّه بتأديب ولده فارس هذا وتعليمه، فأفرغ وسعه في ذلك وربّى ولده محمدا هذا الحاجب مع السلطان أبي عنان توأما وخليلا وألقى عليه محبته حتى إذا خلص له الملك رفع رتبة محمد بن أبي عمرو هذا، ورقاه من منزلة إلى أخرى حتى إذا أربى به على سائر المراتب، وجعل إليه العلامة والقيادة والحجابة والسفارة وديوان الجند والحساب والقهرمة وسائر ألقاب دولته، وخصوصيات داره، فانصرفت إليه الوجوه، ووقفت ببابه الأشراف من الأعياص والقبائل والشرفاء والعلماء، وسرّب إليه العمّال أموال الجباية تزلفا، وطال أمره واستيلاؤه على السلطان ونفس عليه رجال الدولة ووزراؤها ما آتاه الله من الحظ، حتى إذا خلا لهم وجه السلطان منه عند نهوضه إلى بجاية، حامت أغراض السعاية على مكانه فقرطست وألقى السلطان أذنه إلى استماعها. فلمّا رجع من بجاية، وكانت له الدالّة على السلطان، وجدّ عليه في قبول الألاقي. ولقيه مغاضبا فتنكّر له السلطان، ثم تجنّى بطلب الغيبة عن الدولة، ويعقد له على بجاية متوهّما أنّ السلطان ضنين به، فبادر السلطان إلى إسعافه، وبدا له ما لم يحتسب من الأعراض عنه.
ورجع إلى الرغبة في الإقالة فلم يسعف. وعقد له على حرب قسنطينة وحكّمه في المال والجيش، وارتحل في شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة واحتل ببجاية آخرها وأشتى بها.
ونصب الموحدون تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المعتقل عندهم من لدن عهد المولى الفضل واعتقاله إيّاه، فنصّبوه للأمر لتفريق كلمة بني مرين وجمعوا له الآلة والفساطيط، وقام بأمره ميمون بن علي لمنافسته مع أخيه يعقوب، وسمع بخبره يعقوب، فأغذّ السير بحاله من بلاد الزاب، وفرّق جمعهم وردّهم على أعقابهم، وأحجزهم بالبلد. ولمّا انصرم الشتاء وقضى منسك الأضحى، عسكر بساحة البلد، واعترض العساكر وأزاح عللهم، وفرّق أعطياتهم، وارتحل إلى منازلة قسنطينة، واجتمع إليه الزواودة بحللهم، وجمع المولى أبو زيد صاحب قسنطينة من كان على دعوته من أحياء بونة وميمون بن علي بن أحمد وشيعته من الزواودة، وعقد عليهم لحاجبه نبيل وسرّحه للقاء ابن أبي عمرو وعساكره، فأوقع بهم الحاجب(7/387)
لجمادى من سنة خمس وخمسين وسبعمائة واكتسح أموالهم ونازل قسنطينة حتى تفادوا منه بتمكينه من تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المنصوب للأمر، فاقتادوه إليه وأشخصه إلى أخيه السلطان. وأوفد المولى أبو زيد ابنه على السلطان أبي عنان، فتقبّل وفادته وشكر مراجعته، وانكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية، وأقام بها إلى أن هلك في المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة فذهب حميد السيرة عند أهل البلد، وتفجّعوا لمهلكه، وبعث السلطان دوابه لارتحال عياله وولده، ونقل شلوه إلى مقبرة أبيه بتلمسان. وسرّح ابنه أبا زيّان في عساكر بني مرين لمواراته بها. وعقد على بجاية لعبد الله بن علي بن سعيد وزيره، فنهض إليها في شهر ربيع من سنة ست وخمسين وسبعمائة واستقرّ بها وتقبّل ما حمده الناس من مذاهب الحاجب وسيرته فيها على ما نذكره، وجهّز العساكر إلى حصار قسنطينة إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
الخبر عن خروج أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن بجبل السكسيوي ومكر عامل درعة به ومهلكه
كان السلطان أبو عنان بعد مهلك أبيه لحق به في جملته أخواه أبو الفضل محمد وأبو سالم إبراهيم، وتدبّر في ترشيحهما وحذر عليهما مغبته، فأشخصهما إلى الأندلس، واستقرّا بها في إيالة أبي الحجّاج ابن السلطان أبي الوليد ابن الرئيس أبي سعيد. ثم ندم على ما أتاه من ذلك، فلما استولى على تلمسان والمغرب الأوسط، ورأى أن قد استفحل أمره واعتز بسلطانه، أوعز إلى أبي الحجّاج أن يشخصهما إليه ليكون مقامهما لديه أحوط للكلمة من أن يعتمد على تفريقهما سماسرة الفتن. وخشي أبو الحجّاج عليهما غائلته فأبى من إسلامهما إليه، وأجاب الرسل بأنه لا يخفر ذمّته وجوار المسلمين المجاهدين، فأحفظ السلطان كلمته، وأوعز إلى حاجبه محمد بن أبي عمرو بأن يخاطبه في ذلك بالتوبيخ واللائمة، فكتب له كتابا قرّعه فيه وقفني عليه الحاجب ببجاية أيام كوني معه، فقضيت عجبا من فصوله وأغراضه، ولما قرأه أبو الحجّاج دسّ إلى كبيرهما أبي الفضل باللحاق بالطاغية، وكانت بينهما ولاية ومخالصة منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، فنزع إليه أبو(7/388)
الفضل وأجاره، وجهز به أسطولا إلى مراسي المغرب. وأنزله بساحة السوس، فلحق بالسكسيوي عبد الله ودعا لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان بين مقدم حاجبه ابن أبي عمرو من فتح بجاية سنة أربع وخمسين وسبعمائة فجهّز عساكره إلى المغرب، وعقد على حرب السكسيوي لوزيره فارس بن ميمون بن وردار وسرّحه إليه، فنهض من تلمسان لربيع سنة أربع وخمسين وسبعمائة وأغذّ السير إلى السكسيوي ونزل بمخنقه، وأحاط به، واختطّ مدينة لمعسكره وتجهيز كتائبه بسفح جبله، سماها القاهرة.
واستبدّ الحصار على السكسيوي وأرسل إلى الوزير في الرجوع إلى طاعته المعروفة، وأن ينبذ العهد إلى أبي الفضل، ففارقه وانتقل إلى جبال المصامدة.
ودخل الوزير فارس إلى أرض السوس فدوّخ أقطارها، ومهّد الحال [1] ، وسارت الألوية والجيوش في جهاته، ورتّب المسالح في ثغوره وأمصاره مثل ايغري وفوريان وتارودانت، وثقف أطرافه وسدّ فروجه. وسار أبو الفضل في جبال المصامدة إلى أن انتهى إلى صناكة، وألقى بنفسه على ابن حميدي منهم مما يلي بلاد درعة، فأجاره وقام بأمره. ونازلة عامل درعة يومئذ عبد الله بن مسلم الزردالي من مشيخة دولة بني عبد الواد، كان اصطنعه السلطان أبو الحسن منذ تغلّبه عليهم، وفتحه لتلمسان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فاستقرّ في دولتهم، ومن جملة صنائعهم، فأخذ بمخنق ابن حميدي وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إليه، وداخله في التقبّض على أبي الفضل، وأن يبذل له في ذلك ما أحبّ من المال، فأجاب ولاطف عبد الله بن مسلم الأمير أبا الفضل ووعده من نفسه الدخول في الأمر، وطلب لقاءه، فركب إليه أبو الفضل. ولما استمكن منه عبد الله بن مسلم تقبّض عليه، ودفع لابن الحميدي ما اشترط له من المال، وأشخصه معتقلا إلى أخيه السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة فأودعه السجن، وكتب بالفتح إلى القاصية. ثم قتله لليال من اعتقاله خنقا بمحبسه. وانقضى أمر الخوارج، وتمهّدت الدولة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ومهّد انحاءه.(7/389)
(الخبر عن انتقاض عيسى بن الحسن بجبل الفتح ومهلكه)
كان عيسى بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق هذا من مشيخة بني مرين، وكان صاحب شوراهم لعهده، وقد كنا قصصنا من أخبار أبيه الحسن عند ذكر دولة أبي الربيع. وكان السلطان أبو الحسن قد عقد له على ثغور عمله بالأندلس، وأنزله بجبل الفتح عند ما أكمل بناءه وجعل إليه النظر في مسالح الثغور وتفريق العطاء على مسالحها، فطال عهد ولايته ورسخ فيها قدمه، وكان السلطان أبو الحسن يبعث عنه في الشورى متى عنت. وحضره عند سفره إلى افريقية وأشار عليه بالاقتصار عنها، وأراه ان قبائل بني مرين لا تفي اعدادهم بمسالح الثغور إذا رتبت شرقا وغربا وعدوة البحر وأنّ إفريقية تحتاج من ذلك إلى أوفر الأعداد وأشدّ الشوكة، لتغلّب العرب عليها، وبعد عهدهم بالانقياد، فأعرض السلطان عن نصيحته لما كان شره إلى تملكها، وصرفه إلى مكان عمله بالثغور الأندلسية. ولما كانت نكبة القيروان وانتزى الأبناء بفاس وتلمسان، أجاز البحر لحسم الداء ونزل بغسّاسة ثم انتقل إلى وطنه بتازى وجمع قومه بني عسكر، وألقى السلطان أبا عنان قد هزم عساكر ابن أخيه وأخذ بمخنقه، فأجاب عليه وبيته بمعسكره من ساحة البلد الجديد وعقد السلطان أبو عنان على حربه لصنيعته سعيد بن موسى العجيسي، وأنزله بثغر بلاد بني عسكر على وادي بوحلوا. وتواقفا كذلك أياما حتى تغلّب السلطان أبو عنان على البلد الجديد، ثم أرسل عيسى بن الحسن في الرجوع إلى طاعته وأبطأ عنه صريخ السلطان أبي الحسن بإفريقية فراجعه واشترط عليه، فتقبل وسار إليه فتلقاه السلطان وامتلاء سرورا بمقدمه، وأنزله بصدوره [1] وجعل الشورى إليه في مجلسه، واستمرّت على ذلك حاله.
ولما تمكّنت حال ابن أبي عمرو بعد مهلك السلطان أبي الحسن انفرد بخلة السلطان ومناجاته، وحجبه عن الخاصة والبطانة، أحفظه ذلك ولم يبدها. واستأذن السلطان في الحجّ، فأذن له وقضى فرضه، ورجع إلى محله من بساط السلطان سنة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأنزله قصوره.(7/390)
ست وخمسين وسبعمائة ولقي ابن أبي عمرو بجباية، وتطارح عليه في ان يصلح حاله عند سلطانه، فوعده في ذلك، ولما وفد على السلطان وجده قد استبدّ في الشورى، وتنكّر للخاصة والجلساء، فاستأذنه في الرجوع إلى محلّه من الثغر لإقامة رسم الجهاد فأذن له. وأجاز البحر إلى جبل الفتح من سنته، وكان صاحب ديوان العطاء بالجبل يحيى الفرقاجي، وكان مستظهرا على العمّال، وكان ابنه أبو يحيى قدم برم بمكانه.
فلمّا وصل عيسى إلى الجبل اتبعه السلطان بأعطيات المسالح مع مسعود بن كندوس [1] من صنائع دولته، فسرّب الفرقاجي إلى الضرب على يده شأنه مع ابنه أيام مغيبه، وأنف عيسى من ذلك فتقبّض عليه، وأودعه المطبق، وردّ ابن كندوس على عقبه، وأركبه السفين من ليلته إلى سبتة، وجاهر بالخلعان، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي عنان فقلق لذلك، وقام في ركائبه وقعد، وأوعز بتجهيز الأساطيل، وظنّ أنه قد تدبّر من الطاغية وابن الأحمر. وبعث أحمد بن الخطيب قائد البحر بطنجة عينا على شأنهم، فوصل إلى مرسى الجبل. وكان عيسى بن الحسن لما جاهر بالخلعان تمشّت رجالات الثغر وعرفاء الرجل من غمارة الغزاة الموطنون بالجبل، وتحدّثوا في شأنه، وامتنعوا من الخروج على السلطان، وتآمروا في إسلامه برمته.
وخلا به سليمان بن داود من عرفاء العسكر [2] ، كان من خواصه وأهل شوراه، وكان عيسى قد مكن قومه عند السلطان واستعمله على رنده، فلما جاهر عيسى بالخلعان، وركب ظهر الغدر، خالفه سليمان هذا إلى طاعة السلطان، وأنفذ كتبه وطاعته، واشتبه عليه الأمر فندم إذ لم يكن بني أمره على أساس من الرأي، فلما احتلّ أسطول أحمد بن الخطيب بمرسى الجبل، خرج إليه وناشده الله والعهد أن يبلغ السلطان طاعته، والبراءة مما صنع أهل الجبل، ونسبها إليهم. فعند ذلك خشي غمارة على أنفسهم، فثاروا به، ولجأ إلى الحصن فاقتحموه عليه وشدّوه وابنه وثاقا، وألقوه في أسطول ابن الخطيب، وأنزله بسبتة وطيّر للسلطان بالخبر، فخلع عليه وأمر خاصّته فخلعوا عليه. وبعث عمر ابن وزيره عبد الله بن علي وعمر بن العجوز قائد جند النصارى، فأحضروهما بدار السلطان يوم منى من سنة ست وخمسين وسبعمائة وجلس لهما السلطان ووقفا بين يديه وتنصّلا واعتذرا، فلم يقبل منهما وأودعهما السجن وشدد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ابن كندوز
[2] وفي نسخة ثانية: سليمان بن داود بن أعراب العسكري.(7/391)
وثاقهما، حتى قضى منسك الأضحى. ولما كان ختم سنته أمر بهما فجنبا إلى مصارعهما وقتل عيسى قعصا بالرماح، وقطع ابنه أبو يحيى من خلاف، وأبى من مداواة قطعه، فلم يزل يتخبّط في دمه إلى أن هلك لثالثة [1] قطعه، وأصبحا مثلا في الآخرين، وعقد على جبل الفتح وسائر ثغور الأندلس لسليمان بن داود إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض السلطان الى فتح قسنطينة وفتحها ثم فتح تونس عقبها)
لما هلك الحاجب محمد بن أبي عمرو، عقد السلطان على ثغور بجاية وما وراءها من بلاد إفريقية لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد، وسرّحه إليها وأطلق يده في الجباية والعطاء. وكانت جبال ضواحي قسنطينة قد تملكها السلطان لما كانت الزواودة متغلّبة عليها. وكان عامّة أهل ذلك الوطن قبائل سدويكش، وعقد السلطان عليهم لموسى ابن إبراهيم بن عيسى، وأنزله بتاوريرت آخر عمل بجاية في أقاربه وولده وصنائعه.
ولما نزل ابن أبي عمرو بجاية وأخذ بمخنق قسنطينة، ثم أرحل عنها على ما عقد من السلم مع المولى الأمير أبي زيد، أنزل موسى بن إبراهيم بميلة، فاستقرّ بها. ولمّا ولي الوزير عبد الله بن علي أمر إفريقية، أوعز إليه السلطان بمنازلة قسنطينة، فنزلها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وأخذ بمخنقها، ونصب المنجنيق عليها، واشتدّ الحصار بأهلها، وكادوا أن يلقوا باليد لولا ما بلغ العسكر من الإرجاف بمهلك السلطان فأفرجوا عنها، ولحق المولى أبو زيد ببونة، وأسلم البلد إلى أخيه مولانا الأمير أبي العبّاس أيّده الله تعالى، عند ما وصل إليه من إفريقية، كان بها مع العرب طالبا ملكهم بتونس، ومجلبا بهم على ابن تافراكين منذ نازلوا تونس سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة كما مرّ، فلمّا رجع الآن إلى قسنطينة مع خالد بن حمزة، داخل المولى أبا زيد في خروجه إلى حصار تونس، وإقامة مولانا أبي العبّاس بقسنطينة، فأجاب لذلك وخرج معه، ودخل مولانا أبو العبّاس إلى قسنطينة، ودعا لنفسه، وضبط قسنطينة وكان مدلا ببأسه وإقدامه، وداخله بعض المنحرفين من بني مرين من أولاد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لثانية(7/392)
بو سعيد وسدويكش في تبييت موسى بن إبراهيم بمعسكره من ميلة، فبيّتوه وانتهبوا معسكره وقتلوا أولاده وخلص إلى تاوريرت، ثم إلى بجاية، ولحق بمولانا السلطان مفلولا. ونكر السلطان على وزيره عبد الله بن علي ما وقع بموسى بن إبراهيم، وأنه قصّر في إمداده، فسرّح شعيب بن ميمون وتقبّض عليه، وأشخصه إلى السلطان معتقلا، وعقد على بجاية مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود من صنائع دولته، وفي خلال ذلك راسل المولى أبو زيد الحاجب أبا محمد عبد الله بن تافراكين المتغلّب على عمّه إبراهيم في النزول لهم عن بونه، والقدوم عليهم بتونس، فقبلوه وأحلّوه محل وليّ العهد، واستعملوا على بونة من صنائعهم، ولما بلغ خبر موسى بن إبراهيم إلى السلطان أيام التشريق من سنة سبع وخمسين وسبعمائة اعتزم على الحركة إلى إفريقية، واضطرب معسكره بساحة البلد الجديد، وبعث في الحشد إلى مراكش. وأوعز إلى بني مرين بأخذ الأهبة للسفر، وجلس للعطاء والاعتراض من لدن وصول الخبر إليه إلى شهر ربيع من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. ثم ارتحل من فاس وسرّح في مقدمته وزيره فارس بن ميمون في العساكر، وسار في ساقته على التعبية إلى أن احتل ببجاية، وتلوّم لإزاحة العلل. ونازل الوزير قسنطينة. ثم جاء السلطان على أثره ولما أطلّت راياته، وماجت الأرض بعساكره، ذعر أهل البلد، وألقوا بأيديهم إلى الإذعان، وانفضّوا من حول سلطانهم مهطعين إلى السلطان، وتحيّز صاحب البلد في خاصّته إلى القصبة. ووصل أخوه المولى الفضل فطلب الأمان، فبذله السلطان لهم وخرجوا، وأنزلهم بمعسكره أياما، ثم بعث بالسلطان في الاسطول إلى سبتة فاعتقله بها إلى أن كان من أمره ما نذكره بعد.
وعقد على قسنطينة لمنصور ابن الحاج خلوف الباباني [1] من مشيخة بني مرين وأهل الشورى منهم، وأنزله بالقصبة في شعبان من سنته، ووصل إليه بمعسكره من ساحة قسنطينة بيعة يحيى بن يملول صاحب توزر، وبيعة علي بن الخلف صاحب نفطة.
ووفد ابن مكي مجدّدا طاعته. ووصل إليه أولاد مهلهل أمراء الكعوب وأقتال بني أبي الليل يستحثّونه لملك تونس، فسرّح معهم العساكر وعقد عليهم ليحيى بن رحّو بن تاشفين، وبعث أسطوله في البحر مددا لهم، وعقد عليه للرّئيس محمد بن يوسف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الياباني(7/393)
الأبكم، وساروا إلى تونس وأخرج الحاجب أبا محمد بن تافراكين سلطانه أبو إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى مع أولاد أبي الليل، وجهّز معه العساكر لما أحسّ بقدوم عساكر السلطان. ووصل الأسطول إلى مرسى تونس فقاتلهم يوما أو بعض يوم، وركب الليل إلى المهديّة فتحصّن بها. ودخل أولياء السلطان إلى تونس في رمضان من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وأقاموا بها دعوته. واحتل يحيى بن رحّو بالقصبة، وأنفذ الأوامر، وكتبوا إلى السلطان بالفتح. ونظر السلطان بعد ذلك في أحوال ذلك، وقبض أيدي العرب من رياح عن الإتاوة التي يسمونها الخفارة فارتابوا، وطالبهم بالرهن فأجمعوا على الخلاف. فأرهف لهم حدّه، وتبيّن يعقوب ابن علي أميرهم مكره، فخرج معهم ولحقوا جميعا بالزاب، وارتحل في أثرهم.
وسار يوسف بن مزني عامل الزاب ببعض الطريق أمامه حتى نزل ببسكرة. ثم ارتحل إلى طولقة [1] فتقبّض على مقدّمها عبد الرحمن بن أحمد بإشارة ابن مزني، وخرّب حصون يعقوب بن علي، وأجفلوا إلى القفر أمامه. ورجع عنهم. وحمل له ابن مزني جباية الزاب بعد أن ردّ عامّة معسكره بالقرى من الأدم والحنطة والحملان والعلوفة ثلاث ليال نفذت في ذلك، وكافأه السلطان على صنيعه، فخلع عليه وعلى أهله وولده وأسنى جوائزهم ورجع إلى قسنطينة، واعتزم على الرحلة إلى تونس.
وضاق ذرع العساكر بشأن النفقات والأبعاد في المذهب، وارتكاب الخطر في دخول افريقية، فتمشّت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان. وداخلوا الوزير فارس بن ميمون فوافقهم على ذلك وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى تفردوا، وأنهى إلى السلطان أنّهم تآمروا في قتله. ونصب إدريس بن أبي عثمان بن أبي العلاء للأمر، فأسرّها في نفسه ولم يبدها لهم. ورأى قلّة من معه من العساكر، وعلم بانفضاضهم، فكرّ راجعا إلى المغرب بعد أن ارتحل عن قسنطينة مرحلتين إلى الشرق، وأغذ السير إلى فاس، واحتل بها غرّة ذي الحجة من سنته. وتقبّض يوم دخوله على وزيره فارس بن ميمون، اتهمه بمداخلة بني مرين في شأنه، وقتله رابع أيام التشريق قعصا بالرماح، وتقبّض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع منهم السجن، وبلغ إلى الجهات خبر رجوعه من قسنطينة إلى
__________
[1] مدينة بالمغرب من ناحية الزاب الكبير من صقع الجريد (معجم البلدان) .(7/394)
المغرب فارتحل أبو محمد بن تافراكين من المهديّة إلى تونس، ولما أطلّ عليها ثار شيعته بالبلد على من كان بها من عساكر السلطان، وخلصوا إلى السفين، فنجوا إلى المغرب، وجاء على أثرهم يحيى بن رحّو بمن معه من العساكر من أولاد مهلهل، كان بناحية الجريد لاقتضاء جبايته، واجتمعوا جميعا بباب السلطان، وأرجأ حركته إلى العام [1] القابل، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وزارة سليمان بن داود ونهوضه بالعساكر إلى إفريقية)
لما رجع السلطان من إفريقية ولم يستتم فتحها، بقي في نفسه منها شيء. وخشي على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الزواودة المخالفين، فأهمّه شأنهم، واستدعى سليمان بن داود من مكانه بثغور الأندلس، وعقد له على وزارته، وسرّحه في العساكر إلى إفريقية، فارتحل إليها في ربيع من سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان يعقوب بن علي لمّا كشف وجهه في الخلاف، أقام السلطان مكانه أخاه ميمون بن علي منازعة، وقدّمه على أولاد محمد من الزواودة، وأحله بمكانه من رياسة البدو والضواحي، ونزع إليه عن أخيه يعقوب الكثير من قومهم، وتمسّك بطاعة السلطان طوائف من أولاد سبّاع بن يحيى وكبيرهم يومئذ عثمان بن يوسف بن سليمان، فانحاشوا جميعا للوزير ونزلوا على معسكره بحللهم. وارتحل السلطان في أثره حتى احتل بتلمسان فأقام بها لمشارفة أحواله منها، واحتل الوزير سليمان بوطن قسنطينة. وأغذّ السير إلى عمال الزاب يوسف بن مزني بأن تكون يده معه، وأن يؤامره في أحوال الزواودة لرسوخه في معرفتها، فارتحل إليه من بسكرة، ونازلوا جبل أوراس واقتضوا جبايته ومغارمه. وشرّدوا المخالفين من الزواودة عن العيث في الوطن، فتمّ غرضهم من ذلك. وانتهى الوزير وعساكر السلطان إلى أوّل أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح، وانكفأ راجعا إلى المغرب. ووافى السلطان بتلمسان، ووصلت معه وفود العرب الذين أبلوا في الخدمة، فوصلهم السلطان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الى اليوم القابل.(7/395)
وخلع عليهم وحملهم، وفرض لهم العطاء بالزاب وكتب لهم به، وانقلبوا إلى أهلهم، ووفد على أثرهم أحمد بن يوسف بن مزني، أوفده أبوه بهديّة السلطان من الخيل والرقيق والرزق [1] فتقبّلها السلطان وأكرم وفادته وأنزله، واستصحبه إلى فاس ليريه أحوال كرامته، وليستبلغ في الاحتفاء به، واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وسبعمائة والله أعلم.
الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان ونصب السعيد للأمر باستبداد الوزير حسن بن عمر في ذلك
لما وصل السلطان إلى دار ملكه بفاس، احتل بها بين يدي العيد الأكبر حتى إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض، وأعجله طائف الوجع عن الجلوس يوم العيد على العادة، فدخل إلى قصره ولزم فراشه، واستبدّ به وجعه، وأطاف به النساء يمرّضنه. وكان ابنه أبو زيان ولي عهده، وكان وزيره يحيى بن موسى القفولي [2] من صنائع دولتهم وأبناء وزرائهم، قد عقد له السلطان على وزارته واستوصاه به، فتعجّل الأمر، وداخل رءوس بني مرين في الانحياش إلى أميرهم والفتك بالوزير الحسن بن عمر وداخله في ذلك عمر بن ميمون لعداوة بينهما وبين الوزير فخشيهما الحسن بن عمر على نفسه. وفاوض عليه أهل المجلس بذات صدره، وكانت نفرتهم عن وليّ العهد مستحكمة لما أبلوا من سوء خلته وشرّ ملكته، فاتفقوا على تحويل الأمر عنه. ثم نمي إليهم أنّ السلطان مشرف على الهلكة لا محالة، وأنه موقع بهم من قبل مهلكه، فأجمعوا أمرهم على الفتك به والبيعة لأخيه السعيد طفلا خماسيا، وباكروا دار السلطان فتقبّضوا على وزيره موسى بن عيسى وعمر بن ميمون فقتلوهما، وأجلسوا السعيد للبيعة. وأوعز وزيره مسعود بن رحو بن ماسى بالتقبّض على أبي زيّان من نواحي القصر، فدخل إليه وتلطّف في إخراجه من بين الحرم.
وقاده إلى أخيه فبايع وتلّ إلى بعض حجر القصر، فأتلف فيها مهجته. واستقلّ الحسن بن عمر بالأمر يوم الأربعاء الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة تسع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الدرق.
[2] وفي نسخة ثانية: العقولي.(7/396)
وخمسين وسبعمائة والسلطان أثناء ذلك على فراشه يجود بنفسه. وارتقب الناس دفنه يوم الأربعاء والخميس بعده، فلم يدفن فارتابوا، وفشا الكلام وارتاب الجماعة، فأدخل الوزير زعموا إليه بمكانه من بيته من غطه حتى أتلفه. ودفن يوم السبت، وحجب الحسن بن عمر الولد المنصوب للأمر، وأغلق عليه بابه، وتفرّد بالأمر والنهي دونه. ولحق عبد الرحمن ابن السلطان أبي عنان بجبل الكاي يوم بيعة أخيه، وكان أسنّ منه وإنما آثروه لمكان ابن عمّه مسعود بن ماسي من وزارته، فبعثوا إليه من لاطفه واستنزله على الأمان، وجاء به إلى أخيه فاعتقله الحسن بالقصبة من فاس.
وبعث على أبناء السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور، فجاء المعتصم من سجلماسة، وامتنع المعتمد بمراكش، وكان بها في كفالة عامر بن محمد الهنتاتي استوصاه به السلطان وجعله هنالك لنظره، فمنعه من الوصول، وخرج به من مراكش إلى معقلة من جبل هنتاتة، وجهّز الوزير العساكر لمحاربته، ولم يزل هنالك إلى أن استنزله عمّه السلطان أبو سالم عند استيلائه على ملك المغرب، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن تجهيز العساكر الى مراكش ونهوض الوزير سليمان بن داود لمحاربة عامر بن محمد
كان عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة من قبائل المصامدة. وكان السلطان يعقوب قد استعمل أباه محمد بن علي على جبايتهم، والسلطان أبو سعيد استعمل عمّه موسى بن علي وربّي عامر هذا في كفالة الدولة، وسار في جملة السلطان إلى إفريقية، وولّاه السلطان أحكام الشرطة بتونس. ولمّا ركب البحر إلى المغرب أركب حرمه وحظاياه في السفن، وجعلهم إلى نظر عامر بن محمد. وأجازوا البحر إلى الأندلس فنزلوا المريّة وبلغهم غرق السلطان أبي الحسن وعسكره، فأقام بهم بمكانه من المريّة، ودعي للسلطان أبي عنان، فلم يجب داعية وفاء ببيعة أبيه، حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بدارهم بالجبل، ورعى لهم السلطان أبو عنان إجارتهم لأبيه، حين لفظته البلاد وتحاماه الناس، أجمع أمره على الوفادة عليه، فوفد بمن معه من الحرم. وأكرم السلطان أبو عنان وفادته وأحسن نزله، ثم عقد له على جباية المصامدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة وبعثه لها من تلمسان، فاضطلع بهذه الولاية وأحسن(7/397)
الغناء فيها، والكفاية عليها، حتى كان السلطان أبو عنان يقول: وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من سلطاني كما كفاني عامر بن محمد ناحية المغرب، وأتورع، ونافسه الوزراء في مقامه ذلك عند السلطان ورتبته. وانفرد الحسن بن عمر آخر الأمر بوزارة السلطان، واشتدّت منافسته وانتهت إلى العداوة والسعاية.
وكان السلطان بين يدي مهلكه ولّى أبناءه الأصاغر على أعمال ملكه، فعقد لابنه محمد المعتمد على مراكش، واستوزر له، وجعله إلى نظر عامر واستوصاه به. فلمّا هلك السلطان واستقل الحسن بن عمر بالأمر ونصّب السعيد للملك، استقدم الأبناء من الجهات، فبعث عن المعتمد من مراكش فأبى عليه عامر من الوفادة عليهم، وصعد به إلى معقلة من جبل هنتاتة، وبلغ الحسن بن عمر خبره، فجهّز إليه العساكر وأزاح عللهم، وعقد على حربه للوزير سليمان بن داود مساهمه في القيام بالأمر، وسرّحه في المحرم سنة ستين وسبعمائة، فأغذ السير إلى مراكش واستولى عليها، وصعد إلى الجبل فأحاط به، وضيّق على عامر وطاول منازلته. وأشرف على اقتحام معقلة إلى أن بلغه خبر افتراق بني مرين، وخروج منصور بن سليمان من أعياص الملك على الدولة، وأنه منازل للبلد الجديد، فانفضّ العسكر من حوله وتسابقوا إلى منصور بن سليمان، فلحق به الوزير سليمان بن داود وتنفّس الحصار عن عامر، إلى أن استولى السلطان أبو سالم على ملك المغرب في شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستقدم عامرا والمعتمد ابن أخيه من مكانهم بالجبل، فقدم عليه وأسلمه إليه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن ظهور أبي حمو بنواحي تلمسان وتجهيز العساكر لمدافعته، ثم تغلبه وما تخلل ذلك من الأحداث
كان ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن هؤلاء أربعة كما ذكرناه في أخبارهم، وكان يوسف كبيرهم، وكان سكوتا منتحلا لطرق الخير لا يريد علوا في الأرض، ولما هلك أخوه عثمان بتلمسان، عقد له على هنين [1] ، وكان ابنه يوسف بن موسى [2]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تنس.
[2] وفي نسخة ثانية: وكان ابنه موسى.(7/398)
متقبّلا مذهبه في السكوت والدعة ومجانبة أهل الشرّ، ولما تغلّب السلطان أبو عنان عليهم سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وفرّ أبو ثابت إلى قاصية المشرق، واستلبهم [1] قبائل زواوة وأرجلوهم عن خيلهم سعوا على أقدامهم، وانتبذ أبو ثابت وأبو زيّان ابن أخيه أبي سعيد وموسى ابن أخيه يوسف ووزيرهم يحيى بن داود ناحية عن قومهم، وسلكوا غير طريقهم، وتقبّض على أبي ثابت ويحيى بن داود محمد بن عثمان، وخلص موسى إلى تونس، فنزل على الحاجب محمد بن تافراكين وسلطانه خير نزل، وأجارهم مع فلّ من قومه خلصوا إليهم وأسنوا جرايتهم. وبعث السلطان أبو عنان فيهم إلى ابن تافراكين فأبى من إسلامهم وجاهر بإجارتهم على السلطان.
ولما استولت عساكر السلطان على تونس، وأجفل عنها سلطانها أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى، خرج موسى بن يوسف هذا في جملته، ولما رجع السلطان إلى المغرب صمد المولى أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى، وابن أخيه المولى أبي زيد صاحب قسنطينة مع يعقوب بن علي وقومه من الزواودة إلى منازلة قسنطينة وارتجاعها، وسار في جملتهم موسى بن يوسف هذا فيمن كان عنده من زناتة قومه. وكان بنو عامر من زغبة خارجين على السلطان أبي عنان منذ غلبه بنو عبد الواد على تلمسان. وكانت رياستهم إلى صغير بن عامر بن إبراهيم، لحق بإفريقية في قومه ونزلوا على يعقوب بن علي، وجاوروه بحللهم وظعنهم، فلما أفرجوا عن قسنطينة بعد امتناعها، واعتزم صغير على الرحلة بقومه إلى وطنهم من صحراء المغرب الأوسط، دعوا موسى بن يوسف هذا إلى الرحلة معهم لينصبوه للأمر، ويجلبوا به على تلمسان، فخلّى الموحدون سبيله، وأعانوه بما اقتدروا عليه لوقتهم، وعلى حال سفرهم من آلة وفسطاط. وارتحل مع بني عامر، وارتحل مع صولة بن يعقوب بن علي، وزيّان بن عثمان بن سبّاع من أمراء الزواودة، وصغار [2] بن عيسى في حلل من بني سعيد إحدى بطون رياح. وأغذّوا السير إلى المغرب للعيث في نواحيه. وجمع لهم أقتالهم من سويد أولياء السلطان والدولة، والتقوا بقبلة تلمسان، فانهزمت سويد وهلك عثمان بن ونزمار كبيرهم، وكان مهلك السلطان في خلال ذلك.
وكان السلطان حين استعمل الأبناء على الجهات، عقد لمحمد المهدي من أولاده على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واهتبلتهم.
[2] وفي نسخة ثانية: دغار.(7/399)
تلمسان. ولما اتصل الخبر بوفاة السلطان بالمغرب، أغذّوا السير إلى تلمسان، وملكوا ضواحيها، وجهّز الحسن بن عمر لها عسكرا عقد عليه وعلى الحامية الذين بها لسعيد ابن موسى العجيسي من صنائع السلطان. وسرّحه إليها، وسار في جملته أحمد بن مزني فاصلا إلى عمله بعد أن وصله وخلع عليه وحمله، وسار سعيد بن موسى في العساكر إلى تلمسان، واحتل بها في صفر من سنة ستين وسبعمائة وزحف إليه جموع بني عامر وسلطانهم أبو حمّو موسى بن يوسف، فغلبوهم على الضاحية وأحجزوهم بالبلد. ثم ناجزوهم الحرب أياما، واقتحموها عليهم لليال خلون من ربيع، واستباحوا من كان بها من العسكر، وامتلأت أيديهم من أسلابهم ونهابهم. وخلص سعيد بن موسى بابن السلطان إلى حلّة صغير بن عامر فأجاره ومن جاء على أثره من قومه، وأوفد برجالات من بني عامر ينصبون [1] له الطريق أمامه إلى أن أبلغوه مأمنه من دار ملكهم، واستولى أبو حمّو على ملك تلمسان، واستأثر بالهدية التي ألفى بمودعها، كان السلطان انتقاها وبعث بها إلى صاحب برشلونة بطرة بن ألقنط وبعث إليه فيه بفرس أدهم من مقرباته بمركب ولحام مذهبين ثقيلين. فاتخذ أبو حمّو ذلك الفرس لركوبه، وصرف الهديّة في مصارفه ووجوه مذاهبه. والله غالب على أمره.
الخبر عن نهوض الوزير مسعود بن ماسي إلى تلمسان وتغلبه عليها ثم انتقاضه ونصبه سليمان بن منصور للامر
لما بلغ الوزير الحسن بن عمر خبر تلمسان واستيلاء أبي حمو عليها، جمع مشيخة بني مرين وأمرهم بالنهوض إليها، فأبوا عليه من النهوض بنفسه، وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه مسيرهم كافة، ففتح ديوان العطاء وفرّق الأموال وأسنى الصلات وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد. ثم عقد عليهم لمسعود بن رحّو بن ماسي وحمل معه المال وأعطاه الآلة وسار في الألوية والعساكر. وكان في جملته منصور بن سليمان بن منصور بن أبي مالك بن يعقوب بن عبد الحق، وكان الناس يرجفون بأنّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ينفضون: نفض المكان واستنقضه إذا نظر جميع ما فيه حتى يعرفه. وعن الليث:
النفضة، بالتحريك، الجماعة يبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها عدو أو خوف (لسان العرب) .(7/400)
سلطان المغرب صائر إليه بعد مهلك أبي عنان. وشاع ذلك على ألسنة الناس وذاع وتحدّث به السمّر والندمان، وخشي منصور على نفسه لذلك، فجاء إلى الوزير الحسن وشكا إليه ذلك، فانتهره أن يختلج بفكره هذا الوسواس انتهارا خلا من وجه السياسة، فانزجر واقتصر. ولقد شهدت هذا الموطن، ورحمت ذلّة انكساره وخضوعه في موقفه. ورحل الوزير مسعود في التعبية وأفرج أبو حمّو عن تلمسان، ودخلها مسعود في ربيع الثاني واستولى عليها. وخرج أبو حمّو إلى الصحراء، وقد اجتمعت عليه جموع العرب من زغبة والمعقل. ثم خالفوا بني مرين إلى المغرب واحتلوا بانكاد بحللهم وظواعنهم، وجهز إليهم مسعود بن رحّو عسكرا من جنوده انتقى فيه مشيخة بني مرين وأمراءهم، وعقد عليهم لعامر ابن عمّه عبّو بن ماسي [1] ، وسرّحهم فزحفوا إليه بساحة وجدة، وصدقهم العرب الحملة، فانكشفوا واستبيح معسكرهم، واستلبت مشيختهم، وأرجلوا عن خيلهم، ودخلوا إلى وجدة عراة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بتلمسان، وكان في قلوبهم مرض من استبداد الوزير عليهم وحجره لسلطانهم، فكانوا يتربّصون بالدولة. فلما بلغ الخبر وحاص الناس لها حيصة الحمر، خلص بعضهم نجيا بساحة البلد، واتفقوا على البيعة ليعيش بن علي بن أبي زيّان ابن السلطان أبي يعقوب فبايعوه.
وانتهى الخبر إلى الوزير مسعود بن رحّو، وكان متحيّنا السلطان منصور بن سليمان فاستدعاه وأكرهه على البيعة، وبايعه معه الرئيس الأكبر من بني الأحمر، وقائد جند النصارى القهردور [2] ، وتسايل إليه الناس، وتسامع الملأ من بني مرين بالخبر، فتهاووا إليه من كل جانب. وذهب يعيش بن أبي زيّان لوجهه، فركب البحر وخلص إلى الأندلس، وانعقد الأمر لمنصور بن سليمان. واحتمل بني مرين على كلمته، وارتحل بهم من تلمسان يريد المغرب. واعترضهم جموع العرب في طريقهم فأوقعوا بهم، وامتلأت أيديهم من أسلابهم وظعنهم. وأغذّوا السير إلى المغرب، واحتلوا بسبّو في منتصف جمادى الأخيرة، وبلغ الخبر إلى الحسن بن عمر فاضطرب معسكره بساحة البلد. وأخرج السلطان في الآلة والتعبية إلى أن أنزله بفسطاطه. ولما غشيهم الليل انفضّ عنه الملأ إلى السلطان منصور بن سليمان، فأوقد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ماساي.
[2] وفي نسخة ثانية: القمندوز.
ابن خلدون م 26 ج 7(7/401)
الشموع وأذكى النيران حوالي الفسطاط، وجمع الموالي والجند وأركب السلطان، ودخل إلى قصره، وانحجز بالبلد الجديد، وأصبح منصور بن سليمان فارتحل في التعبية حتى نزل بكدية العرائس في الثاني والعشرين لجمادى الأخيرة، واضطرب معسكره بها، وغدا عليها بالقتال وشدّ عليها الحملات، وامتنعت يومها. ثم جمع الأيدي على اتخاذ الآلات للحصار. واجتمعت إليه وفود الأمصار بالمغرب للبيعة، ولحقت به كتائب بني مرين التي كانت محجّرة بمراكش لحصار عامر مع الوزير سليمان بن داود فاستوزره، وأطلق عبد الله بن علي وزير السلطان أبي عنان من معتقله بسبتة، فخلص منه خلوص الإبريز بعد السبك. وأمر منصور بن سليمان بتسريح السجون، فخرج من كان بها من دعّار بجاية وقسنطينة، وكانوا معتقلين من لدن استيلاء السلطان أبي عنان على بلادهم. وانطلقوا إلى مواطنهم، وأقام على البلد الجديد يغاديها القتال ويراوحها ونزع عنه إلى الوزير الحسن بن عمر طائفة من بني مرين. ولحق آخرون ببلادهم، وانتقضوا عليه ينتظرون مآل أمره. ولبث على هذه الحال إلى غرّة شعبان، فكان من قدوم السلطان أبي سالم لملك سلفه بالمغرب، واستيلائه عليه، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نزول المولى أبي سالم بجبال غمارة واستيلائه على ملك المغرب ومقتل منصور بن سليمان
كان السلطان أبو سالم بعد مهلك أبيه واستقراره بالأندلس، وخروج أبي الفضل بالسوس لطلب الأمر، ثم ظفر السلطان أبي عنان به ومهلكه كما ذكرناه، قد تورّع وسكن وسالمه السلطان. ثم لما هلك سلطان الأندلس أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة يوم الفطر بمصلى العيد طعنه أسود مدسوس كان ينسب إلى أخيه محمد من بعض إماء قصرهم. ونصّبوا للأمر ابنه محمدا وحجبه مولاه رضوان [1] .
واستبدّ عليه. وكان للسلطان أبي عنان اعتزاز كما ذكرناه، وكان يؤمّل ملك الأندلس. وأوعز إليهم عند ما طرقه طائف المرض سنة سبع وخمسين وسبعمائة أن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: روضان.(7/402)
يبعثوا إليه طبيب دارهم إبراهيم بن زرور الذمّي، وامتنع من ذلك اليهودي، واعتذر وردّوه فتنكّر لهم السلطان، ولما وصل إلى فاس من فتح قسنطينة وإفريقية تقبّض على وزيره والمشيخة من قبله، تجنيا عليهم إذ لم يبادروا السلطان بنفسه أو حاجبه للتهنئة [1] . وأظلم الجوّ بينهم، واعتزم على النهوض إليهم وكانوا منحاشين بالجملة إلى الطاغية بطرة بن أدفونش صاحب قشتالة، منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثم استبدّ رضوان على الدولة بعد مهلك أبي الحجّاج، فكانت له صاغية إليه، ظاهرها النظر للمسلمين بمسالمة عدوّهم. وكان السلطان أبو عنان يعتدّ ذلك عليهم، وعلم أنه لا بدّ أن يمدّهم بأساطيله ويدافعوه عن الإجازة إليهم. وكان بين الطاغية بطرة وبين قمص برشلونة فتنة هلك فيها أهل ملّتهم، فصرف السلطان قصده إلى قمص برشلونة وخاطبه في اتصال اليد على ابن أدفونش، واجتمع أسطول المسلمين وأسطول النصارى القمص بالزقاق، وضربوا لذلك الموعد وأتحفه السلطان بهديّة سنيّة من متاع المغرب وماعونه، ومركب ذهبيّ صنيع، ومقرب من جياده وأنفذها إليه، فبلغت تلمسان، وهلك قبل وصولها إلى محلها، ولما هلك السلطان أبو عنان أمّل أخوه المولى أبو سالم ملك أخيه، وطمع في مظاهرة أهل الأندلس له على ذلك لما كان بينهم وبين أخيه، واستدعاه أشياع من أهل المغرب، ووصل البعض منهم إليه بمكانه من غرناطة، وطلب الاذن من رضوان في الإجازة، فأبى عليه، فأحفظه ذلك. ونزع إلى ملك قشتالة متطارحا بنفسه عليه أن يجهّز له الأسطول للإجازة إلى المغرب، فاشترط عليه وتقبّل شرطه. وأجازه في أسطوله إلى مراكش، فامتنع عامر من قبوله لما كان فيه من التضييق والحصار بحضرة سليمان بن داود كما ذكرناه. فانكفأ راجعا على عقبه. فلما حاذى طنجة وبلاد غمارة وألقى بنفسه إليهم، ونزل من الصفيحة من بلادهم. واشتملت عليه قبائلهم، وتسايلوا إليه من كل جانب وبايعوه على الموت.
وملك سبتة وطنجة، وبها يومئذ السلطان أبو العبّاس بن أبي حفص صاحب قسنطينة لحق بها بعد الخروج من اعتقاله بسبتة كما ذكرناه، فاختصّه المولى أبو سالم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إبراهيم بن زرزر الذمي، وامتنع من ذلك اليهودي، واعتذر واعذره، فنكر لهم السلطان قبله، ولما وصل الى فاس من فتح قسنطينة وافريقية وتقبّض على وزيره والمشيخة من قبله، تجنيا عليهم، إن لم يبادر السلطان بنفسه وحاجبه للتهنئة.(7/403)
بالصحبة والخلّة، والبواء [1] في اغترابه ذلك، إلى أن استولى على ملكه، وألفى بطنجة الحسن بن يوسف الورتاجني، وكاتب ديوان الجند أبا الحسن بن علي بن السعود، والشريف أبا القاسم التلمساني. فكان منصور بن سليمان ارتاب بهم واتهمهم بمداخلة الوزير الحسن بن عمر بمكانه من البلد الجديد، فصرفهم من معسكره إلى الأندلس، فوافوا الأمير [2] أبا سالم عند استيلائه على طنجة، فصاروا إلى إيالته، واستوزر الحسن بن يوسف، واستكتب لعلامته أبا الحسن علي بن السعود، واختص الشريف بالمجالسة والمراكبة. ثم قام أهل الثغور الأندلسية بدعوته، وأجاز يحيى بن عمر صاحب جبل الفتح بمن كان معه من العسكر، وطالت حصاة المولى أبي سالم واتسع معسكره، وبلغ الخبر إلى الثائر على البلد الجديد منصور بن سليمان، فجهّز عسكرا لدفاعه وعقد عليه لأخويه عيسى وطلحة، وأنزلهما قصر كتامة، وقاتلوه فهزموه، واعتصم بالجبل وبادر الحسن بن عمر من وراء الجدران فبعث طاعته إليه، ووعده بالتمكين من دار ملكه. وداخل بعض أشياع المولى أبي سالم مسعود بن رحّو بن ماسي وزير منصور في النزوع إلى السلطان، وكان قد ارتاب بمنصور وابنه عليّ، فنزع وانفضّ الناس من حول منصور، وتخاذل أشياعه من بني مرين، ولحق بباديس من سواحل المغرب. ومشى أهل العسكر بأجمعهم في ساقاتهم ومواكبهم على التعبية، فلحقوا بالسلطان أبي سالم واستعدوه إلى دار ملكه، فأغذّ السير وخلع الحسن بن عمر سلطانه السعيد من الأمر لتسعة أشهر من خلافته، وأسلمه عمّه وخرج إليه فبايعه.
ودخل السلطان إلى البلد الجديد يوم الجمعة منتصف شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستولى على ملك المغرب، وتوافت وفود النواحي بالبيعات، وعقد للحسن بن عمر على مراكش، وجهّزه إليها بالعساكر ريبة بمكانه. واستوزر مسعود بن رحّو بن ماسي والحسن بن يوسف الورتاجني، واصطفى من خواصّه خطيب أبيه الفقيه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، وجعل إلى مؤلف هذا الكتاب توقيعه وكتابة سرّه. وكنت نزعت إليه من معسكر منصور بن سليمان بكدية العرايس لما رأيت من اختلال أحواله، ومصير الأمر إلى السلطان، فأقبل عليّ وأنزلني بمحل التنويه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وألفه.
[2] وفي نسخة ثانية: المولى.(7/404)
واستخلصني لكتابته. واستوسق أمره بالمغرب وتقبّض شيعة السلطان بباديس على منصور بن سليمان وابنه عليّ وقادوهم مصفّدين إلى سدّته، وأحضرهم ووبّخهم، وجنبوا إلى مصارعهم، فقتلوا قعصا بالرماح آخر شعبان من سنته. وجمع الأبناء والقرابة المرشّحين من ولد أبيه، وأشخصهم إلى رندة من ثغورهم بالأندلس، ووكّل بهم من يحرسهم، ونزع محمد ابن أخيه أبو عبد الرحمن منهم إلى غرناطة. ثم لحق منها بالطاغية، واستقرّ لديه حتى كان من تملّكه المغرب ما نقصّه إن شاء الله تعالى.
وهلك الباقون غرقا بالبحر بإيعاز السلطان بذلك بعد مدّة من سلطانه، أركبهم السفن إلى المشرق، ثم غرّقهم. وخلص الملك من الخوارج والمنازعين، واستوسق له الأمر، والله غالب على أمره. واحتفل السلطان في كرامة مولانا السلطان أبي العبّاس، وأشاد ببره وأوعز باتخاذ دار عامر بن فتح الله وزير أبيه لنزله، ومهّد له المجلس لضيق أريكته، ووعده بالمظاهرة على ملكه إلى أن بعثه من تلمسان عند استيلائه عليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان)
لما هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصّب ابنه محمد للأمر، واستبدّ عليه رضوان مولى أبيه، وكان قد رشّح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته. فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم، وقد كان له صهر من ابن عمّه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد في شقيقته فكان يدعوه سرّا إلى القيام بأمره متى أمكنته فرصة في الدولة، فخرج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه، فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين من رمضان من سنة ستين وسبعمائة في بعض أوشاب، جمعهم من الطغام لثورته. وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته، وقربوا إلى إسماعيل فرسه فركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته، وقرعوا طبولهم بسور الحمراء، وفرّ السلطان من مكانه بمنتزهه إلى وادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان، واتصل الخبر بالسلطان المولى أبي سالم، فامتعض لمهلك رضوان، وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم، وأزعج(7/405)
لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقلاله، فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب، وأطلق اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله بن الخطيب، كانوا اعتقلوه لأوّل أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع. فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه، فأطلقوه. ولحق الرسول أبو القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب، وأجاز لذي القعدة من سنته. وقدم على السلطان بفاس وأجلّ قدومه، وركب للقائه، ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه [1] ، وغصّ بالمشيخة والعلية. ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائقة يستصرخه لسلطانه، ويستحثّه لمظاهرته على أمره. واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة، ونصّ القصيدة:
سلا هل لديها من محبّرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونمّ به الزهر
وهل باكر الوسميّ دارا على اللوى ... عفت آيها إلّا التوهّم والذكر
بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر
وجوّي الّذي ربّى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر
نبت بي لا عن جفوة وقلالة ... ولا نسخ الوصل الهنيّ لها هجر
ولكنّها الدنيا قليل متاعها ... ولذّاتها دأبا تزور وتزوّر
فمن لي بنيل القرب منها ودوننا ... مدى طال حتّى يومه عندنا شهر
وللَّه عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كلّ جانحة جمر
وقد بدّدت درّ الدموع يد النوى ... وللبين أشجان يضيق لها الصدر
بكينا على النهر السرور عشيّة ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر
أقول لأظعاني وقد غالها السري ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر
رويدك بعد العسر يسر فأبشري ... بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر
وإن تجبن الأيام لم تجبن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخدل الصبر
وإن عركت منّي الخطوب مجرّبا ... نقابا تسوّى عنده الحلو والمرّ [2]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بزينته.
[2] وفي نسخة ثانية: نفاقا تساوي عنده الحلو والمرّ.(7/406)
فقد عجمت عودا صليتا مقوما [1] ... وعزما كما تمضي المهنّدة البتر
إذا أنت بالبيضاء قد زرت منزلي ... فلا اللّحم حلّ ما جنيت [2] ولا الظهر
زجرنا بإبراهيم ملء [3] همومنا ... فلمّا رأينا وجهه صدق الزجر
بمنتخب من آل يعقوب كلّما ... دجا الخطب لم يكذب لعرمته فخر
تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلمّا رأته صدّق الخبر الخبر
ندي لو حواه البحر لذّ مذاقه ... ولم يتعقّب مدّه أبدا جزر
وباس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أذياله الفتية [4] البكر
أطاعته حتى العصم في قنن الربا ... وهشّت إلى تأميله الأنجم الزّهر
قصدناك يا مولى الملوك على النوى ... لتنصفنا ممّا جنى عبدك الدهر
كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسّف والكبر
وعدنا بذاك المجد فانصرف الردى ... ولذنا بذاك العزّ فانهزم الشرّ
ولما أتينا البحر نرهب موجه ... ذكرنا بذاك العزّ الغمر فاحتقر البحر [5]
خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر
ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضلّ في أوصاف من دونك الشعر
دعتك قلوب المسلمين وأخلصت ... وقد طاب منها السرّ للَّه والجهر
ومدّت إلى الله الأكفّ ضراعة ... فقال لهنّ الله قد قضي الأمر
وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحرّ
فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ... وقد كان ممّا نابه ليس يفتر
وأمّنت بالسّلم البلاد وأهلها ... فلا ضيمة تعدو ولا روعة تعرو
وقد كان مولانا أبوك مصرّحا ... بأنك في أولاده الولد البرّ
وقد كنت حقا بالخلافة بعده [6] ... على الفور لكن كلّ شيء له قدر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فقد عجمت عددا صليبا على النوى.
[2] وفي نسخة ثانية: ما حييت.
[3] وفي نسخة ثانية: برء.
[4] وفي نسخة ثانية: البتكة.
[5] وفي نسخة ثانية:
ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا بذاك الغمر ما احتقر البحر
[6] وفي نسخة ثانية: وكنت حقيقا بالخلافة بعده.(7/407)
فأوحشت من دار الخلافة أهلها [1] ... أقامت زمانا لا يلوح بها البدر
وردّ عليك الله حقّك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل السّتر
وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الأمانة واضطرّوا
وزادك بالتمحيص عزّا ورفعة ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر
وأنت الّذي تدعى إذا دهم الرّدى ... وأنت الّذي ترجى إذا أخلف القطر
وأنت إذا جار الزمان بحكمه ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر
وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... كسير ومن علياك يلتمس النصر
غريب يرجّي منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر
فعد يا أمير المؤمنين [2] لبيعة ... موثّقة قد حلّ عقدتها الغدر
ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بآل مرين جاءه العزّ والنصر
وخذ يا إمام الحقّ للحقّ ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العزّ والأجر
وأنت لها يا ناصر الحقّ فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو
فإن قيل مال مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش عندك العسكر الحرّ [3]
يكفّ بك العادي ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر
أعده إلى أوطانه عنك ثانيا ... وقلّده نعماك التي ما لها حصر
وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدّهم عنه التغلّب والقهر
وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر
مرامك سهل لا يؤدك كفله ... سوى أنّه عرض له في الغلى حظر [4]
وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد ولكنّ الثناء هو العمر
ومن باع ما يفنى بباق مخلّد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر
ومن دون ما تبقيه يا مالك العلى ... جياد المذاكي والمحجّلة الغرّ
وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأراجلها درّ
وشهب إذا ما ضمّرت يوم غارة ... مطهّمة غارت بها الأنجم الزهر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هالة.
[2] وفي نسخة ثانية: المسلمين.
[3] وفي نسخة ثانية: المجر.
[4] وفي نسخة ثانية: سوى عرض ما ان له في العلى خطر.(7/408)
وأسد رجال من مرين أعزة ... عمائمها بيض وآمالها سمر
عليهم من الماذيّ كلّ مفاضة ... تدافع في أعطافها اللّجج الخضر
هم القوم إن هبّوا لكشف مملّة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر
إذا سئلوا أعطوا، وإن نوزعوا سطوا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عاهدوا برّوا
وإن سمعوا العواء وافوا بأنفس ... كرام على هاماتها في الورى البرّ [1]
وإن مدحوا هزّوا ارتياحا كأنّهم ... نشاوى تمشّت في معاطفهم خمر
وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر
أمولاي غاضت فكرتي وتبدّلت ... طباعي، فلا طبع يقيني [2] ولا فكر
ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم يبق عين ولا أثر
فأوجدت منى فائتا أي فائت ... وأنشرت ميتا ضمّ أشلاءه قبر
بدأت بفضل لم أكن لعظمه ... بأهل فحلّ اللّطف وانشرح الصدر
وطوّقتني النعمى المضعّفة [3] التي ... يقلّ عليها منّي الحمد والشكر
وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود العزّ والجاه والوقر
جزاك الّذي أسنى مقامك رحمة ... تفكّ بها العاني وينفس [4] مضطرّ
إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر
ولكنّنا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حقّ له العذر
ثم انقضى المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله، وقد فرشت له القصور وقرّبت له الجياد بالمراكب المذهّبة، وبعث إليه بالكساء الفاخرة، ورتّب الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع، وانحفظ عليه رسم سلطانه في الركب والرجل، ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الأداة أدبا مع السلطان، واستقرّ في حملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس، وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين وسبعمائة ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وان سمعوا العوراء فروا بأنفس حرام على هماتها في الوغي الغرّ
[2] وفي نسخة ثانية: بعين.
[3] وفي نسخة ثانية: المضاعفة.
[4] وفي نسخة ثانية: وينعش.(7/409)
(الخبر عن انتقاض الحسن بن عمر وخروجه بتادلا وتغلب السلطان عليه ومهلكه)
لما فصل الوزير الحسن بن عمر إلى مراكش واستقرّ بها، تأثّل له بها سلطان ورياسة، نفسها أهل مجلس السلطان [1] وسعوا في تنكّر السلطان له، حتى أظلم الجوّ بينهما، وشعر الوزير بذلك فارتاب بمكانه، وخشي بادرة السلطان على نفسه، وخرج من مراكش في شهر صفر من سنة إحدى وستين وسبعمائة فلحق بتادلّا منحرفا عن الطاعة، مرتبكا أمره، وتلقاه بنو جابر من جشم، واعصوصبوا عليه وأجاروه.
وجهّز السلطان عساكره إلى حربه، وعقد عليها لوزيره الحسن بن يوسف وسرّحه إليه فاحتل بتادلا، ولحق الحسن بن عمر بالجبل، واعتصم به مع الحسين بن علي الورديغي كبيرهم. وأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم، وداخل الوزير بعض أهل الجبل من صناكة في الثورة بهم، وسرّب إليهم المال فثاروا بهم، وانفض جمعهم، وتقبّض على الحسن بن عمر، وقاده برمّته إلى عسكر السلطان فاعتقله الوزير، وانكفأ راجعا إلى الحضرة. وقدم بها على السلطان في يوم مشهود، واستركب السلطان فيه العسكر وجلس ببرج الذهب مقعده في ساحة البلد لاعتراض عساكره. وحمل السلطان الحسن بن عمر على جمل طيف به بين أهل ذلك المحشر، وقرّب إلى مجلس السلطان فأومأ إلى تقبيل الأرض فوق جمله، وركب السلطان إلى قصره، وانفضّ الجمع وقد شهروا وصاروا عبرة من عبر الدنيا. ودخل السلطان قصره فاقتعد أريكته واستدعى خاصّته وجلساءه، وأحضره فوبّخه وقرّر عليه مرتكبه، فتلوّى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار. وحضرت هذا المجلس يومئذ فيمن حضره من العليّة والخاصّة، فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة. ثم أمر به السلطان فسحب على وجهه، ونتفت لحيته وضرب بالعصي، وتلّ إلى محبسه، وقتل لليال من اعتقاله قعصا بالرماح بساحة البلد، ونصب شلوه بسور البلد عن باب المحروق، وأصبح مثلا في الآخرين.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نفسها عليه الوزراء بمجلس السلطان.(7/410)
(الخبر عن وفد السودان وهديتهم وأغرابهم فيها بالزرافة)
كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا موسى هديّته المذكورة في خبره، اعتمل في مكافأته وجمع لمهادات من طرف أرضه وغرائب بلاده، وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك، ووصلت الهديّة إلى أقصى ثغورهم من الأرس [1] . وهلك منسا سليمان قبل وصولها. واختلف أهل مالي وافترق أمرهم [2] . وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضا، وشغلوا بالفتنة حتى قام فيهم منسا زاطة [3] واستوسق له أمرهم ونظر في أعطاف ملكه، وأخبر بشأن الهديّة وأخبر أنّها بوالاتن فأمر بإنفاذها إلى ملك المغرب، وضمّ إليها حيوان الزرافة الغريب الشكل، العظيم الهيكل، المختلف الشبه بالحيوانات. وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى فاس في صفر من سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض. ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء، فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غصّ بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وأنشد الشعراء في معرض المدح والتهنئة، ووصف الحال. وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدّوا رسالتهم بتأكيد الودّ والمخالصة، والعذر عن إبطاء الهديّة بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر، وتعظيم سلطانهم وما صار إليه. والترجمان يترجم عنهم وهم يصدّقونه بالنزع في أوتار قسيّهم عادة معروفة لهم. وحيّوا السلطان يحثون التراب على رءوسهم على سنّة ملوك العجم. ثم ركب السلطان وانفضّ ذلك الجمع وقد طار به الذكر. واستقرّ ذلك الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته، وهلك السلطان قبل انصرافهم، فوصلهم القائم بالأمر من بعده، وانصرفوا إلى مراكش وأجازوا منها إلى ذوي حسّان عرب المعقل من السوس المتّصلين ببلادهم. ولحقوا من هنالك بسلطانهم، والأمر للَّه وحده.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إلى أقصى تخومهم من والاتن.
[2] وفي نسخة ثانية: ملكهم.
[3] وفي نسخة ثانية: منساجاطه.(7/411)
الخبر عن حركة السلطان الى تلمسان واستيلائه عليها وإيثار أبي زيان حافد أبي تاشفين بملكها وما كان من ذلك من صرف أمراء الموحدين إلى بلادهم
لما استقلّ السلطان بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة كما ذكرناه، وكان العامل على درعة عبد الله بن مسلم الزردالي من أخلاف بني عبد الواد وشيعة أبي زيان [1] ، اصطنعه السلطان أبو الحسن عند تغلّبه على تلمسان. واستعمله أبو عنان بعد ذلك على بلاد درعة كما ذكرناه. وتأتى له [2] المكر بأبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن حين خروجه على أخيه السلطان أبي عنان بجبل ابن حميدي، فارتاب عند استقلال المولى أبي سالم بالأمر. وخشي بادرته لما رآه من حقده عليه بسبب أخيه أبي الفضل، لما كان بينهما من لحمة الاغتراب، فداخل بطانة له من عرب المعقل، واحتمل ذخائره وأمواله وأهله وقطع القفر إلى تلمسان، ولحق بالسلطان أبي حمّو آخر سنة ستين وسبعمائة فنزل منه خير نزل، وعقد له حين وصوله على وزارته، وباهى به وبمكانه، وفوّض إليه في التدبير والحلّ والعقد، فشمر عن ساعده في الخدمة، وجأجأ بعرب المعقل من مواطنهم رغبة في ولايته وإيثارا لمكانته من الدولة، ورهبة من سلطان المغرب لما كانوا ارتكبوه من موافقة بني مرين مرّة بعد أخرى، فاستقرّوا بتلمسان وانحاشوا جميعا إلى بني عبد الواد، وبعث السلطان أبو سالم إلى أبي حمّو في شأن عاملهم عبد الله بن مسلم، فلم يرجع له جوابا عنه، وحضر عليه ولاية المعقل أهل وطنه، فلجّ في شأنهم فأجمع السلطان أمره على النهوض إليهم. واضطرب معسكره بساحة البلد وفتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالنفير إلى تلمسان. وأزاح العلل.
وبعث الحاشدين من وزرائه إلى مراكش فتوافت حشود الجهات ببابه، وفصل من.
فاس في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وجمع أبو حمّو من في إيالته وعلى التشييع لدولته من زناتة والعرب من بني عامر والمعقل كافة، ما عدا العمارنة، كان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: آل زيّان.
[2] وفي نسخة ثانية: وتولى.(7/412)
أميرهم الزبير بن طلحة متحيّزا إلى السلطان. وأجفلوا عن تلمسان وخرجوا إلى الصحراء. ودخل السلطان إلى تلمسان ثالث رجب، وخالفه أبو حمّو وأشياعه إلى المغرب، فنزلوا كرسيف بلد ونزمار بن عريف، وخرّبوه واكتسحوا ما وجدوا فيه حقدا على ونزمار وقومه بولاية بني مرين. وتخطوا إلى وطاط، فعاثوا في نواحيه، وانقلبوا إلى أنكاد، وبلغ السلطان خبرهم فتلافى أمر المغرب. وعقد على تلمسان لحافد من حفدة السلطان أبي تاشفين، كان ربّي في حجرهم وتحت كفالة نعمتهم، وهو أبو زيّان محمد بن عثمان، وشهرته بالفتى، وأنزله بالقصر القديم من تلمسان وعسكر عليه زناتة الشرق كلّهم، واستوزر له ابن عمّه عمر بن محمد بن إبراهيم بن مكي [1] ومن أبناء وزرائهم سعيد بن موسى بن علي، وأعطاه عشرة أحمال من المال دنانير ودراهم، ودفع إليه الآلة. وذكر حينئذ لمولانا السلطان أبي العبّاس سوابقه وإيلافه في المنزل الخشن، فنزل له عن محل إمارته قسنطينة.
وصرف أيضا المولى أبا عبد الله صاحب بجاية لاسترجاع بلده بجاية، فعقد لهما بذلك وحملهما. وخلع عليهما وأعطاهما حملين من المال.
وكانت بجاية لذلك العهد قد تغلّب عليها عمّهم المولى أبو إسحاق إبراهيم صاحب تونس، فكتب إلى عاملهم على قسنطينة منصور بن الحاج خلوف أن ينزل عن بلدة مولانا السلطان أبي العبّاس أحمد، ويمكّنه منها، وودّع هؤلاء الأمراء وانكفأ راجعا إلى حضرته لسدّ ثغور المغرب، وحسم داء العدوّ، فدخل فاس في شعبان من سنته. ولم يلبث أن رجع أبو زيّان على أثره بعد أن أجفل عن تلمسان ولحق بوانشريش. وتغلّب عليه أبو حمّو وفضّ جموعه، فلحق بالسلطان واستقلّ أبو حمّو بملك تلمسان، وبعث في السلم إلى السلطان فعقد له من ذلك ما رضيه كما ذكرناه.
الخبر عن مهلك السلطان أبي سالم واستيلاء عمر بن عبد الله على ملك المغرب ونصبه للملوك واحدا بعد واحد إلى أن هلك
كان السلطان قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وكان من خبره أن
__________
[1] وفي نسخة: بن مكن.(7/413)
سلفه من أهل رباط الشيخ أبي مدين كان جدّه قيّما على خدمة قبره ومسجده واتصل القيام على هذا الرباط في عقبه، وكان جدّه الثالث محمد معروفا بالولاية، ولما مات دفنه يغمراسن بالقصر القديم ليجاوره بجدثه تبرّكا به، وكان ابنه أحمد أبو محمد هذا قد ارتحل إلى المشرق، وجاور الحرمين إلى أن هلك وربّى ابنه محمد بالمشرق ما بين الحجاز ومصر. وقفل إلى المغرب بعد أن أسرّ أشياء [1] في الطلب وتفقّه على أولاد الإمام، ولما ابتنى السلطان أبو الحسن مسجد العباد ولّاه الخطابة به، وسمعه يخطب على المنبر وقد أحسن في ذكره والدعاء له، فحلا بعينه واستخلصه لنفسه وأحله محل القرب من نفسه [2] ، وجعله خطيبا حيث يصلي من مساجد المغرب، وسفر عنه إلى الملوك، ولمّا كانت نكبة القيروان خلص إلى المغرب واستقرّ برباط العباد بجبل سلفه، بعد أحوال أضربنا عن ذكرها اختصارا.
ولما خلص السلطان إلى الجزائر داخله أبو سعيد صاحب تلمسان في السفارة عنه إلى السلطان أبي الحسن وصلاح ما بينهما فسار لذلك ونقمه أبو ثابت وبنو عبد الواد ونكروه على سلطانهم. وسرّحوا صغير بن عامر في اتباعه، فتقبّض عليه وأودعوه المطبق. ثم أشخصوه بعد حين إلى الأندلس فاتصل بأبي الحجّاج صاحب غرناطة.
وولّاه خطابته لما اشتهر به من إجادة الخطبة للملوك بزعمهم. وألف السلطان أبا سالم في مثوى اغترابهما من غرناطة، وشاركه عند أبي الحجّاج في مهمّاته. ولما نزل بجبال غمارة داخل بني مرين والوزراء في القيام بدعوته. وكان له في ذلك مقام محمود. فرعى السلطان وسائله وبوآته [3] القديمة والحادثة إلى مقامه عند أبيه، فلما استوسق له ملك المغرب استخصّه بولايته وألقى عليه محبّته وعنايته، وكان مؤامره ونجيّ خلوته والغالب على هواه، فانصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرقاب ووطئ عقبه [4] الأشراف والوزراء، وعطف على بابه القوّاد والأمراء وصار زمام الدولة بيده. وكان يتجافى عن ذلك أكثر أوقاته حذرا من سوء المغبّة، ويزجر من يتعرّض
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بعدان شدا شيئا.
[2] وفي نسخة أخرى: من مجلسه.
[3] وفي نسخة ثانية: ووالاته.
[4] وفي نسخة ثانية: عتبته.(7/414)
له في الشكاية ويردهم إلى أصحاب المراتب والخطط بباب السلطان، وهم يعلمون أنه قد ضرب على أيديهم، فنقموا ذلك وسخطوا الدولة من أجله. ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدّمه: ونفس عليه الوزراء ما ثبت له عند السلطان من الحظ، فتربّصوا بالدولة، وشمل هذا الداء الخاصّة والعامة. وكان عمر بن عبد الله ابن علي لما هلك أبوه الوزير عبد الله بن علي في جمادى سنة ستين وسبعمائة عند استيلاء السلطان على ملكه، تحلبّت شفاه أهل الدولة على تراثه. وكان مثريا فاستجار منهم بابن مرزوق، وساهمه في تراث أبيه بعد أن حملوا السلطان على النيل منه، والإهانة له، فأجاره منهم. ورفع عند السلطان رتبته وحمله على الإصهار إليه في أخته، وقلّده السلطان أمانة البلد الجديد دار ملكه متى عنت له الرحلة عنها. وأصهر عمر إلى وزير الدولة مسعود بن ماسي تسكينا لروعته [1] واستخلاصا لمودّته، وسفر عن السلطان إلى صاحب تلمسان في شعبان من سنة اثنين وستين وسبعمائة ونمي عنه أنه داخل صاحب تلمسان في بعض المكر فهمّ بنكبته وقتله، ودافع عنه ابن مرزوق وخلص من عقابه، وطوى على البثّ وتربّص بالدولة. وأعيد إلى مكانه من الأمانة على دار الملك أوّل ذي القعدة مرجعه من تلمسان لما كان السلطان قد تحوّل عنها إلى القصبة بفاس، واختطّ إيوانا فخما لجلوسه بها، لضيق قصوره بها [2] . فلما استولى عمر على دار الملك حدّثته نفسه بالتوثّب وسوّل له ذلك ما اطلع عليه من مرض القلوب والنكير على الدولة، لمكان ابن مرزوق من السلطان فداخل قائد الجند غريسة ابن انطول [3] وتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة سنة اثنين وستين وسبعمائة وخلصوا إلى تاشفين الموسوس ابن السلطان أبي الحسن بمكانه من البلد الجديد، فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك، وقرّبوا له مركبه وأخرجوه إلى أريكة السلطان فأقعدوه عليها. وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة له، وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى مودع المال، ففرضوا العطاء من غير تقدير ولا حسبان، وماج أهل البلد الجديد من الجند بعضهم في بعض،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لغربه.
[2] وفي النسخة الجزائرية كلمتان زائدتان (متغنيا الابردين) وفي نسخة أخرى: لصق قصوره. وفي النسخة الباريسية الكلمتان غير واضحتين وهما محرفتان.
[3] وفي نسخة ثانية: انطون.(7/415)
واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء، وانتهبوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلع والعدّة. وأضرموا النار في بيوتها سترا على ما ضاع منها، وأصبح السلطان بمكانه من القصبة، فركب واجتمع إليه من حضر من الأولياء والقبائل، وغدا على البلد الجديد وطاف بها يروم منها منفذا، فاستعصب واضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها، ونادى في الناس بالاجتماع إليه. ونزل عند قائلة الهاجرة بفسطاطة، فتسايل الناس عنه إلى البلد الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن سار إليها أهل مجلسه وخاصته، فطلب النجاة بنفسه وركب في لمّة من الفرسان مع وزرائه:
مسعود بن رحّو وسليمان بن داود ومقدّم الموالي والجند ببابه سليمان بن نصار [1] ، وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره، ومضى على وجهه. ولما غشيهم الليل انفضّوا عنه، ورجع الوزير إلى دار الملك فتقبّض عليهما عمر بن عبد الله ومساهمه غريسة بن أنطول واعتقلاهما متفرقين، وأشخص علي بن مهدي بن يرزيجن في طلب السلطان، فعثر عليه نائما في بعض المحاشر [2] بوادي ورغة، وقد نزع عنه لباسه اختفاء بشخصه، وتوارى على العيون بمكانه، فتقبّض عليه وحمله على بغل، وطيّر الخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن وردار [3] ، وفتح الله بن عامر ابن فتح الله. وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه، فلقياه بخندق القصب إزاء كدية العرائس، فأمر بعض جنود النصارى أن يتولى ذبحه وحمل رأسه في مخلاة، فوضعه بين يدي الوزير والمشيخة. واستقلّ عمر بالأمر ونصب الموسوس تاشفين يموه به على الناس، وذوات الأمور إلى غاياتها ولكل أجل كتاب.
الخبر عن الفتك بابن أنطول قائد العسكر من النصارى ثم خروج يحيى بن رحو وبني مرين عن الطاعة
لما تقبّض عمر بن عبد الله على الوزير، كان معتقل سليمان بن داود بدار غريسة قائد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سليمان بن ونصار.
[2] وفي نسخة ثانية: المجاشر: «قال الاصمعي: بنو فلان جشر إذا كانوا يبيتون مكانهم لا يأوون إلى بيوتهم. وابل جشر: تذهب حيث شاءت وكذلك الحمر. وأصبحوا جشرا إذا كانوا يبيتون وكأنهم لا يرجعون إلى أهليهم» وكلمة مجاشر عامية بمعنى المراعي، مأخوذة من معنى جشر (لسان العرب) .
[3] وفي نسخة ثانية: بن داود.(7/416)
النصارى، ومعتقل ابن ماسي بداره ضنا به عن الامتهان لمكان صهره. ولما كان يؤمّل منه من الاستظهار على أمره بعصابته من الأبناء والإخوة والقرابة، وكان غريسة بن أنطول صديقا لسليمان بن ونصار، فلما رجع عن السلطان ليلة انفضاضهم، نزل عليه وكان يعاقره الخمر، فأتاه سحرا وتفاوضا في اعتقال عمرو [1] وإقامة معتقله سليمان بن داود في الوزارة لما هو عليه من السنّ ورسوخ القدم في الأمر. ونمي إلى عمر الخبر، فارتاب وكان خلوا من العصابة ففزع إلى قائد المركب السلطاني من الرجل الأندلسيّين يومئذ إبراهيم البطروجي [2] ، فباثّه أمره وبايعه على الاستماتة دونه. ثم استقل عصابتهم ففزع إلى يحيى بن رحّو شيخ بني مرين وصاحب شوراهم فشكا إليه، فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطول وأصحابه. وانبرم عقد ابن أنطول وسليمان ابن ونصار على شأنهم وغدوا إلى القصر. وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى للاستظهار بهم، ولمّا توافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وطعموا، دعا عمر بن عبد الله القائد ابن أنطول بين يدي يحيى بن رحّو وقد أحضر البطروجي رجل الأندلسيّين، فسأله تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضنّ به عن الإهانة حتى سأل مثلها من ابن ماسي صاحبه، فأمر عمر بالتقبّض عليه، فكشّر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة، فتواثبت بنو مرين وقتلوه لحينه.
واستلحموا من وجد بالدار من جند النصارى عند دخولهم [3] ، وفرّوا إلى معسكرهم ويعرف بالملاح جوار البلد الجديد.
وأرجف الغوغاء بالمدينة أنّ ابن أنطول غدر بالوزير فقتل جند النصارى حيث وجدوا من سكك المدينة. وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من به من الجند، وركب بنو مرين لحماية جندهم من معرّة الغوغاء، وانتهب يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم.
وقتل النصارى كثيرا من المجّان كانوا يعاقرون الخمر بالملاح، واستبدّ عمر بالدار واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل. وبعث من قتله بمحبسه. وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور بدار الملك واعتقله بها، واستولى على أمره ورجع في الشورى إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فباثه شجوه وتفاوضا في اغتيال عمر.
[2] وفي نسخة ثانية: البطروحي.
[3] وفي نسخة ثانية: بعد جولة. ابن خلدون م 27 ج 7(7/417)
يحيى بن رحّو، واعصوصب بنو مرين عليه، واعتز على الأمراء والدولة، وكان عد الخاصة السلطان أبي سالم حريصا على قتلهم، وكان عمر يريد استبقاءهم لما أمّله في ابن ماسي، فخشنت صدورهم عليه، ودبّروا في شأنه. وخاطب هو عامر بن محمد في اتصال اليد واقتسام ملك المغرب، وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم، اعتدّه عنده وليجة لخلاصه من ربقة الحصار الّذي هم به مشيخة بني مرين. وكان أبو الفضل هذا بالقصبة تحت الرقبة والأرصاد، فتفقّد من مكانه.
وأغلظ المشيخة في العتب لعمر في ذلك، فلم يستعتب، ونبذ إليهم العهد وامتنع بالبلد الجديد، ومنعهم من الدخول إليه فاعصوصبوا على كبيرهم يحيى بن رحّو وعسكروا بباب الفتوح، وجأجئوا [1] بعبد الحليم ابن السلطان أبي علي وكان من خبرهم معه ما نذكره. وأطلق عمر بن عبد الله مسعود بن ماسي من محبسه وسرّحه إلى مراكش، وأوعده في الاجلاب عليهم إن حاصروه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وصول عبد الحليم ابن السلطان من تلمسان وحصار البلد الجديد)
كان السلطان أبو الحسن لما قتل أخاه السلطان أبا علي وقضى الحق الّذي له في ذمته [2] عمل بالحق الّذي عليه في ولده وحرمه، فكفلهم وغذاهم بنعمته، وساواهم بولده في كافة شئونهم، وأنكح ابنته تاحضريت العزيزة عليه عليا منهم المكنّى بأبي سلوس [3] ونزع عنه وهو بالقيروان أيام النكبة ولحق بالعرب. وأجلب معهم على السلطان بالقيروان وتونس. ثم انصرف من إفريقية ولحق بتلمسان ونزل على سلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن فبوّأه كرامته. ثم شرع في الإجازة إلى الأندلس، وبعث فيه السلطان أبو عنان قبل فصوله، فاشخصوه إليه فاعتقله. ثم أحضره ووبّخه على مرتكبه مع السلطان أبي الحسن وجحده حقه. ثم قتله لليلتين من شهور إحدى وخمسين وسبعمائة، ولما هلك السلطان أبو الحسن ولحقت جملته من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وجاءوا.
[2] وفي نسخة ثانية: في دمه.
[3] وفي نسخة ثانية: بأبي يفلوسن.(7/418)
الخاصّة والأبناء بالسلطان أبي عنان، وأشخص إخوته إلى الأندلس، وأشخص معهم ولد الأمير أبي علي هؤلاء عبد الحليم وعبد المؤمن والمنصور والناصر وسعيد ابن أخيهم أبي زيّان، فاستقرّوا بالأندلس في جوار ابن الأحمر. ثم طلب أبو عنان إشخاصهم بعد، كما طلب إشخاص أخيه، فأجارهم ابن الأحمر جميعا وامتنع من إسلامهم إليه. وكان من المغاضبة لذلك ما قدّمناه.
ولما اعتقل السلطان أبو سالم الأبناء المرشّحين برندة، كما قدّمناه، نزع منهم عبد الرحمن بن علي بن أبي يفلوسن إلى غرناطة فلحق بأعماله. وكان السلطان أبو سالم بمكانهم مستريبا بشأنهم حتى لقد قتل محمد بن أبي يفلوسن ابن أخته تاحضريت وهو في حجرها وحجره، استرابه بما نمي عنه. ولما أجاز أبو عبد الله المخلوع ابن أبي الحجّاج، إلى المغرب ونزل عليه وصار إلى إيالته، ورأى أن قد ملك أمره في هؤلاء المرشحين بغرناطة، وأرسل الرئيس محمد بن إسماعيل عند توثّبه على الأمراء واستلحامه أبناء السلطان أبي الحجّاج، فراسله في اعتقالهم ثم فسد ما بين الرئيس والطاغية، وأخذ منه كثيرا من حصون المسلمين. وبعث إلى السلطان أبي سالم في أن يخلي سبيل المخلوع إليه، فامتنع وفاء للرئيس. ثم دافع الطاغية عن ثغوره بإسعاف طلبته، فجهّز المخلوع وملأ حقائبه صلة وأعطاه الآلة، وأوعز إلى أسطوله بسبتة فجهّز وبعث علال بن محمد ثقة أبيه [1] فأركبه الأسطول وركب معه إلى الطاغية. وخلص الخبر إلى الرئيس بمكانه من ملك غرناطة، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان يراسله في أولاد أبي علي، وأن يجيزهم إليه ليجدهم زبونا على السلطان أبي سالم، فبادر لحينه وأطلقهم من مكان اعتقالهم، وأركب عبد الحليم وعبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيهما على أبي يفلوسن. في الأسطول، وأجازهم إلى مرسى هنين بين يدي مهلك السلطان أبي سالم، فنزلوا من صاحب تلمسان بأعزّ جوار. ونصّب عبد الحليم منهم لملك المغرب.
وكان محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم نزع عن عمر ولحق بتلمسان، فتوافى معهم وأخبرهم بمهلك السلطان وبايع له وأغراه بالرحلة [2] إلى المغرب ثم تتابعت وفود بني مرين بمثلها، فسرّحه أبو حمّو وأعطاه الآلة، واستوزر له محمد السبيع وارتحل معه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثقة إليه.
[2] وفي نسخة ثانية: وأغراه بالدخلة.(7/419)
يغذّ السير. ولقي في طريقه محمد بن زكراز من أولاد علي من شيوخ بني ونكاس أهل دبدوا وثغر المغرب منذ دخول بني مرين إليه، فبايعه وحمل قومه على طاعته، وأغذّ السير وكان يحيى بن رحّو والمشيخة لما نبذ عمر بن عبد الله إليهم العهد، وعسكروا بباب الفتوح، أوفدوا مشيخة منهم على تلمسان لاستقدام السلطان عبد الحليم، فوافوه بتازي ورجعوا معه، وتلقته جماعة بني مرين بسبّو، ونزلوا على البلد الجديد يوم السبت سابع محرّم من سنة ثلاث وستين وسبعمائة واضطرب معسكرهم بكدية العرائس، وغادوا البلد القتال وراوحوها سبعة أيام، وتتابعت وفودهم وبيعات الأمصار توافيهم والحشود تتسايل إليهم ثم إنّ عمر بن عبد الله برز من السبت القابل في مقدّمة السلطان أبي عمر بمن معه من جند المسلمين والنصارى، رامحة وناشبة.
ووكّل بالسلطان من جاء به في الساقة على التعبية المحكمة. وناشبهم الحرب فدلفوا إليه فاستطرد لهم ليتمكّن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات. ثم صمّم نحوهم وانفرج القلب وانفضت الجموع وزحف السلطان في الساقة فانذعروا في الجهات. وافترق بنو مرين إلى مواطنهم ولحق يحيى بن رحّو بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط، ولحق عبد الحليم وإخوته بتازي بعد أن شهد لهم أهل المقام بصدق الجلاد وحسن البلاء في ذلك المجال وصابر عمر بن عبد الله قدوم محمد بن أبي عبد الرحمن كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم الأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن وبيعته بالبلد الجديد في كفالة عمر بن عبد الله
لما نبذ بنو مرين عهدهم واعصوصبوا عليه، ونكروا ما جاء به من البيعة لأبي عمر مع فقده العقل الّذي هو شرط الخلافة شرعا وعادة، ونقموا عليه، اتّهم نفسه في نظره، وفرع إلى التماس المرشحين، فوقع نظره على حافد السلطان أبي الحسن محمد ابن الأمير أبي عبد الله النازع لأوّل دولة السلطان أبي سالم من رندة إلى الطاغية.
وكان قد نزل منه بخير مثوى، فبعث إليه مولاه عتيقا الخصيّ، ثم تلاه بعثمان بن الياسمين، ثم تلاهما بالرئيس الأبكم من بني الأحمر في كل ذلك يستحثّ قدومه، وخاطب المخلوع ابن الأحمر وهو في جوار الطاغية كما قدّمناه قريب عهد بجواره،(7/420)
فخاطبه في استحثاثه واستخلاصه من يد الطاغية. وكان المخلوع يرتاد لنفسه منزلا من ثغور المسلمين لما فسد بينه وبين الطاغية ورام النزوع عن إيالته، فاشترط على الوزير عمر النزول له عن رندة فتقبّل شرطه، وبعث إليه الكتاب بالنزول عنها بعد أن وضع الملأ عليه خطوطهم من بني مرين والخاصة والشرفاء والفقهاء، فسار ابن الأحمر إلى الطاغية. وسأله تسريح محمد هذا إلى ملكه، وأن قبيله دعوه إلى ذلك، فسرّحه بعد أن شرط عليه، وكتب الكتاب بقبوله وفصل من إشبيلية في شهر المحرّم فاتح ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبتة وبها سعيد بن عثمان من قرابة عمر بن عبد الله.
أرصده لقدومه فطير بالخبر إليه فخلع أبا عمر من الملك لعام من بيعته، وأنزله بداره مع حرمه. وبعث الى السلطان أبي زيّان محمد بالبيعة والآلة والفساطيط. ثم جهّز عسكرا للقائه فتلقّوه بطنجة. وأغذّ السير إلى الحضرة فنزل منتصف شهر صفر بكدية العرائس. واضطرب معسكره بها، وتلقّاه الوزير يومئذ وبايعه وأخرج فسطاطه، فاضطربه بمعسكره وتلوّم السلطان هنالك ثلاثا. ثم دخل في الرابع إلى قصره واقتعد أريكته وتودّع ملكه وعمر مستبدّ عليه لا يكل إليه أمرا ولا نهيا. واستطال عند ذلك المنازعون أولاد أبي علي كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن تجهيز السلطان عبد الحليم واخوته الى سجلماسة بعد الواقعة عليهم بمكناسة
لما سمع عبد الحليم بقدوم محمد بن أبي عبد الرحمن من سبتة إلى فاس وهو بمكانه من تازى، سرّح أخاه عبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيه إلى اعتراضه، فانتهوا إلى مكناسة وخاموا عن لقائه، فلما دخل إلى البلد الجديد أجلبوا بالغارة على النواحي وكثر العيث. وأجمع الوزير عمر على الخروج إليهم بالعساكر، فبرز بالتعبية والآلة، وبات بوادي النجاء. ثم أصبح على تعبيته وأغذّ السير إلى مكناسة، فزحف إليه عبد المؤمن وابن أخيه عبد الرحمن في جموعهما فجاولهما القتال ساعة، ثم صمم إليهم فدفعهم عن مكناسة. وانكشفوا فلحقوا بأخيهم السلطان عبد الحليم بتازى، ونزل الوزير عمر بساحة مكناسة، وأوفد بالفتح على السلطان، وكنت وافده إليه يومئذ، فعمّت البشرى واتصل السرور. وتهنّأ السلطان بملكه وتودّع من يومئذ سلطانه. ولمّا(7/421)
وصل عبد المؤمن إلى أخيه عبد الحليم بتازى مفلولا انتقض معسكره ونزعوا عنه إلى فاس، وذهب لوجهه هو وإخوته مع وزيرهم السبيع بن محمد ومن كان معهم من عرب المعقل، فلحقوا بسجلماسة. وكان أهلها قد دخلوا في بيعتهم ودانوا بطاعتهم فاستعروا بها. وجدّدوا رسم الملك والسلطان إلى أن كان من خروجهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم عامر بن محمد ومسعود بن ماسي من مراكش وما كان من وزارة ابن ماسي واستبداد عامر بمراكش
كان السلطان أبو سالم لما استقلّ بملك المغرب، استعمل على جباية المصامدة وولاية مراكش محمد بن أبي العلاء بن أبي طلحة من أبناء العمّال، وكان مطلعا بها.
وناقش الكبير من ذوي عامر فأحفظه ذلك وربما تكرّرت سعايته في عامر عند السلطان ولم يقبل. ولما بلغ إلى عامر مهلك السلطان أبي سالم وقيام عمر بالأمر، وكانت بينهما خلة بيت محمد ابن أبي العلاء فتقبّض عليه وامتحنه وقتله، واستقلّ بأمر مراكش وبعث إليه الوزير عمر بأبي الفضل بن السلطان أبي سالم يعتدّه لما يقع من حصار بني مرين إياه أن يجلب به عامر عليهم ويستنقضه كما ذكرناه. ثم سرّح مسعود بن ماسي كما ذكرناه، ولما أحاط بنو مرين بالبلد الجديد جمع عامر من إليه من الجند والحشود وزحف بأبي الفضل بن السلطان أبي سالم إلى أنفى، ونزل بوادي أم ربيع، ولما انفضّ جمعهم من على البلد الجديد، لحق به يحيى بن رحّو، وكان له صديقا ملاطفا، فتنكّر له توفية لعمر بن عبد الله وصاحبه مسعود، وبعثه إلى الجبل ولم يشهد الجمع، فذهب مغاضبا. ولحق بسجلماسة بالسلطان عبد الحليم وهلك في بعض حروبه مع العرب. ولما انفضّ عبد المؤمن وأجفل عبد الحليم من تازي ولحقوا بسجلماسة، واستوسق الأمر لعمر بن عبد الله وفرغ من شأن المنازعين ومضايقتهم له، رجع إلى ما كان يؤمّله من الاستظهار على أمره بمسعود بن ماسي وإخوته وأقاربه لمكان الصهر الّذي بينهما، فاستقدمه للوزارة مرضاة لبني مرين لما كانوا عليه من استمالتهم لجميع المذاهب والإغضاء عمّا نالوه به من النكاية. وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم على السلطان فقدم في صحابته ونزلا من الدولة بخير(7/422)
منزل، وعقد السلطان لمسعود بن رحّو على وزارته بإشارة الوزير عمر فاضطلع بها، ودفعه عمر إليها استمالة إليه وثقة بمكانه واستظهارا بعصابته. وعقد مع عامر بن محمد الحلف على مقاسمة المغرب من لحم وأدم رفيع [1] وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم إسعافا بغرض عامر بن محمد في ذلك وأصهر عامر إليهم في بنت مولانا السلطان أبي يحيى المتوفى عنها السلطان أبو عنان [2] ، فحملوا أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجرّ الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا لجمادى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وصرف عمر عزيمته إلى تشريد عبد الحليم وأخيه من سجلماسة، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن زحف الوزير عمر بن عبد الله الى سجلماسة)
لما احتلّ عبد الحليم وإخوته بسجلماسة، اجتمع إليهم عرب المعقل كافة بحللهم.
واقتضوا خراج البلد فوزّعوه فيهم، وانتضوا على الطاعة رهنهم. وأقطعهم جنات المختص [3] بأسرها واعصوصبوا عليه. واستحثه يحيى بن رحّو ومن هنالك من مشيخة بني مرين إلى النهوض للمغرب، فأجمع أمره على ذلك. وتدبّر الوزير عمر أمره وخشي أن يضطرم جمرة، فأجمع إليه الحركة. ونادى في الناس بالعطاء والرحلة فاجتمعوا إليه وبثّ العطاء فيهم. واعترض العساكر وأزاح العلل وارتحل من ظاهر فاس في شعبان من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وارتحل معه ظهيره مسعود بن ماسي وبرز السلطان عبد الحليم إلى لقائهم. ولما تراءت الفئتان بتاغز وطت عند فرج الجبل المفضي من تلول المغرب الى الصحراء، هموا باللقاء. ثم تواقفوا أياما وتمشّت بينهم رجالات العرب في الصلح والتجافي لعبد الحليم عن سجلماسة تراث أبيه، فعقد بينهما وافترقا. ورجع كل واحد منهما إلى عمله ومكانه من سلطانه. ودخل عمر والوزير مسعود إلى البلد الجديد في رمضان من سنته، وتلقّاهما سلطانهما بأنواع المبرّة والكرامة. ونزع الوزير محمد بن السبيع عن السلطان عبد الحليم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تخم وادي أم ربيع وهذا أصح حسب مقتضى السياق.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ابو الحسن.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: جهات المختص.(7/423)
إلى الوزير عمر وسلطانه فتقبّل وحل محل التكرمة والردافة للوزارة واستقرّ كل بمكانه.
وتوادعوا أمرهم إلى ما كان من خلع عبد المؤمن لأخيه عبد الحليم، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن بيعة العرب لعبد المؤمن وخروج عبد الحليم الى المشرق)
لما رجع عبد الحليم بعد عقد السلم مع الوزير عمر إلى سجلماسة واستقرّ بها وكان عرب المعقل من ذوي منصور فريقين: الأحلاف وأولاد حسين. وكانت سجلماسة وطنا للأحلاف وفي مجالاتهم منذ أوّل أمرهم ودخولهم المغرب. وكان من أولاد حسين في ممالأة الوزير عمر ما قدّمناه، فكانت صاغية السلطان عبد الحليم إلى الأحلاف بسبب ذلك أكثر، فأسفّ ذلك أولاد حسين على الأحلاف وتجدّدت لذلك الفتنة وتزاحفوا. وأخرج السلطان عبد الحليم أخاه عبد المؤمن لرقع ما بينهما من الخرق ولأمته، فلما قدم على أولاد حسين دعوه إلى البيعة والقيام بأمره فأبى فأكرهوه عليها وبايعوه. وزحفوا إلى سجلماسة في صفر من سنة أربع وستين وستمائة وبرز عبد الحليم إليهم في أوليائه من الأحلاف وتواقفوا مليا وعقلوا رواحلهم وانكشف الأحلاف وانهزموا. وهلك يحيى بن رحّو كبير المشيخة من بني مرين يومئذ في حربهم. وتغلّبوا على سجلماسة، ودخل إليها عبد المؤمن وتخلّى له أخوه عبد الحليم عن الأمر وخرج إلى المشرق لقضاء فرضه، فودّعه وزوّده بما أرادوا وارتحل إلى الحج وقطع المفازة إلى بلد مالي من السودان. وصحب منها ركّاب الحج إلى مصر، ونزل على أميرها المتغلّب على سلطانها يومئذ، وهو مليغا الحاصكي [1] وأنهى خبره إليه وعرف بمكانه، فاستبلغ في تكريمه بما يناسب بيته وسلطانه. وقضى حجه وانصرف إلى المغرب، فهلك بقرب الإسكندرية سنة ست وستين وسبعمائة واستقل عبد المؤمن، بأمر سجلماسة حتى كان من نهوض العسكر إليه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يلبغا الخاصكيّ.(7/424)
(الخبر عن نهوض ابن ماسي بالعساكر الى سجلماسة واستيلائه عليها ولحاق عبد المؤمن بمراكش)
لما افترقت كلمة أولاد السلطان أبي عنان وخلع عبد المؤمن أخاه تطاول الوزير عمر إلى التغلّب عليهم. ونزع إليه الأحلاف عدوّ أولاد حسين وشيعة عبد الحليم المخلوع، فجهّز العساكر وبثّ العطاء وأزاح العلل، وسرّح ظهيره مسعود بن ماسي إلى سجلماسة، فنهض إليها في ربيع من سنة أربع وستين وسبعمائة. وتلقّاه الأحلاف بحللهم وناجعتهم، وأغذّ السير ونزع الكثير من أولاد حسين للوزير مسعود. وبعث عامر بن محمد عن عبد المؤمن من سجلماسة، فتركها ولحق بعامر فتقبّض عليه واعتقله بداره من جبل هنتاتة. ودخل الوزير مسعود إلى سجلماسة واستولى عليها. واقتلع منها جرثومة الشقاق بافتراق دعوة أولاد أبي علي منها. وكرّ راجعا إلى المغرب لشهرين من حركته، فاحتل بفاس إلى أن كان من خبر انتقاضه على عمر وفساد ذات بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض عامر ثم انتقاض الوزير ابن ماسي على أثره)
لما استقل عامر بالناحية الغربيّة من جبال المصامدة ومراكش وما إلى ذلك من الأعمال واستبد بها، ونصب لأمره أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم واستوزر له واستكفأ لأمره [1] ، وصارت كأنها دولة مستقلة، فصرف إليه النازعون من بني مرين على الدولة وجوه مفرّهم ولجئوا إليه، فأجارهم عن الدولة واجتمع إليه منهم ملأ.
وأشاروا إليه باستقدام عبد المؤمن وأنه أبلغ ترشيحا من أبي الفضل بنسبه وقيامه على أمره وصاغية بني مرين إليه، فاستدعاه وأظهر لعمر أنّه يروم بذلك مصلحته والمكر بعبد المؤمن. ونمي ذلك كله إلى عمر فارتاب به ونزع إليه آخرا السبيع بن موسى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واستكتب.(7/425)
إبراهيم الوزير. كان لعبد الحليم فكشف القناع في بطانته [1] وتجهيز العساكر إليه.
واستراب بأهل ولايته، وعثر على كتاب من الوزير مسعود بن ماسي إليه يخالصه ويبذل له النصيحة، فتقبّض على حامله وأودعه السجن، فتنكّر مسعود وأغراه صحابته الملاشون [2] له من بني مرين بالخروج ومنازعة عمر في الأمر. ووعدوه النصر منه، فاضطرب معسكره بالزيتون من خارج فاس موريا بالنزهة أبّان الربيع.
وزخرف الأرض في شهر رجب من سنة خمس وستين وسبعمائة. وبني أصحابه الفساطيط في معسكره حتى إذا استوفى جمعهم واعتزم على الخروج، ارتحل مجاهرا بالخلاف، وعسكر بوادي النجا بمن كان يعده الخروج معه من بني مرين. ثم ارتحل إلى مكناسة، وكتب إلى عبد الرحمن بن علي بن يفلوسن. يستقدمه للبيعة، وكان بجهات تادّلّا قد خرج بها بعد انصرافهم من سجلماسة، وتخلف عن أخيه عبد المؤمن. وبعث عامر إليهم بعثا فهزموه ثم لحق ببني ونكاسن، فبعث إليه ابن ماسي وأصحابه، فقدم عليهم وبايعوه. وأخرج عمر سلطانه محمد بن أبي عبد الرحمن وعسكر بكدية العرائس. وبثّ العطاء وأزاح العلل. ثم ارتحل إلى وادي النجا، فبيّته مسعود وقومه فثبت هو وعسكره في مراكزهم حتى إنجاب الظلام وفرّوا أمامهم، فاتبعوا آثارهم وانفضّ جمعهم وبدا لهم ما لم يحتسبوه من اصفاق الناس على السلطان ووزيره عمر واعتصامهم بطاعته، فانذعروا.
ولحق مسعود بن ماسي بن رحّو بتادلّا، ولحق الأمير عبد الرحمن ببلاد بني ونكاسن.
ورجع عمر والسلطان إلى مكانهما من الحضرة. واستمال مشيخة بني مرين فرجعوا إليه وعفا لهم عنها واستصلحهم. وتمسّك أبو بكر بن حمامة بدعوة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأقامهما في نواحيه، وبايعه عليها موسى بن سيّد الناس من بني علي أهل جبل دبدو من بني ونكاسن بما كان صهرا له. وخالفه قومه إلى الوزير عمر وواعدوه بالنهوض إلى أبي بكر بن حمامة، فنهض وغلبه على بلاده. واقتحم حصنه انكاوان [3] وفرّ هو وصهره موسى وفارقوا سلطانهم عبد الرحمن ونبذوا إليه عهده.
ورجعوا إلى طاعة صاحب فاس، فلحق هو بتلمسان ونزل على السلطان أبي حمّو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مطالبته.
[2] وفي نسخة أخرى: الملابسون.
[3] وفي نسخة أخرى: ايكلوان.(7/426)
فاستبلغ في تكريمه ولحق وزيره مسعود بن ماسي بدبدة ونزل على أميره محمد بن زكراز [1] صاحب ذلك الثغر. وبعث إلى الأمير عبد الرحمن من تلمسان ليطارد به لفرصة ظنّها في المغرب ينتهزها. وأبي عليه أبو حمّو من ذلك، فركب مطيّة الفرار ولحق بابن ماسي وأصحابه، فنصّبوه للأمر وأجلبوا على تازى. ونهض الوزير إليهم في العساكر واحتلّ بتازى وتعرّضوا للقائه، ففضّ جموعهم وردّهم على أعقابهم إلى جبل دبدو وسعى بينهم ونزمار بن عريف ولي الدولة في قبض عنانهم عن المنازعة والتجافي عن طلب الأمر، وأن يجيزوا إلى الأندلس للجهاد فأجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره ابن ماسي من غسّاسة فاتح سبع وستين وسبعمائة وخلا الجو من أجلابهم وعنادهم ورجع الوزير إلى فاس واحتشد إلى مراكش كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض الوزير عمر وسلطانه الى مراكش)
لما فرغ عمر من شأن مسعود وعبد الرحمن بن أبي يفلوسن صرف نظره إلى ناحية مراكش وانتزى عامر بن محمد بها. وأجمع أمره على الحركة إليه فأفاض العطاء.
ونادى بالسفر إلى حرب عامر وأزاح العلل، وارتحل إليه لرجب من سنة سبع وستين وسبعمائة وصعد عامر وسلطانه أبو الفضل إلى الجبل. فاعتصم به وأطلق عبد المؤمن من معتقله، ونصب له الآلة وأجلسه على سرير حذاء سرير أبي الفضل يوهم أنه قد بايع له، وانه أحكم أمره يجأجئ بذلك لبني مرين لما يعلم من صاغيتهم إليه.
وخشي مغبّة ذلك، فألان له القول ولاطفه في الخطاب، وسعى بينهما في الصلح حسّون بن علي الصبيحي فعقد له عمر من ذلك ما أرضاه وانقلب إلى فاس.
ورجّع عامر عبد المؤمن إلى معتقله وأمر الأحوال على ما كانت من قبل إلى أن بلغهم قتل الوزير لسلطانه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: محمد بن زكدان وقد مر معنا في السابق.(7/427)
(الخبر عن مهلك السلطان محمد بن أبي عبد الرحمن وبيعة عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن)
كان شأن هذا الوزير عمر في الاستبداد على سلطانه هذا عجبا حتى بلغ مبلغ الحجر من الصبيان. وكان جعل عليه العيون والرقباء حتى من حرمه وأهل قصره. وكان السلطان كثيرا ما يتنفّس الصعداء مع ندمائه ومن يختصّه بذلك من حرمه إلى أن حدّث نفسه باغتيال الوزير، وأمر بذلك طائفة من العبيد كانوا يختصّون به، فنمى القول، وأرسل به إلى الوزير بعض الحرم كانت عينا له عليه، فخشي على نفسه، وكان من الاستبداد والدولة أن الحجاب مرفوع له عن خلوات السلطان وحرمه، ومكاشفة رتبه، فخلص إليه في حشمه وهو معاقر لندمائه، فطردهم عنه وتناوله غطا حتى فاض وألقوه في بئر في روض الغزلان. واستدعى الخاصّة فأراهم مكانه وأنه سقط عن دابته وهو ثمل في تلك البئر، وذلك في المحرم فاتح ثمان وستين وسبعمائة لست سنين من خلافته. واستدعى من حينئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن وكان في بعض الدور من القصبة بفاس تحت الرقباء والحراسة من الوزير لما كان السلطان محمد يروم الفتك به غيرة منه على الملك، لمكان ترشيحه، فحضر بالقصر وجلس على سرير الملك. وفتحت الأبواب لبني مرين والخاصّة والعامّة فازدحموا على تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته. وكمل أمره وبادر الوزير من حينه إلى تجهيز العساكر إلى مراكش ونادى بالعطاء وفتح الديوان وكمل الأعراض وارتحل بسلطانه من فاس في شهر شعبان، وأغذّ السير إلى مراكش ونازل عامر بن محمد بمعقله من جبل هنتاتة ومعه الأمير أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن ابن السلطان أبي عليّ، أطلقه من الاعتقال أيضا وأجلسه موازي ابن عمه، واتخذ له الآلة يموّه به في شأنه الأوّل، ثم سعى بينه وبين عمر في الصلح، فانعقد بينهما وانكفأ راجعا بسلطانه إلى فاس في شهر شوّال، فكان حتفه إثر ذلك، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.(7/428)
(الخبر عن مقتل الوزير عمر بن عبد الله واستبداد السلطان عبد العزيز بأمره)
كان عمر قد عظم استبداده على السلطان عبد العزيز فحجره ومنعه من التصرّف في شيء من أمره. ومنع الناس من النهوض له في شيء من أمورهم. وكانت أمّه حذرة عليه إشفاقا وحبّا.
وكان عمر لما ملك أمره واستبدّ عليه، سما إلى الإصهار إليهم في بنت السلطان أبي عنان، واشترط لها زعموا تولية أخيها الأمير ونمي ذلك إلى السلطان، وأن عمر مغتاله لا محالة. وقارن ذلك أنّ عمر أوعز إلى السلطان بالتحوّل عن قصره إلى القصبة، فركب أسنّة الغدر لاضطراره واعتزم على الفتك به، وأكمن بزوايا داره جماعة من الرجال وأعدّهم بالتوثّب به. ثم استدعاه إلى بيته للمؤامرة معه على سنته، فدخل معه وأغلق الموالي من الخصيان باب القصر من ورائه. ثم أغلظ له السلطان بالقول وعتبة. ودلف الرجال إليه من زوايا الدار فتناولوه بالسيوف هبرا. وصرخ ببطانته بحيث أسمعهم فحملوا على الباب وكسروا أغلاقه فألفوه مضرّجا بدمائه، فولّوا الأدبار وانفضّوا من القصر وانذعروا وخرج السلطان إلى مجلسه فاقتعد أريكته واستدعى خاصته. وعقد لعمر بن مسعود بن منديل بن حمامة من بني مرين وشعيب بن ميمون بن وردان من الجشم ويحيى بن ميمون بن المصمود من الموالي، وكملت بيعته منتصف ذي القعدة سنة ثمان وستين وسبعمائة وتقبّض على عليّ بن الوزير عمر وأخيه وعمّه وحاشيتهم، وسرّ بهم واعتقلهم حتى أتى القتل عليهم لليال. واستأصل المكان شأفتهم وسكن وأمن ورد النافرين بأمانه وبسط بشره ثم تقبّض لأيام على سليمان بن داود ومحمد السبيع، وكانا في مخالصة عمر بمكان فاعتقلهما استرابة بهما ولشيء نمى له عنهما. وأودعهما السجن إلى أن هلكا واعتقل معهما علال بن محمد والشريف أبا القاسم ريبة بصحابتهما. ثم امتنّ عليهما بشفاعة ابن الخطيب وزير ابن الأحمر وأقصاه. ثم أطلق عنانه في الاستبداد وقبض أيدي الخاصّة والبطانة عن التصرّف في شيء من سلطانه إلّا بإذنه وعن أمره. وهلك لأشهر من استبداد الوزير شعيب بن ميمون. ثم هلك يحيى بن ميمون على ما نذكره إن شاء الله تعالى
.(7/429)
(الخبر عن انتزاء أبي الفضل بن المولى أبي سالم ثم نهوض السلطان اليه ومهلكه)
لما فتك السلطان عبد العزيز بعمر بن عبد الله المتغلّب عليه، سوّلت لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه مثلها في عامر بن محمد، لمكان استبداده عليه، وأغراه بذلك البطانة. وتوجس لها عامر فتمارض بداره. واستأذنه في الصعود إلى معتصمه بالجبل ليمرّضه هنالك أقاربه وحرمه، وارتحل بجملته. ويئس أبو الفضل من الاستمكان منه وأغراه حشمه بالراحة من عبد المؤمن. ولليال من منصرف عامر ثمل أبو الفضل ذات ليلة، وبعث عن قائد الجند من النصارى، فأمر بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة مراكش فجاء برأسه إليه. وطار الخبر إلى عامر فارتاع وحمد الله إذ خلص من غائلته. وبعث ببيعته الى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغّبه في ملك مراكش. ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إلى مراكش. ونادى في الناس بالعطاء، وقضى أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة واستبدّ أبو الفضل من بعد مهلك عبد المؤمن واستوزر طلحة النوري [1] وجعل علامته لمحمد بن محمد بن منديل الكناني، وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي. ثم أشخص طلحة النوري بسعاية الكناني، فقتله واعتمد منازلة عامر بعساكره. ولما فصل لذلك من مراكش جاءه الخبر بحركة السلطان عبد العزيز إليه، فانفضّ معسكره ولحق بتادلّا ليعتصم بها في معقل بني جابر. وعاج السلطان بعساكره عن مراكش إليها، فنازله وأخذ بمخنقه وقاتله، ففلّ عسكره وداخله بعض بني جابر في الإخلال بمصافه يوم الحرب على مال يعطيه لهم، ففعلوا، وانهزمت عساكر أبي الفضل وجموعه، وتقبّض على أشياعه. وسيق مبارك بن إبراهيم الى السلطان فاعتقله إلى أن قتله مع عامر عند مهلكه كما نذكره.
وفرّ الكناني إلى حيث لم يعلم مسقطه. ثم لحق بعامر بن محمد ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة من ورائهم. وداخلهم أشياع السلطان من بني جابر وبذلوا لهم المال الدثر في إسلامه. فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون، فجاء به أسيرا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: السنوري.(7/430)
وأحضره السلطان فوبّخه وقرّعه واعتقله بفسطاط في جواره، ثم غطّ من الليل.
وكان مهلكه في رمضان من سنة تسع وستين وسبعمائة سنين من إمارته على مراكش، وبعث السلطان إلى عامر يختبر طاعته بذلك فأبى عليه وجاهر بالخلاف إلى أن كان من شأنهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نكبة الوزير يحيى بن ميمون بن مصمود ومقتله)
كان يحيى بن ميمون هذا من رجالات دولتهم وربى في دولة السلطان أبي الحسن، وكان عمّه علال عدوّا له بعداوة أبيه. ولما انتزى السلطان أبو عنان على ملك أبيه، استخلص يحيى هذا سائر أيامه، وهلك عمر يوم مهلكه كما ذكرناه. واستعمل يحيى هذا ببجاية، فلم يزل بها إلى أن تقبّض عليه الموحدون، لما استخلصوا بجاية من يده. وسار إلى تونس واعتقل بها مدّة. ثم صرفوه إلى المغرب أيام عمر، فاختصّ به. ولما عقد له السلطان عبد العزيز على وزارته وكان قوي الشكيمة شديد الحزم صعب العداوة مرهف الحدّ، وكان عمّه علال بعد أن أطلقه السلطان من الاعتقال نكبه عن إذنه [1] وأقامه متصرّفا بين يديه، فألقى إلى السلطان استبداد يحيى عليه وحذّره من شأنه، ورفع إليه أنه يروم تحويل الدعوة لبعض القرابة من آل عبد الحق، وأنه داخل في ذلك قوّاد الجند من النصارى. وأصاب الوزير وجع قعد به عن مجلس السلطان، فاختلف الناس إلى زيارته وعكف ببابه قوّاد النصارى، فاستريب بأمرهم وتيقّن الأمر بعكوفهم، فأرسل السلطان من حشمه من تقبّض عليه وأودعه السجن.
ثم جنب إلى مصرعه من الغد وقتل قعصا بالرماح، وقتل المتّهمون من القرابة وقوّاد الجند، واستلحموا جميعا وصاروا مثلا في الآخرين، والأمر للَّه.
(الخبر عن حركة السلطان الى عامر بن محمد ومنازلته بجبله ثم الظفر به)
لما فرغ السلطان من شأن أبي الفضل عقد على مراكش لعليّ بن محمد بن أجّانا من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مكّنه من اذنه.(7/431)
صنائع دولتهم. وأوعز إليه بالتضييق على عامر والأخذ بمخنقه وإلجائه إلى الطاعة.
وانقلب إلى فاس، واعتزم على الحركة إلى تلمسان. وبينما هو في الاستنفار لذلك إذ جاءه الخبر بأنّ علي بن أجّانا نهض إلى عامر وحاصره أياما. وأن عامرا زحف إليه.
ففضّ معسكره وتقبّض على ابن أجّانا والكثير من العسكر، فاعتقلهم، فقام السلطان في ركائبه وقعد، وأجمع أمره على النهوض إليه بكافة بني مرين وأهل المغرب، فبعث في الحشود وبثّ العطاء، وعسكر بظاهر البلد حتى استوفى الغرض وعقد على وزارته لأبي بكر بن الغازي بن يحيى بن الكاس، لمكان فيه من مخايل الرئاسة والكفاية، وارتفع محله. وارتحل سنة سبعين وسبعمائة فاحتلّ بمراكش، ثم خرج إلى منازلة الجبل ونازلة [1] ، وكان عامر بن محمد قد نصب بعض الأعياص من آل عبد الحق من ولد أبي ثابت بن يعقوب اسمه تاشفين، ولحق به علي بن عمر ويعلان من شيوخ بني ورتاجن كبير بني مرين، وصاحب الشورى فيهم لعهده، فاشتدّ أزره به. وتوافي به كثير من الجند النازعين عن السلطان رهبة من بأسه أو سخطة لحاله، أو رغبة فيما عند عامر فرتبهم [2] . وأمسك الله يده عن العطاء، فلم تنس [3] بقطرة. وطال مثوى السلطان بساحته وعلى حصاره. ورتّب المقاعد للمقاتلة وغاداه للقتال وراوحه. وتغلّب على حصونه شيئا فشيئا إلى أن تعلّق بأعلى جبل تامسكروط، وكان لأبي بكر بن غازي غناء مذكور، ويئس أصحاب عامر وأشياعه من عطائه. وفسد ما بينه وبين علي بن عمر هذا، فدس إلى السلطان يطلب الأمان، وتوثّق لنفسه ثم نزع إليه. وداخله فارس بن عبد العزيز أخي عامر في القيام بدعوة السلطان والخلاف على عمّه، لما كان يوسق به من إرهاف الحدّ وتفضيل ابنه أبي بكر عليه فبلغ خبره إلى السلطان واقتضى له وثيقة من الأمان والعهد بعث به إليه فثار بعمّه. واستدعى القبائل من الجبل فأجابوه واستحث السلطان للزحف إليهم، فزحفت العساكر والجنود واستولت على معتصم الجبل. ولما استيقن عامر أن قد أحيط به أوعز إلى ابنه أن يلحق بالسلطان مموّها بالنزوع، فألقى بنفسه إليه وبذل له
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم خرج إلى منازلته.
[2] وفي نسخة ثانية: قريبهم.
[3] وفي نسخة ثانية: لم يسل.(7/432)
الأمان وألحقه بجملته. وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه ليخلص إلى السوس فردّه الثلج. وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام بردا وثلجا حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض. وسدّ المسالك فاقتحمه عامر وهلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبة.
وعاين الهلكة العاجلة فرجع مخفيا أثره إلى غار أوى إليه مع أدلّاء بذل لهم المال يسلكون به ظهر الجبل إلى الصحراء بالسوس. وأقاموا ينتظرون إمساك الثلج. وأقام وأغرى السلطان بالبحث عنه فدلّهم عليه بعض البربر عثروا عليه فسيق إلى السلطان وأحضره بين يديه ووبّخه فاعتذر ونجع بالطاعة. ورغب في الإقالة واعترف بالذنب، فحمل إلى مضرب بني له بإزاء فسطاط السلطان، واعتقل هنالك. وتقبّض يومئذ على محمد الكناني فاعتقل وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره، فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات والخرق ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد منهم. واستولى السلطان على الجبل ومعاقلة في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من يوم حصاره. وعقد على هنتاتة لفارس بن عبد العزيز بن محمد ابن علي وارتحل إلى فاس واحتل بها آخر رمضان ودخلها في يوم مشهود برز فيه الناس. وحمل عامر وسلطانه تاشفين على جملين وقد أفرغ عليهما الرث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان ذلك عبرة لمن رآه ولما قضى منسك الفطر أحضر عامر فقرعه بذنوبه وأوتي بكتابه بخطه يخاطب فيه أبا حمو ويستنجده على السلطان فشهد عليه وأمر به السلطان فامتحن ولم يزل يجلد حتى انتنّ لحمه، وضرب بالعصيّ حتى ورمت أعضاؤه، وهلك بين يدي الوزعة، وأحضر الكناني ففعل به مثله. وجنّب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن إبراهيم من محبسه بعد الاعتقال، فألحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجوّ للسلطان من المنازعين.
وفرغ لغزو تلمسان كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ارتجاع الجزيرة الخضراء)
قد تقدّم لنا ذكر تغلّب الطاغية ابن الهنشة على الجزيرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وأنه نازل بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وهلك بالطاعون وهو محاصر له عند ما استفحل أمره واشتدّت شوكته. وكفى الله شأنه وولّى أمر الجلالقة بعده ابنه ابن خلدون م 28 ج 7(7/433)
بطرة، وعدا على سائر إخوته. وفرّ أخوه القمط ابن حظية أبيه المسمّاة بلغتهم ألريق (بهمزة) إلى قمط برشلونة فأجاره وأنزله خير نزل. ولحق به من الزعماء المريكس [1] ابن خالته وغيره من اقماطهم [2] وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه فأبي من إخفار جواره. وحدثت بينهما بذلك الفتنة الطويلة افتتح بطرة فيها كثيرا من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه، وحاصر بلنسية قاعدة شرق الأندلس مرارا أرجف عليها بعساكره، وملأ البحر إليها بأساطيله إلى أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيها ملكته، فانتقضوا عليه ودعوا القمط أخاه فزحف إلى قرطبة. وثار على بطرة أهل إشبيلية وتيقّن صاغية النصارى إليه، ففرّ عن ممالكه ولحق بملك الافرنج وراء جليقية وفي الجوف عنها وهو صاحب انكلطرة، واسمه ألفنس غالس.
ووفد عليه صريخا سنة سبع وستين وسبعمائة فجمع قومه وخرج في صريخه إلى أن استولى على ممالكه. ورجع ملك الأفرنج فعاد النصارى إلى شأنهم مع بطرة. وغلب القمط على سائر الممالك فتحيّز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد المسلمين. ونادى صريخا بابن الأحمر فانتهز فيها الفرصة. ودخل بعساكر المسلمين فأثخن في أرض النصرانية، وخرّب معاقلهم ومدنهم مثل أبدة وجيان وغيرهما من أمهات أمصارهم. ثم رجع إلى غرناطة، ولم تزل الفتنة قائمة بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلب عليه القمط وقتله.
وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة. وتشوّف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين. وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك بما كان فيه من انتقاض أبي الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد، فراسل صاحب الأندلس أن يزحف إليه بعساكره على أنّ عليه عطاءهم وإمداده بالمال والأساطيل على أن يكون مثوبة جهاده خالصة له، فأجاب إلى ذلك وبعث إليه أحمال المال. وأوعز إلى أساطيله بسبتة فعمرت وأقلعت من مرسى الجزيرة لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل، واستعدّ الآلات للحصار، فنازلها أياما قلائل. ثم أيقن النصارى بالهلك لبعدهم عن الصريخ ويأسهم عن مدد ملوكهم، وألقوا باليد وسألوا النزول على حكم السلم فأجابهم السلطان إليه، ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها شعائر الإسلام
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المركش.
[2] وفي نسخة ثانية: اقماصهم.(7/434)
ومراسمه، ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته. وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة وولّى ابن الأحمر عليها من قبله. ولم تزل لنظره إلى أن تمحّض النظر عن هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها، فهدمت أعوام ثمانين وسبعمائة وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس. والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن حركة السلطان الى تلمسان واستيلائه عليها وعلى سائر بلادها وفرار أبي حمو عنها)
كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة وتافيلالت وملويّة وصا [1] . وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف مختصين بطاعة بني مرين وفي وطنهم. وكانوا مغلوبين للدولة تحت قهر من سلطانها. ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمّو، وكان الاحلاف بالمغرب، عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد. ولما استقالت الدولة من عثارها تحيّزوا إلى بني عبد الواد وأقطعوهم في أوطانهم. واستقرّوا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم العامل بدرعة إلى أبي حمّو ووزارته له. وفسد ما بين سلطان المغرب وأبي حمّو من جرّاء ذلك. ونهض أبو حمّو سنة ست وستين وسبعمائة إلى المغرب، وعاث في نواحي دبدو ثغر المغرب فنشأت [2] لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن زكراز [3] فكان داعية لعداء صاحب المغرب على الأيام. ولما استبدّ السلطان عبد العزيز وهلك صاحبهم عبد الله بن مسلم، وتردّدت الرسل بين أبي حمّو وبين السلطان عبد العزيز، كان فيما اشترط عليه التجافي عن قبول عرب المعقل عرب وطنه، لما فيه من الاستكثار بهم عليه.
وأبي عليهم أبو حمّو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم. وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهمّ بالنهوض إليه سنة سبعين وسبعمائة وأقصر لما أخذ بحجزته من خلاف عامر. وصاحب الثغر محمد بن زكراز أثناء ذلك يحرّضه على الحركة إلى أبي حمّو ويرغّبه في ملك تلمسان. ولما قضى السلطان حركة مراكش
__________
[1] هي قلعة (زا) وال (ز) تلفظ (صاد) عند البربر، لذلك كتبها ابن خلدون بالصاد.
[2] وفي نسخة ثانية: نشبت.
[3] وفي نسخة ثانية: زكدان.(7/435)
وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس، ولقي [1] بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم، صريخا على أبي حمّو لما نال منهم. وتقبّض على أخيهم محمد ورؤساء بني مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب. ووفد عليه رسل أهل الجزائر ببيعتهم يستحثّون السلطان لاستنقاذهم من لهواته. وأمر السلطان بذلك وليه ونزمار ومحمد بن زكراز صاحب دبدو فزعموا له بالغناء في ذلك واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشدين إلى مراكش للاحتشاد، وتوافي الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأفاض العطاء وأزاح العلل، ولما قضى منسك الأضحى اعترض العساكر ورحل إلى تلمسان، واحتل بتازى. وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمّو، فجمع من إليه من زناتة الشرق وبني عامر من عرب المعقل وزغبة. وتوافت جموعه بساحة تلمسان واضطرب هنالك معسكره واعترض جنوده واعتزم على الزحف للقاء بني مرين ثقة بمكان المعقل. وتحيّز من كان معه من عرب المعقل الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز بمداخلة وليّهم ونزمار. واجتمعوا إليه وسرّح معهم صنائعه فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق الصحراء. وبلغ خبر تحيّزهم وإقبالهم إلى أبي حمّو فأجفل هو وجنوده وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء. ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على منداس، وخرجوا إلى بلاد الديالم. ثم لحقوا بوطن رياح فنزلوا على أولاد سبّاع بن علي بن يحيى.
وارتحل السلطان عبد العزيز من تازي وقدّم بين يديه وزيره أبا بكر بن غازي، فدخل تلمسان وملكها. ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر ابن غازي على العساكر من بني مرين والجنود والعرب من المعقل وسويد، وسرّحه في اتباعه وجعل شوراه إلى وليّه ونزمار وفوّض إليه في ذلك. فارتحلوا من تلمسان آخر المحرّم وكنت وافدا على أبي حمّو، فلما أجفل عن تلمسان ودّعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى الأندلس. ووشى بعض المفسدين إلى السلطان بأني احتملت مالا للأندلس، فبعث جريدة من معسكره للقبض عليّ، ووافوني بوادي الزيتون قبل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وافاه.(7/436)
مدخلي إلى تلمسان فأحضرني وسألني، وتبين كذب الواشي فأطلقني وخلع عليّ وحملني. ولما ارتحل الوزير في اتباع أبي حمّو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فيهم بدعوته وطاعته، وصرفهم عن طاعة أبي حمّو وصريخه، فنهضت لذلك، ولحقت بالوزير بالبطحاء، وارتحلت معه إلى وادي ورك من بلاد العطاف، فودّعته وذهبت لوجهي وجمعت رياح على طاعة السلطان ونكبت بهم عن طاعة أبي حمّو فنكبوا عنها. وخرج أبو زيان من محل نزوله بحصين، فلحق بأولاد محمد ابن علي بن سبّاع من الزواودة. وارتحل أبو حمّو من المسيلة فنزل بالدوسن وتلوّم بها.
وأوفدت من الزواودة على الوزير ونزمار فكانوا أدلّاءهم في النهوض إليه. ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من زناتة وحلل بني عامر، والوزير في التعبية، وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح مخيفة [1] به. فأجهضوه عن ماله ومعسكره، فانتهب بأسره. واكتسحت أموال العرب الذين معه، ونجا بدمائه إلى مصاب.
وتلاحق به ولده وقومه متفرّقين على كل مفازة، وتلوّم الوزير بالدوسن أياما. ووافاه بذلك لحاق بني مرين [2] وانقلب إلى المغرب. ومرّ على قصور بني عامر بالصحراء فاستباحها، وشرّدهم عنها إلى قاصية القفر ومفازة العطش. ولحق بتلمسان في ربيع الثاني.
ووفدت أنا بالزواودة على السلطان ورئيسهم أبو دينار بن علي بن أحمد، فبرّ السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أخيه [3] ، وخلع عليه وحمله وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم. وبعث السلطان عمّاله على الأمصار، وعقد لصنائعه على النواحي، وجهّز الكتائب مع وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة، لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل، كان ربّي في حجر الدولة ونشأ في جوّ نعمتها وسخط حاله لديهم. فنزع إلى وطن سلفه من مغراوة. ونزل بجبل بني بو سعيد فأجاروه وبايعوه على الموت دونه. وسرّح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم، فنزل عليهم وقاتلهم وامتنعوا في رأس شاهقهم، فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف وأحجرهم بمعتصمهم. وتوافت لديه الأمداد من تلمسان، فجهّزها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: محدقة به.
[2] وفي نسخة ثانية: ووافاه هنالك اتحاف ابن مزني.
[3] وفي نسخة ثانية: عند أبيه.(7/437)
كتائب وبوأهم المقاعد للحصار، وأقام هنالك واستولى السلطان على سائر الوطن من الأمصار والأعمال، وعقد عليها واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه.
والله تعالى أعلم.
(الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان الى تيطرا واجلاب العرب بأبي حمو على تلمسان الى أن غلبهم السلطان جميعا على الأمر واستوسق له الملك)
لما خلص أبو حمّو من وقعة الدوسن هو وأحياء بني عامر أشياعه، لحقوا بالصحراء وأبعدوا فيها عن قصورهم قبلة جبل راشد. وجمع الوزير ونزمار بن عريف بأحياء العرب كافة من زغبة والمعقل. وكان السلطان لما احتل بتلمسان طلب العرب منه إطلاق أيديهم على ما أقطعهم أبو حمّو إيّاه من الوطن على الزبون والاعتزاز عليه، فاستنكف من ذلك لعظم سلطانه واستبداد ملكه، فسخطوا أحوالهم ورجوا أن يكون لأبي حمّو ظهور ينالون به من ذلك ما أمّلوه. فلمّا انهزم وقلّت عساكره، وظهر السلطان ظهورا لا كفاء له فيئسوا، أجمع رحّو بن منصور أمير الخراج من عبيد الله إحدى بطون المعقل الخروج على السلطان، ولما خرج العرب إلى مشاتيهم لحق بأبي حمّو وأحياء بني عامر وكاثروهم وقادوهم إلى العيث في الأوطان. فأجلبوا على ممالك السلطان ونازلوا وجدة في رجب من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وصمدت نحوهم العساكر من تلمسان، فأجفلوا وعاجوا إلى البطحاء فاكتسحوا أوطانها.
ونهض إليهم الوزير في العساكر ففرّوا أمامه، واتبع آثارهم إلى أن أصحروا. واستنسر خلال ذلك حمزة بن علي بن راشد، فبيّت معسكر الوزير بمكانه من حصار شلف، ففضّ جموعه ولحق مفلولا بالبطحاء وبلغ الخبر إلى حصين وكانوا راهبين من السلطان، لما اشتهر عنهم من الأجلاب على الدول والقيام بأمر الخوارج، فجأجئوا بأبي زيان الثائر كان عندهم من مكانه بأحياء أولاد يحيى بن عليّ بن سبّاع من الزواودة، فلحق بهم وأجلبوا على ضواحي المدية ونازلوا عسكر السلطان بها.
واضطرم المغرب الأوسط نازلا، واتصل ذلك به مدة. ولمّا كان سنة ثلاث وسبعين(7/438)
وسبعمائة استمال السلطان رحّو بن منصور عن أبي حمّو وبذل له مالا وأقطعه ما أحبّ من الضواحي، وفعل ذلك بسائرهم وملأ صدورهم ترغيبا. واعتزم على تجهيز العساكر معهم لحسم أدواء الفساد وإخراج الثوّار من النواحي. واتهم وزيره عمر بن مسعود بالمداهنة في أمر المغراوي، فسرّح من دولته من تقبّض عليه وأشخصه إلى حضرته مقيّدا. واعتقله بفاس وجهّز عساكره واعترض جنوده، وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على حرب الثوّار والخوارج، فنهض من تلمسان في رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة واعتمد حمزة على ابن راشد في معتصمه بجبل بني بو سعيد، وألح عليه بالقتال فعضتهم الحرب بنابها، وداخلهم الرعب، وأوفدوا مشيختهم على الوزير بالطاعة. ونبذ العهد إلى حمزة فعقد لهم ما ابتغوه. ولحق حمزة بأبي زيان بمكانه من حصين. ثم أثنى عزمه عن ذلك ورجع إلى ضواحي شلف. وبيّته بعض الحامية فثبتوا في مراكزهم وانفضّ جمعه، وتقبّض عليه وسيق إلى الوزير فاعتقله وبعث إلى السلطان في شأنه، فأمر بقتله، فاحتزّ رأسه ورءوس أشياعه وبعث بهم الى السلطان وعلق أشلاءهم بسور مليانة. ثم زحف إلى حصين فأحجرهم بمعقلهم بتيطرا، واجتمعت إليه أحياء زغبة كافة. فأحاط بهم من كل جانب وطاولهم الحصار وعاودوهم الحرب، وخاطبني السلطان بمكاني من الزاب، وأوعز إليّ بنفير رياح كافّة إلى معسكر الوزير فاستنزلهم [1] بأحيائهم وناجعتهم، ونازلنا الجبل من ناحية الصحراء مما يلي ضواحي رياح، فأصابهم الجهد وداخلهم الرعب، وانفضّوا من المعقل وانذعروا في الجهات في المحرم فاتح أربع وسبعين وسبعمائة ولحق أبو زيّان بواركلي، واستولى الوزير على المعقل وانتهب ما فيه، واقتضى رهن حصين على الطاعة وقرّر عليهم الوضائع والمغارم، فأعطوها عن يد. وكان أبو حمّو في خلال ذلك قد أجلب على تلمسان ينتهز الفرصة في انتباذ العسكر عن السلطان. وكان وليّه خالد بن عامر أمير بني عامر من زغبة مريد الطاعة، لما اتهم أبو حمّو به من ولاية رديفه عبد الله بن عسكر بن معروف دونه، فأسخطه ذلك، وداخل السلطان عبد العزيز في الانحراف إليه عن أبي حمّو على مال حمله إليه، فنزع عنه. وجهّز له السلطان عسكر الحرب أبي حمّو في ذي القعدة من سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فاستنفرتهم.(7/439)
بني عامر وأولاد يغمور من المعقل، وعقد عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي وتعرّضوا للقائهم، ففضّ جمعهم ومنحوا أكتافهم وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب فاكتسح ما فيها واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده، فاستاقوهم إلى السلطان وأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره. وتقبّض على مولاه عطيّة بن موسى صاحب شلف، فامتنّ عليه وألحقه بجملته. ونجا ابو حمّو وألقى بنفسه إلى عبد الله بن صغير مستميتا، فامتنّ عليه وبعث معه الأدلّاء إلى تيكورارين من بلاد القبلة، فنزلها وكان ذلك بين يدي فتح تيطرا بليال. واستوت قدم السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط، ودفع الثوّار والخوارج عنه. واستمال كافة العرب إلى طاعته فأتوها راغبين راهبين. ووفد عليه للوزير أبو بكر بن غازي من قاصية الشرق ومعه مشيخة العرب من كل حيّ من أحيائهم فوصلهم واحتفى بقدومهم، وركب للقاء الوزير وطلب المشيخة في الرهن على الطاعة والاستحثاث لتشريد أبي حمّو من تيكورارين، وأوسع حفايتهم وبرّهم وانصرفوا إلى مشاتيهم معتملين في أسباب الحركة إلى تيكورارين إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن قدوم ابن الخطيب على السلطان بتلمسان نازعا اليه عن سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس)
أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الّذي فيه ساحتها المسمّى بالمرج على وادي سنجيل، ويقال شنبيل المنحرف في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلف معروفون في وزارتها. وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام، ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدّب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب. وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيّد منه. وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري فيهما. وامتدح السلطان أبا الحجّاج من ملوك بني الأحمر وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه، فرقّاه السلطان إلى خدمته وأثبته في(7/440)
ديوان الكتّاب ببابه مرءوسا بأبي الحسن بن الحباب [1] شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية. وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه، عند ما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبدّ عليه كما مرّ في أخبارهم. فاستبدّ ابن الحباب برياسة الكتّاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فولّى السلطان أبو الحجّاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه مثنّاة بالوزارة. ولقبه بها فاستقلّ بذلك. وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة. ثم داخله السلطان في تولية العمّال على يديه بالمشارطات، فجمع له بها أموالا. وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد من قبله. وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة مغريا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلّى في أغراض سفارته.
ثم هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه وفاض لوقته، وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء. وبويع ابنه محمد بالأمر لوقته، وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم. واستبدّ بالدولة، وأفراد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه، واتخذ لكتابته غيره، وجعل ابن الخطيب رديفا له في أمره وتشاركا في الاستبداد معا، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة. ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدّين له على عدوّهم الطاغية على عادتهم مع سلفه. فلمّا قدم على السلطان ومثل بين يديه، تقدّم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها استأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدّمه بين يدي نجواه، فأذن له، وأنشد وهو قائم:
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر
ودافعت عنك كفّ قدرته ... ما ليس يستطيع دفعه البشر
وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفّك المطر
والناس طرّا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الجياب.(7/441)
وجملة الأمر أنّه وطن ... في غير علياك ما له وطر
ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا
وقد أهمّتهم نفوسهم ... فوجّهوني إليك وانتظروا.
فاهتزّ السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس. وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم إلّا بجميع عطائهم [1] . ثم أثقل كاهلهم بالإحسان، وردّهم بجميع ما طلبوه.
وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد: لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلّم على السلطان إلّا هذا. ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين. ثم نازلهم [2] محمد الرئيس ابن عمّ السلطان يشاركه في جدّه الرئيس أبي سعيد. وتحيّن خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء. وتسوّر دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوانا في بيته، فقتله. وذهب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج، لما كان صهره على شقيقته. وكان معتقلا بالحمراء، فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدّا عليه. وأحسّ السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب باديا إلى وادي آش وضبطها. وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب. وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس. واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيّق عليه في محبسه. وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودّة استحكمت أيام مقامه بالأندلس كما مرّ. وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم، فزيّن له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس، ويكفّ به عادية القرابة المرشّحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب، فقبل ذلك منه. وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه. وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب. وحل معتقله. فأطلق، وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش، وسار في ركاب السلطان. وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتزّ لقدوم ابن الأحمر، وركب في المواكب لتلقّيه، وأجلسه إزاء كرسيّه، وأنشد ابن الخطيب قصيدته كما مرّ يستصرخ السلطان لنصره، فوعده وقد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: طلباتهم.
[2] وفي نسخة ثانية: ثم ثار بهم.(7/442)
كان يوما مشهودا وقد مرّ ذكره. ثم أكرم مثواه وأرغد نزله، ووفّر أرزاق القادمين في ركابه وانتصر به. وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والأقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التحوّل إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها، فأذن له وكتب إلى العمّال باتحافه، فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظّ وعند ما مرّ بسلا في قفوله من سفره، دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على رويّ الراء الموصولة يريثه ويستثير به استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها:
إن بان منزله وشطّت داره ... قامت مقام عيانه أخباره
قسّم زمانك عبرة أو غيرة [1] ... هذا ثراه وهذه آثاره
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة، فشفعوه. واستقرّ هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة. ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة كما مرّ في أخباره. وبعث عن مخلّفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره. فسرّ السلطان بمقدمه وردّه إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله.
وكان عثمان بن يحيى عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية في ركاب أبيه عند ما أحسّ بالشرّ من الرئيس صاحب غرناطة. وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك، وتغلب في مذاهب خدمته. وانحرفوا عن الطاغية بعد ما يئسوا من الفتح على يديه، فتحوّلوا عنه إلى ثغور بلاده. وخاطبوا عمر بن عبد الله في أن يمكّنهم من بعض الثغور الغربية التي أطاعتهم بالأندلس، يرتقبون منها الفتح. وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك، وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمّة مرعيّة ومخالصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله. وحملته على أن يردّ عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه، فقبل إشارتي في ذلك. وتسوّرها السلطان المخلوع، ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته. وهو مقدّم في بطانته.
ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركابا للفتح. وملكها السلطان واستولى بعدها على دار
__________
[1] وفي نسخة ثانية: غيرة أو عبرة.(7/443)
ملكها بغرناطة، وعثمان بن يحيى مقدّم القوم في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه. فلما فصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده السلطان إلى مكانه من الدولة من علوّ يده وقبول إشارته، فأدركته الغيرة من عثمان، ونكر على السلطان الاستكفاء به، والتخوّف من هؤلاء الأعياص على ملكه، فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق. ثم غرّبهم بعد ذلك، وخلا لابن الخطيب الجوّ وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير المملكة، وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصّة والكافّة. وغصّت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه [1] وقد صمّ السلطان عن قبولها. ونمي الخبر بذلك الى ابن الخطيب، فشمّر عن ساعده في التقويض عنهم. واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في التقبّض على ابن عمّه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. كانوا قد نصّبوه شيخا على الغزاة في الأندلس لما أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين، فاضطرّ إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي ونزلوا على السلطان على المخلوع أعوام سبع وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم، وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة، فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان السلطان عبد العزيز قد استبدّ بملكه بعد قتله الوزير عمر بن عبد الله، فغصّ بما فعله السلطان المخلوع من ذلك. وتوقّع انتقاض أمره منهم. ووقف على مخاطبات ابن عبد الرحمن يسرّ بها في بني مرين، فجزع لذلك. وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي واراحة نفسه من شغبهم، على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه، على يد سفيره إلى الأندلس، وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين. بني مرين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماسي فتقبّض عليهما. واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية. وربّما خيّل أنّ السلطان مال إلى قبولها وأنّهم قد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتفننوا في السعايات فيه.(7/444)
أحفظوه عليه، فأجمع التحوّل عن الأندلس إلى المغرب. واستأذن السلطان في تفقّد الثغور الغربيّة. وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ الّذي كان خالصة السلطان وذهب لطبنه. فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة، مال إليه وسرّح إذنه بين يديه، فخرج قائد الخيل لتلقّيه. وقد كان السلطان عبد العزيز قد أوعز إليه بذلك، وجهّز إليه الأسطول من حينه، فأجاز إلى سبتة وتلقّاه بها بأنواع التكرمة وامتثال الأوامر [1] . ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامته من تلمسان، فاهتزّت له الدولة. وأركب السلطان خاصّته لتلقّيه، وأحلّه بمجلسه بمحل الأمن والغبطة، ومن دولته بمكان الشرف [2] والعزّة. وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل الحالات من الأمن والتكرمة. ثم لغط المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع عثراته، وأبدى ما كان كامنا في نفسه من سقطات دالته وإحصاء عصابته [3] . وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه. ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن، فاسترعاها [4] وسجّل عليه بالزندقة. وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه. وبعث القاضي أبو الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات، وإمضاء حكم الله فيه، فصمّ لذلك وأنف لذمّته أن تخفر ولجواره أن يردى [5] وقال لهم: هلا انتقمتم وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه؟ وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفرّ الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته. فلمّا هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان، سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنّق في بناء المساكن واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى. واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المراسيم.
[2] وفي نسخة ثانية: النبوّة.
[3] وفي نسخة ثانية: مغائبه.
[4] وفي نسخة ثانية: فاسترداها.
[5] وفي نسخة ثانية: أن يرد.(7/445)
الخبر عن مهلك السلطان عبد العزيز وبيعة ابنه السعيد واستبداد أبي بكر بن غازي عليه ورجوع بني مرين إلى المغرب
كان السلطان منذ أوّل نشأته قد أزمنت به الحمى بما أصابه من مرض النحول، ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو سالم على احتماله مع الأبناء إلى رندة. ولما شبّ أفاق من مرضه وصلح بدنه. ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله. ولما كمل الفتح واستفحل سلطانه واشتدّ به الوجع وصابر المرض وكتمه عن الناس خشية الإرجاف، واضطرب معسكره خارج تلمسان للحاق بالمغرب، ولما كان ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة قضى متودّعا بين أهله وولده ودسّ الخدم بالخبر إلى الوزير، فخرج على الناس وقد احتمل محمد السعيد ابن السلطان على كنفه فعزّى الناس عن خليفتهم لسبع سنين من خلافته، وألقى ابنه بين أيديهم فازدحموا عليه باكين متفجّعين، يعطونه الصفقة ويقبّلون يديه للبيعة، وأخرجوه للمعسكر. ثم أخرج الوزير شلو السلطان على أعواده وأنزله بفساطيطه، وأيقظ بالليل بحراسة المعسكر. وأذن للناس بالرحيل، فخرجوا أفواجا إلى المحلّة.
ثم ارتحلوا لثلاث، وأغذّوا السير إلى المغرب واحتلوا بتازى ثم أغذّوا السير إلى فاس، واحتلّ ابن السلطان بدار ملكه وجلس للبيعة العامّة بقصره. وتوافت وفود الأمصار ببيعتهم على العادة. واستبدّ عليه الوزير أبو بكر بن غازي، وحجبه بقصره وحجره عن التصرّف في شيء من سلطانه، ولم يكن في سنّ التصرّف، واستعمل على الجهات وجلس بمجلس الفضل، واشتغل بأمر المغرب إبراما ونقضا إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى
(الخبر عن استيلاء أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط)
لما فصل بنو مرين من تلمسان إثر مهلك السلطان عبد العزيز واحتلوا بتازي اجتمع المشيخة وعقدوا على تلمسان لإبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين كان ربّي في كفالة(7/446)
دولتهم منذ مهلك أبيه، فآثروه بذلك لخلوصته. وبعثوه مع رحّو بن منصور أمير عبيد الله من المعقل، وسرّحوا معهما من كان بالمغرب من مغراوة إلى وطن ملكهم بشلف. وعقدوا عليهم لعليّ بن هارون بن منديل بن عبد الرحمن وأخيه رحمون وانصرفوا إلى بلادهم. وكان عطية بن موسى مولى أبي حمّو قد صار إلى السلطان عبد العزيز وألحقه بجملته وبطانته، فلمّا هلك السلطان خرج من القصر واختفى بالبلد حتى إذا فصل بنو مرين من معسكرهم ظاهر البلد، خرج من مكان اختفائه، وقام بدعوة مولاه أبي حمّو، واجتمع إليه شيعة من أهل البلد مع من تأشّب إليه من الغوغاء، وحملوا الخاصة على البيعة لأبي حمّو، ووصلهم إبراهيم بن أبي تاشفين مع رحّو بن منصور وقومه من عبيد الله، فنبذوه وامتنعوا عليه، فرجع عنهم إلى المغرب، وطيّر أولاد يعمور أولياء أبي حمو من عبيد الله بالخبر إليه وهو بمثواه من تيكورارين. واتصل بابنه أبي تاشفين وهو عند يحيى بن عامر [1] فدخل إلى تلمسان ومن معه من بني عبد الواد، وتساقط إليه فلّهم من كل جانب، ووصل السلطان على أثرهم بعد اليأس منه، فدخلها في جمادى من سنة أربع وسبعين وسبعمائة واستقل بملكه، وتقبّض على بطانته الذين آسفوه في اغترابه، ونمي له عنهم السعي عليه، فقتلهم، ورجع ملك بني عبد الواد وسلطانهم، ونهض إلى مغراوة أولياء بني مرين بمكانهم من شلف، فغلبهم عليه بعد مطاولة وحروب سجال هلك فيها رحمون بن هارون، ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره، واستقلّ بالأمر حسبما ذكرناه في أخباره. واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهمّ بالنهوض إليه. ثم ثنى عزمه ما كان من خروج الأمير عبد الرحمن بناحية بطوية فشغله شأنه عن ذلك.
الخبر عن إجازة الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن الى المغرب واجتماع بطوية إليه وقيامهم بشأنه
كان محمد المخلوع ابن الأحمر قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وهو بحي بني عامر.(7/447)
ثلاث وستين وسبعمائة وقتل له الطاغية عدوّه الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع، واستوى على كرسيّه واستقلّ بملكه، ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب واستخلصه وعقد له على وزارته، وفوّض إليه في القيام بملكه فاستولى عليه وملك هواه. وكانت عينه ممتدّة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته، فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه، وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلّهم غيرة على ولد عمّهم السلطان أبي عليّ ويخشونهم على أمرهم. ولمّا لحق الأمير عبد الرحمن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه، ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته، وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة والمجاهدين من زناتة مكان بني عمّه من الأعياص، فكانت له آثار في الاضطلاع بها، ولما استبدّ السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه، وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه، فدسّ إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره المطارد به مسعود بن ماسي، وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز سلطان المغرب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدّم من الوسائل ومهّد من السوابق فقدمه السلطان وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء والقرب. وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده، فبعثهم إليه واستقرّ في جملة السلطان. ثم تأكدت العداوة بينه وبين ابن الأحمر فرغب السلطان في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند مرجعه من تلمسان إلى المغرب. ونمي ذلك إلى ابن الأحمر فبعث إلى السلطان بهديّة لم يسمع بمثلها، انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه، وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه، فأبى السلطان من ذلك ونكره، ولمّا هلك واستبدّ الوزير ابن غازي بالأمر تحيّز إليه، ابن الخطيب وداخله وخاطبه ابن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان، فلم يؤب [1] واستنكف ذلك وأقبح الردّ، وانصرف رسله إليه، وقد رهب سطوته، فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماسي ونهض إلى جبل الفتح فنازله بعساكره
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فلجّ.(7/448)
ونزل عبد الرحمن ببطوية في ذي القعدة من سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ومعه وزيره مسعود بن ماسي، فاجتمع قبائل بطوية إليه وبايعوه على القيام بدعوته والموت دونه، واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فعقد لابن عمه محمد بن عثمان على سبتة وبعثه لسدّ ثغورها لما خشي عليها من ابن الأحمر، ونهض من فاس بالآلة والعساكر ونازل عبد الرحمن ببطوية، فقاتله أياما ثم رجع إلى تازى ثم إلى فاس، ودخل الأمير عبد الرحمن تازي واستولى عليها، ودخل الوزير إلى فاس وقعد بمجلس الفصل، وهو مجمع العودة إلى تازي لتشريد عدوّه إلى أن جاء الخبر ببيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم واستقلاله بالملك وما كان خلال ذلك من الأحداث
لما نزل محمد بن عثمان بالثغر من سبتة لسدّ فروجها، ومدافعة ما يخشى من عادية ابن الأحمر عليها، وكان قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقه، وتكرّرت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان بالعتاب، فاستعتب له وقبّح ما جاء به ابن عمّه من الاستغلاظ له، فوجد ابن الأحمر بذلك السبيل إلى غرضه، وداخله في البيعة للسلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الرقبة والحوطة، وأن يقيمه للمسلمين سلطانا يحوط سياجهم [1] ويدافع عنهم ولا يتركهم فوضى وهملا.
ويجب [2] بيعة الصبيّ الّذي لم تنعقد بيعته شرعا، واختصّ هذا بالسلطان من بين أولئك الأبناء وفاء بحقوق أبيه، ووعده بالمظاهرة على ذلك، واشترط عليه أن ينزلوا له عن الجبل إذا انعقد أمرهم، ويشخصوا إليه بيعة الأبناء والقرابة من طنجة ليكونوا في إيالته وتحت حوطته، وأن يبعثوا إليه ابن الخطيب متى قدروا عليه، ويبعثوا إليه بقية الأبناء والقرابة فقبل محمد بن عثمان شرطه كان سفيره في ذلك أحمد المرغني [3] من طبقات كتّاب الأشغال بسبتة، كان السلطان أبو الحسن تزوّج أمّه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يجول بسياجهم.
[2] جبّه: قطعه، وهنا تعني يمنع.
[3] وفي نسخة ثانية: الرعينيّ.
ابن خلدون م 29 ج 7(7/449)
ليلة إجازته من واقعة طريف وافتقاد حظاياه، حتى لحق به الحرم من فاس، فردّها إلى أهلها ونشأ المرغني في توهّم هذه الكفالة، فانتفخ نحره لذلك ويحسبها وصلة إلى أبناء السلطان أبي الحسن، وكان سفيرا بين محمد بن عثمان وابن الأحمر، فأمّل الرئاسة في هذه الدولة، وركب محمد بن عثمان من سبتة إلى طنجة، وقصد مكان اعتقالهم. واستدعى أبا العبّاس أحمد ابن السلطان أبي سالم من مكانه مع الأبناء فبايع له، وحمل الناس على طاعته، واستقدم أهل سبتة بكتاب للبيعة، فقدموا وخاطب أهل الجبل فبايعوا، وأفرج ابن الأحمر عنهم. وبعث إليه محمد بن عثمان بالنزول عن جبل الفتح، وخاطبوا أهله بالرجوع إلى طاعته، فارتحل من مالقة إليه ودخله واستولى عليه، ومحا دعوة بني مرين مما وراء البحر، وأهدى للسلطان أبي العبّاس وأمدّه بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالا للإعانة على أمره.
وكان محمد بن عثمان عند فصوله من فاس، وودّعه الوزير ابن عمّه فاوضه في شأن السلطان، وأن يقدّم للناس إماما يرجعون إليه ويترك له أمرهم، وآمره في ذلك، ولم يفترقا على مبرم من أمرهم. فلمّا ارتكب هذا المرتكب وجاء بهذا الأمر، خاطب الوزير يمّوه عليه بأنه فعل بمقتضى المؤامرة، وأنّه عن إذنه والله أعلم بما دار بينهما، ولجّ الوزير في تكذيبه والبراءة للناس مما رمى به ولاطفه في نقض ذلك الأمر، وردّ أبا العباس إلى مكانه مع الأبناء تحت الحوطة، وأبى محمد بن عثمان من ذلك ودافعه باجتماع الناس عليه وانعقاد الأمر. وبينما الوزير يروم ذلك جاءه الخبر بأنّ محمد بن عثمان أشخص الأبناء المعتقلين كلّهم إلى الأندلس، وأنهم حصلوا في كفالة ابن الأحمر، فوجم وأعرض عن ابن عمّه وسلطانه، ونهض إلى تازى ليفرغ من عدوّه إليهم، فنازل الأمير عبد الرحمن وأخذ بمخنقه، واهتبل محمد بن عثمان الغرّة في ملك المغرب، فوصله مدد السلطان ابن الأحمر وعسكره تحت رايته، عقدها عليهم ليوسف بن سليمان بن عثمان بن أبي العلاء من مشيخة الغزاة المجاهدين، وعسكر آخر من رجل الأندلس الناشبة يناهزون سبعمائة. وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمّه السلطان أبي العبّاس أحمد، ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها، وعقد بينهما الاتفاق والمواصلة وأن يختصّ عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا، وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس خالفوا إليه(7/450)
الوزير وانتهوا إلى قصر ابن عبد الحليم [1] ، وبلغ الخبر إلى الوزير بمكانه من حصار تازى فانفضّ معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس.
وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون، فصمد إليه الوزير بعساكره، وصمّم نحوه بمكانه من قنّة الجبل، فاختل مصافه وانهزمت ساقة العسكر من ورائه، ورجع على عقبه مفلولا وانتهب المعسكر ودخل إلى البلد الجديد. وجأجأ بالعرب أولاد حسين أن يعسكروا له بالزيتون ظاهر فاس، ويخرج بجموعه إلى حللهم، فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازى بمن كان معه من العرب الأحلاف وشرّدهم إلى الصحراء، وشارف السلطان أبا العبّاس أحمد بجموعه العرب وزناتة، وبعثوا إلى وليّ سلفهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصر مرادة الّذي اختطّه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم، فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق فاجتمعوا بوادي النجا. وحضر لعقدهم واتفاقهم وحلفهم على اتصال اليد على عدوّهم ومنازلته بالبلد الجديد حتى يمكن الله منه وارتحلوا بجمعهم إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وسبعمائة وبرز إليهم الوزير بعساكره فدارت الحرب وحمى الوطيس واشتدّ القتال مليا. ثم زحف إليه العسكران بساقتهما وآلتهما فاختلّ مصافه وانهزمت جيوشه وجموعه وأحيط به، وخلص إلى البلد الجديد بعد غصّ الريق. وأضرب السلطان أبو العبّاس معسكره بكدية العرائس، ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائه، وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاف.
ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الناشبة، واحتكموا في ضياع ابن الخطيب بفاس، فهدموها وعاثوا فيها. ولمّا كان فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة داخل محمد بن عثمان ابن عمه أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان، لما كان الحصار قد اشتدّ ويئس من الصريخ، وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له في أعمال مراكش، وأن يديلوه بها من سجلماسة فعقدوا له على كره، وطووا على المكر. وخرج الوزير أبو بكر للسلطان أبي العبّاس أحمد، وبايعه واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة فبذله. ودخل السلطان أبو
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عبد الكريم.(7/451)
العباس أحمد إلى البلد الجديد سابع المحرم. وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها، وارتحل معه علي بن عمر بن ويغلان شيخ بني مرين والوزير ابن ماسي، ثم نزع عنه ابن ماسي إلى فاس لعهد كان قد اقتضاه من السلطان أبي العبّاس، وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقرّ بها في إيالة ابن الأحمر، واستقلّ السلطان أبو العبّاس ابن السلطان أبي سالم بملك المغرب ووزيره محمد بن عثمان، وفوض إليه شئونه وغلب على هواه. وصار أمر الشورى إلى سليمان بن داود، كان نزع إليه من البلد الجديد من جملة أبي بكر بن غازي بعد أن كان أطلقه من محبسه، واستخلصه. وجعل إليه مرجع أمره فتركه أحوج ما كان إليه، ولحق بالسلطان أبي العباس بمكانه من حصار البلد الجديد. فلمّا استوسق ملكه ألقى الوزير محمد بن عثمان مقاد الدولة له، وصار إليه أمر الشورى ورياسة المشيخة. واستحكمت المودّة بينه وبين ابن الأحمر وتأكّدت المداخلة. وجعلوا إليه المرجع في نقضهم وإبرامهم لمكان الأبناء المرشحين من إيالته. ولمّا ارتحل الأمير عبد الرحمن إلى مراكش نبذوا إليه العهد وتعللوا عليه بأنّ العقد الأوّل له، إنّما كان على ملك سلفه ومراكش إنما ألجأهم إلى العقد عليها إلجاء، واعتزموا على النهوض إليه ثم أقصروا وانعقدت بينهما السلم سنة ست وسبعين وسبعمائة وجعلوا التخم بينهما أزمور وعقدوا على ثغرها لحسّان الصبيحي فلم يزل عليها إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مقتل ابن الخطيب)
ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين وسبعمائة واستقلّ بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه، وسليمان بن داود رديف له، وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عند ما بويع بطنجة على نكبة ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز لملك الأندلس. فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقي الوزير أبا بكر بن غازي بساحة البلد الجديد، فهزمه السلطان ولاذ منه بالحصار، آوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه، فلما استولى السلطان على البلد الجديد أقام أياما، ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه فقبضوا عليه وأودعوه السجن، وطيّروا بالخبر إلى(7/452)
السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد تابع السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس، حتى أعاده الله إلى ملكه. فلما استقرّ له سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من السلطان. فصدّه ابن الخطيب عن ذلك بأنّ تلك الرئاسة إنّما هي لأعياص الملك من آل عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة. فرجع سليمان آيسا [1] وحقد ذلك لابن الخطيب. ثم جاور الأندلس بمحل إمارته من جبل الفتح، فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات ينفّس كل منهما لصاحبه بما يحفظه لما كمن في صدورهما. وحين بلغ الخبر بالقبض على ابن الخطيب إلى السلطان بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب، وهو أبو عبد الله بن زمرك، فقدم على السلطان أبي العبّاس وأحضر ابن الخطيب بالشورى في مجلس الخاصّة وأهل الشورى، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه، فعظم عليه النكرير فيها، فوبّخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملاثم تل إلى محبسه. واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجّلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه ودسّ سليمان بن داود إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاءوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر، وقتلوه خنقا في محبسه، وأخرجوا شلوه من الغد فدفن في مقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على شأفة قبّره طريحا وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نارا، فاحترق شعره واسودّ بشره، وأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان واعتدّوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لما يريد وكان عفى الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت، فيتجيش هو أتقه بالشعر يبكي نفسه (ومما قال في ذلك) :
بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ [2] ونحن صموت
وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلات تلاه القنوت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يائسا.
[2] وفي نسخة ثانية: لوعد.(7/453)
وكنّا عظاما فصرنا عظاما ... وكنّا نقوت فها نحن قوت
وكنّا شموس سماء العلا ... عزين فناحت عليها البيوت [1]
فكم جزلت ذا الحسام الظبا ... وذو البحث كم جدّلته التحوت [2]
وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات ومن ذا الّذي لا يفوت
فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت
(الخبر عن اجازة سليمان بن داود الأندلس ومقامه إلى أن هلك بها)
كان سليمان بن داود هذا منذ عضّته الخطوب واختلفت عليه النكبات [3] يروم الفرار بنفسه إلى الأندلس للمقامة مع غزاة المجاهدين من قومه. ولما استقرّ السلطان ابن الأحمر بفاس عند خلعه ووفادته على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة وداخله سليمان بن داود في تأميل الكون عنده، فعاهده على ذلك وأن يقدّمه على الغزاة المجاهدين من قومه. ولما عاد إلى ملكه وفد عليه سليمان بن داود بغرناطة في سبيل السفارة عن عمر بن عبد الله سنة ست وستين وسبعمائة وأن يؤكد عقده من السلطان، فحال دون ذلك ابن الخطيب ومارى [4] السلطان عن ذلك بأنّ شياخة الغزاة مخصوصة بأعياص الملك من بني عبد الحق لمكان عصابتهم بالأندلس، فأخفق أمل سليمان حينئذ وحقدها على ابن الخطيب ورجع إلى مرسلة، ثم كانت نكبته أيام السلطان عبد العزيز فلم يخلص منها إلا بعد مهلكه، أطلقه أبو بكر بن غازي المستبدّ بالأمر من بعده، ليعتضد بمكانه على شأنه. فلما استبدّ الحصار على ابن غازي خرج عنه سليمان ولحق بالسلطان أبي العباس ابن المولى أبي سالم بمكانه من ظاهر البلد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زغر بن فباحت علينا السموت.
[2] وفي نسخة ثانية:
فكم جدلس ذا الحسام الظبا وذو البخت لم خذلته البخوت
[3] وفي نسخة ثانية: النكايات.
[4] وفي نسخة أخرى: وثنى رأي السلطان.(7/454)
الجديد، فكان ذلك من أسباب الفتح، ولما دخل السلطان إلى دار ملكه من البلد الجديد فاتح سنة ست وستين وسبعمائة واستوسق أمره، رفع مجلس سليمان وأحلّه محل الشورى، واعتضد به وزيره محمد بن عثمان واستخلصه كما ذكرناه. وكان يرجع إلى رأيه وهو في خلال ذلك يحاول اللحاق بالأندلس، فكان من أوّل عمله التقرّب إلى السلطان ابن الأحمر بإغراء الوزير محمد بن عثمان بقتل ابن الوزير مسنويه [1] ، فتمّ ذلك لأوّل الدولة. وجرت الأمور بعدها على الاعتمال في مرضاته إلى أن حاول السفارة إليه في أغراض سلطانه، سنة ثمان وستين وسبعمائة في صحابة ونزمار بن عريف، فتلقّاهما السلطان ابن الأحمر بما يتلقى به أمثالهما وأغرب في تكرمتهما. وأما ونزمار فانقلب راجعا لأوّل تأدية الرسالة، يتقضى من السلطان حظّه لقواد أسطوله بتسهيل الإجازة إليه متى رامها. وخرج يتصيّد فلحق بمرسى مالقة ودفع أمر السلطان بخطه، إلى قائد الأسطول، فأجازه إلى سبتة ولحق بمكانه. وأمّا سليمان فاعتزم على المقام عند ابن الأحمر وأقام هنالك خالصة ونجيا ومشاورا، الى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة.
الخبر عن شأن الوزير أبي بكر بن غازي وما كان من تغريبه الى مايرقة ثم رجوعه وانتقاضه بعد ذلك
لما اشتدّ الحصار بالوزير أبي بكر بن غازي وفنيت أمواله وأموال السلطان، وظنّ أنه أحيط به، داخله الوزير محمد بن عثمان من مكانهم بحصاره في النزول عن البلد على الأمان والإبقاء فأجاب وخرج إلى السلطان أبي العبّاس بن أبي سالم، فعقد له أمانا بخطّه، وتحوّل إلى داره بفاس وأسلم سلطانه المنصوب للأمر، فتسلّمه منه الوزير محمد بن عثمان، واشتدّ في الاحتياط عليه إلى أن بعثه إلى السلطان ابن الأحمر، فكان في جملة الأبناء عنده، ودخل السلطان أبو العباس إلى دار ملكه واقتعد سريره ونفذت في الممالك أوامره. وأقام أبو بكر بن غازي على حاله بداره والخاصّة يباكرونه والنفوس منطوية على تأميله، فغصّ به أهل الدولة وتردّدت فيه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بقتل ابن الخطيب مشنوئه.(7/455)
السعاية، وتقبّض عليه السلطان وأشخصه إلى غسّاسة، وركب منها السفين إلى ميورقة آخر ست وسبعين وسبعمائة فأقام بها شهرا ومخاطباته مترددة إلى الوزير محمد بن عثمان. ثم عطفته عليه رحم، فأذن له في القدوم، إلى المغرب والمقامة بغسّاسة فقدمها أوائل سنة سبع وسبعين وسبعمائة واستبدّ بإمارتها. وبدا له رأي في تأميل الوثبة [1] وظهر ما كان يخفيه لابن عمّه من المنافسة، فخاطب ابن الأحمر وراء البحر ولاطفه بالتحف والهدايا، فكتب إلى ابن عمّه محمد بن عثمان يحضّه على إعادته إلى مكانه دفعا لغوائله، فأبى من ذلك، وداخله ونزمار بن عريف في بعضها كذلك، فلح في الامتناع وحمل سلطانه على نبذ العهد لأبي بكر بن غازي، فتنكّر له وأجمع المسير إليه بعساكر العرب، فخرج من فاس سنة تسع وسبعين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى أبي بكر بن غازي فاستجاش بالعرب وأحثّهم للوصول، فوصل إليه الأحلاف من المعقل، وسرّب فيهم أمواله، وخرج من غسّاسة فألقى بينهم نفسه، وعمد إلى بعض العرب الطارئين فنصّبه للأمر مشبّها ببعض أبناء السلطان أبي الحسن. وزحف إليه السلطان حتى نزل بتازى، فأجفلت أحياء العرب أمام العساكر من بني مرين والجند، ونجا ابن غازي معهم بدمائه. ثم داخله ونزمار بن عريف في الإذعان للسلطان عن شق الخلاف، فأجاب ووصل به إلى سدّة الملك، فبعث به السلطان محتاطا عليه إلى فاس فاعتقل بها. ونزلت مقدّمات العساكر بوادي ملويّة، وداخل صاحب تلمسان منها رعب، فأوفد على السلطان من قومه وكبار مجلسه ملاطفا مداريا، فتقبّل منه وعقد السلم، وأصدر به كتابه وعهده بخطّه، وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن بثّ العمّال في تلك النواحي على جبايتها، فجمعوا له منها ما رضي. ولما احتلّ بدار ملكه، أنفذ أمره بقتل أبي بكر بن غازي فقتل بمحبسه طعنا بالرماح [2] وذهب مثلا في الأيام، واستوسق للسلطان أمره. وأحكم العقد مع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن صاحب مراكش، وتردّدت المهاداة بينهما بعض إلى بعض، وإلى صاحب الأندلس وإليه منهما فامتلأت المغرب هدنة وأمنا، وانبعثت الآمال بساطا وغبطة والحال متصلة على ذلك لهذا العهد آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة أيام إشرافنا على هذا التأليف، والله مقدر الليل والنهار.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الرتبة.
[2] وفي نسخة ثانية: طعنا بالخناجر.(7/456)
الخبر عن انتقاض الصلح بين الأمير عبد الرحمن صاحب مراكش والسلطان أبي العبّاس صاحب فاس واستيلاء عبد الرحمن على أزمور ومقتل عاملها حسون بن على
كان علي بن عمر كبير بني ورتاجن وشيخ بني ويغلان منهم، قد تحيّز إلى الأمير عبد الرحمن منذ إجازته إلى الأندلس واستيلائه على تازى ثم زحفه إلى حصار البلد الجديد مع السلطان أبي العباس كما مرّ. فوصل في جملته إلى مراكش، وكان صاحب شواره وكبير دولته. وكان يظعن على خالد بن إبراهيم الهربرحى شيخ جاجة [1] من قبائل المصامدة ما بين مراكش وبلاد السوس، وقد كان علي بن عمر انتقض على ابن غازي الوزير المستبدّ بعد السلطان عبد العزيز، ولحق بالسوس. ومرّ بخالد بن إبراهيم هذا فاعترضه في طريقه وأخذ الكثير من أثقاله ورواحله. وخلص هو إلى منجاته بالسوس، وقد حقد ذلك لخالد. ثم حثّ [2] شيوخ المعقل عند ما أجاز الأمير عبد الرحمن من الأندلس إلى نواحي تازى يروم اللحاق بهم، فوفدوا عليه.
وسار معهم إلى أحيائهم وأقام معهم وهو في طاعة الأمير عبد الرحمن ودعوته إلى أن اتصل به بين يدي حصاره البلد الجديد مع السلطان أبي العباس. فلمّا فتح السلطان البلد الجديد أوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة واستولى على ملكهم بها، وفصل عبد الرحمن إلى مراكش كما كان الوفاق بينهم، وسار علي بن عمر في جملة السلطان عبد الرحمن إلى مراكش، واستأذنه في قتل خالد صاحبه، فلم يأذن له، فأحفظه ذلك وطوى عليه، وبعد أيام صعد جبل وريكة في غرض من أغراض الدولة، وتقدّم إلى حافده عامر ابن ابنه محمد بقتل خالد، فقتله بظاهر مراكش، ولحق بجدّه عليّ بن عمر بوريكة، فتلطّف له الأمير عبد الرحمن وراسله بالملاينة والاستعطاف. ثم ركب إليه بنفسه واستصلحه ونزل به إلى مراكش فأقام معه أياما. ثم ارتاب ولحق بأزمور وعاملها يومئذ حسّون بن علي الصبيحي فأغراه بالإجلاب على عمل مراكش، وزحفوا جميعا إلى عمل صنهاجة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المبرازي شيخ حاحة. وفي نسخة أخرى المبرازي.
[2] وفي نسخة ثانية: ثم بعث.(7/457)
وسرّح الأمير عبد الرحمن لمدافعتهم كبير دولته يومئذ وابن عمّه عبد الكريم بن عيسى ابن سليمان بن منصور بن أبي مالك، وهو عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، فخرج في العساكر ومعه منصور مولى الأمير عبد الرحمن، فلقوا عليّ بن عمر فهزموه وأخذوا سواده، ولجأ إلى أزمور. ثم وفد هو وحسّون بن علي إلى السلطان بفاس.
ووقعت أثناء ذلك المراسلة بين السلطانين، وانعقد بينهما الصلح. فأقام علي بن عمر بفاس ورجع حسّون بن علي إلى مكان عمله بأزمور، ثم انتقض ما بين السلطانين ثانيا. وكان عند الأمير عبد الرحمن أخوان من ولد محمد بن يعقوب بن حسّان الصبيحي وهما علي وأحمد، جرثومتا بغي وفساد، وعدا على كبيرهما علي بن يعقوب ابن علي بن حسّان فقتله، واستعدى أخوه موسى عليه السلطان فأعداه. وأذن له في أن يثأر منه بأخيه فيقتله فخرج لذلك أحمد أخو عليّ، وهمّ بقتل موسى، فاستجار موسى بيعقوب بن موسى بن سيّد الناس كبير بني ونكاسن، وصهر الأمير عبد الرحمن. وأقام أياما في جواره، ثم هرب إلى أزمور فلحقه نار الفتنة. ونهض الأمير عبد الرحمن إلى أزمور فلم يطق حسّان بن علي دفاعه فملكها عليه وقتله واستباحها.
وبلغ الخبر إلى السلطان بفاس فنهض في عساكره وانتهى إلى سلا. ورجع الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وسار السلطان في اتباعه حتى نزل بحصن أكمليم من مراكش، وأقام هنالك نحوا من ثلاثة أشهر والقتال يتردّد بينهم. ثم سعى بين السلطانين في الصلح، فاصطلحوا على حدود العمالات أولا، وانكفأ صاحب فاس إلى عمله وبلده. وبعث الحسن بن يحيى بن حسّون الصنهاجيّ عاملا على الثغر بأزمور، فأقام بها، وكان أصله من صنهاجة أهل وطن أزمور، وله سلف في خدمة بني مرين منذ أوّل دولتهم، وكان أبوه يحيى في دولة السلطان أبي الحسن عاملا في الجباية بأزمور وغيرها. وهلك في خدمته بتونس أيام مقام السلطان بها، وترك ولده يستعمل في مثل ذلك، ونزع الحسن هذا منهم إلى الجندية فلبس شارتها وتصرّف في الولاية المناسبة لها. واتصل بخدمة السلطان أبي العبّاس لأوّل بيعته بطنجة. وكان يومئذ عاملا بالقصر الكبير فدخل في دعوته وصار في جملته، وشهد معه الفتح واستعمله في خطط السيف، حتى ولّاه أزمور هذه الولاية فقام بها كما نذكره.
(وأمّا الصبيحيّون) فالخبر عن أوليتهم أنّ جدّهم حسّان من قبيلة صبيح من أفاريق سويد، جاء مع عبد الله بن كندوز الكمي من بني عبد الواد حين جاء من تونس،(7/458)
وأوفد على السلطان ابن عبد الحق ولقيه كما مرّ. وكان حسّان من رعاة إبله. فلما استقرّ عبد الله بن كندوز بناحية مراكش وأقطعه السلطان يعقوب في أعمالها، وكان الظهر الّذي يحمل عليه السلطان متفرّقا في سارية المغرب، فجمعه وجعله لنظر عبد الله بن كندوز، فجمع له الرعاة وكبيرهم يومئذ حسّان الصبيحيّ، فكان يباشر السلطان في شأن ذلك الظهر ويطالعه في مهمّاته، فحصلت له مداخلة أجلبت إليه الحظ، حتى ارتفع وكبر. ونشئوا في ظلّ الدولة وعزّها وتصرفوا في الولايات فيها، وانفردوا بالشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد إلى ما كانوا يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات، وكان لحسّان من الولد علي ويعقوب وطلحة وغيرهم، ومن حسّان هذا تفرّعت شعوبهم في ولده، وهم لهذا العهد متصرفون في الدولة على ما كان سلفهم من ولاية الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الّذي يحمل من الإبل، ولهم عدد وكثرة ونباهة في الدولة، والله أعلم.
الانتقاض الثاني بين صاحب فاس وصاحب مراكش ونهوض صاحب فاس إليه وحصاره ثم عودهما إلى الصلح
لما رجع السلطان إلى فاس على ما استقرّ من الصلح، طلب الأمير عبد الرحمن أن يدخل عمالة صنهاجة ودكالة في أعماله، وكتب السلطان إلى الحسن بن يحيى عامل أزمور وتلك العمالة بأن يتوجّه إليه ويسدّ المذاهب في ذلك دونه. وكان الحسن بن يحيى مضطغنا على الدولة، فلما وصل إليه داخله في الخلاف وأن يملّكه تلك العمالة، فازداد الأمير عبد الرحمن بذلك قوّة على أمره، وتعلّل على صاحب فاس بأن يكون حدّا بين الدولتين ووادي أم ربيع. واستمرّ صاحب فاس على الاباية من ذلك، فنهض الأمير عبد الرحمن من مراكش، ودخل الحسن بن يحيى في طاعته فملكها، وبعث مولاه منصورا في العساكر إلى أنفاه [1] فاستولى عليها وصادر أعيانها وقاضيها وواليها وبلغ الخبر إلى السلطان، فنهض من فاس في عساكره، وانتهى إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أنف. وفي أخرى: أنفى. ذكرها ياقوت في شعر هذيل (لأنف بلد) ولم يحدد موقعها.(7/459)
سلا، فهرب منصور من أنفاء وتركها. ولحق بمولاه عبد الرحمن فأجفل من أزمور إلى مراكش، والسلطان في أثره حتى انتهى إلى قنطرة الوادي، على غلوة من البلد، وأقام خمسة أشهر يحاصرها، واتصل الخبر بالسلطان ابن الأحمر صاحب الأندلس، فبعث خالصته الوزير أبا القاسم الحكيم الرنديّ ليعقد الصلح بينهما، فعقده على أن يسترهن السلطان أولاد الأمير عبد الرحمن وحافد أبي الحسن. وانكفأ السلطان راجعا إلى سلا. ولحق به جماعة من جملة الأمير عبد الرحمن من بني مرين وغيرهم، نزعوا عنه، وكان محمد بن يعقوب الصبحي لقي في طريقه مولى الأمير عبد الرحمن، جاء به مكرها إلى السلطان. وكان من النازعين أيضا يعقوب بن موسى بن سيّد الناس كبير بني ونكاسن، وأبو بكر بن رحّو بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق، ومحمد بن مسعود الإدريسي وزيّان بن عمر بن علي الوطاسي وغيرهم من المشاهير. وقدموا على السلطان بسلا فتقبّلهم وأحسن كرامتهم، ورحل راجعا إلى فاس والله أعلم.
انتقاض علي بن زكريا شيخ الهساكرة على الأمير عبد الرحمن وفتكه بمولاه منصور ومقتل الأمير عبد الرحمن
لما رجع السلطان إلى فاس وبدا من الخلل في دولة الأمير عبد الرحمن وانتقاض الناس عليه ما قدّمناه، نزع يده من التعويل على العساكر، وشرع في تحصين البلد.
وضرب الأسوار على القصبة وحفر الخنادق وتبيّن بذلك اختلال أمره. وكان علي بن زكريا شيخ هسكورة وكبير المصامدة وكان في دعوته منذ دخل مراكش فتلافى أمره مع صاحب فاس، ومدّ إليه يدا من طاعته. ثم انتقض على الأمير عبد الرحمن ودخل في دعوة السلطان، وبعث إليه الأمير عبد الرحمن مولاه منصورا يستألفه، فأرصد إليه في طريقه من حاشيته من قتله، وبعث برأسه إلى فاس، فنهض السلطان في عساكره إلى مراكش. واعتصم الأمير عبد الرحمن بالقصبة وقد كان أفردها عن المدينة بالأسوار. وخندق عليها فملك السلطان المدينة ورتّب على القصبة المقاتلة من كل جهة، ونصب الآلة وأدار عليها من جهة المدينة حائطا وأقام يحاصرها تسعة [1]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سبعة أشهر.(7/460)
أشهر يغاديها القتال ويراوحها. وكان أحمد بن محمد الصبيحي من الذين بوءوا المقاعد لقتالها، فهمّ بالانتقاض وحدّثته نفسه بغدرة السلطان والتوثّب به. وسعى بذلك إلى السلطان، فتقبّض عليه وحبسه. وبعث السلطان بالنفير إلى أعماله، فتوافت الأمداد من كل ناحية، وبعث إليه صاحب الأندلس مددا من العسكر. فلما اشتدّ القتال والحصار بالأمير عبد الرحمن ونفذت الأقوات، وأيقن أصحابه بالهلكة، وأهمّتهم أنفسهم. وهرب عنه وزيره محمد بن عمر [1] شيخ الهساكرة والمصامدة لعهد السلطان أبي الحسن وابنه، وقد مرّ ذكره. فلمّا لحق هذا بالسلطان وعلم أنه إنّما جاء مضطرا قبض عليه وحبسه. ثم انفضّ الناس عن الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين إلى السلطان. وأصبح في قصبته منفردا، وقد بات ليلته يراوض ولديه على الاستماتة وهما: أبو عامر وسليم. وركب السلطان من الغد في التعبية وجاء إلى القصبة فاقتحمها بمقدّمته، ولقيهم الأمير عبد الرحمن وولداه مباشرا إلى الميدان بين أبواب دورهم، فجالوا معهم جولة قتل فيها ولداه، تولّى قتلهم علي بن إدريس وزيّان بن عمر الوطاسي وطال ما كان زيّان يمتري يدي نعمهم [2] ويجر ذيله خيلاء في جاههم، فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء.
والله لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. 4: 40 وكان ذلك خاتم جمادى الأخيرة سنة أربع وثمانين وسبعمائة لعشر سنين من إمارته على مراكش. ثم رحل السلطان منقلبا إلى فاس، وقد استولى على سائر أعمال المغرب، وظفر بعدوّه ودفع النازعين عن ملكه. والله أعلم.
(اجلاب العرب على المغرب في مغيب السلطان بغرية من ولد أبي علي وأبي تاشفين بن أبي حمو صاحب تلمسان ومجيء أبي حمو على أثرهم)
كان أولاد حسين من عرب المعقل مخالفين على السلطان من قبل مسيره إلى مراكش.
وكان شيخهم يوسف بن علي بن غانم قد حدثت بينه وبين الوزير القائم على الدولة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فهرب عنه وزيره نجوّ بن العلم من بقية بيت محمد بن عمر. وفي نسخة أخرى يجو.
[2] وفي نسخة ثانية: كان يمتري ثدي نعمتهم.(7/461)
محمد بن عثمان منافرة وفتنة. وبعث العساكر إلى سجلماسة، فخرّب ما كان له بها من العقار والأملاك. وأقام منتقضا بالقفر. فلما حاصر السلطان الأمير عبد الرحمن بمراكش وأخذ بمخنقه أرسل أبا العشائر ابن عمّه منصور إلى يوسف بن علي وقومه، ليجلبوا به على المغرب ويأخذوا بحجزة السلطان عن حصاره، فسار لذلك. ولما قدم على يوسف سار به إلى تلمسان مستجيشا بالسلطان أبي حمّو لذلك القصد، لما كان بينه وبين الأمير عبد الرحمن من العهد على ذلك. فبعث أبو حمّو معهم ابنه أبا تاشفين في بعض عساكره، وسار في الباقين على أثرهم. وسار أبو تاشفين وأبو العشائر إلى أحياء العرب، فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها. وكان السلطان عند سفره إلى مراكش استخلف على دار ملكه بفاس علي بن مهدي العسكري في جماعة من الجند. واستنجد بونزمار بن عريف شيخ سويد وولي الدولة المقيم بأحياء ملويّة، فحالف بين عرب المعقل واستألف منهم العمارنة والمنبات وهم الأحلاف. واجتمع مع علي بن مهدي، وساروا لمدافعة العدوّ بنواحي مكناسة، فصدّوهم عن مرامهم ومنعوهم من دخول البلاد فأقاموا متواقفين أيّاما. وقصد أبو حمّو في عسكره مدينة تازى وحاصرها سبعا، وخرّب قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازورت.
وبينما هم على ذلك بلغ الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن، فأجفلوا من كل ناحية. وخرج أولاد حسين وأبو العشائر وأبو تاشفين والعرب الأحلاف في اتباعهم، وأجفل أبو حمّو عن تازى راجعا إلى تلمسان ومرّ بقصر ونزمار في نواحي بطوية المسمى بمرادة، هدمه ووصل السلطان إلى فاس وقد تمّ له الظهور والفتح إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(نهوض السلطان الى تلمسان وفتحها وتخريبها)
كان السلطان لما بلغه ما فعل العرب وأبو حمّو بالمغرب لم يشغله ذلك عن شأنه، ونقم على أبي حمّو ما أتاه من ذلك، وأنه نقص عهده من غير داع إلى النقض. فلمّا احتلّ بدار ملكه بفاس أراح أياما، ثم أجمع النهوض إلى تلمسان. وخرج في عساكره على عادتهم وانتهى إلى تاوريرت. وبلغ الخبر إلى أبي حمّو، فاضطرب أمره واعتزم على الحصار، وجمع أهل البلد عليه واستعدّوا له. ثم خرج في بعض(7/462)
تلك الليالي بولده وأهله وخاصته، وأصبح مخيّما بالصفصف [1] وانفض أهل البلد إليه بعضهم بعياله وولده مستمسكين به، متفادين من معرّة هجوم العساكر فلم يرعه ذلك عن قصده، وارتحل ذاهبا إلى البطحاء. ثم قصد بلاد مغراوة فنزل في بني بو سعيد قريبا من شلف، وأنزل أولاده الأصاغر وأهله بحصن تاحجمومت. وجاء السلطان إلى تلمسان فملكها واستقرّ فيها أياما. ثم هدم أسوارها وقصور الملك بها، بإغراء وليّه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمّو في تخريب قصر تازروت وحصن مرادة. ثم خرج من تلمسان في اتباع أبي حمّو، ونزل على مرحلة منها. وبلغه الخبر هنالك بإجازة السلطان موسى ابن عمّه أبي عنّان من الأندلس إلى المغرب وأنه خالفه إلى دار الملك، فانكفأ راجعا وأغذّ السير إلى المغرب كما نذكر. ورجع أبو حمّو إلى تلمسان واستقرّ في ملكه بها، كما ذكرناه في أخباره.
اجازة السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان من الأندلس الى المغرب واستيلاؤه على الملك وظفره بابن عمه السلطان أبي العباس وإزعاجه الى الأندلس)
قد تقدم أنّ السلطان محمد بن الأحمر المخلوع، كان له تحكّم في دولة السلطان أبي العبّاس بن أبي سالم صاحب المغرب بما كان من إشارته على محمد بن عثمان ببيعته وهو معتقل بطنجة، ثم بما أمدّه من مدد العساكر والأموال، حتى أمره واستولى على البلد الجديد كما قدّمناه في أوّل خبره. ثم بما كان له من الزبون عليهم بالقرابة المرشّحين الذين كانوا معتقلين بطنجة مع السلطان أبي العبّاس من أسباط السلطان أبي الحسن من ولد أبي عنان وأبي سالم والفضل وأبي عامر وأبي عبد الرحمن وغيرهم. وكانوا متعاهدين في معتقلهم أنّ من أتاح الله له الملك منهم يخرجهم من الاعتقال ويجيزهم إلى الأندلس. فلما بويع السلطان أبو العبّاس وفّى لهم بهذا العهد وأجازهم إلى الأندلس، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر أكرم نزل، أنزلهم بقصور ملكه بالحمراء وقرّب لهم المراكب، وأفاض عليهم العطاء ووسّع لهم الجرايات والأرزاق. وأقاموا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالصفصيف.(7/463)
هنالك في ظلّ ظليل من كنفه فكان لهم به وثوب على ملك المغرب وكان الوزير القائم بها محمد بن عثمان يقدر له قدر ذلك كله فيجري في أغراضه وقصوده ويحكمه في الدولة ما شاء أن يحكمه، حتى توجّهت الوجوه إلى ابن الأحمر وراء البحر من أشياخ بني مرين والعرب، وأصبح المغرب كأنّه من بعض أعمال الأندلس. ولما نهض السلطان إلى تلمسان خاطبوه وأوصوه بالمغرب، وترك محمد بن عثمان بدار الملك كاتبه محمد بن الحسن، كان مصطنعا عنده من بقيّة شيع الموحّدين ببجاية، فاختصّه ورقّاه واستخلفه في سفره هذا على دار الملك. فلمّا انتهوا إلى تلمسان وحصل له من الفتح ما حصل، كتبوا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر مع شيطان من ذرّية عبّو بن قاسم المرواني [1] كان بدارهم وهو عبد الواحد بن محمد بن عبّو كان يسمو بنفسه إلى العظائم التي ليس لها بأهل ويتربّص لذلك بالدولة. وكان ابن الأحمر مع كثرة تحكّمه فيهم يتنحّى لهم بعض الأوقات بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو مخالفة في الأمر لا يجدون عنها وليجة، فيصطنع [2] لهم ذلك. فلمّا قدم عليه عبد الواحد هذا بخبر الفتح وقصّ عليه القصص، دسّ له أنّ أهل الدولة مضطربون على سلطانهم ومستبدلون به لو وجدوا، وبلغ من ذلك ما حمل وما لم يحمل. وأشار له بجلاء المغرب من الحامية جملة وأنّ دار الملك ليس بها إلّا كاتب حضريّ لا يحسن المدافعة، وهو أعرف به، فانتهز الفرصة ابن الأحمر وجهّز موسى ابن السلطان أبي عنان من الأسباط المقيمين عنده. واستوزر له مسعود بن رحّو بن ماسي من طبقات الوزراء من بني مرين ومن بني قودر من أحلافهم. وله في ذلك سلف وقد كان بعثه من قبل وزيرا للأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن حين أجاز إلى المغرب أيام استبداد أبي بكر بن غازي. فلم يزل معه حتى كان حصار البلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العبّاس عليها. وذهب عبد الرحمن إلى مراكش فاستأذنه مسعود في الانصراف إلى الأندلس، فأذن له ورجع عنه إلى فاس. ثم فارقها وأجاز إلى الأندلس متودّعا ومتودّدا للكل ومعوّلا على ابن الأحمر، فتلقّاه بالقبول وأوسع له النزول والجراية وخلطه بنفسه وأحضره مع ندمائه. ولم يزل كذلك إلى أن جهّزه وزيرا إلى المغرب مع السلطان أبي عنان وبعث معهما عسكرا. ثم ركب السفين إلى سبتة وكانت بينه وبين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المزوار.
[2] فيضطغن: كذا في النسخة المصرية.(7/464)
شرفائها ورؤساء الشورى بها مداخلة، فقاموا بدعوة السلطان موسى وأدخلوه وقبضوا على عاملها رحّو بن الزعيم المكدوني [1] وجاءوا به إلى السلطان فملكها غرّة صفر من سنة ست وثمانين وسبعمائة وسلّمها إلى ابن الأحمر، فدخلت في طاعته. وسار هو إلى فاس، فوصلها لأيام قريبة، وأحاط بدار الملك، واجتمع عليه الغوغاء، ونزل الدهش بمحمد بن الحسن فبادر بطاعته. ودخل السلطان إلى دار الملك، وقبض عليه لوقته، وذلك في عشر ربيع الأوّل من السنة. وجاء الناس بطاعته من كل جانب، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس بمكانه من نواحي تلمسان بأنّ السلطان موسى قد نزل بسبتة، فجهّز عليّ بن منصور وترجمان الجند وجند النصارى ببابه مع طائفة منهم. وبعثهم حامية لدار الملك فانتهوا إلى تازى وبلغهم خبر فتحها فأقاموا هنالك. وأغذّ السلطان أبو العباس السير إلى فاس، فلقيهم خبر فتحها بتاوريرت، فتقدّم إلى ملوية وتردّد في رأيه بين المسير إلى سجلماسة مع العرب أو قصد المغرب. ثم استمرّ عزمه، ونزل بتازى وأقام فيها أربعا، وتقدّم إلى الركن، وأهل دولته خلال ذلك يخوضون في الانتقاض عليه تسلّلا إلى ابن عمّه السلطان موسى المتولي على فاس، ويوم أصبح من الركن أرجفوا به. ثم انتقضوا عليه طوائف قاصدين فاس، ورجع هو إلى تازى بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار في خيامه وخزائنه. ثم أصبح بتازى من ليلته فدخلها، وعاملها يومئذ الخيّر من موالي السلطان أبي الحسن.
وذهب محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة ونزمار بن عريف وأمراء المغرب من المعقل. ولما دخل السلطان أبو العباس إلى تازى كتب إلى ابن عمّه السلطان موسى يذكره العهد بينهما، وقد كان السلطان ابن الأحمر عهد إليه أن يبعث به إليه إن ظفر به، فبادر السلطان موسى باستدعائه مع جماعة من وجوه بني عسكر، أهل تلك الناحية، وهم زكريا بن يحيى بن سليمان ومحمد بن داود بن أعراب [2] ، ومعهم العبّاس بن عمر الوسناني فجاءوا به وأنزلوه بالزاوية بغدير الحمص بظاهر فاس، فقيّد هنالك ثم بعثه إلى الأندلس موكلا به مع عمر بن رحّو أخي الوزير مسعود بن ماسي. واستصحب ابنه أبا فارس وترك سائرهم بفاس وأجاز البحر من سبتة فأنزله السلطان ابن الأحمر بقلعة ملكه الحمراء، وفكّ قيوده ووكّل به، ووسّع له في الجراية فأقام هنالك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المكدودي.
[2] وفي النسخة المصرية: بن عراب.
ابن خلدون م 30 ج 7(7/465)
محتاطا به الى أن كان ما نذكره ان شاء الله تعالى.
(نكبة الوزير محمد بن عثمان ومقتله)
أصل هذا الوزير محمد بن الكاس [1] إحدى بطون بني ورتاجن، وكان بنو عبد الحق عند ما تأثّلوا ملكهم بالمغرب يستعملون منهم في الوزارة. وربّما وقعت بينهم هنالك وبين بني إدريس وبني عبد الله منافسة، قتلوا فيها بعض بني الكاس منهم في دولة السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. ثم استوزره السلطان أبو الحسن بعد مهلك وزيره يحيى بن طلحة ابن محلى بمكانه من حصار تلمسان، وقام بوزارته أياما [2] ، وحضر معه وقعة طريف سنة إحدى وأربعين وسبعمائة من هذه المائة، واستشهد فيها، ونشأ ابنه أبو بكر في ظلّ الدولة ممتعا بحسن الكفالة وسعة الرزق، وكانت أمّه أمّ ولد، وخلفه عليها ابن عمه محمد بن عثمان هذا الوزير، فنشأ أبو بكر في حجره.
وكان أعلى رتبة منه بأولية أبيه وسلفه، حتى إذا بلغ أشدّه واستوى سمت به الحال [3] ، وجال أمصار [4] الملوك في اختياره وترشيحه، حتى استوزره السلطان عبد العزيز كما قلناه. وقام بوزارته أحسن قيام، وأصبح محمد بن عثمان هذا رديفه.
وهلك السلطان عبد العزيز فنصّب أبو بكر ابنه السعيد للملك صبيا لم يثغر، وكان من انتقاض أمره وحصاره بالبلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العبّاس عليه ما قدّمناه، قام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العبّاس مستبدّا عليه. ودفع إليه أمور ملكه، وشغل بلذّاته، فقام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العبّاس من أمور الدولة ما عاناه حتى كان من استيلاء السلطان موسى على دار ملكهم ما مرّ.
وانفضّ بنو مرين عنه للسلطان أبي العبّاس كما ذكرناه، ورجع إلى تازى، فدخلها السلطان أبو العبّاس وفارقهم محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة ونزمار بن عريف وهو مقيم بتازى، وتذمّم له فتجهّم له ونزمار وأعرض عنه، فسار معدّا إلى أحياء المنيات من
__________
[1] وفي النسخة المصرية: أصل هذا الوزير من بني الكاس.
[2] وفي النسخة المصرية: أعواما.
[3] وفي النسخة المصرية: الخلال.
[4] وفي النسخة المصرية: وجالت ابصار.(7/466)
عرب المعقل. كانوا هنالك قبلة تازى لذمّة صحابة كانت بينه وبين شيخهم أحمد ابن عبّو فنزل عليه متذمّما به، فخادعه وبعث بخبره إلى السلطان، فجهّز إليه عسكرا مع المزوار عبد الواحد بن محمد بن عبّو بن قاسم بن ورزوق بن بومريطت والحسن العوفيّ [1] من الموالي فتبرّأ منه العرب وأسلموه إليه، فجاءوا به وأشهروه يوم دخوله إلى فاس. واعتقل أياما وامتحن في سبيل المصادرة ثم استصفى. ثم قتل ذبحا بمحبسه، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن خروج الحسن بن الناصر بغمارة ونهوض الوزير ابن ماسي اليه بالعساكر
لما استقل السلطان موسى بملك المغرب وقام مسعود بن ماسي بوزارته مستبدّا عليه، وكان من تغريبهم السلطان أبا العبّاس إلى الأندلس وقتلهم [2] وزيره محمد بن عثمان وافتراق أشياع الوزير محمد بن عثمان وقرابته وبطانته، فطلبوا بطن الأرض ولحق منهم ابن أخيه العبّاس بن المقداد بتونس، فوجد هنالك الحسن بن الناصر ابن السلطان أبي علي قد لحق بها من مقرّه بالأندلس في سبيل طلب الملك فثاب له رأي في الرجوع به إلى المغرب لطلب الأمر هنالك، فخرج به من تونس وقطع المفاوز والمشاق إلى أن انتهى إلى جبل غمارة، ونزل على أهل الصفيحة منهم، فأكرموا مثواه وتلقّيه، وأعلنوا بالقيام بدعوته. واستوزر العبّاس بن المقداد. وبلغ الخبر إلى مسعود ابن ماسي فجهّز العساكر مع أخيه مهدي بن ماسي، فحاصره بجبل الصفيحة أياما، وامتنع عليهم، فتجهّز الوزير مسعود بن ماسي بالعساكر من دار الملك وسار لحصاره.
ثم رجع من طريقه لما بلغه من وفاة السلطان بعده، والله أعلم.
(وفاة السلطان موسى والبيعة للمنتصر ابن السلطان أبي العباس)
كان السلطان موسى لما استقل بملك المغرب استنكف من استبداد ابن ماسي عليه
__________
[1] وفي النسخة المصرية: بن وزروق بن توقريطت والحسن اوافو من الموالي.
[2] وفي النسخة المصرية: وتكبتهم.(7/467)
وداخل بطانته في الفتك به. وأكثر ما كان يفاوض في ذلك كاتبه وخالصته محمد ابن كاتب أبيه، وخالصته محمد بن أبي عمر. وكان للسلطان موسى ندمان يطلعهم على الكثير من أموره منهم العبّاس بن عمر بن عثمان الوسناقي، وكان الوزير مسعود بن ماسي قد خلّف أبا عمر على أمّه وربي في حجره، فكان يدلي إليه بذلك، وينهي إليه ما يدور في مجلس السلطان في شأنه. فحصلت للوزير بذلك نفرة طلب لأجلها البعد عن السلطان. وبادر للخروج لمدافعة الحسن القائم بغمارة. واستخلف على دار الملك أخاه يعيش بن رحّو بن ماسي. فلما انتهى إلى القصر الكبير لحقه الخبر بوفاة السلطان موسى، وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرقه المرض فهلك ليوم وليلة لثلاث سنين من خلافته. وكان الناس يرمون يعيش أخا الوزير بأنّه سمّه، وبادر يعيش فنصب ابن عمّه للملك، وهو المنتصر ابن السلطان أبي العبّاس، وانكفأ راجعا لوزير مسعود من القصر، وقتل السبيع محمد بن موسى من طبقة الوزراء، وقد مرّ ذكره وذكر قومه، وكان اعتقله أيام السلطان موسى فقتله بعد وفاته. واستمرّت أمور الدولة في استقلاله والله أعلم.
(إجازة الواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من الأندلس والبيعة له)
كان الوزير مسعود بن ماسي لما استوحش من السلطان موسى بعث ابنه يحيى وعبد الواحد المزوار إلى السلطان ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العبّاس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة.
فلما توفي السلطان موسى بدا للوزير مسعود في أمره، ودسّ للسلطان ابن الأحمر في ردّه، وأن يبعث إليه بالواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من القرابة المقيمين عنده. ورآه أليق بالاستبداد والحجر، فأسعفه ابن الأحمر في ذلك، وردّ السلطان أحمد إلى مكانه بالحمراء، وجاء بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده، وفي خلال ذلك وصل جماعة من أهل الدولة وانتقضوا على الوزير مسعود، ولحقوا بسبتة، وأجازوا إلى السلطان ابن الأحمر وهم يعيش بن علي بن فارس الياباني(7/468)
وسيّور بن يحيى بن عمر الونكاسني وأحمد بن محمد الصبيحيّ، فوفد [1] إليهم الواثق، ورجعوا به إلى المغرب على أنّهم في خدمة الوزير، حتى إذا انتهوا إلى جبل زرهون المطل على مكناسة أظهروا الخلاف على الوزير وصعدوا الى قبائل زرهون واعتصموا بجبلهم. ولحق بهم من كان على مثل دينهم من الخلاف على ابن ماسي وصاروا معهم يدا مثل طلحة بن الزبير الورتاجني وسيّور بن يحياتن بن عمر الونكاسني ومحمد التونسي من بني أبي الطلاق وفارح بن مهدي من معلوجي السلطان، وأصله من موالي بني زيان ملوك تلمسان.
وكان أحمد بن محمد الصبيحي حين جاء مع الواثق قد استطال على أصحابه وأصهر الاستبداد بما كان من طائفة الجند المستخدمين، فغصّ به أهل الدولة وتبرءوا منه للسلطان الواثق، فأظهر لهم البراءة منه، فوثبوا به وقتلوه عند خيمة السلطان، وتولّى كبر ذلك يعيش بن علي بن فارس الياباني كبير بني مرين، فذهب مثلا في الغابرين، ولم تبك عليه سماء ولا أرض. وكان رزوق بن بوفريطت من موالي بني علي بن زيّان من شيوخ بني ونكاسن من أعيان الدولة ومقدّمي الجند، قد انتقض على الدولة أيام السلطان موسى ولحق بأحياء أولاد حسين من عرب المعقل المخالفين منذ أيام السلطان موسى. ونزل على شيخهم يوسف بن علي بن غانم لذمّة صحابة بينهما من جوارهم في المواطن. وكان معه في ذلك محمد بن يوسف بن علّال، كان أبوه يوسف من صنائع السلطان أبي الحسن، ونشأة دولته استوحشا من الوزير، فلحقا بالعرب [2] فلمّا جاء هذا السلطان الواثق قدما عليه، فلقيهما بالتكرمة وأحلّهما في مقامهما من الدولة، وخرج الوزير مسعود بن ماسي في العساكر، ونزل قبائلهم بجبل مغيلة وقاتلهم هنالك أياما وداخل الذين مع الواثق واستمالهم. وبعث عسكرا إلى مكناسة فحاصروها، وكان بها يومئذ عبد الحق بن الحسن بن يوسف الورتاجني، فاستنفر له منها وملكها، وتردّدت المراسلات بينه وبين الواثق وأصحابه على أن ينصبوه للأمر.
ويبعث بالمنتصر المنصوب عنده إلى أبيه السلطان أبي العبّاس بالأندلس وانعقد الأمر بينهم على ذلك. وسار الواثق في أصحابه إلى الوزير ابن ماساي فنزل عليه. ومضى يعيش بن علي بن فارس عنهم ذاهبا لوجهه. وسار الوزير بالواثق إلى دار الملك،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فدفع.
[2] وفي النسخة المصرية: بالمغرب.(7/469)
فبايعه في شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بعد أن اشترط عليه لنفسه وأصحابه ما شاء. وأجاز سلطانه المنتصر إلى أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس وقبض على جماعة ممن كان مع الواثق مثل المزوار عبد الواحد، وقتله، وعلى فارح بن مهدي وحبسه، وعلى الخيّر مولى الأمير عبد الرحمن وامتحنه، وعلى آخرين سواهم. ثم قبض على جماعة من بطانة السلطان موسى كانوا يداخلونه في القبض والفتك به، فحبسهم وقتل بعضهم. وعلى جند الأندلس الذين جاءوا مددا للواثق، وعلى قوّادهم من معلوجي ابن الأحمر فأودعهم السجن. ثم تقبّض على كاتب السلطان موسى بن أبي الفضل بن أبي عمر مرجعه من السفارة عن سلطانه إلى الأندلس، فاعتقله وصادره. ثم خلّى سبيله. ثم بعث إلى الحسن بن الناصر الثائر بجبل الصفيحة من غمارة مع إدريس بن موسى بن يوسف الياباني، فخادعه باستدعائه للملك والبيعة له، فخدعه واستنزله وجاء به فاعتقله أياما. ثم أجازه للأندلس، واستقرّ الأمر على ذلك، والله أعلم.
الفتنة بين الوزير ابن ماسي وبين السلطان ابن الأحمر واجازة السلطان أبي العباس الى سبتة لطلب ملكه واستيلاؤه عليها
لما بلغ الوزير ابن ماسي للواثق ورأى أنه قد استقلّ بالدولة ودفع عنها الشواغب، وصرف نظره إلى ما فرّط من أعمال الدولة، وافتتح أمره بسبتة. وقد كان السلطان موسى لأول إجازته أعطاها لابن الأحمر كما مرّ. فبعث إليه الآن الوزير ابن ماسي في ارتجاعها منه على سبيل الملاطفة، فاستشاط لها ابن الأحمر ولجّ في الردّ، فنشأت الفتنة لذلك، وجهّز ابن ماسي العساكر لحصار سبتة مع العبّاس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علّال بن أمصمود، والرئيس محمد بن أحمد الأبكم من بني الأحمر. ثم من بيت السلطان الشيخ فاتح أمرهم وممهّد دولتهم، وراسل السلطان إشبيلية والجلالقة من بني أدفونش وراء البحر، بأن يبعث إليهم ابن عمّ السلطان ابن الأحمر محمد بن إسماعيل مع الرئيس الأبكم ليجلبا من ناحيته على الأندلس.
وجاءت عساكر الوزير إلى سبتة فحاصروها ودخلوها عنوة. واعتصم حامية الأندلس الذين كانوا بها بالقصبة، واتصلت الجولة بين الفريقين وسط البلد، وأوفد(7/470)
أهل القصبة النيران بالجبل علامة على أمرهم ليراها ابن الأحمر. وكان مقيما بمالقة، فبادر بتجهيز الأسطول مشحونا بالمقاتلة مددا لهم. ثم استدعى السلطان أبو العباس من مكانه بالحمراء، وأركبه السفين إلى القصبة في غرّة صفر سنة تسع وثمانين وسبعمائة وأشرف عليهم من الغد وناداهم من السور يدعوهم إلى طاعته. فلمّا رأوه اضطربوا وافترقوا وخرج إليهم، فنهب سوادهم ودخلوا في طاعته متسايلين، ورجع جمهور العسكر ومقدّموهم إلى طنجة واستولى السلطان على مدينة سبتة. وبعث إليه ابن الأحمر بالنزول عنها، وردّها إليه فاستقرت في ملكه وكملت بها بيعته، وكان يوليه أمر الأضياف الواردين والله تعالى أعلم.
مسير السلطان أبي العباس من سبتة لطلب ملكه بفاس ونهوض ابن ماسي لدفاعه ورجوعه منهزما
ولما استولى السلطان أبو العباس على سبتة وتمّ له ملكها، واعتزم على المسير لطلب ملكه بفاس، وأغراه ابن الأحمر بذلك ووعده بالمدد لما كان من مداخلة ابن ماسي لجماعة من بطانته في أن يقتلوه ويملّكوا الرئيس الأبكم يقال: إنّ الّذي داخله في ذلك من بطانة ابن الأحمر يوسف بن مسعود البلنسيّ، ومحمد ابن الوزير أبي القاسم بن الحكيم الرنديّ وشعر بهم السلطان ابن الأحمر وهو يومئذ على جبل الفتح يطالع أمور السلطان أبي العبّاس، فقتلهم جميعا وإخوانهم. ويقال: إنّ ذلك كان بسعاية القائم على دولته مولاه خالد، كان يغصّ بهم ويعاديهم، فأخفى عليهم هذه [1] . وتمت سعايته بهم، فاستشاط ابن الأحمر غضبا على ابن ماسي، وبعث إلى السلطان أبي العبّاس يستنفره للرحلة إلى طلب ملكه، فاستخلف على سبتة رحّو ابن الزعيم المكرودي عاملها من قبل كما مرّ وسار إلى طنجة وعاملها من قبل الواثق صالح بن رحّو الياباني ومعه بها الرئيس الأبكم من قبل العساكر، فحاصرها أياما وامتنعت عليه فجمّر عنهم الكتائب وسار عنها إلى أصيلا، فدخلت في دعوته وملكها. ونهض الوزير من فاس في العساكر بعد أن استخلف أخاه يعيش على دار
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فاحتال عليهم بهذه.(7/471)
الملك وسار. ولحقت مقدّمته بأصيلا ففارقها السلطان أبو العبّاس، وصعد إلى جبل الصفيحة، فاعتصم به وجاء الوزير ابن ماسي فتقدّم الى حصاره بالجبل، وجمع عليه رماة الرجل من الأندلسيّين الذين كانوا بطنجة، وأقام يحاصره بالصفيحة شهرين. وكان يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين من عرب المعقل، مخالفا على الوزير مسعود وداعية إلى السلطان أبي العبّاس وشيعة له. وكان يراسل ابن الأحمر في شأنه. فلما سمع باستيلائه على سبتة وإقباله إلى فاس، جمع أشياعه من العرب، ودخل في طاعته إلى بلاد المغرب ما بين فاس ومكناسة. وشنّ الغارات على البسائط واكتسحها، وأرجف الرعايا وأجفلوا إلى الحصون، وكان ونزمار بن عريف وليّ الدولة شيعة للسلطان، وكان يكاتبه وهو بالأندلس ويكاتب ابن الأحمر بشأنه.
فلمّا اشتدّ الحصار بالسلطان في الصفيحة، بعث ابنه أبا فارس إلى ونزمار بمكانه من نواحي تازى. وبعث معه سيّور بن يحيى بن عمر، فقام ونزمار بدعوته، وسار به إلى مدينة تازى، وعاملها سليمان الغودودي من قرابة الوزير ابن ماسي. فلمّا نزل بها أبو فارس ابن السلطان بادر إلى طاعته وأمكنه من البلد، فاستولى عليها واستوزر سليمان هذا. وسار إلى صفيروا [1] ومعه ونزمار للاجتماع بعرب المعقل وأسفّ بهم إلى حصار فاس. وكان محمد بن الدمغة عاملا على ورغة، فبعث إليه السلطان عسكرا مع العبّاس بن المقداد ابن أخت الوزير محمد بن عثمان فقتلوه وجاءوا برأسه، ونجم الخلاف على يعيش بالبلد الجديد من كل جهة، وطيّر الخبر بذلك كلّه إلى أخيه بمكانه من حصار السلطان بالصفيحة، فانفضّت عنه العساكر وأجفل راجعا إلى فاس. وسار السلطان في اتباعه ودخل في طاعته عامل مكناسة، وجاء الخيّر مولى الأمير عبد الرحمن ولقيه يوسف بن علي بن غانم ومن معه من أحياء العرب، وساروا جميعا إلى فاس. وكان أبو فارس ابن السلطان قد رحل من تازى إلى صفيروا للقاء أبيه، فاعترضه ابن ماسي في العساكر رجاء أن يفلّه. ولقيه ببني بهلول فنزع أهل المعسكر إلى أبي فارس ابن السلطان وهو بمكناسة، فارتحل يغذّ السير إلى فاس.
وسار ابنه أبو فارس للقائه على وادي النجا. وصبحوا البلد الجديد فنزلوا عليه بجموعهم وقد اعتصم به الوزير في أوليائه وبطانته، ومعه يغمراسن بن محمد
__________
[1] وفي النسخة المصرية: صفروي وفي نسخة أخرى: صفرون.(7/472)
السالفي [1] ومراهن بني مرين الذين استرهنهم عند مسيره للقاء السلطان بأصيلا، والله أعلم.
(ظهور دعوة السلطان أبي العباس في مراكش واستيلاء أوليائه عليها)
كان الوزير مسعود بن ماسي قد ولّى على مراكش وأعمال المصامدة أخاه عمر بن رحّو وكانت منتظمة في طاعته. فلما بلغ الخبر بوصول السلطان إلى سبتة واستيلائه عليها قامت [2] رءوس أوليائه إلى إظهار دعوته بتلك النواحي، فقام بدعوته بجبل الهساكرة عليّ بن زكريا. وبعث الوزير مسعود من مكانه في حصار السلطان بالصفيحة في أمداده بالعساكر من مراكش، فزحف إليه مخلوف بن سليمان الوارتيني [3] صاحب الأعمال ما بين مراكش والسوس، وقعد الباقون عن نصره وتفرّقوا. وصعد أبو ثابت حافد عليّ بن عمر إلى جبل الهساكرة ومعه يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي، فاستمدّ علي بن زكريا ورجع إلى مراكش مجلبا على عليّ ابن رحّو مناوشة القتال ساعة. ثم غلبه على البلد وملكها من يده ونزل بقصبة الملك.
وحبس عمر بن رحّو بها. وكتب للسلطان بذلك، وهو بمكناسة متوجها إلى فاس، فكتب إليه بأن يصله بعساكر مراكش لحصار دار الملك فجمع العساكر واستخلف على قصبة مراكش بعض بني عمّه، ولحق بالسلطان، وأقام معه في حصار البلد الجديد، والله أعلم.
(ولاية المنتصر ابن السلطان أبي علي على مراكش واستقلاله بها)
كان السلطان أبو العباس حين ملك المغرب بعث ابنه المنتصر في البحر إلى سلا،
__________
[1] وفي النسخة المصرية: التنالقني.
[2] وفي النسخة المصرية: تطاولت.
[3] وفي النسخة المصرية: الوارتني وفي نسخة أخرى: الواريني.(7/473)
واستوزر له عبد الحق بن يوسف الورتاجني [1] فوصل الى سلا وأقام بها، ومرّ به رزوق بن توفريطت راجعا من دكالة، حين نزول السلطان على البلد الجديد، فتلطّف في استدعائه، ثم قبض عليه وبعث به لأبيه مقيّدا فأودعه السجن وقتل بعد ذلك بمحبسه. ثم بعث السلطان إلى ابنه المنتصر بولاية مراكش وأن يسير إليها. فلما وصل إلى مراكش امتنع النائب بالقصبة، فدسّ لعبد الحق وزير المنتصر أنّ النائب قد همّ بقتله، وحينئذ يمكّن المنتصر من القصبة. فأجفل بالمنتصر وصعد إلى جبل هنتاتة، وطيّر بالخبر إلى السلطان، فتغيّر لأبي ثابت وأمره أن يكاتب نائبة بتمكين ابنه من القصبة. واستوزر له سعيد بن عبدون وبعثه بالكتاب، وعزل عبد الحق عن وزارة ابنه، واستدعاه لفاس، فوصل سعيد بن عبدون إلى مراكش، ودفع إلى النائب بالقصبة كتاب مستخلفه إلى الامتثال، وأمكنه من القصبة واعتزل عنها فدخلها. وبعث عن المنتصر ابن السلطان، واستولوا عليها، وقبضوا على نائب عامر الّذي كان بها وسائر شيعته وبطانته، وامتحنوهم واستصفوهم إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(حصار البلد الجديد وفتحها ونكبة الوزير ابن ماسي ومقتله)
لما نزل السلطان على البلد الجديد واجتمع إليه سائر قبيلته وأوليائه وبطانته، داخل الوزير مسعودا الحنق على بني مرين لانتباذهم عنه. فأمر بقتل أبنائهم الذين استرهنوهم على الوفاء له، فلاطفه يغمراسن السالفي في المنع من ذلك، فأقصر عنه، وضيّق السلطان مخنقه بالحصار ثلاثة أشهر حتى دعا إلى النزول والطاعة، فبعث إليه ولي الدولة ونزمار بن عريف وخالصته محمد بن علّال فعقد لهم الأمان لنفسه ولمن معه على أن يستمرّ على الوزارة ويبعث بسلطانه الواثق إلى الأندلس، واستحلفهم على ذلك وخرج معهم للسلطان فدخل السلطان البلد الجديد خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة لثلاثة أعوام وأربعة أشهر من خلعه. ولحين دخوله قبض على الواثق
__________
[1] وفي النسخة المصرية: عبد الحق بن الحسن بن يوسف.(7/474)
وبعث به معتقلا إلى طنجة وقتل بها بعد ذلك. ولما استولى على أمره قبض على الوزير ابن ماسي ليومين من دخوله، وإخوته وحاشيته، وامتحنهم جميعا فهلكوا في العذاب. ثم سلّط على مسعود من العذاب والانتقام ما لا يعبّر عنه، ونقم عليه ما فعله في دور بني مرين النازعين إلى السلطان، فإنه كان متى هرب عند أحد منهم يعمد إلى بيوته فينهبها ويخرّبها فأمر السلطان بعقابه في أطلالها، فكان يؤتى به إلى كل بيت منها، فيضرب عشرين سوطا إلى أن قتله العذاب [1] وتجاوز الحدّ. ثم أمر به فقطعت أربعته، فهلك عند قطع الثانية، فذهب مثلا في الآخرين.
(وزارة محمد بن علال [2] )
كان أبوه يوسف بن علّال من رؤساء الدولة [3] وصانعة السلطان أبي الحسن. وربّي في داره. ولمّا ضخم أمره سما به إلى ولاية الأعمال، فولّاه على درعة فانتزى وانتخب أولياء الدولة. ثم ولّاه السلطان أبو عنان أمر طنجة ومائدته وضيوفه واستكفى به في ذلك، وولّاه أخوه أبو سالم بعده كذلك. ثم بعثه إلى سجلماسة فعانى بها من أمور العرب مشقّة، وعزلها عنها، وهلك بفاس. وكان له جماعة من الولد قد نشؤا في ظلّ هذه النعمة، وحدبت النجابة بمحمد المذكور منهم. فلما استولى السلطان أبو العبّاس استعمله في أمور الضيوف والمائدة كما كانت لأبيه. ثم رقّاه إلى المخالصة وخلطه بنفسه، فلمّا خلع السلطان واستولى الوزير ابن ماسي على المغرب، وكانت بينه وبين أخيه يعيش بن ماسي إحن قديمة، فسكن لصولتهم حتى إذا اضطرمت نار الفتنة بالمغرب وأجلبت عرب المعقل الخلاف، فاستوحش محمد هذا، فلحق بأحيائهم مع رزوق بن توفريطت كما مرّ ذكره ونزل على يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين، وأقاما معه في خلافه، حتى إذا أجاز السلطان الواثق إلى الأندلس، ووصل مع أصحابه إلى جبل زرهون، وأظهروا الخلاف على ابن ماسي بادر محمد هذا ورزوق إلى السلطان، ودخلا في طاعته متبرّءين من النفاق الّذي حملهم عليه
__________
[1] وفي النسخة المصرية: إلى أن أفحش فيه العذاب.
[2] وفي النسخة المصرية: هلال.
[3] وفي النسخة المصرية: من نشأة الدولة.(7/475)
عداوة الوزير ابن ماسي. فما كان إلّا أن انعقد الصلح بين الواثق وابن ماسي وسار به وأصحابه إلى فاس، وحصلوا في قبضة ابن ماسي فعفا لهم عمّا كان منهم، واستعملهم في مهود ولايتهم. ثم جاء الخبر بإجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة، فاضطرب محمد بن يوسف وذكر مخالصة السلطان ومنافرة ابن ماسي، فأجمع أمره ولحق بسبتة، فتلقّاه السلطان بالكرامة، وسرّ بمقدمه ودفعه إلى القيام بأمر دولته، فلم يزل متصرّفا بين يديه إلى أن نزل إلى البلد الجديد. ولأيام من حصارها خلع عليه الوزارة ودفعه إليها، فقام بها أحسن قيام. ثم كان الفتح وانتظم أمر الدولة، ومحمد هذا يصرّف الوزارة على أحسن أحوالها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(ظهور محمد بن السلطان عبد الحليم بسجلماسة)
قد تقدّم لنا ذكر السلطان عبد الحليم ابن السلطان أبي علي، وكان يدعى بحلي كيف، بايع له بنو مرين وأجلبوا به على عمر بن عبد الله سنة ثلاث وستين وسبعمائة أيام مبعثه للسلطان أبي عمر ابن السلطان أبي الحسن. وحاصروا معه البلد الجديد حتى خرج لدفاعهم وقاتلهم، فانهزموا وافترقوا. ولحق السلطان عبد الحليم بتازى وأخوه عبد المؤمن بمكناسة، ومعه ابن أخيهما عبد الرحمن بن أبي يفلوسن. ثم بايع الوزير عمر بن عبد الله لمحمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن واستبدل به من أبي عمر لما كان بنو مرين يرمونه بالجنون والوسوسة، فاستدعى محمد بن أبي عبد الرحمن من مطرح اغترابه بإشبيليّة وبايعه وخرج في العساكر لمدافعة عبد المؤمن وعبد الرحمن عن مكناسة، فلقيهما وهزمهما ولحقا بالسلطان عبد الحليم بتازى وساروا جميعا إلى سجلماسة، فاستقرّوا فيها والسلطان عبد الحليم، وقد تقدّم خبر ذلك كله في أماكنه. ثم كان الخلاف بين عرب المعقل أولاد حسين والأحلاف. وخرج عبد المؤمن للإصلاح بينهم، فبايع له أولاد حسين ونصّبوه كرها للملك. وخرج السلطان عبد الحق إليهم في جموع الأحلاف فقاتلوه وهزموه، وقتلوا كبار قومه، كان منهم يحيى بن رحّو بن تاشفين بن معطي شيخ بني تيربيغن وكبير دولة بني مرين، أجلت المعركة عن قتله. ودخل عبد المؤمن البلد منفردا بالملك.
وصرف السلطان أخاه عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فرضه برغبته في ذلك، فسار على(7/476)
طريق القفر مسلك الحاج من التكرور إلى أن وصل القاهرة، والمستبدّ بها يومئذ يلبغا الخاصكي، على الأشرف شعبان بن حسين من أسباط الملك الناصر محمد بن قلاوون، فأكرم وفادته ووسّع نزله وجرايته، وأدرّ لحاشيته الأرزاق، ثم أعانه على طريقه للحج بالأزواد والأبنية والظهر من الكراع والخفّ. ولما انصرف من حجّه زوّده لسفر المغرب. وهلك بضروجة [1] سنة سبع وستين وسبعمائة ورجعت حاشيته إلى المغرب بحرمة وولده. وكان ترك محمدا هذا رضيعا، فشبّ متقلّبا من الدولة من ملك إلى آخر، منتبذا عن قومه بغيرة السلطان أبي الحسن من بني عمّهم السلطان أبي عليّ. وكان أكثر ما يكون مقامه عند أبي حمّو سلطان بني عبد الواد بتلمسان لما يروم به من الأجلاب على المغرب، ودفع عادية بني مرين عنه. فلمّا وقع بالمغرب من انتقاض عرب المعقل على الوزير مسعود بن ماسي سنة تسع وثمانين وسبعمائة واستمرّوا على الخلاف، انتهز أبو حمّو الفرصة، وبعث محمد بن عبد الحليم هذا إلى المعقل ليجلب بهم على المغرب، ويمزّقوا من الملك ما قدروا عليه، فلحق بأحيائهم ونزل على الأحلاف الذين هم أمس رحما بسجلماسة وأقرب موطنا إليها. وكان الوزير ابن ماسي قد ولّى عليها من أقاربه عليّ بن إبراهيم بن عبّو بن ماسي، فلما ظهر عليه السلطان أبو العبّاس وضيّق مخنقه بالبلد الجديد، دسّ إلى الأحلاف وإلى قريبه عليّ ابن إبراهيم أن ينصّب محمد ابن السلطان أبي العباس عنه، وينفّسوا من حصاره، ففعلوا ذلك. ودخل محمد إلى سجلماسة فملكها، وقام عليّ بن إبراهيم بوزارته حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد، وفتك بالوزير مسعود بن ماسي وبإخوته وسائر قرابته، اضطرب علي بن إبراهيم وفسد ما بينه وبين سلطانه محمد، فخرج عن سجلماسة ودعا إلى أبي حمو سلطان تلمسان كما كان.
ثم زادت هواجس علي بن إبراهيم وارتيابه فخرج عن سجلماسة وتركها، ولحق بأحياء العرب. وسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه. ونزل على السلطان أبي حمّو إلى أن هلك، فسار إلى تونس وحضر وفاة السلطان أبي العبّاس بها سنة تسع وتسعين وسبعمائة ولحق محمد ابن السلطان عبد الحليم بعد مهلك أبي حمّو بتونس. ثم ارتحل بعد وفاة السلطان أبي العبّاس الى المشرق لحجة فرضه [2] ، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: بتروجة وفي نسخة أخرى: بيروجة.
[2] وفي النسخة المصرية: الى المشرق في سبيل جولة ووطاوعة واغتراب.(7/477)
(نكبة ابن أبي عمر ومهلكه وحركات ابن حسون)
لما استقل السلطان بملكه واقتعد سريره، صرف نظره إلى أولياء تلك الدولة ومن يرتاب منه. وكان محمد بن أبي عمر قد تقدّم ذكره وأوّليته، من جملة خواصه وأوليائه وندمائه. وكان السلطان يقسم له من عنايته وجميل نظره ويرفعه عن نظرائه. فلمّا ولي السلطان موسى نزعت إليه نوازع المخالصة لأبيه من السلطان أبي عنان فقد كان أبوه أعزّ بطانته كما مرّ، فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفعه على منابر أهل الدولة. وجعل إليه كتاب علامته على المراسم السلطانية، كما كان لأبيه.
وكان يفاوضه في مهمّاته ويرجع إليه في أموره حتى غصّ به أهل الدولة ونمي عنه للوزير مسعود بن ماسي أنه يداخل السلطان في نكبته. وربما سعى عند سلطانه في جماعة من بطانة السلطان أحمد، فأتى عليهم النكال والقتل لكلمات [1] كانت تجري بينهم وبينه في مجالسة المنادمة عند السلطان حقدها لهم. فلما ظفر بالحظ من سلطانه، سعى بهم فقتلهم. وكان القاضي أبو إسحاق اليزناسني من بطانة السلطان أحمد وكان يحضر مع ندمائه فحقد له ابن أبي عامر، وأغرى به سلطانه فضربه وأطافه، وجاء بها شنعاء غريبة في القبح. وسفر عن سلطانه إلى الأندلس، وكان يمرّ بمجلس السلطان أحمد ومكان اعتقاله. وربّما يلقاه فلا يلمّ إليه ولا يجيبه [2] ، ولا يوجب له حقا، فأحفظ ذلك السلطان. ولما فرغ من ابن ماسي قبض على ابن أبي عمر هذا وأودعه السجن، ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك بالسياط، عفا الله عنه. وحمل إلى داره، وبينما أهله يحضّرونه إلى قبره وإذا بالسلطان قد أمر بأن يسحب بنواحي البلد إبلاغا في التنكيل، فحمل من نعشه وقد ربط حبل برجله، وسحب في سائر أنحاء المدينة. ثم ألقي في بعض المزابل [3] . ثم قبض على حركات ابن حسّون وكان مجلبا في الفتنة، وكان العرب المخالفون من المعقل، لما أجاز السلطان إلى سبتة، وحركات هذا بتدلّا، راودوه على طاعة السلطان فامتنع أوّلا. ثم أكرهوه وجاءوا به
__________
[1] وفي النسخة المصرية: لفلتات.
[2] وفي النسخة المصرية: فلم يلم بتحية.
[3] وفي النسخة المصرية: ثم القي على بعض الكثبان من أطرافها وأصبح مثلا في الآخرين.(7/478)
إلى السلطان فطوى على ذلك حتى استقام أمره. وملك البلد الجديد فتقبّض عليه وامتحنه، إلى أن هلك، والله وارث الأرض ومن عليها.
(خلاف علي بن زكريا بجبل الهساكرة ونكبته)
لما ملك السلطان البلد الجديد واستولى على ملكه، وفد عليه علي بن زكريا شيخ هسكورة مستصفيا [1] بما قدم من سوابقه. وقد كان حضر معه حصار البلد الجديد واستدعاه، فجاء بقومه وعساكر المصامدة وأبلى في حصارها، فرعى السلطان سوابقه وولّاه الولاية الكبرى على المصامدة على عادة الدولة في ذلك. ثم وفد معه محمد بن إبراهيم الميراري [2] من شيوخ المصامدة وكانت له ذمّة صهر مع الوزير محمد ابن يوسف بن علّال على أخته، فولّاه السلطان مكان علي بن زكريا فغضب لها واستشاط وبادر إلى الانتقاض والخلاف. ونصب بعض القرابة من بني عبد الحق، فجهّز إليه السلطان العساكر مع محمد بن يوسف بن علّال وصالح بن حمّو الياباني وأمر صاحب درعة وهو يومئذ عمر بن عبد المؤمن بن عمر أن ينهض إليه بعساكر درعة من جهة القبلة، فساروا إليه وحاصروه في جبله. وجاولوه مرّات ينهزم في جميعها حتى غلبوه على جبله. وسار إلى إبراهيم بن عمران الصناكي المجاور له في جبله فاستذمّ به. وخشي إبراهيم معرّة الخلاف والغلب، ورغّبه الوزير محمد بن يوسف بما بذل له، فأمكنه منه، وقبض على الوزير وجاء به إلى فاس، فأدخله في يوم مشهود وشهّره، واعتقل فلم يزل في الاعتقال إلى أن هلك السلطان أبو العبّاس.
وارتاب به أهل الدولة بعده فقتلوه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفادة أبي تاشفين على السلطان أبي العباس صريخا على أبيه ومسيره بالعساكر ومقتل أبيه السلطان أبي حمو
كان أبو تاشفين ابن السلطان أبي حمو قد وثب على أبيه آخر ثمان وثمانين وسبعمائة
__________
[1] وفي النسخة المصرية: مستصبا.
[2] وفي نسخة ثانية: المبرازي.(7/479)
بممالئته لغيره من إخوته واعتقله بوهران. وخرج بالعساكر لطلب إخوته المنتصر وأبي زيّان وعمر [1] فامتنعوا عند حصين بجبل تيطرى فحاصرهم أياما. ثم تذكر غائلة أبيه، فبعث ابنه أبا زيّان في جماعة من بطانته منهم ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله بن جابر الخراساني، فقتلوا بعض ولده بتلمسان، ومضوا إليه وهو بمحبسه في وهران. فلمّا شعر بهم أشرف من الحصن ونادى في أهل المدينة متذمّما بهم، فهرعوا إليه. وتدلّى إليهم في عمامته وقد احتزم بها فأنزلوه وأحدقوا به وأجلسوه على سريره. وتولّى كبر ذلك خطيب البلد ابن جذورة [2] ولحق أبو زيّان بن أبي تاشفين ناجيا إلى تلمسان. واتبعه السلطان أبو حمّو ففرّ منها إلى أبيه. ودخل أبو حمّو تلمسان وهي طلل وأسوارها خراب، فأقام فيها رسم دولته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فأجفل من تيطرى وأغذّ السير فدخلها. واعتصم أبوه بمئذنة المسجد، فاستنزله منها وتجافى عن قتله. ورغب إليه أبوه في رحلة المشرق لقضاء فرضه، فاسعفه وأركبه السفين مع بعض تجّار النصارى إلى الإسكندرية موكلا به. فلمّا حاذى مرسى بجاية لاطف النصراني في تخلية سبيله فأسعفه وملك أمره. وبعث إلى صاحب الأمر ببجاية يستأذنه في النزول، فأذن له. وسار منها إلى الجزائر، واستخدم العرب، واستصعب عليه أمر تلمسان، فخرج إلى الصحراء. وجاء إلى تلمسان من جهة المغرب فهزم عساكر ابنه أبي تاشفين وملكها. وخرج أبو تاشفين هاربا منها، فلحق بأحياء سويد في مشاتيهم. ودخل أبو حمّو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة. وقد تقدّم شرح هذه الأخبار كلّها مستوعبة. ثم وفد أبو تاشفين مع محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صريخا على أبيه، ومؤمّلا الكرّة بإمداده. فبعث له السلطان وأجمل عليه المواعيد. وقام أبو تاشفين في انتظارها والوزير محمد بن يوسف بن علّال يعده ويمنّيه ويحلف له على الوفاء. وبعث السلطان أبو حمّو إلى ابن الأحمر لما يعلم من استطالته على دولة بني مرين كما مرّ، يتوسّل إليه في أن يصدّهم عن صريخ أبي تاشفين وإمداده عليه فجلا ابن الأحمر في ذلك وجعلها من أهمّ حاجاته. وخاطب السلطان أبا العباس في أن يجيز إليه أبا تاشفين، فتعلّل عليه في ذلك بأنه استجار بابنه أبي فارس، واستذمّ به. ولم يزل الوزير ابن علّال يفتل لسلطانه ولابن الأحمر في
__________
[1] وفي النسخة المصرية: وعمير (وهي الأصح) .
[2] وفي النسخة المصرية: خزروت وفي نسخة أخرى: حرزورة.(7/480)
الذروة والغارب، حتى تمّ أمره وأنجز له السلطان بالنظر موعده. وبعث ابنه الأمير أبا فارس والوزير ابن علّال في العساكر صريخين له، وانتهوا إلى تازى. وبلغ الخبر إلى أبي حمّو فخرج من تلمسان في عساكره، واستألف أولياءه من عبيد الله. ونزل بالغيران من وراء جبل بني راشد المطلّ على تلمسان، وأقام هنالك متحصّنا بالجبل، وجاءت العيون إلى عساكر بني مرين بتازى بمكانه هو وأعرابه من الغيران، فأجمعوا غزوة. وسار الوزير علّال وأبو تاشفين وسلكوا القفر ودليلهم سليمان بن ناجي من الأحلاف. حتى صبّحوا أبا حمّو ومن معه من أحياء الجرّاح [1] في مكانهم بالغيران. فجاولوهم ساعة، ثم ولّوا منهزمين، وكبا بالسلطان أبي حمّو فرسه فسقط، وأدركه بعض أصحاب أبي تاشفين فقتلوه قعصا بالرماح، وجاءوا برأسه إلى ابنه أبي تاشفين والوزير ابن علّال، فبعثوا به إلى السلطان، وجيء بابنه عمير أسيرا، فهمّ أخوه أبو تاشفين بقتله، فمنعه بنو مرين أياما. ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل تلمسان آخر إحدى وتسعين وسبعمائة وخيّم الوزير وعساكر بني مرين بظاهر البلد، حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام أبو تاشفين بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب ويخطب له على منابر تلمسان وأعمالها، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة، كما اشترط على نفسه. وكان أبو حمّو لما ملك تلمسان ولّى ابنه أبا زيّان على الجزائر، فلمّا بلغه مقتل أبيه امتعض ولحق بأحياء حصين ناجيا وصريخا. وجاءه وفد بني عامر من زغبة يدعونه للملك.
فسار إليهم. وقام بدعوته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصرها أياما. ثم سرّب أبو تاشفين المال في العرب فافترقوا عن أبي زيّان، وخرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة.
ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوّال. وبعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب، فجاءه بمدد من العساكر. ولما انتهى إلى تاوريرت، أفرج أبو زيّان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب، فوفد عليه صريخا فتلقّاه وبرّ مقدمه ووعده النصر من عدوّه. وأقام هنالك إلى حين مهلك أبي تاشفين، والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الخراج.(7/481)
(وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان)
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العبّاس ابن السلطان أبي سالم، ومؤدّيا الضريبة التي فرضها عليه منذ ملك، وأخوه الأمير زيّان عند صاحب المغرب ينتظر وعده بالنصر عليه، حتى تغيّر السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان. فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازى، وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به، ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤولة، فولّى بعده مكانه صبيا من أبنائه، وأقام بكفالته. وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلمّا بلغه الخبر أغذّ السير مع العرب فدخل تلمسان، وقتل أحمد بن العزّ والصبي المكفول ابن أخيه أبي تاشفين، فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب خرج إلى تازى، وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر وردّ أبا زيّان بن أبي حمّو إلى فاس، ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها واقام فيها دعوة أبيه. وتقدّم وزير أبيه صالح بن أبي حمّو إلى مليانة، فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف بن الزابية بحصن تاجمعومت وأقام الوزير صالح يحاصره. وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط، والله غالب على أمره.
وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط
كأن السلطان أبو العبّاس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الّذي تقدّم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حجّ(7/482)
سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق.
وتقدّمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله بعد قضاء حجّه هدية إلى صاحب المغرب، يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك. فلمّا قدم يوسف بها على السلطان أبي العبّاس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها. وشرع في المكافأة عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه. واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول. وأنه يرسله من تازى أيام مقامته تلك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم سنة ست وتسعين وسبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى وولّوه مكانه، ورجعوا به إلى فاس. وأطلقوا أبا زيّان بن أبي حمّو من الاعتقال، وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها، وقائما بدعوة السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها، وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عند ما بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك، وأسلموه إلى ثقات أبي زيّان. وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله، وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته. وهم على ذلك لهذا العهد، والله غالب على أمره، وهو على كل شيء قدير.
وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، وبقي علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين من أول الدولة. وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندوز أمرائهم بمراكش. فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
.(7/483)