بالوعيد لمن وجد عنده أحد من مماليك السلطان ونقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه الى القلعة وحبسوه وأوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم فقتلوا وعميت عليهم أنباء منطاش والعساكر وبعثوا من يقتص لهم الطريق ويسائل الركبان واعتزموا على قتل المسجونين بالقلعة ثم تلاوموا في ذلك ورجعوا الى التضييق عليهم ومنع المتردّدين بأقواتهم فضاقت أحوالهم وضجروا وأهمتهم أنفسهم وفي خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ الى سرب تحت الأرض يقضي الى حائط الاسطبل ففرحوا بذلك وتنسموا ريح الفرج ولما أظلتهم ليلة الأربعاء غرّة صفر سنة اثنتين وتسعين مرّوا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط وأفضوا الى أعلى الاسطبل وتقدّم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية وهجموا على الحراس فثاروا اليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم وهرب الباقون ونادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض ثم كسروا باب الاسطبل الأعلى والأسفل وأفضوا الى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم وهلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجيا ومرّ بالحاجب قطلوبقا ولحق بمدرسة حسن وقد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الاسطبل وأجرى لهم الأرزاق وجعلهم لنظر تنكز رأس نوبة ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبوا ماله وقماشه وسلاحه وركبوا خيله واستولوا على الاسطبل وقرعوا الطبول ليلتهم وقاتلهم بكا من الغد وسرب الرجال الى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها وزحف سراي تمر وقطلوبغا الحاجب الى الاسطبل لقتالهم وبرزوا اليهم فقاتلوهم واعتصموا بالمدرسة واستولى بكا على أمره وبعث الى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن اليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان وسرّب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش وأصحابه فعاثوا فيها وتسلل اليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفا أو يزيدون ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب وجاء به الى الناصري أمير سلاح ودمرداش وكان عنده فحبسهما بكا ثم وقف سودون على مدرسة حسن والأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر وقطلوبغا الحاجب فنزلا على أمانه وهمّ العوالم بهما فحال دونهما وجاء بهما الى بكا فحبسهما وركب سودون يوم الجمعة في القاهرة ونادى بالأمان والخطبة للسلطان فخطب له من يومه وأمر بكا بفتح السجون وإخراج من كان فيها في حبس منطاش وحكام تلك الدولة وهرب الوالي حسن بن الكوراني خوفا على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان ثم عثر عليه بكا وحبسه مع سائر شيعة منطاش وأطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر ودمياط والفيوم ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة وكان محبوسا وخرج معهم فبعثه مع أخيه(5/559)
أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان ووصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف بن محمد بن عيسى العائدي باعداد الميرة والعلوفة في منازل السلطان على العادة وقص خبر الواقعة وأنّ السلطان توجه الى مصر وانتهى الى الرملة ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك وتتابع الواصلون من عسكر السلطان ثم نزل بالصالحية وخرج السلطان لتلقيه بالعكرشة ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة وقلده الخليفة وعاد الى سريره ثم بعث عن الأمراء الذين كان حبسهم منطاش بالإسكندرية وفيهم الناصري والجوباني وابن بيبقا وقرادمرداش وأبغا الجوهري وسودون باق وسودون الطرنطاي وقردمر المعلم في آخرين متعدّدين واستعتبوا للسلطان فأعتبهم وأعادهم الى مراتبهم وولى انيال اليوسفي اتابكا والناصري أمير سلاح والجوباني رأس نوبة وسودون نائبا وبكاداودار وقرقماش استاذ دار وكمشيقا الخاصكي أمير مجلس وتطلميش أمير الماخورية وعلاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سرّه بمصر وعمر سائر المراتب والوظائف وتوفي قرقماش فولى محمود استاذ داره الأوّل ورعى له سوابق خدمته ومحنة العدوّ له في محبته وانتظم أمر دولته واستوثق ملكه وصرف نظره الى الشام وتلافيه من مملكة العدوّ وفساده والله تعالى أعلم.
ولاية الجوباني على دمشق واستيلاؤه عليها من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه
لما استقرّ السلطان على كرسيه بالقاهرة وانتظمت أمور دولته صرف نظره الى الشام وشرع في تجهيز العساكر لازعاج العدوّ منه وعين الجوباني لنيابة دمشق ورياسة العساكر والناصري لحلب لأنّ السلطان كان عاهد كمشيقا على اتابكية مصر وعين قرادمرداش لطرابلس مأمونا القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام ووظائفه وأمرهم بالتجهيز ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الاولى من سنة اثنتين وتسعين وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه وسائر عساكره وما زال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس فانصرف هواهم الى السلطان وبعث في أثناء ذلك الأمير ايمازتمر نائبا على حلب فاجتمع اليه أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحوا من خمسة أشهر وشدّ حصارها وأحرق باب القلعة والجسر ونقب سورها من ثلاثة مواضع واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع ثم بعث العساكر الى بعلبكّ مع محمد بن سند مر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين ثم أوعز الى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير(5/560)
الى حصار صفد فسار اليها وبرز اليه جندها فقاتلوه وهزموه فجهز اليها العساكر مع ابقا الصفدي كبير دولته فسار اليها في سبعمائة من العساكر وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح الى الطاعة والاعتصام بالجماعة وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل الى صفد بعث الى نائبها بطاعته وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا اليه وبات ليلته بظاهر صفد وارتحل من الغد الى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة وأمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف ولما رجع أصحابه من صفد الى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه وقبض على جماعة من الأمراء وعلى جنتمر نائب دمشق وابن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا الى السلطان مثل محمد بن سندمر وغيره وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أنّ السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرّة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين الى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم وذبح جماعة من الجراكسة وهمّ بقتل اشمس فدفعه الله عنه وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية الى الشام مع الجوباني يطوون المراحل والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين اليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه ودخلوا حدود الشام ثم ارتبك منطاش في أمره واستقرّ الخوف والهلع والاسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هاربا من دمشق في خواصه وأصحابه ومعه سبعون حملا من المال والأقمشة واحتمل معه محمد بن اينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به الى أبيه وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيما في أحيائه ومعه أحياء آل مر وأميرهم عنقا، فلحق بهم هنالك منطاش مستجيرا فأجاروه ونزل معهم ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه وأرسل الجوباني بالخبر فاغذ السير الى دمشق وجلس بموضع نيابته وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم وبلغ الخبر الى ايمازتمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة اليهم بعد أن أصلح الجسر وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش(5/561)
ثلاثة أيام ثم هزموهم وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب كانفوسا فأصبحت خرابا وعمر القلعة وحصنها وشحنها بالأقوات وبعث الجوباني العساكر الى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية الى يعبر بن جبار أمير العرب بإسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء ونهض الى مصر فلما انتهوا الى حمص أقاموا بها وبعثوا الى يعبر يعتذرون اليه فلج واستكبر وحال دونه وبعث اليه اشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري الى دمشق وكبسهم وأثخن فيهم ورجع الى العسكر وارتحلوا الى سلمية واستمرّ يعبر في غلوائه وتردّدت الرسل بينهما فلم تغن ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم الى الخيام واتبع دمرداش منطاش حتى جاوز به الحيّ وارتحلت العرب وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم وكان معهم آل على بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا وأفرد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق الى يعبر فقتله ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم ودخل الناصري الى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكبسهم واستلحم منهم جماعة فثأر منهم بما فعلوه في الواقعة ثم بعث اليه السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
اعادة محمود الى أستاذيةالدار واستقلاله في الدولة
هذا الرجل من ناشئة الترك وولدانهم ومن أعقاب كراي المنصوري منهم شب في ظل الدولة ومرعى نعمها ونهض بنفسه الى الاضطلاع والكفاية وباشر كثيرا من أعمال الأمراء والوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة وعرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده ونقد جوهره ثم الحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكلة الرمية ومضى قدما في مذاهب السلطان مرهف الحدّ قوي الشكيمة فصدق ظنه وشكر اختياره ثم دفعه الى معاينة الحبس وشدّ الدواوين من وظائف الدولة فجلا فيهما وهلك خلال ذلك استاذ الدار بهادر المنجكي سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرمانا لداره ودولته وانتضاره على دواوين الجباية من قراب اختياره ونقده جماعة للأموال غواصا على استخراج الحقوق السلطانية قارمنا للكنوز(5/562)
اكسيرا للنقود مغناطيسا للقنية يسابق أقلام الكتاب ويستوفي تفاصيل الحساب بمدارك الهامة وتصوّر صحيح وحدس ثاقب لا يرجع الى حذاقة الكتاب ولا الى أيسر الأعمال بل يتناول الصعاب فيذللها ويحوم على الأغراض البعيدة فيقربها وربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها ويفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها ونعمة أسبغ عليه لبوسها فقام بما دفع اليه السلطان من ذلك وأدرّ خروج الجباية فضاقت افنية الحواصل والخزائن بما تحصل وتسرّب اليها وكفى السلطان مهمة في دولته ومماليكه ورجاله بما يسوّغ لهم من نعمه ويوسع من أرزاقه وعطائه حتى أزاح عللهم بتوالي إنفاقه وقرّت عين السلطان باصطناعه وغص به الدواوين والحاشية ففوّقوا اليه سهام السعاية وسلطوا عليه السنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الإبريز ولم تعلق به ظنة ولا حامت عليه ريبة ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة والاعتقال وأودعته المحنة غيابات السجون وحفت به أنواع المكاره واصطلمت نعمته واستصفيت أمواله في المصادرة والامتحان حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأثر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب ومنطاش بعده بخمسة وخمسين ثم خلص ابريزه من ذلك السبك وأهل قمره بعد المحاق واستقل السلطان من نكبته وطلع بأفق مصره وتمهد أريكة ملكه ودفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرّة في الكفاية لمهمه وتوسيع عطاياه وأرزاقه وتمكين أحوال دولته وتسرّيت الجباية من غير حساب ولا تقرير الى خزائنه وأحسن النظر في الصرف والخرج بحزمه وكفايته حتى عادت الأمور الى أحسن معهودها بيمن تعبيته وسديد رأيه وصلابة عوده وقوّه صرامته مع بذل معروفه وجاهه لمن تحت يده وبشاشته وكفايته لغاشيته وحسن الكرامة لمنتابه ومقابلة من يأتي اليه بكرم مقاصده فأصبح طرازا للدولة وتاجا للخواص وقذفه المنافسون بخطإ العسايات فزلت في جهات حلم السلطان وجميل اغتباطه وتثبته حتى أعيتهم المذاهب وانسدّت عليهم الطرق ورسخت قدمه في الدولة واحتل من السلطان بكرم العهد والذمة ووثق بغنائه واضطلاعه فرمى اليه مقاليد الأمور وأوطأ عقبه أعيان الخاصة والجمهور وأفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسبانا وتقديرا وجمعا وتقريرا وكنزا موفرا وصرفا لا يعرف تبذيرا وبطرا وفي الإنهاء بالعزل والإهانة مشهورا مع ما يمتاز به من الأمر والشأن وسموّ مرتبته على مرّ الأزمان وهو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان الى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مرّ ذكره والله متولي الأمور لا رب غيره
.(5/563)
مسير منطاش ويعبر الى نواحي حلب وحصارها ثم مفارقة يعبر وحصاره عنتاب ثم رجوعه
ولما انهزمت العساكر بسلمية كما قلنا ارتحل يعبر في أحيائه ومعه منطاش وأصحابه الى نواحي حلب وسار يعبر الى بلد سرمين من اقطاعه ليقسمها في قومه على عادتهم وكان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته فلما وافاها يعبر هربوا الى حلب فلقوا في طريقهم احمد بن المهدار في العساكر وقد نهض الى يعبر فرجعوا عنه ولقيهم علي بن يعبر فقاتلوه وهزموه وقتلوا بعض أصحابه صبرا ورجع يعبر الى أحيائه وارتحلوا الى حلب فحاصروها وضيقوا عليها أيام رمضان ثم راجع يعبر نفسه وراسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة واعتذر عما وقع منه وطوق الذنب بالجوباني وأصحابه أهل الواقعة وسال الأمان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا الى السلطان وأخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان الى سؤاله وشعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب وخادع يعبر الى الغارة على التركمان بقربهم فأذن للعرب في المسير معه وسار معه منهم سبعمائة فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل وأخذها ولحق بالتركمان ونزل بمرعش بلد أميرهم سولي ورجع العرب مشاة الى يعبر فارتحل الى سبيله راجعا وسار منطاش الى عنتاب من قلاع حلب ونائبها محمد بن شهري فملكها واعتصم نائبها بالقلعة أياما ثم ثبت منطاش وأثخن في أصحابه وقتل جماعة من أمرائه وكانت العساكر قد جاءت من حلب وحماة وصفد لقتاله فهرب الى مرعش وسار منها الى بلاد الروم واضمحل أمره وفارقه جماعة من أصحابه الى العساكر وراجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين وبعث سولي بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن الى السلطان فأمنه وولاه على البلستين كما كان والله سبحانه وتعالى أعلم.
قدوم كمشيقا من حلب
قد كان تقدّم لنا أنّ كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائبا بطرابلس وأنّ السلطان عزله وحبسه بدمشق فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الاعتقال وجاء في جملته إلى مصر فلما ولي على مماليك الشام وأعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى وسبعين ولما استقل السلطان من النكبة وقصد دمشق كما مرّ أرسل كمشيقا إليه بطاعته ومشايعته على أمره وأظهر دعوته في حلب وما اليها من اعماله ثم سار السلطان الى دمشق وحاصرها وامدّه كمشيقا بجميع(5/564)
ما يحتاج إليه ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخا وحمل إليه جميع حاجاته وأزاح علله وأقام له رسوم ملكه وشكر السلطان أفعاله في ذلك وعاهده على أتابكية مصر ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بها وحاصره يماز تمر أتابك منطاش أشهرا كما مرّ ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرب فأفرج أيمازتمر عن حلب ثم كانت واقعة الجوباني ومقتله وزحف منطاش ويعبر إلى حلب فحاصروها مدّة ثم وقع الخلاف بينهما وهرب منطاش إلى بلاد التركمان ورجع يعبر إلى بلده سلمية واستأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوّال ولما أفرجوا عن حلب نزل كميشقا من القلعة ورمّ خرابها وخرب بانقوسا واستلحم أهلها وأخذ في إصلاح أسوار حلب ورمّ ما ثلم منها وكانت خرابا من عهد هلاكو وجمع له أهل حلب ألف ألف درهم للنفقة فيه وفرغ منه لثلاثة أشهر ولما استوسق أمر السلطان وانتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وولى مكانه في حلب قرادمرداش نقله إليها من طرابلس وولى مكانه أنيال الصغير فسار كمشيقا من حلب ووصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث وتسعين فاهتز له السلطان وأركب الأمراء للقائه مع النائب ثم دخل إلى السلطان فحياه وبالغ في تكرمته وتلقاه بالرحب ورفع مجلسه فوق الأتابك انيال وأنزله بيت منجك وقد هيأ فيه من الفرش والماعون والخرثيّ ما فيه للمنزل ثم بعث إليه بالأقمشة وقرّب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة وتقدّم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتناغوا في ذلك وجاءوا من وراء الغاية وحضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي وحسن الكشكي فأكرمهما السلطان واستقرّ كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع وتسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب وجعل إليه نظر المارستان على عادة الأتابكية واستمرّ على ذلك لهذا العهد والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
استقدام أيتمش
كان أيتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان وسار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى وتسعين لقتال الناصري وأصحابه لما انتقض عليه وكانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق وانهزمت العساكر ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق ومعه كتب السلطان في دخولها متى اضطر إليه فامتنع بها وملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش وأقام حبيسا موسعا عليه ثم سار الناصري إلى مصر وملكها وعاد السلطان إلى كرسيه(5/565)
في صفر سنة اثنتين وتسعين كما فصل ذلك من قبل وأيتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة وخلص أيتمش من اعتقاله وفتق مماليك السلطان السجن الّذي كانوا فيه بقلعة دمشق وخرجوا واعصوصبوا على أيتمش قبل مجيء الجوباني وبعث إليه بالخبر وبعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدّم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ من أمر عدوّه ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش والعرب ومقتله وولاية الناصري على دمشق مكانه ثم افترق العرب وفارقهم منطاش إلى التركمان وانتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان واستوسق ملكه واستفحلت دولته فاستدعي الأمير أيتمش من قلعة دمشق وسار لاستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين ووصل إلى مصر رابع جمادى الأولى من السنة ووصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق ومعه الأمراء الذين حبسوا بالشام منهم جنتمر نائب دمشق وابنه وابن أخته وأستاذ داره طنبقا ودمرداش اليوسفي نائب طرابلس والطنبقا الحلي والقاضي أحمد بن القريشي وفتح الدين بن الرشيد وكاتب السرّ في ست وثلاثين نفرا من الأمراء وغيرهم ولما وصل أيتمش قابله السلطان بالتكرمة والرحب وعرض الحاجب المساجين الّذي معه ووبخ السلطان بعضهم ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ فيهم قضاء الله وقتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم والله تعالى مالك الأمور لا رب سواه انتهى.
هدية إفريقية
كان السلطان قد حصل بينه وبين سلطان إفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودّة والتئام وكانت كثيرا ما تجدّدها الهدايا من الجانبين ونذكرها إن شاء الله تعالى ولما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان وما كان أمره امتعض له هذا السلطان بتونس وتفجع لشأنه وأقام يستطلع خبره ويستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه حتى وقف على الجليّ من أمره وما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه وعوده إلى كرسيه فملأ السرور جوانحه وأوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من القربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن أبي هلال فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة اثنتين وتسعين فتلقاه السلطان بالكرامة وركب محمود استاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق وأنزل ببيت طشتمر بالرميلة قبالة الإصطبل وأجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله ورغب من السلطان في الحج فحج وأصحب هدية(5/566)
إلى مرسلة من ثياب الوشي والديباج والسلاح بما لم يعهده مثلها وانصرف آخر ربيع سنة ثلاث وتسعين والله تعالى أعلم بغيبه.
حصار منطاش دمشق ومسير السلطان من مصر إليه وفراره ومقتل الناصري
لم يزل منطاش شريدا عند التركمان منذ فارق العرب ولما كان منتصف سنة ثلاث وتسعين اعتزم على قصد دمشق ويقال أن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب وتقدّم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس ودخل منطاش حماة ونادى فيها بالأمان ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبكّ وهرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته وسار على طريق الريداني فخالفه منطاش إلى دمشق وقدم إليها أحمد شكار بن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية والبندمرية وفتحوا له أبواب البلد ومرّ باصطبلات فقاد منها نحوا من ثمانمائة فرس وجاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق وأنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر وفي جامع شكن وجامع بيبقا وشرع في مصادرة الناس والفريضة عليهم وأقام يومه في ذلك وإذا بالناصري قد وصل عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات ومن الغد كذلك وأقام كل واحد منهما في حومته والقتال متصل بينهما سائر رجب وشعبان ولما بلغ الخبر إلى السلطان ارتاب بالناصري واتهمه بالمداهنة في أمر منطاش وتجهز لقصد الشام وأدى في العساكر بذلك عاشر شعبان وقتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين وأشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط وخرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر وقضوا حاجاتهم واستخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي وأنزله الإصطبل وجعل له التصرّف في التولية والعزل وترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك وتحت أمره وأنزل النائب سودون بالقلعة وترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر وأخرج معه القضاة الأربعة والمفتين وارتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام وجاء الخبر رابع الشهر بأنّ منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن [1] أمير آل مراء الصريخ منطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري وقتل
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم والد عنقا.(5/567)
جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك وغيره ثم خرج الناصري من الغد في إتباع منطاش وقد ذكر له أن الفلاحين نزعوا من نواحي دمشق واحتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ففارقه أتابكه يماز تمر إلى الناصري في أكثر العساكر وولي هاربا ورجع الناصري إلى دمشق وأكرم ايمازتمر وأجمل له الوعد وجاءه الخبر بأنّ السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون وبالغ السلطان في تكرمته وترجل حين نزوله وعانقه وأركبه بقربة وردّه إلى دمشق ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق وخرج الناصري ثانية ودخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة والأمراء مشاة بين يديه والناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه وبعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه وأنه اتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك واستأمن السلطان وضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه وكتب إليه بإجابة سؤاله ولما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوّال إلى حلب في طلب منطاش ولقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقادر أمير التركمان بهديته واستئمانه وعذره عن تعرضه لسيس وأنه يسلمها لنائب حلب فقبل السلطان منه وأمنه ووعده بالجميل ثم وفد عليه أمراء آل مهنا وآل عيسى في الطاعة ومظاهرة السلطان على منطاش ويعبر وأنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان وفادتهم وتقبل طاعتهم وسار إلى حلب ونزل بالقلعة منها ثاني شوّال ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبرا ومرّ ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك وقبضوا على جماعة من أصحابه وخلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان فقبض عليه وأرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه ويطلب بعض أمراء السلطان قراد مرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش وأتبعه بالناصري وأرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش وانتهى أنيال إلى رأس العين وأتى أصحاب سلطان ماردين وتسلم منهم أصحاب منطاش وكتب سلطانهم بأنه معتمل في مقاصد السلطان ومرتصد لعدوّه وانتهى قراد مرداش إلى سالم الرودكاري وأقام عنده أربعة أيام في طلب منطاش وهو يماطله فأغار قراد مرداش عليه ونهب أحياءه وفتك في قومه وهرب هو ومنطاش إلى سنجار وجاء الناصري على أثر ذلك ونكر على دمرداش ما أتاه وارتفعت الملاجة بينهما حتى همّ الناصري به ورفع الآلة بضربه ولم يحصل أحد منهم بطائل ورجعوا بالعساكر إلى السلطان وكتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش وأن الناصري كتب إليه وأمره بالمحافظة على منطاش وأن فيه زبونا للترك فجلس السلطان بالقلعة جلوسا ضخما سادس ذي الحجة من السنة(5/568)
واستدعى الناصري فوبخه ثم قبض عليه وعلى ابن أخيه كشلي ورأس نوبة شيخ حسن وعلى أحمد بن الهمدار الّذي أمكنه من قلعة حلب وأمر بقتله وقشتمر الأشرفي الّذي وصل من ماردين معهم وولى على نيابة دمشق مكانه بطا الدوادار وأعطى إقطاعه لقراد مرداش وأمره بالمسير إلى مصر وولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة وولى أبا يزيد دوادارا مكان بطا ورعى له وسائله في الخدمة وتردّده في السفارة بينه وبين الناصري أيام ملك الناصري وأجلب على مصر وأشار عليه الناصري بالانتقاء كما ذكرناه فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك ثم ارتحل من حلب ووصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة وقتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة وعشرين وولى على العرب محمد بن مهنا وأعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان وقفل إلى مصر ولقيه الأتابك كمشيقا والنائب سودون والحاجب سكيس ثم دخل إلى القلعة على التعبية منتصف المحرّم سنة أربع وتسعين في يوم مشهود ووصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بطا نائب دمشق فولي مكانه سودون الطرنطاي ثم قبض في منتصف صفر على قراد مرداش الأحمدي وهلك في محبسه وقبض على طنبقا المعلم وقردم الحسيني وجاء الخبر أواخر صفر من السنة بأنّ جماعة من المماليك مقدمهم إيبقا دوادار بذلار لما هلك بطا واضطرب أصحابه وهرب بعضهم عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق وهجموا عليها وملكوها ونقبوا السجن وأخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري ومنطاش وهم نحو المائة وركبت العساكر إليها وحاصروها ثلاثا ثم هجموا على الباب فأحرقوه ودخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين وقتلوهم وفرّ إيبقا دوادار بذلار في خمسة نفر وانحسمت عللهم ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس وولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل منطاش
كان منطاش فرّ مع سالم الرودكاري إلى سنجار وأقام معه أياما ثم فارقه ولحق بيعبر فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوّجها وأقام معهم ثم سار أوّل رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه ثم طال على يعبر أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة فكتب له الدوادار(5/569)
أبو يزيد على لسانه بالإجابة الى ذلك ثم وفد محمد بن [1] سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم وهزموهم وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والحفاء فأردفه ابن يعبر ونجابه وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن أنيال وجيء برءوسهما إلى دمشق وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم ثم زحف يعبر ومنطاش في العساكر أوّل جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماه وخالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي وأكمن لهم ينتظر رجوعهم وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان ومنابذا لعمه وذكوان بن يعبر على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودس معه إلى بني يعبر بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعا ورغبوهم فيما عند السلطان ووصفوا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والانحراف عن الطاعة وعرضوا على يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم يعبر فحلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فامكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجالة حتى أوصلوه ودخل إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة وبعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم والده.(5/570)
حوادث مكة
قد كان تقدّم لنا أنّ عنان بن مقامس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها وساء أثر عنان وعجز عن مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم وامتدّت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدّة للسلطان والأمراء والتجار ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبيّ من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالإصلاح بين الشرفاء ولما وصل الأمير إلى مكة يومئذ قرقماش خشي الإشراف منه واضطرب عنان وركب للقائه ثم توجس الخيفة وكرّ راجعا وأتبع الأشراف واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه ولم يزل محبوسا إلى أن خرج مع بطا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة ثنتين وتسعين وبعثه مع أخيه إيبقا يستكشف خبر السلطان كما مرّ وانتظم أمر السلطان بسعاية بطا في العود إلى إمارته رعيا لما كان بينهما من العشرة في البحر وأسعفه السلطان بذلك وولاه شريكا لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين وأمرهما مضطرب والأشرف مصوصبون على عنان وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد والعبيد كذلك وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أوّل شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما ورفع مجلس علي على سائرهم ولما انقضى الفطر ولي علي بن عجلان مستقلا واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة والخيول والممالك والحبوب وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعدّ الرواحل ليلحق بمكة هاربا فقبض عليه وحبسه بالقلعة وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه وهو مقيم على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره أنه على كل شيء قدير
.(5/571)
وصول أحياء من التتر وسلطانهم إلى صاحب بغداد واستيلاؤه عليها ومسير السلطان بالعساكر إليه
كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوبا وبلاد القفجاق وبلغار شمالا ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدّم في أخبارهم ويأتي إن شاء الله تعالى وكان أوّل من خرج منهم ملكهم جنكزخان أعوام عشر وستمائة واستقلوا بهذه الممالك كلها ثم انقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة وبلاد الروم ولبني جفطاي خوارزم وما إليها واستمرّت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة انقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد أخرهم ولم يعقب وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصبهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي وأصبهان وفارس وسجستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي دمرداش بن جوبان وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن أيبغا بن أيكان وأيكان سبط أرغون بن أبغا بن هلاكو ولبنيه وهو من كبار المغل في نسبه ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلا بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل واستقرّ ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغون كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل والتتر ينسب هو وقومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي بن جنكزخان أو جفطاي آخر من شعوب المغل والأوّل أقرب لما قدّمته من ولاية جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه وان اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الّذي مع تمر وقصر المدّة أنّ هذه المدّة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأنّ جفطاي كان لعهد أبيه جنكزخان يقارب الأربعين فهذه المدّة أزيد من خمسة من العصور لأنّ العصر أربعون سنة وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف وأن فرضنا أنّ المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في(5/572)
الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفا وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين وثلاثين وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفا والسبعة أقل ما يمكن من الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل والستة عشر ألفا عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها من يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها وقتل الشيخ ولي في حروبه ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة وأطلّ بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل وكانت الحروب بينهم سجالا ثم تأخر إلى ناحية أصبهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان وهو صاحب كرسي صراي أمدّه بأمواله وعساكره فكرّ راجعا إلى بلده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعا وملكها ثم خطى إلى أصبهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبدّدت جموعهم وراسله صاحب بغداد أحمد بن أويس وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليلة ومرّ بجسر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوّال سنة خمس وتسعين وأجازوا دجلة سبحا ودخلوا بغداد واستولوا عليها وبعث العساكر في إتباع أحمد فلحقوا بأعقابه وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكرّ عليهم في جموعه وقتل الأمير الّذي كان في إتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأنّ تمرعاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوّه فأجاب السلطان صريخه(5/573)
ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة ورصد السابلة وأتاح عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأسرها ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها واشفوا نعمتها وافترق أهلها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياما أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمه وسرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصدا للعدوّ فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعة بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كميشقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدوّ قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ست وتسعين مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته والله ولي الأمور وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد والله مقدّر الأمور وخالقها
.(5/574)
دولة بني رسول الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم
قد كان تقدّم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن [1] ابن المظفر وانتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس وقد تقدّم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلا الى مصر وهلك جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة وولي بعده ابنه الكامل وجدّد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره في تأخير أعلام الخليفة عن أعلامه ما مرّ في أخبار دولتهم ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرها حسن بن قتادة من بني مطا عن إحدى بطون بني حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود وملك مكة وولى عليها ورجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق ورجع ابن قتادة إلى مكة ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف وأقام مملكا على اليمن إلى أن خلع وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الّذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه ثم خلع علي بن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبدّ بملك اليمن وأخذه بدعوة الكامل بمصر وبعث أخويه رهنا على الطاعة ثم هلك سنة تسع وعشرين وولي ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول ولما هلك علي بن منصور ولى بعده الكامل ابنه عمر ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور ومنع الإتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 116: سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.(5/576)
وحبسهم وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مرّ في أخبارهم ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطئ وكان تحصن بملا وكان الحديث شائعا بين الزيدية بأنّ الأمر يرجع إلى بني الرسي وكان أحمد فقيها أديبا عالما بمذهب الزيدية مجتهدا في العبادة وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة وأهمّ عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملامدة ثم أفرج عنه وجهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له ولم يزل قائما بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف وكان عادلا محسنا وفرض الإتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها وكان لأوّل ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره وتمكن أحمد الموطئ الثائر بحصن ملامن الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصنا من حصون الزيدية وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل ولم يزل المظفر واليا على اليمن إلى أن هلك بغته سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر وكان أخوه داود واليا على الشحر فدعا لنفسه ونازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه واستمرّ الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهرا من ولايته [1] أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرج أخاه مؤيد الدين داود من معتقله وولوه عليهم ولقبوه المؤيد وافتتح أمره بقتل الجارية التي سمت أخاه وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردّوها عليه ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 33: وتوفي والملك المؤيد داود في الاعتقال مقيدا.(5/577)
ملكه وكان فاضلا شافعيّ المذهب وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة والله وارث الأرض ومن عليها.
ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف وحبسه
ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية بالعزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد وغلب على جلال الدين وحبسه والله تعالى أعلم.
ثورة جلال الدين ثانيا وحبس المجاهد وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف
وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلا بلهوه عاكفا على لذاته وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى [1] سنة اثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين وفتك بحرمة وقبض عليه وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر وأطلق جلال الدين ابن عمه والله تعالى أعلم بغيبه.
__________
[1] بياض بالأصل، وفي تاريخ أخبار البشر ج 4 ص 91 وفيها سنة 722 ليلة الثلاثاء في ذي الحجة توفي بمرض ذات الجنب بتعز الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، فاتفق أرباب الدولة وأقاموا ولده علي ولقب بالملك المجاهد سيف الإسلام بن داود المذكور، وهو إذ ذاك أول ما قد بلغ. ثم خرج عليه عمه الملك المنصور أيوب ولقبه زين الدين أخو داود في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فملك اليمن واعتقل ابن أخيه سيف الإسلام. وقعد المنصور في مملكة اليمن دون ثلاثة أشهر، ثم هجم من العسكر وأخرجوا سيف الإسلام وأعادوه إلى ملك اليمن واعتقلوا عمه المنصور أيوب، وبقي أمر مملكة اليمن مضطربا غير منتظم الأحوال.(5/578)
خلع المنصور أيوب ومقتله وعود المجاهد إلى ملكه ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له
ولما جلس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه ورجع أهل اليمن لطاعته وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه وامتنع بها وكتب إليه المجاهد يهدّده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما وعظمت الفتنة وافترق عليهما العرب وكثر عيثهم وكثر الفساد وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفا على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الردّ على أبيه ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه واجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب وبعث عسكرا مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها وجهز المجاهد عساكره إليها مع قائده علي بن الدوادار ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها ثم استمال صاحب صنعاء وحوض فقاموا بدعوة الظاهر وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه وهو بحصن المعدية وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقرّ له باليمن والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه.
وصول العساكر من مصر مددا للمجاهد واستيلاؤه على أمره وصلحه مع الظاهر
ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية، بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاون سنة خمس وعشرين، فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وانيال من أمراء دولته، ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن(5/579)
إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة، وتحالفوا على ذلك. وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الّذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع عن إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز، واثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حتى أطاعوا، وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين والله سبحانه وتعالى أعلم.
نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة ومقتله
ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه واحكام الوصلة به حتى اطمأن، وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة وولى عليها من قبله وصار الظاهر في جملته. ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز. ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين والله تعالى أعلم.
حج المجاهد علي بن المؤيد داود وواقعته مع أمراء مصر واعتقاله بالكرك تم إطلاقه ورجوعه إلى ملكه
ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وهي السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميرا وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيدا لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه. فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيدا. وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة وأطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله. وحمل المجاهد إلى مصر معتقلا فحبس ثم أطلق سنة اثنتين وخمسين في دولة الصالح. وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده. فلما انتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه، وأقام على مهاداة صاحب مصر وصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه.(5/580)
ولاية الأفضل عباس بن المجاهد علي
ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابنه عباس واستقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه والله تعالى أعلم.
ولاية المنصور محمد بن الأفضل عباس
ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره واجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين وثمانين للثورة به وقتله وأطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة وأخذهم العرب في طريقهم وجاءوا بهم وعفا عنهم واستمرّ في ملكه إلى أن هلك والله تعالى أعلم.
ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس
ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة [1] ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.(5/581)
الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك وكيف تغلبوا على الممالك الإسلامية وانتزوا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول المفترقة وكيف أسلموا بعد ذلك ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك وأنّ الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح، وهو الّذي وقع في التوراة. وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغزّ الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج، وبلاد الصغد قريبا من سمرقند ويسمون بها أيضا. وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر، وكانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج، ويقال أنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام، وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان ويقال الآن وجركس واركش. وعدّ صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسه والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلج وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكز، وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقة من أرض الروم وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء الهز شرقا إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم الأول إلى السابع، والصين في وسط بلادهم.
وكانت الصين أولا لبني صيني إخوانهم من بني يافث. ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلا من أطرافه على ساحل البحر، وهم رجاله كما مرّ في ذكرهم أول الكتاب وفي دولة السلجوقية وأكثرهم من المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان. وكان لهم قبل الإسلام دولة، ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان. وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام، فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم، وغلبوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم وذلك من بعد القرن الأول.
وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر، ولا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك.
وقد قيل فيهم أنهم من ولد قراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم، وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم، مثل كسرى للفرس وقيصر(5/583)
للروم. وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها، وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العبّاس حرب وسلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعا. وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان.
وقد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة، ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها، وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب، وعلى اليمن والحجاز والشام وفتحوا كثيرا من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة. ثم تلاشت دولتهم وانقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول وسنة الله في العباد.
وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وحدود الصين. ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان ابن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين، ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية، وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه. وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر، فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم، وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك، واستولى على ما وراء النهر.
ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته، ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد، ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر. ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه، ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه. وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم، فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة، وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم، وملك سائر بلاد الخطا(5/584)
إلى أوركندا، وأنزل به نوابه وزوّج أخته من الخان صاحب سمرقند وأنزل معه شحنة كما كانت للخطأ وعاد إلى بلاده.
وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم، وهمّ بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند واقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه، ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر، وأنزل في سائر البلد نوابه. وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان، وكان ملكهم كشلي خان ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب، يقع بين الأمم المتجاورة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم، وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم، فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته. وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذا عنهما وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتدّ عليه بهزيمة الخطا وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وبعث خوارزم شاه بحربهم ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء وكشلي خان يعذله في ذلك وهو يغالطه واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وبلاساغون ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش وفرغانة وأسبيجاب وقاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين وخرب جميعها خوفا أن يملكها التتر بعد ذلك وخرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل وملكه جنكزخان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه وعبر النهر إلى خراسان ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر وخراسان ومهلك خوارزم شاه وتولية محمد بن تكش
ولما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه وبين بغداد من خراسان ومازندران وباميان وغزنة إلى بلاد الهند وغلب الغورية على ما بأيديهم ثم ملك الريّ وأصبهان وسائر(5/585)
بلاد الجبل وسار إلى العراق وبعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مرّ ذلك كله في أخبار دولتهم ثم عاد من العراق سنة ست عشرة وستمائة واستقرّ بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من نقرة المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما بينها من بلاد الترك ويطلب الموادعة والإذن للتجار بالتردّد لمتاجرهم من الجانبين وكان في خطابه إطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك وامتعض له وأجمع عداوته واستدعى محمودا الخوارزمي من رسل جنكزخان واصطنعه ليكون عينا له على صاحبه واستخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين واستولى على مدينة طوغاج فصدّق له ذلك وسأله عن مقدار العساكر فقللها وغشه في ذلك ثم نكر عليه الخطاب بالولد ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار ووصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار وبها أنيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثر على أموالهم ورفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم ففعل وأخذ أموالهم وقتلهم خفية وفشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك وقال له إن كان فعله أنيال خان فابعثه إليّ وتهدّده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها وقتل الرسل وبلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر إلى بلاده وجبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها ثم سار للقاء جنكزخان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم وهو غائب عنهم ورجع خوارزم شاه إلى جيحون وأقام عليه وفرّق عساكره في أعمال ما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ وأنزل آبنايخ من أكبر أمرائه وأصحاب دولته في بخارى وجهلهم لنظره ثم جاء جنكزخان إليه فعبر النهر مجفلا وقصد جنكزخان أطرار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها أنيال خان الّذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه وعينيه ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى خربها ثم غدر بهم فقتلهم وسباهم وفعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة ثم كتب كتابا إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه والبراءة من خوارزم شاه وذمّه بعقوق أمّه فبسط آمالهم في كتبه ووعد تركمان خاتون أمّ السلطان وكانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان وأن تبعث من يستخلفه على ذلك وبعث بالكتب من يعترض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمّه وبقرابتها فاستوحشوا ووقع التقاطع والنفرة ولما استولى جنكزخان على ما وراء النهر ونجا نائب بخارى في الفل(5/586)
أجفل السلطان وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وتخاذل الناس وسرّح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها وارتحل إلى مازندان والتتر في أثره ثم انتهى إلى همذان فكبسوه هنالك وفرقوا جموعه ونجا إلى جبال طبرستان فأقام بقرية بساحل البحر في فل من قومه ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا وأقام خوارزم شاه بالجزيرة ومرض بها ومات سنة سبع عشرة وستمائة وعهد لابنه جلال الدين سكري ولما بلغ خبر اجفاله إلى أمّه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية واعتصمت بقلعة أيلاز من مازندان ورجع التتر عن إتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندان وملكوها وملكوا قلعة أيلاز صلحا وأسروا أمّ السلطان وبناته وتزوّجهنّ التتر وتزوّج دوشي خان بن جنكزخان واحدة وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل وخمول والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق وأذربيجان واستيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق والروس وبلاد الخزر
ولما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان وانتسفوا ما مروا عليه، وصانعهم أهل همذان بما طلبوه، ثم ساروا إلى سنجار كذلك، ثم إلى قومس فامتنعوا منهم وحاصروها وملكوها غلابا وقتلوا أكثر من أربعين ألفا ثم ساروا الى آذربيجان وصانعهم صاحب تبريز وانصرفوا الى موقان ومروا ببلاد الكرج فاكتسحوها وجمعوا لهم فهزموهم واثخنوا فيهم وذلك آخر سنة سبع عشرة ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة واستباحوها ورحلوا عنها إلى أربل، وبها مظفر الدين كوكبري. واستمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر. ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره وولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم وخاموا عن لقائه.
وساروا إلى همذان وبها شحنتهم فامتنعوا من مصانعتهم وقاتلوهم فملكوها عنوة واستباحوها واستلحموا أهلها، ورجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل واستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز، وقد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان، وساروا إلى(5/587)
بيلقان وملكوها عنوة وافحشوا في القتل والمثلة واكتسحوا جميع الضاحية. ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أرّان فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم وحاصروهم بقاعدتهم تفليس، وردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها.
ثم قصدوا دربند شروان وحاصروا مدينة سماجي ودخلوه عنوة وملكوه واستباحوه، وأعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح، فبعث إليهم رجالا من أصحابه فقتلوا بعضهم وقتلوا الباقين أذلاء. وأفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة، وبها من القفجاق واللاز والغز وطوائف من الترك مسلمون وكفار أمم لا تحصى. ولم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم. ثم اكتسحوها وأوسعوهم قتلا وسبيا وفر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم واعتصم الباقون بالجبال والغياض. وانتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال وركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان.
ثم سار التتر سنة عشرين وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها، وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم، ومعهم جموع من القفجاق أياما. ثم انهزموا واثخن فيهم التتر قتلا وسبيا ونهبا، وركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر، ثم عادوا عنها وقصدوا بلغار آخر السنة.
واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل. وارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان، ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها. والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
مسير جنكزخان إلى خراسان وتغلبه على أعمالها وعلى خوارزم شاه
وكان جنكزخان بعد أن أجفل خوارزم شاه في جيحون ومسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكرا إلى ترمذ، وعسكرا إلى خوارزم وعسكرا إلى خراسان. وكان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك ومأوى العساكر، وبعث مع العساكر ابنه جفطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر، وامتنعت فأمدهم جنكزخان بالعساكر متلاحقة، وملكوها ناحية إلى أن استوعبوا. ثم نقبوا السد الّذي يمنع ماء جيحون عنها فسال إليها(5/588)
جيحون ففرقها وتقسم أهلها بين السند والعراق، وهكذا قال ابن الأثير. وقال النسابي كاتب جلال الدين: إن دوشي خان عرض عليهم الأمان وخرجوا إليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرّم سنة سبع عشرة وعاد دوشي خان والعساكر إلى جنكزخان فوجدوه بالطالقان.
وأما عسكر ترمذ فساروا إليها وملكوها وتقدموا إلى كلابه من قلاع جيحون فملكوها وخربوها، وعسكر فرغانة كذلك. وأما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع عشرة وأنزلوا بها شحنة. ثم ساروا إلى الزوزان وأيد حور ومازندان فملكوها وولوا عليها. ثم ساروا إلى الطالقان وحاصروا قلعة صاركوه وكانت منيعة، وجاءهم جنكزخان بنفسه بعد امتناعها ستة أشهر فحاصروها أربعة أشهر أخرى. ثم أمر بنقل الخشب والتراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد. فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في البلاد والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر فاستباحوها. وبعث جنكزخان عسكرا إلى سبا مع صهره قفجاق نون فقتل في حصارها ثم ملكوها فاستباحوها وخربوها.
ويقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفا. ثم بعث جنكزخان في العساكر إلى مدينة مرو، وقد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا يشكون في الظفر، فلما زحف إليهم التتر ولوا منهزمين وأثخنوا فيهم. ثم حاصروا البلد خمسة أشهر واستنزلوا أميرها على الأمان. ثم قتلوهم جميعا وحضر جنكزخان قتلهم. يقال قتل فيها سبعمائة ألف. ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنده وقتلوا وعاثوا، ثم إلى طرابلس كذلك. ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان وأنزلوا عندهم الشحنة وعادوا إلى جنكزخان بالطالقان، وهو يرسل العساكر والسرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا، وذلك كله سنة سبع عشرة، والله تعالى أعلم.
إجفال جلال الدين ومسير التتر في إتباعه وفراره إلى الهند
ثم بعث العساكر في طلب جلال الدين وقد كان بعد مهلك أبيه وخروج تركمان خاتون من خوارزم سار إليها وملكها واجتمع إليه الناس ثم نمي إليه أنّ قرابة تركمان خاتون وهم البياروتية مالوا إلى أخيه يولغ شاه وابن أختهم وأنهم يريدون الوثوب بجلال الدين ففرّ ولحق بنيسابور وجاءت عساكر التتر إلى خوارزم فأجفل يولغ شاه وأخواه ليلحقوا به بنيسابور فأدركهم التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحمهم ثم سار إلى غزنة فملكها من يد الثوار الذين استولوا عليها أيام هذه الفتنة وذلك سنة ثمان عشرة ولحق به أمراء أبيه الذين تغلبوا على نواحي(5/589)
خراسان في هذه الفتنة وأزعجهم التتر عنها فحضروا مع جلال الدين كبسه التتر بقلعة قندهار ولحق فلهم بجنكزخان وبعث ابنه طولي خان لقتال جلال الدين فهزمه جلال الدين وقتله ولحق الفل من عساكره بجنكزخان فسار في أمم التتر ولقي جلال الدين فانهزم ولم يفلت من التتر إلا الأقلّ ورجع جلال الدين فنزل على نهر السند وقد كان جماعة من أمرائه انعزلوا عنه يوم الواقعة الأولى بسبب الغنائم فبعث إليهم يستألفهم فعاجله جنكزخان وقاتله ثلاثا ثم هزمه واعترضه نهر السند فاقتحمه وخلص إلى السند بعد أن قتل حرمه أجمعين وذلك سنة ثمان عشرة والله تعالى أعلم.
أخبار غياث الدين بن خوارزم شاه مع التتر
كان خوارزم شاه قد قسم الملك بين ولده فجعل العراق لغورنشاه وكرمان لغياث الدين تمر شاه فلم ينفذ إليها أيام أبيه فلما فرّ خوارزم شاه إلى ناحية الريّ لقيه ابنه غورنشاه صاحب العراق ثم كانت واقعة التترية على حدوى ولحق خوارزم شاه بجزيرة طبرستان ولحق غورنشاه بكرمان ثم رجع واستولى على أصبهان وعلى الري ثم زحف التتر إليه وحاصروه بقلعة أوند وقتلوه وكان أخوه غياث الدين بكرمان وملكه بينه وبين بقا طرابلسي أتابكه وفرّ إلى ناحية أذربيجان واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخوزستان فأقطع بقا طرابلسي همذان ثم سار غياث الدين إلى أذربيجان فصانعه صاحبها أزبك بن البهلوان ولحق به من كان متغلبا من أمراء أبيه بخراسان وكان أبنايخ خان نائب بخارى قد تغلب بعد الواقعة على نسا ونواحيها وجرجان وعلى شيروان وعامّة خراسان وكان تكين بهلوان متغلبا على مرو فعبر جيحون سنة سبع عشرة وكبس شحنة التتر وأتبعوه إلى شيروان ولقوا إبنايخ خان على جرجان فهزموه ونجا فلهم إلى غياث الدين على العراق والريّ وما وراءها في الجنوب من موكان وأذربيجان وبقيت خوارزم طوائف وفي كلّ ناحية منها متغلب وعساكر التتر في كلّ وقت تدوّخ بلاد العراق وغياث الدين منهمك في لذاته والله تعالى أعلم.
رجوع جلال الدين من الهند واستيلاؤه على العراق وكرمان وأذربيجان ثم زحف التتر إليه
ثم رجع جلال الدين من الهند سنة إحدى وعشرين واستولى على ملك أخيه غياث الدين(5/590)
بالعراق وكرمان وبعث إلى الخليفة يطلب الخطبة فلم يسعف فاستعدّ لمحاربته وقد كانت بلاد الري من بعد تخريب التتر المغربة لها عاد إليها بعض أهلها وعمروها فبعث إليها جنكزخان عسكرا من التتر فخربوها ثانية وخربوا ساوة وقم وقاشان وأجفل أمامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها واتبعوهم فكبسوهم في حدود أذربيجان ولحق بعضهم بتبريز والتتر في اتباعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان وبعث بهم إلى التتر الذين في أتباعهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برءوسهم وبالأموال على سبيل المصانعة فرجعوا عن بلاده وسار جلال الدين إلى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين فملكها وكانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته ثم بلغ السلطان جلال الدين أنّ التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس وعشرين ولقيهم على أصبهان وإنفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر وانهزمت ميسرة التتر وسار السلطان في اتباعهم وقد أكمنوا له وأحاطوا به واستشهد جماعة ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له ومضى لوجهه وانهزمت العساكر إلى فارس وكرمان وأذربيجان ورجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد انهزم فافترقوا أشتاتا ولحق السلطان بأصبهان بعد ثمانية أيام فوجد التتر يحاصرون أصبهان فبرز إليهم في عساكرها وهزمهم وأتبعهم إلى الريّ وبعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان ورجع إلى أذربيجان وأقام بها وكانت له فيها أخبار مذكورة في دولته والله سبحانه وتعالى أعلم
مسير التتر إلى أذربيجان واستيلاؤهم على تبريز واقعتهم على جلال الدين بآمد ومقتله
كان التتر لما استقرّوا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها وبقيت خراسان خاوية واستبد بالمدن فيها طوائف من الأمراء أشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وأذربيجان وأران وما إلى ذلك وبقيت خراسان مجالا لغزاة التتر وعساكرهم وسارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين إلى أصبهان وكانت بينهم وبين جلال الدين الواقعة كما مرّ ثم زحف جلال الدين إلى خلاط وملكها. وزحف إليه صاحبها الأشرف بن العادل من الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم، وأوقعوا به كما مرّ في أخباره سنة سبع(5/591)
وعشرين، الواقعة التي أوهنت منه وحلّت عرى ملكه. وكان مقدم الإسماعيلية بقلعة الموت عدوا لجلال الدين بما أثخن في بلاده، وقرّر عليه وظائف الأموال، فبعث إلى التتر يخبرهم أن الهزيمة أوهنته ويحثهم على قصده، فسار إلى أذربيجان أول سنة ثلاث وعشرين.
وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فرحل من تبريز إلى موقان وأقام بها في انتظار شحنة خراسان ومازندران، وشغل بالصيد فكبسه التتر ونهبوا معسكره، وخلص إلى نهر رأس من أرّان. ثم رجع إلى أذربيجان وشتّى بماهان. ثم جاءه النذير بمسير التتر إليه فرحل إلى أرّان وتحصن بها، وثار أهل تبريز لما بلغهم خبر الوقعة الأولى بمن عندهم من عساكر الخوارزمية وقتلوهم، ومنعهم رئيسهم الطغرياني من طاعة التتر. ووصل للسلطان جلال الدين ثم هلك قريبا فسلحوا بلادهم للتتر، وكذا فعل أهل كنجة وأهل سلعار. ثم سار السلطان إلى كنجة وارتجعها وقتل المعترضين للثورة فيها، وسار إلى خلاط واستمد الأشرف بن العادل صاحب الشام فعلله بالمواعيد، وسار إلى مصر ويئس من إنجاده فبعث إلى جيرانه من الملوك يستنجدهم مثل صاحب حلب وآمد وماردين. وجرّد عسكرا إلى بلاد الروم في خرت برت وملطية وأذربيجان فاقتحموها لما بين صاحبها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميع الملوك من ذلك وقعدوا عن نصرته. وجاءه الخبر وهو بخلاط أن التتر زحفوا إليه فاضطرب في رحله، وبعث أتابكه أو ترخان في أربعة آلاف فارس طليعة، فرجع وأخبره أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد، وأشار عليه قومه بالمسير إلى أصفهان، وزيّن له صاحب آمد قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر، ووعده الإمداد بنفسه يروم الانتقام من صاحب بلاد الروم لما ملك من قلاعه فخيم وعدل عن أصفهان ونزل بآمد. وبعث إليه التركمان بالنذير وأنهم رأوا نيران التتر فاتهم خبرهم. وصحبه التتر على آمد منتصف شوال سنة ثمان وعشرين وأحاطوا بخيمته، وحمل عليهم أتابكه أوترخان وكشفهم عن الخيمة. وركب السلطان وأسلم أهله وسواده، ورد أو ترخان العساكر وانتبذ ليتوارى عن عين العدو. وسار أوترخان الى أصفهان واستولى عليها الى أن ملكها التتر من يده سنة تسع وثلاثين. وذهب السلطان منجفلا [1] وقد امتلأت الدربندات والمضايق بالمفسدين من غير صنوفهم بالقتل والنهب، فأشار عليه أوترخان بالرجوع، فرجع إلى قرية من قرى ميافارقين ونزل في بيدرها وفارقه أو ترخان إلى حلب.
وهجم التتر على السلطان بالبيدر وقتلوا من كان معه، وهرب فصعد إلى جبل الأكراد وهم
__________
[1] ذهب ... (لغة ابن خلدون) .(5/592)
مترصدون الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله. وشعر بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي، ودخل البيت في مغيبه بعض سفلتهم وهو يريد الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله، ولم يغن عنه أهل البيت. ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها، وملكوا مدينة أسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام، ومرّوا بميافارقين فامتنعت، ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها، ثم إلى سنجار وجبالها والخابور. ثم ساروا إلى أيدس فأحرقوها، ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا هاكري وأرجيش. وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال أربل ومرّوا في طريقهم بالتركمان الأيوبيّة والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا، وخرج إليهم والي أربل مستمدا أهلها وعساكر الموصل فلم يدركوهم فعادوا وبقيت البلاد قاعا صفصفا. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
التعريف بجنكزخان وقسمة الأعمال بين ولده وانفراده بالكرسي في قراقوم [1] وبلاد الصين
هذا السلطان جنكزخان هو سلطان التتر لعهده ثم من المغل أحد شعوبهم، وفي كتاب لشهاب الدين بن فضل الله: أنه من قبيلة أشهر قبائل المغل وأكبرهم، (وزايه التي بين الكاف والخاء ليست صريحة وإنما مشتملة بالصاد فينطق بها بين الصاد والزاي) وكان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكزخان تمام الاسم وهو بمعنى الملك عندهم. وأما نسبته فهي هكذا: جنكز بن بيسوكي بن بهادر بن تومان برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجة، أحد عشر اسما أعجميا صعبة الضبط وهذا منحاها. وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني إمام المعقولات بالمشرق أخذها عن أصحاب نظير الدين الطوسي قال: أنّ مودنجة اسم امرأة وهي جدتهم من غير أب.
قالوا: وكانت متزوجة وولدت ولدين اسم أحدهما بكتوت والآخر بلكتوت، ويقال لولدها بنو الدلوكية. ثم مات زوجها وتأيمت وحملت وهي أيم فنكر عليها أقرباؤها فذكرت أنها رأت بعض الأيام نورا دخل في فرجها ثلاث مرات، وطرأ عليها الحمل
__________
[1] قراقوم: بفتح القاف والراء المهملة وألف وقاف مضمومة وواو ساكنة وميم، معناه الرمل الأسود بالتركية. قال ابن سعيد: وقراقوم كانت قاعدة التتر، وفي جهاتها بلاد المغل، وهم خالصة التتر ومنها خاناتهم (تقويم البلدان لأبي الفداء) .(5/593)
بعده. وقالت لهم: إن في حملها ثلاثة ذكور، فإن صدق ذلك عند الوضع وإلا فافعلوا ما بدا لكم. فوضعت ثلاثة توائم من ذلك الحمل فظهرت براءتها بزعمهم، اسم أحدهم: برقد والآخر قونا والثالث نجعو وهو جد جنكزخان الّذي في عمود نسبه كما مرّ، وكانوا يسمونهم النورانيين نسبة الى النور الّذي ادعته. ولذلك يقولون جنكزخان ابن الشمس.
وأما أوليته فقال يحيى بن أحمد بن علي النسابي كاتب جلال الدين خوارزم شاه في تاريخ دولته أنّ مملكة الصين متسعة ودورها مسيرة تسعة أشهر وهي منقسمة من قديم الزمان على تسعة أجزاء كلّ جزء منها مسيرة شهر ويتولى ملك كل جزء منها ملك يسمى بلغتهم خان ويكون نائبا عن الخان الأعظم قال وكان الأعظم الّذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له طرخان توارثها عن آبائه وكان مقيما بطوغاج وهي وسط الصين وكان جنكزخان من أولئك الخانات الستة وكان من سكان البدو ومن أهل النجدة والشرف وكان مشتاه فارعون من بلاد الصين وكان من خاناتهم أيضا ملك آخر اسمه دوشي خان كان متزوّجا بزوجة جنكزخان واتفقت وفاته فحضر جنكزخان يوم وفاة زوجها دوشي خان فولته مكانه وحملت قومها على طاعته وبلغ الخبر إلى الخان الأعظم طرخان فنكر ذلك وزحف إليهم فقاتلوه وهزموه وغلبوه على أثر بلاده ثم صالحهم عليها وأقام متغلبا ثم مات بقية الخانات الستة وانفرد جنكزخان بأمرهم جميعا وأصبح ملكهم وكان بينه وبين خوارزم شاه من الحروب ما قدّمناه وفي كتاب ابن فضل الله محكيا عن الصاحب علاء الدين عطاء وحدّثه به قال كان ملك عظيم من التتر في قبيلة عظيمة من قبائلهم يدعى أزبك خان وكان مطاعا في قومه فاتصل به جنكزخان فقرّبه واستخلصه ونافسه قرابة السلطان وسعوا به عنده حتى استفسدوه عليه وطوى له وتربص به وسخط أزبك خان على مملوكين عنده فاستجارا بجنكزخان فأجارهما وضمن لهما أمانه وأطلعاه على رأي السلطان فيه فاستوحش وحذر وثبة السلطان فأجفل أمامه وأتبعه السلطان في عساكره فلما أدركه كرّ عليه جنكزخان فهزمه وغنم سواده وما معه ثم استمرّت العداوة وانتبذ عن السلطان واستألف العساكر والأتباع وأفاض فيهم الإحسان فاشتدّت شوكته ودخل في طاعته قبيلتان عظيمتان من المغل وهما أورات ومنفورات فعظمت جموعه وأحسن إلى المملوكين اللذين حذراه من أزبك خان ورفع رتبتهما وكتب لهما العهود بما اختاراه وكتب فيها أن يستمرّ ذلك لهما إلى تسعة بطون من أعقابهما ثم جهز العساكر لحرب أزبك خان فهزمه وقتله واستولى على مملكة التتر بأسرها ولما(5/594)
توطأ أمره تسمى جنكزخان وكان اسمه تمرجين كما مرّ وكتب لهم كتابا في السياسة سماه السياسة الكبيرة ذكر فيه أحكام السياسة في الملك والحروب والأحكام العامّة شبه أحكام الشرائع وأمر أن يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته ولم يكن يؤتى بمثله وإنما كان دينه ودين آبائه وقومه المجوسية حتى ملكوا الأرض واستفحلت دولتهم بالعراق والشمال وما وراء النهر وأسلم من ملوكهم من هداه الله للإسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى فدخلوا في عدد ملوك الإسلام إلى أن انقرضت دولهم وانقضت أيامهم والبقاء للَّه وحده وأما ولده فكثير وهو الّذي يقتضيه حال بداوته وعصبيته إلا أنّ المشهور منهم أربعة أولهم دوشي خان ويقال جرجي وثانيهم جفطاي ويقال كداي وثالثهم أوكداي ويقال أوكتاي ورابعهم طولي بين التاء والطاء والثلاثة الأول لأمّ واحدة وهي أوبولى بنت تيكي من كبار المغل وعدّ شمس الدين الأصبهاني الأربعة فقال جرجي وكداي وطولي وأوكداي وقال نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي كاتب السلطان أبي سعيد فيما نقله عنه شهاب الدين بن فضل الله أنّ كداي هو جفطاي وجرجي هو طوشي فلما ملك جنكزخان البلاد قسم الممالك فكان لولده طوشي بلاد فيلاق إلى بلغار وهي دست القفجاق وأضاف إليه أران وهمذان وتبريز ومراغة وعيرلان وكتاي حدود آمد وقوباق وما أدري تفسير هذه وجعله ولي عهده وعين لجفطاي من الأيقور إلى سمرقند وبخارى وما وراء النهر ولم يعين لطولي شيئا وعين لأخيه أوتكين نوى بلاد أبخت ولا أدري معنى هذا الاسم ولما استفحل ملكه واستولى على هذه الممالك جلس على التخت وانتقل إلى وطنه القديم بين الخطا وإلا يقور وهو تركستان وكاشغر وفي ذلك الوطن مدينة قراقوم وبها كان كرسيه ومكانه بين أعمال ولده مكان المركز من الدائرة وكان كبير ولده طوشي ويقال دوشي ومات في حياته وخلف من الولد ناخوا وبركة وداوردة وطوفل هكذا قال ابن الحكيم وقال شمس الدين ناظو وبركة فقط ومات طولي أيضا في حياته في حربه مع جلال الدين خوارزم شاه بنواحي غزنة وخلف من الولد منكو قبلاي وأزبيك وهلاكو والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم
.(5/595)
ملوك التخت بقراقوم من بعد جنكزخان
قال ابن فضل الله ولما هلك جنكزخان استقلّ أوكد اي بالتخت وبدست القفجاق وما معه وكان أصغر ولده وانتقل إلى قراقوم بمكانهم الأصلي فاعطى وقراياق التي كانت بيده لابنه كفود ولم يتمكن كداي وهو جفطاي من مملكة ما وراء النهر ونازع ناظو بن دوشي خان في أران وهمذان وتبريز ومراغة وبعث أميرا من أمرائها لحمل أموالها والقبض على عماله بها وقد كان ناظو كتب اليهم بالقبض على ذلك الأمير فقبضوا عليه وحملوه إلى ناظو فطحنه وبلغ ذلك إلى كفود فسار إلى ناظو في ستمائة ألف من العساكر وهلك قبل أن يصل اليه بعشر مراحل فبعث القوم إلى ناظو أن يكون صاحب التخت فأبى وجعله لأخيه منكوفان بن طولي وبعثه اليه وأخويه معه قبلاي وهلاكو وبعث معهم أخاه بركة بن طولي في مائة ألف من العساكر ليجلسه على التخت فلما عاد من بخارى لقي الشيخ شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين كبير الصوفية فأسلم على يده وتأكدت صحبته ومعه وحرضه على التمسك بطاعة الخليفة ومكاتبته المعتصم ومبايعته ومهاداته وتردّدت الرسل بينه وبين المعتصم وتأكدت الموالاة واستقل منكوفان بالتخت وولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها ووفد عليه جماعة من أهل قزوين وبلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر الإسماعيلية وفسادهم فجهز أخاه هلاكو لقتالهم واستئصال قلاعهم فمضى لذلك وحسن لأخيه منكوفان الاستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه وبلغ ذلك بركة فنكره على أخيه ناظو الّذي ولى منكوفان لما كان بين بركة والمعتصم من الولاية والوصلة بوصية الشيخ الباخوري فبعث ناظو إلى أخيه هلاكو بالنهي عن ذلك وأن لا يتعدّى مكانه وبلغته رسل ناظو بذلك وهو فيما وراء النهر قبل أن يفصل بالعساكر فأقام سنين امتثالا لأمره حتى مات ناظو وتولى بركة مكانه فاستأذن أخاه منكوفان ثانية وسار لقصد الملاحدة وأعمال الخليفة فأوقع بالملاحدة وفتح قلاعهم واستلحمهم وأوقع بأهل همذان واستباحهم لميلهم إلى بركة وأخيه ناظو ثم سار إلى بركة بدست القفجاق فزحف اليه بركة في جموع لا تحصى والتقيا واستمرّ القتل في أصحاب هلاكو وهمّ بالهزيمة ثم حال نهر الكرّ بين الفريقين وعاد هلاكو في البلاد واستحكمت العداوة بينهما وسار هلاكو إلى بغداد فكانت له الواقعة المشهورة كما مرّ ويأتي في أخبار دولته إنشاء الله تعالى وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصبهاني أنّ هلاكو لم يكن مستقلا بالملك وانما كان نائبا(5/597)
عن أخيه منكوفان ولا ضربت السكة باسمه ولا ابنه ابغا وانما ضربها منهم ارغو حين استقل فجعل اسمه في السكة مع اسم صاحب التخت قال وكان شحنة صاحب التخت لا يزال ببغداد إلى أن ملك قازان فطرد الشحنة وأفرد اسمه في السكة وقال ما ملكت البلاد الا بسيفي وبيت جنكزخان يرون أنّ بني هلاكو انما كانوا ثوارا وجنكزخان لم يملك طولي شيئا وأنّ أخاه منكوفان الذين ولاه عليها انما بعثه نائبا مع أنّ منكوفان انما ولاه ناظو بن دوشي خان كما مرّ قال ونقل عن ثقات أنه لم يبق هلاكو من يحقق نسبه لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك ومن نجا طلب الاختفاء بشخصه فخفي نسبه الا ما قيل في محمل المنسوب إلى بحرحي قال شمس الدين الأصبهاني ونقله عن أمير كبير منهم أنّ أوّل من استقل بالتخت جنكزخان ثم ابنه أوكداي ثم ابنه كفود بن اوكداي ثم منكوفان بن طولي ثم أخوه اربيكان ثم أخوهما قبلاي ثم دمرفاي ويقال تمرفاي ثم تربى كيزي ثم كيزقان ثم سند مرقان بن طرما لابن جنكمر بن قبلاي بن طولي انتهى كلام ابن فضل الله وعن غيره أنّ منكوفان جهز عساكر التتر أيام ملكه على التخت إلى بلاد الروم سنة [1] مع أمير من أمراء المغل اسمه بيكو فملكها من يد بني قليج ارسلان كما هو مذكور في أخبارهم فأقامت في طاعة القان إلى أن انقرض أمر المغل منها ثم بعث منكوفان العساكر لغزو بلاد الخطا مع أخيه قبلاي بعد أن عهد له بالخانية ثم سار على اثره بنفسه واستخلف أخاه الآخر ازبك على كرسي قراقوم وهلك منكوفان في طريقه ذلك على نهر الطاي من بلاد الغور سنة ثمان وخمسين فجلس ازبك على التخت وعاد قبلاي من بلاد الخطا فزحف اليه ازبك فهزمه إلى بعض النواحي واستأثر بالغنائم عن اخوته وقومه فمالوا إلى طاعة قبلاي واستدعوه فجاء وقاتل أخاه ازبك فغلبه وتقبض عليه وحبسه واستقرّ في الغانية وبلغ الخبر إلى هلاكو وهو في الشام عند ما استولى عليه فرجع لما كان يؤمّله من الغانية ولما انتهى إلى جيحون بلغه استقلال أخيه قبلاي في الغانية وتبين له عجزه عنه فسالمه وقنع بما في يده ورجع إلى العراق ثم نازع قبلاي في الغنية لآخر دولته سنة سبع وثمانين بعض بني أوكداي صاحب التخت الأول وهو قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي ونزع اليه بعض أمراء قبلاي وزينوا له ذلك فسار له وبعث قبلاي العساكر للقائه مع ابنه تمقان فهزمه قيدو ورجع منهزما إلى أبيه فسخطه وطرده إلى بلاد الخطا ومات هنالك وسلط قبلاي على قيدو وكان غلب على ما وراء النهر براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي من بني جفطاي ملوك ما وراء النهر بوصية أبيهم جنكزخان
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.(5/598)
فغلبه براق واستولى على ما رواء النهر ثم هلك قبلاي صاحب التخت سنة ثمان وثمانين وملك ابنه سرتموق هذا ما انتهى إلينا من أخبار ملوك التخت بقراقوم من بني جنكزخان ولم نقف على غيرها والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وكرمه
.(5/599)
ملوك بني جفطاي بن جنكزخان بتركستان وكاشغر وما وراء النهر
هذا الإقليم هو مملكة الترك الاولى قبل الإسلام وأسلم ملوكهم على تركستان وكاشغر فأقاموا بها وملك بنو سامان نواحي بخارى وسمرقند واستبدّوا ومنها كان ظهور السلجوقية والتتر من بعدهم ولما استولى جنكزخان على البلاد أوصى بهذه المملكة لابنه جفطاي ولم يتمّ ذلك في حياته ومات جفطاي دونه فلما ولي منكوفان بن طولي على التخت ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها وولى منكوفان فلما هلك ولى أخوه هلاكو ابنه مبارك شاه ثم غلب عليهم قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان وانتزع ما وراء النهر من أيديهم وكان جدّه كفوك صاحب التخت وبعده ولي منكوفان فلما ولي قيدو نازع صاحب التخت يومئذ وهو قبلاي وكانت بينهما حروب وأعان قبلاي في خلالها بني جفطاي على استرجاع ملكهم وولي منهم براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي وأمدّه بالعساكر والأموال فغلب قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان وانتزع من صاحب التخت يومئذ واستبدّ بملك آبائه ثم هلك فولي من بعده دوا ثم من بعد دوا بنون له أربعة واحدا بعد واحد وهم كجك ثم اسعا ثم كبك ثم انجكداي ثم ولي بعد الأربعة دواتمر ثم ترماشين ثم توزون بن أوماكان بن منكوفان بن جفطاي وتخلل هؤلاء من توثب على الملك ولم ينتظم له مثل سيساور بن اركتم بن بغاتمر بن براق ولم يزل ملكهم بعد ترماشين مضطربا إلى أن ملك منهم جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق بن سنتف كانوا كلهم على دين المجوسية وخصوصا دين جنكزخان وعبادته الشمس وكان فيما يقال على دين النجشية فكان بنو جفطاي يعضون عليها بالنواجذ ويتبعون سياسته مثل أصحاب التخت فلما صار الملك إلى ترماشين منهم أسلم رحمه الله سنة خمس وعشرين وسبعمائة وجاهد وأكرم التجار المتردّدين وكانت تجار مصر ممنوعين من بلاده فلما بلغهم ذلك قصدوها فحمدوها ولم انقرضت دول بني جنكزخان وتلاشت في جميع النواحي ظهر في أعقاب دولة بني جفطاي هؤلاء بسمرقند وما وراء النهر ملك اسمه تمر ولا أدري كيف كان يتصل نسبه فيهم ويقال انه من غير نسبهم وانما هو متغلب على صبيّ من أعقاب ملوكهم اسمه طغتمش أو محمود درج اسمه بعد مهلك أبيه واستبدّ عليه وأنه من أمرائهم وأخبرني من لقيته من أهل الصين أنّ أباه أيضا كان في مثل مكانه من الامارة والاستبداد وما أدري أهو(5/600)
طيبة في نسب جفطاي أو من أحلافهم واتباعهم وأخبرني الفقيه برهان الدين الخوارزمي وهو من علماء خوارزم وأعيانها قال كان لعصره وأوّل ظهوره ببخارى رجل يعرف بحسن من أمراء المغل وآخر بخوارزم من ملوك صراي أهل التخت يعرف بالحاج حسن الصوفي تهيأ وزحف إلى بخارى فملكها من يد حسن ثم إلى خوارزم وطالت حروبه مع الحاج حسن الصوفي وحاصرها مرارا وهلك حسن خلال ذلك وولي أخوه يوسف فملكها تمر من يده وخربها في حصار طويل ثم كلف بعمارتها وبناء ما خرب منها وانتظم له الملك بما وراء النهر ونزل قجارى ثم زحف إلى خراسان فملك هراة من يد صاحبها وأظنه من بقايا ملوك الغورية ثم زحف إلى مازندان وطال تمرّسه وحروبه مع صاحبها الشيخ ولي إلى أن ملكها عليه سنة أربع وثمانين ولحق الشيخ ولي بتوريز إلى أن ملكها تمر سنة ثمان وثمانين فهلك في حروبه معها ثم زحف إلى أصبهان فآتوه طاعة ممرّضة وخالفه في قومه كبير من أهل نسبه يعرف بمعمر الدين وأمدّه طغتمش صاحب التخت بصراي فكرّ راجعا وشغل بحر به إلى أن غلبه ومحا أثره وغلب طغتمش على ما بيده من البلاد ثم زحف إلى بغداد سنة خمس وتسعين فأجفل عنها ملكها أحمد بن أويس ابن الشيخ حسن المتغلب عليه بعد بني هلاكو فلحق أحمد ببر الشأم سنة ست وتسعين واستولى تمر على بغداد والجزيرة وديار بكر إلى الفرات واستعدّ ملك مصر للقائه ونزل الفرات فأحجم عنه وتأخر عنه إلى قلاع الأكراد وأطراف بلاد الروم وأناخ على قراباغ ما بين أذربيجان والأبواب ورجع خلال ذلك طغتمش صاحب التخت إلى صراي وملكه فسار اليه تمر أوّل سنة سبع وتسعين وغلبه على ملكه وأخرجه عن سائر ممالكه ثم وصل الخبر آخر السنة بظفره بطغتمش وقتله إياه واستيلائه على جميع أعماله والحال على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وفي خبر العجم أنّ ظهوره سنة عذب يعنون سنة اثنين وسبعين وسبعمائة بحساب الجمل في حروف هذه اللفظة والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.(5/601)
الخبر عن ملوك بني دوشي خان من التتر ملوك خوارزم ودست القفجاق ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا أنّ جنكزخان عين هذه البلاد لابنه دوشي خان وملكه عليها وهي مملكة متسعة في الشمال آخذة من خوارزم إلى ناركند وصفد وصراي إلى مدينة ما جرى واران وسرادق وبلغار وباشقرد وجدلان وفي حدود هذه المملكة مدينة باكو من مدن شروان وعندها باب الحديد ويسمونه دمرقفو وسمر حدود هذه المملكة في الجنوب إلى حدود القسطنطينية وهي قليلة المدن كثيرة العمارة والله تعالى أعلم.(5/602)
دوشي خان بن جنكزخان
وأوّل من وليها من التتر دوشي خان فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك في حياة أبيه كما مرّ سنة.
ناظو خان بن دوشي خان
ولما هلك دوشي خان ولي مكانه ابنه ناظو خان ويقال صامر خان ومعناه الملك المغير فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك سنة خمسين وستمائة.
طرطو بن دوشي خان
ولما هلك ناظو ولي أخوه طرطو فأقام ملكا سنتين وهلك سنة اثنتين وخمسين ولما هلك ولي مكانه أخوه بركة هكذا نقل ابن فضل الله عن ابن الحكيم وقال المؤيد صاحب حماة في تاريخه انه لما هلك طرطو هلك من غير عقب وكان لأخيه ناظو خان ولدان وهما تدان وبركة وكان مرشحا للملك فعدل عنه أهل الدولة وملكوا أخاه بركة وسارت أمّ تدان إلى هلاكو عند ما ملك العراق تستحثه لملك قومها فردّوها من الطريق وقتلوها واستمرّ بركة في سلطانه انتهى فنسب المؤيد بركة إلى ناظو خان بن دوشي خان وابن الحكيم على ما نقل ابن فضل الله جعله ابن دوشي خان نفسه وذكر المؤيد قصة إسلامه على يد شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين وانّ الباخوري كان مقيما ببخارى وبعث إلى بركة يدعوه إلى الإسلام فأسلم وبعث اليه كتابه بإطلاق يده في سائر أعماله بما شاء فردّه عليه وأعمل بركة الرحلة إلى لقائه فلم يأذن له في الدخول حتى تطارح عليه أصحابه وسهلوا الاذن لبركة فدخل وجدّد الإسلام وعاهده الشيخ على إظهاره الإسلام وان يحمل عليه سائر قومه فحملهم واتخذ المساجد والمدارس في جميع بلاده وقرب العلماء والفقهاء ووصلهم وسياق القصة على ما ذكره المؤيد يدل على أنّ إسلامه كان أيام ملكه وعلى ما ذكر ابن الحكيم أنّ إسلامه كان أيام أخيه ناظو ولم يذكر ابن الحكيم طرطو وانما ذكر بعد ناظو أخاه بركة ولم نقف على تاريخ لدولتهم حتى يرجع اليه وهذا ما أدّى اليه الاجتهاد وما بعدها مأخوذ من تاريخ المؤيد صاحب حماة من بني المظفر بن شاهنشاه بن أيوب قال ثم بعث بركة أيام سلطانه أخاه ناظو إلى ناحية الغرب للجهاد وقاتل ملك اللمان من الافرنج فانهزم ورجع ومات أسفا(5/603)
ثم حدثت الفتنة بين بركة وبين قبلاي صاحب التخت وانتزع بركة الخاقانية من أعمال قبلاي وولى عليها سرخاد ابن أخيه ناظو وكان على دين النصرانية وداخله هلاكو في الانتقاض على عمه بركة إلى أخيه قبلاي صاحب التخت ويقطعه الخاقانية وما يشاء معها وشعر بركة بشأنه وأنّ سرخاد يحاول قتله بالسمّ فقتله وولى الخاقانية أخاه مكانه وأقام هلاكو طالبا بثأر سرخاد ووقعت الحرب بينه وبين بركة على نهر آمد سنة ستين ثم هلك هلاكو سنة ثلاث وستين وولي ابنه ابغا فسار إلى حربه وسرّح بركة للقائه سنتاي بن بانيغان بن جفطاي ونوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان فلما التقى الجمعان أحجم سنتاي ورجع منهزما وانهزم ابغا أمام نوغيثة وأثخن في عساكره وعظمت منزلة نوغيثة عند بركة وسخط بركة سنتاي وساءت منزلته عنده إلى أن هلك بركة سنة خمس وستين والله سبحانه وتعالى أعلم.
منكوتمر بن طغان بن ناظو خان
ولما هلك بركة ملك الدست بالشمال ملك مكانه منكوتمر بن طغان بن ناظو خان ابن دوشي خان وطالت أيامه وزحف سنة سبعين إلى القسطنطينية لجدة وجدها على الاشكر ملكها فتلقاه بالخضوع والرغبة ورجع عنه ثم زحف سنة ثمانين إلى الشام في مظاهرة ابغا بن هلاكو ونزل بين قيسارية وابلستين من بلاد الروم ثم أجاز الدربند ومرّ بابغا وهو منازل الرحبة وتقدّم مع أخيه منكوتمر بن هلاكو إلى حماة فنازلوها وزحف اليهم المنصور قلاون ملك مصر والشام من دمشق ولقيهم بظاهر حمص وكانت الدائرة على ملوك التتر وهلك خلق من عساكرهم وأسر آخرون وأجفل ابغا من منازلة الرحبة ورجعوا إلى بلادهم منهزمين وهلك على أثر ذلك منكوتمر ملك الشمال ومنكوتمر بن هلاكو سنة احدى وثمانين ولما هلك منكوتمر ملك مكانه ابنه تدان وجلس على كرسي ملكهم بصراي فأقام خمس سنين ثم ترهب وخرج عن الملك سنة ست وثمانين وانقطع إلى صحبة المشايخ الفقراء ولما ترهب تدان بن منكوتمر وخرج عن الملك ملك مكانه اخوه قلابغا وأجمع على غزو بلاد الكرك واستنفر نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان وكان حاكما على طائفة من بلاد الشمال وله استبداد على ملوك بني دوشي خان فنفر معه في عساكره وكانت عظيمة ودخلوا جميعا بلاد الكرك وأغاروا عليها وعاثوا في نواحيها وفصلوا منها وقد تمكن فصل الشتاء وسلك السلطان مسافة اعتسف فيها البيداء وهلك أكثر عساكره من البرد والجوع وأكلوا دوابهم وسار نوغيثة من أقرب المسالك فنجا إلى بلاده سالما من تلك الشدّة فاتهمه السلطان قلابغا بالادهان في أمره(5/604)
وكان ينقم عليه استبداده حتى انه قتل امرأة كنجك وكانت متحكمة في أيام أبيه وأخيه وشكت إلى نوغينة [1] فأمر بقتلها خنقا وقتل أميرا كان في خدمتها اسمه بيطرا فتنكر له قلابغا وأجمع الفتك به وأرسل يستدعيه لما طوي له عليه ونمي الخبر بذلك إلى نوغينة فبالغ في إظهار النصيحة والإشفاق على السلطان وخاطب أمّه بأنّ عنده نصائح يودّ لو ألقاها إلى السلطان في خلوة فثنت ابنها عن رأيه فيه وأشارت عليه باستدعائه والاطلاع على ما عنده وجاء نوغينة وقد بعث عن جماعة من اخوة السلطان قلابغا كانوا يميلون اليه ومنهم طغطاي وبولك وصراي وتدان بنو منكوتمر بن طغان فجاءوا معه وقد توقفوا لمّا هجم السلطان قلابغا وركب للقاء نوغينة في لمة من عسكره وجاء نوغينة وقد أكمن له طائفة من العسكر فلما التقيا تحادثا مليا وخرج الكمناء وأحاطوا بالسلطان وقتلوه سنة تسعين وستمائة واقبل طغطاي ابن منكوتمر ولما قتل قلابغا ولوا مكانه طغطاي لوقته ورجع نوغينة إلى بلاده وبعث إلى طغطاي في قتل الأمراء الذين داخلوا قلابغا في قتله فقتلهم طغطاي أجمعين ثم تنكر طغطاي لنوغينة لما كان عليه من الاستبداد وأنف طغطاي منه وأظلم الجوّ بينهما واجتمع أعيان الدولة إلى نوغينة فكان يوغر صدرهم على طغطاي واصهر إلى طاز بن منجك منهم بابنته فسار اليه طغطاي ولقيه نوغينة فهزمه واعترضه نهر مل فغرق كثير من عسكره ورجع نوغينة عن اتباعه واستولى على بلاد الشمال وأقطع سبطه قراجا بن طشتمر سنة ثمان وسبعين مدينة القرم وسار اليها لقبض أموالها فأضافوه وبيتوه وقتلوه من ليلته وبعث نوغينة العساكر إلى القرم فاستباحوها وما يجاورها من القرى والضياع وخرب سائرها وكان نوغينة كثير الإيثار لأصحابه فلما استبدّ بأمره آثر ولده على الأمراء الذين معه وحسوا عليهم وكان رديفه من ملك المغل اياجي بن قرمش وأخوه قراجا فلما آثر ولده عليهما نزعا إلى طغطاي في قومها وسار ولد نوغينة في اتباعهما فرجع بعضهم واستمرّ الباقون وقتل ولد نوغينة من رجع معه من أصحاب اياجي وقراجا وولدهم فامتعض لذلك أمراء المغل الذين معه ولحقوا بطغطاي واستحثوه لحرب نوغينة فجمع وسار اليه سنة تسع وتسعين بكو كان لك فانهزمت عساكر نوغينة وولده وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى طغطاي فقتل قاتله وقال السوقة لا تقتل الملوك واستبيح معسكر نوغينة وبيع سباياهم وأسراهم في الأقطار وكان بمصر منهم جماعة استرقوا بها وانتظموا في ديوان جندها ولما هلك نوغينة خلفه في أعماله ابنه جكك وانتقض عليه أخوه فقتله فاستوحش لذلك أصحابه وأجمعوا الفتك به وتولى ذلك نائبة طغرلجاي وصهره على أخته طاز بن منجك ونمي الخبر بذلك اليه وهو في بلاد اللاز والروس غازيا فهرب ولحق
__________
[1] هكذا وقد وردني نسخ اخرى نوغيثة ونوغيثة.(5/605)
ببلاده ثم لحق به عسكره فعاد إلى حربهم وغلبهم على البلاد ثم أمدّهما طغطاي على جكا بن نوغينة فانهزم ولحق ببلاد أولاق وحاول الامتناع ببعض القلاع من بلاد أولاق وفيها صهره فقبض عليه صاحب القلعة واستخدم بها الطغطاي فأمره بقتله سنة احدى وسبعمائة ونجا أخوه طراي وابنه قراكسك شريدين وخلا الجو لطغطاي من المنازعين والمخالفين واستقرّت في الدولة قدمه وقسم أعماله بين أخيه صراي بغا وبين ابنيه وأنزل منكلي بغا من ابنيه في عمل نهر طنا مما يلي باب الحديد ثم رجع صراي بن نوغينة من مفره واستذم بصراي بغا أخي طغطاي فأذمّه وأقام عنده فلما أنس به كشف له القناع عما في صدره واستهواه للانتقاض على أخيه طغطاي وكان أخوهما ازبك أكبر منه وكان مقيما عند طغطاي فركب اليه صراي بغا ليفاوضه في الشأن فاستعظمه واطلع عليه أخاهما طغطاي فأمره لوقته بإحضار أخيه صراي بغا وصراي بن نوغينة وقتلهما واستضاف عمل أخيه صراي بغا لابنه ايل بهادر ثم بعث في طلب قراكسك بن نوغينة فأبعد في ناحية الشمال واستذم ببعض الملوك هنالك ثم هلك سنة تسع وسبعمائة أخوه بذلك وابنه ايل بهادر وهلك طغطاي بعدهما سنة اثنتي عشرة والله تعالى أعلم.
أزبك بن طغرلجاي بن منكوتمر
ولما هلك طغطاي بايع نائبة قطلتمر لازبك ابن أخيه طغرلجاي بإشارة الخاتون تنوفالون زوج أبيه طغرلجاي وعاهده على الإسلام فأسلم واتخذ مسجدا للصلاة وأنكر عليه بعض أمرائه فقتله وتزوّج الخاتون بثالون وكانت المواصلة بين طغطاي وبين ملوك مصر ومات طغطاي ورسله عند الملك الناصر محمد بن قلاون فرجعوا إلى أزبك مكرمين وجدّد أزبك الولاية معه وحببه قطلتمر في بعض كرائمهم يرغبه وعين له بنت بذلك أخي طغطان وتكرّرت الرسالة في ذلك إلى أن تم الأمر وبعثوا بكريمتهم المخطوبة إلى مصر فعقد عليها الناصر وبنى بها كما مرّ في أخباره ثم حدثت الفتنة بين أزبك وبين أبي سعيد ملك التتر بالعراق من بني هلاكو وبعث أزبك عساكره إلى أذربيجان وكان بنو دوشي يدعون أنّ توريز ومراغة لهم وأنّ القان لما بعث هلاكو لغزو بلاد الإسماعيلية وفتح بغداد استكثر من العساكر وسار معه عسكر أهل الشمال هؤلاء وقرّرت لهم العلوفة بتوريز ولما مات هلاكو طلب بركة من ابنه ابغا أن يأذن له في بناء جامع تبريز ودار لنسج الثياب والطرز فأذن له فبناهما وقام بذلك ثم اصطلحوا وأعيدت فادعى بنو دوشي خان أنّ توريز ومراغة من اعمالهم(5/606)
ولم يزالوا مطالبين بهذه الدعوة فلما وقعت هذه الفتنة بين أزبك وأبي سعيد افتتح أمره بغزو موقان فبعث العساكر اليها سنة تسعة عشر فاكتسحوا نواحيها ورجعوا وجمع جوبان على دولته وتحكمه في بني جنكزخان وأنه يأنف أن يكون براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي ملكا على خوارزم فأغزاه أزبك فملك خراسان وأمدّه بالعساكر مع نائبة قطلتمر وسار سيول لذلك وبعث أبو سعيد نائبة جوبان لمدافعتهما فلم يطق وغلب سيول على كثير من خراسان وصالحه جوبان عليها وهلك سيول سنة عشرين ثم عزل أزبك نائبة قطلتمر سنة احدى وعشرين وولي مكانه عيسى كوكز ثم ردّه سنة أربع وعشرين إلى نيابته ولم تزل الحرب متصلة بين أزبك وأبي سعيد إلى أن هلك أبو سعيد سنة ست وثلاثين ثم هلك القان في هذه السنة ولما هلك أزبك بن طغرلجاي ولي مكانه ابنه جاني بك وكان أبو سعيد قد هلك قبله كما قلناه ولم يعقب وولي مكانه على العراق الشيخ حسن من أسباط ابغا بن هلاكو وافترق الملك في عمالاتهم طوائف وردد جاني بك العساكر إلى خراسان إلى أن ملكها سنة ثمان وخمسين ثم زحف إلى أذربيجان وتوريز وكان قد غلب عليها الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان وأخوه الأشرف من بعده كما يذكر في أخبارهم أن شاء الله تعالى فزحف جاني بك في العساكر إلى آذربيجان بتلك المطالبة التي كان سلفه يدعون بها فقتل الأشرف واستولى على توريز وآذربيجان وانكفأ راجعا إلى خوزستان بعد أن ولى على توريز ابنه بردبيك واعتل جاني بك في طريقه ومات.
بردبيك بن جاني
ولما اعتل جاني في ذهابه من توريز إلى خراسان طير أهل الدولة الخبر إلى ابنه بردبيك وقد استخلفه في توريز فولى عليها أميرا من قبله وأغذ السير إلى قومه ووصل إلى صراي وقد هلك أبوه جاني فولوه مكانه واستقل بالدولة وهلك لثلاث سنين من ملكه.
ماماي المتغلب على مملكة صراي
ولما هلك بردبيك خلف ابنه طغطمش غلاما صغيرا وكانت أخته بنت بردبيك تحت كبير من أمراء المغل اسمه ماماي وكان متحكما في دولته وكانت مدينة القرم من ولايته وكان يومئذ غائبا بها وكان جماعة من أمراء المغل متفرّقين في ولايات الأعمال بنواحي صراي ففرقوا الكلمة واستبدّوا بأعمالهم فتغلب حاجي شركس على ناحية منج طرخان وتغلب أهل خان(5/607)
على عمله وايبك خان كذلك وكانوا كلهم يسمون أمراء المسيرة فلما هلك بردبيك وانقرضت الدولة واستبدّ هؤلاء في النواحي خرج ماماي إلى القرم ونصب صبيا من ولد أزبك القان اسمه عبد الله وزحف به إلى صراي فهرب منها طغطمش ولحق بمملكة أرض خان في ناحية جبال خوارزم إلى مملكة بني جفطاي بن جنكزخان في سمرقند وما وراء النهر والمتغلب عليها يومئذ السلطان تمر من أمراء المغل وقد نصب صبيا منهم اسمه محمود وطغطمش وتزوّج أمّه واستبدّ عليه فأقام طغطمش هناك ثم تنافس الأمراء المتغلبون على أعمال صراي وزحف حاجي شركس صاحب عمل منج طرخان إلى ماماي فغلبه على صراي فملكها من يده وسار ماماي إلى القرم فاستبدّ بها ولما زحف حاجي شركس من عمله بعث أرض خان عساكره من نواحي خوارزم فحاصروا منج طرخان وبعث حاجي العساكر اليهم مع بعض أمرائه فأعمل الحيلة حتى هزمهم عن منج طرخان وفتك بهم وبالأمير الّذي يقودهم وشغل حاجي شركس بتلك الفتنة فزحف اليه ايبك خان وملك صراي من يده واستبدّ بها أياما ثم هلك وولي بعده بصراي ابنه قاريخان ثم زحف اليه أرض خان من جبال خوارزم فغلبه على صراي وهرب قاريخان بن ايبك خان وعادوا إلى عملهم الأوّل واستقرّ أرض خان بصراي وماماي بالقرم ما بينه وبين صراي في مملكته وكان هذا في حدود أعوام سنة ست وسبعين وطغطمش في خلال ذلك مقيم عند السلطان تمر فيما وراء النهر ثم طمحت نفس طغطمش إلى ملك آبائه بصراي فجهز معه السلطان تمر العساكر وسار بها فلما بلغ جبال خوارزم اعترضه هناك عساكر أرض خان فقاتلوه وانهزم ورجع إلى تمر ثم هلك أرض خان قريبا من منتصف تلك السنة فخرج السلطان تمر بالعساكر مع طغطمش مددا له إلى حدود عمله ورجع واستمرّ طغطمش فاستولى على أعمال أرض خان بجبال خوارزم ثم سار إلى صراي وبها عمال أرض خان فملكها من أيديهم واسترجع ما تغلب عليه ماماي من ضواحيها وملك أعمال حاجي شركس في منج طرخان واستنزع جميع ما كان بأيدي المتغلبين ومحا أثرهم وسار إلى ماماي بالقرم فهرب أمامه ولم يوقف على خبره ثم صح الخبر بمهلكه من بعد ذلك واستوسق الملك بصراي وأعمالها لطغطمش بن بردبيك كما كان لقومه.
حروب السلطان تمر مع طغطمش صاحب صراي
قد ذكرنا فيما مرّ ظهور هذا السلطان تمر في دولة بني جفطاي وكيف أجاز من بخارى وسمرقند إلى خراسان أعوام أربعة وثمانين وسبعمائة فنزل على هراة وبها ملك من بقايا الغورية(5/608)
فحاصرها وملكها من يده ثم زحف إلى مازندان وبها الشيخ ولي تغلب عليها بعد بني هلاكو فطالت حروبه معه إلى أن غلبه عليها ولحق الشيخ ولي بتوريز في فل من أهل دولته ثم طوى تمر الممالك طيا وزحف إلى أصبهان فآتاه ابن المظفر بها طاعته ثم إلى توريز سنة سبع وثمانين فملكها وخربها وكان قد زحف قبلها إلى دست القفجاق بصراي فملكها من يد طغطمش وأخرجه عنها فأقام بأطراف الأعمال حتى أجاز تمر إلى أصبهان فرجع إلى كرسيه وكان للسلطان تمر قريع في قومه يعرف بقمر الدين فراسله طغطمش صاحب صراي وأغراه بالانتقاض على تمر وأمدّه بالأموال والعساكر فعاث في تلك البلاد وبلغ خبره إلى تمر منصرفه من فتحه فكر راجعا وعظمت حروبه مع قمر الدين إلى أن غلبه وحسم علته وصرف وجهه إلى شانه الأوّل وقرر الزحف إلى طغطمش وسار طغطمش للقائه ومعه اغلان بلاط من أهل بيته فداخله تمر وجماعة الأمراء معه واستراب بهم طغطمش وقد حان اللقاء وتصافوا للحرب فصدم ناحية من عسكر تمر وصدم من لقي فيها وتبدد عياله وافترق الأمراء الذين داخلوا تمر وساروا إلى الثغور فاستولوا عليها وجاء طغطمش إلى صراي فاسترجعها وهرب اغلان بلاط إلى القرم فملكها وزحف اليه طغطمش في العساكر فحاصرها وخالفه أرض خان إلى صراي فملكها فرجع طغطمش وانتزعها من يده ولم تزل عساكره تختلف إلى القرم وتعاهدها بالحصار إلى أن ملكها وظفر باغلان بلاط فقتله وكان السلطان تمر بعد فراغه من حروبه مع طغطمش سار إلى أصبهان فملكها أيضا واستوعب ملوك بني المظفر وعاملهم بالقتل وانتظم له أعمالهم جميعا في مملكته ثم زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس سنة خمس وتسعين كما مرّ ذكره ولحق أحمد بالسلطان الظاهر صاحب مصر مستصرخا به فخرج معه في العساكر وانتهى إلى الفرات وقد سار تمر عن بغداد إلى ماردين فحاصرها وملكها وامتنعت عليه قلعتها فعاج من هنالك إلى حصون الأكراد ثم إلى بلاد الأرمن ثم إلى بلاد الروم وبعث السلطان الظاهر صاحب مصر العساكر مددا لابن أويس فسار إلى بغداد وبها شرذمة من عسكر تمر فملكها من أيديهم ورجع الملك الظاهر إلى مصر وقد أظلّ الشتاء ورجع تمر إلى نواحي أعماله فأقام في عمل قراباق ما بين آذربيجان وهمذان والأبواب ثم بلغ الخبر إلى تمر فسار من مكانه ذلك إلى محاربة طغطمش وعميت أنباؤه مدّة ثم بلغ الخبر آخر سنة سبع وتسعين إلى السلطان فأن تمر ظفر بطغطمش وقتله واستولى على سائر أعماله والله غالب على أمره انتهى
.(5/609)
ملوك غزنة وباميان من بني دوشي خان
كانت أعمال غزنة وباميان هذه قد صارت لدوشي خان وهي من أعمال ما وراء النهر من جانب الجنوب وتتاخم سجستان وبلاد الهند وكانت في مملكة بني خوارزم شاه فملكها التتر لأوّل خروجهم من أيديهم وملكها جنكزخان لابنه دوشي خان وصارت لابنه أردنو ثم لابنه انجبي بن أردنو وهلك على رأس المائة السابعة وخلف من الولد بيان وكبك ومنغطاي وانقسمت الأعمال بينهم وكان كبيرهم بيان في غزنة وقام بالملك بعد انجبي ابنه كبك وانتقض عليه أخوه بيان واستمدّ بطغطاي صاحب صراي فامدّه بأخيه بذلك واستنجد كبك بقندو فأمدّه ولم يغن عنه وانهزم ومات سنة تسع وسبعمائة واستولى بيان على الأعمال وأقام بغزنة وزحف اليه قوشناي ابن أخيه كبك واستمدّ بقندو وغلب عمه على غزنة ولحق بيان بطغطاي واستقرّ قوشناي بغزنة ويقال أنّ الّذي غلب عليها انما هو أخوه طغطاي ولم نقف بعد على شيء من أخبارهم والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.(5/610)
ملوك التخت بصراي(5/611)
دولة بني هولاكو دولة بني هلاكو ملوك التتر بالعراقين وخراسان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا أنّ جنكزخان عهد بالتخت وهو كرسي الملك بقراقوم لابنه أوكداي ثم ورثه من بعده كفود بن أوكداي وأنّ الفتنة وقعت بينه وبين صاحب الشمال من بني جنكزخان وهو ناظو بن دوشي خان صاحب التخت بصراي وسار اليه في جموع المغل والتتر وهلك في طريقه وسلم المغل الذين معه التخت لناظو فامتنع من مباشرته بنفسه وبعث اليه أخاه منكوفان وبعث معه بالعساكر أخويه الآخرين قبلاي وهلاكو ومعهما أخوهما بركة ليجلسه على التخت فأجلسه سنة خمسين وذكرنا سبب إسلام بركة عند مرجعه وأنّ منكوفان استقلّ بالتخت وولى بني جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان وبعث أخاه هلاكو لتدويخ عراق العجم وقلاع الإسماعيلية ويسمون الملاحدة والاستيلاء على ممالك الخليفة.
هلاكو بن طولي
ولما بعث منكوفان أخاه إلى العراق فسار لذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة وفتح الكثير من قلاعهم وضيق بالحصار مخنقهم وولى خلال ذلك في كرسي صراي بالشمال بركة بن ناظو بن دوشي خان فحدثت الفتنة بينه وبين هلاكو ونشأت من الفتنة الحرب وسار بركة ومعه نوغان بن ططر بن مغل بن دوشي خان والتقوا على نهر نول وقد جمد ماؤه لشدّة البرد وانخسف من تحته فانهزم هلاكو وهلك عامّة عسكره وقد ذكرنا أسباب الفتنة بينهما ثم رجع هلاكو إلى بلاد الإسماعيلية وقصد قلعة الموت وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقميّ وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب أربل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقميّ رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ وتعصب عليهم أهل السنة وتمسكوا بأنّ الخليفة والدوادار يظاهرونهم وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بأربل وكان صديقا له بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند يموه بانه يصانع التتر بعطائهم وسار هلاكو والتتر الى بغداد واستنفر(5/612)
بنحو مقدّم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أوّلا ثم أجاب وسار إليه ولما أطل هلاكو على بغداد في عساكره برز للقائه أيبك الدوادار في عساكر المسلمين فهزموا عساكر التتر ثم تراجع التتر فهزموهم واعترضهم دون بغداد بثوق انبثقت في ليلتهم تلك من دجلة فحالت دونها فقتلوا أجمعين وهلك أيبك الدوادار وأسر الأمراء الذين معه ورجعوا إلى البلد فحاصروها مدّة ثم استأمن من ابن العلقميّ للمستعصم ولنفسه آملا بأنّ هلاكو يستبقيه فخرج إليه في موكب من الأعيان وذلك في محرّم سنة ست وخمسين وتقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافيا عن سفك دمه بزعمهم ويقال أنّ الّذي أحصى فيها من القتلى ألف ألف وثلاثمائة ألف واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يحصره العدد والضبط وألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته واستبقى ابن العلقميّ على الوزارة والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه فبقي على ذلك مدّة ثم اضطرب وقتله هلاكو ثم بعث هلاكو بعد فتح بغداد بالعساكر إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن غازي بن العادل فحاصروها سنين حتى جهد الحصار أهلها ثم اقتحموها عنوة واستلحموا حاميتها ثم بعث إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ابنه ركن الدين إسماعيل بالطاعة والهدية فتقبله وبعثه إلى القان الأعظم منكوفان بقراقوم وأبطأ على لؤلؤ خبره فبعث بالولدين الآخرين شمس الدين إسحاق وعلاء الدين بهدية أخرى ورجعوا إليه بخبر ابنه وقرب إيابه فتوجه لؤلؤ بنفسه إلى هلاكو ولقيه بأذربيجان وحضر حصار ميافارقين وجاءه ابنه ركن الدين من عند منكوفان بولاية الموصل وأعمالها ثم هلك سنة سبع وخمسين وولي ابنه ركن الدين إسماعيل ويلقب الصالح وبعث هلاكو عسكرا إلى أربل فحاصرها ستة أشهر وامتنعت فأفرجت عنها العساكر فاغتنم ابن الصلايا الفرصة ونزل عنها لشرف الدين الكردي ولحق بهلاكو فقتله وكان صاحب الشام يومئذ الناصر بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فلما بلغه استيلاء هلاكو على بغداد بعث إليه ابنه بالهدايا والمصانعة والعذر عن الوصول بنفسه لمكان الإفرنج من سواحل الشام فقبل هديته وعذره ورجع ابنه بالمواعيد ولم يتم لهلاكو الاستيلاء على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة وانتهى ملكه إلى الفرات وتاخم الشام وعبر الفرات سنة ثمان وخمسين فملك البيرة ووجد بها السعيد أخا الناصر بن العزيز معتقلا فأطلقه ورده إلى عمله بالضبينة وبانياس ثم سار إلى حلب فحاصرها(5/613)
مدّة ثم ملكها ومن عليه وأطلقه ووجد بها المعتقلين من البحرية مماليك الصالح أيوب الذين حبسهم الناصر وهم سنقر الأشقر وتنكز وغيرهما فأطلقهم وكان معهم أمير من أكابر القفجاق لحق به واستخدم له فجعلهم معه وولى على البلاد التي ملكها من الشام ثم جهز العساكر إلى دمشق وارتحل الناصر إلى مصر ورجع عنه الصالح بن الأشرف صاحب حمص إلى هلاكو فولاه دمشق وجعل نوابه بها لنظره وبلغ الناصر إلى هلاكو ثم استوحش الخليفة من قطز سلطان مصر لما كان بينهما من الفتنة فخرج إلى هلاكو فأقبل عليه واستشاره في إنزال الكتائب بالشام فسهل له الأمر في عساكر مصر ورجع إلى رأيه في ذلك وترك نائبة كيبغا من أمراء التتر في خف من الجنود فبعث كيبغا إلى سلطان مصر وأساء رسله بمجلس السلطان في الخطاب بطلب الطاعة فقتلهم وسار إلى الشام فلقي كيبغا بعين جالوت فانهزمت عساكر التتر وقتل كيبغا أميرهم والسعيد صاحب الضبينة أخو الناصر كان حاضرا مع التتر فقبض عليه وقتل صبرا ثم بعث هلاكو العساكر إلى البيرة والسعيد بن لؤلؤ على حلب ومعه طائفة من العساكر فبعث بعضهم لمدافعة التتر فانهزموا وحنق الأمراء على السعيد بسبب ذلك وحبسوه وولوا عليهم حسام الدين الجوكندار وزحف التتر إلى حلب فأجفل عنها واجتمع مع صاحبها المنصور على حمص وزحفوا إلى التتر فهزموهم وسار التتر إلى أفامية فحاصروها وهابوا ما وراءها وارتحلوا إلى بلادهم وبلغ الخبر إلى هلاكو فقتل الناصر صاحب دمشق لاتهامه إياه فيما أشار به من الاستهانة بأهل مصر وكان هلاكو لما فتح الشام سنة ثمان وخمسين بلغه مهلك أخيه القان الأعظم منكوفان في مسيره إلى غزو بلاد الخطا فطمع في القانية وبادر لذلك فوجد أخاه قبلاي قد استقل فيها بعد حروب بدت بينه وبين أخيه أزبك تقدّم ذكرها في أخبار القان الأعظم فشغل بذلك عن أمر الشام ثم لما يئس من القانية قنع بما حصل عنده من الأقاليم والأعمال ورجع إلى بلاده والأقاليم التي حصلت بيده إقليم خراسان كرسيه نيسابور ومن مدنه طوس وهراة وترمذ وبلخ همذان ونهاوند وكنجة عراق العجم كرسيه أصبهان ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وشهرزور وسجستان وطبرستان وطلان وبلاد الإسماعيلية عراق العرب كرسيه بغداد ومن مدنه الدينور والكوفة والبصرة أذربيجان وكرسيه توريز ومن مدنه حران وسلماس وقفجاق خوزستان كرسيها ششتر ومن مدنها الأهواز وغيرها فارس كرسيها شيراز ومن مدنها كش ونعمان ومحمل رزون والبحرين ديار بكر كرسيها الموصل ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار واسعرد ودبيس وحران والرها وجزيرة ابن عمر بلاد الروم كرسيها قونية ومن مدنها ملطية وأقصرا وأورنكار وسيواس(5/614)
وأنطاكية والعلايا ثم أجلاه أحمد الحاكم خليفة مصر فزحف إلى بغداد وهذا الحاكم هو عمّ المستعصم لحق بمصر بعد الواقعة ومعه الصالح بن لؤلؤ بعد أن أزاله التتر من الموصل فنصب الظاهر بيبرس أحمد هذا في الخلافة سنة تسع وخمسين وبعثه لاسترجاع بغداد ومعه الصالح بن لؤلؤ على الموصل فلما أجازوا الفرات وقاربوا بغداد كبسهم التتر ما بين هيت وغانة فكبسوا الخليفة وفرّ ابن لؤلؤ وأخواه إلى الموصل فنازلهم التتر سبعة أشهر ثم اقتحموها عليهم عنوة وقتلوا الصالح وخشي الظاهر بيبرس غائلة هلاكو ثم أن بركة صاحب الشمال قد بعث إلى الظاهر سنة ستمائة وسبعين بإسلامه فجعلها الظاهر وسيلة للوصلة معه والانجاد وأغراه بهلاكو لما بينهما من الفتنة فسار بركة لحربه وأخذ بحجزته عن الشام ثم بعث هلاكو عساكر التتر لحصار البيرة ومعه درباي من أكابر أمراء المغل وأردفه بابنه أبغا وبعث الظاهر عساكره لإنجاد أهلها فلما أطلوا على عسكر درباي وعاينهم أجفل وترك المخيم والآلة ولحق بابغا منهزما فاعتقله وسخطه ثم هلك هلاكو سنة ثنتين وستين لعشر سنين من ولايته العراق والله أعلم.
أبغا بن هلاكو
ولما هلك هلاكو ولي مكانه ابنه أبغا وسار لأوّل ولايته لحرب بركة صاحب الشمال فسرّح إليه بركة العساكر مع قريبه نوغاي بن ططر بن مغل بن دوشي خان ومع سنتف بن منكوفان ابن جفطاي بن جنكزخان وخام سنتف عن اللقاء ورجع منهزما وأقام نوغاي فهزم أبغا وأثخن في عساكره وعظمت منزلته بذلك عند بركة ثم بعث سنة إحدى وسبعين عساكره مع درباي لحصار البيرة وعبر الظاهر إليهم الفرات وهزمهم وقتل أميرين مع درباي ولحق درباي بأبغا منهزما فسخطه وأدال منه بأبطاي وفي سنة اثنتين وسبعين زحف أبغا إلى تكدار بن موجي بن جفطاي بن جنكزخان وكان صاحبه فاستنجد بابن عمه براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي فأمدّه بنفسه وعساكره واستنفر أبغا عساكر الروم وأميرهم طمقان والبر واناة والتقى الجمعان ببلاد الكرج فانهزم تكدار ولجأ إلى جبل هنالك حتى استأمن ابغا فأمنه وعهد أن لا يركب فرسا فارها ولا يمس قوسا ونمي الى أبغا أنّ الظاهر صاحب مصر سار الى بلاد الروم فبعث العساكر إليها مع قائدين من قواد المغل وهما تدوان ونغوا فسارا وملك الظاهر قيسارية من تخوم بلادهم وبلغ الخبر إلى أبغا فجاء بنفسه إلى موضع الهزيمة وعاين مصارع قومه ولم يسمع ذكرا لأحد من عسكر البرواناة أنه صرع فاتهمه وبعث عنه بعد مرجعه فقتله ثم سار(5/615)
أبغا سنة ثمانين وعبر الفرات ونازل الرحبة وبعث إلى صاحب ماردين فنزل معه هناك وكان منكوتمر ابن أخي بركة ملك صراي فسار بعساكره من المغل وحشود الكرج والأرمن والروم ومرّ بقيسارية وابلسين وأجاز الدربند إلى الرحبة فنازلها وبعث أبغا إليه بالعساكر مع أخيه منكوتمر بن هلاكو وأقام هو على الرحبة وزحف الظاهر من مصر في عساكر المسلمين فلقيهم التتر على حمص وانهزم التتر هزيمة شنعاء هلك فيها عامة عساكرهم وأجفل أبغا من حصار الرحبة وهلك أخوه منكوتمر بن هلاكو مرجعه من تلك الواقعة يقال مسموما وأنه مرّ ببعض أمرائه بجزيرة تسمى مومواغا كان يضطغن له بعض الفعلات فسقاه سما عند مروره به وهرب إلى مصر فلم يدركوه وأنهم قتلوا أبناءه ونساءه ثم هلك أبغا سنة إحدى بعدها ويقال مسموما أيضا على يد وزيره الصاحب شمس الدين الجوني مشير دولته وكبيرها حمله الخوف على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
تكدار بن هلاكو ويسمى أحمد
ولما توفي أبغا كما ذكرناه وكان ابنه أرغو غائبا بخراسان فبايع المغل لأخيه تكدار فأسلم وتسمى أحمد وخاطب بذلك الملوك لعصره وأرسل إلى مصر يخبرهم ويطلب المساعدة وجاء بذلك قاضي سيواس قطب الدين الشيرازي وأتابك بلاد الروم وابن الصاحب من وراء ماردين وكان أخوه قنقرطاي مع صمغان الشحنة فبعث تكدار عن أخيه فامتنع من الإجابة وأجاره غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم فتوعده تكدار فخاف منه وسار هو وقنقرطاي إلى تكدار فقتل أخاه وحبس غياث الدين وولى مكانه أخاه عز الدين وأدال من صمغان الشحنة بأولاطو من أمراء المغل ثم جهز العساكر إلى خراسان لقتال أخيه أرغو فسار إليهم أرغو وكبسهم وهزمهم وفتك فيهم فسار تكدار بنفسه فهزم أرغو وأسره وأثخن في عساكره وقتل اثني عشر أميرا من المغل فاستوحش أهل معسكره وكانوا ينقمون عليه إسلامه فثاروا عليه وقتلوا نائبة ثم قتلوه سنة اثنتين وثمانين وبعثوا إلى أرغو بن أبغا بطاعتهم والله تعالى أعلم.
أرغو بن أبغا
ولما ثار المغل على تكدار وقتلوه وبعثوا بطاعتهم إلى أرغو فجاء وولوه أمرهم فقام بسلطانه وقتل غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم في محبسه اتهمه بمداهنته في قتل عمه(5/616)
قنقرطاي وتقبض لأوّل ولايته على الوزير شمس الدين الجوني وكان متهما بأبيه وعمه فقتله وولى على وزارته سعد اليهودي الموصلي ولقبه سعد الدولة وكان عالما بالحكمة وولى ابنيه قازان وخربندا على خراسان لنظر نيروز أتابكه ولما فرغ من أمور ملكه وكان قد عدل عن دين الإسلام وأحب دين البراهمة من عبادة الأصنام وانتحال السحر والرياضة له ووفد عليه بعض سحرة الهند فركب له دواء لحفظ الصحة واستدامتها فأصابه منه صرع فمات سنة سبعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتخاتو بن أبغا
ولما هلك أرغو بن أبغا وابناه قازان وخربندا غائبان بخراسان اجتمع المغل على أخيه كتخاتو فبايعوه وقدّموه للملك ثم ساءت سيرته وأفحش في المناكر وإباحة الحرمات والتعرض للغلمان من أبنائهم وكان في عسكره بيدو بن عمر طرغاي بن هلاكو فاجتمع إليه أمراء المغل وبايعوه سرّا وشعر بهم كتخاتو ففرّ من معسكره إلى جهة كرمان وساروا في أثره فأدركوه بأعمال غانة وقتلوه سنة ثلاث وتسعين لثلاث سنين وأشهر من ولايته والله تعالى أعلم.
بيدو بن طرغاي بن هلاكو
ولما قتل أمراء المغل كتخاتو بن أبغا بايعوا مكانه لابن عمه بيدو بن طرغاي بن هلاكو وكان قازان بن أرغو بخراسان فسار لحرب بيدو ومعه الأتابك نيروز فلما تقاربا للقاء تردّد الناس بينهما في الصلح على أن يقيم نيروز الأتابك عند بيدو واصطلحا وعاد قازان ثم أرسل نيروز الأتابك إلى قازان يستحثه فسار من خراسان ولما بلغ الخبر إلى بيدو فاوض فيه نيروز الأتابك فقال أنا أكفيكه فصبر حتى أتى إليه فسرّحه ولما وصل إلى قازان أطلعه على شأن أمراء بيدو وأنهم راغبون عنه وحرضه على المسير فامتعض لذلك بيدو وسار للقائهم فلما التقى الجمعان انتقض عليه أمراؤه بمداخلة نيروز فانهزم ولحق بنواحي همذان فأدرك هناك وقتل سنة خمس وتسعين لثمانية أشهر من ملكه والله سبحانه وتعالى أعلم.
قازان بن أرغو
ولما انهزم بيدو وقتل ملك على المغل مكانه قازان بن أرغو فجعل أخاه خربندا واليا على(5/617)
خراسان وجعل نيروز الأتابك مدبرا لمملكته وسعى لأوّل أمره في التدبير على طرغاي من أمرائه ومواليه من المغل الّذي داخل بيدو في قتل كتخاتو الّذي تولى كبر ذلك فخافه طرغاي على نفسه وكان نازلا بين بغداد والموصل فبعث إلى كيبغا العادل صاحب مصر والشام يستأذنه في اللحاق به ثم ولى قازان على ديار بكر أميرا من أتباعه اسمه مولان فهزمه وقتل الكثير من أصحابه ونجا إلى الشام وبعث كيبغا من تلقاه وجاء به إلى مصر ودخل مجلس الملك ورفع مجلسه فيها قبل أن يسلم واستقرّ هو وقومه الأوبراتية بمصر وأقطع لهم وكان ذلك داعيا إلى الفتنة بين الدولتين ثم قتل قازان الأتابك نيروز وذلك أنه استوحش من قازان وكاتب لاشين سلطان مصر والشام المتولي بعد كيبغا وأحس نيروز بذلك فلحق بهراة مستجيرا بصاحبها وهو فخر الدين ابن شمس الدين كرت صاحب سجستان فقبض عليه فخر الدين وأسلمه إلى قطلو شاه فقتله وقتل قازان بعد ذلك أخويه ببغداد وهما حاجي ولكري وقفل السفير إليه بالكتاب من مصر ثم كان بعد ذلك مفر شلامش بن أيال بن منجو إلى مصر وكان أميرا في بلاد الروم على الطومار المحجر فيها والطومار عندهم عبارة عن مائة ألف من العساكر عن قازان فارتاب به وأرسل إلى لاشين يستأذنه في اللحاق به وبعث قازان العساكر إليه فقاتلوه وانفض عنه أكثر أصحابه ففرّ إلى مصر وترك أهله وولده وبعث معه صاحب مصر العساكر لتلقي أهله ومرّوا بسيس فاعترضه عساكر التتر هناك فهزموه وقتلوا أمير مصر الّذي معه واعتصم هو ببعض القلاع فاستنزلوه منها وبعثوا به إلى قازان فقتله وأقام أخوه قطقطو بمصر في جملة عسكرها ونشأت بهذه كلها الفتن بين قازان وأهل مصر ونزع إليه أمراء الشام فلحق نائب دمشق، وبكتمر نائب حلب والبكي الظاهري وعزاز الصالحي واسترابوا بسلطانهم الناصر محمد بن قلاون فلحقوا به واستحثوه إلى الشام وسار سنة تسع وسبعين في عساكر المغل والأرمن ومعه نائبة قطلو شاه ومولى وجاء الملك الناصر من مصر في عساكر المسلمين ولما انتهى إلى غزة أطلع على تدبير بعض المماليك عليه من أصحاب كيبغا ومداخلة الأمراء الذين هاجروا من المغل إلى مملكة مصر لهم في ذلك فسبق جميعهم وارتحل إلى حمص للقاء التتر ثم سار فصبحهم بمرج المروج والتقى الجمعان وكانت الدبرة على المسلمين واستشهد منهم عدد ونجا السلطان الى مصر وسار قازان على التعبية فملك حمص واستوعب مخلف السلطان فيها ثم تقدم إلى دمشق فملك المدينة وتقدم إلى قفجاق لجباية أموالها ولحصار القلعة وبها علاء الدين سنجر المنصور فامتنع وهدم ما حولها من العمران وفيها دار السعادة التي بها إيوان الملك وسار قازان إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة وعاثت عساكره في البلاد(5/618)
وانتهت غاراتهم إلى غزة ولما امتنعت عليه القلاع ارتحل عائدا إلى بلده وخلف قطلو شاه في عساكر لحماية البلد وحصار القلعة ويحيى بن جلال الدين لجباية الأموال وترك قفجاق على نيابة دمشق وبكتمر على نيابة حلب وحمص وحماة وكر الملك الناصر راجعا إلى الشأم بعد أن جمع العساكر وبث العطاء وأزاح العلل وعلى مقدّمته سرمز الجاشنكير وسلار كافلا مملكته فتقدموا إلى حدود الشام وأقام هو بالصالحية واستأمن لهما قفجاق وبكتمر النائبان بدمشق وحلب وراجعا طاعة السلطان واستولى سرمز وسلار على الشام ورجع قطلو شاه إلى العراق ثم عاود قازان المسير إلى الشام سنة اثنتين وسبعين وعبر الفرات ونزل على الحربة وكاتب أهل الشام يخادعهم وقدم قطلو شاه فأغار على القدس وبها أحياء التركمان فقاتلوه ونالوا منه وتوقفوا هنالك وسار الناصر من مصر في العساكر ثالث شعبان ولقي قطلو شاه بمرج الصفر فهزمه بعد حرب شديدة وسار في إتباعهم إلى الليل فاعتصموا بجبل في طريقهم وبات المسلمون يحرسونهم ثم تسللوا وأخذ القتل منهم كل مأخذ واعترضهم الوحل من أمامهم من بثوق بثقت لهم من نهر دمشق فلم ينج منهم أحد وقدم الفل على قازان بنواحي كيلان ومرض هنالك ومات في ذي الحجة من السنة ويقال أنه مات أسفا والله تعالى أعلم بالصواب.
خربندا بن أرغو
ولما هلك قازان ولي بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره بالدخول في دين الإسلام وتسمى بمحمد وتلقب غياث الدين وأقر قطلو شاه على نيابته ثم جهزه لقتال الكرد في جبال كيلان وقاتلهم فهزموه وقتلوه وولى مكانه جوبان بن تدوان وأقام في سلطانه حسن الدين معظما للخلفاء وكتب أسماءهم على سكته ثم صحب الروافض فساء اعتقاده وحذف ذكر الشيخين من الخطبة ونقش أسماء الأئمة الاثني عشر على سكته ثم أنشأ مدينة بين قزوين وهمذان وسماها السلطانية ونزلها واتخذ بها بيتا لطيفا بلبن الذهب والفضة وأنشأ بإزائها بستانا جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ والفصوص وأجرى اللبن والعسل أنهارا وأسكن به الغلمان والجواري تشبيها له بالجنة وأفحش في التعرض لحرمات قومه ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة وعبر الفرات ونزل الرحبة ورجع ثم هلك ويقال مات مسموما على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة والله تعالى أعلم
.(5/619)
أبو سعيد بن خربندا
ولما هلك خربندا خلف ابنه أبا سعيد طفلا صغيرا ابن ثلاث عشرة سنة فاستصغره جوبان وأرسل إلى أزبك ملك الشمال بصراي يستدعيه لملك العراقين فحذره نائبة قطلقتمر من ذلك وبايع جوبان لأبي سعيد بن خربندا على صغره وبدأ أمره بقتل أبي الطيب رشيد الدولة فضل الله بن يحيى الهمذاني المتهم بقتل أبيه فقتله وكان مقدّما في العلوم وسريا في الغاية وله تاريخ جمع فيه أخبار التتر وأنسابهم وقبائلهم وكتبه مشجرا كما في كتابنا هذا وكان جوبان يومئذ بخراسان يقاتل عليها سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي صاحب خوارزم أغراه أزبك صاحب الشمال بخراسان وأمدّه بعساكره وكان جوبان موافقا له فلما هلك خربندا طمع سيول في الاستيلاء على خراسان وكاتب أمراء المغل بدولة أبي سعيد رغبهم فأطمعوه فسار جوبان إلى الأردن ومعناه بلغتهم العسكر والمخيم وانتهى إلى أبي سعيد خبر أمرائه فقتل منهم أربعين ورجع جوبان إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقد استولى سيول عليها وعلى طائفة من عراق العجم وبعث إليه أزبك صاحب الشمال نائبة قطلقتمر مددا في العساكر فلقيهم جوبان وكانت بينهم حروب وانتزع جوبان ما ملكه سيول من بلاد خراسان وصالحه على ما بقي ورجع ثم سار أزبك ملك الشمال إلى مراغة فأغار عليها وغنم ورجع وأتبعه جوبان في العساكر فلم يدركه وهلك سيول سنة عشرين وارتجع أبو سعيد ما كان بيده من خراسان وكان أزبك صاحب الشمال ينقم على أبي سعيد استبداد جوبان عليه وتحكمه في بني جنكزخان ويحرض أهل النواحي على جوبان ويتوقع له المهالك وأوصل الملوك في النواحي للمظاهرة على جوبان وسلطانه أبي سعيد حتى لقد صاهر صاحب مصر على مثل ذلك ولم يتم الصلح لأبي سعيد معه كما مرّ في أخبارهم وجهز أزبك العساكر سنة عشرين لحرب جوبان فحاصرهم المدني بنهر كوزل الّذي في حدود ملكهم فرجعوا ثم جهز جيشا آخر مع قطلقتمر نائبة وكان جوبان نائب أبي سعيد قد ولى على بلاد الروم ابنه دمرداش فزحف سنة إحدى وعشرين إلى بلاد سيس وافتتح منها قلاعا ثلاثا وخربها وبعث إلى الملك الناصر يطلب المظاهرة في جهاد الأرمن بسيس فبعث السلطان عساكره سنة اثنتين وعشرين ومعهم من المتطوّعة عدد وحاصروا سيس ثم انعقد الصلح سنة ثلاث وعشرين بعدها بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واستقامت الأحوال وحج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين واتصلت المهاداة بينهما وسار نائبة جوبان سنة خمس وعشرين الى خراسان في(5/620)
العساكر وقد زحف إليه كبك بن سيول فجرت بينهما حروب وانهزم جوبان واستولى كبك على خراسان ثم كبسه جوبان فهزمه وأثخن في عساكره وغلبه على خراسان فعادت إلى ملكة أبي سعيد وبينما جوبان مشتغل بتلك الفتنة والحروب في نواحي خراسان إذ بلغه الخبر بأن السلطان أبا سعيد تقبض على ابنه خواجا دمشق فلما بلغه الخبر بذلك انتقض وزحف إليه أبو سعيد فافترق عنه أصحابه ولحق بهراة فقتل بها سنة ست وعشرين وأذن أبو سعيد لولده أن ينقلوا شلوه إلى تربته التي بناها بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ونقلوه فلم يقدر دفنه بها وتوقف أمير المدينة على اذن السلطان بمصر في ذلك فدفن بالبقيع ولما بلغ خبر جوبان لابنه دمرداش وهو أمير ببلاد الروم انزعج لذلك ولحق بمصر فيمن معه من الأمراء والعساكر وأقبل السلطان الملك الناصر عليه وأحله محل التكرمة وجاءت على أثره رسل أبي سعيد يطلب حكم الله فيه لسعيه في الفساد والفتنة وأجابه السلطان إلى ذلك على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فأمضى ذلك فيهما جزاء بما قدّمت أيديهما ثم تأكدت أسباب المواصلة والالتحام بين هذين السلطانين بالأصهار والمهاداة واتصل ذلك وانقطع زبون العرب وفسادهم بين المملكتين وهلك السلطان أبو سعيد سنة ست وثلاثين ولم يعقب ودفن بالسلطانية واختلف أهل دولته وانقرض الملك من بني هلاكو وافترقت الأعمال التي كانت في ملكهم وأصبحت طوائف في خراسان وفي عراق العجم وفارس وفي أذربيجان كله في عراق العرب وفي بلاد الروم كما نذكر ذلك والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون
.(5/621)
اضطراب دولة بني هلاكو وانقسام الملك طوائف في اعمالهم وانفراد الشيخ حسن ببغداد واستيلاء بنيه معها على توريز وما كان لهم فيها من الملك والدولة وابتدائها ومصايرها
لما هلك أبو سعيد بن خربندا ملك التتر بكرسي بغداد سنة ست وثلاثين ولم يعقب نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين وخلع أورخان ونصب للملك موسى خان من أسباطهم وقام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان وهو ابن عمة السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم ووكل به فلما هلك أبو سعيد وانحل(5/622)
عقاله وذهب أبو نور بن ماس عفى عليها وبلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه ونهض إليها فقتل علي ماسا القائم بالدولة وعزل موسى خان الملك ونصب مكانه محمد بن عنبرجي وهو الّذي تقدّم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته وإمارة أبيه ببلاد الروم وغلبه على توريز وقتل سلطانه محمد بن عنبرجي ولحق الشيخ حسن ببغداد واستقرّ حسن بن دمرداش في توريز ونصب للملك أخت السلطان أبي سعيد اسمها صالبيك وزوجها لسليمان خان من أسباط هلاكو واستقل بملك توريز وكان يعرف بالشيخ حسن الصغير لأنّ صاحب بغداد كان يشاركه في اسمه وهو أسن وأدخل في نسب الخان فميز بالكبير وميز هذا بالصغير ولما استقل حسن الصغير بالملك والخان عنده عجز عنه الشيخ حسن الكبير وغلبته أمم التركمان بضواحي الموصل إلى سائر بلاد الجزيرة فيقال أنه أرسل إلى الملك الناصر صاحب مصر بأن يملكه بغداد ويلحق به فيقيم عنده وطلب منه أن يبعث عساكره لذلك على أن يرهن فيهم ابنه فلم يتم ذلك لما اعترضه من الأحوال وافترقت مملكة بني هلاكو فكان هو ببغداد والصغير بتوريز وابن المظفر بعراق العجم وفارس والملك حسين بخراسان واستولى على أكثرها ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان بن جنكزخان ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله واستبد ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع وأربعين وملك مكانه أخوه الأشرف ثم هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد سنة سبع وخمسين والله تعالى أعلم.
أويس بن الشيخ حسن
ولما هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد ولي مكانه ابنه أويس وكان بتوريز الأشرف بن دمرداش فزحف إليه ملك الشمال جاني بك بن أزبك سنة ثمان وخمسين وملكها من يده ورجع إلى خراسان بعد أن استخلف عليها ابنه واعتقل في طريقه فكتب أهل الدولة إلى ابنه بردبيك يستحثونه للملك فأغذ السير إليهم وترك بتوريز عاملها أخبجوخ فسار إليه أويس صاحب بغداد وغلبه عليها وملكها ثم ارتجعها منه أخبجوخ وأقام بها فزحف إليه ابن المظفر صاحب أصبهان وملكها من يده وقتله وانتظم في ملكه عراق العجم وتوريز وتستر وخوزستان ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر واستقرّت في ملكه ورجع إلى بغداد وجلس على التخت واستفحل أمره ثم هلك سنة ست وسبعين حسين بن أويس وقد خلف(5/623)
بنين خمسة وهم الشيخ حسن وحسين والشيخ علي وأبو يزيد وأحمد وكان وزيره زكريا وكبير دولته الأمير عادل كان كافلا لحسن ومن إقطاعه السلطانية فاجتمع أهل الدولة وبايعوا لابنه حسين بتوريز وقتلوا الشيخ حسن وزعموا أنّ أباهم أويسا أوصاهم بقتله وكان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين وكان قنبر علي بادك من أمرائهم نائبا بتستر وخوزستان فبايع لحسين وبعث إليه بطاعته واستولى على دولته بتوريز زكريا وزير أبيه وكان إسماعيل ابن الوزير زكريا بالشام هاربا أمام أويس فقدم على أبيه زكريا وبعث إلى بغداد ليقوم بخدمة الشيخ على فاستخلصه واستبدّ عليه فغلب شجاع بن المظفر على توريز وارتجعها منه ولما استقل حسين بتوريز كان بنو المظفر طامعين في ولايتها وقد ملكوها من قبل كما مرّ وانتزعها أويس منهم فلما توفي أويس سار شجاع إلى توريز في عساكره فأجفل عنها حسين بن أويس إلى بغداد واستولى عليها شجاع ولحق حسين بأخيه الشيخ علي ووزيره إسماعيل ببغداد مستجيشا بهما فسرّحوا معه العساكر ورجع ادراجه إليها فهرب عنها شجاع إلى خوزستان وحصن ملكه بها واستقرّ فيها.
مقتل إسماعيل واستيلاء حسين على بغداد ثم ارتجاعها منه
كان إسماعيل مستبدّا على الشيخ علي ببغداد كما قدّمناه فتوثب به جماعة من أهل الدولة منهم مبارك شاه وقنبر وقرا محمد فقتلوه وعمه أمير أحمد منتصف إحدى وثمانين واستدعوا قنبر علي بادك من تستر فولوه مكان إسماعيل واستبدّ على الشيخ علي بغداد ونكر حسين عليهم ما آتوه وسار في عساكره من توريز إلى بغداد ففارقها الشيخ علي وقنبر على بادك إلى تستر واستولى حسين على بغداد واستمدّه فاتهمه بممالأة أخيه الشيخ علي ولم يمدّه ونهض الشيخ علي من تستر إلى واسط وجمع العرب من عبادان والجزيرة فأجفل أحمد من واسط إلى بغداد وسار الشيخ علي في أثره فأجفل حسين إلى توريز واستوسق ملك بغداد للشيخ علي واستقرّ كل ببلده والله تعالى أعلم.
انتقاض أحمد واستيلاؤه على توريز ومقتل حسين
ولما رجع حسين من بغداد إلى توريز عكف على لذاته وشغل بلهوه واستوحش منه أخوه أحمد فلحق بأردبيل وبها الشيخ صدر الدين واجتمع إليه من العساكر ثلاثة آلاف أو(5/624)
يزيدون فسار إلى توريز وطرقها على حين غفلة فملكها واختفى حسين أياما ثم قبض عليه أحمد وقتله والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
انتقاض عادل ومسيره لقتال أحمد
كان الأمير عادل واليا على السلطانية وكانت من أقطاعه فلما بلغه مقتل حسين امتعض له وكان عنده أبو يزيد بن أويس فسارا إلى شجاع بن المظفر اليزدي صاحب فارس يستصرخانه على الأمير أحمد بن أويس فبعث العساكر لصريخهما وبرز الأمير أحمد للقائهم ثم تقاربوا واتفقوا أن يستقرّ أبو يزيد في السلطانية أميرا ويخرج الأمير عادل عن مملكتهم ويقيم عند شجاع بفارس واصطلحوا على ذلك وعاد أبو يزيد إلى السلطانية فأقام بها وأضرّ أمراؤه وخاصته بالرعايا فسدوا بالصريخ إلى أحمد بتوريز فسار في العساكر إليه وقبض عليه وكحله وتوفي بعد ذلك ببغداد.
مقتل الشيخ علي واستيلاء أحمد على بغداد
لما قتل أحمد أخاه حسينا جمع الشيخ علي العساكر واستنفر قرا محمد أمير التركمان بالجزيرة وسار من بغداد يريد توريز فبرز أحمد للقائه واستطرد له لما كان منه فبالغ في إتباعه إلى أن خفت عساكره فكرّ مستميتا وكانت جولة أصيب فيها الشيخ علي بسهم فمات وأسر قرا محمد فقتل ورجع أحمد إلى توريز واستوسق له ملكها ونهض إليه عادل ابن السلطان أبي سعيد يروم فرصة فيه فهزمه ثم سار أحمد إلى بغداد وقد كان استبدّ بها بعد مهلك الشيخ علي خواجا عبد الملك من صنائعهم بدعوة أحمد ثم قام الأمير عادل في السلطانية بدعوة أبي يزيد وبعث إلى بغداد قائدا اسمه برسق ليقيم بها دعوته فأطاعه عبد الملك وأدخله إلى بغداد ثم قتله برسق ثاني يوم دخوله واضطرب البلد شهرا ثم وصل أحمد من توريز وخرج برسق القائد لمدافعته فانهزم وجيء به إلى أحمد أسيرا فحبسه ثم قتله وقتل عادل بعد ذلك وكفى أحمد شرّه وانتظمت في ملكه توريز وبغداد وتستر والسلطانية وما إليها واستوسق أمره فيها ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست وثمانين وسار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ واستولى على خراسان فاستصرخه على أحمد فأجاب صريخه وبعث معه العساكر إلى توريز فأجفل عنها أحمد إلى بغداد واستبدّ بها ذلك الثائر(5/625)
ورجع تمر إلى مملكته الأولى وطمع طغطمش ملك الشمال من بني دوشي خان في انتزاع توريز من يد ذلك الثائر فسار إليها وملكها وزحف تمر في عساكره سنة سبع وثمانين إلى أصبهان وبعث العساكر إلى توريز فاستباحها وخربها واستولى على تستر والسلطانية وانتظمهما في أعماله وانفرد أحمد ببغداد وأقام بها.
استيلاء تمر على بغداد ولحاق أحمد بالشام
كان تمر سلطان المغل بعد أن استولى على توريز خرج عليه خارج من قومه في بلاده يعرف بقمر الدين فجاءه الخبر عنه وأنّ طغطمش صاحب كرسي صراي في الشمال أمدّه بأمواله وعساكره فكرّ راجعا من أصبهان إلى بلاده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وسبعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده ثم استولى على كرسيّ صراي وأعمالها ثم خطى إلى أصبهان وعراق العجم والريّ وفارس وكرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبادت جموعهم وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره وأخذ في الاستعداد ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته فلم يغن ذلك وما زال تمر يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزمه وافترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليلة وحمل ما أقلته الرواحل من أمواله وذخائره وخرّق سفن دجلة ومرّ بنهر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة في حادي عشر شوّال سنة خمس وتسعين ولم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر ودخل بغداد واستولى عليها وبعث العساكر في إتباع أحمد فساروا إلى الحلة وقد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها وأدركوا أحمد بمشهد علي واستولوا على أثقاله ورواحله فكر عليهم في جموعه واستماتوا وقتل الأمير الّذي كان في إتباعه ورجع بقية التتر عنهم ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرّح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأن تمرعاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوّه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين(5/626)
وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأقفرها وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وافترق أهلها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياما أزاح فيها علل عساكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمه وشرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعة بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كمشيقا الأتابك وتكلتمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدو تمر قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا وملكها وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ستمائة وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه
.(5/627)
الخبر عن بني المظفر اليزدي المتغلبين على أصفهان وفارس بعد انقراض دولة بني هلاكو وابتداء أمورهم ومصايرها
كان أحمد المظفر من أهل يزد وكان شجاعا واتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس وكان منها مبدأ أمرهم وذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبعمائة ولم يعقب اضطربت الدولة ومرج أمر الناس وافترق الملك طوائف وغلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها واستبدّ بهراة الملك حسين والان محمود فرشحه من أهل دولة لسلطان أبي سعيد عاملا على أصبهان وفارس فاستبدّ بأمره واتخذ الكرسي بشيراز الى ان هلك وولي بعده ابنه أبو إسحاق أمير شيخ سالكا سبيله في الاستبداد وكانت له آثار جميلة وله صنف الشيخ عضد الدين كتاب المواقف والشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموهما باسمه وتغلب أيضا محمد بن المظفر على كرمان ونواحيها فصارت بيده وطمع في الاستيلاء على فارس وكان أبو إسحاق أمير شيخ قد قتل شريفا من أعيان شيراز فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده وسار في جموعه إلى شيراز ومال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم فأمكنوه من البلد وملكها واستولى على كرسيها وهرب أبو إسحاق أمير شيخ إلى أصبهان وأتبعه ففرّ منه أيضا وملك أصبهان وبث الطلب في الجهات حتى تقبض عليه وقتله قصاصا بالشريف الّذي قتله بشيراز وكان له من الولد أربعة شاه ولي ومحمود وشجاع وأحمد وتوفي شاه ولي أيام أبيه وترك ابنيه منصورا ويحيى وملك ابنه محمود أصبهان وابنه شجاع شيراز وكرمان واستبدّ عليه محمود وشجاع وخلفاه في ملكه سنة ستين وكحلاه وتولى ذلك شجاع وسار إليه محمود من أصبهان بعد أن استجاش بأويس بن حسن الكبير فأمدّه بالعساكر سنة خمس وستين وملك شيراز ولحق شجاع بكرمان من أعماله وأقام بها واختلف عليه عماله ثم استقاموا على طاعته ثم جمع بعد ثلاث سنين ورجع إلى شيراز ففارقها أخوه محمد إلى أصبهان وأقام بها إلى أن هلك سنة ست وسبعين فاستضافها شجاع إلى أعماله وأقطعها لابنه زين العابدين وزوّجه بابنة أويس التي كانت تحت محمود وولىّ على مردي ابن أخيه شاه ولي ثم هلك شجاع سنة سبع وثمانين واستقل ابنه زين العابدين بأصبهان وخلفه في شيراز وفارس منصور ابن أخيه شاه ولي وكان عادل كبير دولة بني أويس بالسلطانية كما مرّ ولحق به منصور بن شاه ولي هاربا من شيراز أمام عمه زين(5/628)
العابدين فحبس ثم فرّ من محبسه ولحق بأحمد بن أويس مستصرخا به فصارخه وأنزله بتستر من أعماله ثم سار منها إلى شيراز ففارقها عمه زين العابدين إلى أصبهان وأخوه يحيى بيزد وعمهما أحمد بن محمد بن المظفر بكرمان ثم زحف تمر سلطان التتر من بني جفطاي بن جنكزخان سنة ثمان وثمانين وملك توريز وخربها كما مرّ في أخباره فأطاعه يحيى صاحب يزد وأحمد صاحب كرمان وهرب زين العابدين من أصبهان وملكها عليه تمر فلحق بشيراز ورجع تمر إلى بلاده فيما وراء النهر وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين فزحف إلى بلاد فارس وجمع منصور بن شاه ولي العساكر لحربه فخادعه تمر بولايته وانكفأ راجعا إلى هراة فافترقت عساكر منصور بن شاه ولي وجاءت عيون تمر بخبر افتراقها إليه فأغذ السير وكبس منصور بن شاه ولي بظاهر شيراز وهو في قلّ من العساكر لا يجاوزون الفين فهرب الكثير من أصحابه إلى تمر واستمات هو والباقون وقاتلوا أشدّ قتال وفقد هو في المعركة فلم يوقف له على خبر وملك تمر شيراز واستضافها إلى أصبهان وولى عليها من قبله وقتل أحمد بن محمد صاحب كرمان وابنيه وولى على كرمان من قبله وقتل يحيى بن شاه ولي صاحب يزد وابنيه وولي على يزد من قبله واستلحم بني المظفر واستصفى زين العابدين بن شجاع بن محمود وهرب ابنه فلحق بخاله أحمد بن أويس وهو لهذا العهد مقيم معه بمصر والله وارث الأرض ومن عليها واليه يرجعون
.(5/629)
الخبر عن بني ارتنا ملوك بلاد الروم من المغل بعد بني هلاكو والإلمام بمبادي أمورهم ومصايرها
قد سبق لنا أنّ هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية وهم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام وانتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية واستضافوا إليها كثيرا من أعمال الأرض ومن ديار بكر فانفسحت أعمالهم وعظمت ممالكهم وكان كرسيهم بقونية ومن أعمالها أقصرا وأنطاكية والعلايا وطغرل ودمرلو وقراحصار ومن ممالكهم أذربيجان ومن أعمالها آق شهر وكامخ وقلعة كعونية ومن ممالكهم قيسارية ومن أعمالها نكرة [1] وعدا قلية ومنال ومن ممالكهم أيضا سيواس وأعمالها ملكوها من يد الوانشمند كما مرّ في أخبارهم ومن أعمالها نكسار وأقاسية وتوقات وقمنات وكنكرة كورية وسامسول وصغوى وكسحونية وطرخلوا وبرلوا ومما استضافوه من بلاد الأرمن خلاط وأرمينية الكبرى وأني [2] وسلطان وأرجيس وأعمالها ومن ديار بكر خرت برت وملطية وسميساط ومسارة فكانت لهم هذه الأعمال وما يتصل بها من الشمال إلى مدينة برصة ثم إلى مدينة خليج القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها وعظمت دولتهم ثم طرقها الهرم والفشل كما يطرق الدول ولما استولى التتر على ممالك الإسلام وورثوا الدول في سائر النواحي واستقرّ التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو وجهز عساكر المغل سنة أربع وخمسين وستمائة إلى هذه البلاد وعليهم بيكو من أكابر أمرائهم وعلى بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنخسرو بن علاء الدين كيقباد وهو الثاني عشر من ملوكهم من ولد قطلمش فنزلوا على أرزن الروم بها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين واستباحوها وتقدّموا أمامهم ولقيهم غياث الدين بالصحراء على آق شهر وزنجان وانهزم غياث الدين واحتمل ذخيرته وعياله ولحق بقونية واستولى بيكو على مخلفه ثم سار إلى قيسارية فملكوها وهلك غياث الدين أثر ذلك وملك بعده بعهد ابنه علاء الدين كيقباد وأشرك معه أخويه في أمره وهما عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعاثت عساكر التتر في البلدا فسار علاء الدين كيقباد إلى منكوفان صاحب التخت واختلف أخواه من بعده وغلب عز الدين كيكاوس واعتقل أخاه ركن الدين بقونية وبعث في أثر أخيه علاء الدين من يستفسد له منكوفان فلم يحصل من ذلك على طائل وهلك علاء الدين
__________
[1] هي اليوم أنقره.
[2] والمشهور: وأن.(5/630)
في طريقه وكتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين وركن الدين والبلاد بينهما مقسومة فعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية ولركن الدين من سيواس إلى أرزن الروم متصلا من جهة الشرق ببلاد التتر وأفرج عز الدين عن ركن الدين واستقرّ في طاعة التتر وسار بيكو في بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين فلقيه أرسلان دغمش من أمراء عز الدين فهزمه بيكو إلى قونية فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا وحاصرها بيكو فملكها على يد خطيبها وخرج إلى بيكو فأسلمت زوجته على يده ومنع التتر من دخولها إلّا وحدانا وأن لا يتعرّضوا لأحد واستقرّ عز الدين وركن الدين في طاعة التتر ولهما اسم الملك والحكم للشحنة بيكو ولما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست وخمسين واستنفر بيكو وعساكره فامتنع واعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية والياروقية فبعث إليه هلاكو العساكر ومرّوا بأذربيجان وقد أجفل أهلها وهم قوم من الأكراد فملكوها وساروا مع بيكو إلى هلاكو وحضروا معه فتح بغداد وما بعدها ولما نزل هلاكو حلب استدعى عز الدين وركن الدين فحضرا معه فتحها وحضر معهما وزير هما معين الدين سليمان البرواناة واستحسنه هلاكو وتقدّم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه فلم يزل على ذلك ثم هلك بيكو مقدم التتر ببلاد الروم وولي مكانه صمقار من أمراء المغل ثم اختلف الأميران عز الدين وغياث الدين سنة تسع وخمسين واستولى عز الدين على أعمال ركن الدين فسار ومعه البرواناة إلى هلاكو صريخا فأمدّه بالعساكر وسار إلى عز الدين فهزمهم واستمدّه ثانيا فأمدّه هلاكو وانهزم عز الدين فلحق بالقسطنطينية وأقام عند صاحبها لشكري واستولى ركن الدين قليج أرسلان على بلاد الروم وامتنع التركمان الذين بتلك الأعمال بأطراف الأعمال والثغور والسواحل وطلبوا الولاية من هلاكو فولاهم وأعطاهم الله الملك فهم الملوك بها من يومئذ كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وأقام عز الدين بالقسطنطينية وأراد التوثب بصاحبها لشكري ووشى به أخواله من الروم فاعتقله لشكري في بعض قلاعه ثم هلك ويقال أنّ ملك الشمال منكوتمر صاحب التخت بصراي حدثت بينه وبين صاحب القسطنطينية فتنة فغزاه واكتسح بلاده ومرّ بالقلعة التي بها عز الدين معتقلا فاحتمله معه إلى صراي وهلك عنده ولحق ابنه مسعود بعد ذلك بأبغا بن هلاكو فأكرمه وولاه على بعض القلاع ببلاد الروم ثم أنّ معين الدين سليمان البرواناة ارتاب بركن الدين فقتله غيلة سنة ست وستين ونصب ابنه كنخسرو [1] للملك ولقبه غياث الدين وكان متغلبا عليه مقيما مع ذلك على طاعة التتر وربما كان يستوحش منهم فيكاتب سلطان مصر بالدخول في طاعته واطلع أبغا على كتابه بذلك إلى الظاهر بيبرس فنكره وهلك صمغار الشحنة فبعث
__________
[1] وفي نسخة اخرى: كنخسرو.(5/631)
أبغا مكانه أميرين من أمراء المغل وهما تدوان وتوقر فتقدما سنة خمس وسبعين إلى بلاد الشام ونزلا بابلستين ومعهما غياث الدين كنجسرو وكافله البرواناة في العساكر وسار الظاهر من دمشق فلقيهم بابلستين وقد قعد البرواناة لما كان تواعد مع الظاهر عليه وهزمهم الظاهر جميعا وقتل الأميرين تدوان وتوقر في جماعة من التتر ونجا البرواناة وسلطانه فلم يصب منهم أحد واستراب السلطان بالبرواناة لذلك وملك الظاهر قيسارية كرسي بلاد الروم وعاد إلى مصر وجاء أبغا ووقف على مكانه الملحمة ورأى مصارع قومه فصدّق الريبة بممالأة الظاهر والبرواناة وأصحابه فاكتسح البلاد وخربها ورجع ثم استدعى البرواناة إلى معسكره فقتله وأقام مكانه في كفالة كنجسرو أخاه عز الدين محمدا ولم يزل غياث الدين واليا على بلاد الروم والشحنة من المغل حاكم في البلاد إلى أن ولي تكرار بن هلاكو وكان أخوه قنقرطاي مقيما ببلاد الروم مع صمغار فبعث عنه وامتنع من الوصول فأوعز إلى غياث الدين واعتقله بارزنكان وولي على بلاد الروم على الشحنة أولاكو من أمراء المغل وذلك سنة إحدى وثمانين ويقال أنّ أرغو بن أبغا هو الّذي ولىّ أولا كوشحنة ببلاد الروم بعد صمغار وأنّ تدوان وتوقر إنما بعث بهما أبغا لقتال الظاهر ولم يرسلهما شحنة ثم أقام مسعود بن عز الدين كيكاوس في سلطانه ببلاد الروم والحكم لشحنة التتر وليس له من الملك إلا اسمه إلى أن افترق واضمحلّ أمره وبقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم وكان منهم أوّل المائة الثامنة الأمير علي وهو الّذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس واستعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه وقتله كما مرّ في أخبار الأرمن في دولة الترك وكان منهم سنة عشرين وسبعمائة الأمير ألبغا ولي السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث وعشرين واستفحل بها ملكه وجاهد الأرمن بسيس واستمدّ الناصر محمد بن قلاون صاحب مصر عليهم فأمدّه بالعساكر وافتتحوا إياس عنوة ورجعوا ثم نكب السلطان أبو سعيد نائبة جوبان بن بروان وقتله كما مرّ في أخبارهم وبلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك ولحق بمصر في عساكره وأمرائه فأقبل السلطان عليه وتلقاه بالتكرمة والإيثار وجاءت رسل أبي سعيد في اتباعه تطلب حكم الله تعالى فيه بسعيه في الفساد وإثارة الفتنة على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فقتلوه وقتل دمرداش بمصر وذهبا بما كسبا وكان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من أمرائه إرتنا وكان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته فولاه على البلاد فملكها ونزل سيواس واتخذها كرسي ملكه ثم استبدّ حسن بن دمرداش بتوريز فبايع له إرتنا ثم انتقض وكاتب الملك الناصر(5/632)
صاحب مصر ودخل في طاعته وبعث إليه بالولاية والخلع فجمع له حسن بن دمرداش وسار إليه بسيواس وسار ارتنا للقائه بصحراء كسنوك وهزمه وأسر جماعة من أمرائه وذلك سنة أربع وأربعين واستفحل ملك ارتنا من يومئذ وعجز جوبان وحسن بن دمرداش عن طلبه إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين وأمّا بنوه من بعده فلا أدري من ملك منهم ولا ترتيب ولايتهم إلا أنه وقع في أخبار الترك أنّ السلطان أوعز سنة ست وستين إلى نائب حلب أن يسير في العساكر لإنجاد محمد بك بن إرتنا فمضوا وظفروا وما زال إرتنا وبنوه مستبدّين ببلاد الروم وأعمالها واقتطع لهم التركمان منها بلاد الأرمن سيس وما إليها فاستولى عليها بنو دلقادر على خلافه وزحف إليه وهي في أيديهم لهذا العهد ولما خالف سعاروس من أمراء الترك سنة اثنتين وخمسين ظاهره قراجا بن دلقادر على خلافه وزحف إليه السلطان من مصر فافترقت جموعه واتبعه العساكر فقتل وبعث السلطان سنة أربع وخمسين عسكرا في طلب قراجا فساروا إلى ابلستين وأجفل عنها نائبها فنهبوا أحياءه ولحق هو بابن أرتنا بسيواس فقبض عليه وبعث به إلى السلطان بمصر فقتله واقتطع التركمان ناحية الشمال من أعمالهم إلى القسطنطينية وأثخنوا في أمم النصرانية وراءهم واستولوا على كثير من تلك الممالك وراء القسطنطينية وأميرهم لهذا العهد في عداد الملوك الأعاظم ودولتهم ناشئة متجدّدة وكان صبيا بسيواس منذ أعوام الثمانين وهو من أعقاب بني إرتنا فاستبدّ عليه قاضي البلد لما كان كافلا له بوصية أبيه ثم قتل القاضي ذلك الصبيّ أعوام اثنتين وتسعين واستبدّ بذلك وكانت هناك أحياء التتر يناهزون ثلاثين ألفا أو نحوها مقيمين بتلك النواحي دمرداش بن جوبان ومن قبله من أمراء المغل فكانوا شيعة لبني إرتنا وعصابة لهم وهم الذين استنجد بهم القاضي حين وجهت إليه عساكر مصر في طلب منطاش الثائر الّذي فر ثم لحق به وسارت عساكر مصر في طلبه سنة تسع وثمانين فاستنجد القاضي بأحياء التتر هؤلاء وجاءوا لإنجاده ورجعت عساكر مصر عنهم كما تقدّم ذلك كله في أخبار الترك والحال على ذلك لهذا العهد والله مصير الأمور بحكمته وهو على كل شيء قدير
.(5/633)
الخبر عن الدولة المستجدّة للتركمان في شمال بلاد الروم إلى خليج القسطنطينية وما وراءه لبني عثمان وإخوته
قد تقدّم لنا في أنساب العالم ذكر هؤلاك التركمان وإنهم من ولد يافث بن نوح أي من توغرما بن كومر بن يافث كذا وقع في التوراة وذكر الفيومي من علماء بني إسرائيل ونسابتهم أنّ توغرما هم الخزر وأن الخزر هم التركمان إخوة الترك ومواطنهم فيما وجدناه من بحر طبرستان ويسمى بحر الخزر إلى جو في القسطنطينية وشرقها إلى ديار بكر وبعد انقراض العرب والأرمن ملكوا نواحي الفرات من أوّله إلى مصبه في دجلة وهم شعوب متفرّقون وأحياء مختلفون لا يحصرهم الضبط ولا يحويهم العدّ وكان منهم ببلاد الروم وجموع مستكثرة كان ملوكها يستكثرون بهم في حروبهم مع أعدائهم وكان كبيرهم فيها لعهد المائة الرابعة جق وكانت أحياؤهم متوافرة وأعدادهم متكاثرة ولما ملك سليمان بن قطلمش قونية بعد أبيه وفتح انطاكية سنة سبع وسبعين من يد الروم طالبه مسلم بن قريش بما كان له على الروم فيها من الجزية فأنف من ذلك وحدثت بينهما الفتنة وجمع قريش العرب والتركمان مع أميرهم جق وسار إلى حرب سليمان بأنطاكية فلما التقيا مال التركمان إلى سليمان لعصبية الترك وانهزم مسلم بن قريش وقتل وأقام أولئك التركمان ببلاد الروم أيام بني قطلمش موطنين بالجبال والسواحل ولما ملك التتر ببلاد الروم وأبقوا على بني قطلمش ملكهم وولوا ركن الدولة قليج أرسلان بعد أن غلب أخوه عز الدين كيكاوس وهرب إلى القسطنطينية وكان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك وأخاه الياس بك وصهره علي بك وقريبه سونج والظاهر أنهم من بني جق فانتقضوا على ركن الدولة وبعثوا إلى هلاكو بطاعتهم وتقرير الأثر عليهم وأن يبعث إليهم باللواء على العادة وأن يبعث شحنة من التتر يختص بهم فأسعفهم بذلك وقلدهم وهم من يومئذ ملوك بها ثم أرسل هلاكو إلى محمد بك الأمير يستدعيه فامتنع من المسير إليه واعتذر فأوعز هلاكو إلى الشحنة الّذي ببلاد الروم إلى السلطان قليج أرسلان بمحاربته فساروا إليه وحاربوه ونزع عنه صهره علي بك ووفد على هلاكو فقدمه مكان محمد صهره ولقي محمد العساكر فانهزم وأبعد في المفرّ. ثم جاء إلى قليج أرسلان مستأمنا فأمنه وسار معه إلى قونية فقتله واستقرّ صهره علي بك أميرا على التركمان وفتحت عساكر التتر نواحي بلاد الروم إلى إسطنبول والظاهر أنّ بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه يشهد بذلك اتصال هذه الإمارة(5/634)
فيهم مدّة هذه المائة سنة ولما اضمحلّ أمر التتر من بلاد الروم واستقرّ بنو ارتنا بسيواس وأعمالها غلب هؤلاء التركمان على ما وراء الدروب إلى خليج القسطنطينية ونزل ملكهم مدينة برصا من تلك الناحية وكان يسمى أورخان بن عثمان جق فاتخذها دارا لملكهم ولم يفارق الخيام إلى القصور وإنما ينزل بخيامه في بسيطها وضواحيها وولي بعده ابنه مر أدبك وتوغل في بلاد النصرانية وراء الخليج وافتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة وجبال جنوة وصار أكثرهم ذمّة ورعايا وعاث في بلاد الصقالبة بما لم يعهد لمن قبله وأحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها من أعقاب لشكري وطلب منه الذمّة وأعطاه الجزية ولم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وولي بعده ابنه أبو يزيد وهو ملكهم لهذا العهد وقد استفحل ملكهم واستنجدت بالغز دولتهم وكان قد غلب على قطعة من بلاد الروم ما بين سيواس وبلادهم من انطاكية والعلايا بحيال البحر إلى قونية بنو قرمان من أمراء التركمان وهم الذين كانوا في حدود أرمينية وجدّهم هو الّذي هزم أوشين بن ليعون ملك سيس من الأرمن سنة عشرين وسبعمائة ثم كان بين بني عثمان جق وبين بني قرمان اتصال ومصاهرة وكان ابن قرمان لهذا العهد صهر السلطان مراد بك على أخته فغلبه السلطان مراد بك على ما بيده ودخل ابن قرمون صاحب العلايا في طاعته بل والتركمان كلهم وفتح سائر البلاد ولم يبق له إلّا سيواس بلد بني ارتنا في استبداد القاضي الّذي عليها وما أدرى ما الله صانع بعد ظهور هذا الملك تمر المتغلب على ملك المغل من بني جفطاي بن جنكزخان وملك ابن عثمان لهذا العهد مستفحل بتلك الناحية الشمالية ومتسع في أقطارها ومرهوب عند أمم النصرانية هنالك ودولته مستجدّة عزيزة على تلك الأمم والأحياء والله غالب على أمره وإلى هنا انتهت أخبار الطبقة الثالثة من العرب ودولهم وهم الأمم التابعة للعرب بما تضمنه من الدول الإسلامية شرقا وغربا لهم ولمن تبعهم من العجم فلنرجع الآن إلى ذكر الطبقة الرابعة من العرب وهم المستعجمة أهل الجيل الناشيء بعد انقراض اللسان المضري ودروسه ونذكر أخبارهم ثم نخرج إلى الكتاب الثالث من الثالث في أخبار البربر ودولهم فنفرغ بفراغها من الكتاب إن شاء الله تعالى والله وليّ العون والتوفيق بمنه وكرمه.
تم طبع الجزء الخامس ويليه الجزء السادس أوّله الطبعة الرابعة(5/635)
[المجلد السادس]
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة أهل الجيل الناشئ لهذا العهد من بقية أهل الدولة الإسلامية من العرب
لما استقلّت مضر وفرسانها وأنصارها من اليمن بالدولة الإسلامية، فيمن تبع دينهم من إخوانهم ربيعة ومن وافقهم من الأحياء اليمنيّة، وغلبوا الملل والأمم على أمورهم، وانتزعوا الأمصار من أيديهم، وانقلبت أحوالهم من خشونة البداوة وسذاجة الخلافة إلى عزّ الملك وترف الحضارة، ففارقوا الحلل وافترقوا على الثغور البعيدة والأقطار البائنة عن ممالك الإسلام، فنزلوا بها حامية ومرابطين عصبا وفرادى. وتناقل الملك من عنصر إلى عنصر ومن بيت الى بيت، واستفحل ملكهم في دولة بني أميّة وبني العبّاس من بعدهم بالعراق، ثم دولة بني أمية الأخرى بالأندلس، وبلغوا من الترف والبذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم، فانقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم، واستأثروا مهاد الدعة واستطابوا خفض العيش، وطال نومهم في ظلّ الغرف والسلم، حتى ألفوا الحضارة ونسوا عهد البادية وانفلتت من أيديهم الملكة التي نالوا بها الملك، وغلبوا الأمم من خشونة الدين وبداوة الأخلاق، ومضاء المضرب.(6/3)
فاستوت الحامية والرعية لولا الثقافة، وتشابه الجند والحضر إلّا في الشارة. وأنف السلطان من المساهمة في المجد والمشاركة في النسب، فجدعوا أنوف المتطاولين إليه من أعياصهم وعشائرهم ووجوه قبائلهم، وغضّوا من عنان طموحهم، واتخذوا البطانة مقرّهم من موالي الأعجام وصنائع الدولة، حتى كثروا بهم قبيلتهم من العرب الذين أقاموا الدولة، ونصروا الملّة ودعموا الخلافة، وأذاقوهم وبال الخلابة من القهر، وساموهم خطّة الخسف والذلّ، فأنسوهم ذكر المجد وحلاوة العزّ، وسلبوهم نصرة العصبيّة حتى صاروا أجراء على الحامية، وخولا لمن استعبدهم من الخاصّة وأوزاعا متفرّقين بين الأمّة، وصيّروا لغيرهم الحلّ والعقد والإبرام، والنقض من الموالي والصنائع، فداخلتهم أريحية العزّ وحدّثوا أنفسهم بالملك، فجحدوا الخلفاء وقعدوا بدست الأمر والنهي. واندرج العرب أهل الحماية في القهر واختلطوا بالهمج، ولم يراجعوا أحوال البداوة لبعدها، ولا تذكّروا عهد الأنساب لدروسها. فدثروا وتلاشوا شأن من قبلهم وبعدهم، سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ من قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا. 48: 23 (وكان المولدون) لتمهيد قواعد الأمر، وبناء أساسه من أوّل الإسلام والدين والخلافة من بعده، والملك، قبائل من العرب موفورة العدد عزيزة الأحياء. فنصروا الإيمان والملّة، ووطّدوا أكناف الخلافة، وفتحوا الأمصار والأقاليم، وغلبوا عليها الأمم والدول. أمّا من مضر: فقريش وكنانة وخزاعة وبنو أسد وهذيل وتميم وغطفان وسليم وهو زان، وبطونها من ثقيف وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة ومن إليهم من الشعوب والبطون والأفخاذ والعشائر والخلفاء والموالي. وأما من ربيعة: فبنو ثعلب بن وائل وبنو بكر بن وائل وكافة شعوبهم من بني شكر وبني حنيفة وبني عجل وبني ذهل وبني شيبان وتيم الله. ثم بنو النمر من قاسط، ثم عبد القيس ومن إليهم. وأمّا من اليمنية ثم من كهلان بن سبإ منهم: فأنصار الله الخزرج والأوس ابنا قيلة من شعوب غسّان وسائر قبال الأزد، ثم همذان وخثعم وبجيلة، ثم مذحج وكافة بطونها من عبس ومراد وزبيد والنّخع والأشعريّين وبني الحرث بن كعب، ثم لحي وبطونها ولخم وبطونها، ثم كندة وملوكها.(6/4)
وأمّا من حمير بن سبإ فقضاعة وجميع بطونها ومن إلى هذه القبائل والأفخاذ والعشائر والأحلاف. هؤلاء كلّهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فنبا منهم الثغور والقصيّة، وأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع المذكورة، فلم يبق منهم حيّ يطرف، ولا حلّة تنجع ولا عشير يعرف، ولا قليل يذكر ولا عاقلة تحمل جناية، ولا عصابة بصريخ إلّا سمع من ذكر أسمائهم في أنساب أعقاب متفرّقين في الأمصار التي ألخموها بجملتهم، فتقطّعوا في البلاد ودخلوا بين الناس فامتهنوا واستهينوا وأصبحوا خولا للأمراء، وريبا للواسد وعالة على الحرب. وقام بالإسلام والملّة غيرهم، وصار الملك والأمر في أيدي سواهم، وجلبت بضائع العلوم والصنائع إلى غير سوقهم، فغلب أعاجم المشرق من الديلم وانسلخوا فيه والأكراد والعرب والترك على ملكه ودولته [1] فلم يزل مناقلة فيهم إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب من زناتة والبربر على أمره أيضا، فلم تزل الدول تتناقل فيهم على ما نذكره بعد إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب والبربر على أمره، وانقرض أكثر الشعوب الذين كان لهم الملك من هؤلاء فلم يبق لهم ذكر. وانتبذ بقية هذه الشعوب من هذه الطبقة بالقفار وأقاموا أحياء بادين لم يفارقوا الحلل ولا تركوا البداوة والخشونة، فلم يتورطوا في مهلكة الترف ولا غرقوا في بحر النعيم، ولا فقدوا في غيابات الأمصار والحضارة ولهذا أنشد شاعرهم:
فمن ترك الحضارة أعجبته ... بأيّ رجال بادية ترانا [2]
وقال المتنبي يمدح سيف الدولة ويعرّض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عيثهم وفسادهم:
وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق [3]
فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتا من أداحي النقانق [4] .
(وأقامت) هذه الأحياء في صحارى الجنوب من المغرب والمشرق بإفريقية ومصر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فغلب أعاجم المشرق من الديلم والسلجوقية والأكراد والغزّ والترك على ملكه ودولته.
[2] ورد هذا البيت في النسخة التونسية:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية توانى
[3] الغلفق كجعفر الطحلب أو نبت في الماء ورقه عراض. قاله المجد.
[4] وقال النقنق كزبرج الظلم انتهى. وقد ورد. هذا البيت في النسخة التونسية
فهاجوك أهدى في الغلاة من القطا ... وأبدى بيوتا من بيوت النقانق(6/5)
والشام والحجاز والعراق وكرمان، كما كان سلفهم من ربيعة ومضر وكهلان في الجاهلية، وعتوا وكثروا وانقرض الملك العربيّ الإسلامي. وطرق الدول الهرم الّذي هو شأنها واعتزّ بعض أهل هذا الجيل غربا وشرقا فاستعملتهم الدول وولّوهم الإمارة على أحيائهم وأقطعوهم في الضاحية والأمصار والتلول وأصبحوا جيلا في العالم ناشئا، كثروا سائر أهله من العجم. ولهم في تلك الإمارة دول، فاستحقّوا أن تذكر أخبارهم، وتلحق بالأحياء من العرب سلفهم. ثم إن اللسان المضري الّذي وقع به الإعجاز ونزل به القرآن فثوى فيهم وتبدّل إعرابه فمالوا إلى العجمة. وإن كانت الأوضاع في أصلها صحيحة، واستحقوا أن يوصفوا بالعجمة من أجل الإعراب، فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة.
(فلنذكر الآن) بقية هؤلاء الشعوب من هذه الطبقة في المغرب والمشرق ونخصّ منهم الأحياء الناجعة والأقدار النابهة، ونلغي المندرجين في غيرهم. ثم نرجع إلى ذكر المنتقلين من هذه الطبقة إلى إفريقية والمغرب فنستوعب أخبارهم لأن العرب لم يكن المغرب لهم في الأيام السابقة بوطن، وإنما انتقل إليه في أواسط المائة الخامسة أفاريق من بني هلال وسليم اختلطوا في الدول هنالك، فكانت أخبارهم من أخبارها، فلذلك استوعبناها. وأمّا آخر مواطن العرب فكانت برقة، وكان فيها بنو قرّة بن هلال بن عامر. وكان لهم في دول العبيديّين أخبار، وحكايتهم في الثورة أيام الحاكم والبيعة لأبي ركوة من بني أميّة في الأندلس معروفة، وقد أشرنا إليها في دولة العبيديّين.
ولما أجاز بنو هلال وسليم إلى المغرب خالطوهم في تلك المواطن، ثم ارتحلوا معهم إلى المغرب كما نذكره في دخول العرب إلى إفريقية والمغرب. وبقي في مواطنهم ببرقة لهذا العهد أحياء بني جعفر، وكان شيخهم أوسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد ابن حميد [1] . وهم ينسبون في المغرب [2] تارة في العزّة ويزعمون أنهم من بني كعب ابن سليم، وتارة في الهيب كذلك، وتارة في فزارة، والصحيح في نسبهم أنهم من مسراته إحدى بطون هوارة سمعته من كثير من نسابتهم، وبعدهم فيما بين برقة والعقبة الكبيرة أولاد سلام، وما بين العقبة الكبيرة والإسكندرية أولاد مقدّم وهم بطنان:
__________
[1] قوله حميد وفي نسخة اخرى كميد وفي نسخة ثانية كميل بضم الكاف وفتح الميم.
[2] وفي نسخة ثانية: ينتسبون في العرب.(6/6)
أولاد التركية وأولاد قائد. ومقدّم وسلام معا ينسبون إلى لبيد، فبعضهم يقول لبيد بن لعتة [1] بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وبعضهم يقول في مقدّم: مقدّم بن عزاز بن كعب بن سليم.
(وذكر لي سلام) شيخ أولاد التركية: أن أولاد مقدّم من ربيعة بن نزار، ومع هؤلاء الأحياء حتى محارب ينتمون بآل جعفر. ويقال إنهم من جعفر بن كلاب، وهي رواحة ينتمون بآل زبيد، ويقال من جعفر أيضا. والناجعة من هؤلاء الأحياء كلّهم ينتمون في شأنهم إلى الواحات من بلاد القبلة. (وقال ابن سعيد) ومن غطفان في برقة مهيب ورواحة وفزارة، فجعل هؤلاء من غطفان والله أعلم بصحة ذلك.
(وفيما بين الإسكندرية ومصر) قبائل رحّالة ينتقلون في نواحي البحيرة هنالك، ويعمّرون أرضها بالسكنى والفلح، ويخرجون في المشاتي إلى نواحي العقبة وبرقة من مراية وحوارة [2] وزنارة [3] إحدى بطون لواته، وعليهم مغارم الفلح. ويندرج فيهم أخلاط من العرب والبربر لا يحصون كثرة. وبنواحي الصغير قبائل من العرب من بني هلال وبني كلاب من ربيعة. وهؤلاء أحياء كثيرة ويركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويعمّرون الأرض بالفلاحة ويقومون بالخراج للسلطان. وبينهم مع ذلك من الحروب والفتن ما ليس يكون بين أحياء القفر.
(وبالصعيد) الأعلى من أسوان وما وراءها إلى أرض النوبة إلى بلاد الحبشة قبائل متعدّدة وأحياء متفرّقة، كلهم من جهينة إحدى بطون قضاعة، ملئوا تلك القفار وغلبوا النوبة على مواطنهم وملكهم، وزاحموا الحبشة في بلادهم وشاركوهم في أطرافها. والذين يلون أسوان هم يعرفون بأولاد الكنز، كان جدّهم كنز الدولة، وله مقامات مع الدول مذكورة، ونزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة، وأخرجوهم منها، فهم يعرفون بينهم بالشرفاء الجعافرة، ويحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هينة.
[2] وفي نسخة ثانية: مزانت وهوارة. ولعلها مزاتة كما في كتاب قبائل المغرب ص 304.
[3] لم نجد لها في ذكر في قبائل الغرب وبطون لواته: زائر وكطوط وماصل وفاضل وفأصل ونبطط (قبال المغرب ص 304) .(6/7)
(وبنواحي مصر) من جهة القبلة إلى عقبة أيلة أحياء جذام جمهورهم من العائد [1] وعليهم درك السابلة بتلك الناحية. ولهم على ذلك الأقطاع والعوائد من السلطان.
ويليهم من جهة الشرق بالكرك ونواحيها أحياء بني عقبة من جذام أيضا، ورحالة ناجعة تنتهي رحلتهم الى المدينة النبويّة. وعليهم درك السابلة فيما يليهم. وفيما وراء عقبة أيلة إلى القلزم قبائل من قضاعة ومن القلزم إلى الينبع، مع قبائل من جهينة.
ومن الينبع إلى بدر ونواحيه من زبيد إحدى بطون مذحج، ولهم الأمراء بمكّة من بني حسن حلف ومواخاة. وفيما بين مكّة والمهجم مما يلي اليمن قبائل بني شعبة من كنانة، وفيما بين الكرك وغزّة شرقا قبائل جذام من قضاعة في جموع وافرة، ولهم أمراء أعزّة يقطعهم السلطان على العسكر وحفظ السابلة، وينجعون في المشاتي إلى معان وما يليها من أسافل نجد، مما يلي تيماء، وبعدهم في أرض الشام بنو حارثة بن سنبس وآل مراء من ربيعة إخوة آل فضل الملوك على العرب في برية الشام والعراق ونجد. وأخبرني بعض أمراء حارثة بن سنبس عن بطون. فلنذكر الآن خبر أولاد فضل أمراء الشام والعراق من طيِّئ فنبين [2] أعراب الشام جميعا.
(خبر آل فضل وبني مهنا منهم ودولتهم بالشام والعراق)
هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل، وهم رحّالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز، ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين [3] وينتهون في طيِّئ ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهزيم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم [4] في الغلب والعدد آل مراء. ويزعمون أنّ فضلا ومراء آل ربيعة، ويزعمون أيضا أن فضلا ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي، وأنّ آل فضل كلهم كانوا بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها، فنزلوا حمص ونواحيها، وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية من العابد.
[2] وفي نسخة ثانية: فيهم يتبين حال أعراب الشام جميعا.
[3] اي رحلة الشتاء والصيف.
[4] وفي النسخة التونسية ويناهضهم في الغلب.(6/8)
بها حتى الآن لا يفارقونها. قالوا: ثم اتصل آل فضل باللد [1] من السلطنة وولّوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق، فاستظهروا برياستهم على آل مراء، وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى، لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل.
وكانت معهم أحياء من أفاريق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان لآل فضل. إلا أنّ أكثر من كان من آل مراء أولئك الأحياء وأوفرهم عددا بنو حارثة من إحدى سنى بطون طيِّئ [2] هكذا ذكر الثقة عنهم من رجالاتهم. وحارثة هؤلاء متغلّبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى القفار.
ومواطن طيِّئ بنجد قد اتسعت، وكانوا أول خروجهم من اليمن نزلوا جبلي أجا وسلمى، وغلبوا عليهما بني أسد وجاوروهم. وكان لهم من المواطن سميراء وميد [3] من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيِّئ بلادهم فيما وراء الكرخ من من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيِّئ بلادهم فيما وراء الكرخ من أرض غفرو [4] وكذلك ورثوا منازل تميم بأرض نجد فيما بين البصرة والكوفة واليمامة. وكذلك ورثوا غطفان ببطن مما يلي وادي القرى.
هكذا قال ابن سعيد. وقال: أشهر الحجازيين منهم الآن بنو لام وبنو نبهان والصولة بالحجاز لبني لام بين المدينة والعراق، ولهم حلف مع بني الحسين أمراء المدينة.
قال: وبنو صخر منهم في جهة تيماء بين الشام وخيبر. قال: وغربة من طيِّئ بنو غربة [5] بن أفلت بن معبد بن عمر بن عنبس بن سلامان، ومن بعد بلادهم حيّ الأنمر والأساور [6] ورثوها من عنزة. ومنازلهم لهذا العهد في مصايفهم بالكيبات [7] وفي مشاتيهم مع بني لام من طيِّئ. وهم أهل غارة وصولة بين الشام والعراق. ومن بطونهم الأجود والبطنين وإخوانهم زبيد نازلون بالموصل، فقد جعل ابن سعيد: زبيد هؤلاء من بطون طيِّئ، ولم يجعلهم من مذحج. رياسة آل فضل في هذا العهد في
__________
[1] بياض بالأصل وفي النسخة التونسية: «ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية» .
[2] وفي النسخة التونسية: بنو حارثة بن عنبس احدى شعوب طيِّئ.
[3] وفي نسخة ثانية قيد، والميد من الشعوب الشرقية الفارسية (قبائل الغرب ص 258) .
[4] وفي النسخة التونسية: من ارض نجد.
[5] وفي النسخة التونسية: وعزية من طيِّئ بنو عزية.
[6] وفي النسخة التونسية: سلامات بن بعل، بلادهم عين التمر والأنبار.
[7] وفي النسخة التونسية: بالكبيات.(6/9)
بني مهنا، وينسبونه هكذا: كنا بن مايع بن مدسة بن عصية [1] بن فضل بن بدر بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن قصية بن بدر بن سميع. ويقفون عند سميع.
ويقول زعماؤهم أن سميعا هذا هو الّذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي. وحاشا للَّه من هذه المقالة في الرشيد وأخته، وفي بنات كبراء العرب من طيِّئ إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم.
ثم إنّ الموجود تميل رياسته مثل هؤلاء على هذا الحي إذا لم يكونوا من نسبهم. وقد تقدم مثل ذلك في مقدّمات الكتاب.
(وكان مبدأ رياستهم) من أول دولة بني يعقوب. قال العماد الأصبهاني: نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة. وكانت الرئاسة فيهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيِّئ. وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح. وكان من أقطاعه التي معه وهو الّذي قبض على اسكى [2] مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق. وجاء إلى الشام سنة أربع وستين وثلاثمائة وملك دمشق وزحف مع القرامطة لقتال العزيز بن المعز لدين الله صاحب مصر، فهزمهم العزيز وهرب أفتكين فلقيه مفرج بن دغفل، وجاء به إلى العزيز فأكرمه ورقاه في دولته.
ولم يزل شأن مفرج هذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة. وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجرار. وولي حسان بعده وعظم صيته، وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين معزة واستقامة، وهو الّذي هزم الرملة وهزم قائدهم باروق التركي وقتله وسبى نساءه، وهو الّذي مدحه التهامي. ويذكر المسمى وغيره أنّ موطئ دولة العبيديين [3] في قرابة حسان بن مفرج هذا فضل بن ربيعة بن حازم وأخوه بدر بن ربيعة وابنا بدر. ولعل فضلا هذا هو جدّ آل فضل.
(قال ابن الأثير) إن فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب السقاء والبيت المقدس. وكان الفضل تارة مع الفرنج وتارة مع خلفاء مصر. ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش فطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد بالحلة وحالفه. ووصله صدقة بتسعة آلاف دينار. فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان
__________
[1] وفي النسخة التونسية: مهنا بن مانع بن حديثه بن غضية.
[2] وفي النسخة التونسية: وكان من اقطاعه الرحلة، وهو الّذي قبض على افتكين مولى بني بويه.
[3] وفي النسخة التونسية: ويذكر المسبحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين.(6/10)
محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها، ووقعت بينهما الفتنة اجتمع له فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة ومسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان، كانوا كلهم أولياء صدقة، فصار في الطلائع بين يدي الحرب، وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم، وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة، واستأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار، فلم يراجع السلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير.
ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلا هذا وبدرا من آل جراح بلا شك.
ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أنّ فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه: فضل بن ربيعة بن الجراح. فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الّذي هو كبير بني الجراح لبعد العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية القفر [1] .
وأما نسبة هذا الحي من آل فضل بن ربيعة بن فلاح من مفرج في طيِّئ، فبعضهم يقول: إن الرئاسة في طيِّئ كانت لأياس بن قبيصة من بني سبإ بن عمرو بن الغوث من طيِّئ، وإياس هو الّذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر لما قتل النعمان بن المنذر، وهو الّذي صالح خالد بن الوليد عن الحيرة على الجزية. ولم تزل الرئاسة على طيِّئ إلى بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام. فلعل بني الجراح وآل فضل هؤلاء من أعقابهم، وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليهم، لأن الرئاسة على الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب.
(وقال ابن حزم) عند ما ذكر أنساب طيِّئ وأنهم لما خرجوا من اليمن مع بني أسد نزلوا جبلي أجا وسلمى، وأوطنوهما وما بينهما، ونزل بنو أسد ما بينهم وبين العراق. وفضل كثير منهم وهم: بنو حارثة نسبة إلى أمهم [2] ، وتيم الله، وحبيش، والأسعد إخوتهم رحلوا على الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب، وحاضر طيِّئ وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد، فإنّهم أقاموا بالجبلين فكانوا جبليين [3] ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة السهيليون انتهى.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: من البادية الغفل.
[2] وفي النسخة التونسية: وهم بنو خارجة بن سعد بن قطرة، ويقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم.
[3] يبدو من سياق النص ان عبارة سقطت أثناء النسخ، وفي النسخة التونسية: فإنهم أقاموا بالجبلين، فكان يقال لأهل الجبلين: الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة: السهليون.(6/11)
فلعل هذه الأحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيِّئ، لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبلي أجا وسلمى الّذي هو موضع الآخرين، فاللَّه أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم. وتحت خفارتهم بنواحي الفرات ابن كلاب [1] بن ربيعة بن عامر دخلوا مع قبائل عامر بن صعصعة من نجد إلى الجزيرة.
ولما افترق بنو عامر على الممالك الإسلامية اختص هؤلاء بنواحي حلب وملكها منهم بنو صالح بن مرداس من بني عمرو بن كلاب. ثم تلاشى ملكهم ورجعوا عنها الى الأحياء وأقاموا بالفرات تحت خفارة هؤلاء الأمراء من طيِّئ.
(وأما ترتيب رياستهم) على العرب بالشام والعراق منذ دولة بني أيوب العادل وإلى هذا العهد، وهو آخر ست وتسعين وسبعمائة، فقد ذكرنا ذلك في دولة الترك ملوك مصر والشام، وذكرناهم واحدا بعد واحد على ترتيبهم. وسنذكرهم هاهنا على ذلك الترتيب فنقول: كان الأمير لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما كان بعده حسام الدين مانع بن حارثة بمصر والشام.
وفي سنة ثلاثين وستمائة ولي عليهم بعده ابنه مهنا. ولما ارتجع قطز بن عصية بن فضل أحد ملوك الترك بمصر والشام من أيدي التتر، وهزمهم بعين جالوت، أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن مظفّر بن شاهنشاه صاحب حماة، ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا. ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل ملك الترك. وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم إلى بغداد عيسى بن مهنا بن مانع، وجرّ له الاقطاعات على حفظ السابلة، وحبس ابن عمّه زامل بن عليّ بن ربيعة من آل فضل على سعايته وإغرامه. ولم يزل يغير على أحياء العرب، وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدّة عليهم، وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وسبعين وستمائة وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام.
وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين وستمائة فولى المنصور قلاون من بعده ابنه مهنا.
ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص، ووفد عليه مهنا بن عيسى في
__________
[1] وفي النسخة التونسية: من كلاب بن ربيعة.(6/12)
جماعة من قومه، فقبض عليه وعلى ابنه موسى وإخوته محمد وفضل ابني مهنا. وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عند ما جلس على التخت سنة أربع وتسعين وستمائة، ورجع إلى إمارته. وكان له في أيام الناصر نصرة واستقامة وميلة إلى ملوك التتر بالعراق، ولم يحضر شيئا من وقائع غازان. ولما فرّ أسفر وأقوش الأفرم [1] وأصحابهما سنة عشر وسبعمائة لحقوا به، وساروا من عنده إلى خرشد [2] واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة.
ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فرعا له حق وفادته، وولاه على العرب مكان أخيه مهنا، وبقي مهنا مشردا. ثم لحق سنة ست عشرة وسبعمائة بخرشد ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق. وهلك خرشد في تلك السنة فرجع مهنا إلى أحيائه، ووفد ابنه أحمد وموسى وأخوه محمد بن عيسى مستعتبين على الناصر ومتطارحين عليه، فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق، وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا وردّه إلى إمارته وأقطاعه، وذلك سنة سبع عشرة وسبعمائة وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل في اثني عشر ألف راحلة. ثم رجع مهنا إلى دينه في ممالأة التتر والاجلاب على الشام. واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه، وسخط عليه قومه أجمع. وتقدم إلى أبواب الشام سنة عشرين وسبعمائة بعد مرجعه من الحج، فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم مالكا على عدالته بينهم [3] وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر، وصرف أقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدّة.
ثم وفد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحا على السلطان، فأقبل عليه وردّ عليه أقطاعه وإمارته.
(وذكر لي) بعض أمراء الكبراء [4] بمصر فيمن أدرك وفادته أو حدث بها: أنه تجافى في هذه الوفادة من قبول شيء من السلطان، حتى أنه ساق عنده النياق الحلوبة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولما انتقض قر استقر وأقوش الأفرم.
[2] وفي نسخة ثانية: خربندا ولم نجد لها ذكر، ولعلها خرشيد وهي بليدة على سواحل فارس يدخل إليها في خليج من البحر نحو فرسخ في المراكب (معجم البلدان) .
[3] وفي النسخة التونسية: وأدال منهم بال علي عديلة نسبهم.
[4] وفي النسخة التونسية: بعض كبار الأمراء.(6/13)
والعراب، وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئا من حاجاته، ثم رجع إلى أحيائه وتوفي سنة اربع وثلاثين وسبعمائة فولي ابنه مظفر الدين موسى، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة عقب مهلك الناصر، وولي مكانه أخوه سليمان.
ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى. ثم توفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة بالقريتين ودفن عند قبر خالد بن الوليد. وولي مكانه أخوه سيف بن فضل، ثم عزله السلطان بمصر، الكامل ابن الناصر سنة ست وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أحمد بن مهنا بن عيسى. ثم جمع سيف بن فضل ولقيه فياض بن مهنا بن عيسى وانهزم سيف. ثم ولي السلطان حسن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيبغاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم.
ثم توفي سنة سبع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض، وهلك سنة تسع وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أخوه خيار بن مهنا، وولاه حسن الناصر في دولته الثانية. ثم انتقض سنة خمس وستين وسبعمائة وأقام سنتين بالقصر عاصيا إلى أن تشفع فيه نائب حماة، فأعيد إلى إمارته. ثم انتقض سنة سبعين وسبعمائة فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى، وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم، وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري، فبرز إليهم وانتهى إلى خيمهم، واستاق نعمهم وتخطي إلى الخيام فاستجاشوا بها [1] وهزموا عساكره وقتل قشتمر ابنه في المعركة، تولى هو قتله بيده، وذهب إلى القفر منتقضا فولى الأشرف مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى [2] . ثم بعث ابن معيقل صاحبه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة يستأمن لخيار فآمنه. ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين وسبعمائة فرضي عنه السلطان وأعاده إلى إمارته. ثم توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة فولي أخوه مالك إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فولى مكانه معيقل بن موسى بن عيسى، وابن مهنا شريكين في إمارتهما. ثم عزلا لسنة وولي بعير بن جابر [3] بن مهنا واسمه محمد، وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيِّئ بالشام. والسلطان
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فاستماتوا دونها.
[2] وفي النسخة التونسية: فولي بعده معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى بن مهنا.
[3] وفي نسخة ثانية: نعير بن خيار بن مهنّا.(6/14)
الظاهر لعهده يزاحمه بحجر بن محمد بن قارى حتى سخطه [1] . ثم وصل انتقاضه على السلطان وخلافه، وظاهر السلطان على موالاة محمد بن قاري فسخطه، وولّى مكانهما ابن عمهما محمد بن كوكتين ابن عمه موسى بن عساف بن مهنا فقام بأمر العرب وبقي بعير منتبذا بالقفر، وعجز عن الميرة لقلة ما بيده [2] واختلت أحواله، وهو على ذلك لهذا العهد، والله ولي الأمور لا رب سواه.
(ولنرجع) إلى ما بقي من شعوب هذه الطبقة فنقول: كان بنو عامر بن صعصعة كلّهم بنجد، وبنو كلاب في خناصرة [3] والرَّبَذَة من جهات المدينة وكعب بن ربيعة فيما بين تهامة والمدينة وأرض الشام. وبنو هلال بن عامر في بسائط الطائف ما بينه وبين جبل غزوان ونمير بن حامد [4] معهم. وجشم محسوبون منهم بنجد، وانتقلوا كلّهم في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية فملك نمير حران ونواحيها. وأقام بنو هلال بالشام إلى أن ظعنوا إلى المغرب كما نذكر في أخبارهم. وبقي منهم بقية بجبل بني هلال المشهور بهم الّذي فيه قلعة صرخد. وأكثرهم اليوم يتعاطون الفلح. وبنو كلاب بن ربيعة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والسلطان الظاهر لعهده يزاحمه بمحمد ابن عمه قاري.
[2] وفي النسخة التونسية: فقلّ تابعه.
[3] وفي النسخة التونسية: الخناصرية، والأصح خناصرة: وهي بليدة من أعمال حلب تحاذي قنسرين نحو البادية (معجم البلدان) .
[4] وفي النسخة التونسية: نمير بن عامر.(6/15)
ملكوا أرض حلب ومدينتها كما ذكرناه. وبنو كعب بن ربيعة دخلت إلى الشام، منهم قبائل عقيل وقشير وجريش وجعدة، فانقرض الثلاثة في دولة الإسلام ولم يبق إلا بنو عقيل.
(وذكر) ابن حزم: أنّ عددهم يفي عدد جميع مضر. فملك منهم الموصل بنو مالك [1] بعد بني حمدان وتغلب. واستولوا عليها وعلى نواحيها وعلى حلب معها. ثم انقرض ملكهم ورجعوا للبادية، وورثوا مواطن العرب في كل جهة، فمنهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل، وكان بنو مالك بن عقيل في أرض تيماء من نجد، وهم الآن بجهات البصرة في الآجام التي بينها وبين الكوفة المعروفة بالبطائح، والإمارة منهم في بني معروف، وبالمغرب من بني المنتفق أحياء دخلوا مع هلال بن عامر يعرفون بالخلط، ومواطنهم بالمغرب الأقصى ما بين فاس ومراكش.
(وقال الجرجاني) : إن بني المنتفق كلهم يعرفون بالخلط، ويليهم في جنوب البصرة إخوتهم بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر، وعوف أخو المنتفق قد غلبوا على البحرين وغمارة [2] وملكوها من يدي أبي الحسن الأصغر بن ثعلب [3] . وكانت هذه المواطن للأزد وبني تميم وعبد القيس، فورث هؤلاء أرضهم فيها وديارهم.
(قال ابن سعيد) : وملكوا أيضا أرض اليمامة من بني كلاب وكان ملوكهم فيها لعهد الخمسين والستمائة بني عصفور. وكان من بني عقيل خفاجة بن عمرو بن عقيل، كان انتقالهم إلى العراق فأقاموا به وملكوا ضواحيه، وكانت لهم مقامات وذكر، وهم أصحاب صولة وكثرة، وهم الآن ما بين دجلة والفرات. ومن عقيل هؤلاء بنو عبادة بن عقيل، ومنهم الأجافل [4] لأن عبادة كان يعرف بالأجفل. وهم لهذا العهد بالعراق مع بني المنتفق. وفي البطائح التي بين البصرة والكوفة وواسط والإمارة فيهم على ما يبلغنا لرجل اسمه ميان بن صالح [5] وهو في عدد ومنعة. وما أدري أهو في بنى معروف أمراء البطائح بني المنتفق، أو من عبادة الأجافل؟ هذه أحوال بني
__________
[1] وفي النسخة التونسية: بنو المقلّد.
[2] وفي النسخة التونسية: البحرين وعمان.
[3] بن تغلب. وهذا ما أشرنا إليه في جزء سابق من هذا الكتاب ان ابن خلدون يذكر الثعالبة بدل التغالبة.
وثعلب بدل تغلب.
[4] وفي النسخة التونسية: الاخائل وهو الأصح، لأن عبادة كان يعرف بالأخيل.
[5] وفي نسخة ثانية: قبان بن صالح.(6/16)
عامر بن صعصعة واستيلاؤهم على مواطن العرب من كهلان وربيعة ومضر.
(فأما بنو كهلان) فلم يبق لهم أحياء فيما يسمع. (وأما ربيعة) فأجازوا بلاد فارس وكرمان فهم ينتجعون هنالك ما بين كرمان وخراسان. وبقيت بالعراق منهم طائفة ينزلون البطائح وانتسب إلى الكوفة منهم بنو صباح [1] ومعهم لفائف من الأوس والخزرج. فأمير ربيعة اسمه الشيخ ولي، وعلى الأوس والخزرج طاهر بن خضر منهم هذه شعوب الطبقة الثالثة من العرب لهذا العهد في ديار المشرق بما أدّى إليه الإمكان.
(ونحن الآن نذكر شعوبهم الذين انتقلوا إلى المغرب) : فإنّ أمّة العرب لم يكن لهم إلمام قطّ بالمغرب، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، لأنّ أمّة البربر الذين كانوا به كانوا يمانعون عليه الأمم. وقد غزاه أفريقش بن ضبيع [2] الّذي سميت به إفريقية، من ملوك التبابعة وملكها. ثم رجع عنها وترك كتامة وصنهاجة من قبائل حمير، فاستحالت طبيعتهم [3] إلى البربر واندرجوا في عدادهم، وذهب ملك العرب منهم.
ثم جاءت الملة الإسلامية وظهر العرب على سائر الأمم بظهور الدين، فسارت في المغرب، وافتتحوا سائر أمصاره ومدنه وعانوا من حروب البربر شدّة. وقد تقدّم لنا ما ذكره ابن أبي زيد [4] من أنهم ارتدّوا اثنتي عشرة مرة. ثم رسخ فيهم الإسلام ولم يسكنوا بأجيالهم في الخيام ولا نزلوا أحياء لأنّ الملك الّذي حصل لهم يمنعهم من سكنى الضاحية، ويعدل بهم إلى المدن والأمصار. فلهذا قلنا إنّ العرب لم يوطنوا بلاد المغرب. ثم أنهم دخلوا إليه في منتصف المائة الخامسة، وأوطنوه وافترقوا بأحيائهم في جهاته كما نذكر الآن ونستوعب أسبابه.
(الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب من الطبقة الرابعة وأخبارهم هنالك)
__________
[1] وفي النسخة التونسية: بنو مباح.
[2] وفي النسخة التونسية: افريقس بن صيغي. وأفريقش بن صيفي (الموسوعة المغربية الملحق الأول)
[3] وفي النسخة التونسية: فاستمالت صيغتهم.
[4] وفي النسخة التونسية: ابن أبي يزيد.(6/17)
كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية وكانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد [1] . فبنو سليم مما يلي المدينة، وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف وربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، ويقطعون على الرفاق، وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهّز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج عن مضرّات هجومهم. ثم تحيّز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جندا بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر والشام، وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم وغلبهم عليها وردّهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين، ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد وفي العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك، وكان لهم إضرار بالبلاد. ولما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان وأربعمائة قلّده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر إفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد. وكان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين، فلم يكن مجربا للأمور ولا بصيرا بالسياسة، ولا كانت فيه عزة وأنفة.
ثم هلك الظاهر سنة سبع وعشرين وأربعمائة وولي المنتصر باللَّه [2] معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام. يقال ولي خمسا وسبعين وقيل خمسا وتسعين، والصحيح ثلاث وسبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة، وكانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة، وربما كانت شواهدها تظهر عليه، وكبابه فرسه في أوّل ولايته لبعض مذاهبه فنادى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وعمر، وسمعته العامة فثاروا بالرافضة وقتلوهم وأعلنوا بالمعتقد الحق ونادوا بشعار الإيمان وقطعوا من الأذان حيّ على خير العمل. وأغضى عنه الظاهر من ذلك وابنه معدّ المنتصر من بعده. واعتذر بالعامّة فقبل واستمرّ على إقامة الدعوة والمهاداة، وهو في أثناء ذلك يكاتب وزيرهما وحاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وكانوا أحياء ناجعة بمجالاتهم من قفر الحجاز بنجد.
[2] الظاهر لإعزاز دين الله ابو الحسن عليّ بن أبي عليّ المنصور الحاكم، وعند ما توفي ولي بعده ابنه أبو تميم معدّ، ولقّب المستنصر باللَّه. (ابن الأثير ج 9 ص 447) .(6/18)
علي الجرجاني [1] ويستميله يعرّض ببني عبيد وشيعتهم. وكان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال، وانتهضته السيدة بنت الملك [2] عمة المنتصر.
فلما ماتت استبدّ بالدولة سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ست وثلاثين وأربعمائة وولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن علي الياروزي [3] أصله من قرى فلسطين، وكان أبوه ملاحا بها. فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات، ولم يولوه فأنف من ذلك، فعظم عليه وحنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب والمعز بن باديس صاحب إفريقية، وانحرفوا عنه وحلف المعز لينقضن طاعتهم وليحوّلن الدعوة إلى بني عباس، ويمحون اسم بني عبيد من منابره، ولج في ذلك وقطع أسماءهم من الطراز والرايات، وبايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس، وخاطبه ودعا له على منابره سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وبعث بالبيعة إلى بغداد.
ووصله أبو الفضل البغدادي وحظي من الخليفة بالتقليد والخلع، وقرئ كتابه بجامع القيروان ونشرت الرايات السود وهدمت دار الإسماعيلية. وبلغ الخبر إلى المستنصر معز الخليفة بالقاهرة، وإلى الشيعة الرافضة من كتامة وصنائع الدولة فوجموا، وطلع عليهم المقيم المقعد من ذلك، وارتبكوا في أمرهم. وكان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم والأثير [4] وزغبة ورياح وربيعة وعدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه.
وقد عمّ ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي الياروزي باصطناعهم والتقدم لمشايخهم [5] وتوليتهم أعمال إفريقية وتقليدهم أمرها ودفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة. والسبب في الدفاع عن الدولة فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز وصنهاجة، كانوا أولياء للدعوة وعمالا بتلك القاصية. وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة، وإن كانت الأخرى فلها ما بعدها. وأمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك، فتغلبوا على هدية
__________
[1] وفي النسخة التونسية: الجرجرائي وكذلك عند ابن الأثير ج 9 ص 447) .
[2] وفي النسخة التونسية: وانهضته السيدة ست الملك.
[3] وفي نسخة ثانية: البازوري وهو الأصح كذا في قبائل المغرب 167) .
[4] وفي نسخة ثانية الأثبج وهو الصحيح.
[5] وفي النسخة التونسية: واستقدام مشايخهم.(6/19)
وثورانه [1] . وقيل إن الّذي أشار بذلك وفعله وأدخل العرب إلى إفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني، وليس ذلك بصحيح، فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأرضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم بعيرا ودينارا لكل واحد منهم، وأباح لهم إجازة النيل. وقال لهم: قد أعطيتكم المغرب، وملك المعز بن بلكين [2] الصنهاجي العبد الآبق فلا تفتقرون وكتب الياروزي إلى المغرب: أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا [3] ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فطمعت العرب إذ ذاك، وأجازوا النيل إلى برقة، ونزلوا بها وافتتحوا أمصارها واستباحوها، وكتبوا لإخوانهم شرقيّ النيل يرغبونهم. في البلاد، فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين [4] فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه، وتقارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق، ولهلال الغرب، وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وأسمرا وسرت.
وأقامت لهب [5] من سليم وأحلافها رواحة وناصرة وغمرة بأرض برقة. وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وكان أول من وصل إليهم أمير رياح موسى [6] بن يحيى الصنبري فاستماله المعز واستدعاه واستخلصه لنفسه وأصهر إليه. وفاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه. فاستنفر القرى وأتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد وأظهروا الفساد في الأرض، ونادوا بشعار الخليفة المستنصر. وسرّح إليهم من صنهاجة الأولياء فاوقعوا بها فتمخط [7] ، المعز لكبره وأشاط بغضبه، وتقبض على أخي موسى وعسكر بظاهر القيروان. وبعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد [8] بن بلكين، فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرّحهم إليه،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فتقبلوا رأيه وشكوا هدايته.
[2] وفي النسخة التونسية: بن باديس.
[3] بمعنى كهولا بالحرب لهم خبرة في القتال.
[4] وفي النسخة التونسية: بعد أن أعطوا دينارا عن كل رأس.
[5] وفي نسخة ثانية: هيب.
[6] وفي نسخة ثانية: مؤنس بن يحيى الصنبري وكذلك في قبائل المغرب ص 421.
[7] وفي النسخة التونسية: فتخمّط.
[8] وفي النسخة التونسية: حماد.(6/20)
واستفرزوا عن [1] زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه.
وكان بالبدو من إفريقية مع الناجعة من زناتة، وهو من أعظم ساداتهم. وارتحل المعزّ في أولئك النفر ومن لفّ لفّهم من الأتباع والحشم والأولياء ومن في إيالتهم من بقايا عرب الفتح، وحشد زناتة والبربر وصمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفا. وكانت رياح وزغبة وعدي حيدران من جهة فاس [2] . ولما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح وتحيّزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة، وخانته زناتة وصنهاجة، وكانت الهزيمة على المعز، وفرّ بنفسه وخاصته إلى القيروان.
وانتهبت العرب جميع مخلفه من المال والمتاع والذخيرة والفساطيط والرايات، وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى. يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة.
وفي ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته. ويقال إنها لابن شداد وأوّلها:
لقد زار وهنا من أميم خيال ... وأيدي المطايا بالزميل عجال
وأن ابن باديس لأفضل مالك ... لعمري، ولكن ما لديه رجال
ثلاثون ألفا منهم قد هزمتهم ... ثلاثة آلاف وذاك ضلال
ثم نازلوه بالقيروان وطال عليه أمر الحصار، وهلكت الضواحي والقرى بإفساد العرب وعيثهم، وانتقام السلطان منهم بانتمائهم في ولاية العرب. ولجأ الناس إلى القيروان وأكثروا النهب واشتدّ الحصار، وفرّ أهل القيروان إلى تونس وسوسه، وعمّ النهب في البلاد والعيث في البلاد [3] ودخلت تلك الأرض [4] سنة خمس وأربعين، وأحاطت زغبة ورياح بالقيروان. ونزل موسى قريبا من ساحة البلد. وفرّ القرابة والأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس وغيرها. ثم ملكوا بلاد قسطينة [5] كلها وغزا عامل بن أبي الغيث منهم زناتة ومغراوة فاستباحهم ورجع.
واقتسمت العرب بلاد إفريقية سنة ست وأربعين، وكان لزغبة طرابلس وما يليها،
__________
[1] وفي نسخة ثانية واستنفروا زناتة.
[2] وفي النسخة التونسية: وعدي بقبلي حيدران من جهة قابس.
[3] وعم النهب والعيث بلاد إفريقية. كذا في النسخة التونسية.
[4] وفي النسخة التونسية: ودخلت بلد الاربض وأبة.
[5] وفي النسخة التونسية: قسطيلية، وغزا عابد بن أبي الغيث.(6/21)
ولمرداس بن رياح باجة وما يليها. ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس [1] إلى الغرب وهم: رياح وزغبة والمعقل وجشم وقرّة والأثبج والخلط وسفيان وتصرم الملك من يد المعز، وتغلب عائذ بن أبي الغيث [2] على مدينة تونس وسباها وملك أبو مسعود من شيوخهم مومه [3] صلحا. وعامل المعزّ على خلاص نفسه، وصاهره ببناته ثلاثة من أمراء العرب فارس بن أبي الغيث وأخاه عائذا، والفضل بن أبي علي المرادي [4] وقدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ولسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب وترحم بهم [5] ولحق بهم بالقيروان، واتبعوه فركب البحر والساحل، وأصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه، فساروا بالسودان والمنصور. وجاء العرب فدخلوا البلد واستباحوه واكتسحوا المكاسب وخربوا المباني وعاثوا في محاسنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها. واستصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها وشملوا بالعيث والنهب سائر حريمها، وتفرّق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية، وانتشر [6] الداء وأعضل الخطب. ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها، وضيقوا عليها بمنع المرافق وإفساد السابلة. ثم حاربوا زناتة من بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي، واتصلت الفتنة بينهم، وأغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر وجيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه وقتلوه بعد حروب طويلة، واضطرب أمر إفريقية، وخرب عمرانها، وفسدت سابلتها. وكانت رياسة الضواحي من زناتة والبربر لبني يفرن ومغراوة وبني ماند وبني تلومان [7] ولم يزل هذا دأب العرب وزناتة حتى غلبوا صنهاجة وزناتة على ضواحي إفريقية والزاب، وغلبوا عليها صنهاجة وقهروا من بها من البربر وأصاروهم عبيدا وخدما بباجة [8] . وكان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم إفريقية رجالات مذكورون.
وكان من أشرفهم حسن بن سرحان وأخوه بدر وفضل بن ناهض، وينسبون هؤلاء في
__________
[1] وفي النسخة التونسية: من قابس.
[2] وفي النسخة التونسية: عابد بن أبي الغيث، وفي قبائل المغرب ص 394 عائد بن أبي العيث
[3] وفي نسخة ثانية: بونه.
[4] وفي النسخة التونسية: المرواسي.
[5] وفي النسخة التونسية: وتذمم بهم.
[6] وفي النسخة التونسية: واستشرى.
[7] وفي نسخة ثانية: بني يمانوا وبني يلومان.
[8] وفي النسخة التونسية: عبيدا وخولا للجباية.(6/22)
دريد بن الأثبج وماضي بن مقرب ونيونة بن قرّة [1] وسلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الأثبج، وشاقة [2] بن الأحيمر وأخوه صليصل ونسبوهم في بني عطية من كرفه، ودياب بن غانم وينسبونه في بني ثور، وموسى بن يحيى وينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم، فاحذر من الغلط في هذا. وهو من بني صفير [3] بطن من بطون مرداس رياح، وزيد بن زيدان وينسبونه في الضحاك، ومليحان بن عباس وينسبونه في حمير، وزيد العجاج بن فاضل ويزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى إفريقية، وفارس بن أبي الغيث وعامر أخوه، والفضل بن أبي علي ونسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى، كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم.
وكان زياد بن عامر رائدهم في دخول إفريقية [4] ويسمونه بذلك أبا مخيبر، وشعوبهم لذلك العهد كما نقلناهم زغبة ورياح والأثبج وقرة وكلهم من هلال بن عامر. وربما ذكر فيهم بنو عدي، ولم نقف على أخبارهم وليس لهم لهذا العهد حيّ معروف، فلعلهم دثروا وتلاشوا وافترقوا في القبائل. وكذلك ذكر فيهم ربيعة، ولم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم. وكان فيهم من غير هلال كثير من فزارة وأشجع من بطون غطفان وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن وسلول بن مرة ابن صعصعة بن معاوية، والمعقل من بطون اليمنية، وعمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وبني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة، وعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. وطرود بطن من فهم بن قيس، إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال وفي الأثبج منهم خصوصا، لأن الرئاسة كانت عند دخولهم للأثبج وهلال فأدخلوا فيهم وصاروا مندرجين في جملتهم. وفرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني. وإنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي، ولهم فيها أخبار مع الصنهاجيين ببرقة والشيعة بمصر خطوب، ونسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله:
طلبنا القرب منهم وجزيل منهم ... بلا عيب من عرب سحاح جمودها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وينسبونه في قرّة.
[2] وفي نسخة ثانية: وشبان.
[3] وفي نسخة ثانية: من بني صنبر.
[4] وفي النسخة التونسية: وكان ذياب بن غانم رائدهم في دخول إفريقية.(6/23)
وبيت غرت أمره منا وبينها ... طرود أنكاد اللي يكودها
ماتت ثلاث آلاف مرّة وأربعة ... بحرمة منا تداوي كبودها
وقال الآخر منهم
أيا رب جير الخلق من نائج البلا ... إلا القليل انجار ما لا يجيرها
وخصّ بها قرّة مناف وعينها ... ديما لأرياد البوادي تشيرها [1]
فذكر نسبهم في مناف وليس في هلال مناف هكذا منفردا، إنما هو عبد مناف والله تعالى أعلم. وكان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم. ولمّا بعث الحاكم يحيى ابن عليّ الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق، أو عزلهم في السير معه، فوصلوا إلى طرابلس وجرّوا الهزيمة على يحيى بن عليّ ورجعوا إلى برقة. وبعث عنهم فامتنعوا، ثم بعث لهم بالأمان، ووصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. وكان عندهم معلّم للقرآن اسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية. وكان يزعم أن لديه إثارة من علم في اختيار [2] ملك آبائه، وقبل ذلك منه البرابرة من مرامة [3] وزناتة ولواتة وتحدّثوا بشأنه فنصبه بنو قرّة وما بعده بالخلافة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وتغلّبوا على مدينة برقة. وزحف إليهم جيوش الحاكم فهزموهم، وقتل الوليد بن هشام وقائدها من الترك.
ثم رجعوا به إلى مصر فانهزموا، ولحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان. ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر وقتل، وهدرت لبني قرّة جنايتهم هذه وعفا عنهم. ولمّا كانت سنة اثنتين وأربعمائة اعترضوا هدية باديس بن المنصور ملك صنهاجة من إفريقية إلى مصر فأخذوها، وزحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها، وفرّ في البحر
__________
[1] وفي النسخة التونسية:
طلبنا الغفر منهم وجدناه عندهم ... فلا عيب من عرب سجاح جهودها
وبت عن ذا قرّة مناف وشبهها ... طراد كدانا نحن من لا يكودها
ماتت ثلاثة آلاف مرّة ومن بقي ... مجرحة منا تداوي كبودها.
وقال آخر:
أيا رب جير الخلق من نابح البلا ... إلا القليل الخارسا لا تجيرها
وخص بها قرّة مناف ونسبها ... ديما لأباء البوادي تشيرها.
[2] وفي نسخة ثانية: احتياز.
[3] وفي نسخة ثانية: مزاتة وهو الأصح.(6/24)
واستولوا على برقة. ولم يزل هذا شأنهم ببرقة. فلمّا زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة ورياح والأثبج واتباعهم إلى إفريقية، كانوا ممن زحف معهم. وكان من شيوخهم ماضي بن مقرّب المذكور في أخبار هلال.
ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق في الخبر غريبة: يزعمون أنّ الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها، وولدت منه ولدا اسمه محمد. وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية. وتحيّلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها. وكتموا رحلتها عنه وموّهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه.
ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس وكثير [1] ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالإعراب فقط، ولا مدخل له في البلاغة كما قرّرناه لك في الكتاب الأوّل من كتابنا هذا. إلا أنّ الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب، ويحسبون أنّ الإعراب هو أصل البلاغة وليس كذلك. وفي هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة وفقدت فيه صحّة الرواية فلذلك لا يوثق به، ولو صحّت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم، وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم.
لكنا لا نثق بروايتها. وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتّهمه، وهذا قصارى الأمر فيه. وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفا عن سلف، وجيلا عن جيل، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمي عندهم
__________
[1] بهامش نسخه ما نصه: قصة أبي زيد التي تحكي في قهاوي مصر أصلها هذه الواقعة، كما أشار لذلك المؤلف. وكثيرا ما كنت أتطلب لها أصلا في التواريخ فلم أجده إلا في هذا المحل، فرحم الله المؤلف فلقد بين أصولا كثيرة يحتاج إليها كل ناظر في فن التاريخ. كتبه حسن العطار أهـ.(6/25)
بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم. وهذا الشريف الّذي يشيرون إليه هو من الهواشم، وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس، وأبوه الفتوح هو الّذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيديّ وبايع له بنو الجرّاح أمراء طيِّئ بالشام، وبعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم وبايع له كافة العرب. ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيديّ ورجع إلى مكة، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده ابنه شكر هذا، وهلك سنة ثلاث وخمسين وولي ابنه محمد الّذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه. وتقدّم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم.
(وقال ابن سعيد) : هو من السلمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الّذي بايع له أبو الزاب [1] الشيبانيّ بعد ابن طباطبا، ويسمّى الناهض. ولحق بالمدينة فاستولى على الحجاز واستقرت إمارة ملكه في بنيه إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم. جدّا قريبا من الحسن والحسين [2] . وأمّا هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء، فلا يكون مميزا لبعضهم عن بعض. وأخبرني من أثق به من الهلاليّين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر وأنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات، وأنّ ولده بها لهذا العهد والله أعلم.
ومن مزاعمهم أنّ الجازية لما صارت إلى إفريقية وفارقت الشريف، خلفه عليها منهم ماض بن مقرّب [3] من رجالات دريد، وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها وثغورها، وقلّدهم أعمالها، فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان وباجة، وعقد لزغبة على طرابلس وقابس، وعقد لحسن بن سرحان على قسنطينة [4] ، فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار، وملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم وعيثهم باختلاف الأيدي، إذ الوازع مفقود من أهل هذا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ابو السرايا.
[2] الظاهر من السياق سقوط عبارة أثناء النسخ، وفي النسخة التونسية: وما ذكره ابن حزم أصح، لأنهم جميعا يقولون فيه الشريف ابن هاشم يميزونه بذلك عن سائر الشرفاء. ولا يصح ذلك إلا أن يكون هاشم أو أبو هاشم جدا قريبا من الحسن والحسين.
[3] وفي نسخة أخرى: مغرب.
[4] وفي نسخة أخرى قسطنطينة وهذا تحريف وقسنطينية المقصودة هنا: وهي مدينة وقلعة يقال لها قلعة الهواء وهي قلعة كبيرة جدا حصينة عالية لا يصلها الطير إلا بجهد، وهي من حدود إفريقية مما يلي المغرب (معجم البلدان) .(6/26)
الجيل العربيّ مذ كانوا فثاروا بهم وأخرجوهم من الأمصار، وصاروا إلى ملك الضواحي والتغلّب عليها، وسيّم الرعايا بالخسف في النهب والعيث وإفساد السابلة هكذا إلى هلمّ.
ولمّا غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس والنجدة بالبداوة، فحاربوهم ورجعوا إليهم من إفريقية والمغرب الأوسط، وجهّز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم وبينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب، وتغلبوا على الضواحي في كل وجه. وعجزت زناتة عن مدافعتهم بإفريقية والزاب. وصار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد، ومصاب من بلاد المغرب الأوسط. فلمّا استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها وصالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم، وصاروا إلى التفريق بينهم، وظاهروا الأثبج على رياح وزغبة، وحشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم وجمع زناتة.
وكان فيهم المعزّ بن زيري صاحب فاس من مغراوة ونزلوا الأربس جميعا. ولقيهم رياح وزغبة بسببه. ومكر المعز بن زيري المغراويّ بالناصر وصنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعزّ بن باديس صاحب القيروان، فجرّ عليهم الهزيمة واستباحت العرب وزناتة خزائن الناصر ومضاربه. وقتل أخوه القاسم ونجا إلى قسنطينة ورياح في اتباعه. ثم لحق بالقلعة فنازلوها وخرّبوا جنباتها واحبطوا عروشها، وعاجوا على ما هنالك من الأمصار، ثم طبنة والمسيلة فخرّبوها وأزعجوا ساكنيها، وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجنّ وأوحش من جوف العير، وغوّروا المياه واحتطبوا الشجر وأظهروا في الأرض الفساد، وهجروا ملوك إفريقية والمغرب من صنهاجة وولاة أعمالها في الأمصار، وملكوا عليهم الضواحي يتحيّفون جوانبهم ويقعدون لهم بالمرصاد، ويأخذون لهم الإتاوة على التصرّف في أوطانهم.
ولم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة، واختطّ بالساحل مدينة بجاية، ونقل إليها ذخيرته وأعدها لنزله. ونزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل وفسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال وتوعّر مسالكها على رواحلهم.
واستقروا بها بعد، وتركوا القلعة. وكانوا يختصّون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة(6/27)
سائر أيامهم. ثم افترق جمع الأثبج وذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم. ولما غلب الموحّدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى وأربعين وخمسمائة، وزحف شيخ الموحّدين عبد المؤمن إلى إفريقية، وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج وحبّاس بن مشيفر من رجالات جشم، فتلقّاهما بالمبرّة وعقد لهما على قومهما ومضى لوجهه. وفتح بجاية سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
ثم انتقض العرب الهلاليون على دعوة صنهاجة، وكان أمير رياح فيهم محرز بن زناد ابن بادخ [1] إحدى بطون بني علي بن رياح، فلقيتهم جيوش الموحّدين بسطيف وعليهم عبد الله بن عبد المؤمن فتوافقوا ثلاثا علقوا فيهما رواحلهم، وأثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم، ثم انتقض في الرابعة جمعهم واستلحمهم الموحّدون وغلبوا عليهم، وغنموا أموالهم وأسروا رجالهم وسبوا نساءهم واتبعوا أدبارهم إلى محصن سبتة. ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم واستكانوا لعزّ الموحّدين وغلبهم، فدخلوا في دعوتهم وتمسّكوا بطاعتهم، وأطلق عبد المؤمن أسراهم ولم يزالوا على استقامتهم، ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس، وربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية، فأجازوا مع عبد المؤمن ويوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم. ولم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوّفيون أمراء ميورقة، أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكسبوها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة لأوّل دولة المنصور، وكشفوا القناع في نقض طاعة الموحّدين، ودعوا العرب بها، فعادت هيف إلى أديانها.
وكانت قبائل جشم ورياح وجمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها. ولما تحرّكت جيوش الموحّدين إلى إفريقية لكفّ عدوانهم، تحيّزت قبائل زغبة إليهم، وكانوا في جملتهم، ولحق بنو غانية بفاس ومعهم كافة جشم ورياح، ولحق بهم جلّ قومهم من مسوفة وإخوانهم لمتونة من أطراف البقاع، واستمسكوا بالدعوة العبّاسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسّكون بها، فأقاموها فيمن إليهم من القبائل والمسالك ونزلوا بفاس، وطلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك، وأوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان، فعقد لابن غانية وأذن له في حرب الموحّدين. واجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور، وكانوا جاءوا على أثر الهلاليين
__________
[1] وفي النسخة التونسية: محرز بن زناد بن فارغ وكذلك قبائل المغرب ص 397.(6/28)
عند إجازتهم إلى إفريقية. وظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني. ونذكر أخباره في أخبار الميروقي [1] فاجتمع لعلي بن غانية من الملثّمين والعرب والعجم عساكر جمّة، وغلب الضواحي وافتتح بلاد الجريد، وملك قفصة وتوزر ونفطة. ونهض اليه المنصور من مراكش يجرّ أمم المغرب من زناتة والمصامدة وزغبة من الهلاليين وجمهور الأثبج، فأوقعوا بمقدّمته بفحص غمرة من جهات قفصة. ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرّة عليهم، وفلّ جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شرّدهم إلى صحاري برقة، وانتزع بلاد قسنطينة وقابس وقفصة من أيديهم، وراجعت قبائل جشم ورياح من الهلاليّين طاعته ولاذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى. وأنزل جشم ببلاد تامسنا [2] ، ورياحا ببلاد الهبط، وأزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا.
وكانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على إفريقية وضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء إفريقية وصحراء المغرب الأوسط، وبها قصور جدّدها فسميت باسم من ولي خطّتها من شعوبهم. وكان بنو بادين وزناتة وهم بنو عبد الواد وتوجين ومصاب وبقوز ودال وبنو راش [3] شيعة الموحّدين منذ أول دولتهم، فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين وأنظارهم كما يأتي. وكانوا يتولّون من أرياف المغرب الأوسط وتلوله ما ليس يليه أحد من زناتة، ويجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحّدين وحاميتهم. وأمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة، ونزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليّين وتحيّزوا إلى فئتهم، وصاروا جميعا قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلى جبل راشد، بعد أن كان قسمتهم الأولى بقابس وطرابلس.
وكانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس. وقتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة ابن غانية، وانحرافهم عنه إلى الموحّدين وانعقد ما بينهم وبين بني بادين حلف على الجوار والذبّ عن الأوطان وحمايتها من معرة العدوّ في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الميورقي.
[2] إقليم مغربي قديم كان يمتد من نهرابي رقراق إلى وادي أم الربيع، وقد اندثر اليوم هذا الاسم وبقي ما يذكر به كباب تامسنا بالرباط. والنسبة اليه مسناوي (قبائل المغرب ص 117) .
[3] هكذا بالأصل وفي نسخة اخرى: وبنو زردال وبنو راشد.(6/29)
احتيال غرّتها وانتهاز الفرصة فيها. فتعاقدوا على ذلك واجتوروا وأقامت زغبة في القفار وبنو بادين بالتلول والضواحي. ثم فرّ مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيّين من بلاد الهبط، ولحق ببلاد طرابلس ونزل على زغبة وذياب من قبائل بني سليم. ووصل إلى قراقش بن رياح وحصر معه طرابلس حين افتتحها، وهلك هنالك، وقام إلى الميروني ولحق ولقيه بالحملة فهزمه [1] وقتل الكثير من قومه.
وانهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم: ابنه عبد الله وابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان، وشيخ من شيوخ قرّة، فضرب أعناقهم. وفرّ يحيى بن غانية إلى مسقطه من الصحراء. واستمرّت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال وسليم واتباعها. ونحن الآن نذكر أخبارهم ومصائر أمورهم ونعدّدهم فرقة فرقة، ونخصّ منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحية وناجعته، ونطوي ذكر من انقرض منهم، ونبدأ بذكر الأثبج لتقدّم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه. ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم. ثم نذكر رياحا وزغبة، ثم المعقل لأنهم من أعداء هلال. ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم جاءوا من بعدهم وللَّه الخلاق القديم.
(الخبر عن الأثبج وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة)
كان هؤلاء الأثبج من الهلاليين أوفر عددا وأكثر بطونا وكان التقدّم لهم في جملتهم.
وكان منهم الضحاك وعياض ومقدم والعاصم والطيف ودريد وكرفة وغيرهم حسبما يظهر في نسبهم. وفي دريد بطنان توبة وعنز، ويقولون بزعمهم إن أثبج هو ابن ربيعة ابن نهيك بن هلال. فكرفة هو ابن الأثبج. وكان لهم جمع وقوّة، وكانوا أحياء غزيرة [2] من جملة الهلاليين الداخلين لإفريقية، وكانت مواطنهم حيال جبل أوراس
__________
[1] يستعجب القارئ من التحريف في الأسماء والتشويش في المعنى وفي النسخة التونسية: وهلك هنالك.
وقام بأمره في قومه ابنه محمد، ولما استبد ابو محمد عبد الواحد بن أبي حفص بولاية افريقية، زحف الى الميورقي ولقيه بالحمة فهزمه.
[2] وفي النسخة التونسية: عزيزة.(6/30)
من شرقية. ولما استقر أمر الأثبج بإفريقية على غلب صنهاجة على الضواحي ووقعت الفتنة بينهم، وذلك أن حسن بن سرحان وهو من دريد قتل شبانة بن الأحيمر من كرفة غيلة، فطوت كرفة له على الهائم [1] .
ثم إن أخته الجازية غاضبت زوجها ماضي بن مقرب بن قرة، ولحقت بأخيها فمنعها منه، فاجتمعت قرة وكرفة على فتنة حسن وقومه، وظاهرتهم عياض، ولم تزل الفتنة إلى أن قتل حسن بن سرحان، قتله أولاد شبانة بن الأحيمر، وثأروا منه بأبيهم. ثم كان الغلب بعده لدريد على كرفة وعياض وقرة، واستمرت الفتنة بين هؤلاء الأمالح [2] وافترق أمرهم. وجاءت دولة الموحدين وهم على ذلك الشتات والفتنة، وكانت لبطونهم ولاية لصنهاجة. فلما ملك الموحدون إفريقية نقلوا منهم إلى المغرب العاصم ومقدما وقرة وتوابع لهم من جشم، وأنزلوا جميعهم بالمغرب كما نذكر.
واعتزت رياح بعدهم بإفريقية وملكوا ضواحي قسنطينة، ورجع إليهم شيخهم مسعود بن زمام من المغرب فاعتز الزواودة [3] على الأمراء والدول. وساء أثرهم فيها وغلبوا بقايا الأثابج، فنزلوا قرى الزاب، وقعدوا عن الطعن وأوطنوا بالقرى والآطام. ولما نبذ بنو أبي حفص العهد للزواودة كما يأتي في أخبارهم واستجاش عليهم بنو سليم وأنزلوهم القيروان، اصطنعوا كرفة من بطون الأثابج، فكانوا حربا لرياح وشيعة للسلطان. وأقطعتهم الدولة لذلك جباية الجانب الشرقي من جبل أوراس وكثيرا من بلاد الزاب الشرقية حيث كانت محلاتهم الشتوية، حتى إذا اختل ريح الدولة، وأخلقت جدتها واعتزت رياح عليها وملكوا المجالات على من يظعن فيها نزل كرفة هؤلاء بجبل أوراس حيث إقطاعاتهم وسكنوه حللا متفرّقة واتخذوه وطنا.
وربما يظعن بعضهم إلى تخوم الزاب كما نذكر عن بطونهم وهم بطون كثيرة، فأولهم:
بنو محمد بن كرفة ويعرفون بالكلبية وأولاد سهيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشبه، وأولاد صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة وأولاد سرحان بن فاضل أيضا ويعرفون بالسرحانية. وهؤلاء هم المودعات وهم موطنون
__________
[1] وفي النسخة التونسية: على النث.
[2] وفي نسخة ثانية: الأثابج.
[3] وفي نسخة ثانية الرواودة وفي قبائل المغرب ص 418: الزواودة.(6/31)
بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا [1] . ثم أولاد نافت [2] بن فاضل، وهم أهل الرئاسة في كرفة ولهم أقطاعات السلطان التي ذكرناها، وهم ثلاثة أفخاذ: أولاد مساعد وأولاد ظافر وأولاد قطيقة. والرئاسة أخص بأولاد مساعد في أولاد علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن نابت. وأما بنو محمد والمروانية فهم ظواعن جائلة في القفار تلقاء مواطن أولاد نابت. ويكتالون الحبوب لأقواتهم من زروع أهل الجبل، وأولاد نابت. وربما يستعملهم صاحب الزاب في تصاريف أمره من عسكر وإخفار وغير ذلك من أغراضه. وأما دريد فكانوا أعز الأثبج وأعلاهم كعبا بما كانت الرئاسة على الأثبج كلهم عند دخولهم إلى إفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم، وكانت مواطنهم ما بين ولد العناب إلى قسنطينة إلى طارف مصقلة، وما يحاذيها من القفر. وكانت بينهم وبين كرفة الفتنة التي هلك فيها حسن بن سرحان كما ذكرناه، وقبره هنالك. وكانوا بطونا كثيرة منهم أولاد عطية بن دريد وأولاد سرور بن دريد وأولاد جار الله من ولد عبد الله بن دريد. وتوبة من ولد عبد الله أيضا وهو توبة بن جبر ابن عطاف بن عبد الله، وكانت لهم بين هلال رياسة كثيرة ومدحهم شعراؤهم بشعر كثير، فمن ذلك قول بعض شعرائهم:
دريد ذات سراة البدو للجود منقع ... كما كل أرض منقع الماء خيارها
تحنّ إلى أوطان مرة ناقتي لكن معها ... جملة دريد كان موارها
وهم عربوا الأعراب حتى تعرّبت ... بنوف المعالي ما ينفي قصارها
وتركوا طريق النار برهة وقد ... كان ما تقوى المطايا حجارها [3]
فأما أولاد عطية فكانت رياستهم في أولاد بني مبارك بن حباس، وكانت لهم تلة ابن
__________
[1] الأسماء محرّفة والعبارة ناقصة، وفي النسخة التونسية: وأولاد شبيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشببة.
وأولاد صبح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة، وأولاد سرحان بن فاضل أيضا ويعرفون بالسراحنة هؤلاء هم الحدلجة وهم موطنون بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا.
[2] وفي نسخة ثانية نابت.
[3] وقد وردت هذه الأبيات في النسخة التونسية:
تحن إلى أوطان صبرة ناقتي ... لكن بها جملة دريد حوارها
دريد سراة البدو للجود منقع ... كما كل أرض منقع الما خيارها
وهم عربوا الأعراب حتى تعرفت ... بطرق المعالي ما ينوفي قصارها
وتركوا طريق البارمين ثنية ... وقد كان ما يقوي المطايا حجارها(6/32)
حلوف من أرض قسنطينة. ثم دثروا وتلاشوا، وغلبتهم توبة على تلة ابن حلوف زحفوا إليها من مواطنهم بطارق مصقلة فملكوها وما إليها. ثم عجزوا عن رحلة القفر وتركوا الإبل واتخذوا الشاء والبقر وصاروا في عداد القبائل الغارمة، وربما طالبهم السلطان بالعسكرة معه فيعينون له جندا منهم، ورياستهم في أولاد وشاح بن عطوة بن عطية ابن كمون بن فرج بن ثوبة، وفي أولاد مبارك بن عابر بن عطية بن عطوة وهم على ذلك لهذا العهد. ويجاورهم أولاد سرور وأولاد جار الله على سننهم في ذلك.
فأما أولاد وشاح فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين سجم بن كثير بن جماعة بن وشاح وبين أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح. وأما أولاد مبارك بن عابد فرياستهم أيضا منقسمة بين نجاح بن محمد بن منصور بن عبيد بن مبارك، وعبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور ورثها عن عمه راجح بن عثمان بن منصور وأما أولاد جار الله فرياستهم في ولد عنان بن سلام منهم. وأما العاصم ومقدم والضحاك وعياض فهم أولاد مشرف بن أثبج، ولطيف وهو ابن سرح بن مشرف، وكان لهم عدد وقوة بين الأثابج.
وكان العاصم ومقدم انحرفوا عن طاعة الموحدين إلى ابن غانية، فأشخصهم يعقوب المنصور إلى المغرب، وأنزلهم تامستا مع جشم، ويأتي خبرهم، وبقيت عياض والضحاك بمواطنهم بإفريقية، فعياض نزلوا بجبل القلعة، قلعة بني حماد وملكوا قبائله وغلبوهم على أمرهم، وصاروا يتولون جبايتهم، ولما غلبت عليهم الدولة بمظاهرة رياح صاروا إلى المدافعة عن تلك الرعايا وجبايتهم للسلطان. وسكنوا ذلك الجبل، فطوله من المشرق إلى المغرب ما بين ثنية غنية والقصاب إلى وطن بني يزيد بن زغبة.
فأولهم مما يلي غنية للمهاية، ورياستهم في أولاد ديفل، ومعهم بطن منهم يقال لهم الزير، وبعدهم المرتفع والخراج من بطونهم.
فأما المرتفع فثلاثة بطون: أولاد تبان ورياستهم في أولاد محمد بن موسى، وأولاد حناش، ورياستهم في بني عبد السلام. وأولاد عبدوس ورياستهم في بني صالح.
ويدعى أولاد حناش وأولاد تبار جميعا أولاد حناش. وأما الخراج فرياستهم لأولاد زائدة بني عباس بن خفير ويجاور الخراج من جانب الغرب أولاد صخر، وأولاد رحمة من بطون عياض، وهم مجاورون لبني يزيد بن زغبة في آخر وطن الأثابج من الهلاليين.
وأما الضحاك فكانوا بطونا كثيرة، وكانت رياستهم مفترقة بين أميرين منهم، وهما أبو عطية وكلب بن منيع، وغلب كلب أبا عطية على رياسة قبيلتهما الأول دولة(6/33)
الموحدين، فارتحل فيما زعموا إلى المغرب، وسكن صخر سجلماسة، وكانت له فيها آثار حتى قتله الموحدون أو غربوه إلى الأندلس، هكذا ينقل أصحاب أخبارهم، وبقي تجمعهم بالزاب حتى غلب مسعود بن زمام والزواودة [1] عليهم وأصاروهم في جملتهم ثم عجزوا عن الطعن، ونزلوا بلاد الزاب واتخذوا بها المدن، فهم على ذلك لهذا العهد. وأما لطيف فهم بطون كثيرة منهم اليتامى وهم أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف بني ذوي مطرف وذوي أبي الخليل وذوي حلال بن معافى. ومنهم اللقامنة أولاد لقمان بن خليفة بن لطيف ومنهم: أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان، ونزار بن معن بن محيا وإليه يرجع نسب بني مزنى الولاة بالزاب لهذا العهد. وكانت لهؤلاء كثرة ونجعة. ثم عجزوا عن الطعن وغلبهم على الضواحي الزواودة من بعدهم لما قل جمعهم وافترق ملوكهم، وصار إلى المغرب من صار منهم من جمهور الأثبج فاهتضموا، وعليهم رياح والزواودة فنزلوا بلاد الزاب، واتخذوا بها الآطام والمدن مثل الدوسن وغريبوا وتهدوه ونقموه وبادس. وهم لهذا العهد من جملة الرعايا الغارمة لأمير الزاب. ولهم عجمة [2] منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها، وهم على ذلك لهذا العهد. وبينهم في قصورهم بالزاب فتن متصلة بين المتجاورين منهم، وحروب وقتل. وعامل الزاب يدرأ بعضا ببعض، ويستوفي جبايته منهم جميعا والله خير الوارثين.
ويلحق بهؤلاء الأثبج العمور، وغلب على الظنّ أنهم من ولد عمرو بن عبد مناف بن هلال اخوة قرة بن عبد مناف وليسوا من ولد عمر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال، لأن رياحا وزغبة والأثبج من أبي ربيعة، ولا نجد بينهم انتماء بالجملة. ونجد بينهم وبين قرة وغيرهم من بطون هلال الانتماء، فدل على أنهم لعمرو بن عبد مناف، أو يكونون من عمر بن روينة [3] بن عبد الله بن هلال، وكلهم معروف.
ذكره ابن الكلبي والله أعلم بذلك. وهم بطنان: قرة وعبد الله، وليس لهم رياسة على أحد من هلال ولا ناجعة تظعن لقلتهم وافتراق ملتهم إنما هم ساكنون بالضواحي والجبال، وفيهم الفرسان وأكثرهم رجالة وموطنهم ما بين جبل أوراس شرقا إلى جبل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الدواودة.
[2] وفي نسخة ثانية عنجهية.
[3] وفي نسخة ثانية رويبة.(6/34)
راشد. وكان كل ذلك من ناحية المصنة [1] والصحراء. وأما التلول فهم مرفوعون عنها بقلتهم وخوفهم من حامية الدول، فتجدهم أقرب إلى موطن القفر والجدب.
(فأما بنو قرة) منهم فبطن متسع إلا أنهم مفترقون في القبائل والمدن وحدانا. وبنو عبد الله منهم على رياسة فيهم وهم: عبد الله بن علي وبنوه محمد وماضي بطنان، وولد محمد عنان وعزيز بطنان، وولد عنان شكر وفارس بطنان. من ولد شكر أولاد يحيى ابن سعيد بن بسيط بن شكر بطن أيضا. فأما أولاد فارس وأولاد عزيز وأولاد ماضي فموطنهم بسفح جبل أوراس المطل على بسكرة قاعدة الزاب، متصلين كذلك غربا إلى مواطن غمرة، وهم في جوار رياح وتحت أيديهم. وخول لأولاده وخصوصا من الزواودة المتولين موطنهم بالمجال. لصاحب الزاب عليهم طاعة لقرب جواره وحاجتهم إلى سلطانه، فيصرفهم لذلك في حاجته متى عنت من إخفار العير ومقارفة مدن الزاب مع رجله وغير ذلك.
(وأما أولاد شكر) وهم أكبر رياسة فيهم فنزلوا جبل راشد، وكانوا فريقين، فنزلوا واحتربوا وغلب أولاد محيا بن سعيد منهم أولاد زكرير ودفعوهم عن جبل راشد، فصاروا إلى جبل كسال محاذيه من ناحية الغرب وأوطنوه، واتصلت فتنتهم معهم على طول الأيام وافتتحهم رجال زغبة باقتسام المواطن، فصار أولاد يحيى أهل جبل راشد في إيالة سويد بن زغبة وأحلافا لهم، وأولاد ذكرى أهل جبل كسال في إيالة بني عامر وأحلافا لهم. وربما يقتحمون بادية زغبة مع أهل المصر [2] أحلافا لهم في فتنتهم كما نذكر في أخبار زغبة. وكان شيخهم من أولاد يحيى فيما قرب من عهدنا عامر بن أبي يحيى بن محيا. وكان له فيهم ذكر وشهرة. وكان ينتحل العبادة وحجّ ولقي بمصر شيخ الصوفية لعصره يوسف الكوراني، وأخذ عنه لقن طرق هدايته ورجع إلى قومه وعاهدهم على طريقته ونحلته فاتبعه الكثير منهم، وغزا المفسدون من بادية النضر في جواره، وجاهدهم إلى أن اغتالوه بعض الأيام في الصيد فقتلوه، وكان شيخ أولاد زكرير يغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير، وكان يسامي عامرا ويناهضه في شرفه إلا أن عامرا كان أسود منه بنحلة العبادة والله مصرف الأمور والخلق أهـ.
__________
[1] وفي نسخة ثانية الحصنة ولم نجد لها ذكر في تصنيف الحموي، وفي قبائل المغرب الحضنة ص 58.
[2] وفي نسخة ثانية مع النضر.(6/35)
(الخبر عن جشم الموطنين بسائط المغرب وبطونهم من هذه الطبقة)
هؤلاء الأحياء بالمغرب لهذا العهد فيهم بطون من قرة والعاصم، ومقدم والأثبج وجشم والخلط. وغلب عليهم جميعا اسم جشم فعرفوا به. وهم: جشم بن معاوية ابن بكر بن هوازن. وكان أصل دخولهم إلى المغرب أنّ الموحدين لما غلبوا على إفريقية أذعنت لهم هؤلاء القبائل من العرب طوعا وكراهية. ثم كانت فتنة ابن غانية فأجلبوا فيها وانحرفوا عن الموحدين، وراجعوا الطاعة لعهد المنصور فنقل جمهور هؤلاء القبائل إلى المغرب ممن كثرة وشوكة وظواعن ناجعة. فنقل العاصم ومقدّم من بطون الأثبج، ومعهم بطون ونقل جشم هؤلاء الذين غلب اسمهم على من معهم من الأحياء وأنزلهم تامستا. ونقل رياح وأنزلهم الهبط فنزل جشم بتامستا البسيط الأفيح ما بين سلا ومراكش أوسط بلاد المغرب الأقصى، وأبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل درن بها وشموخه بأنفه حذاءها، ووشوج أعراقه حجرا عليها فلم ينتجعوا بعدها قفرا ولا ابعدوا رحلة، وأقاموا بها أحياء حلولا، وافترقت جيوشهم بالمغرب إلى الخلط وسفيان وبني جابر.
وكانت الرئاسة لسفيان من بينهم في أولاد جرمون سائر أيام الموحدين، ولما وهن أمر بني عبد المؤمن وفشلوا وذهبت ريحهم استكثروا بجموعهم، فكانت لهم سورة غلب واعتزاز على الدولة بكثرتهم وقرب عهدهم بالبداوة، وخرّبوا ما بين الأعياص، وظاهروا الخلافة وأكثروا الفساد وسائر آثارهم باقية [1] .
ولما اقتحم بنو مرين بلاد المغرب على الموحدين وملكوا فاس وقريتها لم تكن فيه حامية أشدّ منهم بأسا ومن رياح لقرب العهد بالبداوة، فكانت لهم معهم وقائع وحروب استلحمهم فيها بنو مرين إلى أن حق الغلب واستكانوا لعزّ بني مرين وصولتهم، وأعطوهم صفقة الطاعة وأصهر بنو مرين منهم إلى الخلط في بنت بني مهلهل فكان في جملة مرين، وكانت لهم الجولة للملك. واستقرّت رياسة جشم وكثرهم في الخلط منهم، في بنت مهلهل بعد أن كانت على عهد الموحدين في سفيان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وساءت أثارهم في البغي.(6/37)
ثم ضربت الأيام ضرباتها وأخلقت جدّتهم وفشلوا وذهبت ريحهم، ونسوا عهد البداوة والناجعة، وصاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية والعسكرة مع السلطان.
(ولنذكر الآن) فرقهم الأربع وأحياء كل واحدة منها ونحق الكلام في أنسابهم، فليست راجعة إلى جشم على ما يتبين. ولكن الشهرة بهذا النسب متصلة والله أعلم بحقائق الأمور.
هذه قبائل معدودة في جشم، وجشم المعهود هو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن أو لعله جشم آخر من غيرها. وكان شيخهم المشهور لعهد المأمون وبنيه جرمون بن عيسى. ونسبه فيما يزعم بعض المؤرخين أيام الموحدين في بني قرة، وكانت بينهم وبين الخلط شيعة للمأمون وبنيه، فصار سفيان لذلك شيعة يحيى بن الناصر منازعة في الخلافة بمراكش. ثم قتل الرشيد مسعود بن حميدان شيخ الخلط كما نذكر بعد، فصاروا إلى يحيى بن الناصر. وصار سفيان إلى الرشيد. ثم ظهر بنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مع الموحدين ونزع جرمون سنة ثمان وثلاثين وستمائة عن الرشيد ولحق بمحمد بن عبد الحق أمير بني مرين حياء مما وقع له معه، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وذلك أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر وحمل عليه وهو سكران يرقص طربا. ثم أفاق فندم وفرّ إلى محمد بن عبد الحق، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهلك سنة تسع وثلاثين بعدها. وعلا كعب كانون ابنه من بعده عند السعيد، وخالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين سنة ثلاث وأربعين وستمائة ورجع إلى أزمور فملكها.
وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن حركته، وقصد كانون بن جرمون ففر أمامه، وحضر حركته إلى تامزردكت، وقتل قبل مهلكه بيوم قتله الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة السعيد، وهي التي جرت عليها تلك الواقعة. وأقام بأمر سفيان من بعده أخوه يعقوب بن جرمون، وقتل محمد ابن أخيه كانون. وقام بأمر سفيان، وحضر مع المرتضى حركة أمان ايملولين سنة تسع وأربعين وستمائة فرحل عن السلطان واختل عسكره فرجع فاتبعه بنو مرين وكانت الهزيمة. ثم رجع المرتضى وعفا له عنها، ثم قتله سنة تسع وخمسين وستمائة مسعود وعلي ابنا أخيه كانون بثأر أبيهما، ولحقا بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وقدم المرتضى ابنه عبد الرحمن فعجز عن القيام بأمره، فقدم عمه عبيد الله بن جرمون فعجز، فقدم مسعود بن كانون ولحق عبد(6/38)
الرحمن ببني مرين. ثم تقبّض المرتضى على يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر وقدّم عوضا منه يعقوب بن كانون السفياني. ثم راجع عبد الرحمن بن يعقوب سنة أربع وخمسين وستمائة فتقبض عليه واعتقل. وأقام مسعود بن كانون شيخا على سفيان.
وكان لابني عمه معه ظهور وهما: حطوش وعيسى أبناء يعقوب بن جرمون. ونزع مسعود عن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة ست وستين [1] وستمائة ابن عبد الحق ولحق بمسكورة وشب نار الفتنة والحرب، وأقيم حطوش بن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة تسع وستين وستمائة فولي مكانه أخوه عيسى وهلك مسعود بمسكورة [2] سنة ثمانين وستمائة ولحق ابنه منصور بن مسعود بالسكسيوي إلى أن راجع الخدمة أيام يوسف بن يعقوب. ووفد عليه بعسكره من حصار تلمسان سنة ست وسبعمائة فتقبله.
واتصلت الرئاسة على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا. وأدركت شيخا لعهد السلطان أبي عنان يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى. وكان سفيان هؤلاء حيا حلولا بأطراف تامستا مما يلي أسفى، وملك بسائطها الفسيحة عليهم الخلط. وبقي من أحيائهم الحرث والكلابية ينتجعون أرض السوس وقفاره، ويطلبون ضواحي بلا دجاجة [3] من المصامدة فبقيت فيهم لذلك شدّة وبأس، ورياستهم في أولاد مطاوع من الحرث. وطال عيثهم في ضواحي مراكش وإفسادهم. فلما استبدّ سلطان مراكش الأمير عبد الرحمن بن أبي فلفوس [4] علي ابن السلطان أبي على سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكر استخلصهم ورفع منزلتهم. واستقدمهم بعض أيامه للعرض بفرسانهم ورجلهم على العادة، وشيخهم منصور بن يعيش من أولاد مطاع، وتقبض عليهم أجمعين، وقتل من قتل منهم وأودع الآخرين سجونه فذهبوا مثلا في الأيام، وحصدت شوكتهم والله قادر على ما يشاء.
__________
[1] وفي نسخة أخرى سبع وستين.
[2] وفي نسخة أخرى سكورة ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان.
[3] وفي النسخة التونسية خاصة. وفي معجم البلدان حاجة موضع في قول لبيد: فذكرها مناهل آحنات بحاجة، لا تنزح بالدوالي وفي كتاب قبائل المغرب حاجة قبائل ص 134 وارض خاصة بلاد من المصامدة، ص 420.
[4] وفي نسخة أخرى: يفلّوسن.(6/39)
(الخلط من جشم)
هذا القبيل يعرف بالخلط وهم في عداد جشم هؤلاء، لكن المعروف أنّ الخلط بنو المنتفق من بني عامر بن عقيل بن كعب، كلهم شيعة للقرامطة بالبحرين. ولما ضعف أمر القرامطة استولى بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة. ثم غلبهم عليها بنو أبي الحسين من بطون تغلب بالدعوة العباسية، فارتحل بنو سليم وبنو المنتفق من هؤلاء المسمون بالخلط إلى إفريقية، وبقي سائر بني عقيل بنواحي البحرين إلى أن غلب منهم على التغلبيين بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر بن عقيل إخوة الخلط هؤلاء، لأنهم في المغرب منسوبون إلى جشم تخليطا في النسب ممن يحققه من العوام.
ولما أدخلهم المنصور إلى المغرب كما قلنا استقرّوا ببسائط تامستا، فكانوا أولي عدد وقوّة، وكان شيخهم هلال بن حميدان بن مقدم بن محمد بن هبيرة بن عواج لا نعرف من نسبه أكثر من هذا. فلما ولي العادل بن منصور خالفوا عليه، وهزموا عساكره وبعث هلال ببيعته إلى المأمون سنة خمس وعشرين وستمائة واتبعه الموحدون في ذلك وجاء المأمون وظاهروه على أمره، وتحيز أعداؤهم سفيان إلى يحيى بن القاص [1] منازعة. ولم يزل هلال مع المأمون إلى أن هلك في حركة سبتة وبايع بعده لابنه الرشيد وجاء به إلى مراكش وهزم سفيان واستباحهم.
ثم هلك هلال وولي أخوه مسعود، وخالف على الرشيد عمر بن أوقاريط شيخ الهساكرة من الموحدين، وكان صديقا لمسعود بن حميدان، فأغراه بالخلاف على اكسز السلطان فخالف، وحاول عليه الرشيد حتى قدم عليه بمراكش وقتله في جماعة من قومه سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وولي أمر الخلط بعده يحيى ابن أخيه هلال، ومرّ بقومه إلى يحيى بن القاص وحصروا مراكش ومعهم ابن أوقاريط. وخرج الرشيد إلى سجلماسة واستولوا على مراكش وعاثوا فيها. ثم جاء الرشيد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وغلبهم عليها ولحق ابن أوقاريط بالأندلس.
وأبدى عليّ بن هود بيعة الخلط، وعلموا أنها حيلة من ابن أوقاريط وأنه تخلّص من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يحيى بن الناصر.(6/40)
الورطة، فطردوا عنهم يحيى بن القاص إلى معقل. وراجعوا الرشيد فقبض على علي ووشاح ابني هلال وسجنهم بأزمور سنة خمس وثلاثين وستمائة. ثم أطلقهم ثم غدر بعد ذلك بمشيختهم بعد الاستدعاء والتأنيس وقتلهم جميعا مع عمر بن أوقاريط، كان أهل اشبيلية بعثوا به إليه، ثم حضروا مع السعيد في حركته إلى بني عبد الواد وجرّوا عليه الواقعة حتى قتل فيها بفتنتهم مع سفيان يومئذ، فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة اثنتين وخمسين وستمائة وقتلهم. ولحق عواج بن هلال ببني مرين، وقدم المرتضى عليهم علي بن أبي علي من بيت الرئاسة فيهم. ثم رجع عواج سنة أربع وخمسين وستمائة وأغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته.
ثم كانت واقعة أم الرجلين على المرتضى سنة ستين وستمائة، فرجع علي بن أبي علي إلى بني مرين. ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين وكانت الرئاسة فيهم بأول السلطان لبني مرين لمهلهل بن يحيى من مقدم. وأصهر إليه يعقوب بن عبد الحق فأنكحه ابنته التي كان منها ابنه السلطان أبو سعيد. ولم يزل مهلهل عليهم إلى أن هل سنة خمس وتسعين وستمائة، ثم ابنه عطية. وكان لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبو الحسن، وبعثه سفيرا إلى سلطان مصر الملك الناصر.
ولما هلك قام بأمره أخوه عيسى بن عطية، ثم ابن أخيهما زمام بن إبراهيم بن عطية.
وبلغ إلى المبالغ من العز والترف والدالة على السلطان والقرب من مجلسه إلى ان هلك، فولي أمره ابنه أحمد بن إبراهيم، ثم أخوه سليمان بن إبراهيم، ثم أخوهما مبارك على مثل حالهم أيام السلطان أبي عنان. ومن بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان أبي سالم، واستولى على المغرب أخوه عبد العزيز وأقطع ابنه أبا الفضل ناحية مراكش، فكان مبارك هذا معه.
ولما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك وأودع السجن إلى أن غلب السلطان عبد العزيز على عامر بن محمد وقتله، فقتل معه مبارك هذا لما كان يعرف به من صحابته ومداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين، وولي ابنه محمد على قبيل الخلط، إلا أن الخلط اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب والترف منذ مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة للعز والدعة، فأكلتهم السنون وذهب بهم الترف والله غالب على أمره
.(6/41)
(بنو جابر بن جشم)
بنو جابر هؤلاء من عداد جشم بالمغرب، وربما يقال إنهم من سدراتة إحدى فرق زناتة أو لواتة والله أعلم بذلك. وكان لهم أثر في فتنة يحيى بن الناصر بما كانوا معه من أحزابه، ولما هلك يحيى بن الناصر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بعث الرشيد بقتل شيخهم قائد بن عامر وأخيه فائد، وولي بعده يعقوب بن محمد بن قيطون. ثم اعتقله يغلو قائد الموحدين، بعثه المرتضى لذلك. وقدم يعقوب بن جرموق، وولي مشيخة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون. ثم تحيز بنو جابر هؤلاء من أحياء جشم إلى سفح الجبل بتادلا وما إليها يجاورون هناك صناكة الساكنين بقشتة وهضابه من البربر، فيسهلون إلى البسيط تارة ويأوون إلى الجبل في حلف البربر وجوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من السلطان أو ذي غلبة.
والرئاسة فيهم لهذه العصور في ورديقة [1] من بطونهم، أدركت شيخا عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديقي. ثم هلك وأقيم مقامه الناصر ابنه ولحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن السلطان إلى سالم سنة ستين وسبعمائة، ونهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا منه. ثم لحق بهم أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم عند فراره عن مراكش سنة ثمان وستين. ونازلة السلطان عبد العزيز وأحيط به فلحق برابرة صناكة من قومه. ثم أمكنوا منه على مال حمل إليهم، ولحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن يغلوسن [2] على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب.
وطلبه عمر فأخرجوه عنهم وطال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة، فنكرته الدولة، وتقبض عليه وأودع السجن، فمكث فيه سنين وتجافت الدول عنه من بعد ذلك، وأطلق عقالهم. ثم رجع من المشرق فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ابن السلطان عبد العزيز وأودعه السجن، ونقلوا الرئاسة عن بني علي هؤلاء والله يقلب الليل والنهار. وقد يزعم كثير من الناس أنّ ورديقة من بني جابر
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ورديغة وكذلك في قبائل المغرب ص 420.
[2] وفي النسخة التونسية: ابو يفلوسن وقد مرّ معنا من قبل ولكن ورد اسمه محرّفا.(6/42)
ليسوا من جشم، وأنهم بطن من بطون سدراتة إحدى شعوب لواتة من البربر، ويستدلون على ذلك بمواطنهم وجوارهم للبربر، والله أعلم بحقيقة ذلك.
(العاصم ومقدم من الأثبج)
هؤلاء الأحياء من الأثبج كما ذكرنا في أنسابهم، ونزلوا تامستا معهم، وكانت لهم عزة وعلياء، إلا أن جشم أعز منهم لمكان الكثرة. وكان موطنهم بسيط تامستا، وكانت للسلطان عليهم عسكرة وجباية كان إخوانهم من جشم. وكان شيخ العاصم لعهد الموحدين، ثم عهد المأمون منهم حسن بن زيد، وكان له أثر في فتنة يحيى بن الناصر. ولما هلك سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أمر الرشيد بقتل حسن بن زيد مع قائد وفائد ابني عامر شيوخ بني جابر فقتلوا جميعا. ثم صارت الرئاسة لأبي عياد وبنيه، وكان بينهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد، وكان له تغلب في النفرة والاستقامة.
فرّ إلى تلمسان ورجع منها أعوام تسعين وستمائة. وفرّ إلى السوس ورجع منه سنة سبع وسبعمائة، ولم يزل دأبه هذا. وكانت له ولاية مع يعقوب بن عبد الحق من قبل ذلك، ومقاماته في الجهاد مذكورة. وبقيت رياسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم وأمر مقدم ودثروا وتلاشوا. والله خير الوارثين.
(الخبر عن رياح وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة)
كان هذا القبيل من أعز قبائل هلال وأكثرهم جمعا عند دخولهم إفريقية وهم فيما ذكره ابن الكلبي: رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر، وكانت رياستهم حينئذ لموسى بن يحيى الصنبري من بطون مرداس بن رياح. وكان من رجالاتهم لذلك العهد الفضل بن علي مذكور في حروبهم مع صنهاجة، وكانت بطونهم عمر ومرداس، وعلى كلهم بنو رياح وسعيد بن رياح وخضر بن عامر بن رياح وهم الأخضر. ولمرداس بطون كثيرة: داود بن مرداس وصنبر بن حواز بن عقيل(6/43)
بن مرداس، وإخوتهم مسلم بن عقيل. ومن أولاده عامر بن يزيد بن مرداس بطون أخرى منهم: بنو موسى بن عامر وجابر بن عامر. وقد يقال: إنهم من لطيف كما قدمناه، وسودان ومشهور ومعاوية بنو محمد بن عامر بطون ثلاثة واسم سودان علي بن محمد. وقد يقال أيضا إنّ المشاهرة وهم بنو مشهور بن هلال بن عامر من نمير رياح والله أعلم.
والرئاسة على رياح في هذه البطون كلها لمرداس، وكانت عند دخولهم إفريقية في صنبر منهم. ثم صارت للزواودة [1] أبناء داود بن مرداس بن رياح. ويزعم بنو عمر بن رياح أن أباهم كفله ورباه. وكان رئيسهم لعهد الموحدين مسعود بن سلطان بن زمام بن ورديقي بن داود، وكان يلقب البلط لشدته وصلابته. ولما نقل المنصور رياحا إلى المغرب تخلف عساكر أخو مسعود في جماعات منهم لما بلاه السلطان من طاعته وانحياشه، وأنزل مسعودا وقومه لبلاد الهبط ما بين قصور كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى أزغار البسيط الفيح هناك إلى ساحل البحر الأخضر، واستقروا هنالك.
وفرّ مسعود بن زمام من بينهم في لمة من قومه سني تسعين وخمسمائة، ولحق بإفريقية واجتمع إليه بنو عساكر أخيه ولحقوا بطرابلس، ونزلوا على زغب وذياب يتقلبون بينهم. ثم نزع إلى خدمة قراقش، وحضر معه بقومه فتح طرابلس كما نذكره في أخبار قراقش. ثم رجع إلى ابن غانية الميروقي [2] ولم يزل في خلافة ذلك إلى أن هلك، وقام بأمره من بعده ابنه محمد. وكانت له رياسة وغناء في فتنة الميروقي مع الموحّدين. [3] ولما غلب أبو محمد بن أبي حفص يحيى الميروقي مع الموحدين سنة ثماني عشرة وستمائة على الحمة من بلاد الجريد، وقتل من العرب من قتل، كان فيمن قتله ذلك اليوم عبد الله بن محمد هذا وابن عمه أبو الشيخ بن حركات بن عساكر.
ولما هلك الشيخ أبو محمد رجع محمد بن مسعود إلى إفريقية وغلب عليها، واجتمع إليه حلف الأثبج ظواعن من الضحاك ولطيف فكاثروه واعتزوا به على قتالهم من دريد وكرفة، إلى أن عجزت ظواعن الضحاك ولطيف عن الرحلة، وافترقوا في قرى الزاب وصدرة. وبقي محمد بن مسعود يتغلب في رحلته وصارت رياسة البدو في
__________
[1] وفي النسخة التونسية: دؤاد.
[2] وفي نسخة ثانية: الدواودة.
[3] وفي نسخة ثانية: الميورقي.(6/44)
ضواحي إفريقية ما بين قسطيلة والزاب والقيروان والمسيلة له ولقومه. ولما هلك يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح سنة إحدى وثلاثين وستمائة كما نذكره انقطع ملكهم، واستغلظ سلطان أبي حفص.
واستقل منهم الأمير يحيى بن عبد الواحد بخطبة الخلافة عند ما فسد كرسيها بمراكش، وافترق أتباع يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح، فنكره آل أبي حفص هؤلاء الزواودة، ومكانهم من الوطن مما سلف من عنادهم ومشايعتهم لابن غانية عدوّهم فجاجا الأمير ابو زكريا في بني سليم من مواطنهم لذلك العهد بقابس وطرابلس وما إليها. والتقدم فيهم يومئذ لمرداش والكعوب كما نذكره في أخبارهم، واصطنعوهم لمشايعة الدولة. وضربوا بينهم وبين قبائل رياح وأنزلوهم بالقيروان وبلاد قسطيلة، وكانت آية لمحمد بن مسعود ووفد عليه في بعض السنين وفد مرداس يطلبون المكيل وينزلون عليهم فشرهوا إلى نعمتهم وقاتلوهم عليها، وقتلوا رزق ابن سلطان عم محمد بن مسعود، فكانت بينهم وبين رياح أيام وحروب حتى رحلوهم جانب المشرق من إفريقية وأصاروهم إلى جانبها الغربي.
وملك الكعوب ومرداس من بني سليم ضواحي الجانب الشرقي كلها، من قابس إلى بونة نفطة وامتاز الزواودة بملك ضواحي قسنطينة وبجاية من التلول ومجالات الزاب وريغ وواركلا وما وراءها من القفار في بلاد القبلة. وهلك محمد بن مسعود فولي رياسته موسى بن محمد، وكان له صيت وغناء في قومه واعتزاز على الدولة.
(ولما هلك يحيى) بن عبد الواحد بويع ابنه محمد المستنصر الطائر الذكر المشهود له في الشهرة. وخرج عليه أخوه إبراهيم فلحق بالزواودة هؤلاء فبايعوه بجهات قسنطينة واتفقوا على تقديمه، ونهض إليه المستنصر سنة ست وستين وستمائة ففرّوا أمامه وافترق جمعهم وتحيّز إليه بنو عساكر بن سلطان منهم، ورياستهم يومئذ لولد مهدي بن عساكر. ونبذوا العهد إلى إبراهيم بن يحيى ولحقوا بتلمسان. وأجاز البحر إلى الأندلس، وأقام بها في جوار الشيخ ابن الأحمر.
ثم هلك موسى بن محمد وولي رياسته ابنه شبل بن موسى، واستطال على الدولة وكثر عيثهم، فنبذ المستنصر عهدهم، ونهض إليه بعساكره وجموعه من الموحدين والعرب من بني سليم وأولاد عساكر إخوانهم، وعلى مقدمته الشيخ أبو هلال عياد بن محمد الهنتاني وكان يومئذ أميرا ببجاية. وحاول عليهم فاستقدم رؤساؤهم شبل بن موسى بن(6/45)
محمد بن مسعود وأخاه يحيى، وسباع بن يحيى بن دريد بن مسعود. وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وفضل بن ميمون بن دريد بن مسعود ومعهم دريد بن تاز يرشيخ أولاد نابت من كرفة، فقبض عليهم لحين قدومهم وضرب أعناقهم في سريح، وأخذ ابن راية [1] حيث بايعوا أبا إسحاق أخاه والقاسم بن أبي زيد بن أبي حفص الفازع إليهم لطلب الخروج على الدولة.
وافترقت ظواعنهم وفرّوا أمامه، واتبعهم إلى آخر الزاب. وترك شبل بن موسى سباعا ابنه طفلا صغيرا، فكفله عمه مولاهم بن موسى، ولم تزل الرئاسة بهم، وترك سباع ابنه يحيى أيضا طفلا فكفله عمه طلحة بن يحيى، ولحق جلهم بملوك زناتة المغرب، وأولاد محمد لحقوا بيعقوب بن عبد الحق بفاس، وأولاد سباع بن يحيى لحقوا بيغمراسن بن زيان بتلمسان فكسوهم وحملوهم، فارتاشوا وقاتلوا واحتالوا وزحفوا إلى مواطنهم فتغلبوا على أطراف الزاب من واركلان وقصور ريغ وصيروها سهاما بينهم، وانتزعوها للموحدين فكان آخر عهدهم بملكها.
ثم تقدموا إلى بلاد الزاب وجمع لهم عاملها أبو سعيد عثمان بن محمد بن عثمان ويعرف بابن عتوا من رؤساء الموحدين. وكان منزله بمقرة فزحف إليهم بمكانهم من الزاب، وأوقعوا به وقتلوه به بقلطاوة، وغلبوا على الزاب وضواحيه لهذا العهد. ثم تقدّموا إلى جبل أوراس فغلبوا على من به من القبائل. ثم تقدّموا إلى التل وجمع لهم من كان به من أولاد عساكر، وغلبهم موسى بن ماضي بن مهدي بن عساكر، فجمع قومه ومن في حلفهم من عياض وغيرهم.
وتزاحفوا فغلبهم أولاد مسعود وقتلوا شيخهم موسى بن ماضي، وتولوا الوطن بما فيه.
ثم تلافت الدولة أمرهم بالاصطناع والاستمالة وأقطعوهم ما غلبوا عليه من البلاد بجبل أوراس والزاب، ثم الأمصار التي بالبسيط الغربي من جبل أوراس المسمى عندهم بالحصنة وهي نقاوس ومقرة والمسيلة. واختص أقطاع المسيلة بسباع بن شبل بن يحيى حتى صارت لعلي بن سباع بن يحيى من بعد ذلك، فهي في قسم بنيه وسهامهم.
واختص أقطاع مقرة بأحمد بن عمر بن محمد، وهو ابن عم شبل بن موسى بن سباع، ونقاوس بأولاد عساكر. ثم هلك سباع بن شبل وقام بأمرهم ابنه عثمان،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وضرب أعناقهم في مصرع أحد ابن راية.(6/46)
ويعرف بالعاكر، فنازعه الرئاسة بنو عمه علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى. ولم يزالوا كذلك لهذا العهد، ولهم تغلب على ضواحي بجاية وقسنطينة ومن بها من سرديكش [1] وعياض وأمثالهم. ورياسة أولاد محمد الآن ليعقوب بن علي بن أحمد، وهو كبير الزواودة بمكانه وسنه وله شهرة وذكر ومحل من السلطان متوارث.
ورياسة أولاد سباع في أولاد علي بن سباع، وأولاد علي أشرف منهم وأعز بالكثرة.
والعدد ورياستهم في ولد يوسف بن سليمان بن علي بن سباع ويرادفهم أولاد يحيى بن علي بن سباع. واختص أولاد محمد بنواحي قسنطينة وأقطعتهم الدول كثيرا من أريافها. واختص أولاد سباع بنواحي بجاية وأقطاعهم فيها قليل لمنعة بجاية وضواحيها عن ضيم العرب، ولغلبهم بالجبال المطيفة بها وتوعر مسالكها على رواحل الناجعة.
وأما ريغ وواركلا فقسمة بينهم منذ عهد سلفهم كما قلناه.
وأما الزاب فالجانب الغربي منه وقاعدته طواقة [2] لأولاد محمد وأولاد سباع بن يحيى، وكانت لأبي بكر بن مسعود، فلما ضعف بنوه ودثروا اشتراها منهم علي بن أحمد شيخ أولاد عمر وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع. واتصلت بينهم بسببها الفتنة وصارت في مجالات أولاد سباع بن يحيى فسار غلب سليمان وبنيه عليها أكثر.
والجانب الوسط وقاعدته بسكرة لأولاد محمد، وفي مجالاتهم وليعقوب بن علي على عامله بسبب ذلك سلطان وعزة، وله به تمسك وإليه انحياش في منعته من الدولة واستبداده بوطنه، وحماية ضواحيه من عيث الأعراب وفسادهم غالب الأوقات.
وأما الجانب الشرقي من الزاب وقاعدته بادس وتنومة فهو لأولاد نابت رؤساء كرفة بما هو من مجالاتهم، وليس هو من مجالات رياح. إلا أن عمال الزاب تأخذ منه في الأكثر جباية غير مستوفاة بعسكر لها إلا في بعض الأحايين ببادية رياح بإذن من كبيرهم ويعقوب وإشراكه في الأمر. وبطون رياح كلها تبع لهؤلاء الزواودة ومقتسمون عليهم وملتمسون مما في أيديهم، وليس لهم في البلاد ملك يستولون عليه. وأشدّهم قوّة وأكثرهم جمعا بطون سعيد ومسلم والأخضر، يبعدون النجعة في القفار والرمال، ويسخرون الزواودة في فتنة بعضهم مع بعض ويختصون بالحلف فريقا دون آخر.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سدويكش وكذلك في قبائل الغرب ص 321.
[2] وفي نسخة ثانية: طولقة.(6/47)
فسعيد أحلاف لأولاد محمد سائر أيامهم إلا قليلا من الأحيان ينابذونهم، ثم يراجعونهم ومسلم والأخضر أحلاف لأولاد سباع كذلك إلا في بعض الأحايين.
(فأما سعيد) فرياستهم لأولاد يوسف بن زيد منهم في ولد ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف، وأردافهم أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف، وهم ينتسبون بزعمهم إلى بني سليم في أولاد القوس من سليم. والصحيح من نسبهم أنهم من رياح بالحلف والموطن ومع أولاد يوسف هؤلاء لفائف من العرب يعرفون بالمخادمة والغيوث والفجور، فأما المخادمة والغيوث من أبناء مخدم فمن ولد مشرف بن أثبج، وأما الفجور فمنهم من البرابر لواتة وزناتة إحدى بطونهم، وفيهم من نفاث فأما نفاث فمن بطون جذام وسيأتي ذكرهم. (وأما زناتة) فهم من بطون لواتة كما ذكرناه في بني جابر وبتادلا كثير منهم وأجاز منهم إلى العدوة لعهد بني الأحمر سلطان الزنادي [1] ، وكانت له في الجهاد آثار. وذكروا أن منهم بأرض مصر والصعيد كثيرا. وأما أحلاف أولاد محمد من الزواودة فبطن من رقاب [2] بن سودات بن عامر بن صعصعة، اندرجوا في أعداد رياح، ولهم معهم ظعن ونجعة، ولهم مكان من حلفهم ومظاهرتهم. وأما أحلاف أولاد سباع من مسلم والأخضر فقد قدّمنا أن مسلما من أولاد عقيل بن مرداس بن رياح أخو جواز بن رياح بعضهم ينتسب الى الزبير بن العوام وهو خلط ويقول بعض من ينكر عليهم إنما هو نسب إلى الزبير بن المهاية الذين هم من بطون عياض كما ذكرناه. ورياسته في أولاد جماعة بن مسلم بن حماد بن مسلم بين أولاد تساكر [3] بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة. وبين أولاد [4] بن موسى بن قطران بن جماعة.
وأما الأخضر فيقولون إنهم من ولد خضر بن عامر وليس عامر بن صعصعة فإن أبناء عامر بن صعصعة معروفون كلهم عند النسابين. وإنما هو والله أعلم عامر آخر من أولاد رياح. ولعله عامر بن زيد بن مرداس المذكور في بطونهم، أولهم من الخضر الذين هم ولد مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن قيس عيلان. ذكرهم صاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الزناري.
[2] وفي نسخة ثانية: رياب.
[3] وفي النسخة التونسية: جماعة من سالم بن حمّاد بن سالم بين أولاد شكر.
[4] وفي نسخة ثانية: زرارة، هذا أصح راجع قبائل المغرب ص 422(6/48)
الأغاني وقال: إنما سموا الخضر لسوادهم، والعرب تسمي الأسود أخضر. قال:
وكان مالك شديد السمرة فأشبهه ولده. ورياستهم في أولاد تامر بن علي بن تمام بن عمار بن خضر بن عامر بن رياح، واختصت مرين بأولاد تامر ولد عامر بن صالح بن عامر بن عطية بن تامر. وفيهم بطن آخر لزيادة بن تمام بن عمار. وفي رياح أيضا بطن من عنزة بن أسد بن ربيعة من نزار، ويظعنون مع باديتهم.
(وأما من نزل من رياح) ببلاد الهبط حيث أنزلهم المنصور، فأقاموا هنالك بعد رحلة رئيسهم مسعود بن زمام [1] بتلك المواطن إلى أن انقرضت دولة الموحدين. وكان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون وقتله سنة ثلاثين وستمائة. ولما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع عساكرهم، فقاموا بحماية ضواحيهم وتحيز لهم بنو عسكر بن محمد بن محمد من بني مرين حين كانوا حربا لإخوانهم بني حمامة بن محمد، سلف الملوك منهم لهذا العهد، فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد الحق بن مجيد [2] بن أبي بكر بن جماعة أبو الملك وابنه إدريس، فأوجدوا السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الترة والدماء، فأثخنوا فيهم واستلحموهم قتلا وسبيا مرة بعد أخرى.
وكان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت عامر بن يوسف بن يعقوب سنة سبع وسبعمائة تتبعهم بالقتل إلى أن لحقوا برءوس الهضاب وأسنمة الربى المتوسطة في المرج المستبحر باز غار فصاروا إلى عدد قليل، ولحقوا بالقبائل الغارمة. ثم دثروا وتلاشوا شأن كل أمة والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين لا رب غيره ولا معبود سواه، وهو نعم المولى ونعم النصير، عليه توكلنا واليه أنبنا وإليه المصير، نسأله سبحانه وتعالى من فيض فضله العميم، ونتوسل إليه بجاه نبيه الكريم، أن يرزقنا إيمانا دائما، وقلبا خاشعا، وعلما نافعا، ويقينا صادقا، ودينا قيما والعافية من كل بلية، وتمام العافية، ودوام العافية، والشكر على العافية، والغنى عن الناس، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، وأن يرزقنا من فضله وكرمه، إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد بمنه وكرمه، إنه على ما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زنان.
[2] وفي نسخة ثانية: محيو.(6/49)
يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد للَّه رب العالمين [1] .
(الخبر عن سعادة العالم بالسنة في رياح ومآل أمره وتصاريف أحواله)
كان هذا الرجل من مسلم إحدى شعوب رياح، ثم من رحمان منهم. وكانت أمه تدعى خضيبة وكانت في أعلى مقامات العبادة والورع. ونشأ هو منتحلا للعبادة والزهد، وارتحل إلى المغرب ولقي شيخ الصالحين والفقهاء لذلك العهد بنواحي تازة أبا إسحاق التسولي، وأخذ عنه ولزمه، وتفقه عليه، ورجع إلى وطن رياح بفقه صحيح وورع وافر، ونزل طولقة من بلاد الزاب، وأخذ بنفسه في تغيير المنكر على أقاربه وعشيرته ومن عرفه أو صحبه، فاشتهر بذلك وكثرت غاشيته لذلك من قومه وغيرهم.
ولزم صحابته منهم أعلام عاهدوه على التزام طريقته كان من أشهرهم: أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ بني محمد بن مسعود من الزواودة، وعطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيى منهم، وعيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد إدريس، وأولاد عساكر منهم، وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة بن يحيى بن دريد بن مسعود منهم، وهجرس بن علي من أولاد يزيد بن زغبة، ورجالات من العطاف من زغبة في كثير من أتباعهم والمستضعفين من قومهم.
فكثر بذلك تابعه واستظهر بهم على شأنه في إقامة السنة وتغيير المنكر على من جاء به.
واشتد على قاطع الطريق من شرار البوادي. ثم تخطي ذلك إلى العمار فطلب عامل الزاب يومئذ منصور بن فضل بن مزني بإعفاء الرعايا من المكوس والظلامات فامتنع من ذلك، واعتزم على الإيقاع به، فحال دونه عشائر أصحابه، وبايعوه على إقامة السنة والموت دونه في ذلك.
وآذنهم ابن مزني في الحرب ودعا لذلك أمثالهم ونظراءهم من قومهم. وكان لذلك
__________
[1] لم يرد هذا الدعاء في النسخة التونسية. والظاهر أنه حذف إما من قبل النسّاخ وإما من قبل الناشرين، إما عمدا وإما سهوا. وقد تعمدنا إثبات محتويات هذا الكتاب عملا بالأمانة العلمية في النقل.(6/51)
العهد علي بن أحمد بن عمر بن محمد قد قام برياسة أولاد محمد، وسليمان بن علي بن سباع قد قام برياسة أولاد يحيى، واقتسموا رياسة الزواودة فظاهروا ابن مزني على مدافعة سعادة وأصحابه المرابطين من إخوانهم، وكان أمر ابن مزني والزاب يومئذ راجعا إلى صاحب بجاية من بني أبي حفص، وهو الأمير خالد ابن الأمير أبي زكريا، والقائم بدولته أبو عبد الرحمن بن عمر، وبعث إليه ابن مزني في المدد فأمده بالعساكر والجيوش، وأوعز إلى أهل طولقة بالقبض على سعادة فخرج منها، وابتنى بأنحائها زاوية، ونزل بها هو وأصحابه. ثم جمع أصحابه المرابطين وكان يسميهم السنية وزحفوا إلى بسكرة وحاصروا ابن مزني سنة ثلاث وسبعمائة وقطعوا نخيلها، وامتنعت عليهم فرحلوا عنها. ثم أعادوا حصارها سنة أربع وسبعمائة، وامتنعت. ثم انحدر أصحاب سعادة من الزواودة إلى مشاتيهم سنة خمس وسبعمائة، وأقام المرابط سعادة بزاويته من زاب طولقة، وجمع من كان إليه من المرابطين المتخلفين عن الناجعة، وغزا مليلي وحاصرها أياما، وبعثوا بالصريخ إلى ابن مزني والعسكر السلطاني مقيم عندهم ببسكرة، فأركبهم ليلا مع أولاد حرب من الزواودة. وأصبحوا سعادة وأصحابه على مليلي فكانت بينهم جولة قتل فيها سعادة واستلحم الكثير من أصحابه وحمل رأسه إلى ابن مزني.
وبلغ الخبر إلى أصحابه بمشاتيهم فظهروا إلى الزاب، ورؤساؤهم أبو يحيى بن أحمد ابن عمر شيخ أولاد محرز، وعطية بن سليمان شيخ أولاد سبّاع وعيسى بن يحيى شيخ أولاد عساكر، ومحمد بن حسن شيخ أولاد عطية، ورياستهم جميعا راجعة لأبي يحيى بن أحمد. ونازلوا بسكرة وقطعوا نخيلها وتقبضوا على عمال ابن مزني فأحرقوهم في النار، واتسع الخرق بينهم وبينه. ونادى ابن مزني في أوليائه من الزواودة، واجتمع إليه علي بن أحمد شيخ أولاد محمد، وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع وهما يومئذ أجلاء الزواودة. وخرج ابنه علي بينهم بعساكر السلطان، وتزاحفوا بالصحراء سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فغلبهم المرابطون، وقتل علي بن مزني. وتقبض على عليّ بن أحمد فقادوه أسيرا، ثم أطلقه عيسى بن أحمد رعيا لأخيه أبي يحيى بن أحمد.
واستفحل أمر هؤلاء السنية ما شاء الله أن يستفحل. ثم هلك أبو يحيى بن أحمد وعيسى بن يحيى، وخلت أحياء أولاد محرز من هؤلاء السنية، وتفاوض السنية فيمن(6/52)
يقيمونه بينهم في الفتيا في الأحكام والعبادات، فوقع نظرهم على الفقيه أبي عبد الله محمد بن الأزرق من فقهاء مقرة. وكان أخذ العلم ببجاية على أبي محمد الزواوي من كبار مشيختها، فقصدوه بذلك وأجابهم وارتحل معهم. ونزل على حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة، واجتمع إليه السنية واستفحل بهم جانب أولاد سباع، واجتمعوا على الزاب وحاربوا علي بن أحمد طويلا.
وكان السلطان أبو تاشفين حين كان يجلب على أوطان الموحدين ويخيب عليهم أولياءهم من العرب، يبعث إلى هؤلاء السنية بالجوائز يستدعي بذلك ولايتهم.
ويبعث معهم للفقيه أبي الأزرق بجائزة معلومة في كل سنة. ولم يزل ابن الأزرق مقيما لرسمهم إلى أن غلبهم على أمرهم ذلك علي بن أحمد شيخ أولاد محمد. وهلك حسن بن سلامة وانقرض أمر السنية من رياح. ونزل ابن الأزرق بسكرة فاستدعاه يوسف بن مزني لقضائها تفريقا لأمر السنية، فأجابه ونزل عنده، فولاه القضاء ببسكرة إلى أن هلك سنة [1] .
ثم قام علي بن أحمد بهذه السنية بعد حين ودعا إليها، وجمع لابن مزني سنة أربعين وسبعمائة، ونزل بسكرة وجاءه مدد أهل ريغ، وأقام محاصرا لها أشهرا. وامتنعت عليه فأقلع عنها وراجع يوسف بن مزني وصاروا إلى الولاية إلى أن هلك علي بن أحمد وبقي من عقب سعادة في زاويته بنون وحفدة يوجب لهم ابن مزني الرعاية، وتعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقا في إجازة من يجيزونه من أهل السابلة. وبقي هؤلاء الزواودة ينزع بعضهم أحيانا إلى إقامة هذه الدعوة، فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين والتعمق في الورع بما يناسبها ويقضي حقها، بل يجعلونها ذريعة لأخذ الزكوات من الرعايا، ويتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسدا في ارتقاء، فينحل أمرهم بذلك، وتخفق مساعيهم، ويتنازعون على ما تحصل بأيديهم ويعترفون على غير شيء. والله متولي الأمور لا إله إلا هو سبحانه يحيى ويميت.
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولم نهتد إلى سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا.(6/53)
(الخبر عن زغبة وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة)
هذه القبيلة إخوة رياح، ذكر ابن الكلبي أن زغبة ورياحا أبناء أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر هكذا نسبهم، وهم لهذا العهد مما يزعمون أنّ عبد الله يجمعهم، بكسر دال عبد، ولم يذكر ابن الكلبي ذلك، وذكر عبد الله في ولد هلال، فلعل انتسابهم إليه بما كلفهم واشتهر دونهم، وكثيرا ما يقع مثل هذا في أنساب العرب أعني انتساب الأبناء لعمهم أو كافلهم والله أعلم.
وكانت لهم عزة وكثرة عند دخولهم إفريقية وتغلبوا على نواحي طرابلس وقابس، وقتلوا سعيد بن خزرون من ملوك مغراوة بطرابلس. ولم يزالوا بتلك الحال إلى أن غلب الموحدون على إفريقية، وثار بها ابن غانية، وتحيزت إليه أفاريق هلال بن رياح وجشم، فنزعت زغبة إلى الموحدين، وانحرفوا عن غانية فرعوا له حق نزوعهم، وصاروا يدا واحدة مع بني يادين من زناتة في حماية المغرب الأوسط من ابن غانية واتباعه، واتصلت مجالاتهم ما بين المسيلة وقبلة تلمسان في القفار، وملك بنو يادين وزناتة عليهم التلول.
(ولما ملكت زناتة) بلاد المغرب الأوسط ونزلوا بأمصاره، دخل زغبة هؤلاء التلول وتغلبوا فيها، ووضعوا الإتاوة على الكثير من أهلها بما جمعهم وزناتة من البداوة وعصبية الحلف، وخلا قفرهم من ظعونهم وحمايتهم فطرقته عرب المعقل المجاورون لهم من جانب المغرب، وغلبوا على من وجدوا من مخلف زغبة هؤلاء بتلك القفار، وجعلوا عليهم خفارة يأخذونها من إبلهم، ويختارون عليهم البكرات منها. وأنفوا بذلك وتآمروا وتعاقدوا على دفع هذه الهضمة، وتولى كبرها من بطونهم ثوابة بن جوثة من سديد كما نذكره بعد، فدفعوهم عن أوطانهم من ذلك القفر. ثم استفحلت دولة زنانة وكفحوا العرب عن وطن تلولهم لما انتشأ عنهم من العيث والفساد فرجعوا إلى صحرائهم، وملكت الدولة عليهم التلول والحبوب، واستصعب الميرة وهزل الكراع، وتلاشت أحوالهم وضربت عليهم البعوث، وأعطوا الإتاوة والصدقة حتى إذا فشل ريح زناتة وداخل الهرم دولتهم، وانتزى الخوارج من قرابة الملك بالقاصية(6/54)
وجدوا السبيل بالفتن إلى طروق التلول، ثم إلى الغلب فيها، ثم غالبوا زناتة عليها فغلبوهم في أكثر الأحايين، وأقطعتهم الدولة الكثير من نواحي المغرب الأوسط وأمصاره في سبيل الاستظهار بهم، فتمشت ظعونهم فيه وملكوه من كل جانب كما نذكره وبطون زغبة هؤلاء يتعدّدون من يزيد وحصين ومالك وعامر وعروة، وقد اقتسموا بلاد المغرب الأوسط كما نذكر في أخبارهم.
(بنو يزيد بن زغبة)
كان لبني يزيد هؤلاء محل من زغبة بالكثرة والشرف، وكان للدول به عناية، فكانوا لذلك أول من أقطعته الدول من العرب التلول والضواحي. أقطعهم الموحدون في أرض حمزة من أوطان بجاية مما يلي بلاد رياح والأثابج فنزلوا هنالك، ولجوا الثنايا المفضية إلى تلول حمزة والدهوس وأرض بني حسن ونزلوها ريفا وصحراء، وصار للدولة استظهار بهم على جباية تلك الرعايا من صنهاجة وزواوة. فلما عجزت عساكر بجاية من جبايتهم دفعوهم لها فأحسنوا في اقتضائها وزادت الدول بهم تكرمة وعناية بذلك. وأقطعتهم الكثير من تلك الأوطان. ثم غلب زناتة الموحدون على تلك الأوطان فاقتطعوها عن أوطان بجاية وأصاروها عن ممالكهم.
فلما فشل ريح زناتة وجاش بحر فتنتهم مع العرب استبد بنو يزيد هؤلاء بملكة تلك الأوطان، وغلبوا عليها من جميع جوانبها، فرغوا لجبايتها واقتضاء مغارمها، وهم على ذلك لهذا العهد. وهم بطون كثيرة فمنهم حميان بن عقبة بن يزيد، وجواب وبنو كرز وبنو موسى والمرابعة والخشنة. وهم جميعا بنو يزيد بن عيسى بن زغبة وإخوانهم عكرمة بن عيسى من ظعونهم، وكانت الرئاسة في بني يزيد لأولاد لاحق، ثم لأولاد معافى. ثم صارت في بيت سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد بن عيسى بن زغبة، وهم يزعمون أنه مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب تأباه رياستهم على غير عصبتهم، وقد مر ذلك قبل.
وربما نسبهم آخرون إلى سلول، وهم بنو مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة وليس بصحيح لما قلناه. وقد يقال: إن سلولا وبني يزيد إخوة. ويقال لهم جميعا(6/55)
أولاد فاطمة. وبنو سعد هؤلاء ثلاثة بطون: بنو ماضي بن رزق بن سعد، وبنو منصور بن سعد، وبنو زغلي بن رزق بن سعد. واختصت الرئاسة على الظعون والحلول ببني زغلي. وكانت لريان بن زغلي فيما علمناه. ثم من بعده لأخيه ديفل، ثم لأخيهما أبي بكر، ثم لابنه ساسي بن أبي بكر، ثم لابنه معتوق بن أبي بكر، ثم لموسى ابن عمهم أبي الفضل بن زغلي ثم لأخيه أحمد بن أبي الفضل، ثم لأخيهما علي بن أبي الفضل. ثم لأبي الليل بن أبي موسى بن أبي الفضل، وهو رئيسهم لهذا العهد. وتوفي سنة إحدى وتسعين وخلفه في قومه ابنه.
وكان من أحلافهم فيما تقدم بنو عامر بن زغبة يظعنون معهم في مجالاتهم ويظاهرونهم في حروبهم. وكانت بين رياح وزغبة فتنة طويلة لعهد موسى بن محمد بن مسعود، وابنه شبل أيام المستنصر بن أبي حفص. فكان بنو يزيد هؤلاء يتولون كبرها لمكان الجوار. وكان بنو عامر أحلافهم فيها وظهراءهم. وكان لهم على مظاهرتهم وضيعة من الزرع تسمى الغرارة وهي ألف غرارة من الزرع، وكان سببها فيما يزعمون: انّ أبا بكر بن زغلي غلبته رياح على الدهوس من وطن حمزة أزمان فتنته معهم، فاستنصر بني عامر، فجاءه أولاد شافع وعليهم صالح بن بالغ، وبنو يعقوب، وعليهم داود بن عطاف وحميد وعليهم يعقوب بن معروف. واسترجع وطنه وفرض لهم على وطنه ألف غرارة من الزرع، واستمرت لبني عامر.
فلما ملك يغمراسن بن زيان تلمسان ونواحيها، ودخلت زناتة إلى التلول والأرياف.
كثر عيث المعقل وفسادهم في وطنها فجاء يغمراسن ببني عامر هؤلاء من محلاتهم بصحراء بني يزيد، وأنزلهم في جواره بصحراء تلمسان كيادا للمعقل، ومزاحمة لهم بأقيالهم فنزلوا هنالك. وتبعتهم حميان من بطون بني يزيد بما كانوا بطونا وناجعة، ولم يكونوا حلولا، فصاروا في عداد بني عامر لهذا العهد. وتولت بنو يزيد بلاد الريف وخصبة، فأوطن فيه أكثرهم وقال أهل الناجعة منهم الأفاريق من عكرمة وبعض بطون عيسى يظعنون مع أولاد زغلي في قفرهم.
وأقصروا عن الظعن في القفر إلا في القليل ومع أحلافهم من ظعون رياح أو زغبة، وهم على ذلك لهذا العهد. ومن بطون بني يزيد بن عيسى زغبة هؤلاء بنو خشين وبنو موسى وبنو معافى وبنو لاحق. وكانت الرئاسة لهم ولبني معافى قبل بني سعد بن مالك، وبنو جواب وبنو كرز وبنو مربع وهم المرابعة، وهؤلاء كلهم بطن حمزة لهذا(6/56)
العهد. ومن المرابعة حي ينجعون بضواحي تونس لهذا العهد، وغلب عليهم بسبب زغبة والله الخلاق العليم.
أبو الفضل بن موسى بن زغلي بن رزق بن سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله.(6/57)
(حصين بن زغبة)
وأما أولاد حصين بن زغبة فكانت مواطنهم بجوار بني يزيد إلى المغرب عنهم. كانوا حيا حلوا هنالك، وكان الريف للحاذي من تيطري ونواحي المدينة مواطن للثعالبة من بطون البعوث، ويأخذون منهم الأتاوات والصدقات. حتى إذا ذهب سلطان بني توجين من أرض المدينة [1] وغلبهم عليهم بنو عبد الواد ساموا حصينا هؤلاء خطة الخسف والذل، وألزموهم الوضائع والمغارم، واستلحموهم بالقتل وهضموهم بالتكاليف، وصيّروهم في عداد القبائل الغارمة ومآثر ذلك، كان تغلب بني مرين على جميع زناتة كما نذكره، فكانوا لهم أطوع، ولدولتهم أذل. فلما عاد بنو عبد الواد إلى ملكهم لعهد أبي حمو موسى بن يوسف بن يوسف بعد مهلك السلطان أبي عنان هبت ريح العز للعرب، وفشل ريح زناتة، ولحق دولتهم ما يلحق الدول من الهرم، ونزل حصين هؤلاء بتيطري وهو جبل أشير وملكوه وتحصنوا به.
وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو لما ملك من قبله لحق بتونس مقتطعا [2] حبالة بني مرين، وخرج طالبا أبيه، ومنازلا لابن عمه هذا، ونزل في خبر طويل نذكره بقبائل حصين هؤلاء أحوج ما كانوا لمثلها لما راموه من خلع ما كان بأعناقهم من الدول وطرق الاهتضام والعسف فتلقوه بما يجب له. ونزل منهم بأكرم نزل وأحسن مثوى. وبايعوه وراسلوا إخوانهم وكبراءهم من رؤساء زغبة بني سويد وبني عامر فأصفقوا عليه. وترددت عساكر السلطان أبي حمو وبني عبد الواد إليهم فتحصنوا بجبل تيطري وأوقعوا بهم.
ونهض إليهم السلطان أبو حمود بعساكره فقتلوه ونالوا منه، ونالت زغبة بذلك ما أرادوه من الاعتزاز على الدولة آخر الأيام، وتملكوا البلاد أقطاعات وسهمانا، ورجع أبو زيان إلى رياح فنزل بهم على سلم عقده مع ابن عمه وبقي لحصين أثر الاعتزاز من جرّائه. واقطعتهم الدولة ما ولوه من نواحي المدينة وبلاد صنهاجة. لحصين ولهؤلاء
__________
[1] وفي نسخة: المرية. ولعلها المدية في أواخر افريقية من اعمال بني حمّاد. وليس المرية من اعمال الأندلس لأنها بعيدة عن بحثنا هنا. راجع قبائل المغرب ص 145.
[2] وفي نسخة أخرى: مفلتا من(6/58)
بطنان عظيمان جندل وخراش، فمن جندل أولاد سعد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن على بن جندل، ورياستهم في بني خليفة بن سعد لعلى [1] ، وسيدهم أولاد خشعة بن جندل.
وكانت رياستهم على جندل قبل أولاد خليفة، ورئيسهم الآن علي بن صالح بن دياب بن مبارك بن يحيى بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة. ومن خراش أولاد مسعود بن مظفر بن محمد الكامل بن خراش ورياستهم لهذا العهد في ولد رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام بن مسعود وأولاد فرج بن مظفر، ورياستهم في بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج. وأولاد طريف بن معبد بن خراش، ويعرفون بالمعابدة، ورياستهم في أولاد عريف وربما انتسب أولاد مظفر من خراش إلى بني سليم ويزعمون أن مظفر بن محمد الكامل جاء من بني سليم ونزل بهم والله أعلم بحقيقة ذلك.
(بنو مالك بن زغبة)
وأما بنو مالك بن زغبة فهم بطون ثلاثة: سويد بن عامر بن مالك وهم بطنان، العطاف بن ولد عطاف بن رومي بن حارث. والديالم من ولد ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي فأما سويد فكانوا أحلافا لبني يادين قبل الدولة. وكان لهم اختصاص ببني عبد الواد، وكانت لهم لهذا العهد أتاوات على بلد سيراة والبطحاء وهوارة. ولما ملك بنو يادين تلول المغرب الأوسط وأمصاره كان قسم بني توجين منه شياخ [2] التلول القبلية ما بين قلعة سعيدة في الغرب إلى المريّة في الشرق. فكان لهم قلعة ابن سلامة ومنداس وأنشريس وورنية [3] وما بينهما، فاتصل جوارهم لبني مالك هؤلاء في القفر والتل.
ولما ملك بنو عبد الواد تلمسان ونزلوا بساحتها وضواحيها، كان سويد هؤلاء أخص
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليلي.
[2] وفي نسخة ثانية: سياج.
[3] وفي النسخة التونسية: ووزينة، وفي النسخة الباريسية وورثته. وفي بعض النسخ الأخرى: ووزلنة.(6/59)
بحلفهم وولايتهم من سائر زغبة. وكانت لسويد هؤلاء بطون مذكورون من فلمة [1] وشبانة ومجاهر وجوثة، كلهم من بني سويد. والحساسة بطن من شبانة إلى حسان بن شبانة وغفير وشافع ومالف. كلهم بنو سليمة [2] بن مجاهر وبو رحمة وبو كامل، وحمدان بنو مقدر بن مجاهر. ويزعم بعض نسابتهم أن مقدرا ليس بجدّ لهم، وإنما وضع ذلك أولا بو كامل.
وكانت رياستهم لعهدهم في يغمراسن وما قبله في أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان، وكانوا ثلاثة: مهدي وعطية وطراد. واختص مهدي بالرياسة عليهم، ثم ابنه يوسف بن مهدي، ثم أخوه عمر بن مهدي واقطع يغمراس يوسف بن مهدي ببلاد البطحاء وسيرات وأقطع عنتر بن طراد بن عيسى مراري [3] البطحاء وكان يقتضون أتاوتهم على الرعايا ولا يناكرهم فيها. وربما خرج في بعض خروجه واستخلف عمر بن مهدي على تلمسان وما إليها من ناحية المشرق.
وفي خلال ذلك خلت مجالاتهم بالقفر من ظعونهم وناجعتهم، إلا أحياء من بطونهم قليلي العدد من الجوثة وفليتة ومالف وغفير وشاقع وأمثالهم فغلب عليهم هنالك المعقل، وفرضوا عليهم أتاوة من الإبل يعطونها ويختارونها عليهم من البكرات. وكان المتولي لأخذها منهم من شيوخ المعقل ابن الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله، وقيل علي بن عثمان أخو نهار. وقيل إن البكرات إنما فرضها للمعقل على قومه عامر بن جميل لأجل مظاهرة له على عدوه، وبقيت للمعقل عادة إلى أن تمشت رجالات من زغبة في نقض ذلك، وغدروا برجال المعقل ومنعوا تلك البكرات.
(أخبرني يوسف) بن علي، ثم غانم عن شيوخ قومه من المعقل أنّ سبب البكرات وفرضها على زعمه كما ذكرناه. وأما سبب رفعها فهو أنّ المعقل كانوا يقولون غرامتها ادالة بينهم، فلما دالت لعبيد الله الدولة في غرامتها جمع ثوابه في جوثة قومه وحرّضهم على منعها، فاختلفوا واختبروا مع عبيد الله ودفعوهم إلى جانب الشرق، وحالوا بينهم وبين أحيائهم وبلادهم. وطالت الحرب ومات فيها بنو جوثة وابن مريح [4] من
__________
[1] وفي نسخة أخرى فليتة، وكذلك في قبائل المغرب ص 433.
[2] وفي نسخة أخرى: بنو سليمان.
[3] وفي نسخة أخرى: طراد بن عبسي قرارة.
[4] وفي نسخة أخرى: مرمح.(6/61)
رجالاتهم، وكتب بنو عبد الله إلى قومهم من قصيدة بني معقل
بني معقل إن لم تصرخونا على العدو ... فلا يذلكم تذكر ما طرأ لنا [1]
قتلنا ابن جوثه والهمام بن مريح ... على الوجه مكبوب وذا من فعالنا.
فاجتمعوا وجاءوا إلى قومهم، وفرت أحياء زغبة، واجتمع بنو عبيد الله وإخوانهم من ذوي منصور وذوي حسان، وارتفع أمر البكرات من زغبة لهذا العهد. ثم حدث بين يغمراسن وبينهم فتنة هلك فيها عمر بن مهدي وابن حلوا وانزلوهم عن التلول [2] والأرياف من بلاد عبد الواد إلى القفر المحاذي لأوطان بني توجين على المهادنة والمصاهرة، فصاروا لهم حلفاء على بني عبد الواد ومن عجز منهم عن الظعن نزل ببسائط البطحاء. وسارت بطونهم كلها من شبابة ومجاهر وغفير وشافع ومالف وبو رحمة وبو كامل. ونزل محيسن بن عمارة وأخوه سويد بضواحي وهران، فوضعت عليهم الأتاوات والمغارم وصاروا من عداد الرعايا أهل الجباية، وولي عثمان بن عمر أمر الظعون من سويد ثم هلك وقام بأمره ابنه ميمون وغلب عليه أخوه سعيد واستبدّ.
وكان بين سويد وبين بني عامر بن زغبة فتنة اتصلت على الأيام وثقلت وطأة الدولة الزيانية عليهم. وزحف يوسف بن يعقوب إلى منازلة تلمسان، وطال مقامه عليها، فوفد عليه سعيد بن عثمان بن عمر بن مهدي شيخهم لعهده، فأتى مجلسه وأكرم وفادته. ثم أجمع قتله ففرّ ولحق بقومه، وأجلب على أطراف التلول وملك السرسو قبلة بلاد توجين، ونزعت إليه طائفة من عكرمة بني يزيد وعجزوا عن الظعن، وأنزلهم بجبل كريكرة قبلة السرسو ووضع عليهم الإتاوة. ولم يزل كذلك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب واتصل سلطان آل يغمراسن.
ولما ولي أبو تاشفين بن موسى بن عثمان بن يغمراسن استخلص عريف بن يحيى لديه صحابة كانت له معه قبل الملك. ثم آسفه ببعض النزعات الملوكية. وكان هلال مولاه المستولي عليه يغص بما كان عريف منه، فنزع عريف بن يحيى الى بني مرين ملوك المغرب الأقصى، ونزل على السلطان أبي سعيد منهم سنة عشرين وسبعمائة، واعتقل أبو تاشفين عمه سعيد بن عثمان إلى أن هلك في محبسه قبيل فتح تلمسان،
__________
[1] وقد ورد هذا البيت في نسخ أخرى:
بني معقل ان لم تصرخونا على العدو ... فلا بدّ لكم تذكر ما طرأ لنا
[2] وفي نسخة أخرى: وارتحلوا عن التلول.(6/62)
ولحق أخوه ميمون بن عثمان وولده بملك المغرب وأنزل عريف بن يحيى من سلطان بني مرين أكرم نزل وأدنى مجلسه وأكرم مثواه. ثم اتخذه ابنه السلطان أبو الحسن من بعده بطانة لشوراه ونجيا لخلواته. ولم يزل يحرضهم على آل زيان بتلمسان. ونفس ميمون بن عثمان وولده عريف رتبته عند السلطان أبي الحسن، فنزعوا إلى أخيه أبي علي بتافيلات [1] فلم يزالوا بها إلى أن هلك ميمون تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه أبي علي وصار أولاد ميمون في جملته. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان يجر أمم المغرب، وأحجر على زيان بتلمسان، ثم اقتحمها عليهم عنوة وابتزهم ملكهم.
وقتل السلطان أبا تاشفين عند شدونة، وبعث كلمته في أقطار المغرب الأقصى والأدنى إلى تخوم الموحدين من أندلس. وجمع كلمة زنانة واستتبعهم تحت لواتة.
وفرّ بنو عامر من زغبة أولياء بني عبد الواد إلى القفر كما نذكره. ورفع السلطان أبو الحسن قوم عريف بن يحيى بمحلته على كل عربي في إيالته من زغبة والمعقل. وكان عقد سمعون بن سعيد على الناجعة من سويد، وهلك أيام نزول السلطان بتاسالة سنة اثنتين وثلاثين [وسبعمائة] قبل فتح تلمسان.
وولي من بعده أخوه عطية وهلك لأشهر من ولايته بعد فتح تلمسان فعقد السلطان لوزمار [2] بن عريف على سويد وسائر بني مالك، وجعل رياسة البدو حيث كان من أعماله، وأخذ الصدقات منهم والأتاوات، فعكفت على هيئة أمم البدو واقتدى بشوراه رؤساؤهم. وفرّ ابن عمه المسعود بن سعيد ولحق ببني عامر، وأجلبوا على السلطان بدعاء جزار شبة ابنه أبي عبد الرحمن، فجمع لهم وزمار وهزمهم كما نذكره. وسفر عريف بين السلطان أبي الحسن وبين الملوك لعهده من الموحدين بإفريقية وبني الأحمر بالأندلس والترك بالقاهرة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك السلطان أبو الحسن.
(ولما تغلب) السلطان أبو عنان على تلمسان كما سنذكره، رعى لسويد ذمة الانقطاع إليه، فرفع وزمار بن عريف على سائر رؤساء البدو من زغبة وأقطعه السرسو وقلعة ابن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تافيلالت. كانت منطقة الواحات (حيث توجد سجلماسة المؤسسة عام 140 هـ- 758 م تسمى بالبربرية تافيلالت وقد سمّاها المؤرخون العرب تافلاله أو فلا له وهي التي استقر بها جد العلويين أو الشرفاء العلويين الشريف الماجد حسن بن قاسم (الموسوعة الغربية ومعلمة الصحراء الملحق الأول ص 62.) كتاب المغرب (ص 142) .
[2] وفي نسخة ثانية لونزمار.(6/63)
سلامة وكثيرا من بلاد توجين. وهلك أبو عريف بن يحيى، فاستقدمه من البدو، وأجلسه بمكان أبيه من مجلسه جوار أريكته، ولم يزل على ذلك. وعقد لأخيه عيسى على البدو من قومه، ثم بني عبد الواد بعد ملك السلطان أبي عنان عادت لهم الدولة بأبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي يغمراسن من أعياص ملوكهم.
وتولى كبر ذلك صغير بن عامر وقومه لما لهم مع آل زيان من الولاية، وما كان لبني مرين فيهم من النعمات فملكوا تلمسان ونواحيها، وعقدوا على سويد لميمون بن سعيد ابن عثمان. وتاب وزمار بن عريف ورأى الترهب والخروج عن الرئاسة، فبنى حصنا بوادي ملوية من تخوم بني مرين ونزل به، وأقام هنالك لهذا العهد. وملوك بني مرين يرعون له ذمة اختصاصه سلفهم فيؤثرونه بالشورى والمداخلة في الأحوال الخاصة مع الملوك والرؤساء من سائر النواحي، فتوجهت إليه بسبب ذلك وجوه أهل الجهات من الملوك وشيوخ العرب ورؤساء الأقطار.
ولحق أخواه أبو بكر ومحمد بقومهم فمكروا بالميمون ودسوا عليه من قتله غيلة من ذويهم وحاشيتهم، واستبدوا برياسة البدو. ثم لما نصب بنو حصين بن زيان ابن عم السلطان أبي حمو للملك كما نذكره ورشحوه للمنازعة سنة سبع وستين وسبعمائة هبت من يومئذ ريح العرب وجاش مرجلهم على زناتة ووطئوا من تلول بلادهم بالمغرب الأوسط فأعجزوا عن حمايته، وولجوا من فروجها ما قصروا عن سده. ودبوا فيها دبيب الظلال في الفيوء، فتملكت زغبة سائر البلاد بالأقطاع من السلطان طوعا وكرها رعيا لخدمته، وترغيبا فيها وعدة وتمكينا لقوته حتى أفرجت لهم زناتة عن كثيرها، ولجئوا إلى سيف البحر.
وحصل كل منهم في الفلول على ما يلي موطنه من بلاد القفر. فاستولى بنو يزيد على بلاد حمزة وبني حسن كما كانوا من قبل، ومنعوا المغارم، واستولى بنو حسين على ضواحي المدينة أقطاعا والعطاف على نواحي مليمانة، والديالم على وزينة، وسويد على بلاد بني توجين كلها ما عدا جبل ونشريس لتوعره بقيت فيه لمة من توجين رياستهم لأولاد عمر بن عثمان من الجشم بني تيغرين كما نذكره، وبني عامر على تاسالة وميلانة إلى صيرور [1] إلى كيدزة الجبل المشرف على وهران.
__________
[1] وفي نسخة أخرى هيدور، وفي ثانية ميرور.(6/64)
وتماسك السلطان بالأمصار وأقطع منها كلميتو لأبي بكر بن عريف، ومازونة لمحمد بن عريف، ونزلوا لهم عن سائر الضواحي فاستولوا عليها كافة. وأوشك بهم أن يستولوا على الأمصار. وكل أول فإلى آخر، ولكل أجل كتاب، وهم على ذلك لهذا العهد.
ومن بطون سويد هؤلاء بطن بنواحي البطحاء يعرفون بهبرة، ينسبهم الناس إلى مجاهد ابن سويد، وهم يزعمون أنهم من قوم المقداد بن الأسود، وهم بهذا من قضاعة، ومنهم من يزعم أنهم من تجيب إحدى بطون كندة والله أعلم. ومن ظواعن سويد هؤلاء ناجعة يعرفون بصبيح، ونسبهم إلى صبيح بن علاج بن مالك ولهم عدد وقوة وهم يظعنون بظعن سويد ويقيمون بمقامهم.
(وأما الحرث بن مالك) وهم العطاف والديالم فموطن العطاف قبلة مليانة، ورياسة ظعونهم لولد يعقوب بن نصر بن عروة من منصور بن أبي الذئب بن حسن بن عياض بن عطاف بن زيان بن يعقوب، وابن أخيه علي بن أحمد وبنيهم، ومعهم طائفة من براز إحدى بطون الأثبج. وأقطعهم السلطان مغارم جبل دراك وما إليه من وادي شلب. وحال بينهم وبين موطن سويد ونشريس ولهم بلاد وزينة في قبلة الجبل رياستهم في ولد إبراهيم بن زروق بن رعاية من مزروع بن صالح بن ديلم، والسعد بن العباس بن إبراهيم منهم لهذا العهد. وكانت من قبل لعمه أبي يحيى بن إبراهيم وتقبض عليه السلطان أبو عثمان بإشارة عريف بن يحيى وأغرى به وهلك به وهلك في محبسه.
(وفيهم بطون كثيرة) منهم بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي والدهاقنة أولاد هلال بن حسن وبنو نوال بن حسن أيضا، وكلهم إخوة ديلم بن حسن وابن عكرمة من مزروع بن صالح، ويعرفون بالعكارمة. وهؤلاء العطاف والديالم أقل عددا من سويد وأولياؤهم في فتنتهم مع بني عامر لمكان العصبية من نسب مالك، ولسويد عليهم اعتزاز بالكثرة. والديالم أبعد مجالا منهم في القفر ويحاذيهم في مواطنهم من جانب التلول بطن من بطون الحرث يعرفون بغريب نسبهم الى غريب بن حارث، حي حلول بتلك المواطن يطلبهم السلطان في العسكرة، ويأخذ منهم المغارم وهم أهل شاء وبقر، ورياستهم في أبناء مزروع بن خليفة بن خلوف بن يوسف بن بكرة بن منهاب بن مكتوب بن منيع بن مغيث بن محمد الغريب، وهو جدّهم ابن حارث. وترادفهم في(6/65)
رياستهم على غريب أولاد يوسف، وهم جميعا أولاد بني منيع وسائر غريب من الأحلاف شيوخهم أولاد كامل، والله مالك الخلق والأمر
.(6/66)
(بنو عامر بن زغبة)
وأما بنو عامر بن زغبة فمواطنهم في آخر مواطن زغبة من المغرب الأوسط قبلة تلمسان مما يلي المعقل، وكانت مواطنهم من قبل ذلك في آخرها مما يلي المشرق، وكانوا مع بني يزيد حيا جميعا، وكانوا يغلبون غيرهم في مواطن حمزة والدهوس، وبني حسن لميرة أقواتهم في المصيف. ولهم على وطن بني يزيد ضريبة من الزرع متعارفة بين أهله لهذا العهد. يقال: إنها كانت لهم أزمان تغلبهم في ذلك الوطن، وقيل إن أبا بكر بن زغبي في فتنته مع رياح غلبوه على الدهوس من وطنه، فاستصرخ بني عامر فجاءوا لصريخه، وعلى بني يعقوب داود بن عطاف، وعلى بني حميد يعقوب بن معروف، وعلى شافع بن صالح بن بالغ وغلبوا رياحا بعزلان وفرض لهم على وطن بني يزيد ألف غرارة، واستمرت لهم عادة عليهم.
ولما نقلهم يغمراسن إلى مواطنهم هذه لمحاذاة تلمسان ليكونوا حجزا بين المعقل وبين وطنها، استقرّوا هنالك يتقلبون في قفارها في المشاتي، ويظهرون إلى التلول في المرابع والمصايف. وكان فيهم ثلاثة بطون: بنو يعقوب بن عامر وبنو حميد بن عامر وبنو شافع بن عامر، وهم بنو شقارة وبنو مطرف، ولكل واحد من البطنين الآخرين أفخاذ وعمائر، ولبني حميد فصائل أخرى فمنهم: بنو حميد، ومن عبيد الحجز وهم بنو حجاز بن عبيد، وكان له من الولد حجوش وهجيش ابني حجاز. وحجوش حامد ومحمد ورباب.
ومن محمد الولادة بنو ولاد بن محمد. ومن رباب بنو رباب وهم معروفون لهذا العهد. ومن عبيد أيضا العقلة بنو عقيل بن عبيد والمحارزة بنو محرز بن حمزة بن عبيد. وكانت الرئاسة على حميد لعلاق من هؤلاء المحارزة، وهم الذين قبل حجوش جد بني رباب، وكانت الرئاسة على بني عامر كافة لبني يعقوب على عهد يغمراسن وابنه لداود بن هلال بن عطاف بن رداد بن ركيش بن عياد بن منيع بن يعقوب منهم وكان بنو حميد أيضا برئيسهم وشيخهم إلا أنه رديف لشيخ بني يعقوب منهم. وكانت رياسة حميد لأولاد رباب بن حامد بن حجوش بن حجاز بن عبيد ابن حميد ويسمون الحجز. وعلى عهد يغمراسن لمعرف بن سعيد بن رباب منهم،(6/68)
وهو رديف لداود كما قلناه. ووقعت بين عثمان وبين داود بن عطاف مغاضبة، وسخطه عثمان لما أجاز الأمير أبا زكريا ابن السلطان أبي إسحاق من آل أبي حفص حين فرّ من تلمسان طالب الخروج على الخليفة بتونس، وكان عثمان بن يغمراسن في بيعته، فاعتزم على رجعه فأبى داود من إخفار ذمّته في ذلك. ورحل معه حتى لحق بعطية بن سليمان من شيوخ الزواودة، وتغلب على بجاية وقسنطينة كما يذكر في أخباره.
وأقطع داود بن هلال رعيا لفعلته وطنا من بلاد حمزة يسمى كدارة، وأقام داود هنالك في مجالاتهم الأولى إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، وطال حصاره لها، فوفد عليه داود مؤمّلا صلاح حاله لديه، وحمله صاحب بجاية رسالة إلى يوسف بن يعقوب فاستراب به من أجلها، فلما قفل من وفادته بعث في أثره خيالة من زناتة بيتوه ببني يبقى [1] في سدّ وقتلوه. وقام بأمره في قومه ابنه سعيد، ونفس مخنق الحصار عن تلمسان. وكان قبل بني مرين وسيلة رعاها لهم بنو عثمان بن يغمراسن فرجعوهم إلى مواطنهم ومع قومهم. وقد اغتر أولاد معرف بن سعيد في غيبتهم تلك يساجلونهم في رياسة بني عامر، وغص كل واحد بمكان صاحبه، واختص بنو معرف بإقبال الدولة عليهم لسلامتهم من الحزازة والخلاف. ونزع سعيد بن داود لأجل هذه الغيرة إلى بني مرين.
ووفد على السلطان أبي ثابت من ملوكهم يؤمل به الكرة، فلم يصادف لها محلا ورجع إلى قومه. وكانوا مع ذلك حيا جميعا ولم تزل السعاية بينهم تدب حتى عدا إبراهيم بن يعقوب بن معرف على سعيد بن داود فقتله، وتناول قتله ماضي بن ردان من أولاد معرف بن عامر بمجالاته، وتعصب عليه أولاد رباب كافة، فافترق أمر بني عامر وصاروا حيين. بنو يعقوب وبنو حميد، وذلك لعهد أبي حمو موسى بن عثمان من آل زيان، وقام بأمر بني يعقوب بعد سعيد ابنه عثمان. ثم هلك بعد حين إبراهيم بن يعقوب شيخ بني حميد وقام مقامه من قومه ابنه عامر بن إبراهيم، وكان شهما حازما وله ذكر، ونزل المغرب قبل عريف بن يحيى ونزل على السلطان أبي سعيد، وأصهر إليه ابنته فأنكحه عامر إياها وزفها إليه ووصله بمال له خطر، فلم يزل عثمان يحاول أن يثأر منه بأبيه بالفتنة تارة والصلح والاجتماع أخرى حتى غدره في بيته
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليقي.(6/69)
وقتله، وارتكب فيه الشنعاء التي تنكرها العرب، فتقاطع الفريقان لذلك آخر الدهر. وصارت بنو يعقوب أحلافا لسويد في فتنتهم مع بني حميد هؤلاء. ثم تلاحقت ظواعن سويد بعريف بن يحيى في مكانه عند بني مرين واستطال ولد عامر ابن إبراهيم بقومهم على بني يعقوب فلحقوا بالمغرب، ولم يزالوا به إلى أن جاءوا في عساكر السلطان أبي الحسن، وهلك شيخهم عثمان، قتله أولاد عريف بن سعيد بثأر عامر بن إبراهيم. وولي بعده ابن عمه هجرس بن غانم بن هلال، فكان رديفا له في حياته. ثم هلك وقام بأمرهم بعده عمه سليمان بن داود.
ولما تغلب السلطان أبو الحسن على تلمسان فرّ بنو عامر بن إبراهيم إلى الصحراء، وكان شيخهم لذلك العهد صغير ابنه، واستأنف السلطان على يد عريف بن يحيى سائر بطون حميد وأولاد رباب فخالف صغيرا إخوانه إلى السلطان. وولى عليهم شيخا من بني عمهم عريف بن سعيد، وهو يعقوب بن العباس بن ميمون بن عريف. ووفد بعد ذلك عمر بن إبراهيم عم صغير، فولاه عليهم، واستخدمهم ولحق بنو عامر بن إبراهيم بالزواودة ونزلوا على يعقوب بن علي، ولم يزالوا هناك حتى شبوا نار الفتنة بالدعي بن هيدور الملبس بشبه [1] أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن.
وأعانه على ذلك أهل الحقود على الدولة والأضغان من الديالم، وأولاد ميمون بن غنم ابن سويد نقموا على الدولة مكان عريف وابنه ونزمار منها، فاجتمعوا وبايعوا لهذا الداعي.
وأو عز السلطان إلى ونزمار بحربهم فنهض إليهم بالعرب كافة، وأوقع بهم وفضهم ومزق جموعهم. وطال مفرّ مقير [2] بن عامر وإخوته في القفار، وأبعدوا في الهرب، قطعوا لعرق الرمل الّذي هو سياج على مجالات العرب، ونزل قليعة والد [3] وأوطنها.
ووفد من بعد ذلك على السلطان أبي الحسن منذ نمي به [4] فقبل وفادته واسترهن أخاه أبا بكر، وصحب السلطان إلى إفريقية وحضر معه واقعة القيروان. ثم رجع إلى قومه وعادوا جميعا إلى لواتة بني يغمراسن، واستخدموا قبائلهم لأبي سعيد عثمان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المهيمن بشعبه.
[2] وفي نسخة ثانية: صغير.
[3] وفي النسخة الباريسية: والن. وفي النسخة التونسية والر.
[4] وفي نسخة أخرى: متذمما.(6/70)
ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الدائل بتلمسان بعد واقعة القيروان أعوام خمسين وسبعمائة، فكان له ولقومه فيها مكان. ولحق سويد وبنو يعقوب بالمغرب حتى جاءوا في مقدمة السلطان أبي عنان.
ولما هلك بنو عبد الواد وافترق جمعهم فرّ صغير إلى الصحراء على عادته، وأقام بالقفر يترقب الخوارج، ولحق به أكثر قومه من بني معرف بن سعيد فأجلب بهم على كل ناحية وخالف أولاد حسين بالمعقل على السلطان أبي عنان أعوام خمسة وخمسين وسبعمائة وما بعدها ونازلوا سجلماسة فكاثرهم وكان معهم، وأوقعت بهم عساكر بني مرين في بعض سني خلائهم وهم بنكور يمتارون فاكتسحوا عامة أموالهم وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا. ولم يزالوا كذلك شريدا في الصحراء، وسويد وبنو يعقوب بمكانهم من المجالات، وفي خطهم عند السلطان حتى هلك السلطان أبو عنان وجاء أبو حمو موسى بن يوسف أخو السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن لطلب ملك قومه بتلمسان، وكان مستقرّا بتونس منذ غلبهم أبو علي على أمرهم، فرحل مقير إلى وطن الزواودة، ونزل على يعقوب بن علي أزمان خلافه على السلطان أبي عنان، وداخله في استخلاص أبي حمو هذا من إيالة الموحدين للإجلاب على وطن تلمسان وبني مرين الذين به، فأرسلوا معه الآلة. ومضى به مقير وصولة بن يعقوب بن علي وزيان ابن عثمان بن سباع وشبل ابن أخيه ملوك بني عثمان. ومن بادية رياح دعار بن عيسى ابن رحاب بقومه من سعيد، وبلغوا معهم إلى تخوم بلادهم فرجع عنهم رياح إلا دعار بن عيسى وشبل بن ملّوك، ومضوا لوجههم. ولقيتهم جموع سويد، وكان الغلب لبني عامر. وقتل يومئذ شيخ سويد بن عيسى بن عريف وأسر أخوه أبو بكر.
ثم من عليه علي بن عمر بن إبراهيم وأطلقه. ولم يتصل الخبر بفاس إلا والناس منصرفون من جنازة السلطان أبي عنان. ثم أجلب أبو حمو بالمغرب على تلمسان فأخذها وغلب عساكر بني مرين عليها، واستوسق ملكه بها. ثم هلك مقير لسنتين أو نحوهما حمل نفسه في جولة فتنة في الحي يروم تسكينها على بعض الفرسان، فاعترضه سنان رمح على غير قصد فأنفذه وهلك لوقته. وولي رياستهم من بعده أخوه خالد بن عامر يرادفه عبد الله ابن أخيه مقير. وخلصت زغبة كلها للسلطان أبي حمو فأساء بني مرين لما كان بينهم من الفتنة واستخدمهم جميعا على مضاربهم وعوائدهم من سويد وبني يعقوب والد يالم والعطاف، حتى إذا كانت فتنة أبي زيان ابن السلطان أبي(6/71)
سعيد عم أبي حمو كما نذكره في خبرهم جاش مرجل الفتنة من زغبة، واختلفوا على أبي حمو وتقبض على محمد بن عريف أمير سويد لاتهامه إياه بالادهان في أمره، فنزع أخوه أبو بكر وقومه إلى صاحب المغرب عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن سنة سبعين وسبعمائة وجاءوا في قومته واستولى على مواطنهم.
ولحق بنو عامر وأبو حمو بالصحراء، وطال ترددهم فيها وسعى عند أبي حمو في خالد من عمومته وأقاربه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، ومعرف هو أخو إبراهيم بن يعقوب، وكان عبد الله هذا بطانة للسلطان وعينا، فاستفسد بذلك قلب خالد وتغير ونبذ إليه عهده، ونزع عنه إلى السلطان عبد العزيز. وجاءت به عساكر بني مرين فأوقع بالسلطان أبي حمو ومن معه من العرب.
وهلك عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة فارتحل إلى المغرب هو وعبد الله ابن أخيه مقير، ولحقهم ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب. كان قومه بني يعقوب قتلوا أبناء محمد بن عريف فحدثت بينهم فتنة، ولحق ساسي هذا وقومه بالمغرب، وصحب خالدا يؤمل به الكرة، ويئسوا من صريخ بني مرين لما بينهم من الفتنة، فرجعوا إلى أوطانهم سنة سبع وسبعين وسبعمائة وأضرموا نار الفتنة، وخرجت إليهم عساكر السلطان أبي حمو مع ابنه أبي تاشفين، وزحف معه سويد والديالم والعطاف فأوقعوا بهم على وادي مينا قبلة القلعة.
وقتل عبد الله بن مقير وأخوه ملوك في قرابة لهم آخرين، وسار فلهم شريدا إلى الصحراء ولحقوا بالديالم والعطاف، واجتمعوا جميعا إلى سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة، وصاحب وطن تيجه [1] . وكان يتوجس لأبي حمو الخيفة فاتفقوا على الخلاف وبعثوا إلى الأمير أبي زيان بمكانه من وطن رياح فجاءهم وتابعوه، وأمكنه سالم من الجزائر. ثم هلك خالد في بعض تلك الأيام فافترق أمرهم، وولي علي بني عامر المسعود بن مقير، وزحف إليهم أبو حمو في سويد وأوليائه من بني عامر.
واستخدم سالم بن إبراهيم، وخرج أبو زيان إلى مكانه من وطن رياح، ولحق المسعود
__________
[1] هي متيجة: بفتح أوله، وكسر ثانية وتشديده ثم ياء مثناة من تحت ثم جيم: بلد في أواخر إفريقية من أعمال بني حماد، قال البكري: الطريق من أشير الى جزائر بني مزغناي ومن أشير الى المدية، وهي بلد جليل قديم، ومنها الى اقزرنة، وهي مدينة على نهر كبير عليه الأرحاء والبساتين ويقال إنها متيجة. (معجم البلدان) قبائل المغرب ص 9.(6/72)
ابن عامر وقومه بالقفر. ولحق ساسي بن سليم بيعقوب بن علي وقومه من الزواودة.
ثم راجعوا جميعا خدمة السلطان وأوفدوا عليه فأمنهم، وقدموا عليه وأظهروا البر والرحب بالمسعود وساسي، وطوى لهم على السوء. ثم داخل بطانة من بني عامر وسويد في نكبتهم، فأجابوه ومكر بهم، وبعث ابنه أبا تاشفين لقبض الصدقات من قومهم حتى اجتمع له ما أراد من الجموع، فتقبض على المسعود وعشرة من إخوانه بني عامر بن إبراهيم. ونهض أبو تاشفين والعرب جميعا إلى أحياء بني يعقوب وكانوا بسيرات، وقد أرصد لهم سويد بوادي مينا فصبحهم بنو عامر بمكانهم واكتسحوهم. وصار فلهم إلى الصحراء، فاعترضهم أبو تاشفين ببني راشد فلم يبق لهم باقية، ونجا ساسي بن سليم إلى الصحراء في فل قليل من قومه، ونزل على النضر ابن عروة، واستبد برياسة بني عامر سليمان بن إبراهيم بن يعقوب عم مقير ورديفه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، وهو أقرب مكانا من السلطان وخلعه.
ثم بعث صاحب المغرب السلطان أبو العباس أحمد بن الولي أبا سالم بالشفاعة في المسعود وإخوانه بوسيلة من ونزمار بن عريف بعد أن كان مداخلا لأبي حمو ولإخوانه في نكبتهم، فأطلقهم أبو حمو بتلك الشفاعة، فعادوا إلى الخلاف، وخرجوا إلى الصحراء، واجتمع إليهم الكثير من أولاد إبراهيم بن يعقوب. واجتمع أيضا فل بني يعقوب من مطارحهم إلى شيخهم ساسي بن سليم ونزلوا جميعا مع عروة. وأوفد إخوانه على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية لهذا العهد منتدبا به وصريخا على عدوه فتلقاه من البر والإحسان ما يناسبه، وأفاض في وفده العطاء وصرفه بالوعد الجميل.
وشعر بذلك أبو حمو فبعث من عيونه من اغتاله ووفد بعدها على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية علي بن عمر بن إبراهيم، وهو ابن عم خالد بن محمد وكبير النفر المخالفين من بني عامر على أبي حمو. ووفد معه سليمان بن شعيب بن عامر فوفدوا عليه بتونس يطلبون صريخه، فأجابهم ووعدهم وأحسب الإحسان والمبرة أمامهم، ورجعوا إلى قومهم. ثم راجع علي بن عمر خدمة أبي حمو وقدمه على بني عامر، وأدال به من سليمان بن إبراهيم بن عامر، فخرج سليمان إلى أهل بيته من ولد عامر بن إبراهيم الذين بالصحراء ونزلوا مع بني يعقوب بأحياء أبي بكر بن عريف، وهو على ذلك لهذا العهد. والله مقدر الليل والنهار أهـ
.(6/73)
(عروة بن زغبة)
وأما عروة بن زغبة فهم بطنان: النضر بن عروة وخميس بن عروة. وبطون خميس ثلاثة: عبيد الله وفرغ ويقظان. من بطون فرغ بنو قائل أحلاف أولاد يحيى من المعمور القاطنين بجبل راشد. وبنو يقظان وعبيد الله أحلاف لسويد يظعنون لظعنهم ويقيمون لإقامتهم، ورياستهم لأولاد عابد من بطن راشد. وأمّا النضر بن عروة فمنتبذون بالقفر ينتجعون في رماله ويصعدون إلى أطراف التلول في إيالة الديالم والعطاف وحصين وتخوم أوطانهم، وليس لهم ملك ولا أقطاع لعجزهم عن دخول التلول بلغتهم وممانعة بطون زغبة الآخرين عنها إلّا ما تغلّبوا عليه في أذناب الوطن بجبل المستند مما يلي وطن رياح، يسكنه قوم من غمرة وزناتة استمرّ عليهم غلب العرب منذ سنين. فوضع النضر هؤلاء عليهم الإتاوة وأصاروهم خولا ورعية.
وربما نزل منهم مع هؤلاء البرابر من عجز عن الظعن في بيوتهم ولهم بطون مذكورة أولاد خليفة والخماننة وشريعة السحاوى [1] وذوي زيّان وأولاد سليمان، ورياستهم جميعا في أولاد خليفة بن النضر بن عروة، وهي لهذا العهد لمحمد بن زيّان بن عسكر ابن خليفة، ورديفه سمعون بن أبي يحيى بن خليفة بن عسكر، وأكثر السحارى موطنون بجبل المستند الّذي ذكرناه، ورياستهم في أولاد [2] وناجعة هؤلاء النضر أحلاف لزغبة دائما، فتارة للحرب وحصين جيرانهم في المواطن، وتارة لبني عامر في فتنتهم مع سويد، وندبتهم مع بني عامر فيما يزعمون بأبي قحافة وسمعت من مشايخهم أنه ليس بأب لهم، وإنما هو اسم واد كان به حلفهم قديما، وربّما يظاهرون سويدا على بني عامر، إلّا أنه في الأقل والندرة. وهم إلى حلف بني عامر أقرب وأسرع لما ذكرناه، وربّما ظاهروا رياحا بعض المرّات في فتنتهم لجوار الوطن، إلا أنه قليل أيضا وفي النادر. ويتناولون في الأكثر مع البادية من رياح مثل مسلم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: أولاد خليفة والحماقنة وشريفة والسحارى.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع إملاء الفراغ من المراجع التي بين أيدينا، ولكن في العبارة السابقة يذكر ابن خلدون ان رئاسة أولاد خليفة والخماننة وشريعة والسحارى في أولاد خليفة بن النضر بن عروة. (راجع قبائل المغرب ص 423) .(6/75)
وسعيد، وربما وقعت بينهم حروب في القفر يصيب فيها بعض من دماء بعض، هذه بطون زغبة وما تأدّى إلينا من أخبارهم. وللَّه الخلق والأمر وهو رب العالمين
.(6/76)
(الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة وأنسابهم وتصاريف أحوالهم)
هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان، وينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب، وهم ثلاثة بطون: ذوي عبيد الله وذوي منصور وذوي حسان. فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل وما يواجهها من القبلة. ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها الى سجلماسة [1] وعلى درعة وعلى ما يحاذيها من التل مثل تازي وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمقدر. ومواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط، وينزل شيوخهم بلاد نول [2] قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه، وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة [3] مستوفة ولمتونة.
وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال إنهم لم يبلغوا المائتين.
واعترضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيّزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت، وجاوروا زناتة في القفار والغربية فعفوا وكثروا وأنبتوا في صحارى المغرب الأقصى، فعمروا رماله وتغلبوا في فيافيه. وكانوا هناك أحلافا لزناتة سائر أيامهم. وبقي منهم بإفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سليم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان، واستئلاف العرب.
فلما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن. قام هؤلاء المعقل في القفار وتفردوا في البيداء فنموا نموا لا كفاء له، وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة
__________
[1] سجلماسة: مدينة تاريخية اندثرت الآن أسسها بنو مدرار في القرن الهجريّ الثاني وأصبحت عاصمة للخوارج الى ان فتحها قائد الفاطميين جوهر الصيقلي وتأسست بها الدولة الفاطمية في أواسط القرن الرابع الهجريّ واستمرت عمارة المدينة الى القرن العاشر (كتاب المغرب/ 126) - المعجم التاريخي/ 32 معجم البلدان، راجع القلقشندي «صبح الأعشى ج 2 ص 180) .
[2] نوال: مدينة في جنوبي بلاد المغرب. هي حاصرة لمطة فيها قبائل من البربر وهي في غربي تينزرمت.
[3] كدالة: ناحية في جبال إفريقية.(6/77)
بالقفر مثل قصور السوس غربا، ثم توات ثم جودة [1] ثم تامنطيت. ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقا، وكل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار وأكثر سكانها من زناتة، وبينهم فتن وحروب على رياستها، فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم ووضعوا عليها الأتاوات والضرائب، وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكا. وكانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها حمل الرحيل. وكان لهم الخيار في تعيينها.
ولم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب وحلوله [2] حمى، ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد السودان بأذية ولا مكروه لما كان بالمغرب من اعتزاز الدين وسد الثغور وكثرة الحامية أيام الموحدين وزناتة بعدهم. وكان لهم بإزاء ذلك اقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى، وفيهم من مسلم سعيد بن رياح والعمور من الأثبج، وعددهم كما قلنا قليل. وإنما كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم فإن فيهم من فزارة من أشجع أحياء كبيرة، وفيهم الشظة من كرفة والمهاية من عياض، والشعراء من حصين والصباح من الأخضر ومن بني سليم وغيرهم.
(وأما أنسابهم عند الجمهور) فخفية ومجهولة، وسلافة العرب من هلال يعدونهم من بطون هلال وهو غير صحيح، وهم يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي طالب وليس ذلك أيضا بصحيح، لأن الطالبيين والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة. والصحيح والله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن، فإن فيهم بطنين يسمى كل واحد منهما بالمعقل، ذكرهما ابن الكلبي وغيره، فأحدهما من قضاعة بن مالك بن حمير وهو معقل بن كعب بن غليم بن خباب بن هبل بن عبد الله بن كنانة ابن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد بن اللات بن رفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. والآخر من بني الحرث بن كعب ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن
__________
[1] جوده: وادي في اليمن وليس هو المقصود وفي نسخة أخرى بودة ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان ولعلها بورة مدينة على ساحل بحر مصر قرب دمياط.
[2] وفي نسخة أخرى: تلولة.(6/78)
غريب بن زير بن كهلان، وهو معقل واسمه ربيعة بن كعب بن كعب بن الحرث.
والأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر الّذي من مذحج، كان اسمه ربيعة، وقد عده الأخباريون في بطون هلال الداخلين إلى إفريقية، لأن مواطن بني الحرث بن كعب قريب من البحرين حيث كان هؤلاء العرب مع القرامطة قبل دخولهم إلى إفريقية. ويؤيده أن ابن سعيد لما ذكر مذحج وأنهم بجهات الجبال من اليمن، وذكر من بطونهم زبيد ومراد. ثم قال: وبإفريقية منهم فرقة وبرية ترتحل وتنزل، وهؤلاء الذين ذكر إنما هم المعقل الذين هم بإفريقية، وهم فرقة من هؤلاء الذين بالمغرب الأقصى.
(ومن إملاء نسابتهم) أن معقل جدهم له من الولد سحير ومحمد، فولد سحير [1] عبيد الله وثعلب، فمن عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم. ومن ثعلب الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر، وولد محمد: مختار ومنصور وجلال وسالم وعثمان. فولد مختار بن محمد: حسان وشبانه، فمن حسان ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الأقصى. ومن شبانة الشبانات جيرانهم هنالك. ومنهم بطنان: بنو ثابت وموطنهم تحت جبل السكسيوي من جبال أدرن وشيخهم لهذا العهد أو ما قبله يعيش بن طلحة.
والبطن الآخر آل علي، وموطنهم في برية هنكيسة تحت جبل كزولة، وشيخهم لهذا العهد أو ما قرب منه حريز بن علي. ومن جلال سالم وعثمان الرقيطات بادية لذوي حسان ينتجعون معهم. وولد منصور بن محمد حسن وأبو الحسين وعمران وشب [2] يقال لهم جميعا ذوي منصور، وهو أحد بطونهم الثلاثة المذكورة. والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.
__________
[1] وفي النسخة التونسية صقيل.
[2] وفي نسخة اخرى ونسبا.(6/79)
(ذوى عبيد الله)
فأما ذوي عبيد الله فهم المجاورون لبني عامر بن زغبة من سلطان بني عبد الواد من زناتة، فمواطنهم من بين تلمسان إلى وحدة إلى مصب وادي ملوية في البحر ومنبعث وادي صا من القبلة. وتنتهي رحلتهم في القفار إلى قصور توات وتمنطيت، وربما عاجوا إلى ذات الشمال إلى تاسابيت وتوكرارين، وهذه كلها رقاب القفر إلى بلد السودان. وبينهم وبين بني عامر فتن وحروب موصولة. وكان لهم مع بني عبد الواد مثلها قبل السلطان والدولة، فما كانوا أحلافا لبني مرين. وكان المنبات من ذوي منصور أحلافا لبني عبد الواد فكان يغمراسن يوقع بهم أكثر أوقاته وينال منهم إلى أن(6/80)
صحبوا بسبب الجوار، واعتزت عليهم الدولة فأعطوا الصدقة والطوائل وعسكروا مع.
السلطان في حروبه.
ولم يزل ذلك إلى أن لحق الدولة الهرم الّذي يلحق مثلها فوطنوا التلول، وتملكوا وجدة.
وندرومة وبني يزناسن ومديونة وبني سنوس إقطاعا من السلطان إلى ما كان لهم عليها قبل من الأتاوات والوضائع فصار معظم جبايتها لهم، وضربوا على بلد هنين بالساحل ضريبة الإجازة منها إلى تلمسان، فلا يسير ما بينهما مسافر أيام حلولهم بساحتها إلا بإجازتهم، وعلى ضريبة يؤديها إليهم. وهم بطنان الهراج والخراج، فالخراج من ولد فراج بن مطرف بن عبيد الله، ورياستهم في أولاد عبد الملك وفرج بن علي بن أبي الريش بن نهار بن عثمان بن خراج، لأولاد عيسى بن عبد الملك ويعقوب بن عبد الملك ويغمور بن عبد الملك.
وكان يعقوب بن يغمور شيخهم لعهد السلطان أبي الحسن، ولما تغلب على تلمسان استخدم له عبيد الله هؤلاء وكان يحيى بن العز من رجالة بني يزناسن أهل الجبل المطل على وجدة. وكان له قدم في خدمة الدول فاتصل بالسلطان أبي الحسن ورغبه في ملك قصور هذه الصحراء، فبعثه مع هؤلاء العرب في عسكر، ودخل معهم إلى الصحراء وملك تلك القصور واستولى عليها. وأسف عبيد الله بانتزاع أملاكهم وسوء المعاملة لهم، فوثبوا به وقتلوه في خبائه وانتهبوا عسكر السلطان الذين معه ونقضوا الطاعة. وفر يعقوب بن يغمور فلم يزل شريدا بالصحراء سائر أيامه، ورجع بعد ذلك.
ثم عادت دولة بني عبد الواد فصدوا في ولايتها، فلم يزل على ذلك، وخلفه ابنه طلحة، وكان أيام خلاف يعقوب وانتقاضه رأس على الخراج من أهل بيته منصور ابن يعقوب بن عبد الملك وابنه رحّو من بعده. وجاء أبو حمو فكان له في خدمته ومخالطته قدم، فقدمه شيخا عليهم. فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين رحو بن منصور ابن يعقوب بن عبد الملك وبين طلحة بن يعقوب المذكور آنفا، وربما نازعه. ولهم بطون كثيرة فمنهم الجعاونة من جعوان بن خراج، والغسل من غاسل بن خراج، والمطارفة من مطرف بن خراج، والمهايا من عثمان بن خراج، وفيهم رياستهم كما قلناه، ومعه الناجعة يسمون بالمهايا ينسبون تارة إلى المهايا بن عياض، وقدمنا ذكرهم. وتارة إلى مهايا بن مطرف، وأما الهراج فمن ولد الهراج بن مهدي بن محمد(6/81)
ابن عبيد الله، ومواطنهم في ناحية المغرب عن الخراج فيجاورون بني منصور ولهم تاوربرت وما إليها. وخدمتهم في الغالب لبني مرين وأقطاعاتهم من أيديهم، ومواطنهم تحتهم، ورجوعهم إلى عبد الواد في الأقل، وفي بعض الأحايين ورياستهم في ولد يعقوب بن هبا بن هراج لأولاد مرين بن يعقوب، وأولاد مناد بن رزق الله ابن يعقوب، وأولاد فكرون بن محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب من ولد حريز بن يحيى الصغير بن موسى بن يوسف بن حريز، كان شيخا عليهم أيام السلطان عبد العزيز، وهلك عقبه، ورأس عليهم ابنه. ومن ولد مناد أبو يحيى الكبير بن مناد كان شيخا قبل أبي يحيى الصغير، وبالإضافة إليه وصف بالصغير. ومنهم أبو حميدة محمد بن عيسى بن مناد وهو لهذا العصر رديف لشيخهم من ولد أبي يحيى الصغير، وهو كثير التقلب في القفار والغزو للقاصية ولأهل الرمال والملثمين. والله مالك الملوك لا رب غيره ولا معبود سواه وهو نعم المولى ونعم النصير
.(6/82)
(الثعالبة)
وأما الثعالبة إخوتهم من ولد ثعلب بن عليّ بن بكر بن صغير [1] أخي عبيد الله بن صغير، فموطنهم لهذا العهد بمتيجة من بسيط الجزائر، وكانوا قبلها بقطيري مواطن حصين لهذا العهد، نزلوها منذ عصور قديمة، وأقاموا بها حيا حلولا. ويظهر أن نزولهم لها حين كان ذوي عبيد الله في مواطن بني عامر لهذا العهد، وكان بنو عامر في مواطن بني سويد فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية فدخلوا من ناحية كزول وتدرّجوا في المواطن إلى ضواحي المدينة، ونزلوا جبل تيطري وهو جبل أشير الّذي كانت فيه المدينة الكبيرة. فلما تغلب بنو توجين على التلول وملكوا وانشريش زحف محمد بن عبد القوى إلى المدينة فملكها، وكانت بينهم وبينه حروب ومسلم إلى أن وفدت عليه مشيختهم، فتقبض عليهم وأغزى من وراءهم من بقية الثعالبة واستلحمهم واكتسح أموالهم.
وغلبهم بعدها على تيطري وأزاحهم عنها إلى متيجة، وأنزل قبائل حصين بتيطري وكانوا معه في عداد الرعايا يؤدون إليه المغارم والوظائف، ويأخذهم بالعسكرة معه ودخل الثعالبة هؤلاء في إيالة ملكيش [2] من صنهاجة ببسيط متيجة، وأوطنوا تحت ملكتهم. وكان لهم عليهم سلطان كما نذكره. حتى إذا غلب بنو مرين على المغرب الأوسط وأذهبوا ملك ملكيش منها، استبد الثعالبة هؤلاء بذلك البسيط وملكوه.
وكانت رياستهم في ولد سباع بن ثعلب بن علي بن مكر بن صغير. ويزعمون أن سباعا هذا كان إذا وفد على الموحدين يجعلون من فوق عمامته دينارا يزن عددا من الدنانير سابقة في تكرمته وترفيعه.
(وسمعت) من بعض مشيختنا أن ذلك لما كان من كرامته للإمام المهدي حين أجاز بهم فإنه مرّ بهم ساعيا فحملوه واستقرت الرئاسة في ولد سباع هذا في بني يعقوب بن سباع أولا، فكانت لهم مددا. ثم في عقب حنيش منهم. ثم غلب السلطان أبو
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ثعلب بن علي بن مكن صقيل أخي عبيد الله بن صقيل.
[2] وفي النسخة التونسية: مليكش.(6/84)
الحسن على ممالك بني عبد الواد ونقلهم إلى المغرب، وصارت الولاية لهم لأبي الحملات بن عائد بن ثابت، وهو ابن عم حنيش وهلك في الطاعون الجارف أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولى عليهم أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولى عليهم إبراهيم بن نصر.
ولم تزل رياستهم إليه إلى أن هلك بعد استيلاء السلطان أبي عنان عن المغربين كما نذكره في أخباره وقام برياستهم ابنه سالم، وكانوا أهل مغارم ووضيعه لملكيش ومن بعدهم من ولاة الجزائر، حتى إذا هبت ريح العرب أيام خروج أبي زيان وحصين على أبي حمو أعوام ستين وسبعمائة كما ذكرناه. وكان شيخهم لذلك العهد سالم بن إبراهيم بن نصر بن حنيش بن أبي حميد بن ثابت بن محمد بن سباع، فأخب في تلك الفتنة وأوضع، وعاقد أبو حمو وانتقض عليه مرارا، وغلب بنو مرين على تلمسان فتحيز إليهم. وكانت رسله ووفده تقدموا إليهم بالمغرب.
ثم هلك السلطان عبد العزيز ورجع أبو حمو إلى ملكه، ونزلت الغوائل فخشيه سالم.
واستدعى أبا زيان ونصبه بالجزائر، وزحف إليه أبو حمو سنة تسع وسبعين [وسبعمائة] ففض جمعه وراجع سالم خدمته. وفارق أبا زيان كما نذكره في أخباره. ثم زحف إليه أبو حمو وحاصره بجبال متيجة أياما قلائل، واستنزله على عهده. ثم أخفره وتقبض عليه وقاده إلى تلمسان أسيرا وقتله قعصا بالرماح وذهب أثره وما كان له من الرئاسة التي لم تكن الثعالبة لها بأهل. ثم تتبع إخوانه وعشيرة وقبيله بالقتل والسبي والنهب إلى أن دثروا، والله يخلق ما يشاء
.(6/85)
(ذوي منصور)
وأما أولاد منصور بن محمد فهم معظم هؤلاء المعقل، وجمهورهم ومواطنهم تخوم المغرب الأقصى من قبلته ما بين ملوية ودرعة. وبطونهم أربعة: أولاد حسين وأولاد أبي الحسين وهما شقيقان، والعمارنة أولاد عمران، والمنبات أولاد منبا وهما شقيقان أيضا. ويقال لهذين البطنين جميعا الأحلاف. فأما أولاد أبي الحسن فعجزوا عن الظعن ونزلوا قصورا اتخذوها بالقفر ما بين تافييلات وتيكورارين. وأما أولاد حسين فهم جمهور ذوي منصور، ولهم العزّة عليهم ورياستهم أيام بني مرين في أولاد خالد ابن جرمون بن جرار بن عرفة بن فارس بن علي بن فارس بن حسين بن منصور، كانت أيام السلطان أبي الحسن لعلي بن غانم. وهلك إثر كائنة طريف. وصارت لأخيه يحي، ثم لابنه عبد الواحد بن يحيى، ثم لأخيه زكريا، ثم لابن عمه أحمد ابن رحو بن غانم، ثم لأخيه يعيش، ثم لابن عمه يوسف بن علي بن غانم لهذا العهد.
وكانت لبني مرين فيهم وقائع أيام يعقوب بن عبد الحق وابنه يوسف، وسيأتي في أخبار بني مرين غزوة يوسف بن يعقوب من مراكش إليهم، وكيف أوقع بهم بصحراء درعة. ولما أقام بالشرق على تلمسان محاصرا لها أحلف هؤلاء العرب من المعقل على أطراف المغرب ما بين درعة وملوية إلى تاوريرت. وكان العامل يومئذ بدرعة عبد الوهاب بن صاعد من صنائع الدولة وكبار ولاتها، فكانت بينه وبينهم حروب قتل في بعضها. ثم هلك يوسف بن يعقوب ورجع بنو مرين إلى المغرب، فأخذوا منهم بالثأر حتى استقاموا على الطاعة. وكانوا يعطون الصدقة أطوع ما يكون إلى أن فشل ريح الدولة، واعتزّت العرب فصاروا يمنعون الصدقة إلا في الأقل يغلبهم السلطان على إعطائها.
ولما استولى السلطان أبو عنان على تلمسان أعوام خمسين وسبعمائة وفرّ صغير بن عامر إلى الصحراء ونزل عليهم واستجار بهم فأجاروه. ونزل السلطان عليهم ذلك فأجمعوا نقض طاعته وأقاموا معه بالصحراء وصغير متولي كبر ذلك الخلاف، حتى إذا هلك أبو عنان وكان من سلطان أبي حمو بتلمسان ما نحن ذاكروه، وزحف بنو مرين إلى(6/87)
تلمسان ففرّ منها أبو حمو وصغير، ونزلوا عليهم فأوقعوا بعسكر بني مرين بنواحي تلمسان، واتسع الخرق بينهم وبين بني مرين فانحازوا إلى أبي حمو وسلطانه، وأقطعهم بضواحيه. ثم رجعوا إلى أوطانهم بعد مهلك السلطان أبي سالم أعوام ثلاث وستين [وسبعمائة] على حين اضطراب المغرب بفتنة أولاد السلطان أبي عليّ ونزولهم بسجلماسة، فكان لهم في ذلك الفتنة آثار إلى أن انقشعت.
ثم كان لأحمر بن رحو مع أبي حمو جولة وأجلب عليه بأبي زيان حافد أبي تاشفين فقتل في تلك الفتنة كما نذكره. ثم اعتدوا على الدولة من بعد ذلك وأكثر مغارم درعة لهذا العهد. وأقطع لهم ببلاد تادلا والمعرر [1] من تلك الثنايا التي منها دخولهم إلى المغرب للمربع والمصيف ولميرات الأقوات. وسجلماسة من مواطن إخوانهم الأحلاف كما نذكره، وليست من مواطنهم، فأما درعة فهي من بلاد القبلة موضوعة حفا في الوادي الأعظم المنحدر من جبل درن من فوهة يخرج منها وادي أم ربيع، ويتساهل إلى البسائط والتلول ووادي دريعة ينحدر إلى القبلة مغربا إلى أن يصب في الرمل ببلاد السوس، وعليه قصور درعة، وواد آخر كبير أيضا ينحدر إلى القبلة مشرقا بعض الشيء إلى أن يصب في الرمل دون تيكورارين وفي قبلتها.
وعليه من جهة المغرب قصور توات، ثم بعدها تمنطيت، ثم بعدها وركلان.
وعندها يصب في الرمل، وفي الشمال عن ركان قصور تسابيت. وفي الشمال عنها إلى الشرق قصور تيكورارين، والكل وراء عرب الرمل. وجبال درن هي الجبال العظيمة الجاثمة سياجا على المغرب الأقصى من آسفي إلى تازي، وفي قبلتها جبل نكيسة لصنهاجة، وآخره جبل ابن حميدي من طرف هسكورة. ثم ينعطف من هنالك جبال أخرى متوازية حتى تنتهي إلى ساحل بادس من البحر الرومي. وصار المغرب لذلك كالجزيرة أحاطت الجبال به من القبلة والشرق والبحر ومن المغرب والجوف. واعتمر هذه الجبال والبسائط التي بينها أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم، والمسالك بين هذه الجبال إلى المغرب منحصرة، ثم معدودة، وبإزاء القبائل المعتمرين لها كاظة. ومصب وادي درعة هذا إلى الصحراء والرمال ما بين سجلماسة وبلاد السوس، ويمتدّ إلى أن يصب في البحر ما بين نون ووادان، وحفافيه
__________
[1] وفي نسخة أخرى المعدن.(6/88)
قصور لا تحصى، شجرتها النخل وقاعدتها بلد تادنست [1] بلد كبير يقصده التجر للسلم في النيلج، وانتظار خروجه بالصناعة. ولأولاد حسين هؤلاء استيلاء على هذا الوطن ومن بإزائه في فسيح جبلة من قبائل البربر صناكة وغيرهم. ولهم عليهم ضرائب وخفرات ووضائع. ولهم في مجابي السلطان أقطاعات ويجاورهم الشبانات من أولاد حسان من ناحية الغرب، فلهم بسبب ذلك على درعة بعض الأتاوات.
(وأما الأحلاف) من ذوي منصور وهم العمارنة والمنبات فمواطنهم مجاورة لأولاد حسين من ناحية الشرق. وفي مجالاتهم بالقفر تافيلات، وصحراؤها. وبالتل ملويّة وقصور وطاط وتازي وبطوية وغساسة، لهم على ذلك كله الأتاوات والوضائع، وفيها الأقطاعات السلطانية. وبينهم وبين أولاد حسين فتنة، ويجمعهم العصبية في فتنة من سواهم. ورياسة العمارنة في أولاد مظفر بن ثابت بن مخلف بن عمران، وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان طلحة بن مظفر وابنه الزبير. ولهذا العهد محمد بن الزبير وأخوه موسى، ويرادفهم في رياستهم أولاد عمارة بن قلان بن مخلف، فكان منهم محمد العائد. ومنهم لهذا العهد سليمان بن ناجي بن عمارة ينتجع في القفر ويكثر الغزو إلى اعتراض العير وقصور الصحراء.
ورياسة المنبات لهذا العهد لمحمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا، وكانت أيام السلطان أبي عنان لأخيه عليّ من قبله وترادفهم في رياستهم ابن عمهم عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا. والمنبات والعمارنة اليوم إذا اجتمعوا جميعا يكثر أولاد حسين. وكان للمنبات كثرة لأول دولة بني مرين. وكان خلفهم مع بني عبد الواد. وكان مقدمه يغمراسن بن زيان في افتتاح سجلماسة، وتملكها من أيدي الموحدين. ثم تغلب بنو مرين عليها وقتلوا من حاربها من مشيختهم مع بني عبد الواد، ثم أوقعوا بالمنبات من بعد ذلك في مجالاتهم بالقفر واستلحموهم، فنقص عددهم لذلك آخر الأيام، والله مالك الأمور لا رب سواه [2] .
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تيديسي.
[2] وفي بعض نسخ هذا الكتاب ورد هذا المقطع فرأينا اضافتها الى نسختنا هذه متوخين من ذلك كله افادة القارئ الكريم.
مواطن العثامنة تلي مواطن بني منصور من جانب الغرب، ويليهم أولاد سالم. وفي حيز مواطنهم درعة، ولهم عليها القفر. ويليهم أولاد جلال عند منتهى عمارة درعة مما يلي المغرب والقبلة. ويليهم غربا الى البحر الشبانات وهم أولاد عليّ وأولاد بو ثابت وأولاد حسّان وراءهم من ناحية القبلة والغرب، وينزلون مواطنهم بالغلب الّذي لهم عليهم.(6/89)
(ذوي حسان عرب السوس)
وأمّا بنو مختار بن محمد فهم كما قدّمناه: ذوي حسان والشبانات والرقيطات. ومنهم أيضا الجياهنة وأولاد أبو رية [1] ، وكانت مواطنهم بنواحي ملوية إلى مصبه في البحر مع إخوانهم ذوي منصور وعبيد الله إلى أن استصرخهم علي بن يدر الزكندري صاحب السوس من بعد الموحدين. ونسبه ابن عمه في عرب الفتح. وكانت بينه وبين كزولة الظواعن ببسائط السوس. وجباله فتنة طويلة استصرخ لها بني مختار هؤلاء فصارخوه وارتحلوا إليه بظعونهم، وحمدوا مواطن السوس لعدم المزاحم من الظواعن فيها فأوطنوها. وصارت مجالاتهم بقفرها وغلبوا كزولة وأصاروهم في جملتهم ومن ظعونهم وغلبوا على القصور التي بتلك المواطن في سوس ونول. ووضعوا عليها الأتاوات مثل تارودانت من سوس، وهي ضفّة وادي سوس حيث يهبط من الجبل، وبين مصبه ومصب وادي ماسة حيث الرباط المشهور مرحلة إلى القبلة.
ومن هناك إلى زوايا أولاد بني نعمان مرحلة أخرى في القبلة على سائر البحر، وتواصت على وادي نول حيث يدفع من جبل نكيسة غربا، وبينها وبين إيفري مرحلة، والعرب لا يغلبونها وإنما يغلبون على البسائط في نواحيها. وكانت هذه المواطن لعهد الموحّدين من جملة ممالكهم وأوسع عمالاتهم. فلما انقرض أمر الموحدين حجبت عن ظل الدولة وخرجت عن إيالة السلطان إلا ما كان بها لبني يدر هؤلاء الذين قدّمنا ذكرهم. وكان علي بن يدر مالكا لقصورها، وكان له من الجند نحو ألف فارس، وولي من بعده عبد الرحمن بن الحسن بن يدر، وبعده أخوه علي بن الحسن.
وكان لعبد الرحمن معهم حروب وفتن بعد استظهاره بهم، وهزموه مرّات متتابعة أعوام خمس وسبعمائة وما بعده، وغدر هو بمشيختهم وقتلهم بتارودانت سنة ثمان وسبعمائة من بعد ذلك. وكان لبني مرين على هؤلاء المعقل السوس وقائع وأيام، وظهر يعقوب بن عبد الحق ببني مرين في بعضها الشبانات على بني حسان واستلحم منهم عددا، وحاصرهم يوسف بن يعقوب بعدها فأمسكوها وأغرمهم ثمانية عشر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أولاد برية(6/91)
ألفا، وأثخن فيهم يوسف بن يعقوب ثانية سنة ست وثمانين وسبعمائة وحاربتهم جيوشه أيضا أياما لحق بهم بنو كمي من بني عبد الواد، وخالفوا على السلطان، فتردّدت إليهم العساكر واتصلت الحروب كما نذكر في أخباره.
(ولما استفحل) أمر زناتة بالمغرب وملك أبو علي ابن السلطان أبي سعيد سجلماسة واقتطعها عن ملك أبيه بصلح وقع على ذلك، انضوى إليه هؤلاء الأعراب أهل السوس من الشبانات وبني حسان، ورغبوه في ملك هذه القصور فأغزاها من تخوم وطنه بدرعة ودخل القرى عنوة. وفرّ عليّ بن الحسن وأمّه إلى جبال نكيسة عند صنهاجة ثم رجع. ثم غلب السلطان أبو الحسن واستولى على المغرب كلّه. ورغبه العرب في مثلها من قصور السوس، فبعث معهم عساكره، وقائده حسون بن إبراهيم بن عيسى من بني يرنيان فملكها، وجبى بلاد السوس وأقطع فيه للحرب، وساسهم في الجباية فاستقامت حاله مدّة.
ثم انقرض أمر السلطان أبي الحسن فانقرض ذلك، ورجع السوس إلى حاله وهو اليوم ضاح من ظل الدولة، والعرب يقتسمون جبايته، ورعاياه من قبائل المصامدة وصنهاجه قبائل الجباية. والظواعن منهم يقتسمونهم خولا للعسكرة مثل كزولة مع بني حسّان وزكرز ولخس من لمطة مع الشبانات، هذه حالهم لهذا العهد. ورياسة ذوي حسان في أولاد أبي الخليل بن عمر بن عفير بن حسن بن موسى بن حامد بن سعيد ابن حسان بن مختار لمخلوف بن أبي بكر بن سليمان بن الحسن بن زيان بن الخليل ولإخوانه. ولا أدري رياسة الشبانات لمن هي منهم، إلا أنهم حرب لبني حسان آخر الأيام والرقيطات في غالب أحوالهم أحلاف للشبانات، وهم أقرب إلى بلاد المصامدة وجبال درن وذوي حسان أبعد في القفر، والله تعالى يخلق ما يشاء لا إله إلا هو.(6/92)
(الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة وتعديد بطونهم وذكر أنسابهم وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم
ونبدأ أولا بذكر بني كعب وأخبارهم. وأمّا بني سليم [1] هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعا، وكانت منازلهم بنجد. وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة ورياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم، وعمرو بن الشريد عظيم مضر، وأبناؤه: صخر ومعاوية، فصخر أبو الخنساء وزوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية. (ومن بطون سليم) عطية [2] ورعل وذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم. وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة، حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوّج فيهم. وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم وهم منتبذون بالقفر، ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر وبنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب.
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم. ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه، وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر. وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى إفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا، فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى إفريقية كما يذكر في الخبر عنهم.
وبإفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون. زغب وذياب وهبيب
__________
[1] كان بنو عقيل وبنو تغلب وبنو سليم يسكنون بالبحرين وكان أظهرهم في الكثرة والعز بنو تغلب، ثم اجتمع بنو تغلب وبنو عقيل على سليم حتى أخرجوهم من البحرين ودخلوا الى مصر فأقام بها بعض وسار البعض الآخر الى افريقيا من بلاد المغرب. (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) .
[2] وفي نسخة ثانية عصيّة.(6/94)
وعوف [1] فاما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته: زغب بن نصر بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم. وقال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة: أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف. وزعم أنه أبو ذياب، وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بإفريقية. وقال أبو الحسن بن سعيد: هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم، كانوا بين الحرمين وهم الآن بإفريقية مع إخوانهم، ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فاللَّه أعلم بالصحيح من ذلك.
ونسب ابن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد، وسقط لابن سعيد جدّ وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي إفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية، أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى إفريقية. وأوّل ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها، وهم عديد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ لها عدد ولهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الّذي منه المرج. وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد، وهم بطون عديدة. وبين شماخ ولبيد فتن وحروب. وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة. شمال محارب والرئاسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة، وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خرّبوا مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم، وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر، ومعهم من رواحة وفزارة أمم، واشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب. ولا أدري نسبه فيمن هو وهم يقولون من العزة وقوم يقولون من بني أحمد، وقوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم والغلب لهيب، فكيف تكون الرئاسة لغيرهم؟
وأما عوف فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة، ولهم
__________
[1] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: زغب: بطن من بهته من سليم وكانت ديارهم بين الحرمين ثم انتقلوا الى المغرب، فسكنوا بإفريقية، جوار قومهم من بني ذباب. وذباب بطن من بهثة من سليم أرضهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب واما هيب من بهتة من سليم ومساكنهم من السدرة من برقه الى العقبة الكبيرة. ثم الصغيرة من حدود الاسكندرية. وبنو عوف من بهتة من سليم. قال الحمداني:
ومنهم في الصعيد والغيوم والبحيرة أناس كثيرة وفي برقه الى المغرب منهم ما لا يحصى، قال في العبر وديارهم في المغرب فيما بين قابس وبلد العناب من إفريقية وينقسمون الى مرداس وعلاف. واما بالنسبة لزغب فهو زغب بن مالك بن عوف بن امرئ القيس.(6/95)
حرمان عظيمان بمرداس ولعلاق [1] بطنان بنو يحيى وحصن، وفي أشعار هؤلاء المتأخّرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره، أن يحيى وعلاقا أخوان ولبني يحيى ثلاثة بطون: حمير ودلاج، ولحمير بطنان: ترجم وكردم، ومن ترجم الكعوب [2] بنو كعب بن أحمد بن ترجم، ولحصن بطنان بنو علي وحكيم. ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا. وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه. وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربيّ وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحل، فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته.
ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزّي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم. كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم، وكان لهم معهم حروب، وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة، واستصرخوا برياح من بطون سليم، ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلّت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده. وكان رسوخ الدولة الحفصية بإفريقية. ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص، ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب إفريقية. وكان ابن غانية الزواودة من رياح، وشيخهم مسعود البلط، فر من المغرب ولحق به، فكان معه هو وبنوه، وبنو عرف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد. فلما استبدّ ابنه الأمير أبو زكريا بملك إفريقية رجعوا جميعا إليه والشفوف للزواودة. فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد، فجاء بمرداس وعلاق وهما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل وقابس واصطنعهم.
__________
[1] ذكرنا سابقا ان مرداس وعلاف من بني عوف. وعلاف بطن من سليم في الأصل ومساكنهم إفريقية من بلاد المغرب منهم أولاد أبي الليل أمراء العرب بإفريقية، قال في مسالك الابصار ولهم أعداء يعرفون بأولاد أبي طالب (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) .
[2] الكعوب: بطن من عوف بن بهتة من سليم ذكرهم في العبر ولم يرفع نسبهم وقال: مساكنهم ما بين قابس وبلد العناب من إفريقية مع قومهم بني عوف، قال: ورئيسهم عند دخولهم إفريقية رافع بن حماد ومن أعقابه بنو كعب أمراء العرب الآن بإفريقية (المرجع السابق) .(6/96)
ورياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع، وبعده لابنه يوسف، وبعده هنان [1] بن جابر بن جامع، ورياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب.
وكانت رياسة علاق عند دخولهم إفريقية لعهد هذا المعز وبنيه لرافع بن حماد، وعنده راية جدّه التي حضر بها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جدّ بني كعب فيما يزعمون. فاستظهر بهم السلطان على شأنه، وأنزلهم بساح القيروان، وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد إفريقية. وكانت أبّة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزلوا به، فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك، فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم، وقتلوا رزق بن سلطان. واتصلت الفتنة. فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة وتأهبوا لها.
وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن إفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه. ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه. وملك بنو عوف سائر ضواحي إفريقية وتغلبوا عليه، واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء. ولم يقطع شيئا من البلاد. واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة، وتم تدبيره في غلب الزواودة ورياح في ضواحي إفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسنطينة، وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة، وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة، فذهب مغاضبا عنها. وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها، وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب إفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله وهي طويلة:
قدّوا المهامة بالمهرية القود ... واطووا فلاة بتصويب وتصعيد
ومنها قوله:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عنان وهو الصحيح. وهذا ربما تحريف من الناسخ(6/97)
سلوا دمنة بين الغضا والسواجر ... هل استن فيها واكفات المواطر
فأجاب عن هذه عنان بقوله:
خليلي عوجا بين سلع وحاجر ... بهوج عنا جيج نواج ضوامر
يقيم عروة في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية. ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على إفريقية وآل أبي حفص، وهلك في سبيله وقبر بسلّا. ولم يزل حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك ابنه المستنصر من بعده، وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان. وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة، فسعى عند السلطان في مرداس، وكان أبو جامع مبلغا سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق، فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحظ من السلطان، وأخرجوهم عن إفريقية وصاروا إلى القفر، وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح. ويختصون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب وصائفهم بالتلول. فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد، ويخالطونهم على حلف، ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم، ولأنها في الكثير من أعراضهم.
وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها، فاصطفوا منه كثيرا وأصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا [1] واستقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح ودلاج، ومن بطون رياح حبيب وعلا شأنهم عند الدولة. واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور، واستقرّت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب، وهم بنو شيخة وبنو طاهر [2] وبنو علي. وكان التقدم لبني شيخة بن يعقوب، لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه، ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي. وكان بنو علي يرادفونهم في الرئاسة، وكان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي. وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه، وكانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها وثروة، وأقطع له السلطان
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وأصبح عمران قسطيلية لهم مرتافا.
[2] وفي نسخة ثانية: بنو شيحة وبنو طاعن. وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب رباح وليس رباح.(6/98)
أربعا من القرى أصارها لولده. كان منها بناحية صفاقس وبإفريقية وبناحية الجريد.
وكان له من الولد سبعة، أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد، وثلاثة لأم وهم: بريد وبركات وعبد الغني. فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب، واتصل بالسلطان أبي إسحاق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره، وكان من شأنه ما قدّمنا.
وهلك أحمد واستقرت الرئاسة في ولده، وكان له من الولد جماعة، فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة: قاسم ومرا أبو الليل وأبو الفضل، ومن الحكمية قائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم، ومن السرية كليب وعساكر وجهد الملك [1] وعبد العزيز، ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده ابنه أبو الفضل. ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد، وغلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم، وتألفوا ولد إخوتهم جميعا.
وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد. ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة، ويئس الفضل بن يحيى المخلوع وأوقع بالسلطان أبي إسحاق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه. لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون إفريقية.
وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رياسته على قومه عند ما أدال الله به من الدعي، فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم.
وزاحم أولاد شيخة بمنكب قوي ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عند ما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على ملك عمه السلطان أبي حفص، فوفد عليه مستجيشا به ومرغبا له في ملك تونس، يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه، وقبر بجباية وانقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه واستبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب، ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة، فقدّم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة، فقدم على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة، وزاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة.
ولما هلك قام بأمرهم ابنه أحمد، واتصل أمر رياسته ونكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه، وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل وزاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره. ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه
__________
[1] وفي نسخة ثانية عبد الملك.(6/99)
محمد بن أبي الليل، وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر. وكان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم: محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم، فترشحوا للاستبداد على قومهم ومجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرئاسة فيهم. ولم يزالوا على ذلك سائر أيامهم.
ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من أحيائه السابلة، وساء أثره في ذلك، وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله. وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة، فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه، ونكر الناس عليه وطأه بين الله بخف لم ينزعه. وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه، فقال: إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع؟ فاستعظم الناس كلمته وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم. وكان أمره مذكورا.
وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد. وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر، واستبد برياسة البدو من سليم بإفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأمثالهم وفحول سواهم. وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة، واستدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب، فجاءه وأجلب له على تونس. ونزل كدية الصعتر بظاهرها. وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن [1] فهزمهم، واستخدم أحمد بن أبي الليل.
ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك. ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان وسبعمائة فاعتقل معه، ولحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من إفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة، ومعه أبو علي بن كثير ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء. ورغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة. وجاءوا في صحبته، وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره.
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم. ونزع إلى السلطان أبي يحيى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: يرزيكن.(6/100)
الطويل أمر الخلافة. ولي سبعا ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد إفريقية، فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره، وداهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه، وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى ابنه منصور وعلي ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل. وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد، وأحمد بن عبد الواحد أبو عبيد، وأبو هلال بن محمود بن فائد، وناجي بن أبي علي بن كثير ومحمد بن مسكين وأبو زيد بن عمر بن يعقوب، ومن هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وبعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتدّ حنقه، ولحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن، ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك. وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة، وزحفوا إلى إفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش. ولم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي، وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدّهم بعساكره. وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالا كما نذكره في مواضعه، حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده، ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به، فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأحله محل الأصفاء والخلوص. فشمر عن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ إفريقية، وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتؤثر مهادها. وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب، طعنه في بعض الحروب فأشواه، وكان فيها مهلكه. وقام بأمرهم من بعده ابنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة. ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة، واستبد برياسة بني كعب وسائر بني يحيى، وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدالة منه. وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه. وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس، وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم. ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد(6/101)
وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان. ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان، ووفدت مشيختهم على ابنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على ابنه. وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون.
وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن.
(ولما هلك) السلطان أبو يحيى وقام بالأمر ابنه عمر، انحرفوا عنه وظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد وولي العهد، وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها، وقتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه، وقتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك.
ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من إفريقية، وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الإتاوة، وانتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة، فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له وساء ظنه بهم، وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم، ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم، فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته، كما نذكره في موضعه، فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش واستيلاؤه على المغرب، وهو أحمد بن عثمان بن إدريس، فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه.
وناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك، وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعا على حرب زناتة. ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان. ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملئوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم، وخضدوا من شوكة السلطان، وألانوا من حدّ الملك، وخفضوا من أمر زناتة، وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام. وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته، واستبد بالرياسة عليه أخوه خالد، ثم من بعده أخوهما منصور،(6/102)
واعتز على السلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له.
وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية، وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا وصحراء وتلولا وجريدا. ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة. ويرميهم السلطان باقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها. ويحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمّة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف، وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة، بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة. فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربيّ، ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا، وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحاق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة.
وقام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى إفريقية ودخل تونس عنوة، واستولى على الحضرة سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بعدها، وأرهف حدّه للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم، فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة، ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدّهم الأكبر، كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في اخبار الدولة، وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين، فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء وراجع منصور حاله عند السلطان، وكشف عن وجه المناصحة. وكان عشيرته قد ملوا منه حسدا ومنافسة بسوء ملكته عليهم، فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه، وهلك ليومه سنة خمس وسبعين، وافترق جمعهم.
وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة، ويرادفه أولاد مولاهم بن عمر، فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته. ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف، واتصل حاله على ذلك ثلاثا، وأدال السلطان منه ومن قومه باقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم لمحمد بن طالب، فرجع إليهم رياسة البدو، وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب، وتحيز إليه معهم أولاد(6/103)
مولاهم بن عمر بن أبي الليل، ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف، ونهض السلطان سنة ثمانين وسبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة، وحملهم على جادّة الطاعة، فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك، وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان [1] العرب الأعراب وذياب البدو، فغلبهم عليها جميعا، وأزاحهم عن ضواحيها، وظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء، وأصبحوا بين معتقل ومشرد. واستولى على قصورهم وذخائرهم، وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر، وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب، واعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له، فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم أيدي الاعتمار والمعاش وصلحت السابلة بعد الفساد، وانفتحت أبواب الرحمة على العباد.
وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز، ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر الّذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل، ولا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول. أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض، يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم مع أمثالهم، مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة، فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة. وأما أيام بني العباس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما. وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العباس. وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وإفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك. ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان [2] من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان، فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب، فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة، واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها. والله مالك الأمور.
__________
[1] وفي نسخة ثانية ذؤبان العرب.
[2] وفي نسخة التونسية: بمنجاة.(6/104)
(الخبر عن قاسم بن مرا من الكعوب القائم بالسنة في سليم ومآل أمره وتصاريف أحواله)
كان هذا الرجل من الكعوب من أولاد أحمد بن كعب منهم، وهو قاسم بن مرا بن أحمد. نشأ بينهم ناسكا منتحلا للعبادة. ولقي بالقيروان شيخ الصلحاء بعصره أبا يوسف الدهماني وأخذ عنه ولزمه. ثم خرج إلى قومه مقتفيا طريقة شيخه في التزام الورع والأخذ بالسنة ما استطاع. ورأى ما العرب عليه من إفساد السابلة والخروج عن الجادة، فأخذ نفسه بتغيير المنكر فيهم وإقامة السنة لهم، ودعا إلى ذلك عشيرة من أولاد أحمد، وأن يقاتلوا معه على ذلك. فأشار عليه أولاد أبي الليل منهم وكانوا عيبة له تنصح له أن ينكف عن طلب ذلك من قومه، مخافة أن يلحوا في عداوته فيفسد أمره. ودفعوه إلى مطالبة غيرهم من سليم وسائر الناس بذلك، وأنهم منعة له ممن يرومه خاصة، فجمع إليه أوباشا من البادية تبعوه على شأنه والتزموا طريقته والمرابطة معه، وكأنه يسمون بالجنادة.
وبدا بالدعاء إلى إصلاح السابلة بالقيروان وما إليها من بلاد الساحل، وتتبع المحاربين بقتل من يعثر عليه منهم بالطرق، وغزو المشاهر منهم في بيوتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم حتى شردهم كل مشرد. وعلت بذلك كلمته على آل حصن وصلحت السابلة بإفريقية ما بين تونس والقيروان وبلاد الجريد وطار له ذكر نفسه عليه قومه، وأجمع عداوته واغتياله بنو مهلهل قاسم بن أحمد، وتنصحوا ببعض ذلك للسلطان بتونس الأمير أبي حفص وأن دعوة هذا الرجل قادحة في أمر الجماعة والدولة، فأغضى لهم عن ذلك، وتركهم وشأنهم، فخرجوا من عنده مجمعين قتله، ودعوه في بعض أيامهم إلى المشاورة في شئونهم معه على عادة العرب، ووقفوا معه بساحة حيهم، ثم خلصوا معه نجيا، وطعنه من خلفه محمد بن مهلهل الملقب بأبي عذبتين فخر صريعا لليدين والفم. وامتعض له أولاد أبي الليل وطلبوا بدمه فافترقت أحياء بني كعب من يومئذ بعد أن كانت جميعا. وقام بأمره من بعده ابنه رافع على مثل طريقته إلى أن هلك في طلب الأمر على يد بعض رجالات آل حصن سنة ست وسبعمائة.(6/106)
ولم يزل بنو أبي الليل على الطلب بثأر قاسم بن مرا إلى أن ظهر فيهم حمزة ومولاهم ابنا عمر بن أبي الليل، وصارت إليهم الرئاسة على أحيائهم. واتفق في بعض الأيام اجتماع أولاد مهلهل بن قاسم في سيدي حمزة، ومولاهم في مشاتيهم بالقفر، فأجمع اغتيالهم وقتلهم عن آخرهم بثأر ابن عمهم قاسم بن مرا، ولم يفلت منهم إلا طالب بن مهلهل لم يحضر معهم. وعظمت الفتنة من يومئذ بين هذين الحيين وانقسمت عليهم أحياء بني سليم وصاروا يتعاقبون في الخلاف والطاعة على الدولة، وهم على ذلك لهذا العهد، والرئاسة في بني مهلهل اليوم لمحمد بن طالب بن مهلهل وأخيه يحيى، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(بنو حصن بن علاق)
بنو حصن هؤلاء من بطون علاق [1] وحصن أخو يحيى بن علاق كما مر، فهم بطنان أيضا: بنو عليّ وحكيم. وقد يقال إن حكيما ليس لحصن، وإنما ربي في حجره فانتمى إليه. وأما حكيم فلهم بطون منهم بنو ظريف بن حكيم وهم أولاد عائر [2] ، والشراعبة ونعير وجرين لقدام بن ظريف وزياد بن ظريف. ومنهم بنو وائل بن حكيم ومنهم بنو طرود بن حكيم. وقد يقال إن طرودا ليس لسليم. وأنهم من منبس إحدى بطون هلال بن عامر، ويقال إن منهم زيد العجاج بن فاضل المذكور في رجالات هلال، والصحيح في طرود أنهم من بني فهم بن عمر بن قيس بن عيلان ابن عمدوان وفي تعدادهم، وكانت طرود أحلاف الدلاج، ثم قاطعوهم وحالفوا آل ملاعب.
ومن بطون حكيم آل حسين ونوال ومقعد والجمعيات، ولا أدري كيف يتصل نسبهم. ومنهم بنو نمير بن حكيم، ولنمير بطنان: ملاعب وأحمد، فمن أحمد بنو محمد والبطين ومن ملاعب بنو هيكل بن ملاعب. وهم أولاد زمام والفزيات [3] وأولاد مياس وأولاد فائد. ومن أولاد فائد الصرح والمدافعة. وأولاد يعقوب بن
__________
[1] علاف: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب وقد مرّ معنا من قبل في مكان سابق.
[2] وفي نسخة ثانية: أولاد جابر.
[3] وفي النسخة الباريسية الغرنات.(6/107)
عبد الله بن كثير بن حرقوص بن فائد، وإليهم رياسة حكيم وسائر بطونهم ومواطن حكيم هؤلاء لهذا العهد ما بين سوسة والأجم. والناجعة منهم أحلاف لبني كعب، تارة لأولاد أبي الليل وتارة لإقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم في بني يعقوب بن عبد السلام بن يعقوب شيخا عليهم، وانتقض أيام اللحياني.
ووفد على السلطان أبي يحيى بالثغر الغربي من إفريقية في بجاية وقسنطينة وجاء في حملته، فلما ملك ملك تونس، عقد له على قومه ورفعه على أنظاره. وغص به بنو كعب فحرّض عليه حمزة من الأعشاش محمد بن حامد بن يزيد فقتله في موقف شوارهم، وولي الرئاسة فيهم من بعده ابن عمه محمد بن مسكين بن عامر بن يعقوب ابن القوس وانتهت إليه رياستهم. وكان يرادفه أو ينازعه جماعة من بني عمه، فمنهم سحيم بن سليمان بن يعقوب، وحضر واقعة طريف مع السلطان أبي الحسن، وكان له فيها ذكر، ومنهم أبو الهول وأبو القاسم ابنا يعقوب بن عبد السلام، وكان لأبي الهول مناصحة للسلطان أبي الحسن حين أحلف عليه بنو سليم بالقيروان وأدخله مع أولاد مهلهل في الخروج على القيروان، فخرج معهم جميعا إلى سوسة.
ومنهم بنو يزيد بن عمر بن يعقوب وابنه خليفة. ولم يزل محمد بن مسكين على رياسته أيام السلطان أبي يحيى كلها وكان مخالطا له، ومتهالكا في نصيحته والانحياش إليه.
ولما هلك خلفه في رياسته ابن أخيه خليفة بن عبد الله بن مسكين وهو أحد الأشياخ الذين تقبض عليهم السلطان أبو الحسن بتونس بدعاء [1] واقعة القيروان. ثم أطلقه وهو محصور بالقيروان فكان له به اختصاص من بعد ذلك. ولما تغلب العرب على النواحي بعد واقعة القيروان تغلب بنو مسكين هؤلاء على سوسة، فأقطعها السلطان خليفة هذا وبقيت في ملكته. وهلك خليفة فقام برياستهم في حكيم ابن عمه عامر ابن محمد بن مسكين. ثم قتله محمد بن بثينة بن حامد من بني كعب قتله يعقوب بن عبد السلام، ثم قتله محمد هذا غدرا بجهاد الجريد سنة خمس وخمسين وسبعمائة.
ثم افترق أمرهم واستقرّت رياستهم لهذا العهد بين أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين، وتلقب أبا معنونة وهو ابن أخي خليفة المذكور. وعبد الله بن محمد بن يعقوب وهو ابن أخي أبي الهول المذكور، ولما تغلّب السلطان أبو العبّاس على تونس
__________
[1] وفي نسخة ثانية بين يدي.(6/108)
وملكها، انتزع سوس من أيديهم، فامتعض أحمد لذلك، وصار إلى ولاية صولة ابن خالد بن حمزة من أولاد أبي الليل وسلكوا سبيل الخلاف والفتنة، وأبعدوا في شأوها. وهم لهذا العهد مشردون عن الضواحي والأرياف منزاحون إلى القفر.
وأما عبد الله بن محمد ويلقب الراوي فتحيز إلى السلطان، وأكد حلفه مع أولاد مهلهل على ولايته ومظاهرته، فعظمت رياسته في قومه وهو على ذلك لهذا العهد. ثم راجع أبو معنونة خدمة السلطان وانقسمت رياسة حكيم بينهما، وهم على ذلك لهذا العهد. واما بنو علي إخوة حكيم فلهم بطون أولاد صورة ويجمعهما معا عوف بن محمد ابن علي بن حصن. ثم أولاد نمي والبدرانة، وأولاد أم أحمد والحضرة أو الرجلان، وهو مقعد والجمعيات والحمر والمسابهة آل حسين وحجري، وقد يقال أن حجري ليسوا لسليم وأنهم من بطون كندة صاروا معهم بالحلف، فانتسبوا بنسبهم ورياسة بني علي في أولاد صورة. وشيخهم لهذا العهد أبو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة بن شبل بن صورة بن مرعي بن حسن بن عوف. ويرادفهم المراعية من أهل نسبهم أولاد مرعي بن حسن بن عوف، ومواطنهم ما بين الأجم والمباركة من نواحي قابس، وناجعتهم أحلاف الكعوب. أما لأولاد أبي الليل أولا ولاد مهلهل، وغالب أحوالهم أولاد مهلهل، والله مقدّر الأمور لا ربّ سواه
.(6/109)
(ذباب بن سليم)
قد ذكرنا الخلاف في نسبهم من أنهم من ذباب بن ربيعة بن زعب الأكبر وأن ربيعة أخو زعب الأصغر. وضبط هذه اللفظة لهذا العهد بضم الزاي وقد ضبطها الأجل أبي والرشاطي بكسر الزاي. كذا نقل أبو محمد التجاني في رحلته، ومواطنهم ما بين قابس وطرابلس إلى برقة ولهم بطون فمنهم أولاد أحمد بن ذباب ومواطنهم غربي قابس وطرابلس إلى برقة. عيون رجال مجاورون لحصن، ومن عيون رجال بلاد زغب من بطون ذباب بنو يزيد مشاركون لأولاد أحمد في هذه المواطن، وليس هذا أبا لهم، ولا اسم رجل، وإنما هو اسم حلفهم انتسبوا به إلى مدلول الزيادة. كذا قال التجاني وهم بطون أربعة: الصهب بسكون الهاء بنو صهب بن جابر بن فائد بن رافع ابن ذباب، وإخوتهم الحمادية بنو حمدان بن جابر، والخرجة بسكون الراء بطن من آل سليمان منهم. أخرجهم آل سليمان من مواطنهم بمسلالة فحالفوا هؤلاء ونزلوا معهم. والأصابعة نسبة إلى رجل ذي إصبع زائدة. ولم يذكر التجاني في أي بطن من ذباب ينتسبون. ومنهم النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر وإخوتهم أولاد سنان بن عامر، وإخوتهم أولاد وشاح بن عامر، وفيهم رياسة هذا القبيل من ذباب كلهم، وهم بطنان عظيمان: المحاميد [1] بنو محمود بن طوب بن بقية بن وشاح ومواطنهم ما بين قابس ونفوسة وما إلى ذلك من الضواحي والجبال. ورياستهم لهذا العهد في بني رحاب بن محمود لأولاد سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب. والبطن الآخر الجواري [2] بنو حميد بن جارية بن وشاح، ومواطنهم طرابلس وما إليها مثل تاجورا وهزاعة وزنزور وما إليها من ذلك لهذا العهد. ورياستهم لهذا العهد في بني مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم. ومن أولاد وشاح بطنان آخران صغيران مندرجان مع الجواري والمحاميد وهما الجواربة بنو جراب بن وشاح، والعمور بنو عمر بن وشاح
__________
[1] المحاميد: بطن من ذباب من بهته من سليم منازلهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب.
[2] الجواري: بطن من ذباب من بهته من سليم قال في العبر وهم رؤساء ذباب الآن ومنازلهم فيما بين طرابلس الغرب وقابس (المرجع السابق) .(6/111)
هكذا زعم التجاني في العمور هؤلاء. وفي هلال بن عامر بطن العمور كما ذكرناه.
وهم يزعمون أن عمور ذباب هؤلاء منهم، وأنهم إنما جمعهم مع ذباب الموطن خاصة وليسوا من سليم والله أعلم بحقيقة ذلك.
وكان من أولاد وشاح بنو حريز بن تميم بن عمر بن وشاح كان منهم فائد بن حريز من فرسان العرب المشاهير وله شعر متداول بينهم لهذا العهد سمر الحيّ وفكاهة المجالس، ويقال إنه من المحاميد، فائد بن حريز بن حربي بن محمود بن طوب. وكان بنو ذباب هؤلاء شيعة لقراقش الغزي وابن غانية، ولهما فيه أثر. وقتل قراقش مشيخة الجواري في بعض أيامه. ثم صاروا بعد مهلك ابن غانية إلى خدمة الأمير أبي زكريا وأهل بيته من بعده، وهم الذين أقاموا أمر الداعي بن أبي عمارة وعليهم كان تلبسه لأن يصير أميرا بدل المخلوع، وكان فرّ إليهم بعد مهلك مولاه وبنيه، ونزل عليهم حتى إذا مرّ بهم ابن أبي عمارة فعرّفه الخبر، فاتفقوا على التلبيس وزينوا ذلك لهؤلاء العرب فقبلوه. وتولى كبر ذلك مرغم بن صابر وتبعه قومه، وداخلهم في الأمر أبو مروان عبد الملك بن مكي رئيس قابس، فكان من قدر الله ما كان من تمام أمره وتلويث كرسي الخلافة بدمه حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية.
وكان السلطان أبو حفص يعتمد عليهم فغلبهم في دعوة عمارة، فخالفوا عليه، وسرّح لحربهم قائده أبا عبد الله الفزاري، واستصرخوا بالأمير أبي زكريا ابن أخيه، وهو يومئذ صاحب بجاية والثغر الغربي من إفريقية. ووفد عليه منهم عبد الملك بن رحاب ابن محمود فنهض لصريخه سنة سبع وثمانين وستمائة، وحاربوا أهل قابس وهزموهم وأثخنوا فيهم. ثم غلبهم الفزاري ومانعهم عن وطن إفريقية. ورجع الأمير أبو زكريا إلى ثغره. وكان مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري قد أسره أهل صقلّيّة من سواحل طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة وباعوه لأهل برشلونة، فاشتراه ملكهم وبقي أسيرا عندهم إلى أن زعم إليه عثمان بن إدريس الملقب بأبي دبوس بقية الخلفاء من بني عبد المؤمن، وأراد الإجازة إلى إفريقية لطلب حقه في الدعوة الموحدية، فعقد ملك برشلونة بينه وبين مرغم حلفا وبعثهما، ونزل بساحل طرابلس.
وأقام مرغم الدعوة لأبي دبوس وحمل عليها قومه، وحاصر طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة أياما ثم تركوا عسكرا لحصارها، وارتحلوا لجباية الوطن فاستفرغوه، وكان ذلك غاية أمرهم، وبقي أبو دبوس يتقلب في أوطانهم مدة، واستدعاه الكعوب(6/112)
لأول المائة الثامنة وأجلبوا به على تونس أيام السلطان أبي عصيدة من الحفصيين وحاصروها أياما فلم يظفروا. ورجع إلى نواحي طرابلس وقام بها مدة. ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها إلى أن هلك كما يأتي ذكره في خبر ابنه مع السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولم يزل هذا شأن الجواري والمحاميد إلى أن تقلص ظل الدولة عن أوطان قابس وطرابلس فاستبد برياسة ضواحيها. واستعبدوا سائر الرعاية المعتمرة في جبالها وبسائطها، واستبد أهل الأمصار برياسة أمصارهم بنو مكي بقابس وبنو ثابت بطرابلس على ما يذكر في أخبارهم.
وانقسمت رياسة أولاد وشاح بانقسام المصرين، فتولى الجواري طرابلس وضواحيها، وزنزور وغريان ومغر، وتولى المحاميد بلد قابس وبلاد نفوسة وحرب.
وفي ذباب هؤلاء بطون أخرى ناجعة في القفر، ومواطنهم منزاحة إلى جانب الشرق عن مواطن هؤلاء الوشاحين. فمنهم آل سليمان بن هبيب بن رابع بن ذباب، ومواطنهم قبلة مغر، وغريان ورياستهم في ولد نصر بن زائد بن سليمان، وهي لهذا العهد لهائل بن حماد بن نصر، وبينه وبين البطن الآخر إلى سالم بن وهب أخي سليمان. ومواطنهم بلد مسراتة إلى لبدة ومسلاتة. وشعوب آل سالم هؤلاء الأحامد والعمائم والعلاونة وأولاد مرزوق، ورياستهم في أولاد ولد مرزوق، وهو ابن معلّى بن معراق بن قلينة بن قماص بن سالم [1] وكانت في أوّل هذه المائة الثامنة لغلبون بن مرزوق، واستقرّت في بنيه، وهي اليوم لحميد بن سنان بن عثمان بن غلبون.
والعلاونة منهم مجاورون للعنة من عرب برقة والمشابنة من هوارة المقيمين.
وتجاذب ذباب هؤلاء في مواطنهم من جهة القبلة ناصرة، وهم من بطون ناصرة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهتة بن سليم، فإن كان زعب أبو ذباب لملك بن خفاف كما زعم التجاني فهم إخوة ناصرة، ويبعد أن يسمى قوم باسم إخوانهم، وإن كانوا الناصرة كما زعم ابن الكلبي وهو أقرب، فيكون هؤلاء اختصوا باسم ناصرة دون ذباب وغيرهم من بنيه. وهذا كثير من بطون القبائل والله أعلم. ومواطنهم بلاد فزان وودان. هذه أخبار ذباب هؤلاء.
وأما العزة جيرانهم في الشرق الذين قدّمنا ذكرهم فيهم موطنون من أرض برقة خلاء
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابن معلّى بن معراني بن قلينه بن قاص بن سالم.(6/113)
لاستيلاء الخراب على أمصارها وقرارها من دولة صنهاجة، تمرنت بمرانها [1] بادية العرب وناجعتهم، فتحيّفوها غارة ونهبا إلى أن فسدت فيها مذاهب المعاش، وانتقض العمران، فخربت وصار معاش الأكثر من هؤلاء العرب الموطنين بها لهذا العهد من الفلح يثيرون له الأرض بالعوامل من الجمال والحمير، وبالنساء إذا ضاق كسبهم عن العوامل وارتكبوا ضرورة المعاش.
وينجعون إلى بلاد النخل في جهة القبلة منهم من أوجلة وشنترية والواحات وما وراء ذلك من الرمال والقفر إلى بلد السودان المجاورين لهم، وتسمّى بلادهم برنق، وشيخ هؤلاء العرب ببرقة يعرف لهذا العهد بأبي ذئب من بني جعفر. وركاب الحج من المغرب يحمدون مساطتهم في مرّهم وحسن نيتهم في التجافي عن جامع بيت الله، وارفادهم بجلب الأقوات لسربهم وحسن الظن بهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، وأما نسبهم فما أدري فيمن هو من العرب؟ وحدّثني الثقة من ذباب عن خريص ابن شيخهم أبي ذباب أنهم من بقايا الكعوب ببرقة. وتزعم نسابة الهلاليين أنهم لربيعة ابن عامر إخوة هلال بن عامر. وقد مرّ الكلام في ذلك في أول ذكر بني سليم، ويزعم بعض النسابة أنهم والكعوب من العزة، وأن العزة من هيث، وأن رياسة العزة لأولاد أحمد وشيخهم أبو ذئب وان المسانية [2] جيرانهم من هوارة. وذكر لي سلام بن التركية شيخ أولاد مقدم جيرتهم بالعقبة أنهم من بطون مسراتة من بقية هوارة، وهو الّذي رأيت النسابة المحققين عليه بعد أن دخلت مصر ولقيت كثيرا من المترددين إليها من أهل برقة. وهذه آخر الطبقة الرابعة من العرب، وبانقضائه انقضى الكتاب الثاني في العرب وأجيالهم منذ بدء الخليقة، فلنرجع إلى أحوال البربر في الكتاب الثالث والله ولي العون أهـ.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تمرست بعمرانها.
[2] وفي نسخة ثانية: المثانية، وفي النسخة التونسية المثاينة.(6/114)
(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(الكتاب الثالث في أخبار البربر والأمة الثانية من أهل المغرب وذكر أوليتهم وأجيالهم ودولتهم منذ بدء الخليقة لهذا العهد ونقل الخلاف الواقع بين الناس في أنسابهم)
هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملئوا السبائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، يتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر، ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي، فيما قرب من الرحلة، لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفار الأملس. ومكاسبهم الشاء والبقر والخيل في الغالب للركوب والنتاج. وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم شأن العرب، ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة.
ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والأظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة. ولباسهم وأكثر أثاثهم من الصوف يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة، ويفرغون عليها البرانس الكحل ورءوسهم في الغالب حاسرة، وربما يتعاهدونها بالحلق. ولغتهم من الرطانة الأعجمية متميزة بنوعها، وهي التي اختصوا من أجلها بهذا الاسم.(6/116)
يقال: إن أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب وإفريقية، وقتل الملك جرجيس، وبنى المدن والأمصار، وباسمه زعموا سميت إفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم ووعى اختلافها وتنوّعها تعجب من ذلك، وقال: ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة، ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة.
وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان وهما برنس وماذغيس. ويلقب ماذغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر، ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معا ابنا برنس وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد؟ فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدّثه عنه يوسف الوراق. وقال سالم بن سليم المطماطي وصابى [1] بن مسرور الكومي وكهلان بن أبي لوا، وهم نسابة البربر: إن البرانس بتر، وهم من نسل مازيغ بن كنعان. والبتر بنو بر بن قيس بن عيلان، وربما نقل ذلك عن أيوب بن أبي يزيد، إلا أن رواية ابن حزم أصح لأنه أوثق.
(وأما) شعوب البرانس فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام وهي ازداجة ومصمودة وأوربة وعجيسة وكتامة وصنهاجة وأوريغة. وزاد سابق بن سليم وأصحابه: لمطة وهسكورة وكزولة. وقال أبو محمد بن حزم: يقال إن صنهاج ولمط إنما هما ابنا امرأة يقال لها بصكي [2] ولا يعرف لهما أب، تزوجها أوريغ فولدت له هوار فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه. قال: وزعم قوم من أوريغ أنه ابن خبوز [3] بن المثنى بن السكاسك من كندة وذلك باطل.
وقال الكلبي: إن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من شعوب اليمانية تركهما أفريقش بن صيفي بإفريقية مع من نزل بها من الحامية. هذه جماع مذاهب أهل التحقيق في شأنهم، فمن ازداجة مسطاطه، ومن مصمودة غمارة بنو غمار بن
__________
[1] وفي نسمة ثانية: هاني بن مسرور، وفي النسخة الباريسية: يصدور وفي النسخة التونسية هاني بن مصدور.
[2] وفي نسخة ثانية: تصكي.
[3] وفي النسخة الباريسية خبور وكذلك في قبائل المغرب ص 314.(6/117)
مصطاف بن مليل بن مصمود، ومن أوريغة هوارة وملك ومغد [1] وقلدن. فمن هوار بن أوريغ مليلة وبنو كهلان، ومن ملك بن أوريغ صطط وورفل واسيل ومسراتة، ويقال لجميعهم لهانة بنو لهان بن ملك، ويقال إن مليلة منهم. ومن مغد بن أوريغ ماواس وزمور وكبا ومصراي، ومن قلدن بن أوريغ ممصاتة [2] وورسطيف وبيانة وفل مليلة.
(وأما شعوب البتر [3] ) وهم بنو مادغيس الأبتر فيجمعهم أربعة أجذام أداسة ونفوسة وضرية وبنو لوا الأكبر، وكلهم بنو زحيك بن مادغيس. فأما أداسة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملد ومغر وفي قبائل المغرب ص 315 (ملد ومقر) .
[2] وفي نسخة ثانية: قمصاتة وقد وردت أيضا قمصانه راجع قبائل المغرب ص 317.
[3] قوله واما شعوب إلخ من هنا الى الشجرة أسماء بعضها مخالف لما في الشجرة وهو في جميع النسخ التي بين أيدينا أهـ.(6/118)
بنو أداس بن زحيك فبطونهم كلها في هوارة لأن أم أداس تزوجها بعد زحيك أوريغ ابن عمه برنس والد هوارة، فكان أداس أخا لهوارة، ودخل نسب بنيه كلهم في هوارة. وهم سفارة واندارة وهنزولة وضرية [1] وهداغة وأوطيطة وترهتة. هؤلاء كلهم بنو أداس بن زحيك بن باذغيس [2] وهم اليوم في هوارة.
وأما لو الأكبر فمنه بطنان عظيمان وهما نفزاوة بنو نفزا وابن الأكبر، ولواتة بنو لو الأصغر ابن لوا الأكبر، فخلفه أبوه حملا فسمّي به. فمن لواته أكوزة وعتروزة وبنو فاصلة ابن لوا الأصغر، ومنهم مزاته بنو زائر بن لوا الأصغر. ومغانة وجدانة بنو كطوف بن لوا الأصغر. ومن لواتة سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصغر. ودخل نسب سرداتة في مغراوة. قال أبو محمد بن حزم: كان مغراوة تزوج أم سرداتة، فسار سرداتة أخا بني مغراوة لأمهم واختلط نسبه بهم. ومن نفزاوة أيضا بطون كثيرة وهم ولهاصة وغساسة وزهلة وسوماتة وورسيف ومرنيزة وزاتيمة ووركول ومرسينة [3] ووردغروس ووردن كلهم بنو تطوفت [4] من نفزاوة. وزاد ابن سابق وأصحابه مجر ومكلاتة، وقال:
ويقال إن مكلاتة ليس من البربر وأنه من حمير وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه وهو مكلا بن ريمان بن كلاع حاتم بن سعد بن حمير. ولولهاصة من نفزاوة بطون كثيرة من بيزغاش [5] ودحية ابني ولهاص. فمن بيزغاش بطون ورمجوسة [6] وهم: رجال وطو وبورغيش ووانجذ وكرطيط وماأنجول وسينتت بنو رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص ابن تطوفت بن نغزاو.
قال ابن سابق وأصحابه: وبنو بيزغاش من لواتة كلهم بجبال أوراس، ومن دحية ورترين وتريرو ورتبونت [7] ومكرا ولقوس [8] بنو دحية بن ولهاص بن تطوفت بن
__________
[1] وفي النسخة التونسية: صنبرة.
[2] وفي نسخة أخرى: ماذغيس كما مرّت معنا سابقا وفي النسخة التونسية مادغس وكذلك في قبائل الغرب ص 306.
[3] وفي نسخة أخرى: مرنسية، وفي قبائل المغرب مرنيسة ص 306.
[4] وفي نسخة أخرى يطوفت وفي قبائل المغرب ص 307: ذكر ورغوس كما ورده في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ووردغوس في كتاب المسالك والممالك، ووسيف بدل ورسيف.
[5] وفي النسخة الباريسية: بندغاش وفي النسخة التونسية تبدغاش.
[6] وفي نسخة أخرى: رفجومة.
[7] وفي نسخة أخرى: رتيونت، وفي النسخة الباريسية ورسوتني. وفي النسخة التونسية: ورلتونت.
[8] وفي النسخة الباريسية يفريق وفي النسخة التونسية يغرين.(6/119)
نفزاو. وأما ضرية وهم بنو ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر فيجمعهم جذمان عظيمان: بنو تمصيت بن ضري وبنو يحيى بن ضري.
وقال سابق وأصحابه أن بطون تمصيت كلّها من فاتن بن تمصيت وأنهم اختصوا بنسب ضرية دون بطون يحيى. فمن بطون تمصيت مطماطة وصطفورة، وهم لحومية [1] ولماية ومطغرة ومرينة ومغيلة ومعزوزة [2] وكشاتة ودونة ومديونة، كلهم بنو فاتن بن تمصيت بن ضري. ومن بطون يحيى: زناتة كلهم وسمكان وورصطف.
فمن ورصطف: مكناسة وأوكتة وورتناج بنو ورصطف بن يحيى. فمن مكناسة ورثيفة ووربر ومن معليت قنصارة وموالات وحرات ورفلابس ومن ملزلولاين ولرتر ويصلتن وجرير وفرغان [3] . ومن ورتناج مكنسة ومطاسة وكرسطة وسردجة [4] وهناطة وفولال بنو ورتناج بن ورصطف. ومن سمكان زواغة وزواوة بنو سمكان بن يحيى وعن ابن حزم بعد زواوة التي بالواو في كتامة وهو أظهر، ويشهد له الوطن. فالغالب أن زواوة بنو سمكان بن يحيى. وعن ابن حزم: بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة والتي تعد في سمكان هي التي بالزاي وهي قبيلة معروفة. ومن زواغة بنو ماجر وبنو واطيل وسمكين. وسيأتي الكلام فيهم مستوفي عند ذكرهم إن شاء الله تعالى. هذا آخر الكلام في شعوب هذا الجيل مجملا ولا بد من تفصيل فيه عند تفصيل أخبارهم أهـ.
(وأما) إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا، وبحثوا فيه طويلا. فقال بعضهم: أنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان [5] ابنه، وقد تقدّم ذكره عند ذكر إبراهيم عليه السلام. وقال آخرون:
البربر يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن. وقال المسعودي: من غسان وغيرهم، تفرقوا عند ما كان من سيل العرم. وقيل: تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب وقيل من لخم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كومية وهم من ولد فاتن بن تمصيت من ضريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر.
[2] وفي نسخة ثانية: مكزوزة.
[3] وفي نسخة ثانية: ضمن مكناسة ورتيفة وورتدوسن وتفليت ومنصارة وموالات وحرات ورفلابس، ومن مكن بولالين وتدين ويصلتن وجربن وفوغال.
[4] وفي نسخة أخرى: ومن ورتناج: مكنسة وبطالة وكرنيطة وسدرجة.
[5] وفي التوراة 25/ 2 يقشان.(6/120)
وجذام كانت منازلهم بفلسطين، وأخرجهم منها بعض ملوك فارس. فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل، وانتشروا في البلاد. وقال أبو عمر بن عبد البر: ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبإ. قال:
ورأيت في كتاب الاسفنداد الحكيم: ان النعمان بن حمير بن سبإ كان ملك زمانه في الفترة، وأنه استدعى أبناءه وقال لهم: أريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره، فراجعوه في ذلك، وزعم عليهم، وأنه بعث منهم لمت أبا لمتونة ومسفو ابا مسوفة ومرطا أبا هسكورة وأصناك أبا صنهاجة ولمط أبا لمطة وإيلان أبا هيلانة، فنزل بعضهم بجبل درن، وبعضهم بالسوس وبعضهم بدرعه.
ونزل لمط عند كزول وتزوج ابنته، ونزل جانا وهو أبو زناتة بوادي شلف، ونزل بنو ورتجين ومغراو بأطراف إفريقية من جهة المغرب، ونزل مقرونك [1] بمقربة من طنجة. والحكاية أنكرها أبو عمرو بن عبد البر وأبو محمد بن حزم. وقال آخرون إنهم كلهم من قوم جالوت. وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة في كتاب الأنساب له: لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت. ولم ينسب جالوت ممن هو، وعند ابن قتيبة أنه ونور بن هربيل [2] بن حديلان [3] بن جالود بن رديلان [4] بن حظي بن زياد بن زحيك بن مادغيس الأبتر. ونقل عنه أيضا أنه جالوت بن هريال بن جالود بن دنيال [5] بن قحطان بن فارس. قال: وفارس مشهور وسفك أبو البربر كلهم. قالوا: والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمة، وهي هوارة وزناتة وضرية ومغيلة وزيحوحة [6] ونفزة وكتامة ولواتة وغمارة ومصمودة وصدينه ويزدران ودنجين [7] وصنهاجة ومجكسة وواركلان وغيرهم. وذكر آخرون منهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق. فلما قتل جالوت تفرّقوا في البلاد وأغزى أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم إفريقية وسماهم بربر. وقيل إن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مصمود.
[2] وفي النسمة الباريسية ثور بن هربيل، وفي النسخة التونسية ونور ابن هرمل.
[3] وفي النسخة الباريسية بلاد وفي النسخة التونسية جدلان.
[4] وفي النسخة الباريسية: روينال.
[5] وفي النسخة الباريسية: دبال وفي النسخة التونسية ديال وفي نسخة أخرى ذبال.
[6] وفي نسخة أخرى: رفجومة وفي قبائل المغرب (ورفجومة) ص 339.
[7] وفي نسخة أخرى: ورنجين.(6/122)
البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلاجيم [1] بن مسراييم بن حام. وقيل من العمالقة من بربر بن تملا بن مارب بن قاران بن عمر بن عملاق بن لاود بن إرم بن سام، وعلى هذا القول فهم عمالقة. وقال مالك بن المرحل [2] : البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا [3] بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم. وسبب خروجهم عند المسعودي والطبري والسهيليّ:
أن أفريقش استجاشهم لفتح إفريقية وسماهم البربر وينشدون من شعره:
بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الضنك للعيش الخصيب
وقال ابن الكلبي: اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشام، فقيل داود بالوحي قيل: يا داود أخرج البربر من الشام فإنهم جذام الأرض. وقيل يوشع بن نون وقيل أفريقش وقيل بعض الملوك التبابعة. وعند البكري أن بني إسرائيل أخرجوهم عند قتل جالوت. وللمسعوديّ والكبري أنهم فرّوا بعد موت جالوت إلى المغرب، وأرادوا مصر فأجلتهم القبط، فسكنوا برقة وإفريقية والمغرب على حرب الإفرنج والأفارقة وأجازوهم على صقلّيّة وسردانية وميورقة والأندلس. ثم اصطلحوا على أن المدن للإفرنجة. وسكنوا القفار عصورا في الخيام وانتجاع الأمصار من الإسكندرية إلى البحر، وإلى طنجة والسوس حتى جاء الإسلام. وكان منهم من تهوّد ومن تنصر وآخرون مجوسا يعبدون الشمس والقمر والأصنام، ولهم ملوك ورؤساء. وكان بينهم وبين المسلمين حروب مذكورة. وقال الصولي البكري أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فانجلى بنو حام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضا إن حام لما اسودّ بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياء واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب. قال: وانضاف إلى البربر حيان من المغرب يمنيان عند خروجهم من مأرب كتامة وصنهاجة. قال: وهوارة ولمطة ولواتة بنو حمير بن سبإ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كسلوجيم.
[2] وفي النسخة الباريسية الموصل.
وفي النسخة التونسية الموصل.
[3] وفي النسخة التونسية: تألفوا.(6/123)
وقال هانئ بن بكور الضريسي وسابق بن سليمان المطماطي وكهلان بن أبي لؤيّ وأيوب بن أبي يزيد وغيرهم من نسابة البربر أن البربر فرقتان كما قدمناه وهما:
البرانس والبتر. فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان. والبرانس بنو بربر سحو بن أبزج بن جمواح بن ويل بن شراط بن ناح بن دويم بن داح بن مازيغ بن كنعان بن حام [1] وهذا هو الّذي يعتمده نسابة البربر. قال الطبري: خرج بربر بن قيس ينشد ضالة بأحياء البربر وهي جارية وتزوجها فولدت. وعند غيره من نسابة البربر أنه خرج فارا من أخيه عمر بن قيس، وفي ذلك تقول تماضر وهي أخته:
لتبكي كل باكية أخاها ... كما أبكي على بر بن قيس
تحمل عن عشيرته فأضحى ... ودون لقائه أنضاء عيس
ومما ينسب إلى تماضر أيضا
وشطت ببر داره عن بلادنا ... وطوح بر نفسه حيث يمما
وازرت ببر لكنة أعجمية ... وما كان بر في الحجاز بأعجما
كأنّا وبرا لم نقف بجيادنا ... بنجد ولم نقسم نهابا ومغنما
وأنشد علماء البربر لعبيدة بن قيس العقيلي:
ألا أيها الساعي لفرقة بيتنا ... توقف هداك الله سبل الأطايب
فأقسم أنا والبرابر إخوة ... نمانا وهم جدّ كريم المناصب
أبونا أبوهم قيس عيلان في الورى ... وفي حومة يشفى غليل المحارب [2]
فنحن وهم ركن منيع وإخوة ... على رغم أعداء لئام المناقب
فإن لبرّ ما بقي الناس ناصرا ... وبر لنا ركن منيع المناكب
تعد لمن عادى شواذق حمرا ... وبيضا تقص الهام يوم التضارب [3]
وبر بن قيس عصبة مضرية ... وفي الفرع من أحسابها والذوائب
وقيس قوام الدين في كل بلدة ... وخير معد عند حفظ المناسب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام. هكذا ورد أيضا في كتاب قبائل المغرب/ 295.
[2] وفي نسخة أخرى:
أبونا أبوهم قيس عيلان في الذرى ... وفي حرمة يسقي غليل المحارب
[3] وفي نسخة أخرى:
نعدّ لمن عادى شواذه ضمرا ... وبيضا تقطّ الهام يوم التضارب(6/124)
وقيس لها المجد الّذي يقتدي به ... وقيس لها سيف حديد المضارب
وينشد أيضا أبيات ليزيد بن خالد يمدح البربر:
أيها السائل عنا أصلنا ... قيس عيلان بنو العز الأول
نحن ما نحن بنو بر القوى ... عرف المجد وفي المجد دخل
وابتنى المجد فاورى زنده ... وكفانا كل خطب ذي جلل
إن قيسا يعتزي برّ لها ... ولبر يعتزي قيس الأجل
ولنا الفخر بقيس أنه ... جدنا الأكبر فكاك الكبل
إن قيسا قيس عيلان هم ... معدن الحق على الخير دلل
حسبك البربر قومي أنهم ... ملكوا الأرض بأطراف الأسل
وببيض نضرب الهام بها ... هام من كان عن الحق نكل
أبلغوا البربر عني مدحا ... حيك من جوهر شعر منتحل
وعند نسابة البربر، وحكاه البكري وغيره أنه كان لمضر ولدان إلياس وعيلان [1] ، أمهما الرباب بنت جبده [2] بن عمر بن معد بن عدنان، فولد عيلان بن مضر قيسا ودهمان، أما دهمان فولده قليل وهم أهل بيت من قيس يقال لهم بنو أمامة. وكانت لهم بنت تسمى البهاء بنت دهمان، وأما قيس بن عيلان فولد له أربعة بنين وهم سعد وعمر، وأمهما مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار [3] وبرّ وتماضر وأمهما تمريغ بنت مجدل ومجدل بن عمار بن مصمود وكانت قبائل البربر يومئذ يسكنون الشام ويجاورون العرب في المساكن ويشاركونهم في المياه والمراعي والمسارح ويصهرون إليهم، فتزوج بر بن قيس بنت عمه وهي البهاء بنت دهمان، وحسده إخوته في ذلك. وكانت أمه تمريغ من دهاة النساء فخشيت منهم عليه، وبعثت بذلك إلى أخوالها سرا، ورحلت معهم بولدها وزوجته إلى أرض البربر وهم إذ ذاك ساكنون بفلسطين وأكناف الشام، فولدت البهاء لبر بن قيس ولدين: علوان وما دغيس، فمات علوان صغيرا وبقي مادغيس، فكان يلقب الأبتر، وهو أبو البتر من البربر، ومن ولده جميع زناتة.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: غيلان.
[2] وفي نسخة أخرى: حيدة.
[3] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: مزنه بنت أسد بن أكلب بن ربيعة ابن نزار بن معد بن عدنان.(6/125)
قالوا وتزوج مادغيس بن بر وهو الأبتر باحال [1] بنت واطاس بن محمد بن مجدل بن عمار [2] فولدت له زحيك بن مادغيس. وقال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب التمهيد في الأنساب: اختلف الناس في أنساب البربر اختلافا كثيرا. وأنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام، لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب، فسكنوا عند آخر عمالة مصر، وذلك ما وراء برقة إلى البحر الأخضر، مع بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين بالسودان. فمنهم لواتة بأرض طرابلس، ونزل قوم بقربها وهم نفزة.
ثم امتدت بهم الطرق إلى القيروان وما وراءها إلى تاهرت إلى طنجة وسجلماسة إلى السوس الأقصى وهم طوائف صنهاجة وكتامة وزكالة وركلاوة وفطواكة من هسكورة ومزطاوة، وذكر بعض أهل الآثار أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فوقعت بينهم مناوشات كانت الدبرة فيها لسام وبنيه، وخرج سام إلى المغرب، وقدم مصر وتفرق بنوه، ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى بلغ السوس الأقصى، وخرج بنوه في إثره يطلبونه، فكل طائفة من ولده بلغت موضعا وانقطع عنهم خبره، فأقاموا بذلك الموضع وتناسلوا فيه، ووصلت إليهم طائفة فأقاموا معهم وتناسلوا هنالك.
وكان عمر حام أربعمائة وثلاثا وأربعين سنة فيما ذكره البكري. وقال آخرون: كان عمره خمسمائة وإحدى وثلاثين سنة. وقال السهيليّ فيمن هو يعرب بن قحطان.
قال: وهو الّذي أجلى سام إلى المغرب بعد ان كان الجرمي [3] من ولد قوط بن يافث هذا آخر الخلاف في أنساب البربر.
وأعلم أن هذه المذاهب كلها مرجوحة وبعيدة من الصواب، فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد، لأن داود الّذي قتل جالوت وكان البربر معاصرين له ليس بينه وبين إسحاق بن إبراهيم أخي نعشان الّذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة آباء ذكرناهم أول الكتاب. ويبعد أن تشعب النسل فيهم مثل هذا التشعب، وأما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام وانتقلوا، فقول ساقط، يكاد يكون من أحاديث خرافة، إذ مثل هذه الأمة المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض، لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور. والبربر معروفون في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أملل.
[2] وفي النسخة التونسية: غمار.
[3] الجزى هكذا أوردت في نسخة أخرى.(6/126)
بلادهم وأقاليمهم متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام.
فما الّذي يحوجنا إلى التعليق بهذه الترهات في شأن أوليتهم. ويحتاج إلى مثله في كل جيل وأمة من العجم والعرب. وأفريقش الّذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها، وأنه تعجب من كثرتهم وعجمتهم، وقال: ما أكثر بربرتكم. فكيف يكون هو الّذي نقلهم؟ وليس بينه وبين ذي المغار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك إن قالوا أنه الّذي نقلهم؟ وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول، وقد أبطله إمام النسابين والعلماء أبو محمد بن حزم. وقال في كتاب الجمهرة ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا اسمه بر أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم من ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب. فان قيس عيلان من ولد معد.
وقد قدمنا أن معدا كان معاصرا لبخت نصّر وأن أرمياء النبي خلص به إلى الشام حذرا عليه من بخت نصّر حين سلط على العرب. وبخت نصّر هو الّذي خرب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان إياه بأربعمائة وخمسين سنة ونحوها، فيكون معد بعد داود بمثل هذا الأمد، فكيف يكون ابنه قيس أبا لجالوت المعاصر لداود؟ هذا في غاية البعد وأظنها غفلة من ابن قتيبة ووهما.
والحق الّذي لا ينبغي التعديل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح كما تقدم في أنساب الخليفة، وان اسم أبيهم مازيغ وإخوتهم أركيش وفلسطين [1] إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام، وملكهم جالوت سمة معروفة له. وكانت بين فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة. وكان بنو كنعان وواكريكيش شيعا لفلسطين، فلا يقعن في وهمك غير هذا، فهو الصحيح الّذي لا يعدل عنه. ولا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الّذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة. فإن بين نسابة العرب خلافا والمشهور أنهم من اليمينية، وأن أفريقش لما غزا إفريقية أنزلهم بها. وأما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم
__________
[1] ما ذكره مخالف لما تقدم له في أنساب الخليفة أهـ وصححه.(6/127)
أنهم من العرب مثل لواتة، يزعمون أنهم من حمير ومثل هوارة يزعمون أنهم من كندة من السكاسك، ومثل زناتة تزعم نسابتهم أنهم من العمالقة فروا أمام بني إسرائيل. وربما يزعمون فيهم أنهم من بقايا التبابعة ومثل عمارة أيضا وزواوة ومكلاتة يزعم في هؤلاء كلهم نسابتهم أنهم من حمير حسبما نذكره عند تفصيل شعوبهم في كل فرقة منهم، وهذه كلها مزاعم. والحق الّذي شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب إلا ما تزعمه نسابة العرب في صنهاجة وكتامة. وعندي أنهم من إخوانهم والله أعلم. وقد انتهى بنا الكلام إلى أنسابهم وأوليتهم، فلنرجع إلى تفصيل شعوبهم وذكرهم أمة بعد أمة. ونقتصر على ذكره من كانت له منهم دولة ملك أو سالف شهرة أو تشعب نسل في العالم وعدد لهذا العهد وما قبله من صنفي البرانس.
والبتر منهم وترتيبهم شعبا شعبا حسبما تأدى إلينا من ذلك واشتمل عليه محفوظنا، والله المستعان.
(الفصل الثاني في ذكر مواطن هؤلاء البربر بإفريقية والمغرب)
اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه اسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق، ومشرق بالإضافة إلى جهة المغرب لأن العرف قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة وأقطار مخصوصة. وعرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها ومعمورها وخرابها وجبالها وبحارها ومساكن أهلها، مثل بطليموس ورجاوز [1] وصاحب صقلّيّة المنسوب له الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الأرض والبلدان، وأمثالهم: أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار.
فحدّه من جهة المغرب بحر المحيط وهو عنصر الماء، وسمي محيطا لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب.
ويسمى أيضا البحر الأخضر لتلونه غالبا بالخضرة، ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رجار وهو الصحيح وكان ملك صقلّيّة.(6/128)
فيكون مظلما. ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه. منعقدة هنالك متراكمة، وتسميه الأعاجم: بحر أوقيانوس يعنون به والله أعلم ما نعني نحن بالعنصر. ويسمونه أيضا بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية. وهو بحر كبير غير منحصر، لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسموت الرياح هنالك ولنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه.
والبحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم، فتبعث الريح من الأماكن وغاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية. فإذا علم أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا، وبما خرج من ريح إلى ريح بحسب مقصوده وجهته. وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر، ومنبعث الريح، وإن كان معروفا فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك. وأيضا فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم والأبخرة كما قلناه فيهلك، فلهذا كان راكبه على غرر وخطر. فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه، وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا وأزمور وأنفي وأسفي، وهي من مدن الغرب وحواضره. وعليه أيضا مسجد ماسة وبلدتا كاوصت ونول من بلاد السوس وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم. وتنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول ولا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه. وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي والمتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس ويسمى هذا الخليج الزقاق، وعرضه ثمانية أميال فما فوقها. وكانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر.
ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشام وثغوره وما إليها مثل: أنطاكية والعلايا وطرسوس والمصيصة وطرابلس وصور والإسكندرية.
ولذلك سمي البحر الشامي. وهو إذا خرج من الخليج ينفسح في ذهابه عرضا. وأكثر انفساحه إلى جهة الشمال، ولا يزال انفساحه ذلك متصاعدا إلى الشمال إلى أن ينتهي إلى غايته. وطوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة. وفيه جزائر ميورقة ومزقة وياسة وصقلّيّة وأقريطش وسردانية وقبرص. وأما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد. ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد في الجنوب وتارة يرجع إلى الشمال.
واعترض ذلك بعروض البلدان التي بساحله، وذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه(6/129)
الشمال على أفقه. وهو أيضا بعد ما بين سمت رءوس أهله ودائرة معدل النهار.
والسبب في ذلك أن الأرض كرية الشكل، والسماء من فوقها مثلها. وأفق البلد هو فرق بين ما يرى وبين ما لا يرى من السماء ومن الأرض. والفلك ذو قطبين، إذا ارتفع أحدهما على رءوس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم، والعمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمالي أكثر، وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه. فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي. والمارّ على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة، ومن السماء المقابل لها ما لم يكن يظهر، فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال، وينقص كلما رجع إلى الجنوب.
فعرض سبتة وطنجة التي هي على زقاق هذا البحر وخليجه (له [1] ) ودقائق. ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان (لد) ونصف، فتزيد في الجنوب فيكون عرض وهران (لب) أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس (لج) ودقائق.
ولهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس وسبتة. وصار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب. ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس والجزائر (له) على مثل سمته الأول عند منبعثة من الزقاق. ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية وتونس يوم على مثل سمت غرناطة ومريه ومالقة. ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس وقابس (له) على مثل السمت الأول بطنجة وسبتة ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة (لج) على مثل سمت فاس وتوزر فيكون عرض الإسكندرية (لا) على مثل مراكش وأغمات. ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشام.
وهكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية، ولسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية. وينتهي بسواحل عرض هذا البحر في انفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل إفريقية وجنوة من العدوة الشمالية والبلاد الساحلية من المغرب الأقصى والأوسط وإفريقية من لدن الخليج حيث منبعثه كلها عليه مثل طنجة وسبتة وبادس
__________
[1] له: في حساب الجمل (36) أي ان سبته وطنجة تقع على خط العرض 36 درجة ودقائق، وكذلك تونس وطرابلس الغرب وقابس. وعرض تلمسان 35 درجة ونصف، وعرض فاس 34 درجة ودقائق وكذلك برقة. وأما الاسكندرية فتقع على خط العرض 31 درجة.(6/130)
وغساسة وهنين ووهران والجزائر وبجاية وبونة وتونس وسوسة والمهدية وصفاقس وقابس وطرابلس وسواحل برقة والإسكندرية.
هذا وصف هذا البحر الرومي الّذي هو حدّ المغرب من جهة الشمال. وأما حدّه من جهة القبلة والجنوب فالجبال المتهيلة الماثلة حجزا بين بلاد السودان وبلاد البربر.
وتعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدئ من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر، فهنالك ينقطع وعرضه ثلاثة مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد دريغ، ووراءه من جهة الجنوب وبعض بلاد الجزيرة ذات نخيل، وأنها معدودة في جملة بلاد المغرب، مثل بلاد بودة وتمنطيت في قبلة المغرب الأقصى وتسابيت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغذامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار، ينتهي عدد كل واحد منها إلى المائة فأكثر.
وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حدّ المغرب من جهة الجنوب، ومن دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في القرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال ويسمى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الّذي وصفناه آنفا بسائط وقفارا أكثر نباتها الشجر، وفيما يلي التلول منها، ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار.
ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والقرى قوبان [1] وغيرهما، بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف، ودرعة أيضا وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مويان وفي نسخة أخرى فوبان.(6/131)
القصور أيضا بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد، وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبلة الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلى قبلة بجاية بلد واحد مستجر العمران كثير النخل. وفي سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلاثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر، قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب.
وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع.
ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستجرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار إفريقية. وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض إفريقية لما أغزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الواحات قبلة برقة، ذكرها المسعودي في كتابه وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعا ولا مرعى، إلى أن تنتهي إلى العرق الّذي ذكرناه.
ومن ورائه مجالات المتلثّمين كما قلناه، مفاوز معطشة إلى بلاد السودان. وما بين بلاد هذه والجبال التي هي سياج التلول بسائط متلوّن مزاجها تارة بمزاج التلول، وتارة بمزاج الصحراء، بهوائها ومياهها ومنابتها. وفيها القيروان وجبل أوراس معترض وسطها، وبلاد الحصنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب والتل، وفيها مغرّة والمسيلة، وفيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو [1] وقبلة فاس معترض في تلك البسائط. هذا حدّ المغرب من جهة القبلة والجنوب.
وأما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن، هابط على سمت الشمال بانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم والسويس، ويبقى بينهم من هنالك، وبين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين. وينقطع عند السويس والقلزم. وبعده عن مصرفي جهة الشرق
__________
[1] وفي نسخة أخرى ديدو ولم نجد لها ذكر في المراجع التي بين أيدينا ولعلها دبرو وهي قرية وسط سهول تافرا في إقليم وجدة (كتاب المغرب/ 88) (قبائل المغرب/ 321) .(6/132)
ثلاثة أيام. هذا آخر المغرب عندهم ويدخل فيه إقليم مصر وبرقة.
وكان المغرب عندهم جزيرة أحاطت بها البحار من ثلاث جهاتها كما تراه. وأما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة، وإنما يختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد. وهذا الّذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم. فأما المغرب الأقصى منه وهو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط وجبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن وبرغواطة وغمارة. وآخر غمارة بطوية مما يلي غساسة، ومعهم عوالم من صنهاجة ومضغره [1] وأوربة وغيرهم، يحيط به البحر الكبير من غربية، والرومي من شمالية، والجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن وجانب القبلة وجبال تازا من جهة الشرق، لأن الجبال أكثر: ما هي وأكنف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها. فكانت جبال المغرب لذلك، أكثر ساكنها من المصامدة في الأغلب وقيل من صنهاجة. وبقيت البسائط من الغرب مثل أزغام وتامستا وتادلاود كالة. واعتمرها الظواعن من البربر الطارئين عليه من جشم ورياح مفص المغرب بساكنه من الأمم لا يحصيهم إلا خالقهم، وصار كله جزيرة وبلد واحد أحاطت به الجبال والبحار، وقاعدته لهذا العهد فاس، وهي دار ملكه، ويمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع، وهو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه، ويعظم مدّه إلى البحر فينتهي إلى سبعين ميلا أو ما يقاربها، ومصبه في البحر الكبير عند أزبور. ومنبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر ويتساهل إلى بسيط المغرب. وينبع منها أيضا نهر آخر، وينحدر إلى القبلة. ويمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج. وصناعة استخراجه، من شجره وهي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره، وبها يسمى هذا النهر ويجاورها، الى أن يغوص في الرمل قبلة بلاد السوس.
وأما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهر عظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة تازى، ويصب في البحر الرومي عند غساسة. وعليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في
__________
[1] وفي نسخة أخرى مطغرة: بطن من خريس ينتشر بتلمسان وفاس والصحراء بين تافيلات وتوات، وتكتب أيضا مضغرة ومدغرة. ومنها ميسرة المضغري الّذي أثار معركة طنجة عام 122 هـ/ 738 م.
(الموسوعة الغربية معلمة الصحراء والملحق الأول/ 197- المعجم التاريخي/ 67) .(6/133)
القديم، ويسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط [1] ويجاورهم هنالك، وفي سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة إخوة مكناسة. وينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهبا إلى القبلة مشرقا بعض الشيء، ويقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى البردة [2] ، ثم بعدها إلى تمطيت، ويسمى لهذا العهد كير وعليه قصورها. ثم يمر إلى أن يصب في القفار ويروغ في قفارها ويغور في رمالها، وهو موضع مقامه قصور ذات نخل تسمى وركلان [3] وفي شرق بوده مما وراء العرق قصور تسابيت من قصور الصحراء. وفي شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلاثمائة أو أكثر في واد واحد، فينحدر من المغرب إلى المشرق، وفيها أمم من قبائل زناتة.
وأما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة كان لمغراوة وبني يفرن. وكان معهم مديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطماطة. ثم صار من بعدهم لبني وماتوا وبني يلومي.
ثم صار لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين وقاعدته لهذا العهد تلمسان، وهي دار ملكه ويجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر ومتيجة والمرية وما يليها إلى بجاية، وقبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة. ويمر في وادي شلف بني وأطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء. ويدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد. ثم يمر مغربا ويجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا وغيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كلمتين [4] ومستغانم. وينبع من فوهته نهر آخر يذهب مشرقا من جبل راشد، ويمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر ونفزاوة معروفة هنالك، ويسمى هذا النهر وادي شدي.
وأما بلاد بجاية وقسنطينة فهي دار زواوة وكتامة ومحيسة [5] وهوارة، وهي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال، وفيها بقاياهم. وأما إفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فتح [6]
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وطاطا.
[2] وفي نسخة أخرى بودة، ولعلها بورة: مدينة على ساحل بحر مصر قرب دمياط، تنسب إليها العمائم البورية والسمك البوري (معجم البلدان) .
[3] وفي النسخة التونسية: ركان.
[4] وفي نسخة أخرى كلميتوا.
[5] وفي نسخة أخرى عجيسة وكذلك في قبائل المغرب/ 302- 336.
[6] وفي نسخة أخرى: فيح.(6/134)
كانت ديارا لنفزاوة وبني يفرن ونفوسة ومن لا يحصى من قبائل البربر. وكانت قاعدتها القيروان وهي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم وبني يفرن وهوارة، ومغلوبون تحت أيديهم. وقد تبدوا معهم ونسوا رطانة الأعاجم، وتكلموا بلغات العرب، وتحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم. وقاعدتها لهذا العهد تونس وهي دار ملكها، ويمرّ فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها، ويصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت. وأما برقة فدرست معالمها وخربت أمصارها، وانقرض أمرها. وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارا للواتة وهوارة وغيرهم من البربر. وكانت بها الأمصار المستجرة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها، فعادت يبابا ومفاوز كان لم تكن والله أعلم.
(الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديما وحديثا من الفضائل الانسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم الى مراقي العز ومعارج السلطان والملك)
قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده وكثرة قبائلهم وأجيالهم، وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين، من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى إفريقية والمغرب، وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولا، ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانيا من المقامات الحميدة والآثار الجميلة. وما كان لوهيا الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب، وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولا، ثم ردتهم ثانيا، وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب.
(قال ابن أبي زيد [1] ) : إن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب اثنتي عشرة مرة، وزحفوا في كلها للمسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير، وقيل بعدها. وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد، وما شيدوا من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن أبي يزيد.(6/135)
الحصون والآطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات، وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريغة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس، ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك. ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بإفريقية. وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف. وما استولى عليه بنو يادين آخرا باسهام الموحدين وأقطاعهم من بلاد المغرب، وما كان لبني مرين في الاجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار، وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم، مظاهرون [1] لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم.
ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية. واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك، والا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت، وزناتة أيضا حتى أسر أميرهم وزمار بن مولات، وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان. ومن بعد ذلك هوارة وصنهاجة وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي ملكوا بها المغرب والمشرق، وزاحموا بني العباس في ديارهم وغير ذلك منهم كثير. وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة، وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومراعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل، ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكارم والثبات في الشدائد وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه، فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون إسوة لمتبعيه من الأمم، وحسبك ما اكتسبوه من حميدها، واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز، وأوفت بهم على ثنايا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: مضاهون.(6/136)
الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم.
وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى بلكين بن زيري الصنهاجي عامل إفريقية للعبيديين ومحمد بن خزر والخير ابنه، وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي، ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب، وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي. وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين دولهم والمعاهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط، كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد، ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة أهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعارضين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم على شاكلته بقوة جمعه. فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدما وأطولهم فيها يدا، وأكثرهم لها جمعا، طارت عنهم في ذلك قبل الملك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم، وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر.
وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين كتاب الله [1] لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم، واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصاغيتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم وسؤال الاعداد عن صالحيهم، وإغشائهم البحر أفضل المرابطة والجهاد، وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم التي كانت ملاكا لعزهم ومقادا إلى سلطانهم وملكهم.
وكان المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم. ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه، فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط، وسد الثغور وبذل النفس في ذات الله، وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات، ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم في مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوين ملكهم ومجالس أحكامهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اتخاذ المعلمين الأحكام دين الله.(6/137)
وقصور عزهم. والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال والضرب على يد أهل الجور واتخاذ المساجد بصحن دورهم وشدة خلافهم وملكهم، يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتبين لتلاوة كتاب الله أحزابا بالعشي والإشراق على الأيام، وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة، وإنفاق الأموال العريضة، شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم.
وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم، فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيبة. ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم، بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال، وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان، ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب، فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة، أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس، ذكره عريب بن حميد في تاريخه. ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار، الخارج على الشيعة سنة اثنتين وثلاثمائة الدائن بدين الخارجية. أخذ العلم بتوزر عن مشيختها، ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج، وصدق فيه. ثم لقي عمارا الأعمى الصفري النكار. فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله. وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لا يغفل.
ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة، ثم من سوماتة منهم، مولده عام عشرة وثلاثمائة ووفاته عام ثلاثة وثمانين وثلاثمائة. كان من البتر من ولد مادغيس هلك على عهد عبد الرحمن الناصر. ومنهم أيضا أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضا. ومنهم علماء بالنسب والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم.
ومن مشاهير زناتة أيضا موسى بن صالح الغمري، معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة، وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة. وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه، فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم من ولاية وكهانة وعلم وسحر، كل نوع من آثار الخليقة.(6/138)
ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها، لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت حوامل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة، ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة، وينقلون أن حملها كان أثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع، كانت ترد فيها على الناس، ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه، ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خلعة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره.
(الفصل الرابع في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي ومن بعده الى ولاية بني الأغلب)
هؤلاء البربر جيل وشعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب. وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها. نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما [1] كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك ويحك إني أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة، ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم، فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم، فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم.
ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية، ملك المغرب مائة سنة وأنه الّذي ابتني
__________
[1] وفي النسخة التونسية: سقيوما.(6/139)
مدائنه مثل إفريقية وصقلّيّة واتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبابعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم، واختطوا بسبب البحر وما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم والآثار لهذا العهد مثل:
سبيطلة وجلولاء ومزناق وطاقة وزانة وغيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها. وقد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية، وأعطوهم المهادنة وأدوا إليهم الجباية طواعية.
وكان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال. وأمراؤها لا يرامون بذل، ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة، وقد صبحهم الإسلام وهم في مملكة قد استولوا على رومة. وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومصر يؤدون الجباية له، وكما كان صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلّيّة وصاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع. وعنهم كلهم أخذوا دين النصرانية، فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر إفريقية ولم يكن للروم فيها شيء من ولاية. وإنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج ومن حشودهم. وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح إفريقية فمن باب التغليب، لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج، وما قاتلوا في الشام إلا الروم، فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية. فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم الروم على جميع أمم النصرانية.
ونقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم، وكذا الأمة الذين كانوا بإفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها، إنما كانوا من الفرنجة. وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم، لقرب الشام وسلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح، وكما كانت نفوسة من برابر إفريقية قندلاوة ومدينونة وبهلولة وغياتة وبنو بازاز [1] من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنو فازان.(6/140)
نواحيه من بقايا الأديان والملل، فكان البربر بإفريقية والمغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج، وعلى دين النصرانية الّذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح وزحف المسلمون إلى إفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع وعشرين، وغلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤيّ، فجمع لهم جرير [1] ملك الفرنجة يومئذ بإفريقية من كان بأمصارها من الفرنج والروم، ومن بضواحيها من جموع البربر وملوكهم.
وكان ملك ما بين طرابلس وطنجة، وكانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة وعشرين ألفا، والمسلمون يومئذ في عشرين ألفا، فكان من هزيمة العرب لهم وفتحهم لسبيطلة وتخريبهم إياها وقتلهم جرجير ملكهم. وما نفلهم الله من أموالهم وبناتهم التي اختصت منهن ابنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة والملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور. ثم أرزي الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى حصون إفريقية، وانساح المسلمون في البسائط بالغارات، ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتل وسبي، حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم وزمار بن صقلاب [2] جد بني خزر، وهو يومئذ أمير مغراوة وسائر زناتة، ورفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده، ومن عليه وأطلقه، وعقد له على قومه.
ويقال إنما وصله وافدا، وحصن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم وشرطوا لابن أبي سرح ثلاثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب، ويخرج بهم من بلادهم ففعل. ورجع المسلمون إلى المشرق وشغلوا بما كان من الفتن الإسلامية. ثم كان الاجتماع والاتفاق على معاوية بن أبي سفيان، وبعث معاوية بن خديج السكونيّ من مصر لافتتاح إفريقية سنة خمس وأربعين. وبعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا وهزمهم العرب ساحل أجم.
وحاصروا جلولاء وفتحوها، وقفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على إفريقية بعده عقبة بن نافع، فاختط القيروان وافترق أمر الفرنجة وصاروا
__________
[1] لعله جرجير كما سيرد بعد قليل.
[2] وفي النسخة الباريسية: صولات بن وزمار (كتاب قبائل المغرب/ 369.(6/141)
إلى الحصون وبقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية وولى على إفريقية أبا المهاجر مولى [1] وكانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم، وهو رأس البرانس، ومرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة، وكان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح. ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر واجتمع إليهما البرانس، وزحف إليهم أبو المهاجر حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم وظفر بكسيلة فأسلم واستبقاه. ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر. ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة [2] ولميس، ولقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع، ودخل المغرب الأقصى، وأطاعته غمارة، وأميرهم يومئذ بليان. ثم أجاز إلى وليلى ثم إلى جبال درن، وقتل المصامدة، وكانت بينهم وبينه حروب، وحاصروه بجبال درن. ونهضت إليهم جموع زناتة وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة، وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام، ودوخ بلادهم. ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام وهم يومئذ على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فأثخن فيهم وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر، وقاتل مسوفة من وراء السوس، وساسهم وقفل راجعا. وكسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله لجمعه معه في عسكره سائر غزواته.
فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود. وتراسل كسيلة وقومه، فأرسلوا له شهودا وانتهزوا الفرصة فيه وقتلوه ومن معه وملك كسيلة إفريقية خمس سنين ونزل القيروان وأعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري والأثقال، وعظم سلطانه على البربر.
وزحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع وستين، وجمع له كسيلة سائر البربر، ولقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم. وأتبعهم العرب إلى محنة [3] ثم إلى ملوية وفي هذه الواقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد، وخاف البربر من زهير ومن العرب خوفا شديدا فلجئوا
__________
[1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: مولى (فلان) .
[2] وفي نسخة أخرى: باغاية.
[3] وفي نسخة أخرى: مر محنة. وفي النسخة التونسية مر مجنة.(6/142)
إلى القلاع والحصون. ثم ترهب زهير بعدها وقفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه. واضطرمت إفريقية نارا وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم. وكان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية [1] بن تيفان ملكة جبل أوراس وقومها من جراوة ملوك البتر، وزعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر ان يخرج إلى جهاد إفريقية، وبعث إليه بالمدد، فزحف إليها سنة تسع وسبعين ودخل القيروان وغزا قرطاجنة وافتتحها عنوة، وذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلّيّة وإلى الأندلس.
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة وقومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة. وزحفت إليه فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسر خالد بن يزيد القيسي. ولم تزل الكاهنة والبربر في اتباع حسان والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس، ولحق حسان بعمل طرابلس. ولقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام وبنى قصوره وتعرف لهذا العهد به. ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها واتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع ابنتها [2] . وأقامت في سلطان إفريقية والبربر خمس سنين. ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد، فرجع إلى إفريقية سنة أربع وسبعين، وخربت الكاهنة جميع المدن والضياع، وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا في قرى متصلة.
وشق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم ووجد السبيل إلى تفريق أمرها، وزحف إليها وهي في جموعها من البربر فانهزموا، وقتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس. واستأمن إليه البربر على الإسلام والطاعة وعلى أن يكون منهم اثنا عشر ألفا مجاهدين معه، فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وعقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة [3] وعلى جبل أوراس فقالوا: لزمنا الطاعة له سبقناها إليها وبايعناه عليها [4] . وأشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها وانصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين وصالح من
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ثابتة.
[2] وفي نسخة أخرى: ابنيها.
[3] وفي النسخة التونسية: هوارة وبعض الأحيان جراوة.
[4] وفي النسخة التونسية: لطاعة سبقا بها إليه بإيعاز أمهما واشارتها عليهما.(6/143)
التقى بيده إلى البربر على الخراج. وكتب الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر والبرانس. واختلفت أيدي البربر فيما بينهم على إفريقية والمغرب فخلت أكثر البلاد، وقدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على إفريقية. ورأى ما فيها من الخلاف، وكان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني وأثخن في البربر.
ودوخ المغرب وأدّى إليه البربر الطاعة. وولي على طنجة طارق بن زياد، وأنزل معه سبعة وعشرين ألفا من العرب واثني عشر ألفا من البربر، وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه. ثم أسلم بقية البربر على يد إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة.
وذكر أبو محمد بن أبي زيد: إن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب وأجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد. فاستقروا هنالك من لدن الفتح، فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه، ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق. وتعددت طوائفهم وتشعبت طرقها، من الإباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج.
وفشت هذه البدعة وعقدها رءوس النفاق من العرب وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا [1] في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب، فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة اثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس، وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى وداخل البربر منه رعب وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه.
وثار ميسرة المطغتي [2] بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله وبايع لعبد الأعلى بن جريج
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فأجلبوا.
[2] وفي نسخة أخرى: ميسرة المطغري وفي كتاب قبائل الغرب ص 382: ميسرة المدغري.(6/144)
الإفريقي روميّ الأصل ومولى العرب، كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم، فقام بأمرهم مدة وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية. ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي.
(قال ابن عبد الحكم) هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم، وزحف إلى العرب وسرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته ومعهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف، وانهزم العرب وقتل خالد بن أبي حبيب ومن معه وسميت وقعة الأسراب وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس، وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب وولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث وعشرين وسرحه في اثني عشر ألفا من أهل الشام. وكتب إلى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أن يمدوه، فخرج إلى إفريقية والمغرب حتى بلغ وادي طنجة وهو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر، وكانوا خلقا لا يحصى. ولقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم، وقتل كلثوم وأضرمت العساكر فمضى أهل الشام إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري ومضى أهل مصر وإفريقية إلى القيروان.
وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع وعشرين وأربعمائة [1] وهوارة يومئذ خوارج على الدولة، منهم عكاشة بن أيوب وعبد الواحد بن يزيد في قومهما، فثارت هوارة ومن تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد. وقتل عبد الواحد الهواري وأخذ عكاشة أسيرا، وأحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة وثمانين ألفا. وكتب بذلك حنظلة إلى هشام وسمعها الليث بن سعد فقال: ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والأصنام.
ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق والتاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة، وما كان من أمر الشيعة والخوارج مع مروان. وأقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية وأجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى إفريقية فملكها وغلب
__________
[1] الصحيح سنة اربع وعشرين ومائة وهذا الخطأ راجع في الأغلب الى الناسخ.(6/145)
حنظلة عليها سنة ست وعشرين ومائة فعادت هيف إلى أديانها، واستشرى داء البربر وأعضل أمر الخارجية ورءوسها، فانتقضوا من أطراف البقاع، وتواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم. وتولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة، وتغلب أميرهم ثابت بن وزيدون وقومه على باجة، وثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه.
وثار بطرابلس عبد الجبار والحرث من هوارة، وكانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح، وبقي الأمر على ذلك مدة، وثار إسماعيل بن زياد في قتل البربر. وأثخن فيهم وزحف إلى تلمسان سنة خمس وثلاثين ومائة فظفر بها ودوخ المغرب وأذل من كان فيه من البربر. ثم كانت بعد ذلك فتنة وربجومة [1] وسائر قبائل نفزاوة سنة أربعين ومائة، وذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر وقتله أخواه إلياس وعبد الوارث، فولي مكانه ابنه حبيب، وطالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس ولحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل، وتبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصة واجتمعت لهم كلمة نفزاوة ودعوا لأبي جعفر المنصور، وزحفوا إلى القيروان ودخلوها عنوة، وفر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة وقبائلهم.
وولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي، ثم انهزم حبيب إلى أوراس، واتبعه عاصم، فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد وجموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان وقتلوه واستولت وربجومة على القيروان وسائر إفريقية، وقتلوا من كان بها من قريش وربطوا دوابهم بالمسجد الجامع، واشتد البلاء على أهل القيروان وأنكرت ذلك من فعل وربجومة ومن إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة وزنانة فخرجوا واجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها واجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة وهوارة وزحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد وسائر وربجومة ونفزاوة، واستولى على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم وهو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية، كان من موالي العرب ومن رءوس هذه البدعة. ورجع أبو الخطاب إلى طرابلس واضطرم المغرب نارا،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ورفجومة وقد مرت معنا من قبل.(6/146)
وانتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها، واجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين ومائة، وقدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود، وأسسوا مدينة سجلماسة ونزلوها، وقدم محمد بن الأشعث واليا على إفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب ولقيه بسرت، فهزموا ابن الأشعث وقتل البربر ببلاد ريفا [1] وفر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط، واجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية ولواتة ورجالة ونفزاوة فنزل بها، واختط مدينتها سنة أربع وأربعين ومائة وضبط ابن الأشعث إفريقية وخافه البربر.
ثم انتقل بنو يفرن من زناتة ومغيلة من البربر بنواحي تلمسان، وقدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن، ويقال إنه من مغيلة وهو الأصح في شأنه، وبويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة. وزحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة، فلما قرب منه هرب أبو قرة، فنزل الأغلب الزاب. ثم اعتزم على تلمسان ثم طنجة، ورجع إليه الجند فرجع. ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب. وكان تغلب هوارة منذ سنة إحدى وخمسين ومائة [2] واجتمعوا بطرابلس، وقدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين [3] بن تطوفت من أمراء مغيلة، ويسمى أبا قادم. وزحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها وملكوا طرابلس، وزحفوا إلى القيروان فحاصروها. ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في اثني عشر معسكرا. وكان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية وعبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية، والمسور بن هانئ في عشرة آلاف كذلك، وجرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة، وعبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية. واشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم. وكان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا، وأشدّهم قوة، فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا وأعطى ابنه في إتمام ذلك أربعة آلاف، وافترقوا وارتحلوا عن طبنة. ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه، ودخل تاهرت مفلولا، وزحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم والبربر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وقتل البربر قتلا ذريعا.
[2] وفي نسخة أخرى: وكان يلقب هزارمرد سنة احدى وخمسين.
[3] وفي نسخة أخرى: مدين.(6/147)
الإباضية الذين معه. ونهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان، وشحنها بالأقوات والرجال.
ثم لقي أبا حاتم والبربر وهزموه، ورجع إلى القيروان وحاصروه. وكانوا في ثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، وكانوا كلهم إباضية. وطال الحصار وقتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع وخمسين ومائة. وصالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب وارتحل. وقدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع وخمسين ومائة واليا على إفريقية، فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري، وافترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم، وانهزم البربر ولحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة وبعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر. ثم غلب عليه فقتله ومن كان معه من البربر، وهربوا إلى كل ناحية. وكانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنة إلى انقضاء ثلاثمائة وخمسة وسبعين حربا.
وقدم يزيد إفريقية فزال فسادها ورتب القيروان، ولم تزل البلاد هادئة، وانتقض ورفجومة سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم رجلا منهم اسمه أبو زرجونة، فسرح إليهم يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه. واستأذنه ابنه المهلب وكان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له، وأمده بالعلاء بن سعيد ابن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضا، فأوقع بهم وقتلهم أبرح قتل. وانتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة ابنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى وستين ومائة، وولوا عليهم صالح بن نصير النفزي ودعوا إلى رأيهم رأي الإباضية، فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمّة في عشرة آلاف فهزمهم وقتل البربر أبرح قتل. ثم تحيز إلى صالح بن نصير، ولم يشهد الاولى من البربر الإباضية واجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان.
وركدت ريح الخوارج من البربر من إفريقية، وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال، ورغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى وسبعين ومائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، فوادعه وانحصدت شوكة البربر واستكانوا للغلب وأطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة الضريبة على البربر بكلكلها، وتقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر إفريقية والمغرب من قبل(6/148)
الرشيد هارون سنة خمس وثمانين ومائة فاضطلع بأمر هذه الولاية، وأحسن السيرة وقوّم القتاد ورأب الصدع وجمع الكلمة. ورضيت الكافة واستقل بولايتها غير منازع ولا متشوه، وتوارثها بنوه خالفا عن سالف.
وكانت لهم بإفريقية والمغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بإفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفارّ إلى المشرق أمام كتامة سنة ست وتسعين ومائتين كما نذكره. وخرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية. قام فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي، فكان ذلك آخر عهد بالملك والدولة بإفريقية. واستقل كتامة بالأمر من يومئذ، ثم من بعدهم من برابرة المغرب. وذهبت ريح العرب ودولتهم من المغرب وإفريقية، فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد.
وصار الملك للبربر وقبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى وجيلا بعد آخر، تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس، وتارة إلى الهاشميين من بني العباس وبني الحسن.
ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخرا حسبما نذكر ذلك كله مفصلا عند ما يعرض لنا من ذكر دول زناتة والبربر الذين نحن في سياقة أخبارهم.
(البرابرة البتر) (الخبر عن البرابرة البتر وشعوبهم ونبدأ منهم أولا بذكر نفوسة وتصاريف أحوالهم)
كان مادغيس الأبتر جد البرابرة البتر، وكان ابنه زحيك ومنه تشعبت بطونهم. فكان له من الولد فيما يذكر نسابة البربر أربعة. نفوس وأداس وضرا ولوا، فأما أداس فصار في هوارة لما يقال إن هوارة خلف أباه زحيك على أمه قبل فصاله فانتسب إليه واختلط بولده، واندرجت بطون أداس في هوارة كما ذكرناه. وأما ضرا ولوا فسنأتي بذكر بطونهم واحدا واحدا. وأما نفوس فهم بطن واحد تنسب إليه نفوسة كلها. وكانوا من أوسع قبائل البربر فيهم شعوب كثيرة مثل بني زمور وبني مكسور [1] وماطوسة.
وكانت مواطن جمهورهم بجهات طرابلس وما إليها، وهناك الجبل المعروف بهم.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: مسكور وكذلك في قبائل المغرب/ 308.(6/149)
وهم على ثلاثة مراحل من قبلة طرابلس يسكنه اليوم بقاياهم. وكانت مدينة صبرة قبل الفتح في مواطنهم، وتعزى إليهم، وهي كانت باكورة الفتح لأول الإسلام، وخرب المغرب بعد استيلائهم عليها فلم يبق منهم إلا الأطلال ورسوم خافية. وكان من رجالاتهم إسماعيل بن زياد المتغلب على قابس سنة اثنتين وثلاثين ومائة لأول الدولة العباسية. ومنهم لهذا العهد أوزاع متفرقون في الأقطار بعمالات مصر والمغرب، والله وارث الأرض ومن عليها، وأمالوا فمن ولده نفزاوة ولواتة كما نذكر.
(الخبر عن نفزاوة وبطونهم وتصاريف أحوالهم)
وهم بنو تطوفت بن نفزاو بن لوا الأكبر بن زحيك، وبطونهم كثيرة مثل غساسة ومرنيسة وزهيلة وسوماتة وزاتيمة وولهاصة ومجره وورسيف، ومن بطونهم مكلاتة.
ويقال إن مكلاتة من عرب اليمن وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه، وليس من البربر.
ولمكلاتة بطون متعددة مثل بني ورياغل وكزناية وبني يصلتن وبني ديمان ورمحوق وبني يزناسن [1] ويقال إن غساسة منهم، هكذا عند نسابة البربر مثل سابق المطماطي وغيره ومن بطون ولهاصة ورتدين بن داحية بن ولهاصة وورفجومة بن نيرغاس بن ولهاص.
ومن بطون ورفجومة زكوله رجالة لذكاك بن ورفجوم إلى بطون أخرى كثيرة.
وكان ورفجومة هؤلاء أوسم بطون نفزاوة وأشدهم بأسا وقوة. ولما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر المنصور وقتله أخواه عبد الوارث وإلياس وطالبهما ابنه حبيب بالثأر فلحق عبد الوارث بورفجومة، ونزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس، وكان كاهنا فأجاره وقام بدعوة أبي جعفر المنصور، واجتمعت إليه نفزاوة، وكان من رجالاتهم عبد الملك بن أبي الجعد ويزيد بن سكوم وكانوا يدينون بدين الإباضية من الخوارج، وزحفوا إلى القيروان سنة أربعين ومائة. وفر عنها حبيب بن عبد الرحمن، ودخلها عبد الملك بن أبي الجعد وقتل حبيبا. واستولت نفزاوة على القيروان وقتلوا من كان بها من قريش وسائر العرب، وربطوا دوابهم بالمسجد، وعظمت حوادثهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بني يصلتن وبني ديمار وريحون وبني سراين.(6/150)
ونكر ذلك عليهم الاباضية من برابرة طرابلس وتولى كبرها زناتة وهوارة فاجتمعوا إلى الخطاب بن السمح ورجالات العرب، واستولوا على طرابلس ثم على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة وقتلوا عبد الملك بن أبي الجعد وأثخنوا في قومه من نفزاوة وورفجومة، ورجعوا إلى طرابلس بعد أن استعمل أبو الخطاب على القيروان عبد الرحمن بن رستم. واضطرم المغرب نارا وعظمت فتنة ورفجومة هؤلاء إلى أن قدم محمد بن الأشعث سنة ست وأربعين ومائة من قبل المنصور فأثخن في البربر وأطفأ نار هذه الفتنة كما قدمناه. ولما اختط عمر بن حفص مدينة طبنة سنة إحدى وخمسين ومائة أنزل ورفجومة هؤلاء بها بما كانوا شيعا له، وعظم غناؤهم فيها عند ما حاصره بها ابن رستم وبنو يفرن.
ثم انتقضوا بعد مهلك عمر على يزيد بن حاتم عند قدومه على إفريقية سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم أبا زرجونة منهم، وسرح إليهم يزيد العساكر مع ابنه وقومه فأثخنوا فيهم. ثم انتقضت نفزاوة على أبيه داود، ودعوا إلى دين الاباضية، وولوا عليهم صالح بن نصر منهم فرجعت العساكر إليهم متراسلة وقتلوهم أبرح قتل.
وعليها كان ركود ريح الخوارج بإفريقية وأذعار البربر. وافترق بنو ورفجوم بعد ذلك وانقرض أمرهم وصاروا أوزاعا في القبائل. وكان رجالة منهم بطنا متسعا. وكان منهم رجالات مذكورون في أول العبيديين وبني أمية بالأندلس منهم الرجالي أحد الكتاب بقرطبة، وبقي منهم لهذا العهد فرق بمرماجنّة. وهناك قرية ببسيطها تنسب إليهم.
وأما سائر ولهاصة من ورفجومة وغيرهم فهم لهذا العهد أوزاع لذلك، أشهرهم قبيلة بساحل تلمسان اندرجوا في كومية وعدوا منهم بالنسب والخلط. وكان منهم في أواسط هذه المائة الثامنة ابن عبد المكلف [1] استقل برياستهم وتملك بدعوى السلطان بعد استيلاء بني عبد الواد على تلمسان ونواحيها، وتغلب على سلطانهم لذلك العهد كما نذكره عثمان بن عبد الرحمن وسجنه بالمطبق بتلمسان ثم قتله. ومن أشهر قبائل ولهاصة أيضا قبيلة أخرى ببسيط بونة يركبون الخيل ويأخذون بمذاهب العرب في زيهم ولغتهم وسائر شعارهم كما هو شأن هوارة. وهم في عداد القبائل الغارمة ورياستهم في بني عريف منهم، وهي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عبد الملك.(6/151)
نصر بن مالك بن عريف. وكانت قبلهم لعسكر بن بطنان منهم، هذه أخبار ولهاصة فيما علمناه.
(وأما نهاية بطون نفزاوة) فمنهم زاتيمة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل برشك، ومنهم غساسة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل بوطة [1] حيث القرية التي هناك حاضرة البحر، ومرسى لأساطيل المغرب، وهي مشهورة باسمهم. وأما زهيلة فبقيتهم لهذا العهد بنواحي بادس مندرجون في غمارة وكان منهم لعهد مشيختنا أبو يعقوب البادسي أكبر الأولياء، وآخرهم بالمغرب. وأما مرنيسة فلا يعلم لهم موطن، ومن أعقابهم أوزاع بين أحياء العرب بإفريقية، وأما سوماتة فمنهم بقية فمن نواحي القيروان، كان منهم منذر بن سعيد القاضي بقرطبة لعهد الناصر والله أعلم.
وأما بقايا بطون نفزاوة فلا يعرف لهم لهذا العهد حيّ ولا موطن إلا القرى الظاهرة المقدرة السير المنسوبة إليهم ببلاد قسطيلة، وبها معاهدون من الفرنجة أوطنوهم على الجزية واعتقاد الذمة عند عهد الفتح، وأعقابهم بها لهذا العهد، وقد نزل معهم كثير من بني سليم من الشريد وزغبة، وأوطنوها وتملكوا بها القفار والضياع. وكان أمر هذه القرى راجعا إلى عامل توزر أيام استبداد الخلافة. فلما تقلص ظل الدولة عنهم، وحدثت العصبة في الأمصار استبدت كل قرية بأمرها وصار مقدم توزر يحاول دخولهم في إيالته فمنهم من يعطيه ذلك ومنهم من يأباه حتى أظلتهم دولة مولانا السلطان أبي العباس، وأدرجوا كلهم في طاعته واندرجوا في حبله، والله ولي الأمور لا رب غيره أهـ.
(الخبر عن لواتة من البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم)
وهو بطن عظيم متسع من بطون البربر البتر ينتسبون إلى لوا الأصغر بن لوا الأكبر بن زحيك، ولوا الأصغر هو نفزا وكما قلناه. ولوا اسم أبيهم، والبربر إذا أرادوا العموم في الجمع زادوا الألف والتاء فصار لوات، فلما عرّبته العرب حملوه على الإفراد وألحقوا به هاء الجمع. وذكر ابن حزم أن نسابة البربر يزعمون أن سدراتة ولواتة ومزاتة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بطوية- قبائل المغرب/ 307(6/152)
القبط وليس ذلك بصحيح. وابن حزم لم يطلع على كتب علماء البربر في ذلك. وفي لواتة بطون كثيرة وفيهم قبائل كثيرة مثل سدراتة بن نيطط بن لوا، ومثل عزوزة بن ماصلت بن لوا. وعد سابق وأصحابه في بني ماصلت بطونا أخرى غير عزوزة وهم:
أكورة وجرمانة ونقاعة [1] مثل بني زائد بن لوا، وأكثر بطونهم مزاتة. ونسابة البربر يعدون في مزاتة بطونا كثيرة مثل: ملايان ومرنه ومحيحه [2] ودكمه وحمره ومدونه.
وكان لواتة هؤلاء ظواعن في مواطنهم بنواحي برقة كما ذكر المسعودي، وكان لهم في فتنة أبي يزيد آثار.
وكان منهم بجبل أوراس أمة عظيمة ظاهروا أبا يزيد مع بني كملان على أمره. ولم يزالوا بأوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوارة وكتامة، ويدهم العالية عليهم تناهز خيالتهم ألفا وتجاوز رجالاتهم العدة. وتستكفي بهم الدولة في جباية من تحت أيديهم بجبل أوراس من القبائل الغارمة فيحسنون الغناء والكفاية. وكانت البعوث مضروبة عليهم ينفرون بها في معسكر السلطان. فلما تقلص ظلّ الدولة عنهم صار بنو سعادة منهم في أقطاع أولاد محمد من الزواودة [3] فاستعملوهم في مثل ما كانت الدولة تستعملهم فيه، فأصاروهم خولا للجباية وعسكرا للاستنفار وأصبحوا من جملة رعاياهم. وقد كان بقي جانب منهم لم تستوفه الإقطاعات، وهم بنو زنجان وبنو باديس فاستضافهم منصور بن مزني إلى عمله. فلما استبد مزني عن الدولة واستقلوا بالزاب صاروا يبعدونهم بالجبلية بعض السنين ويعسكرون عليهم لذلك بأفاريق الأعراب، وهم لهذا العهد معتصمون بجبلهم لا يجاوزونه إلى البسيط خوفا من عادية الأعراب.
ولبني باديس منهم أتاوات على بلد نقاوس المحيطة في فسيح [4] الجبل بما تغلبوا على ضواحيها. فإذا انحدر الأعراب إلى مشاتيهم اقتضوا منها أتاواتهم وخفارتهم. وإذا أقبلوا إلى مصايفهم رجع لواتة إلى معاقلهم الممتنعة على الأعراب. وكان من لواتة هؤلاء أمّة عظيمة بضواحي تاهرت إلى ناحية القبلة، وكانوا ظواعن هنالك على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مغانة.
[2] وفي نسخة أخرى: بلايان وقرنة ومجيجة.
[3] وفي نسخة أخرى: الدواودة.
[4] وفي نسخة أخرى: المختطة في سفح أجبل.(6/153)
وادي ميناس ما بين جبل يعود من جهة الشرق وإلى وارصلف من جهة الغرب. يقال إن بعض أمراء القيروان نقلهم معه في غزوة وأنزلهم هنالك. وكان كبيرهم أورغ بن علي بن هشام قائدا لعبد الله الشيعي.
ولما انتقض حميد بن مصل [1] صاحب تاهرت على المنصور ثالث خلفاء الشيعة ظاهروه على خلافه، وجاوروه في مذاهب ضلاله إلى أن غلبه المنصور. وأجاز حميد إلى الأندلس سنة ست وثلاثين ومائة وزحف المنصور يريد لواتة فهربوا أمامه إلى الرمال وهرب عنهم ونزل إلى وادي ميناس ثم انصرف إلى القيروان.
(وذكر) ابن الرقيق أن المنصور وقف هنالك على أثر من آثار الأقدمين بالقصور التي على الجبال الثلاثة مبنية بالحجر المنحوت، يبدو للناظر على البعد كأنها أسنمة قبور، ورأى كتابا في حجر فسره له أبو سليمان السردغوس: خالف أهل هذا البلد على الملك فأخرجني إليهم، ففتح لي عليهم، وبنيت هذا البناء لأذكر به، وهكذا ذكر ابن الرقيق، وكان بنو وجديجى [2] من قبائل زناتة بمواطنهم من منداس جيرانا للواتة هؤلاء، والتخم بينهما وادي ميناس وتاهرت. وحدثت بينهما فتنة بسبب امرأة أنكحها بنو وجديجي في لواتة فعيروا بالفقر، فكتبت بذلك إلى قومها ورئيسهم يومئذ غسان [3] فتذامروا واستمدوا من وراءهم من زناتة فأمدوهم بعلي بن محمد اليفرني.
وزحفت مطماطة من الجانب الآخر في مظاهرتهم وعليهم غزانة أميرهم، وزحفوا جميعا إلى لواتة، فكانت بينهم وقائع وحروب هلك في بعضها علاق، وأزاحوا عن الجانب الغربي السرسو، وألجئوهم إلى الجبل الّذي في قبلة تاهرت، المسمى لهذا العهد كركيرة، وكان به قوم من مغراوة فغدروا بهم، وتظاهروا جميعا عليهم إلى أن أخرجوهم عن آخر مواطنهم في جهة الشرق بجبل يعود فنزلوا من وراء الجبل المسمى لهذا العهد دارك. وانتشرت عمائرها بتلوله وما وراءه إلى الجبال المطلة على متيجة، وهم لهذا العهد في عداد القبائل الغارمة. وجبل دارك في أقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من ورغة ولواتة أيضا بطون بالجبل المعروفة بهم قبلة قابس وصفاقس ومنهم بنو مكي رؤساء قابس لهذا العهد. ومنهم أيضا بواحات مصر فيما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حميد بن يصل وفي قبائل المغرب ص 120: حميد بن يصلتين.
[2] وفي نسخة أخرى: بنو وجديجن.
[3] وفي نسخة أخرى: عنان.(6/154)
ذكره المسعودي أمة عظيمة بالجيزة التي بينها وبين مصر. وكان لما قرب من هذه القصور شيخهم هنالك بدر بن سالم، وانتقض على الترك وسرحوا إليه العساكر فاستلحموا كثيرا من قومه، وفر إلى ناحية برقة وهو الآن في جوار العرب بها. ومن زناتة هؤلاء أحياء بنواحي تادلا قرب مراكش من الغرب الأقصى، ولهم هنالك كثرة. ويزعم كثير من الناس أنهم بنواحي جابر من عرب جشم، واختلطوا بهم وصاروا في عدادهم، ومنهم أوزاع مفترقون بمصر وقرى الصعيد شاوية وفلاحين، ومنهم أيضا بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة، ينزلون بسيط تاكرارت من أعمالها ويعتمرونها، فدنا لمزارعهم ومسارح لأنعامهم ومشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم، وعليهم للسلطان جباية مفروضة وبعث مضروب. هؤلاء المعروفون من بطون لواتة ولهم شعوب أخرى كثيرة اندرجوا في البطون وتوزعوا بين القبائل، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن بني فاتن من ضريسة إحدى بطون البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم)
وهم بطون مضغرة [1] ولماية وصدينة وكومية ومديونة ومغيلة ومطماطة وملزوزة ومكناسة ودونة، وكلهم من ولد فاتن بن تمصيب بن حريس [2] بن زحيك بن مادغيس الأبتر، ولهم ظهور من البرابر وأخبار، نسردها بطنا بطنا إلى آخرها. مضغرة: وهم من أوفر هذه الشعوب. وكانوا خصاصين آهلين. وكان جمهورهم بالمغرب منذ عهد الإسلام نشبوا في نشر الردة وضروبها [3] . وكان لهم فيها مقامات. ولما استوسق الإسلام في البربر أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقروا هنالك. ولما سرى دين الخارجية أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقرّوا هنالك.
ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذ مضغرة هؤلاء برأي الصفرية، وكان شيخهم ميسرة، ويعرف بالجفير مقدما فيه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مطغرة. وقد مرت معنا من قبل وتكتب على الوجهين.
[2] وفي نسخة أخرى: تمصيت بن ضريس.
[3] وفي نسخة أخرى: ونوبة الفتح وشئون الردّة وحروبها.(6/155)
ولما ولى عبيد الله بن الحبحاب على إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك، وأمره أن يمضي إليها من مصر، فقدمها سنة أربع عشرة ومائة واستعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة والمغرب الأقصى وابنه إسماعيل على السوس وما وراءه. واتصل أمر ولائهم وساءت سيرتهم في البربر ونقموا عليهم أحوالهم، وما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات والأردية [1] العسلية الألوان، وأنواع طرف المغرب، فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحالة. حتى كانت الصرمة من الغنم تهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها، ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه.
فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر وجورهم عليهم، وامتعض لذلك ميسرة الحسن [2] زعيم مضغرة الحسن وحمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة فقتلوه سنة خمس وعشرين [3] ومائة وولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خديم [4] الإفريقي الرومي الأصل، كان من موالي العرب وأهل خارجيتهم، وكان يرى رأي الصفرية، فولاه ميسرة على طنجة، وتقدم إلى السوس فقتله عامله إسماعيل بن عبد الله، واضطرم المغرب نارا وانتقض أمره على خلفاء المشرق فلم يراجع طاعتهم بعد.
وزحف بعض الحجاب إليه من القيروان في العساكر على مقدمة خالد بن أبي حبيب الفهري، فلقيهم ميسرة في جموع البرابرة فهزم المقدمة واستلحمهم، وقتل خالد.
وتسامع البربر بالأندلس بهذا الخبر فثاروا يعاملهم عقبة بن الحجاج السلولي وعزلوه، وولوا عبد الملك بن قطن الفهري، وبلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فسرح كلثوم بن عياض المري في اثني عشر الفا من جنود الشام، وولاه على إفريقية وأدال به من عبيد الله بن الحبحاب (القسم الثاني المجلد السادس) وزحف كلثوم إلى البرابرة سنة ثلاث وعشرين ومائة حتى انتهت مقدمته الى اسبو من أعمال طنجة فلقيه البرابرة هنالك مع ميسرة وقد فحصوا عن أوساط رءوسهم ونادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثم هزموه وقتلوه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الأفرية.
[2] وفي نسخة أخرى: ميسرة الحفيد وقد ذكر من قبل الحفير.
[3] وفي النسخة التونسية: سنة اثنتين وعشرين.
[4] وفي نسخة أخرى: عبد الأعلى بن خدع.(6/156)
وكان كيدهم في لقائهم إياه، وملئوا الشنان بالحجارة وربطوها بأذناب الخيل تنادي بها فتقعقع الحجارة في شنانها، وسرّبت [1] بمصاف العساكر من العرب فنفرت خيولهم واختل مصافهم وانجرب عليهم الهزيمة فافترقوا، وذهب بلج [2] مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة كما ذكرناه في أخبارهم. ورجع إلى القيروان أهل مصر وإفريقية، وظهرت الخوارج في كل جهة، واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى أن هلك ميسرة، وقام برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حارث منهم، وكان خلفا لمحمد بن خزر ومغراوة. ثم كان من بعد ذلك ظهور إدريس بالمغرب، فقدم بها البرابرة وتولى كبرها أوربة منهم كما ذكرناه. وكان على مضغرة يومئذ شيخهم بهلول بن عبد الواحد، فانحرف مالك عن إدريس إلى طاعة هارون الرشيد بمداخله إبراهيم بن الأغلب عامل القيروان، فصالحه إدريس وأنبأه بالسلم.
ثم ركد ريح مضغرة من بعد ذلك وافترق جمعهم، وجرت الدول عليهم أذيالها واندرجوا في عمال البربر الغارمين لهذا العهد بتلول المغرب وصحرائه. فمنهم ما بين فاس وتلمسان أمم يتصلون بكومية ويدخلون حلفهم، واندرجوا من لدن الدعوة الموحدية منهم ورياستهم لولد خليفة. كان شيخهم على عهد الموحدين، وبنى لهم حصنا بمواطنهم على ساحل البحر سمى تاونت. ولما انصرفت دولة بني عبد المؤمن واستولى بنو مرين على المغرب قام هارون بن موسى بن خليفة بدعوة يعقوب بن عبد الحق سلطانهم، وتغلّب على ندرومة، وزحف إليه يغمراسن بن زيان فاسترجع ندرومة من يده، وغلبه على تاونت. ثم زحف يعقوب بن عبد الحق إليهم وأخذها من أيديهم وشحنها بالأقوات، واستعمل هارون ورجع إلى المغرب فحدث هارون نفسه بالاستبداد، فدعا لنفسه معتصما بذلك الحصن خمس سنين.
ثم صاهره يغمراسن واستنزله على صلح سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ولحق هارون بيعقوب بن عبد الحق. ثم أجاز إلى الجهاد بإذنه واستشهد هنالك. وقام بأمر مضغرة من بعده أخوه تاشفين إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعمائة. واتصلت رياستهم على عقبه لهذا العهد. ومن قبائل مضغرة أمة بجبل قبلة فاس معروف بهم. ومنهم أيضا قبائل كثيرون بنواحي سجلماسة وأكثر أهلها منهم. وربما حدثت بها عصبية من جراهم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ومرّت.
[2] هو بلج بن بشر العبسيّ.(6/157)
ومن قبائل مضغرة أيضا بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها واغترسوا شجرة النخل على طريقة العرب، فمنهم بتوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيت آخر عملها، قوم كثيرون موطنون مع غيرهم من أصناف البربر.
ومنهم في قبلة تلمسان وعلى ستة مراحل منها، وهي قصور متقاربة بعضها من بعض ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران البدوي، معدود في آحاد الأمصار بالصحراء، ضاح من ظلّ الملك والدول لبعده في القفر. ورياسته في بني سيد الملك منهم. وفي شرقيها وعلى مراحل منها قرى أخرى متتابعة على سمتها متصاعدة قليلا إلى الجوف، آخرها على مرحلة من قبلة جبل راشد. وهي في مجالات بني عامر من زغبة وأوطانهم من القفر، وقد تملكوها لحظ أبنائهم [1] وقضاء حاجاتهم حتى نسبت إليهم في الشهرة. وفي جهة الشرق على هذه القصور وعلى خمس مراحل منها دامعة متوغلة في القفر تعرف بقليعة. الآن يعتمرها رهط من مضغرة هؤلاء. وينتهي إليها ظواعن عن الملثمين من أهل الصحراء بعض السنين إذا لفحهم الهجير، يستبردون في تلولها لتوغلها في ناحيتهم. ومن مضغرة هؤلاء أوزاع في أعمال المغرب الأوسط وإفريقية وللَّه الخلق جميعا.
(لماية) وهم بطون [2] كما ذكرناه أخوه مضغرة، ولهم بطون كثير عدّ منها سابق وأصحابه بنو زكرمار [3] ومزيزة ومليزة بنو مدنيين [4] كلهم من لماية. وكانوا ظواعن بإفريقية والمغرب، وكان جمهورهم بالمغرب الأوسط موطنين بسحومة مما يلي الصحراء. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الاباضية ودانوا به وانتحلوه وانتحله جيرانهم من مواطنهم تلك من لواتة وهوارة. وكانوا بأرض السرسو قبلة منداس وزواغة وكانوا في ناحية الغرب عنهم. وكانت مطماطة ومكناسة وزناتة جميعا في ناحية الجوف والشرق، فكانوا جميعا على دين الخارجية، وعلى رأي الاباضية منهم. وكان عبد الرحمن بن رستم من مسلمة الفتح، وهو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية، وقدم إلى إفريقية مع طوالع الفتح فكان بها. وأخذ بدين الخارجية
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لحطّ أثقالهم.
[2] بياض بالأصل وفي النسخة التونسية: بطون فاتن بن تمزيت. وفي نسخة أخرى: تمصيت.
[3] وفي نسخة أخرى: بنو زكوفا.
[4] وفي النسخة الباريسية: بنو مدين.(6/158)
والاباضية منهم. وكان صنيعة للمتة وحليفا لهم [1] .
ولما تحزب الاباضية بناحية طرابلس منكرين على ورفجومة فعلهم في القيروان كما مر، واجتمعوا إلى ابن الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمام الاباضية فملكوا طرابلس، ثم ملكوا القيروان، وقتل واليها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد، وأثخنوا في ورفجومة وسائر مغراوة [2] سنة إحدى وأربعين ومائة ورجع أبو الخطاب والاباضية الذين معه من زناتة وهوارة وغيرهم بعد ان استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. وبلغ الخبر بفتنة ورفجومة هذه واضطراب الخوارج من البربر بإفريقية والمغرب وتسلقهم على الكرسي للإمارة بالقيروان إلى المنصور أبي جعفر فسرح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكر إلى إفريقية، وقلده حرب الخوارج بها، فقدمها سنة أربع وأربعين ومائة ولقيهم أبو الخطاب في جموعه قريبا من طرابلس فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقتل أبو الخطاب وطار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكان إمارته في القيروان، فاحتمل أهله وولده ولحق باباضية المغرب الأوسط من البرابرة الذين ذكرناهم، ونزل على لماية لقديم حلف بينه وبينهم، فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة. وائتمروا في بناء مدينة ينصبون بها كرسي لإمارتهم، فشرعوا في بناء مدينة تاهرت في سفح جبل كزول السياح على تلول منداس، واختطوها على وادي ميناس النابعة منه عيون بالقبلة، وتمر بها وبالبطحاء إلى أن تصب في وادي شلف. فأسسها عبد الرحمن بن رستم واختطها سنة أربع وأربعين ومائة فتمدّنت واتسعت خطتها إلى أن هلك عبد الرحمن، وولي ابنه عبد الوهاب من بعده، وكان رأس الاباضية.
وزحف سنة ست وسبعين ومائة مع هوارة إلى طرابلس وبها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من قبل أبيه فحاصره في جموع الاباضية من البربر إلى أن هلك إبراهيم بن الأغلب واستقدم عبد الله بن الأغلب لإمارته بالقيروان، فصالح عبد الوهاب على أن تكون الصباحية لهم وانصرف الى مقوسة ولحق عبد الله بالقيروان، وولّى عبد الوهاب ابنه ميمونا، وكان رأس الأباضيّة والصفريّة والواصليّة. وانصرف إلى مقوسة والصفريّة والواصليّة. وكان يسلم عليه بالخلافة، وكان أتباعه من الواصلية وحدهم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكان شيعة لليمنية وحليفا لهم.
[2] وفي نسخة أخرى: نفزاوة.(6/159)
ثلاثين ألفا ظواعن ساكنين بالخيام. ولم يزل الملك في بني رستم هؤلاء بتاهرت وحازتهم جيرانهم من مغراوة وبني يفرن على الدخول في طاعة الأدارسة لما ملكوا تلمسان. وأخذت بها زناتة من لدن ثلاث وسبعين ومائة فامتنعوا عليهم سائر أيامهم، إلى أن كان استيلاء أبي عبد الله الشيعي على إفريقية والمغرب سنة ست وسبعين ومائة فغلبهم على مدينة تاهرت وابتزهم ملكهم بها.
وبثّ دعوة عبد الله في أقطار المغربين، فانقرض أمرهم بظهور هذه الدولة وعهد عروبة بن يوسف الكتامي فاتح المغرب للشيعة على تاهرت لأبي حميد دوّاس بن صولان الهيصيّ فغدا إلى المغرب سنة ثمان وتسعين ومائة فأمحى في مؤامرتها الاباضية من لماية وازداجة ولواتة ومكناسة ومطماطة، وحملهم على دين الرافضة وشيخ [1] بها دين الخارجية حتى استحكم في عقائدهم. ثم وليها أيام إسماعيل المنصور ابن صلاص بن حبوس [2] . ثم نزع إلى دعوة الأموية وراء البحر، ولحق بالخير بن محمد بن خزر صاحب دعوتهم في زناتة. واستعمل المنصور بعده على تاهرت ميسورا الحصني [3] مولاه وأحمد بن الزجالي من صنائعه، فزحف إليها حميد والخير وانهزم ميسور.
واقتحموا تاهرت عنده وتعصّبوا على أحمد الزجالي وميسور إلى أن أطلقوهما بعد حين.
ولم تزل تاهرت هذه بعد لأعمال الشيعة وصنهاجة سائر أيامهم، وتغلّب عليها زناتة مرارا ونازلها عسكر بني أمية راجعة في أثر زيري بن عطية أمير المغرب من مغراوة أيام أجاز المظفر بن أبي عامر من العدوة إلى حربه. ولم يزل الشأن هذا إلى أن انقرض أمر تلك الدول، وصار أمر المغرب الى لمتونة. ثم صار إلى دولة الموحدين من بعدهم، وملكوا المغربين. وخرج عليهم بنو غانية بناحية قابس، ولم يزل يجيء منهم جلب على ثغور الموحّدين وشنّ الغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط. وتكرر دخوله إليها عنوة مرّة بعد أخرى إلى أن احتمل سكانها وخلا جوّها وعفا رسمها لما يناهز عشرون من المائة السابعة، والأرض للَّه.
(وأما قبائل لماية) فانقرضوا وهلكوا بهلاك مصرهم الّذي اختطوه وحازوه وملكوه سنّة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فسخ.
[2] وفي نسخة أخرى: إسماعيل المنصور بصلاصن بن حبوس.
[3] وفي نسخة أخرى: الخصيّ.(6/160)
الله في عباده. وبقيت فرق منهم أوزاعا في القبائل، ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس، وهم بها لهذا العهد. وقد كان النصرانية من أهل صقلّيّة ملكوها على من بها من المسلمين، وهي قبائل لماية وكتامة مثل: جربة وسدويكش ووضعوا عليهم الجزية وشيّدوا على ساحل البحر بها معقلا كافيا لإمارتهم سمّوه القشتيل. وطال تمرّس العساكر به من حضرة الدولة الحفصية بتونس حتى كان افتتاحها أعوام ثمان وثلاثين من المائة الثامنة في دولة مولانا السلطان أبي بكر، وعلى يد مخلوف بن الكماد من صنائعه. واستقرت بها الدعوة الإسلامية إلى هذا العهد. إلا أن القبائل الذين بها من البربر لم يزالوا يدينون لدين الخارجيّة ويتدارسون مذاهبهم مجلدات تشتمل على تآليف لأئمتهم في قواعد ديانتهم وأصول عقائدهم وفروع مذاهبهم يتناقلونها ويعكفون على دراستها وقراءتها والله خلقكم وما تعملون.
(مطماطة) وهم إخوة مضغرة ولماية من ولد فاتن بن تمصيت الذين مرّ ذكرهم، وهم شعوب كثيرة. وعن سابق المطماطي وأصحابه من النسابة أن اسم مطماط مصكاب، ومطماط لقب له وأن شعوبهم من لوا بن مطماط وأنه كان له ولد آخر اسمه ورنشيط، ولم يذكروا له عقبا قالوا: وكان للوا أربعة من الولد: ورماس ومبلاغر ووريكول ويليص [1] . ولم يعقب يليص وأعقب الثلاثة الباقون، ومنهم افترقت شعوب مطماطة كلّها، فأما ورماس فمنه مصمود ويونس ويفرين، وأما وريكول فكان له من الولد كلدام وسيده وقيدر [2] ولم يعقب سيده ولا قيدر وكان لكلدام عصفراص وسليايان فمن سليايان وريغني ووصدى وقسطايان وعمرو ويقال لهؤلاء الخمسة بنو وصطلودة سمّوا بأمهم. وكان لعصفراص زهاص ونهراص [3] فمن عصفراص ورهل وحامد وسكوم [4] ، ويقال لهم بنو تليكشان [5] سمّوا بأمهم وكان من زهاص بلست وبصلاتين فمن بلست ورسقلاسن وسكر ومحمد ومكريل ودكوال [6] . ومن يصلاسن بان يولى وسمساسن ومسامر وملوسن ويحمد ونافع وعبد الله
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ورماكسن ويلاغف ووريكول ويليصن.
[2] وفي نسخة أخرى: كلثام ومسيده وفيدن.
[3] وفي نسخة أخرى: وكان لعصفراصن يرهاض ويصراصن.
[4] وفي نسخة أخرى: فمن يصراصن ورتجين ووريكول وجليدا وسكوم.
[5] وفي نسخة أخرى: تليفكتان.
[6] وفي نسخة أخرى: وكان ليزهاض بليث ويصلاسن فمن بليث ورسفلاسن وسكن ومحمد ومكديل ودكوال.(6/161)
وعردابين [1] وأما يلاغف بن لوا بن مطماط فكان له من الولد دحيا وتاينة فمن تاينة ماحرسكن وريغ وعجلان ومقام وقرة [2] . وكان لدحيا ورتجى ومحديل. فمن ورتجى مغرين وبور ورسيكم وممجيس. ومن محديل ماكور وأشكول وكفلان ومذكور وفطارة وأبورة [3] . هذه شعوب مطماطة كما ذكر نسّابة البربر سابق وأصحابه، وهم مفرقون في المواطن، فمنهم من نواحي فاس من قبلتها في جبل هنالك معروف بهم ما بين فاس وصفروى، ومنهم بجهات قابس والبلد المختط على العين الحامية من جهة غربها، منسوب إليهم. ولهذا العهد يقال حمة مطماطة، ويأتي ذكرها في الدولة الحفصيّة وممالك إفريقية وبقاياهم أوزاع من القبائل، وكانت مواطن جمهورهم بتلول منداس عند جبل وانشريس وجبل كزول من نواحي تاهرت. وكان لهم بتلك المواطن عزم بدولة صنهاجة واستفحال وصولة. وفي فتنة حمّاد بن بلكّين مع باديس المنصور مقامات وآثار. وكان كبيرهم يومئذ عزانة، وكانت له مع البرابرة المجاورين له من لواتة وغيرهم حروب وأيام.
(ولما هلك) عزانة قام بأمره في مطماطة ابنه زيري فمكث فيهم أياما. ثم غلبت صنهاجة على أمره فأجاز البحر إلى العدوة، ونزل على المنصور بن أبي عامر فاصطنعه ونظمه في طبقة الأمراء من البربر الذين كانوا في جملته، واستظهره على أمره فكان من أوجه رجالهم عنده، وأعظمهم قدرا لديه، إلى أن هلك، وأجراه ابنه المظفّر من بعده وأخوه عبد الرحمن الناصر على سنن أبيهما في ترفيع مكانه وإخلاص ولايته، وكان عند ثورة محمد بن هشام بن عبد الجبّار غائبا مع أبي عامر في أعراب النعمان مع من كان معه من أمراء البربر وعرفائهم. فلما رأوا انتقاض أمره وسوء تدبيره لحقوا بمحمد بن هشام المهدي فكانوا معه إلى أن كانت الفتنة البربرية بالأندلس إلى أن هلك هنالك. ولا أدري أي السنين كان مهلكه. وأجاز إلى الأندلس أيضا من فصالهم بهلا بهلا من أبي لواي يصلاص [4] ونزل على الناصر، وهو من أهل العلم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ومن يصلاسن: فان يولين ويتماسن وماركسن ومسافر وفلوسن وربجيد ونافع وعبد الله وغرزاي.
[2] وفي نسخة أخرى: وكان له من الولد دهيا وثابتة فمن ثابتة ماجرسن وريغ وعجلان ويغام وقرة.
[3] وفي نسخة أخرى: وكان لدهيا ورتجى ومجلين. فمن ورتجى مقرين وثور وسكم وعمجميس. ومن مجلين ماكور وأشكول وكيلان ومذكون وقطارة وأبورة.
[4] وفي نسخة أخرى: وأجاز إلى الأندلس أيضا من رجالاتهم كهلان بن أبي لوا بن يصلاصن.(6/162)
بأنساب البربر. (وكان من مشاهيرهم) أيضا النسّابة سابق بن سليمان بن حرّاث بن مولات بن دوياسر [1] وهو كبير نسّابة البربر ممن علمناه. (وكان منهم) أيضا عبد الله بن إدريس كاتب الخراج لعبيد الله المهدي في آخرين يطول ذكرهم أهـ.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: دوفاس.(6/163)
وهذا ما تلقيناه من أخبار مطماطة (وأما موطن منداس) فزعم بعض الأخباريّين من البربر ووقفت على كتابه في ذلك أنه سمّي بمنداس بن مغر بن أوريغ بن لهرر بن المساو وهو هوارة [1] وكأنه والله أعلم يشير إلى أداس بن زحيك الّذي يقال إنه ربيب هوّار كما يأتي في ذكرهم، إلا أنه اختلط عليه الأمر. وكان لمنداس من الولد شراوة وكلتوم وتبكم [2] . قال: ولما استفحل أمر مطماطة وكان شيخهم لهذا العهد إهاص ابن عصفراص فأخرج منداس من الوطن وغلبه على أمره، واعتمر بنوه موطن منداس ولم يزالوا به أهـ. كلامه ولقيه هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل أوتبتيش [3] ، لحقوا به لما غلبهم بنو توجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد قبائل الغارمة.
والله وارث الأرض ومن عليها.
(مغيلة) وهم إخوة مطماطة ولماية كما قلناه، وإخوتهم ملزوزة معدودون منهم.
وكذلك دونة وكشاتة ولهم افتراق في الوطن. وكان منهم جمهوران: أحدهما بالمغرب الأوسط عند مصب شلف في البحر من صوادر مادونه [4] ، المصر لهذا العهد. ومن ساحلهم أجاز عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ونزل بالمنكب فكان منهم أبو قرة المغيلي الدائن بدين الصّفريّة من الخوارج ملك أربعين سنة. وكانت بينه وبين أمراء العرب بالقيروان لأول دولة بني العبّاس حروب ونازل طبنة. وقد قيل إن أبا قرة هذا من بني مطماطة وهذا عندي صحيح. فلذلك أخّرت ذكر أخباره إلى أخبار بني يفرن من زناتة.
(وكان) منهم أيضا أبو حسان ثار بإفريقية لأوّل الإسلام، وأبو حاتم يعقوب بن لبيب بن مرين بن يطوفت من مازور الثائر مع أبي قرة سنة خمسين ومائة. وتغلّب على القيروان فيما ذكر خالد بن خراش وخليفة بن خياط من علمائهم. وذكروا من رؤسائهم أيضا موسى بن خليد ومليح بن علوان وحسّان بن زروال الداخل مع عبد الرحمن. وكان منهم أيضا دلول بن حمّاد أميرا في سلطان يعلى بن محمد اليفرني، وهو الّذي اختطّ بلد ايكري على اثني عشر ميلا من البحر، وهي لهذا العهد خراب لم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: منداس بن مغر بن أوريغ بن كبوري بن المثنى وهو هوار.
[2] وفي نسخة أخرى: تكّم.
[3] وفي نسخة أخرى: جبل وادشنيش.
[4] وفي نسخة أخرى: من ضواحي مازونة.(6/164)
يبق منها إلّا الأطلال ماثلة. ولم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع ولا حيّ. وكان جمهورهم الآخر بالمغرب الأقصى وهم الذين تولوا مع أوربة وصدينة القيام بدعوة إدريس بن عبد الله لمّا لحق بالمغرب وأجازه، وحملوا قبائل البربر على طاعته والدخول في أمره. ولم يزالوا على ذلك إلى أن اضمحلت دولة الأدارسة وبقاياهم لهذا العهد بمواطنهم ما بين فاس وصفرون ومكناسة والله وارث الأرض ومن عليها.
(مديونة) وهم من إخوة مغيلة ومطماطة من ولد فاس كما قلناه، وكانت مواطن جمهورهم بنواحي تلمسان ما بين جبل بني راشد لهذا العهد إلى الجبل المعروف بهم قبلة وجدة، يتقلّبون بظواعنهم في ضواحيه وجهاته. وكان بنو يلومي وبنو يفرن من قبلهم يجاورونهم من ناحية المشرق، ومكناسة من ناحية المغرب وكومية وولهاصة من جهة الساحل.
(وكان) من رجالاتهم المذكورين جرير بن مسعود كان أميرا عليهم، وكان مع أبي حاتم وأبي قرة في فتنتهم، وأجاز إلى الأندلس في طوالع الفتح كثير منهم، فكان لهم هنالك استفحال. وخرج هلال بن أبزيا منهم يشتدّ به [1] على عبد الرحمن الداخل متبعا شقيا المكناسي في خروجه. ثم راجع الطاعة فقتله وكتب له على قومه، فكان بشرق الأندلس، وشنت مريّة. ثم خلفه بها من قومه نابتة بن عامر. ولما تغلّب بنو توجين وبنو راشد من زناتة على ضواحي المغرب الأوسط وكان مديونة هؤلاء قد قلّ عددهم وفلّ حدّهم فداخلتهم زناتة على الضواحي من مواطنهم وتملكوها، وصارت مديونة إلى الحصون من بلاده بجبل ماساله [2] وجبل وجده المعروف بهم. وضربت عليهم المغارم وتمرست بهم بهم الأيام، فلم يبق منهم هنالك إلا صبابة محترفون بالفلح. ومنهم أيضا أوزاع في القبائل مندرجون فيهم. وبنواحي فاس ما بينها وبين صفرون قبيلة منهم مجاورة لمغيلة، والله يرث الأرض ومن عليها.
كومية وهم المعروفون قديما بصطفورة إخوة مطاية ومضغرة، وهم من ولد فاتن كما قدّمنا، ولهم ثلاث بطون منها تفرّعت شعوبهم وقبائلهم وهي ندرومة ومغارة [3]
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بشنتمرية وتسمى اليوم فارو وتقع في البرتغال وهي عاصمة المقاطعة التي تسمى اليوم الغرب (مجلة البيّنة/ 35) .
[2] وفي نسخة أخرى: تاسالة، وهي بلاد جبلية قريبة من الشاطئ قبائل المغرب/ 52.
[3] وفي نسخة أخرى: صفاره.(6/165)
وبنو يلول، فمن ندرومة مفوطة وحرسة ومردة ومصمانة ومراتة ومن بني يلول مسيقة ورتيوة وهنشبة وهيوارة ووالغة. ومن مغارة ملتيلة وبنو حباسة [1] وكان منهم النسّابة المشهور ماني بن مصدور بن مريس بن نقوط هذا هو المعروف في كتبهم. وكانت مواطن كومية بالمغرب الأوسط لسيف البحر من ناحية أرشكول وتلمسان. وكان لهم كثرة موفورة وشوكة مرهوبة. وصاروا من أعظم قبائل الموحّدين لما ظاهروا المصامدة على أمر المهدي وكلمة توحيده. وربّما كانوا رهط عبد المؤمن صاحبه وخليفته، فإنه كان من بني عابد أحد بيوتاتهم، وهم عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلي بن مروان بن نصر بن علي بن عامر بن الأمير بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن وريغ بن صطفور هكذا نسبه مؤرّخو دولة الموحّدين إلى صطفور. ثم يقولون صطفور بن نفور ابن مطماط بن هودج بن قيس عيلان بن مضر. ويذكر بعضهم أنّ في خط أبي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فأما انتسابهم في قيس عيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح. وفي أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدلّ على أنه مصنوع، إذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر وإنما هي كما تراه كلها عربية والقوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم، وانتساب صطفور إلى مطماط تخليط أيضا فإنّهما أخوان عند نسّابة البربر أجمع، وعبد المؤمن بلا شك منهم، والله أعلم بما سوى ذلك.
وكان عبد المؤمن هذا من بيوتاتهم وأشرافهم وموطنهم بتاكرارت، وهو حصن في الجبل المطل على هنين من ناحية الشرق. ولما نجح عبد المؤمن منهم وثب وارتحل في طلب العلم فنزل بتلمسان، وأخذ عن مشيختها مثل ابن صاحب الصلاة وعبد السلام البرنسي [2] وكان فقيها صالحا، وهو ضجيع الشيخ أبي مدين في تربته. ولما هلك عبد السلام هذا، ولم يحذق تلميذه بعد في فنونه وكان شيخ عصره في الفقه والكلام. تعطّش التلميذ بعده إلى القراءة، وبلغهم خبر الفقيه محمد بن تومرت المهدي، ووصل إلى بجاية، وكان يعرف إذ ذاك بالفقيه السوسي ونسبته إلى السوس.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فمن ندرومه نغوطة وحرسة وفردة وهفافة وفراثة، ومن بني يلول: مسيفة ووثيوة وهبيشة وهيوارة ووالغة. ومن صغارة ماتيلة وبنو حيّاسة.
[2] وفي نسخة أخرى: التونسي.(6/166)
ولم يكن لقب المهدي وضع عليه بعده.
وكان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه مع تغيير المنكر الّذي شأنه وطريقته نشر العلم وتبين الفتاوى وتدريس الفقه والكلام. وكان له في طريقته الأشعرية إمامة وقدم راسخة. وهو الّذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه، وتشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه وتفاوضوا في ذلك، وندب بعضهم بعضا إلى الرحلة إليه لاستجلابه، وأن يكون له السبق باتحاف القطر بعلومه، فانتدب لها عبد المؤمن بن عليّ مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته، فارتحل إلى بجاية للقائه وترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة، وقد استحكمت بينه وبين العزيز النفرة وبنو ورياكل متعصّبون على إجارته منهم، ومنعه من إذايته والوصول إليه. فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب، وأدّى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها، وشأنه غير شأنهم.
وعكف عبد المؤمن على التعليم والأخذ عنه في ظعنه ومقامه. وارتحل إلى المغرب في صحابته، وصدق في العلم وآثره الإمام بمزيد الخصوصية والقرب، بما خصّه الله به من الفهم والوعي للتعليم، حتى كأنه خالصة لإمام وكنز صحابته. وكان يؤمله لخلافته لما ظهر عليه من الشواهد المدوّنة بذلك. ولما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من موطن العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة، قرّبوا إليه حمارا فارها يتّخذه له عطية لمركوبه، فكان يؤثر به عبد المؤمن ويقول لأصحابه: أركبوه الحمار يركبكم الخيول المسوّمة. ولما بويع له بهرغة سنة خمس عشرة وخمسمائة، واتفقت على دعوته كلمة المصامدة وحاربوا لمتونة نازلوا مراكش.
وكانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحّدين الألف، فقيل للإمام إنّ الموحّدين قد هلكوا. فقال لهم: ما فعل عبد المؤمن؟ قالوا هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء. فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد. ولما احتضر الإمام سنة اثنتين وعشرين [وخمسمائة] عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن، واستراب من العصبية بين المصامدة فكتم موت المهدي وأرجأ أمره حتى صرّح الشيخ أبو حفص أمير هنتاتة وكبير المصامدة لمصاهرته. وأمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر واستبد بشياخة الموحّدين وخلافة المسلمين. ونهض سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى فتح المغرب فدانت له غمارة. ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية، ثم إلى(6/167)
مطالة [1] ثم إلى بني يزناسين. ثم إلى مديونة ثم إلى كومية وجيرانهم ولهاصة، وكانوا يلونهم في الكثرة فاشتدّ عضده بقومه، ودخلوا في أمره وشايعوه على تمكين سلطانه بين الموحّدين وخلافته. ولما رجع إلى المغرب وافتتح أمصاره واستولى على مراكش استدعى قومه للرحلة إليها والعسكرة عليه بحب جمهورهم إلى المغرب واستوطن مراكش لحمل سرير الخلافة والقيام بأمر الدعوة والذبّ عن ثغورهم والمدافعة، فاعتضد بهم عبد المؤمن وبنوه سائر الدولة، وكانوا بمكانتهم فاتحة الكتاب وتداركه [2] الجماعة. وتقدّموا في الفتوح والعساكر وأكلتهم الأقطار في تجهيز الكتائب تدويخ الممالك، فانقرضوا، وبقي بمواطنهم الأولى بقايا منهم: بنو عابدوهم في عداد القبائل الغارقة قد انقلب زمانهم فأمهلهم [3] فحملوا المغرم، وألفوا نهوضهم بالتكاليف. ونظموا مع جيرانهم ولهاصة في سوم الخسف والذلّ واقتضاء الخراج بالنكال والعذاب، والله مبدّل الأمر ومالك الملك سبحانه.
(الخبر عن زواوة وزواغة من بطون ضرسة من البرابر البتر والإلمام ببعض أحوالهم)
هؤلاء البطون من بطون البرابرة البتر، من ولد سمكان بن يحيى بن ضري بن زحيك ابن مادغيس الأبتر. وأقرب ما يليهم من البرابر زناتة لأن أباهم أجانا هو أخو سمكان ابن أبيه فلذلك كانوا ذوي قربى لهم.
(زواوة) فأمّا زواوة فهم من بطونهم، وقد يقال إن زواوة من قبائل كتامة، ذكر ذلك ابن حزم، ونسّابة البربر إنما يعدونهم من ولد سمكان كما قلناه، والصحيح عندي ما ذكره ابن حزم. ويشهد له الموطن ونحلة الشيع مع كتامة لعبد الله. وعدّ نسّابة البربر ولهم بطون كثيرة: بنو مجسطة وبنو مليكش وبنو كوفي ومشداله وبنو زريقف وبنو كوزيت وكرسفينة ووزلجة وخوجة وزكلاوة وبنو مرانه، ويقال إن بني مليكش من صنهاجة والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بطالسة.
[2] وفي نسخة أخرى: فذلكة.
[3] وفي نسخة أخرى: قد أثقلت زناتة كاهلهم فحملوا المغرم.(6/168)
ومن قبائلهم المشهور لهذا العهد بنو بجرو وبنو مابكلات وبنو مترون وبنو ماني وبنو بوعردان وبنو تورغ [1] ، وبنو بو يوسف، وبنو عبسي، وبنو بو شعيب، وبنو صدقة، وبنو غبرين، وبنو كشطولة. ومواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة أوطنوا عنها جبالا شاهقة متوعّرة تنذعر منها الأبصار ويضلّ في غمرها السالك مثل بني غبرين بجبل زيري، وفيه شعراء من شجر الزان يشهد بها لهذا العهد. ومثل بني فرلوسن وبني سرا [2] ، وجبلهم ما بين بجاية وتدلس وهو أعظم معاقلهم وأمنع حصونهم، فلهم به الاعتزاز على الدول والخيار عليها في إعطاء المغرم، مع أنّ كلهم لهذا العهد قد امتنع لساهمه واعتز على السلطان في أبناء طاعته وقانون مزاجه.
وكانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم والحرب بما كانوا أولياء لكتامة، وظهر أوّلهم على أمرهم من أول الدولة، وقتل بادس بن المنصور في إحدى وقائعه بهم، وشيخهم زيري بن أجانا لاتهامه أباه في أمر حمّاد. ثم واختط بنو حمّاد بعد ذلك بجاية وتمرّسوا بهم، فانقادوا وأذعنوا لهم إلى آخر الدولة، واتصل إذعانهم إلى هذا العهد إلا تمريضا يحملهم عليه الموثقون بمنعة جبالهم. وكانت رياسة بني يراثن منهم في بني عبد الصمد من بيوتاتهم وكاتب عبد ثعلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط شيخة عليهم من بني عبد الصمد هؤلاء اسمها شمسي، وكان لها عشرة من الولد فاستفحل شأنها بهم وملكت عليهم أمرهم.
ولما تقبّض السلطان أبو الحسن على ابنه يعقوب المكنّى بأبي عبد الرحمن عند ما فرّ من معسكره بمتيجة سنة ثمان أو سبع وثلاثين وسرّح في أثره الخيالة فرجّعوه واعتقله. ثم قتله من بعد ذلك حسبما يذكر في أخبارهم. لحق حينئذ بني يراثن هؤلاء خازن من مطبخه فموّه عليهم باسمه وشبّه بتمثاله ودعا إلى الخروج على ابنه بزعمه فشمّرت شمسي هذه عزائمها في إجازته وحملت قومها على طاعته. وسرّب السلطان أبو الحسن أمواله في قومها وهما على السلامة فأبته: ثم نمي إليها الخبر بمكره وتمويهه فنبذت إليه عهده، وخرج عنها إلى بلاد العرب كما نذكر بعض ذلك في أخبارهم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنو بجرو وبنو مانكلات وبنو يترون وبنو ماني وبنو بوغروان وبنو يتورغ.
[2] وفي نسخة أخرى: فراسن وبني براثن.(6/169)
وقدمت على السلطان أبي الحسن في وفد من قومها وبعض بنيها فاستبلغ السلطان من تكريمها، وأحسن صلتها وأجاز الوفد ورجعت بهم إلى موطنها، ولم تزل الرئاسة في هذا البيت.
(زواغة)
وأما زواغة فلم يتأدّ إلينا من أخبارهم وتصاريف أحوالهم ما نعمل فيه الأقلام. ولهم ثلاثة بطون وهي: دمّر بن زواغ وبنو واطيل بن زحيك بن زواغ وبنو ماخر بن تيغون من زواغة. ومن دمّر بنو سمكان وهم أوزاع في القبائل. ومنهم بنواحي طرابلس مفترقون في براريها ولهم هنالك الجبل المعروف بدمّر. وفي جهات قسنطينة أيضا رهط من زواغة، وكذلك بجبال شلف بنو واطيل منهم وبنواحي فاس آخرون. وللَّه الخلق والأمر.
الخبر عن مكناسة وسائر بطون بني ورصطف وما كان لمكناسة من الدول بالمغرب وأوّلية ذلك وتصاريفه
كان لورصطف بن يحيى، وهو أخو أجانا بن يحيى وسمكان بن يحيى ثلاثة من البطون، وهم: مكناسة وورتناجة وأوكتة. ويقال مكنه وبنو ورتناجة أربعة بطون سدرجة ومكسة وبطالسة وكرنيطه. وزاد سابق وأصحابه في بطونهم هناطة وفولالة، وكذلك عدّوا في بطون مكنه: بني درطين وبني فولالين وبني يزين وبني جرين وبني بوعال [1] . ولمكناسة عندهم أيضا بطون كثيرة منها: صولات وبوحاب وبنو ورفلاس وبنو وردنوس وقيصارة ونبعة وورقطنة [2] . وبطون ورصطف كلهم مندرجون في بطون مكناسة، وكانت مواطنهم على وادي ملويّة من لدن أعلاه سجلماسة إلى مصبّه في البحر، وما بين ذلك من نواحي تازا وتسول. وكانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني يصلتن وبني تولالين وبني ترين وبني جرتن وبني فوغال.
[2] وفي نسخة أخرى: صولات وبنو حوّات وبنو ورفلاس وبنو وريدوس وقنصارة وورنيقة ووريفلتة.(6/170)
رياستهم جميعا في بني ابايرون [1] واسمه مجدول بن تاقريس بن فراديس بن ونيف بن مكناس. وأجاز منهم إلى العدوة عضد الفتح أمم. وكانت لهم بالأندلس رياسة وكثرة، وخرج منهم على عبد الرحمن الداخل شعيا بن عبد الواحد سنة إحدى وخمسين واعتصم بشنتمرية ودعا لنفسه منتسبا إلى الحسن بن عليّ. وتسمّى عبد الله ابن محمد وتلقّب بالفاطمي، وكانت بينه وبين عبد الرحمن حروب إلى أن غلبه ومما أثر ضلالته. وكان من رجالتهم لعهد دولة الشيعة مصالة بن حبّوس بن منازل اتصل بعبيد الله الشيعي، وكان من أعظم قوّاده وأوليائه، وولّاه تاهرت وافتتح له المغرب وفاس وسجلماسة.
ولما هلك أقام أخاه يصلتين بن حبّوس مقامه في ولاية تاهرت والمغرب. ثم هلك وأقام ابنه حميدا مقامه فانحرف عن الشيعة، ودعا لعبد الرحمن الناصر. واجتمع مع بني خزر أمراء جراوة على ولاية المروانية. ثم أجاز إلى الأندلس وولي الولايات أيام الناصر وابنه الحكم، وولي في بعضها تلمسان بدعوتهم. ثم هلك وأقام ابنه لرصل [2] بن حميد وأخوه يباطن بن يصلتين وعلى ابن عمّه من ماله في ظل الدولة الأموية إلى أن أجاز المظفّر بن أبي عامر إلى المغرب فولي يصل بن حميد سجلماسة كما نذكره. ثم أن رياسة مكناسة بالعدوة انقسمت في بني أبي نزول، وانقسمت مسايل [3] مكناسة بانقسامها. وصارت رياسة مكناسة في مواطن سجلماسة وما إليها من بني واسول بن مصلان بن أبي نزول، ورياسة مكناسة بجهات تازا وتوسول وملوية ومليلة لبني أبي العافية بن أبي نائل بن أبي الضحّاك بن أبي نزول. ولكل واحد من هذين الفريقين في الإسلام دولة وسلطان صاروا به في عداد الملوك كما نذكره.
(الخبر عن دولة بني واسول ملوك سجلماسة وأعمالها من مكناسة)
كان أهل مواطن سجلماسة من مكناسة يدينون لأوّل الإسلام بدين الصّفريّة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبي يزول.
[2] وفي نسخة أخرى: نصل وفي النسخة التونسية يصل وفي النسخة الباريسية فضل.
[3] وفي نسخة أخرى: قبائل.(6/171)
الخوارج لقنوه عن أئمتهم ورءوسهم من العرب لما لحقوا من المغرب وأسروا على الامتناع وماجت أقطار المغرب لفتنة ميسرة. فلما اجتمع على هذا المذهب زهاء أربعين من رجالاتهم نقضوا طاعة الخلفاء وولّوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب ورءوس الخوارج. واختطّوا مدينة سجلماسة لأربعين ومائة من الهجرة. ودخل سائر مكناسة من أهل تلك الناحية في دينهم. ثم سخطوا أميرهم عيسى ونقموا عليه كثيرا من أحواله فشدّوه كتافا ووضعوه على قنّة جبل إلى أن هلك سنة خمس وخمسين ومائة واجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم سمكو بن واسول بن مصلان [1] بن أبي نزول. كان أبوه سمقو [2] من حملة العلم، ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى ابن عباس، ذكره عريب بن حميد في تاريخه، وكان صاحب ماشية وهو الّذي بايع لعيسى بن يزيد وحمل قومه على طاعته فبايعوه من بعده.
وقاموا بأمره إلى أن هلك سنة سبع وستين ومائة لمنتهى عشر سنين [3] من ولايته.
وكان أباضيا صفريّا. وخطب في عمله للمنصور والمهدي من بني العبّاس. ولمّا هلك ولّوا عليهم ابنه إلياس، وكان يدعى بالوزير. ثم انتقضوا عليه سنة أربع وتسعين ومائة فخلعوه وولّوا مكانه أخاه اليسع بن أبي القاسم وكنيته أبو منصور، فلم يزل أميرا عليهم، وبنى سور سجلماسة لأربع وثلاثين سنة من ولايته. وكان أباضيا صفريّا. وعلى عهده استفحل ملكهم بسجلماسة. وهو الّذي أتمّ بناءها وتشييدها، واختطّ بها المصانع والقصور، وانتقل إليها آخر المائة الثانية، ودوّخ بلاد الصحراء وأخذ الخمس من معادن درعة، وأصهر لعبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بابنه مدرار في ابنته أروى فأنكحه إياها.
ولما هلك سنة ثمان ومائتين ولي بعده ابنه مدرار ولقبه المنتصر، وطال أمر ولايته.
وكان له ولدان اسم كلّ واحد منهما ميمون، أحدهما لأروى بنت عبد الرحمن بن رستم، وقيل إنّ اسمه أيضا عبد الرحمن. والآخر لبغي [4] وتنازع في الاستبداد على
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مصلات بن أبي يزول.
[2] وفي النسخة الباريسية: ابو سمقو وفي نسخة أخرى أبو سمكو.
[3] وفي النسخة التونسية: لاثنتي عشرة سنة من ولايته.
[4] وفي نسخة ثانية: لتقي.(6/172)
أبيه، ودامت الحرب بينهما ثلاث سنين. وكانت لأبيهما مدرار صاغية إلى ابن أروى فمال معه حتى غلب أخاه فأخذه وأخرجه عن سجلماسة. ولم يلبث أن خلع أباه واستبد بأمره، ثم ساءت سيرته في قومه ومدينته، فخلعوه وصار الى درعة وأعادوا مدرارا الى أمره. ثم حدّث نفسه بإعادة ابنه ميمون ابن الرستميّة إلى إمارته بصاغية إليه فخلعوه ورجعوا ابنه ميمونا بن التقي، وكان يعرف بالأمير.
ومات مدرار إثر ذلك سنة ثلاث وخمسين ومائتين لخمس وأربعين من ملكه، وأقام ابنه ميمون في استبداده إلى أن هلك سنة ثلاث وستين ومائتين وولي ابنه محمد، وكان أباضيّا وتوفي سنة سبعين ومائتين فولي اليسع بن المنتصر، وقام بأمره ولحق عبيد الله الشيعي وابنه وأبو القاسم بسلجماسة لعهده. وأوعد المعتضد إليه في شأنهما، وكان على طاعته، فاستراب بهما وحبسهما إلى أن غلب الشيعي بني الأغلب، وملك رقادة، فزحف إليه لاستخراج عبيد الله وابنه من محبسه، وخرج إليه اليسع في قومه مكناسة فهزمه أبو عبد الله الشيعي، واقتحم عليه سجلماسة وقتله سنة ست وتسعين ومائتين واستخرج عبيد الله وابنه من محبسهما وبايع لهما. وولّى عبيد الله المهديّ على سجلماسة إبراهيم بن غالب المراسي [1] من رجالات كتامة، وانصرف إلى إفريقية.
ثم انتقض أمراء سجلماسة على واليهم إبراهيم فقتلوه ومن كان معه من كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين وبايعوا الفتح بن ميمون الأمير ابن مدرار ولقبه واسول، وميمون ليس هو ابن المتقي [2] الّذي تقدّم ذكره وكان أباضيا. وهلك قريبا من ولايته لرأس المائة الثالثة، فولي أخوه أحمد واستقام أمره إلى أن زحف مصالة بن حبّوس في جموع كتامة ومكناسة إلى المغرب سنة تسع وثلاثمائة، فدوّخ المغرب وأخذهم بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي. وافتتح سجلماسة وتقبّض على صاحبها أحمد بن ميمون بن مدرار وولّى عليها ابن عمّه المعتز بن محمد بن ساور [3] بن مدرار، فلم يلبث أن استبد وبلغها المعتز، وهلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة قبيل ملك المهدي، وولي من بعده ابنه أبو المنتصر محمد بن المعتز فمكث عشرا.
ثم هلك وولي من بعده ابنه المنتصر سمكو شهرين، وكانت جدّته تدبّر أمره لصغره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المزاتي.
[2] وفي النسخة التونسية: وميمون أبوه، هو ابن التقي.
[3] وفي نسخة أخرى: بسّاور.(6/173)
ثم ثار عليه ابن عمّه محمد بن الفتح بن ميمون الأمير وتغلّب عليه، وشغب عليه [1] بنو عبيد الله لفتنة ابن أبي العافية وتاهرت، ثم نقلته إلى أبي يزيد بعدهما فدعا محمد ابن الفتح لنفسه مموّها بالدعوة لبني العبّاس. وأخذ بمذاهب أهل السنّة ورفض الخارجيّة، ولقّب الشاكر باللَّه، واتخذ السكة باسمه ولقبه. وكانت تسمّى الدراهم الشاكريّة. كذا ذكره ابن حزم وقال فيه: وكان في غاية العدل حتى إذا فزع له بنو عبيد وحمت الفتنة [2] زحف جوهر الكاتب أيام المعز لدين الله في جموع كتامة وصنهاجة وأوليائهم إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فغلب على سجلماسة وملكها.
وفرّ محمد بن الفتح إلى حصن تاسكرات على أميال من سجلماسة وأقام به.
ثم دخل سجلماسة متنكرا فعرفه رجل من مضغرة وأنذر به، فتقبّض عليه جوهر، وقاده أسيرا إلى القيروان مع أحمد بن بكر صاحب فاس كما نذكره، وقفل إلى القيروان، فلما انتقض المغرب على الشيعة، وفشت بدعة الأمية [3] وأخذ زناتة بطاعة الحكم المنتصر، ثار بسلجماسة قائم من ولد الشاكر وباهي [4] المنتصر باللَّه. ثم وثب عليه أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله، وقام بالأمر مكانه. وتلقّب المعتز باللَّه.
وأقام على ذلك مدّة وأمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال، وأمر زناتة قد استفحل بالمغرب عليهم إلى أن زحف حرزون [5] بن فلفول من ملوك مغراوة إلى سجلماسة سنة ست وستين وثلاثمائة وأبرز إليه أبو محمد المعتز فهزمه حرزون وقتله، واستولى على بلده وذخيرته، وبعث برأسه إلى قرطبة مع كتاب الفتح. وكان ذلك لأوّل حجابة المنصور بن أبي عامر، فنسب إليه واحتسب له لحدا بقبة [6] ، وعقد لحرزون على سجلماسة، فأقام دعوة هشام بأنحائها فكانت أوّل دعوة أقيمت لهم بالأمصار في المغرب الأقصى، وانقرض أمر بني مدرار ومكناسة من المغرب أجمع
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وشغل عنه بنو عبيد الله بفتنة ابن أبي العافية
[2] وفي النسخة التونسية: حتى إذا فزع له بنو عبيد من الفتن.
[3] وفي النسخة التونسية: وفشت دعوة الأموية- وهذا أصح-
[4] وفي النسخة التونسية: باهي وتلقب بالمنتصر باللَّه.
[5] وفي نسخة ثانية: خزرون.
[6] وفي نسخة ثانية: واحتسب له جدّا ويمن نقيبة.(6/174)
وأدال منهم بمغراوة وبني يفرن حسبما يأتي ذكرهم في دولتهم، والأمر للَّه وحده وله البقاء سبحانه وتعالى
.(6/175)
(الخبر عن دولة بني أبي العافية ملوك تسول من مكناسة وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان مكناسة الظواعن من أهل مواطن ملويّة وكرسيف ومليلة وما إليها من التلول بنواحي تازا وتسول والكل يرجعون في رياستهم إلى بني أبي باسل بن أبي الضحّاك ابن أبي نزّول وهم الذين اختطوا بلد كرسيف ورباط تازا، ولم يزالوا على ذلك من أوّل الفتح. وكانت رياستهم في المائة الثالثة لمصالة بن حبّوس وموسى بن أبي العافية ابن أبي باسل، واستفحل أمرهم في أيامه وعظم سلطانهم وتغلّبوا على قبائل البربر بأنحاء تازا إلى الكائي، وكانت بينهم وبين الأدارسة ملوك المغرب لذلك العهد فتن وحروب. وكانوا يقتلونهم على كثير من ضواحيها لما كان نزل بدولتهم من الهرم. ولمّا استولى عبيد الله على المغرب واستفحل أمره كانوا من أعظم أوليائه وشيعه، وكان مصالة بن حبّوس من أكبر قوّاده لانحياشه إليه، وولّاه على مدينة تاهرت والمغرب الأوسط.
ولما زحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس وثلاثمائة، واستولى على فاس وعلى سجلماسة وفرغ من شأن المغرب واستنزل يحيى بن إدريس من إمارته بفاس إلى طاعة عبيد الله وأبقاه أميرا على فاس، عقد حينئذ لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة على سائر ضواحي المغرب وأمصاره مضافة إلى عمله من قبل تسول وتازا وكرسيف وقفل مصالة إلى القيروان. وقام موسى بن أبي العافية بأمر المغرب، وناقضه يحيى بن إدريس صاحب فاس لما يظعن له من المظاهرة عليه.
فلما عاود مصالة غرق المغرب سنة تسع وثلاثمائة أنزل ابن أبي العافية يحيى بن إدريس، فقبض عليه واستصفاه وطرده عن عمله فلحق ببني عمّه بالبصرة والريف.
وولّى مصالة على فاس ريحان الكتامي وقفل إلى القيروان فهلك، وعظم ملك ابن أبي العافية بالمغرب. ثم ثار بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس، وكان مقداما شجاعا ويلقّب بالحجام لطعنه في المحاجم دخل فاس على حين غفلة من أهلها، وقتل ريحان واليها، واجتمع الناس على بيعته. ثم(6/176)
خرج لقتاله ابن أبي العافية فتزاحفوا بفحص أدّاز ماد بين تازا وفاس، ويعرف لهذا العهد بوادي المطاحن، واشتدّت الحرب بينهم، وهلك منهال بن موسى بن أبي العافية في الفتن بمكناسة.
ثم كانت العاقبة لهم وانفضّ عسكر الحسن ورجع مفلولا إلى فاس، فغدر به عامله على عدوة القرويّين حامد بن حمدان الهمدانيّ واستمكن من عاقله، واستحثّ ابن أبي العافية للقدوم وأمكنه من البلد، وزحف إلى عدوة الأندلس فملكها وقتل عاملها عبد الله بن ثعلبة [1] بن محارب بن محمود، وولّى مكانه أخاه محمدا وطالب حامدا بصاحبه الحسن فدس إليه حامد بالفرار تجافيا عن دعاء أهل البيت، وتدلّى الحسن من السور فسقط وانكسر ساقه ومات مستخفيا بعدوة الأندلس لثلاث ليال منها. وحذّر حامد من سطوة أبي العافية فلحق بالمهديّة واستولى ابن أبي العافية على فاس والمغرب أجمع، وأجلى الأدارسة عنهم وألجأهم إلى حصنهم بقلعة حجر النسر مما يلي البصرة، وحاصرهم بها مرارا. ثم جمّر عليهم العساكر، وخلّف فيهم قائده أبا الفتح فحاصرهم ونهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وثلاثمائة بعد أن استخلف على المغرب الأقصى ابنه مدين. وأنزله بعدوة القرويين، واستعمل على عدوة الأندلس طوال بن أبي يزيد، وعزل به محمد بن ثعلبة. وزحف إلى تلمسان فملكها وغلب عليها صاحب الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان من عقب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر الداخل إلى المغرب بعده، فغلب موسى ابن أبي العافية الحسن على تلمسان وأزعجه عنها إلى مليلة من جزائر ملويّة ورجع إلى فاس. وقد كان الخليفة الناصر لما فشت دعوته بالمغرب خاطبه بالمقاربة والوعد، فسارع إلى إجابته ونقض طاعة الشيعة، وخطب للناصر على منابر عمله، فسرح إليه عبد الله المهدي قائده ابن أخي مصالة، وهو حميد بن يصلت [2] المكناسي قائد تاهرت، فزحف في العساكر إلى حرمه سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ولقيه موسى بن أبي العافية بفحص مسون فتزاحفوا أياما، ثم لقيه حميد فهزمه ولحق ابن أبي العافية بتسول فامتنع بها، وأفرج قائده أبو الفتح عن حصن الأدارسة فاتبعوه وهزموه ونهبوا معسكره.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ثعبة ولعلها ثعلبة وهـ محرّفة في النسختين.
[2] وفي نسخة أخرى: يصلتن.(6/177)
ثم نهض حميد إلى فاس ففرّ عنها أعزل بن موسى إلى ابنه، واستعمل عليها حامد بن حمدان كان في جملته وقفل حميد إلى إفريقية وقد دوّخ المغرب. ثم انتقض أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله، وثار أحمد بن بكر بن عبد الرحمن بن سهل الجذامي على حامد بن حمدان فقتله، وبعث برأسه إلى ابن أبي العافية فأرسله إلى الناصر بقرطبة واستولى على المغرب. وزحف ميسور الخصي قائد أبي القاسم الشيعي إلى المغرب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وخام ابن أبي العافية عن لقائه، واعتصم بحصن الكأي، ونهض ميسور إلى فاس فحاصرها واستنزل أحمد بن بكر عاملها. ثم تقبّض عليه وأشخصه إلى المهديّة، وبدر أهل فاس بغدره فامتنعوا وقدّموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي، وحاصرهم ميسور مدّة حتى رغبوا إلى السلم، واشترطوا على أنفسهم الطاعة والإتاوة فتقبّل ميسور ورضي، وأقرّ حسن بن قاسم على ولايته بفاس وانحل إلى حرب ابن أبي العافية فكانت بينهما حروب إلى أن غلبه ميسور فتقبّض على ابنه الغوري وغرّبه إلى المهدية. وأجلى موسى بن أبي العافية عن أعمال المغرب إلى نواحي ملوية ووطاط وما وراءها من بلاد الصحراء، وقفل إلى القيروان.
ولما مرّ بارشكول خرج إليه صاحبها ملاطفا له بالتحف، وهو إدريس بن إبراهيم من ولد سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر، فتقبّض عليه واصطلم نعمته، وولى مكانه أبا العيش بن عيسى منهم. وأغذّ السير إلى القيروان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ورجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب، فملكها وولّى على الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي، وهو الّذي مدّن عدوة الأندلس، وكانت حصونا. واحتلّ موسى بن أبي العافية قلعة كوماط، وخاطب الناصر فبعث إليه مددا من أسطوله، وزحف إلى تلمسان ففرّ عنها أبو العيش واعتصم بارشكول فنازله وغلبه عليها سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولحق أبو العيش بنكور، واعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه.
ثم زحف ابن أبي العافية إلى مدينة نكور فحاصرها مدّة، ثم تغلّب عليها وقتل صاحب عبد البديع بن صالح، وخرّب مدينتهم. ثم سرّح ابنه مدين في العساكر، فحاصر أبا العبّاس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها. واستفحل أمر ابن أبي العافية في المغرب الأقصى واتصل عمله بعمل محمد بن خزر ملك مغراوة وصاحب المغرب الأوسط، وبثّوا دعوة الأموية في أعمالها، وبعث ابنه مدين بأمره في قومه. وعقد له(6/178)
الناصر على أعمال ابنه بالمغرب واتصلت يده بيده الخير بن محمد كما كان بين آبائهما.
ثم فسد بينهما وتزاحفا للحرب، وبعث الناصر قاضيه مقدر [1] بن سعد لمشارفة أحوالهما وإصلاح ما بينهما فتمّ ذلك كما أراده ولحق به سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة أخوه البوري فارّا من عسكر المنصور مع أحمد بن بكر الجذاميّ عامل فاس بعد أن لحقا بأبي يزيد فسار أحمد بن أبي بكر إلى فاس وأقام بها متنكرا إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي وتخلّى له عن العمل، وصار البوري إلى أخيه مدين واقتسم أعمال ابنه معه ومع ابنه الآخر منقذ، فكانوا ثلاث الأثافي. وأثار الثوري إلى الناصر سنة خمس وأربعين وثلاثمائة فعقد الناصر لابنه منصور على عمله وكانت وفاته وهو محاصر لأخيه مدين بفاس، وأجاز أبناه أبو العيش ومنصور إلى الناصر فأجزل لهما الكرامة على سنن أبيهما.
ثم هلك مدين فعقد الناصر لأخيه أبي منقذ على عمله سنة [2] ثم غلب مغراوة على فاس [3] وأعمالها، واستفحل أمرهم بالمغرب وأزاحوا مكناسة عن ضواحيه وأعماله، وساروا إلى مواطنهم وأجاز إسماعيل بن الثوري [4] ومحمد بن عبد الله بن مرين إلى الأندلس فنزلوا بها إلى أن جازوا مع واضح أيام المنصور كما مرّ عند ما نقض زيري ابن عطية طاغيتهم سنة ست وثمانين وثلاثمائة، فملك واضح المغرب ورجّعهم إلى أعمالهم. وتغلب بلكّين بن زيري على المغرب الأوسط وغلب عليه ملوكه بني خزر من مغراوة فاتصلت يد مكناسة. ولم يزالوا في طاعة بني زيري ومظاهرتهم. وهلك إسماعيل بن الثوري في حروب حمّاد مع باديس بشلف سنة خمس وأربعمائة، وتوارث ملكهم في أعقاب موسى إلى أن ظهرت دولة المرابطين، وغلب يوسف بن تاشفين على أعمال المغرب، فزحف إليهم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية، فاستدعى أهل فاس وصريخ زناتة بعد مهلك معنصرة المغراوي فلقي عساكر المرابطين بوادي صفر [5] فهزمهم وزحف إليه يوسف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: منذر.
[2] بياض بالأصل في جميع النسخ ولم نهتد إلى السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي النسخة الباريسية قابس.
[4] وفي نسخة أخرى: إسماعيل بن البوري.
[5] وفي النسخة التونسية: صغير.(6/179)
ابن تاشفين من مكانه فحاصر قلعة فازاز فهزم القاسم بن محمد وجموع مكناسه وزناتة ودخل فاس عنوة كما ذكرناه في أخباره.
ثم زحف إلى أعمال مكناسة فاقتحم الحصن وقتل القاسم. وفي بعض تواريخ المغرب أن مهلك إبراهيم بن موسى كان سنة خمس وأربعمائة. وولي ابنه عبد الله أبو عبد الرحمن، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة وولي ابنه محمد وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه القاسم وهلك سول عند اقتحام لمتونة عليه سنة ثلاث وستين وأربعمائة وانفضّ ملك مكناسة من المغرب بانقراض ملك مغراوة، والأمر للَّه وحده.
وهي من قبائل مكناسة لهذا العهد بهذه المواطن أفاريق في جبال تازا بعد ما شرست [1] بهم الدول وأناخت بساحتهم الأمم. وهم موصوفون بوفور الجباية وقوّة الشكيمة. ولهم عناء في مظاهرة الدولة وحقوق عند الحشد والعسكرة. وفيهم ميدان من الحمالية [2] ، ومن مكناسة غير هؤلاء أوزاع في القبائل لهذا العهد مفرّقون في نواحي إفريقية والمغرب الأوسط. «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ» 14: 19- 20 وهذا آخر الكلام في بني ورصطيف، فلنرجع إلى من بقي علينا من البربر وهم زناتة والله ولي العون وبه المستعان.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تمرست.
[2] وفي نسخة أخرى: وفيهم مؤن من الخيالة.(6/180)
(أخبار البرانس من البربر ولنبدأ أولا بالخبر عن هوارة من شعوبهم وذكر بطونهم وتصاريف أحوالهم وافتراق شعوبهم في عمالات إفريقية والمغرب)
وهوّارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق من نسّابه العرب والبربر ولد هوّار بن أوريغ بن برنس إلّا ما يزعم بعضهم أنهم من عرب اليمن. تارة يقولون من عاملة إحدى بطون قضاعة وتارة يقولون من ولد المسوّر بن السكاسك بن وابل [1] بن حمير. وإذا تحرّوا الصواب، المسوّر بن السكاسك بن أشريس بن كندة وينسبونه هكذا: هوّار بن أوريغ بن جنون بن المثنى بن المسوّر. وعند هؤلاء أن هوّارة وصنهاجة ولمطة وكزولة وهسكورة يعرف جميعهم بني ينهل [2] وأن المسور جدّهم جميعا وأنه وقع إلى البتر [3] ونزل على بني زحيك بن مادغيس الأبتر. وكانوا أربعة إخوة: لوا وضرا [4] وأدّاس ونفوس. وأنهم زوّجوه أختهم بصكي [5] العرجاء بنت زحيك فولدت منه المثنّى أبا هوّارة، وتزوّجها بعد المسوّر بن عافيل [6] بن زعزاع أبو صنهاجة ولمطة وكزولة وهسكورة كما يأتي فيما بعد أنهم إخوة المثنّى لأمه، وبها عرف جميعهم.
قالوا: وولد المثنّى بن المسوّر خبّوز وولد خبّوز بن المثنى ريغ الّذي يقال فيه أوريغ بن برنس، ومنه عرفت قبائل هوّارة. قالوا: إنما سميت هوّارة لأن المسوّر لما جال البلاد ووقع في المغرب قال: لقد تهوّرنا هكذا عند بعض نسّابه البربر. وعندي والله أعلم أنّ هذا الخبر مصنوع وأن أثر الصنعة باد عليه. ويعضد ذلك أن المحقّقين ونسّابتهم مثل سابق وأصحابه قالوا: إنّ بطون أدّاس بن زحيك دخلت كلّها في هوّارة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واثل.
[2] وفي النسخة التونسية: تيصكي.
[3] وفي النسخة التونسية: البربر.
[4] وفي النسخة التونسية: ضريس وهو تيسكي الصحيح.
[5] وفي نسخة أخرى: تيسكي.
[6] وفي نسخة أخرى: عاصيل.(6/182)
أجل أن هوّار خلف زحيك على أم أدّاس، فربي أدّاس في حجره وزحيك على ما في الخبر الأوّل هو جدّ هوّار، لأن المثنّى جدّه الأعلى هو ابن بصكي وهي بنت زحيك، فهو الخامس من زحيك فكيف يخلفه على امرأته. هذا بعيد. والخبر الثاني أصح عند نسّابتهم من الأوّل.
وأما بطون هوّارة فكثير وأكثرهم بنو نبه وأوريغ اشتهروا نسبة لشهرته وكبر سنه من بينهم فانتسبوا جميعا إليه. وكان لأوريغ أربعة من الولد: هوّار وهو أكبرهم، ومغر وقلدن ومندر [1] ، ولكل واحد منهم بطون كثيرة وكلّهم ينسبون إلى هوّار. فمن بطون مغر ماوس وزمّور وكياد وسواي [2] ذكر هذه البطون الأربعة ابن حزم، وزاد سابق المطماطي وأصحابه ورجين ومنداسة وكركوده ومن بطون قلدن: خماصه وورصطيف وبيانة [3] . وبل ذكر هذه الأربعة ابن حزم وسابق. ومن بطون ملد مليلة وسطط وروفل [4] واسيل ومسراتة ذكرها ابن حزم، وقال: جميعهم بنو لهال بن ملك [5] ، وكذا عند سابق. ويقال: إن ورنيفن أيضا من نهانه [6] .
ومن بطون هوّارة بنو كهلان. ويقال: إن مليلة من بطونهم. وعند نسّابه البربر من بطونهم غريان وورغة وزكاوة ومسلاتة ومجريس. ويقال إن ونيفن منهم. ومجريس لهذا العهد ينتسبون إلى ونيفن وعند سابق وأصحابه أن بنى كهلان وريجن إحدى بطون مغر، وأن من بطون بني كهلان بني كسى ورتاكط ولشوه [7] وهيوارة. وأما بطون أدّاس بن زحيك بن مادغيس الأمراء الذين دخلوا في هوّارة فكثير. فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهيزونة وأوطيعة وضبرة [8] هؤلاء باتفاق من ابن حزم وسابق وأصحابه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ملد.
[2] وفي نسخة أخرى: سراي.
[3] وفي نسخة أخرى: قمصانه وورصطيف وبيانة وكذلك في النسخة التونسية.
[4] وفي نسخة أخرى: وورفل.
[5] وفي نسخة أخرى: لهان بن ملد.
[6] وفي نسخة أخرى: ويقال: إن ونيفن أيضا من لهانة.
[7] وفي النسخة الباريسية: مشوه وفي التونسية تيسوة وفي نسخة أخرى شوه.
[8] وفي نسخة أخرى: فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهنزونة وأوطيطة وصنبرة.(6/183)
وكانت مواطن الجمهور من هوّارة هؤلاء، ومن دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس والصمغر [1] لأوّل الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن وآهلين، ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثّمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه إفريقية، ويعرفون بنسبهم هكّارة، قلبت العجمة واوه كافا أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف. وكان لهم في الردّة وحروبها آثار ومقامات. ثم كان لهم في الخارجيّة والقيام بها ذكر، وخصوصا بالاباضية منها. وخرج على حنظلة منهم عبد الواحد بن يزيد مع عكاشة الفزاريّ فكانت بينهما وبين حنظلة حروب شديدة. ثم هزمهما وقتلهما وذلك سنة أربع وعشرين ومائة أيام هشام بن عبد الملك. وخرج على يزيد بن حاتم سنة ست وخمسين ومائة يحيى بن فوناس منهم، واجتمع إليه كثير من قومه وغيرهم.
وزحف إليه قائد طرابلس عبد الله بن السمط الكندي على شاطئ البحر بسواريه من سواحلهم، فانهزم وقتل عامة هوّارة. وكان منهم مع عبد الرحمن بن حبيب مجاهد ابن مسلم من قوّاده. ثم أجاز منهم إلى الأندلس مع طارق رجالات مذكورون واستقروا هنالك، وكان من خلفهم بنو عامر بن وهب أمير رندة أيام لمتونة، وبنو ذي النون الذين ملكوها من أيديهم، واستضافوا معها طليطلة وبنو رزين أصحاب السهلة. ثم ثارت هوارة من بعد ذلك على إبراهيم بن الأغلب سنة ست وتسعين ومائة، وحاصروا طرابلس وافتتحوها فخرّبوها. وتولى كبر ذلك منهم عياض بن وهب، وسرّح إبراهيم إليهم ابنه أبا العبّاس فهزمهم وقتلهم وبنى طرابلس.
وجأجأ هوّارة بعبد الوهاب بن رستم من مكان إمارتهم بتاهرت فجاءهم واجتمعوا إليه ومعهم قبائل نفوسة وحاصروا أبا العبّاس بن الأغلب بطرابلس إلى أن هلك أبوه إبراهيم بالقيروان، وقد عهد إليه فصالحهم على أن يكون الصحراء لهم. وانصرف عبد الوهاب إلى نفوسه. ثم أصبحوا بعد ذلك وغزوا مع الجيوش صقلّيّة، وشهد فتحها منهم زواوة بن نعم الحلفاء. ثم كان لهم مع أبي يزيد النكاري وفي حروبه مقامات مذكورة، اجتمعوا إليه من مواطنهم بجبل أوراس ومرماجنة لما غلب عليه، وأخذ أهلها بدعوته فاغاشوا إلى ولايته وفعلوا الأفاعيل. وكان من أظهرهم في تلك
__________
[1] وفي النسخة التونسية: البتر.(6/185)
الفتنة بنو كهلان.
ولما هلك أبو يزيد كما نذكره سطا إسماعيل المنصور بهم وأثخن فيهم، وانقطع ذكر بني كهلان. ثم جرّت الدول عليهم أذيالها وأناخت بكلاكلها، وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة من كل ناحية، فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكرة وعبارة وشاوية، وآخرون موطنون ما بين برقة والاسكندرية يعرفون بالمثانية [1] ، ويظعنون مع الحرّة [2] من بطون هيث من سليم بأرض التلول من إفريقية ما بين تبسة إلى مرماجنة إلى باجة، ظواعن صاروا في عداد الناجعة عرب بني سليم في اللغة والزيّ وسكنى الخيام وركوب الخيل، وكسب الإبل وممارسة الحروب، وإيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم. قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها بفصاحة العرب، فلا يكاد يفرّق بينهم. فأوّلهم مما يلي تبسة قبيلة وينفن [3] ورياستهم لهذا العهد في ولد يفرن بن حنّاش لأولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد بن يفرن، ثم لأولاد زيتون بن محمد بن يفرن، ولأولاد دحمان بن فلان بعده. وكانت الرئاسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن ومواطنهم ببسائط مزماحة [4] وتبسة وما إليهما.
وبينهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم يعرفون بقيصرون ورياستهم في بيت بني مرمن [5] ما بين ولد زعازع وولد حركات ومواطنهم بفحص آبّه وما إليها من نواحي الأربس. وتليهم إلى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون بنصورة، ورياستهم في بيت الرمامنة لولد سليمان بن جامع منهم. ويراد بهم في رياسة نصرة [6] قبيلة وربهامة [7] ومواطنهم ما بين تبسة إلى حامة إلى جبل الزنجار إلى أطار على ساحل تونس وبسائطها. ويجاورهم متساحلين إلى ضواحي باجة قبيلة أخرى من هوّارة يعرفون ببني سليم، ومعهم بطن من عرب نصر [8] من هذيل بن مدركة بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المثالنة.
[2] وفي النسخة التونسية: العزة.
[3] وفي نسخة أخرى: ونيقش وفي قبائل المغرب: ونيفن ص 316- 317.
[4] وفي نسخة أخرى: مرماجة وفي مكان آخر مرماجنة.
[5] وفي نسخة أخرى: مؤمن.
[6] وفي النسخة التونسية: نصوة.
[7] وفي النسخة التونسية: وزمانة.
[8] وفي نسخة أخرى: مضر.(6/186)
إلياس. جاءوا من مواطنهم بالحجاز مع العرب الهلاليّين عند دخولهم إلى المغرب، وأوطنوا بهذه الناحية من إفريقية، واختلطوا بهوّارة وحملوا في عدادهم.
ومعهم أيضا بطن آخر من بطون رياح [1] من هلال ينتمون إلى عتبة بن مالك بن رياح صاروا في عدادهم وجروا على مجراهم والظعن والمغرم. ومعهم أيضا بطن من مرداس بني سليم يعرفون ببني حبيب. ويقولون هو حبيب بن مالك. وهم غارمة مثل سائر هوّارة وضواحي إفريقية من هذا العهد معهودة لهؤلاء الظواعن [2] ، ومعظمهم من هوّارة. وهم أهل بقروشاء وركوب للخيل وللسلطان بإفريقية، عليهم وظائف من الجباية، وضعها عليهم دهاقين العمّال بديوان الخراج، قوانين مقرّرة وتضرب عليهم مع ذلك البعث في غزوات السلطان بعسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك.
ولرؤسائهم آراء ذلك قاطعات ومكان في الدول بين رجالات البدو، ويربطون هوّارة بمواطنهم الأولى من نواحي طرابلس، ظواعن وآهلين، توزّعتهم العرب من دبان [3] فيما توزعوه من الرعايا وغلبوهم على أمرهم منذ ضحا عملهم من ظل الدولة، فتملّكوهم تملّك العبيد للجباية منهم والاستكثار منهم في الانتجاع والحرب مثل:
ترهونه وورقلة، الظواعن ومجريس الموطّنين بزرنزور من ونيفن وهي قرية من قرى طرابلس، ومن هوّارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلي بلد سرت وبرقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة واعتزار، ووضائع العرب عليهم قليلة ويعطونها من عزة. وكثيرا ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر والإسكندرية، وفي بلاد الجريد من إفريقية وبأرض السودان إلى هذا العهد.
(وأعلم) أنّ في قبلة قابس وطرابلس جبالا متصلا بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق، فأوّلها من جانب الغرب جبل دمّر يسكنه أمم من لواتة ويتّصلون في بسيطة إلى فاس [4] وصفاقس من جانب الغرب، وأمم أخرى من نفوسة من جانب الشرق. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به شرقا جبل نفوسة تسكنه أمة كبيرة [5]
__________
[1] رباح: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب.
[2] وفي نسخة أخرى: معمورة بهؤلاء الظواعن.
[3] وفي نسخة أخرى: دباب.
[4] وفي النسخة التونسية: قابس.
[5] وفي النسخة التونسية: أمم كثيرة.(6/187)
من نفوسة ومغراوة وسدراتة، وهو قبلة طرابلس على ثلاث مراحل عنها. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به من جانب الشرق جبل مسلاتة، ويعتمره قبائل هوّارة إلى بلد مسراتة وبرقة، وهو آخر جبال طرابلس. وكانت هذه الجبال من مواطن هوّارة ونفوسة ولواتة. وكانت هنالك مدينة صغيرة بلد نفوسة قبل الفتح. وكانت برقة من مواطن هوّارة هؤلاء، ومنهم مكان بني خطّاب ملوك زويلة إحدى أمصار برقة، كانت قاعدة ملكهم حتى عرفت بهم، فكان يقال زويلة بن خطّاب.
ولما خربت انتقلوا منها إلى فزّان من بلاد الصحراء وأوطنوها، وكان لهم بها ملك ودولة حتى إذا جاء قراقوش الغزّي الناصريّ مملوك تقي الدين ابن أخي صلاح الدين كما نذكر في مكانه عند ذكر الغوري [[1]] بن مسوفة وأخباره، وافتتح زلّة وأوجلة وافتتح فزّان بعدها، وتقبّض على عاملها محمد بن خطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطّاب آخر ملوكهم، وامتحنه وطالبه بالأموال وبسط عليه العذاب إلى أن هلك، وانقرض أمر بني خطّاب هؤلاء الهوّاريّين.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الميورقي.(6/188)
(ومن قبائل) هوّارة هؤلاء بالمغرب أمم كثيرة في مواطن من أعمال تعرف بهم، وظواعن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها، وقد صاروا عبيدا للمغارم في كل ناحية. وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة، وصاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلّة والله مالك الأمور. ومن أشهرهم بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء، وهو مشهور باسم هوّارة وفيه من مسراتة وغيرهم من بطونهم، ويعرف رؤساؤهم من بني إسحاق. وكان الجبل من قبلهم فيما زعموا لبني يلومين، فلما انقرضوا صار إليه هوّارة وأوطنوه، وكانت رياستهم في بني عبد العزيز منهم. ثم ظهر من بني عمّهم رجل اسمه إسحاق واستعمله ملوك القلعة، وصارت رياستهم في عقبه بني إسحاق واختطّ كبيرهم محمد بن إسحاق القلعة المنسوبة إليهم.
وورث رياسته فيهم أخوه حيّون وصارت في عقبه. واتصلوا بالسلطان أيام ملك بني عبد الواد على المغرب الأوسط، وانتظموا في شرائعهم، واستعمل أبو تاشفين من ملوكهم يعقوب بن يوسف بن حيّون قائدا على بني توجين عند ما غلبهم على أمرهم، وفرض المغارم عليهم، فقام بها أحسن قيام ودوّخ بلادهم، وأذلّ من عزّهم. وبعد أن غلب بنو مرين بني عبد الواد على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن عبد الرحمن بن يعقوب على قبيلة هؤلاء. ثم استعمل بعده عمّه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن بن يوسف. ثم تلاشى حال هذا القبيل وخفّ ساكن الجبل بما اضطرم بهم [1] دولة بني عبد الواد، وأجحفت بهم في الظلامات.
وانقرض بيت بني إسحاق، والأمر على ذلك لهذا العهد، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن ازداجة ومسطاسه وعجيسة من بطون البرانس ووصف أحوالهم)
أما أزداجة ويعرفون أيضا وزداجة فمن بطون البرانس، وكثير من نسّابة البربر يعدّونهم في بطون زناتة. وقد يقال إن أزداجة من زناتة ووزداجة من هوّارة، وأنهما بطنان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اضطهدتهم.(6/190)
مفترقان وكان لهم وفور وكثرة. وكانت مواطنهم بالمغرب الأوسط بناحية وهران، وكان لهم اعتزاز وآثار في الفتن والحروب. ومسطاسة مندرجون معهم فيقال إنهم من عداد بطونهم، ويقال إنهم إخوة مسطاس أخي وزداج والله أعلم.
وكان من رجالتهم المذكورين شجرة بن عبد الكريم المسطاسي وأبو دليم بن خطّاب. وأجاز أبو دليم إلى الأندلس من ساحل تلمسان، وكان لبنيه بها ذكر وفي فقهاء قرطبة. وكان من بطون ازداجة بنو مشقق [1] وكانوا يجاورون وهران ونزل مرس وهران من رجال الدولة الأموية محمد بن أبي عون ومحمد بن عبدون، فداخلوا بني مسكن وملكوا وهران سبع سنين مقيمين فيها للدعوة الأموية، فلما ظهرت دعوة الشيعة وملك عبيد الله المهدي تاهرت وولّى عليها دواس بن صولات اللهيصي من كتامة، وأخذت البرابرة بدعوتهم أو عز دوّاس بحصار وهران فرجعوا إليها سنة سبع وتسعين وأدخلوا بني مسكن في ذلك فأجابوهم، وفرّ محمد بن أبي عون فلحق بدوّاس بن صولات واستبيحت وهران وأضرمت نارا.
ثم جدّد بناءها دوّاس وأعاد محمد بن أبي عون إلى ولايتها، فعادت أحسن ما كانت، وأمراء تلمسان لذلك العهد من الأدارسة بنو أحمد بن محمد بن سليمان، وسليمان أخو إدريس الأكبر كما ذكرناه. وكانوا يقيمون دعوة الأموية لذلك العهد.
ثم ولي على تاهرت أيام أبي القاسم بن عبد الله أيا ملك يغمراسن بن أبي سمحة، وانتقض عليه البربر فحاصروه عند زحف ابن أبي العافية إلى المغرب الأوسط بدعوة المروانية، وكان ممن أخذ بها محمد بن أبي عون صاحب وهران وسرّح أبو القاسم ميسورا فولاه إلى المغرب وأتاه محمد بن عون بطاعته فقبلها وأقرّه على عمله، ثم نكث محمد بن عون عند منصرف ميسور من المغرب وراجع طاعته المروانية.
ثم كان شأن أبي يزيد وانتقاض سائر البرابرة على العبيديّين، واستفحل أمر زناتة وأخذ بدعوة المروانيّين. وكان الناصر عقد ليعلى بن أبي محمد اليفرني على المغرب، فخاطبه بمراوغة محمد بن أبي عون وقبائل ازداجة في الطاعة للعداوة وبين القبيلتين بالمجاورة، وزحف إلى ازداجة فحصرهم بجبل كيدرة، ثم تغلّب عليهم واستأصلهم وفرّق جماعتهم وذلك لسنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، ثم زحف إلى وهران ونازلها، ثم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مسقن.(6/191)
افتتحها عنوة وأضرمها نارا واستلحم ازداجة ولحق رياستهم بالأندلس فكانوا بها، وكان منهم خزرون بن محمد من كبار أصحاب المنصور بن أبي عامر وابنه المظفّر وأجاز إلى المغرب وبقي ازداجة بعد ذلك على حال من الهضيمة والمذلّة وانتظموا في عداد المغارم من القبائل.
(وأما العجيسة) وهم من بطون البرانس من ولد عجيسة من برنس ومدلول هذا الاسم البطن، فإنّ البربر يسمّون البطن بلغتهم عدّس بالدال المشدّدة، فلما عرّبتها العرب قلبت دالها جيما مخفّفة، وكان لهم بين البربر كثرة وظهور، وكانوا مجاورين في بطونهم لصنهاجة، وبقاياهم لهذا العهد في ضواحي تونس والجبال المطلّة على المسيلة، وكانت منهم يسكنون جبل القلعة. وكان لهم في فتنة أبي يزيد أثر. ولما هزمهم المنصور لجأ إليهم واعتصم بقلعة كتامة من حصونهم حتى اقتحم عليه. ثم بادر حمّاد بن بلكّين من بعد ذلك مكانا لبناء مدينة فاختطها بينهم. ونزلها ووسّع خطتها واستبحر عمرانها. وكانت حاضرة لملك آل حماد فأخلفت هذه المدينة من جدّة عجيسة لمّا تمرّست بهم، وخضدت من شوكتهم وراموا كيد القلعة مرارا، وأجلبوا على ملوكها بالأعياص منهم فاستلحمهم السيف، ثم هلكوا وهلكت القلعة من بعدهم وورثت مواطنهم بذلك الجبل عياض من أفاريق العرب الهلاليّين وسمّي الجبل بهم، وفي القبائل بالمغرب كثير من عجيسة هؤلاء مفترقون فيهم والله أعلم.
(الخبر عن أوربة من بطون البرانس وما كان لهم من الردّة والثورة وما صار لهم من الدعاء لإدريس الأكبر)
كانت البطون التي فيها الكثرة والغلب من هؤلاء البربر البتر كلهم لعهد الفتح أوربة وهوّارة وصنهاجة من البرانس، ونفوسة وزناتة ومطغرة ونفزاوة من البتر، وكان التقدّم لعهد الفتح لأوربة هؤلاء بما كانوا أكثر عددا وأشدّ بأسا وقوة، وهم من ولد أورب بن برنس، وهم بطون كثيرة، فمنهم بجاية ونفاسة ونعجة وزهكوجة ومزياتة ورغيوتة وديقوسة. وكان أميرهم بين يدي الفتح ستردير بن رومي بن بارزت بن بزريات [1]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفتح سكرديد بن زوغي بن بارزت بن برزيات.(6/192)
ولي عليهم مدّة ثلاث وسبعين سنة، وأدرك الفتح الإسلامي ومات سنة إحدى وسبعين، وولي عليهم من بعده كسيلة بن لزم [1] الأوربي فكان أميرا على البرانس كلهم، ولما نزل ابن المهاجر تلمسان سنة خمس وخمسين كان كسيلة بن لزم مرتادا بالمغرب الأقصى في جموعه من أوربة وغيرهم، فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام فأسلم، واستنقذه وأحسن إليه وصحبه.
وقدم عقبة في الولاية الثانية أيام يزيد سنة اثنتين وستين فاضطغن عليه صحابته لأبي المهاجر وتقدّم أبو المهاجر في اصطناعه فلم يقبل وزحف إلى المغرب وعلى مقدّمته زهير ابن قيس البلويّ فدوّخه. ولقيه ملوك البربر ومن انضم إليه من الفرنجة بالزاب وتاهرت فهزمهم واستباحهم، وأذعن له بليان أمير غمارة ولاطفه وهاداه، ودلّه على عورات البرابرة وردأه بوليلة والسوس وما والاهما من مجالات الملثمين فغنم وسبى، وانتهى إلى ساحل البحر وقفل ظافرا.
وكان في غزاتة تلك يستهين كسيلة ويستخفّ به وهو في اعتقاله. وأمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولّاها بنفسه، وانتهره فقام إليها كسيلة مغضبا وجعل كلما دسّ يده في الشاة مسح بلحيته والعرب يقولون ما هذا يا بربري؟ فيقول: هو أجير [2] فيقول لهم شيخ منهم: إن البربري يتوعّدكم. وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه، وقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبّار في قومه بدار عزّه قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه وأشار عليه بأن يوثق منه. وخوّفه فتكه فتهاون عقبة بقوله.
فلما قفل عن غزاتة وانتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجا ثقة بما دوّخ من البلاد، وأذلّ من البربر حتى بقي في القليل [3] ، وسار إلى تهودة أو بادس لينزل بها الحامية. فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه وراسلوا كسيلة بن لزم ودلّوه على الفرصة فيه فانتهزها، وراسل بني عمّه ومن تبعهم من البربر، واتبعوا عقبة وأصحابه رضي الله عنه حتى إذا غشوه بتهودة ترحّل القوم وكسروا أجفان سيوفهم، ونزل الصبر واستلحم عقبة وأصحابه رضي الله عنهم ولم يفلت منهم أحد. وكانوا زهاء ثلاثمائة من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لمرم وفي النسخة التونسية لمزم.
[2] وفي نسخة ثانية: فيقول: هذا جيد للشعر.
[3] وفي نسخة ثانية: قليل من الناس.(6/193)
كبار الصحابة والتابعين استشهدوا في مصرع واحد، وفيهم أبو المهاجر كان أصحبه في اعتقاله، فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم البلاء الحسن، وأجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة وأصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد.
وقد جعل على قبر عقبة أسنمة ثم جصّص، واتخذ عليه مسجد عرف باسمه وهو في عداد المزارات ومظان البركة، بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفّر فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغ أحد مدّ أحدّهم ولا نصيفه، وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس [1] الأنصاري ويزيد بن خلف العبسيّ [2] ونفر معهم ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة. وكان زهير بن قيس البلويّ بالقيروان وبلغه الخبر فخرج هاربا وارتحل بالمسلمين ونزل برقة وأقام بها ينتظر المدد من الخلفاء. واجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر والفرنجة، وزحف الى القيروان فخرج العرب منها ولحق بزهير بن قيس ولحق بها أصحاب الذراري والأثقال فأمّنهم ودخل القيروان وأقام أميرا على إفريقية ومن بقي بها من العرب خمس سنين وقارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية وفتنة الضّحاك بن قيس مع المروانية بمرج راهط وحروب آل الزبير فاضطرب أمر الخلافة بعض الشيء، واضطرم المغرب نارا وفشت الردّة في زناتة والبرانس. ثم استقل عبد الملك بن مروان من بعد ذلك وأذهب بالمشرق آثار الفتنة. وكان زهير بن قيس مقيما ببرقة منذ مهلك عقبة، فبعث إليه بالمدد وولّاه حرب البرابرة والثأر بدم عقبة. فزحف إليها في آلاف من العرب سنة سبع وستين. وجمع كسيلة البرانس وسائل البربر، ولقيه بجيش [3] من نواحي القيروان واشتدّ القتال بين الفريقين، ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم وأتبعهم العرب إلى مرماجنّة ثم إلى ملوية وذلّ البربر ولجئوا إلى القلاع والحصون وحدّت شوكة أوربة من بينهم واستقرّ جمهورهم بديار المغرب الأقصى فلم يكن بعدها لهم ذكر.
واستولوا على مدينة وليلى بالمغرب كانت ما بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون وأقاموا على ذلك، والجيوش من القيروان تدوّخ المغرب مرّة بعد أخرى إلى أن خرج محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي أيام المنصور وقتل بالمدينة سنة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أويس، وعند ابن الأثير أوس (ج 4 ص 108) .
[2] وفي نسخة أخرى: القيسي.
[3] وفي النسخة التونسية ممس (وممس اسم بلد) وفي الكامل ج 4 ص 108 ممش.(6/194)
خمس وأربعين ومائة. ثم خرج بعده ابن عمّه حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن حسن السبط أيام الهادي وقتل بفخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع وستين ومائة، واستلحم كثير من أهل بيته وفرّ إدريس بن عبد الله إلى المغرب ونزل على أوربة سنة اثنتين وسبعين ومائة وأميرهم يومئذ بو ليلى إسحاق بن محمد بن عبد الحميد منهم فأجاره وجمع البرابر على دعوته. واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسراتة وغمات [1] ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة برابرة المغرب، فبايعوه وائتمروا بأمره، وتمّ له الملك والسلطان بالمغرب. وكانت له الدولة التي ورثها أعقابه إلى حين انقراضها، كما ذكرنا في دولة الفاطميّين والله تعالى أعلم.
الخبر عن كتامة من بطون البرانس وما كان لهم من العز والظهور على القبائل وكيف تناولوا الملك من أيدي الاغالبة بدعوة الشيعة
هذا القبيل من قبائل البربر بالمغرب وأشدّهم بأسا وقوة، وأطولهم باعا في الملك عند نسّابة البربر من ولد كتام بن برنس، ويقال: كتم ونسّابة العرب يقولون إنهم من حمير ذكر ذلك ابن الكلبيّ والطبريّ. وأوّل ملوكهم أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الّذي افتتح إفريقية وبه سمّيت، وقتل ملكها جرجير، وسمّى البربر بهذا الاسم كما ذكرناه. يقال أقام في البربر من حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى اليوم فيهم، وتشعّبوا في المغرب وانبثوا في نواحيه إلّا أنّ جمهورهم كانوا لأول الملّة بعد تهييج الردّة وطفئت تلك الفتن، موطنين بأرياف قسنطينة إلى تخوم بجاية غربا إلى جبل أوراس من ناحية القبلة. وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكثرها لهم، وبين ديارهم ومجالات تقلّبهم مثل أبكجان وسطيف وباغاية، وبفاس وتلزمه [2] ويتكست وميلة وقسنطينة والسيكرة والقلّ وجيجل من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية وبونة.
وكانت بطونهم كثيرة يجمعها كلّها غرسن ويسوّدة ابنا كتم بن يوسف [3] فمن يسّودة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سدراتة وغماته.
[2] وفي نسخة أخرى: ونقاوس ويلزمة.
[3] وفي نسخة أخرى: برنس.(6/195)
فالسبد ودنهاجة ومتوسة ورسين [1] كلّهم بنو يسّودة بن كتم وإلى دنهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد. ومن غرسن مصالة وقلان وماوطن ومعّاذ بنو غرسن ابن كتم، ولهيفة [2] وجيملة ومسألته وبنو بناوة بن غرسن، وملوسة من إيان ولطاية وإجّانة وغسمان وأوباست بنو تيطاسن [3] بن غرسن وملوسة من إيان غرسن بن غرسن. ومن ملوسة هؤلاء بنو زيدوي [4] أهل الجبل المطل على قسنطينة لهذا العهد.
وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبني قنسيلة. وعدّ ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم وهو الحق على ما تقدّم.
وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم، وهم بها إلى اليوم. ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحالة من لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة. ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة ولا ينالهم تعسّف لاعتزازهم بكثرة جموعهم كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميّين إثر دولة بني العبّاس، فانظره هنالك وتصفّحه تجد تفصيله. ولما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية ومصر والشام واختطّوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر، وارتحل المعزّ رابع خلفائهم فنزلها وارتحل معه كتامة على قبائلهم واستفحلت الدولة هنالك وهلكوا في ترفها وبذخها.
وبقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس وجوانبه من البسائط بقايا من قبائلهم على أسمائها وألقابها والآخرون بغير لقبهم وكلّهم رعايا معبدون للمغارم إلّا من اعتصم بقنة الجبل مثل بني زيدوي بجبلهم وأهل جبال جيجل وزواوة أيضا في جبالهم. وأما البسائط فأشهر من فيها منهم سدويكش ورياستهم في أولاد سواد [5] ولا أدري إلى من يرجعون في قبائل كتامة المسمّين بهذه الاسم [6] إلّا أنهم باتفاق من أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فمن يسودة: فلاسة ودنهاجة ومتوسة ووريسن.
[2] وفي نسخة أخرى: لهيصة.
[3] وفي نسخة أخرى: أوفاس بنو ينطاسن.
[4] وفي نسخة أخرى: بنو زلدوي.
[5] وفي نسخة أخرى: سواق.
[6] وفي نسخة أخرى: في هذا الكتاب.(6/196)
الأخبار، ونحن الآن ذاكرون ما عرفناه من أخبارهم المتأخّرة بعد دولة كتامة والله تعالى ولي العون.
(الخبر عن سدويكش ومن اليهم من بقايا كتامة في مواطنهم)
هذا الحي لهذا العهد وما قبله من العصور يعرفون بسدويكش وديارهم في مواطن كتامة ما بين قسنطينة وبجاية في البسائط منها، ولهم بطون كثيرة مثل سيلين وطرسون وطرغيان وموليت وبني فتنة [1] وبني لمائي وكايارة وبني زغلان والنورة وبني مزوان ووارمسكن وسكوال وبني عيار [2] . وفيهم من لماته [3] ومكلاتة وريغة والرئاسة على جميعهم في بطن منهم يعرفون أولاد سواق لهم جمع وقوّة وعدد وعدّة. وكان جميع هذه البطون وعيالهم غارمة فيمتطون الخيل ويسكنون الخيام ويظعنون على الإبل والبقر ولهم مع الدول في ذلك الوطن استقامة. وهذا شأن القبائل الأعراب من العرب لهذا العهد. وهم ينتفون من نسب كتامة ويفرون منه لما وقع منذ أربعمائة سنة من النكير على كتامة بانتحال الرافضة وعداوة الدول بعدهم، فيتفادون بالانتساب إليهم. وربما انتسبوا في سليم من قبائل مضر وليس ذلك بصحيح. وإنما هم من بطون كتامة وقد ذكرهم مؤرخو صنهاجة بهذا النسب ويشهد لذلك الموطن الّذي استوطنوه من إفريقية.
ويذكر نسّابتهم ومؤرخوهم أن موطن أولاد سواق منهم كان في قلاع بني بو خصرة من نواحي قسنطينة ومنه انتقلوا وانتشروا في سائر تلك الجهات. وأولاد سواق بطنان وهم: أولاد علاوة بن سواق وأولاد يوسف بن حمّو بن سواق. فأما أولاد علاوة فكانت الرئاسة على قبائل سدويكش لهم فيما سمعناه من مشيختنا، وأن ذلك كان لعهد دولة الموحّدين وكان منهم علي بن علاوة وبعده ابنه طلحة بن عليّ وبعده أخوه يحيى بن علي وبعده أخوهما منديل بن علي عزل تازير بن أخيه طلحة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بني فشة وفي النسخة التونسية بني قشة.
[2] وفي النسخة أخرى: البؤرة وبني مروان وواركسن وسكرال وبني عيّاد.
[3] وفي نسخة أخرى: لماية.(6/197)
لما بويع السلطان أبو يحيى بقسنطينة سنة عشر من هذه المائة وقع من تازير انحراف؟ من طاعته واعتلوا بطاعة ابن الخلوف بجاية، فقدم عوضا منه عمّه منديل. ثم؟ يستبدل منهم أجمعين بأولاد يوسف، فشمّروا في طاعته وأبلوا، وغلب السلطان على بجاية وقتل ابن الخلوف فظهر أولاد يوسف وزحموا أولاد علاوة، وأخرجوهم من لوطن فصاروا إلى عياض من أفاريق هلال، وسكنوا في جوارهم بجبلهم الّذي وطنوه المطل على المسيلة. واتصلت الرئاسة على سدويكش في أولاد يوسف وهم لهذا العهد أربع قبائل: بنو محمد بن يوسف وبنو المهدي وبنو إبراهيم بن يوسف والعزيزيون وهم بنو منديل، وظافر وجري وسيّد الملوك والعبّاس وعيسى، والستة أولاد يوسف وهم أشقاء. وأمّهم تاعزيزت فنسبوا إليها، وأولاد محمد والعزيزيون يوطنون بنواحي بجاية وأولاد المهدي وإبراهيم بنواحي قسنطينة.
وما زالت الرئاسة في هذه القبائل الأربع تجتمع تارة في بعضهم وتفترق أخرى إلى هذا العهد، وكانت الأخرى دولة مولانا السلطان أبي يحيى اجتمعت رياستهم لعبد الكريم بن منديل بن عيسى من العزيزيين ثم افترقت واستقل كل بطن من هؤلاء الأربعة برياسة، وأولاد علاوة في خلال هذا كلّه بجبل عياض. ولما تغلب بنو مرين على إفريقية نكر السلطان أبو عنّان أولاد يوسف ورماهم بالميل إلى الموحّدين، وصرف الرئاسة على سدويكش إلى مهنّا من تازير بن طلحة من أولاد علاوة فلم يتم له ذلك، وقتله أولاد يوسف. ورجع أولاد علاوة إلى مكانهم من جبل عياض.
وكان رئيسهم لهذه العصور عدوان بن عبد العزيز بن زرّوق بن علي بن علاوة، وهلك ولم تجتمع رياستهم بعده لأحد. وفي بطون سدويكش هؤلاء بطن مرادف أولاد سواق في الرئاسة على بعض أحيائهم وهم بنو سكين، ومواطنهم في جوار لواتة بجبل تابور وما إليه من نواحي بجاية، ورياستهم في بني موسى بن ثابر منهم.
أدركنا ابنه صخر بن موسى واختصّه السلطان أبو يحيى بالرياسة على قومه، وكان له مقامات في خدمته. ثم عرف بعده في الوفاء ابنه الأمير أبو حفص فلم يزل معه إلى أن وقع به بنو مرين بناحية قابس، وجيء به مع أسرى الوقيعة فقطعه السلطان أبو الحسن من خلاف، وهلك بعد ذلك وقام برياسته ابنه عبد الله وكان له فيها وفي خدمة السلطان بجاية شأن إلى أن هلك لأعوام ثمانين، وولي ابنه محمد من بعده والله وارث الأرض ومن عليها
.(6/198)
(الخبر عن بني ثابت أهل الجبل المطل على قسنطينة من بقايا كتامة)
ومن بطون كتامة وقبائلهم أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسنطينة المعروف برياسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان. ويقال إن أبا بكر هذا الجد هو الّذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحّدين، ولم يكن قبل ذلك عليه مغرم. فلما انقرض ملك صنهاجة وغلب الموحّدون على إفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش ونجع بالطاعة والانقياد، وتقرّب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل، وكان لثابت هذا من الولد عليّ وحسن وسلطان وإبراهيم، كلّهم راسوا بالجبل، وأمّا حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته وفي عنيته. ولابن عمر لدولة طرابلس أعوام احدى عشر وسبعمائة كما نذكره. فلما تملّك السلطان بجاية وقتل ابن خلوف ورجع ابن عمر من تونس إلى حجابته، وجد حسن بن ثابت معسكرا بفرحيرة [1] لانقضاء مغارم الوطن، فبعث إليه من قتله. وكان آخرهم رئاسة بالجبل عليّ، أدرك دولة بني مرين بإفريقية. وولي بعده ابن عبد الرحمن ووفد على السلطان أبي عنان بفاس. ولما استجد مولانا السلطان أبو العبّاس دولته بإفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم ورياستهم وصيّرهم من عداد جنده وحاشيته.
واستعمل في الجبل عمّاله وهو جبل مطاوع [2] وجبايته مؤداة لصولته وجواره للعسكر بقسنطينة. ومن بقايا كتامة أيضا قبائل أخرى بناحية تدلس في هضابة مكتنفة بها وهم في عداد القبائل الغارمة، وبالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني سنس [3] بجبل قبلة جبل يزناسن، وقبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لنصر بن عبد الكريم وقبائل أخرى بناحية مرّاكش نزلوا مع صنهاجة هنالك، ونسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة [4] لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فرجيوة.
[2] وفي النسخة الباريسية يطواع وفي النسخة التونسية مطواع.
[3] وفي نسخة أخرى: يستيتن.
[4] وفي النسخة التونسية: الذلة.(6/199)
ومذاهبها الكفرية، حتى صار كبيرهم من أهل نسبهم يفرون منه، وينتسبون فيمن سواهم من القبائل فرارا من هجنته والعزّة للَّه وحده.
(الإلمام بذكر زواوة من بطون كتامة)
هذا البطن من أكبر بطون البربر ومواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة وأوعار متسنمة، ولهم بطون وشعوب كثيرة، ومواطنهم متصلة بمواطن كتامة هؤلاء، وأكثر الناس جاهلون بنسبهم. وعامة نسّابة البربر على أنّهم من بني سمكان يحيى بن ضريس، وأنهم إخوة زواغة المحقّقون من النسّابة مثل ابن حزم وأنظاره إنّما يعدّونهم في بطون كتامة وهو الأصوب. والمواطن أوضح دليل عليه وإلا فأين مواطن زواغة؟ وهي طرابلس بالمغرب الأقصى من مواطن كتامة. وإنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف اسم زوازه بالزاي بعد الواو وهم إخوة زواغة بلا شك، فصحّف هذا القارئ الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة. ثم استمر التصحيف جمعا في نسب سمكان والله أعلم، وقد مرّ ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة وتعديد بطونهم(6/200)
الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس وما كان لهم من الظهور والدول في بلاد المغرب والأندلس
هذا القبيل من أوفر قبائل البربر، وهو أكثر أهل الغرب لهذا العهد وما بعده [1] لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط، حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر. وكان لهم في الردّة ذكر وفي الخروج على الأمراء شأن تقدّم منه في صدر ذكر البرابر، ونذكر منه هنا ما تيسّر. وأما ذكر نسبهم فإنّهم من ولد صنهاج وهو صناك [2] بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عرّبته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج، وهو عند نسّابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن برّ، وذكر ابن الكلبيّ والطبري أنهم وكتامة جميعا من حمير كما تقدّم في كتامة، وفيما نقل الطبري في تاريخه أنهم صنهاج بن بر بن صوكان بن منصور [3] بن الفند بن أفريقش بن قيس، وبعض النسّابة يزعم أنه صنهاج بن المثنّى بن المنصور بن مصباح بن يحصب بن مالك بن عامر بن حمير الأصغر بن سبإ، كذا نقل ابن النحويّ من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب. وقد مرّ ذكره في أنساب حمير وليس كما ذكر والله أعلم. وأما المحقّقون من نسّابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل [4] بن زعزاع بن قيمتا بن سدور بن مولان بن مصلين بن يبرين [5] بن مكسيلة بن دقيوس [6] بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام. ويزعمون أن جزول واللمط وهسكور إخوة صنهاج، وأن أمهم الأربعة بصكي [7] وبها يعرفون وهي بنت زحيك بن مادغيس، ويقال لها العرجاء فهذه القبائل الأربعة من القبائل إخوة لأم والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وما قبله.
[2] وفي النسخة التونسية: صرهاك.
[3] وفي النسخة أخرى: صنهاج بن يصوكان بن ميسور.
[4] وفي النسخة التونسية: عاصيل وفي قبائل المغرب عاميل ص 328.
[5] وفي النسخة التونسية: مصلتن بن سر، وفي النسخة الباريسية: مصلتن بن تبن. وفي نسخة أخرى يصلين بن شر. وفي قبائل المغرب: يصلين بن يبرين.
[6] وفي نسخة أخرى: دهيوس. وكذا في قبائل المغرب.
[7] وفي نسخة أخرى: نصكي وقد مرّت معنا من قبل وفي قبائل المغرب تيصكي/ 329.(6/201)
وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة [1] وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوقة وكدالة ومندلسة وبنو وارت وبنو يتين [2] . ومن بطون أنجفة بنو مزوات وبنو تثليب وفشتالة وملواقة [3] . هكذا يكاد نقل بعض نسّابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرّخي البربر أن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا. وذكر ابن الكلبيّ والطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر. وكان أعظم قبائل صنهاجة بلكانة وفيهم كان الملك الأول. وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط وإفريقية، وهم أهل مدر. ومواطن مسوقة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء، وهم أهل وبر.
وأما أنجفة فبطونهم مفترقة وهم أكثر بطون صنهاجة. ولصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب، كما أنّ لمغراوة ولاية لعثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنهما، إلّا أنّا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها. وكان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بإفريقية أيام السفّاح عند انقراض الأموية، وعبد الله بن سكرديرلك، وعبّاد بن صادق من قوّاد حمّاد بن بلكّين وسليمان بن مطعمان بن غيلان [4] أيام باديس بن بلكّين. وبني حمدون وورا بني حمّاد [5] ، وهو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن علم، منهم ميمون بن جبل [6] ابن أخت طارق مولى عثمان بن عفّان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم. وكان الملك في صنهاجة في طبقتين الطبقة الأولى لملكانة ملوك إفريقية والأندلس، والثانية مسوقة ولمتونة من الملثّمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين. ويأتي ذكرهم كلهم إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الطبقة الاولى من صنهاجة وما كان لهم من الملك)
كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان [7] بن كرت، وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: تلكاثة. وكذلك في قبائل المغرب ص 330.
[2] وفي نسخة أخرى: مندلة وبنو وارث وبنو يتيسن.
[3] وفي نسخة أخرى: ومن بطون انجفة بنو مزورات وبنو سليب وفشتالة وملوانة.
[4] وفي نسخة أخرى: سليمان بن بطعتان بن عليّان.
[5] وفي نسخة أخرى: وبنو جدون وزاريني حمّاد.
[6] وفي نسخة أخرى: جميل.
[7] وفي النسخة التونسية: تلكات.(6/202)
الجزائر ولمدية ومليناتة من مواطن بني يزيد وحصين والعطاف من زغبة، ومواطن الثعالبة لهذا العهد. وكان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان وأنوغة وبنو مزغنه وبنو جعد وملكانة وبطوية وبنو يفرن وبنو خليل، وبعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية ونواحيها. وكان التقدّم منهم جميعا لبلكانة وكان أكثرهم لعهده الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر، وهو صناك بن واسفاق بن جريل [1] بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بن سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر هكذا نسبه ابن النحويّ، من مؤرخي الأندلس، وذكر بعض مؤرخي المغرب أن مناد بن منقوش ملك جانبي [2] إفريقية والمغرب الأوسط مقيما لدعوة ابن العبّاس، وراجعا إلى أمر الأغالبة.
وأقام أمره من بعده ابنه زيري بن مناد، وكان من أعظم ملوك البربر. وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة. ولما استوسق الملك للشيعة بإفريقية تحيّز إليهم للولاية التي لعليّ رضي الله عنه فيهم. وكان من أعظم أوليائهم، واستطال بهم على عدوّه من مغراوة فكانوا ظهرا له عليهم، وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم وتحيّزوا عن المروانيّين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط والأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما كانت فتنة أبي يزيد والتاث أمر العبيديّين بالقيروان والمهديّة، كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم [3] وشريف بالحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان كما ستراه.
وأحفظ مدينة واشين [4] للتحصّن بها سفح الجبل المسمى تيطرا لهذا العهد حيث مواطن حصين، وحصّنها بأمر المنصور، وكانت من أعظم مدن المغرب. واتسعت بعد ذلك خطتها واستبحر عمرانها. ورحل إليها العلماء والتجّار من القاصية. وحين نازل إسماعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه ومن انضم إليه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جبريل.
[2] وفي نسخة أخرى: جانبا من إفريقية.
[3] وفي النسخة التونسية: كان لزيري بن مناد من منابذة الخوارج أصحاب أبي يزيد والأخذ بأعقابهم وتسريب الحشود الى مناصريه العبيديين بالقيروان عناء مشهور.
[4] وفي نسخة أخرى: أشير.(6/203)
حشود البربر وعظمت نكايته في العدوّ وكان الفتح. وصحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب ووصله صلات سنيّة. وعقد له على قومه وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير. وعقد له على تاهرت وأعمالها.
ثم اختطّ ابنه بلكّين بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر، ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف، ومدينة لمدونة [1] . وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط، ولم يزل زيري على ذلك قائما بدعوة العبيديّين منابذا لمغراوة، واتصلت الفتنة فيهم. ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معدّ المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب وظاهره على أمره. ولما ظهر يعلى بن محمد النفزي [2] اتهمه زناتة بالممالاة عليه. ولما نزل جوهر فاس وبها أحمد بن بكر الجذامي، وطال حصاره إياها، كان لزيري في حصارها أعظم العياء، وكان فتحها على يده. سهر ذات ليلة وصعد سورها فكان الفتح.
ولما استمرّت الفتنة بين زيري بن مناد ومغراوة ووصلوا أيديهم بالحاكم المستنصر وأقاموا دعوة المروانية بالمغرب الأوسط، وشمّر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك، رماه معدّ لقريعة زيري في قومه واحتشد أهل وطنه وقد جمع له محمد بن الخير وزناتة، فسرّح إليهم ولده بلكّين في مقدّمة، وعارضهم قبل استكمالهم التعبية، فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ. واختلّ مصاف مغراوة وزناتة. ولما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة وعلم أنه أحيط به مال إلى ناحية من العسكر، وتحامل على سيفه فذبح نفسه وانفض جموع زناتة، واستمرّت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا، ومكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصورا.
وهلك فيما زعموا بضعة عشر أميرا منهم، وبعث زيري برءوسهم إلى المعزّ بالقيروان فعظم سروره وهشّ لها الحكم المستنصر صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره.
واستطال زيري وصنهاجة على بوادي المغرب، وغلب يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة والزاب وسما به في الرتب عند الخلافة وتاخمه في العمالة. واستدعى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية لمدرية، وفي النسخة التونسية: لمدية.
[2] وفي نسخة أخرى: ولما قتل يعلى بن محمد اليفرني.(6/204)
معدّ جعفر بن علي من المسيلة لتولية إفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة، فاستراب مما كانت السعاية كبرت فيه. وبعث معدّ المعزّ بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه، وهرب من المسيلة ولحق بمغراوة فاشتملوا عليه، وألقوا بيده زمام أمرهم، وقام فيهم بدعوة الحكم المستنصري. وكانوا أقدم لها إجابة وفاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم واقتتلوا قتالا شديدا.
وكانت على زيري الدبرة وكبابه فرسه، وأجلت الهزيمة عن مصرعه ومصارع حاميته من قومه فجزوا رأسه وبعثوا به الى الحكم المستنصر بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدّون الطاعة ويؤكّدون البيعة، ويجمعون لقومهم النصرة. وكان مقدّم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه. وهلك زيري هذا سنة ستين وثلاثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. ولما وصل خبره إلى ابنه بلكّين وهو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة. فانهزمت زناتة وثأر بلكّين بأبيه وقومه، واتصل ذلك بالسلطان محمد أثره وعقد له على عمل أبيه بأشير وتيهرت وسائر أعمال المغرب، وضمّ إليه المسيلة والزاب وسائر عمل جعفر فاستعتب واستفحل أمره واتسعت ولايته وأثخن في البربر أهل الخصوص من أحرابه [1] وهوّارة ونفزة وتوغّل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم. ثم رجع واستقدمه السلطان لولاية إفريقية فقدم سنة إحدى وستين وثلاثمائة واستبلغ السلطان في تكريمه ونفس ذلك عليه كتامة. ثم نهض السلطان إلى القاهرة واستخلفه كما نذكره. وكان ذلك أوّل دولة آل زيري بإفريقية والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بإفريقية وتصاريف أحوالهم
لما أخذ المعزّ في الرحلة إلى المشرق وصرف اهتمامه إلى ما يتخلف وراء ظهره من الممالك والعمالات، ونظر فيمن يولّيه أمر إفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع، وبه الوثوق من صدق التشييع ورسوخ القدم في دراية الدولة، فعثر اختياره على بلكّين بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مزاتة.(6/205)
زيري بن مناد وليّ الدولة منذ عهد أخذه ما بيده من أيدي زناتة وأموالها في سبيل الاباء على [1] الدولة والمظاهرة للدولة.
(دولة بلكين بن زيري)
فبعث خلف بلكين بن زيري وكان متوغّلا في المغرب في حروب زناتة، وولّاه أمر إفريقية ما عدا أصهلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي، وطرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي وسمّاه يوسف بدلا من بلكّين، وكنّاه أبا الفتوح، ولقبه سيف الدولة، ووصله بالخلع والأكسية الفاخرة. وحمله على مقرّباته بالمراكب الثقيلة وأنفذ أمره في الجيش والمال وأطلق يده في الأعمال. وأوصاه بثلاث: أن لا يرفع السيف عن البربر، ولا يرفع الجباية عن أهل البادية، ولا يولّي أحدا من أهل بيته.
وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه، وقطع علائق الأموية منه. وارتحل يريد القاهرة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ورجع عنه بلكين من نواحي صفاقس فنزل قصر معدّ بالقيروان، واضطلع بالولاية وأجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة ومخلّف كتامة وارتحل إلى المغرب، وفرّ أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة.
وبلغه خلاف أهل تاهرت وإخراج عامله فرحل إليها وخرّبها. ثم بلغه أنّ زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه. ونزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه ونقلهم إلى أشير. وبلغه كتاب معدّ ينهاه عن التوغّل في المغرب فرجع. ولمّا كان سنة سبع وستين وثلاثمائة رغب بلكّين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس، وسرت وأجدابية فأجابه إلى ذلك وعقد له عليها. ورحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي وولّى بلكّين عليه من قبله. ثم ارتحل بلكّين إلى المغرب، وفرّت أمامه زناتة فملك فاس وسجلماسة وأرض الهبط وطرد منها عمال بني أمية، ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة وأوقع بهم وتقبّض على ابن خزر أمير مغراوة فقتله. وجعل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد النفزيّ [2] وبني عطيّة بن عبد الله
__________
[1] وفي نسخة أخرى: في سبيل الذبّ عن الدولة.
[2] وفي نسخة أخرى: اليفرني.(6/206)
ابن خزر وبني فلفول بن خزر، ويحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة.
وبرزوا جميعا بقياطينهم إلى سبتة، وبعثوا الصريخ إلى المنصور بن أبي عامر، فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء. وأمرهم بمن كان في حضرته من ملوك زناتة ورؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة، واغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء. واجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضمّ إليهم من العساكر والحشود، وأجازهم البحر لقصر جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة، وعقد له على حرب بلكّين وأمدّه بمائة حمل من المال، فتعاقد ملوك زناتة واجتمعوا إليه، وضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة. وهرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور، وكادوا يخوضون البحر من فرائض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة. ووصل بلكّين إلى تيطاوير وتسنّم هضابها، وقطع شعوبها لنهج المسالك والطرق لعسكره، حتى أطلّ على معسكرهم بظاهر سبتة فأرى ما هاله واستيقن امتناعهم.
ويقال إنه لما عاين سبتة من مستشرفه، ورأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال: هذه أفعى فغرت إلينا فاها وكرّ راجعا على عقبه. وكان موقفه ذلك أقصى أثره ورجع إلى البصرة فهدمها وكانت دار ملك ابن الأندلسي، وبها عمارة عظيمة.
ثم انفتح له باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم وشغل بجهادهم، وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره. وأرسل بالسبي إلى القيروان وأذهب دعوة بني أمية من نواحي المغرب وزناتة مشرّدون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بواركش ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفا من هذه الغارة الطويلة.
(دولة منصور بن بلكين)
ولما توفي بلكّين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى ابنه المنصور، وكان واليا بأشير وصاحب عهد أبيه، فقام بأمر صنهاجة من بعده ونزل صيره وقلّده العزيز نزار بن معدّ أمر إفريقية والمغرب وكان على سنن أبيه، وعقد لأخيه أبي البهار على تاهرت ولأخيه يطوفت على أشير، وسرّحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين(6/207)
وثلاثمائة يسترجعه من أيدي زناتة. وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس، فلقيه زيري بن عطية المغراوي الملقّب بالقرطاس أمير فاس فهزمه ورجع إلى أشير.
وأقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة، واستقلّ به ابن عطية وابن خزرون وبدر بن يعلى كما نذكر بعد.
ثم رحل بلكّين إلى رقاده وفتك بعبد الله بن الكاتب عامله وعامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه، وسعايات أنجحت فيه فهلك سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وولي مكانه يوسف بن أبي محمد، وكثر التواتر بكتابه فقتلهم وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وأخرج إليهم العمّال وعقد لأخيه حمّاد على أشير. وطالت الفتنة مع زناتة ونزل إليه منهم سعيد بن خزرون. ولم يزل سعيد يطيعه إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وولي ابنه فلفول بن سعيد. وخالف أبو البهار بن زيري سنة تسع وسبعين وثلاثمائة فزحف إليه المنصور وفرّ بين يديه إلى المغرب. وأمدّ [1] المنصور أهل تاهرت ومضى في أتباع أبي البهار حتى نفد عسكره [2] وأشير عليه بالرجوع فرجع. وبعث أبو البهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة والمدد، واسترهن ابنه في ذلك، فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يدا واحدة فظاهره زيري واتفق رأيهما مدّة، وحار بهما بدر بن يعلى فهزماه وملكا فاس وما حولها. ثم اختلفت ذات بينهما سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ورجع أبو البهار إلى قومه. ووفد على المنصور سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة بالقيروان فأكرمه ووصله وأنزله أحسن نزل وعقد له على تاهرت، ثم هلك المنصور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
(دولة باديس بن المنصور)
ولما هلك المنصور قام بأمره ابنه باديس وعقد لعمّه يطوفت على تاهرت، وسرّح عساكره لحرب زناتة مع عمّيه يطوفت وحمّاد، فولّوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير.
ونهض بنفسه سنة تسع وثمانين وثلاثمائة لحرب زيري بن عطية راجعا إلى المغرب، فولّى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وأمن.
[2] وفي النسخة التونسية: حتى فقد عسكره المرافق.(6/208)
باديس أخاه يطوفت على تاهرت وأشير، وخالف عليه عمومته ماكسن وزاوي وحلال ومعتز وعزم واستباحوا عسكر يطوفت وأفلت منهم. ووصل أبو البهار متبرّئا من شأنهم. وشغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون وسرّح عمه حمّادا لحرب بني زيري إخوته. ووصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حمّاد فهزمهم وتقبّض على ماكسن منهم فأطمة الكلاب وقتل أولاد الحسن وباديس [1] كذا ذكر ابن حزم.
ونجا فلّهم إلى جبل سنوه [2] فنازلهم حمّاد أياما وعقد هلم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن عامر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة.
وهلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن، وأقفل باديس عمّه حمّادا على حضرته ليستعين به في حروف فلفول، فاضطرب المغرب لقفوله، وأظهرت زناتة الفساد وأضرّوا بالسابلة وحاصروا المسيلة وأشير، فسرّح إليهم باديس عمّه حمّاده وخرج على أثره سنة خمس وتسعين وثلاثمائة فنزل تيجست ودوّخ حمّاد المغرب، وأثخن في زناتة واختطّ مدينة القلعة. ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل تيجست وقسنطينة اختبارا للطاغية فأبى [3] وأظهر الخلاف. وبعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه، وزحف إليهم باديس، ثم رحل في طلبه إلى شلف، ونزل إليه بعض العساكر. ودخل في طاعته بنو توجين وحازوا [4] في مدده. ووصل أميرهم عطيّة بن دافلين وبدر بن أغمان [5] بن المعتز فوصلها. وكان حمّاد قتل دافلين. ثم نزل باديس نهر واصل والسرسو وكزول وانثنى حماد راجعا إلى القلعة واتبعه باديس.
ونازلة بها وهلك بمعسكره عليها سنة ست وأربعمائة فجأة، وهو نائم بين أصحابه بمضربه، فارتحلوا راجعين واحتملوا باديس على أعواده.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وتقبض على ماكسن منهم فأطعمه الكلاب، وقتل أولاده محسن وباديس.
[2] وفي النسخة الباريسية: سبوة.
[3] وفي النسخة الباريسية: اختبارا لطاعته فأبى
[4] وفي نسخة أخرى: وجاروا.
[5] وفي النسخة التونسية: بدر بن لقمان.(6/209)
(دولة المعز بن باديس)
ولما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع ابنه المعزّ ابن ثمان سنين، ووصل العسكر فبايعوه البيعة العامّة. ودخل حمّاد المسيلة وأشير، واستعدّ للحرب وحاصر باعانة [1] ، وبلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه وأفرج عن باعانة، ولقيه فانهزم حمّاد وأسلم معسكره، وتقبّض على أخيه إبراهيم ونجا إلى القلعة، ورغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده. وانتهى المعزّ إلى سطيف وقصر الطين وقفل إلى حضرته، ووصل إليه القائد بن حمّاد بعمل المسيلة وطبنة والزاب وأشير وتاهرت، وما يفتح من بلاد المغرب، وعقد للقائد ابن حمّاد على طبنة والمسيلة مقره ومرسى الدجاج وسوق حمزة وزواوة وانقلب بهدية ضخمة. ورفعت الحرب أوزارها من يومئذ، واقتسموا المظلّة والتحموا بالأصهار، وافترق ملك صنهاجة إلى دولتين: دولة إلى المنصور بن بلكّين أصحاب القيروان، ودولة إلى حمّاد بن بلكين أصحاب القلعة.
ونهض المعز إلى حمّاد سنة اثنتين وثلاثين فحاصره بالقلعة مدّة سنين، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا ولم يعاود فتنة بعد. ووصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر وأربعمائة كما ذكرناه في خبره، فتلقّاه المعزّ أعظم لقاء وسلّم عليه راجلا وفرشت القصور لنزله، ووصله بأعظم الصلات وأرفعها، واستمرّ ملك المعزّ بإفريقية والقيروان، وكان أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه. نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم والهدايا والجنائز والأعطيات ما يشهد بذلك، مثل ما ذكر أنّ هديّة صندل عامل باعانة مائة حمل من المال، وأنّ بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب وأنّ باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملا من المال وثمانين تختا. وانّ أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين [2] ألف قفيز وغير ذلك من أخبارهم.
وكانت بينه وبين زناتة حروب ووقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور، وكان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: باغاية.
[2] وفي نسخة أخرى: ثمانين. وكذا في النسخة التونسية.(6/210)
المعز منحرفا عن مذاهب الرافضة، ومنتحلا للسنّة، فأعلن بمذهبه لأوّل ولايته ولعن الرافضة. ثم صار إلى قتل من وجد منهم، وكبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثا باسم أبي بكر وعمر، فسمعته العامّة فثاروا لحينهم بالشيعة وقتلوهم أبرح قتل وقتل دعاة الرافضة يومئذ وامتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة. وخاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذرا، وهو يراجعه بالتعريض لخلفائه والمزج فيهم حتى أظلم الجوّ بينه وبينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد. وجاءه خطاب القائم وكتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي، فرماه المستنصر خليفة العبيديّين بالمغرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة، وهم رياح وزغبه والأثبج، وذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي البازوري كما ذكرنا في أخبار العرب ودخولهم إلى إفريقية.
وتقدّموا إلى البلاد وأفسدوا السابلة والقرى وسرّح إليهم المعز جيوشه فهزموهم، فنهض إليهم ولقيهم بجبل حيدران فهزموه، واعتصم بالقيروان فحاصروه وتمرّسوا به وطال عيثهم في البلاد وإضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية. وخرج ابن المعز من القيروان سنة تسع وأربعين وأربعمائة مع خفيره منهم، وهو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح، فلحق في خفارته بالمهديّة بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها ونزل بالمهديّة وقد كان قدم إليها ابنه تميما فنزل عليه، ودخل العرب القيروان وانتهبوها.
وأقام المعز بالمهديّة وانتزى الثّوار في البلاد فغلب حمد بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس وملكها سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وخالفت سوسة وصار أهلها إلى الشورى في أمرهم وصارت تونس آخرا إلى ولاية الناصر بن علناس بن حمّاد صاحب القلعة. وولّى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبدّ بها واستقرّت في ملكه وملك بنيه، وتغلّب موسى بن يحيى على قابس وصار عاملها المعز بن محمد الصنهاجي إلى ولايته، وأخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره. والثالث ملك آل باديس وانقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد مهلك المعز سنة أربع وخمسين وأربعمائة والله أعلم
.(6/211)
(دولة تميم بن المعز)
ولما هلك المعز قام بأمره ابنه تميم وغلبه العرب على إفريقية، فلم يكن له إلا ما ضمّه السور، خلا أنه كان يخالف بينهم ويسلّط بعضهم على بعض. وزحف إليه حمّو بن مليل البرغواطي صاحب صفاقس، فخرج تميم للقائه، وانقسمت العرب عليهما فانهزم حمّو وأصحابه، وذلك سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وسار منها إلى سوسة فافتتحها، ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم. ثم بعث عساكره أيضا إلى القيروان، وكان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعزّ فأقام ثلاثا، ثم غلبته عليها هوّارة، وخرج إلى المهديّة، ثم ردّه تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته، وكاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر وأسلم القيروان.
ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس وابتاع له القيروان من مهنا ابن علي أمير زغبة، فولّاه عليها وحصّنها سنة سبعين وأربعمائة، وكانت بين تميم والناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجؤن بالناصر من قلعته، ويوطئون عساكره ببلاد إفريقية، وربما ملك بعض أمصارها، ثم يردّونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين وأربعمائة، وأصهر إليه تميم بابنته.
ونهض تميم سنة أربع وسبعين وأربعمائة إلى قابس وبها ماضي بن محمد الصنهاجي، وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها، ثم أفرج عنها، ونازلته العرب سنة ست وسبعين وأربعمائة بالمهدية، ثم أفرجوا عنه، وهزمهم فقصدوا القيروان ودخلوها فأخرجهم عنها.
وفي أيامه كان تغلّب نصارى جنده على المهديّة سنة ثمانين واربعمائة نزلوها في ثلاثمائة مركب وثلاثين ألف مقاتل، واستولوا عليها وعلى زويلة، فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد أن انتهبوا جميع ما كان بها، فاستخلصها من أيديهم ورجع إليها، ثم استولى على قابس سنة تسع وثمانين وأربعمائة من يد أخيه عمر بن المعزّ بايع له أهلها بعد موت قاضي بن إبراهيم. ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وخرج منها حمّو بن مليل إلى قابس، فأجاره مكن ابن كامل(6/212)
الدهماني إلى أن مات بها. وكانت رياح قد تغلّبت على زغبة وعلى إفريقية من لدن سبع وستين وأربعمائة وأخرجوه منها، وفي هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة وملكوها، وهلك تميم إثر ذلك سنة إحدى وخمسمائة.
(دولة يحيى بن تميم)
ولما هلك تميم بن المعزّ ولي ابنه يحيى، وافتتح أمره بافتتاح امكيسة [1] وغلب عليها ابن محفوظ الثائر بها. وثار أهل صفاقس على ابنه أبي الفتوح فلطف الحيلة في تفريق كلمتهم، وراجع طاعة العبيديّين ووصلته المخاطبات والهدايا. وكان قد صرف همه إلى غزو النصارى والأساطيل البحرية فاستكثر منها واستبلغ في اقتنائها. وردّد البعوث إلى دار الحرب فيها حتى اتّقته أمم النصرانية بالجزى من وراء البحر من بلاد إفريقية [2] وجنوة وسردينية. وكان له في ذلك آثار ظاهرة عزيزة. وهلك فجأة في قصره سنة تسع وخمسمائة والله أعلم.
(دولة على بن يحيى)
ولما هلك يحيى بن تميم ولي عليّ ابنه، استقدم لها من صفاقس، فقدم في خفارة أبي بكر بن أبي جابر مع عسكر ونظرائه من أمراء العرب. وكان أعظم أمراء عساكر صنهاجة محاصرين لقصر الأجم فاجتمعوا إليه وتمت بيعته. ونهض إلى حصار تونس حتى استقام أحمد بن خرايان [3] على الطاعة، وفتح جبل وسلات. وكان ممتنعا على من سلف من قومه، فجرّد إليه عسكرا مع ميمون بن زياد الصخري المعادي من أمراء العرب، فافتتحوه وقتلوا من كان به. ووصل رسول الخليفة من مصر بالمخاطبات والهدايا على العادة، ثم نهض إلى حصار رافع بن مكن بفاس سنة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اقليبية.
[2] وفي النسخة التونسية: من بلاد الفرنجة.
[3] وفي نسخة أخرى: أحمد بن خراسان.(6/213)
إحدى عشرة وخمسمائة. ودوّن لها قبائل بادغ [1] من بني علي إحدى بطون رياح كما نذكره في أخبار رافع. ثم حدثت الفتنة بينه بين رجار صاحب صقلّيّة بممالأة رجار لرافع بن كامل عليه، وإمداده إيّاه بأسطوله، يغير على ساحل علي بن يحيى ويرصد أساطيله، فاستخدم علي بن يحيى الأساطيل وأخذ في الأهبة للحرب، وهلك سنة خمس عشرة وخمسمائة والله أعلم.
(دولة الحسن بن علي)
ولما هلك علي بن يحيى بن تميم ولي بعده ابنه الحسن بن علي غلاما يفعة ابن اثنتي عشرة سنة، وقام بأمره مولاه صندل. ثم مات صندل وقام بأمره مولاه موفّق. وكان أبوه أصدر المكاتبة إلى رجار عند الوحشة يهدّده بالمرابطين ملوك المغرب، ولما كان بينهما وبينهم من المكاتبة. واتفق أن غزا أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين صقلّيّة، وافتتح قرية منها، فسابها وقتل أهلها سنة ست عشر وخمسمائة، فلم يشك رجار أنّ ذلك بإملاء الحسن، فنزلت أساطيله إلى المهديّة وعليهم عبد الرحمن بن عبد العزيز وجرجي بن مخاييل الأنطاكي. وكان جرجي هذا نصرانيا هاجر من المشرق، وقد تعلّم اللسان وبرع في الحساب، وتهذّب في الشام بأنطاكيّة وغيرها، فاصطنعه تميم واستولى عليه، وكان يحيى يشاوره.
فلما هلك تميم أعمل جرجي الحيلة في اللحاق برجار فلحق به، وحظي عنده، واستعمله على أسطوله. فلما اعتزم على حصار المهديّة بعثه لذلك، فزحف في ثلاثمائة مركب، وبها عدد كثير من النصرانية، فيهم ألف فارس. وكان الحسن قد استعدّ لحربهم، فافتتح جزيرة قوصرة، وقصدوا إلى المهديّة ونزلوا إلى الساحل، وضربوا الأبنية وملكوا قصر الدهانين وجزيرة الأملس [2] وتكرّر القتال فيهم إلى أن غلبهم المسلمون، وأقلعوا راجعين إلى صقلّيّة بعد أن استمرّ القتل فيهم. ووصل بأكثر ذلك محمد بن ميمون قائد المرابطين بأسطوله، فعاث في نواحي صقلّيّة، واعتزم رجار على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فادغ وهو الأصح.
[2] وفي النسخة التونسية: قصر الديماس وجزيرة الاحاس. وفي النسخة الباريسية: قصر الدهاس وجزيرة الحمامات.(6/214)
إعادة الغزو إلى المهدية. ثم وصل أسطول يحيى بن العزيز صاحب بجاية لحصار المهدية، ووصلت عساكره في البرّ مع قائده مطرف بن علي بن حمدون الفقيه، فصالح الحسن صاحب صقلّيّة ووصل يده به، واستمدّ منه أسطوله. واستمدّ الحسن أسطول رجار فأمدّه، وارتحل مطرف إلى بلده.
وأقام الحسن مملكا بالمهدية، وانتقض عليه رجار وعاد إلى الفتنة معه، ولم يزل يردّد إليه الغزو إلى أن استولى على المهديّة قائد أسطوله جرجي بن مناسل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ووصلها بأسطوله في ثلاثمائة مركب. وخادعهم بأنهم إنما جاءوا مددا له. وكان عسكر الحسن قد توجّه صريخا لمحرز بن زياد الفادغي صاحب علي ابن خراسان صاحب تونس، فلم يجد صريخا فجلا عن المهديّة، ورحل واتبعه الناس. ودخل العدوّ إلى المدينة وتملّكوها دون دفاع. ووجد جرجي القصر كما هو لم يرفع منه الحسن إلّا ما خفّ، وترك الذخائر الملوكية. فأمّن الناس وأبقاهم تحت إيالته، وردّ الفارّين منه إلى أماكنهم. وبعث أسطولا إلى صفاقس فملكها، وأجاز إلى سوسه فملكها أيضا. وأجاز إلى طرابلس كذلك. واستولى رجار صاحب صقلّيّة على بلاد الساحل كلّها، ووضع على أهلها الجزي، وولّى عليهم كما نذكره إلى أن استنقذهم من ملكة الكفر عبد المؤمن شيخ الموحّدين وخليفة إمامهم المهدي.
ولحق الحسن بن يحيى بعد استيلاء النصارى على المهديّة بالعرب من رياح، وكبيرهم محرز بن زياد الفادعي صاحب القلعة، فلم يجد لديهم مصرخا، وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد فأرصد له جرجي فارتحل إلى المغرب، وأجاز إلى بونة وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توجه إلى قسنطينة وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية، فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نزله وجاوره إلى أن فتح الموحّدون الجزائر سنة سبع وأربعين وخمسمائة بعد تملّكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فلقاه تكرمة وقبولا. ولحق به وصحبه إلى إفريقية في غزاته الأولى، ثم الثانية سنة سبع وخمسين وخمسمائة فنازل المهديّة وحاصرها أشهرا، ثم افتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وأسكن بها الحسن وأقطعه رحيش فأقام هنالك ثماني سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهله يريد مراكش. وهلك بتامسنا في طريقه إلى بابارولو [1] سنة ست وثلاثين،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: باباززلو وفي النسخة الباريسية: باربارولو.(6/215)
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ورب الخلائق أجمعين.(6/216)
(الخبر عن بني خراسان من صنهاجة الثوار بتونس على آل باديس عند اضطراب افريقية بالعرب ومبدإ أمرهم ومصاير أحوالهم)
لما تغلّب العرب على القيروان وأسلم المعزّ وتحوّل إلى المهدية، اضطرمت إفريقية نارا. واقتسمت العرب البلاد عمالات، وامتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة وصفاقس وقابس، وصارت صاغية أهل إفريقية إلى بني حمّاد ملوك القلعة وملكو القيروان، كما تقدّم. وانقطعت تونس عن ملك المعز، ووفد مشيختها على الناصر بن علناس، فولّى عليهم عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان، يقال إنه من أهل تونس، والأظهر أنه من قبائل صنهاجة، فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتودّد إليهم وأحسن السيرة فيهم. وصالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكفّ عاديتهم. وزحف تميم بن المعزّ من المهدية إليه سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في جموعه، ومعه يبقى بن على أمير زغبة، فحاصر تونس أربعة أشهر، إلى أن صالحه ابن خراسان واستقام على طاعته فأفرج عنه.
ولم يزل قائما بأمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فولي ابنه أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق فقتل عمه إسماعيل بن عبد الحق لمكان ترشه، وغرّبه أبو بكر إلى أن برزت فأقام بها خوفا على نفسه. ونزع أحمد إلى التخلّق بسير الملك، والخروج عن سيرة المشيخة، واشتدّت وطأته، وكان من مشاهير رؤساء بني خراسان هؤلاء، فاستبدّ بتونس لأوّل المائة السادسة، وضبطها وبنى أسوارها. وعامل العرب على إصلاح سابلتها فصلحت حاله، وبنى قصور بني خراسان. وكان مجالسا للعلماء محبا فيهم ونازلة علي بن يحيى بن العزيز بن تميم سنة عشر وخمسمائة وضيّق عليه، ودافعه [1] بأسعاف غرضه فأفرج عنه. ثم نازلة عساكر العزيز بن منصور صاحب بجاية فعاد إلى طاعته سنة أربعة عشر وخمسمائة ولم يزل واليا على تونس إلى أن نهض سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة مطرف بن علي بن حمدون قائد يحيى بن العزيز من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ووافقه.(6/217)
بجاية في العساكر إلى إفريقية، وملك عامّة أمصارها، فتغلّب على تونس وأخرج أحمد بن عبد العزيز صاحبها ونقله إلى بجاية بأهله وولده.
وولّى على تونس كرامة بن المنصور عمّ يحيى بن العزيز فبقي واليا عليها إلى أن مات، وولي عليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور إلى أن مات، وولي مكانه ابن ابنه محمد وساءت سيرته فعزل، وولي مكانه عمّه معدّ بن المنصور إلى أن استولى النصارى على المهديّة وسواحلها ما بين سوسة وصفاقس وطرابلس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وصارت لصاحب صقلّيّة، وأخرج الحسن بن علي كما هو مذكور، فأخذ أهل تونس في الاستعداد والحذر. واستأسدوا لذلك على واليهم، وانتشر بغاتهم وربما ثاروا بعض الأيام عليه فقتلوا عبيده بمرأى منه، واعتدوا عليه في خاصّته. فبعث عنه أخوه يحيى من بجاية فركب البحر في الأسطول، وترك نائبة العزيز بن دامال [1] من وجوه صنهاجة، فأقام بينهم وهم مستبدّون عليه، وكان بالمعلقة جوارهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح قد تغلب عليها.
وكانت الحرب بينه وبين أهل تونس سجالا، والتحم؟ بينهما المصاف وكان محرز يستمدّ عساكر صاحب المهديّة على أهل تونس فتأتيه إلى أن غلب النصارى على المهديّة، وحدثت الفتنة بينهم بالبلد فكان المصاف بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة، وكانوا يرجعون في أمورهم إلى القاضي عبد المنعم ابن الإمام أبي الحسن.
ولما غلب عبد المؤمن على بجاية وقسنطينة وهم العرب بسطيف ورجع إلى مراكش.
انتهت إليه شكوى الرعايا بإفريقية مما نزل بهم من العرب، فبعث ابنه عبد الله من بجاية إلى إفريقية في عساكر الموحّدين، فنازل تونس سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وامتنعت عليه. ودخل معهم محرز بن زياد وقومه من العرب، واجتمع جندهم وبرزوا للموحّدين فأوقعوا بهم، وأفرجوا عن تونس، وهلك أميرها عبد الله بن خراسان خلال ذلك. وولي مكانه علي بن أحمد بن عبد العزيز خمسة أشهر، وزحف عبد المؤمن إلى تونس وهو أميرها، فانقادوا لطاعته كما نذكره في أخبار الموحّدين. ورحل علي بن أحمد بن خراسان إلى مراكش بأهله وولده، وهلك في طريقه سنة أربع وخمسين وخمسمائة وأفرج محرز بن زياد عن المعلقة. واجتمعت إليه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: دافال.(6/218)
قومه وتدامرت العرب عن مدافعة الموحدين واجتمعوا بالقيروان وبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو منصرف من غزاته إلى المغرب فبعث إليهم العساكر وأدركوهم بالقيروان فأوقعوا بهم واستلحموهم قتلا وسبيا وتقبض على محرز بن زياد أميرهم فقتل وصلب شلوه بالقيروان، والله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير.(6/219)
(الخبر عن بني الرند ملوك قفصة الثائرين بها عند التياث ملك آل باديس بالقيروان واضطرابه بفتنة العرب ومبدإ دولتهم ومصاير أمورهم)
لما تغلب العرب على إفريقية وانحلّ نظام الدولة الصنهاجيّة، وارتحل المعزّ من القيروان إلى المهدية، وكان بقفصة عاملا لصنهاجة عبد الله بن محمد بن الرند وأصله من جرية من بني صدغيان. وكان ابن نحيل [1] هو من بني مرين من مغراوة، وكان مسكنهم بالجوسين من نفزاوة فضبط قفصة وقطع عنها عادية الفساد، وصالح العرب على الإتاوة فصلحت السابلة واستقام الحال. ثم استبدّ بأمره وخلع الامتثال من عنقه سنة خمس وأربعين وخمسمائة واستمرّ على ذلك. وبايعته توزر وقفصة وسوس والحامة ونفزاوة وسائر أعمال قسنطينة فاستفحل أمره وعظم سلطانه، ووفد عليه الشعراء والقصّاد، وكان معظّما لأهل الدين إلى ان هلك سنه خمس وستين وخمسمائة.
وولي من بعده ابنه المعتز وكنيته أبو عمر، وانقاد إليه الناس فضبط الأمور وجبى الأموال واصطنع الرجال، وتغلّب على قموده وجبل هوّارة وسائر بلاد قسطيلية وما إليها. وحسنت سيرته إلى أن عمي. وهلك في حياته ابنه تميم فعهد لابنه يحيى بن تميم. وقام بالأمر واستبدّ على حدّه ولم يزالوا بخير حال إلى أن نازلهم عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة. فمنعهم من الأمر، ونقلهم إلى بجاية فمات المعتز بها سنة سبع وخمسين وخمسمائة لمائة وأربع عشرة من عمره وقيل لسبعين، ومات بعده بيسير حافده يحيى بن تميم. وولّى عبد المؤمن على قفصة نعمان بن عبد الحق الهنتاتي.
ثم عزله بعد ثلاث بميمون بن أجانا الكنسيفي، ثم عزله بعمران بن موسى الصنهاجي، وأساء إلى الرعية، فبعثوا عن علي بن العزيز بن المعتز من بجاية. وكان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم، وثاروا بعمران بن موسى عامل الموحّدين فقتلوه وقدّموا علي بن العزيز فساس ملكه وحاط رعيته. وأغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث وستين وخمسمائة أخاه السيد أبا زكريا فحاصره وضيّق عليه
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مميل، وفي النسخة التونسية: نحيل.(6/220)
وأخذه، وأشخصه إلى مراكش بأهله وماله، واستعمله على الأشغال بمدينة سلا إلى أن هلك وفنيت دولة بني الرند والبقاء للَّه وحده أهـ.
يحيى بن تميم علي بن العزيز بن المعتز أبي عمر بن عبد الله بن محمد الرند
(الخبر عن بني جامع الهلاليين أمراء قابس لعهد الصنهاجيين وما كان لتميم بها من الملك والدولة وذلك عند فتنة العرب بإفريقية)
ولما دخلت العرب إلى إفريقية وغلبوا المعز على الضواحي ونازلوه بالقيروان، وكان الوالي بفاس المعزّ بن محمد بن لموية الصنهاجي، وكان أخوه إبراهيم وماضي بالقيروان قائدين للمعز على جيوشه فعزلهما، ولحقا مغاضبين بمؤنس بن يحيى، وكان أوّل تملّك العرب. ثم أقام إبراهيم منهم واليا بقابس ولحق المعز بن محمد بمؤنس، فكان معه إلى أن هلك إبراهيم وولي مكانه أخوه ماضي، وكان سيّئ السيرة فقتله أهل قابس، وذلك لعهد تميم بن المعز بن باديس، وبعثوا إلى عمر أخي السلطان إلى طاعة العرب، فوليها بكر بن كامل بن جامع أمير المناقشة من دهمان من بني علي إحدى بطون رياح فقام بأمرها، واستبدّ على صنهاجة. ولحق به مثنّى بن تميم بن المعزّ نازعا عن أبيه فأجابه، ونازل معه المهديّة حتى امتنعت عليه، واطلع على قبائح شتى، فأفرج عنها. ولم يزل كذا على حاله في إجابة قابس وإمارة قومه دهمان إلى أن هلك.
وقام بأمره بعده رافع واستفحل بها ملكه، وهو الّذي اختطّ بحر العروسيين من مصانع الملك بها، واسمه مكتوب لهذا العهد في جدرانها.
ولمّا ولي علي بن يحيى بن تميم فسد ما بينه وبين رافع، وأعان عليه رافع صاحب،(6/221)
صقلّيّة فغلب أسطول علي بن يحيى على أسطول النصارى. ثم ذوى [1] قبائل العرب والأساطيل، وزحف إلى قابس سنة إحدى عشر وأربعمائة. قال ابن أبي الصلت:
دول الثلاثة الأخماس من قبائل العرب الذين هم: سعيد ومحمد ونحبه، وأضاف إليهم من الخمس الرابع أكابر بني مقدّم موافى من كان منهم بفحص القيروان، وفرّ رافع إلى القيروان وامتنع عليه أهلها. ثم امتنع شيوخ دهمان واقتسموا البلاد، وعيّنوا القيروان لرافع وأمكنوه. وبعث عليّ بن يحيى عساكره والعرب المدوّنة على منازلة رافع بالقيروان، وخرج إلى محاربتهم فهلك بالطريق في بعض حروبه مع أشياع رافع.
ثم أنّ ميمون بن زياد الصخري حمل رافع بن مكن على مسالمة السلطان وسعى في إصلاح ذات بينهما، فانصلح وارتفعت بينهما الفتنة. وقام بقابس من ذلك رشيد بن كامل. قال ابن بجيل: وهو الّذي اختطّ قصر العروسيّين وضرب السكّة الرشيدية.
وولي بعده ابنه محمد بن رشيد، وغلب عليه مولاه يوسف، ثم خرج محمد في بعض وجوهه وترك ابنه مع يوسف فطرده يوسف واستبد، وانتهى إلى طاعة رجار فثار به أهل قابس ودفعوه عنهم، فخرج إلى أخيه. ولحق أخوه عيسى بن رشيد وأخبره الخبر فحاصرهم رجار بسبب ذلك مدّة من الأيام. وكان آخر من ملكها من بني جامع أخوه مدافع بن رشيد بن كامل. ولمّا استولى عبد المؤمن على المهديّة وصفاقس وطرابلس بعث ابنه عبد الله بعسكر إلى قابس ففرّ مدافع بن رشيد عن قابس وأسلمها للموحّدين، ولحق بعرب طرابلس من عرب عوف فأجاروه سنتين. ثم لحق بعبد المؤمن بقابس [2] فأكرمه ورضي عنه. وانقرض من بني جامع من يؤانس، والبقاء للَّه وحده أهـ.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: دوى. ولا معنى هنا لذوي، ولا لدوى ومقتضى السياق دوّخ.
[2] وفي النسخة التونسية: بفاس.(6/222)
(الخبر عن ثورة رافع بن مكن بن مطروح بطرابلس والعرامى بصفاقس على النصارى وإخراجهم واستبدادهم بأمر بلدهم [1] في آخر دولة بني باديس)
أمّا طرابلس فكان رجار صاحب صقلّيّة لعنه الله قد استولى عليها سنة أربعين وخمسمائة على يد قائده جرجي بن ميخاييل الأنطاكي، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم، وبقيت في مملكة النصارى أياما. ثم إنّ أبا يحيى بن مطروح من أعيان البلد مشى في وجوه الناس وأعيانهم، وداخلهم في الفتك بالنصارى فاجتمعوا لذلك وثاروا بهم وأحرقوهم بالنار. ولما وصل عبد المؤمن إلى المهديّة وافتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه أبو يحيى بن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم برّا وتكرمة. وقدم ابن مطروح المذكور عليهم وردّهم إلى بلدهم، فلم يزل
__________
[1] الأصح ان يقول: واستبدادها بأمر بلديهما، هكذا في النسخة التونسية.(6/223)
عليهم إلى أن هرم وعجز بعهد يوسف بن عبد المؤمن، وطلب الحج فسرّحه السيد أبو زيري [1] بن أبي حفص محمد [2] بن عبد المؤمن عامل تونس فارتحل في البحر سنة ست وثمانين وخمسمائة واستقرّ بالإسكندرية.
وأمّا صفاقس فكانت ولاتها أيام بني باديس من صنهاجة قبيلهم إلى أن ولّى المعز بن باديس عليها منصور البرغواطي من صنائعه، وكان فارسا مقداما، فحدّث نفسه بالثورة أيام تغلب العرب على إفريقية، وخروج المعز إلى المهديّة ففتك به ابن عمّه حمّو بن مليل البرغواطي وقتله في الحمام غدرا. وامتعض له حلفاؤه من العرب وحاصروا حمّو حتى بذل لهم من المال ما رضوا به. واستبدّ حمّو بن مليل بأمر صفاقس حتى إذا هلك المعزّ حدّثته نفسه بالتغلّب على المهديّة، فزحف إليها في جموعه من العرب، ولقيه تميم فانهزم حمّو وأصحابه سنة خمس وخمسين وخمسمائة ثم بعث ابنه يحيى مع العرب لحصار صفاقس، فحاصرها مدّة وأقلع عنها. وزحف إليه تميم بن المعزّ سنة ثلاث وتسعين فغلبه عليها. ولحق حمّو بمكن بن كامل أمير قابس فأجاره، وصارت صفاقس إلى ملكة تميم ووليها ابنه.
ولما تغلّب النصارى على المهديّة وملكها جرجي بن ميخاييل قائد رجار سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فغلبوا بعدها على صفاقس وأبقوا أهلها، واستعملوا عمر بن أبي الحسن القرباني لمكانه فيهم. وحملوا أباه أبا الحسن معهم إلى صقلّيّة رهنا. وكان ذلك مذهب إلى رجار ودينه فيما ملك من سواحل إفريقية، يبقيهم ويستعمل عليهم منهم، ويذهب إلى العدل فيهم فبقي عمر بن أبي الحسن عاملا لهم في أهل بلده وأبوه عندهم. ثم أنّ النصارى الساكنين بصفاقس امتدّت أيديهم إلى المسلمين ولحقوا بالضرر. وبلغ الخبر أبا الحسن وهو بمكانه من صقلّيّة، فكتب إلى ابنه عمر، وأمره بانتهاز الفرصة فيهم والاستسلام إلى الله في حق المسلمين، فثار بهم عمر لوقته سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وقتلهم وقتل النصارى أباه أبا الحسن وانتقضت عليهم بسبب ذلك سائر السواحل. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة من يد رجار، وصل إليه عمر، وأدّى طاعته، فولّاه صفاقس، ولم يزل واليا عليها وابنه عبد الرحمن من بعده إلى أن تغلّب يحيى بن غانية فرغّبه في الحج، فسرّحه ولم بعد.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو يزيد.
[2] وفي النسخة التونسية: عمر.(6/224)
(الخبر عما كان بإفريقية من الثوار على صنهاجة عند اضطرابها بفتنة العرب الى انّ محا أثرهم الموحدون)
لما كان أبو رجاء الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب، وتقويض المعز عن القيروان إلى المهديّة، وتغلّبهم عليها قد ضمّ إليه جماعة من الدعّار. وكان ساكنا بقلعة قرسينة [1] من جبل شعيب، فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت ويفرض على أهل القرى الاتاوات بسبب ذلك، فطال عليهم أمره ويئسوا من حسم دائه وكان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم وهم من قوم الورد، وبقوا فوضى واختلف أمرهم، فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم، فوصل إلى بلدهم، فاجتمعوا عليه وأدخلوا حصن بنزرت، وقدّموه على أنفسهم فحاطهم من العرب، ودافع عن نواحيهم. وكان بنو مقدّم من الأثبج ودهمان من بني عليّ إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الإتاوة وكفّ بها عاديتهم، واستفحل أمرهم وتسمّى بالأمير، وشيّد المصانع والمباني وكثر عمران بنزرت إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه طراد وكان شهما، وكانت العرب تهابه.
وهلك فولي من بعده ابنه محمد بن طراد، وقتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة، وقام بأمر بنزرت وسمى بالأمير، وحمى حوزته من العرب، واصطنع الرجال، وعظم سلطانه وقصده الشعراء وامتدحوه فوصلهم. وهلك فولي من بعده ابنه عبد العزيز عشر سنين، وجرى فيها على سنن أبيه وجدّه، ثم ولى من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين. ثم من بعده أخوهما عيسى واقتفى أثرهم. ولما نازل عبد الله بن عبد المؤمن تونس وأفرج عنه مرّ به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه وتجمع بطاعته. وطلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه. وولّى عليهم أبا الحسن الهرغى، فلمّا قدم عبد المؤمن على إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة راعى له ذلك وأقطعه، واندرج في جملة الناس. وكان بقلعة ورغة يدوكس [2] بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية، والقلعة قد شادها [3] وحصّنها.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: قريشة.
[2] وفي النسخة التونسية: وكان بقلعة زرعة بروكس.
[3] وفي النسخة التونسية: والقلعة قد ثار بها وحصّنها.(6/225)
وكان مبدأ أمره أنّ العزيز تغيّر عليه في حروب وقعت بينه وبين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام، وإلى السلطان العجز، فخافه على نفسه، ولحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الربغي [1] وآواه وترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله، وكانوا فئتين مختلفتين من زاتيمة إحدى قبائل البربر، وهما أولاد مدين وأولاد لاحق. فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم، وأقام معهم بالقلعة. ثم استجلب بعض الدعّار كانوا بناحيتها، وأنزلهم بالقلعة معهم واصطنعهم صاهر أولاد مدين وظاهرهم على أولاد لاحق، وأخرجهم من القلعة واستبدّ بها.
وقصدته الرجال من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس، وأثخن في نواحيه، وحارب بني الورد ببنزرت وابن علال بطبربة، وقتل محمد بن سبّاع أمير بني سعيد من رياح، وغصّت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضا، وجهّز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر وفتك به واسمه غيلاس. وهلك بعد مدّة وقام بأمره ابنه منيع، ونازلة بنو سبّاع وسعيد طالبين بثأر أخيهما محمد. وتمادى به الحصار وضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة، واستلحم هو وأهل بيته قتلا وسبيا والله مالك الأمور.
وكان أيضا بطبربة مدافع بن علال القيسيّ شيخ من شيوخها. فلما اضطربت إفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبربة وحصّن قلعتها، واستبدّ بها في جملة من ولده وبني عمّه وجماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على وادي مجردة. بإزاء الرياحين. وطالت بينهما الفتنة والحرب. وكان قهرون بن مخنوس [2] بمنزل دحمون قد بنى حصنه وشيّده، وجمع إليه جيشا من أوباش القبائل، وذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولّاه العامّة عليهم. ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته، فخرج من البلد ونزل دحمون، وبني حصنا بنفسه مع الحنايا وردّد الغارة على تونس، وعاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل.
وبلغ خبره ابن علّال صاحب طبرية فوصل ابن علّال يده بصهر منه، ونقله إلى بعض الحصون ببلده، وهي قلعة غنوش، وتظافروا على الإفساد. وخلفهما بنوهما من بعدهما إلى أن وصل عبد المؤمن إلى إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة فمحا آثار
__________
[1] وفي النسخة التونسية: محمود بن يزال الربعي.
[2] وفي نسخة ثانية: غنوش.(6/226)
الفساد من جانب إفريقية، وكان أيضا حمّاد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علّال وابن غنوش وابن بيزون وخلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن. وكان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبناريّة قد صار إليه جند من أهل الدعارة وأوباش القبائل، فحملها من العرب، واستغاث به ابن قليه شيخ الأريس من العرب، وشكا إليه سوء ملكتهم، فزحف إليهم وأخرجهم من الأريس، وفرض عليهم مالا يؤدّونه إليه إلى أن مات وولي ابنه من بعده، فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، والله مالك الملك لا ربّ غيره وسبحانه أهـ.
(الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعين لخلافة العبيديين وما كان لهم من الملك والسلطان بإفريقية والمغرب الأوسط الى حين انقراضه بالموحدين)
هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري وكان المنصور بلكّين قد عقد لأخيه حمّاد على أشير والمسيلة، وكان يتداولها مع أخيه يطوفت وعمه أبي البهار. ثم استقل بها سنة سبع وثمانين وثلاثمائة أيام باديس من أخيه المنصور ودفعه لحرب زناتة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالمغرب الأوسط من مغراوة وبنى يفرن، وشرط له ولاية أشير والمغرب الأوسط وكل بلد يفتحه وأن لا يستقدمه. فعظم عناؤه فيها وأثخن في زناتة وكان مظفرا عليهم. واختطّ مدينة القلعة بحبل كتامة سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وهو جبل عجيسة وبه لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال. ونقل إليها أهل المسيلة وأهل حمزة وخرّبهما. ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها، وتمّ بناؤها وتمصّرها على رأس المائة الرابعة. وشيّد من بنيانها وأسوارها واستكثر فيها من المساجد والفنادق، فاستبحرت في العمارة واتسعت في التمدّن. ورحل إليها من الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها.
ولم يزل حمّاد أيام باديس هذا أميرا على الزاب والمغرب الأوسط ومتوليا حروب زناتة. وكان نزوله ببلد أشير والقلعة متاخما لملوك زناتة أحيائهم البادية بضواحي(6/227)
تلمسان وتاهرت. وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلاثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما فقتل ماكسن وابناه، وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس. ثم أنّ بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حماد رتبته وسعوا في مكانه من باديس إلى أن فسد ذات بينهما. وطلب باديس ان يسلم عمل تيجست وقسنطينة لولد المعز لما قلّده الحاكم ولاية عهد ابنه، فأبى حمّاد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة، ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العبيديّين جملة، وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة.
وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودسّ إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب، وعبى عساكره من القيروان، وخرج إليه فنزع عن حمّاد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرّة من زناتة، وبني حسن كبار صنهاجة، وبني يطوفت من زناتة، وبني غمرة أيضا منهم، وفرّ حماد، وملك باديس أشير. ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتّباعه حتى نزل مواطين [1] فحصر السرسّو من بلاد زناتة. ونزل إليه عطية بن داقلتن [2] في قومه من بني توجين، لما كان حمّاد قتل أباه. وجاء على أثره ابن عمّه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد.
ثم أجاز إليه باديس من وادي شلف وناجزه الحرب، ونزع إليه عامّة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة، وباديس في أثره حتى نزل فحاصر المسيلة، وانحجر حمّاد في القلعة وحاصره. ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه ست وأربعمائة، فباعت صنهاجة لابنه المعزّ صبيا ابن ثمان سنين. وتلاقوا من أشير [3] ، وبعثوا كرامة بن منصور لسدّها فلم يقدروا، واقتحمها عليه حمّاد.
واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان وبايعوا المعزّ بالبيعة العامة وزحف إلى حمّاد بناحية قفصة، وأشفق حمّاد فبعث ابنه القائد لإحكام الصلح بينه وبين المعز، فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة. وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أبيه.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بوادي الطين، وفي النسخة التونسية بوالطين وفي نسخة أخرى: مواطن.
[2] وفي النسخة الباريسية: دافلتن، وفي النسخة التونسية: دافلين.
[3] وفي نسخة أخرى: وتلافوا أمر أشير.(6/228)
وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد وكان جبّارا فاختار أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة في بلد اختطه حمزة بن إدريس. وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين وأربعمائة فخرج إليه القائد، وسرّب الأموال في زناتة. وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته، ورجع إلى فاس، وزحف إليه المعزّ من القيروان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وحاصره مدّة طويلة. ثم صالحه القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا. وراجع القائد طاعة العبيديّين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة.
وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه محسن وكان جبارا، وخرج عليه عمه بوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حمّاد، وبعث محسن في طلبه بلكّين ابن عمّه محمد بن حمّاد، وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأمرهما بقتل بلكّين في طريقهما، فأخبرا بلكّين بذلك وتعاهدوا جميعا على قتل محسن، وأنذر بهم، ففرّ إلى القلعة وأدركوه، فقتله بلكّين لتسعة أشهر من ولايته. وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة [1] وكان شهما قرما حازما سفّاكا للدّماء. وقتل وزير محسن الّذي تولى قبله. وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدّم بسكرة لما أحس بنكثه،؟ مخالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره. ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه علناس بن حمّاد فقتلها، وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت. وكان بلكّين كثيرا ما يردّد الغزو إلى المغرب، وبلغه استيلاء؟ يوسف بن تاشفين والمرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وفرّ المرابطون إلى الصحراء، وتوغّل بلكّين في ديار المغرب، ونزل بفاس، واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهنا على الطاعة. وانكفأ راجعا إلى القلعة فانتهز منه الناصر ابن عمّه الفرصة في الثأر بأخته، ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلّف المشقة بابعاد الغزو والتوغّل في أرض العدو، فقتله بتساله سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
وقام بالأمر من بعده، واستوزر أبا بكر بن أبي الفتوح، وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانة وعلى حمزة لأخيه رومان، وعلى نقاوس لأخيه خزر. وكان المعز
__________
[1] الواقع ان القائد بن حمّاد توفي سنة 446 فخلفه ابنه محسن الّذي قتله بكلين بن محمد بن حماد بعد تسعة أشهر حسب رواية ابن خلدون فيكون وفاته في سنة 447 وليس 437. وربما يعود هذا الخطأ الى الناسخ. وفي النسخة التونسية أيضا 447. كذلك في قبائل المغرب ص 144.(6/229)
قد هدم سورها فأصلحه الناصر، وعقد على قسنطينة لأخيه بلباز، وعلى الجزائر وسوس الدجاج [1] لابنه عبد الله وعلى أشير لابنه يوسف، وكتب إليه حمّو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية. ووفد عليه أهل قسنطينة [2] ومقدّمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته، وأجزل صلتهم وردّهم إلى أماكنهم، وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضا في طاعته وكذلك أهل تونس.
وكان أهل بسكرة لما قتل بلكّين مقدّمهم جعفر بن أبي رمّان خلعوا طاعة آل حمّاد واستبدّوا بأمر بلدهم، وعليهم بنو جعفر، فسرّح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكّين قبله، فنازلها وافتتحها عنوة، واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم، ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه، أنه لما بلغه خبر بلكّين أراد تولية أخيه معمّر، وشاورهم في ذلك، فقتله الناصر وولّى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح.
ثم خرج الناصر ليتفقّد المغرب فوثب علي بن ركان على تافر بوست [3] دار ملكهم وكان لما قتل بلكين هرب الى إخوانه من عجيسة واهتبلوا الغرّة في تافر بوست لغيبة الناصر، فطرقوها ليلا، وملكها عليّ فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط في أيديهم، وافتتحها عليهم عنوة وذبح علي بن ركان نفسه بيده. ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخا به على رياح، فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للأربس، وتواقعوا بسببه فغدرت بهم زناتة وجرّوا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن المعز بن زيري بن عطية، وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر، واستباحوا خزائنه ومضاربه، وقتل أخوه القاسم وكاتبه، ونجا إلى قسنطينة في اتباعه.
ثم لحق بالقلعة في فلّ من عسكره، لم يبلغوا مائتين. وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح، فعقد بينهم وبينه صلحا وتمّمه الناصر. ثم وفد عليه رسول تميم، وسعى عنده بالوزير بن أبي الفتوح وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله. وكان المستنصر بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مرسى الدجاج.
[2] وفي النسخة التونسية: قسطيلة.
[3] وفي النسخة التونسية تاقريوست وفي قبائل المغرب تغرسيت ص 330.(6/230)
خزرون الزناتي خرج في أيام الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر، ووصل إلى طرابلس فوجد بني عديّ بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من إفريقية كما ذكرناه، فرغّبهم في بلاد المغرب، وسار بهم حتى نزل المسيلة، ودخلوا أشير. وخرج إليه الناصر ففرّ إلى الصحراء ورجع، فرجع إلى مكانه من الإفساد، فراسله الناصر في الصلح فأسعفه، وأقطعه ضواحي الزاب وريغه، وأوعز إلى عروس بن هندي [1] رئيس بسكرة لعهده، وولي دولته أن يمكر به، فوصل المنتصر إلى بسكرة وخرج إليه عروس ابن هندي وأحمد نزله، وأشار على حشمه عند انكباب المنتصر وذويه على الطعام فبادروا مكبين لطعنه، وفرّ أتباعه وأخذوا رأسه، وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجاية، وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عظة لغيره. وقتل كثير من رؤساء زناتة، فمن مغراوة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس، وكانت له بلد لمديه والمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم، وقتل معنصر بن حمّاد منهم أيضا، وكان بناحية شلّف فأجلب على عامل مليانه، وقتل شيوخ بني ورسيفان من مغراوة، فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلا عنهم بشأن العرب. فزحفوا إلى معنصر وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه مع رأس المستنصر [2] . وبعث إليه أهل الزاب أنّ عمر [3] ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم، فبعث ابنه المنصور في العساكر ونزل وعلان [4] بلد المنتصر بن خزرون [5] وهدمها. وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولّى عليها، وقفل بالغنائم والسبي، وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل، وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله، فبعث ابنه المنصور إليهم بالعسكر، وتقبّض على أمير بني توجين وأخيه زيري وعمّهما الأغلب وحمامة، وأحضرهم فوبّخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد، وقتلهم جميعا على الخلاف.
وفي سنة ستين وأربعمائة افتتح جبل بجاية، وكان له قبيل من البربر يسمّون بهذا الاسم، إلّا أنّ الكاف فيهم بلغتهم ليست كافا بل هي بين الجيم والكاف، وعلى هذا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: سندي.
[2] وفي نسخة أخرى: فنصبه على رأس القصر.
[3] وفي النسخة الباريسية: عمرت. وفي النسخة التونسية: غمرت.
[4] وفي النسخة التونسية: وغلان.
[5] هو المستنصر بن خزرون.(6/231)
القبيل من صنهاجة يأتون لهذا العهد أوزاعا في البربر. فلما افتتح هذا الجبل اختطّ به المدينة وسمّاها الناصرية، وتسمّى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية، وبنى بها قصر اللؤلؤة وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس، وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهديّة، ولمّا أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم، وكثر الثوّار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم، فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا، وعظم شأن أيامهم، فبنى المباني العجيبة المؤنّقة، وشيّد المدائن العظيمة، وردّد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم.
ثم هلك سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وقام بالأمر من بعده ابنه المنصور بن الناصر.
ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وأوطنها بعساكر وخاصة بعراعر منازل العرب [1] ، وما كانوا يسومونهم بالقلعة من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحتها والعيث في نواحيها، وتخطف الناس من حولها السهولة طرقها على رواحلهم، وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار، فاتخذ بجاية هذه معقلا وصيّرها دارا لملكه، وجدّد قصورها وشيّد جامعها. وكان المنصور هذا جمّاعة مولعا بالبناء وهو الّذي حضر ملك بني حمّاد وتأنّق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين. فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون [2] .
وكان أخوه يلباز على قسنطينة منذ عهد الناصر أبيهما وهمّ بالاستبداد لأوّل ولاية المنصور، فسرّح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر، وعقد له على قسنطينة وبونة فتقبّض على يلباز وأشخصه إلى القلعة، وأقام واليا على قسنطينة وكأنه، وولّى أخاه ويغلان على بونة. ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسنطينة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وبعث أخاه ابن موتة إلى تميم بن المعزّ بالمهديّة، واستدعاه لولاية بونة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم، ونزل بونة مع ويغلان، وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم. وسرّح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر، ثم اقتحموها غلابا، وتقبضوا على أبي الفتوح
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وخاصة بعرا من بلاد العرب.
[2] وفي قبائل المغرب/ 145: قصر دار السلام، وبجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميون.(6/232)
بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة.
ثم نازلت عساكره قسنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يكنى فخرج إلى قلعة بجبل أوراس، وتحصّن بها. ونزل بقسنطينة صليصل بن الأحمر من رجالات الأثبج.
وداخل صليصل المنصور في أن يمكّنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل، واستولى عليها المنصور. وأقام أبو يكنى بحصنه من أوراس، وردّد الغارة على قسنطينة فتوجّهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه. وكان بنو ومانو من زناتة حيّا جميعا وقوما أعزّة. وكانت إليهم رياسة زناتة. وكان رئيسهم لعهده ماخوخ، وكان بينهم وبين آل حمّاد صهر، فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر، وكانت أخرى عند المنصور.
ولما تجدّدت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده، وجمع له ماخوخ ولقيه في زناتة، فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته. واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه. وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرّضهم على بلاد صنهاجة، فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان، وذلك أنّ يوسف بن تاشفين لمّا ملك المغرب، واستفحل به أمره، سما إلى ملك تلمسان، فغلب عليها أولاد يعلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة على ما يأتي ذكره، وأنزلها محمد بن يغمر المسولى [1] وصيّرها لعز الملك [2] فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم، فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ، وضيّق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه.
وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة، ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده، فبعث ابنه الأمير عبد الله، وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش، واحتل هو بالمغرب الأوسط فشنّ الغارة في بلاد بني ومانوا، وحاصر الجعبات، وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك، وعفا عن أهلها، ورجع إلى أبيه.
ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ. وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان، وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره، واجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين، فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: محمد بن يغمر المستوفي.
[2] وفي نسخة أخرى: وصيّرها ثغرا لملكه.(6/233)
وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر، فنهض إلى أشير وافتتحها، فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة [1] . ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة، وهم العقل من زناتة أمما كثيرة، ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين وأربعمائة في نحو عشرين ألفا. ولقي اسطقسه [2] وبعث العسكر في مقدّمته، وجاء على أثرهم. وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تسأله، ولقيته عساكر المنصور فهزموه، ولجأ إلى جبل الصخرة. وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء، متوسلة بوشائح الصنهاجية، فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها، وأفرج عنهم صبيحة يومه. وانكفأ راجعا إلى حضرته بالقلعة. وأثخن بعدها في زناتة وشرّدهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط. ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها، ودوّخت عساكره قبائلها، فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت [3] والمنصورية والصهريج والناظور [4] وحجر المعزّ، وقد كان أسلافه يرومون كثيرا عنها، فتمنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه.
وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من المريّة فارا أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس، فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها. وهلك سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فولي من بعده ابنه باديس، فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأوّل ولايته، وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاما عامل بجاية.
وهلك قبل أن يستكمل سنة، وولي من بعده أخوه العزيز. وقد كان عزله عن الجزائر وغرّبه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل، وبايعوه، وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه ابنته. وطال أمر ملكه، وكانت أيامه هدنة وأمنا. وكان العلماء يتناظرون في مجلسه.
ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته، ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته، وكبس العرب في أيامه القلعة وهم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فقام المنصور في ركائبه وقعد واستنفر كافة صنهاجة.
[2] وفي نسخة اخرى: اسطقسيف.
[3] وفي النسخة الباريسية: بازروت وفي النسخة التونسية يازروت.
[4] وفي النسخة الباريسية: والهريج والناطور وفي التونسية: والصهريج والباطور(6/234)
غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها، وعظم عيثهم، وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد. ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث ابنه يحيى وقائده علي بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية، فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال. وقد أمّن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعا إلى بجاية في عسكره على عهد العزيز. وهكذا كان وصول مهدي الموحّدين إلى بجاية قافلا إلى المشرق سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وغيّر بها المنكر، فسعى به عند العزيز وائتمر به، فخرج إلى بني ورياكل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه. ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرّس العلم. وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوا دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب.
وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة [1] فولي من بعده ابنه يحيى، وطالت أيامه مستضعفا مغلبا للنساء مولعا بالصيد على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة واستحدث السكّة ولم يحدثها أحد من قومه أدبا مع خلفائهم العبيديّين، ونقل ابن حماد انّ سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه، فدائرة الوجه الواحد: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 2: 281 والسطور «لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز باللَّه الأمير المنصور. ودائرة الوجه الآخر: «بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 ضرب هذا الدينار بالناصريّة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة» . وفي سطوره الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العبّاسي.
ووصل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها، وانتقض عليه بنو زرا بن مروان، فجهّز إليه الفقيه مطرف بن علي بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبّض على ابن مروان وأوصله إليه فسجنه بالجزائر إلى أن هلك في معتقله، وقيل قتله. وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل في وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه، ورجع إلى بجاية وتغلّب النصارى على المهديّة، وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد، حتى إذا زحف الموحّدون إلى بجاية وفرّ القائد من الجزائر وأسلمها، قدّموا الحسن على أنفسهم ولقي
__________
[1] الصحيح: خمس عشرة وخمسمائة.(6/235)
عبد المؤمن فأمّنهم، وأخرج يحيى بن العزيز أخاه سبع للقاء الموحّدين فانهزم وملك الموحدون بجاية.
وركب يحيى البحر إلى صقلّيّة يروم الاجازة منها إلى بغداد. ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارس ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة، فنزل على أخيه الحسن فتخلّى له عن الأمر. وفي خلال ذلك دخل الموحّدون القلعة عنوة. ودخل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة. ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وخمسمائة ونزل قسنطينة واشترط لنفسه فوفّى له، ونقله إلى مراكش فسكنها. ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته. وأمّا الحارث صاحب بونة ففرّ إلى صقلّيّة واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها. ثم غلب عليها الموحّدون وقتلوه صبرا. وانقرض ملك بني حمّاد والبقاء للَّه وحده، ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم، وهم لهذا العهد في عداد الجند، ولهم أقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده، والله وارث الأرض ومن عليها أهـ.(6/236)
ملوك بني حبوس (الخبر عن ملوك بني حبوس بن ماكسن من بني زيري من صنهاجة من غرناطة من عدوة الأندلس وأولية ذلك ومصايره
لما استبدّ باديس بن المنصور بن بلكّين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية إفريقية سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ولى عمومته وقرابته ثغور عمله، فأنزل حمّادا بأشير أخاه يطوفت بتاهرت، وزحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة، ونزل تاهرت وسرّح باديس عساكره لنظر محمد بن أبي العون فالتقوا على تاهرت، وانهزم صنهاجة، فزحف باديس بنفسه للقائهم، وخالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طبنة ثم أجفل زيري بن عطية أمامه ورجع إلى المغرب، فرجع باديس الى القيروان، وترك عمومته أولاد زيري بأشير مع حمّاد وأخيه يطوفت وهم زاوي وحلال وعرم ومعنين وأجمعوا على الخلاف والخروج على باديس سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فأسلموا حمّادا برمته واستولوا على جميع ما معه، واتصل الخبر بأبي البهار بن زيري، وهم مع باديس فخشيه على نفسه، ولحق بهم واجتمعوا في الخلاف، واشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يأنس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله، وانفسح مجالهم في الفساد والعيث ووصلوا أيديهم بفلفول وعاقدوه.
ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبّله وصالح له، ثم رجعوا إلى حمّاد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ولقيهم فهزمهم وقتل ماكسن وابنه. ولحق زاوي بجبل شنوق من ساحل مليانة، وأجاز البحر إلى الأندلس في بنيه وبني أخيه وحاشيته، ونزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة وكافل الخلافة الأموية، فأحسن نزلهم وأكرم وفادتهم، واصطنعهم لنفسه واتخذهم بطانة لدولته وأوليائه على ما يرومه من قهر الدولة والتغلّب على الخلافة، ونظّمهم في طبقات زناتة وسائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان وعساكر الأموية وقبائل العرب، واستغلظ أمر صنهاجة بالأندلس واستفحلت إمارتهم، وحملوا دولة المنصور بن أبي عامر وولديه المظفّر والناصر من بعده على كاهلهم.(6/238)
ولما انقرض أمرهم واضمحلّت دولتهم ونشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة وأهلها، فكان زاوي كبش تلك الوقائع ومحش [1] حروبها. وتمرّس بقرطبة هو وقومه صنهاجة وكافة زناتة والبربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الّذي أتوه ببيعتهم، وأعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم. ثم اقتحموا به قرطبة عنوة واصطلموا عامّة أهلها وأنزلوا المعرات بذوي الصون منها وبيوتات الستر من خواصّها، فحدث الناس في ذلك بأخبارها وتوصّل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيري بن مناد المتصور بجدران قصر قرطبة فأزاله وأصاره إلى قومه ليدفن في جدثه. ثم كان شأن بني حمّود من العلوية، وافترق أمر البرابرة واضطرمت الأندلس نارا، وامتلأت جوانبها فتنة، وأسرى الرؤساء من البرابرة ورجالات الدولة على النواحي والأمصار فملكوها، وتحيّزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها وحصل عليها استيلاؤهم، وزاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة واتخذها دارا لملكته ومعتصما لقومه.
ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة، وحذر مغبّة الفعلة واستعاضت الدولة، فاعتزم على الرحلة وآوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر وأربعمائة بعد مغيبه عشرين سنة، وأنزل على المعزّ بن باديس حافد أخيه بلكّين أجلّ ما كانت دولتهم بأمر إفريقية، وأترف وأوسع ملكا وأوفر عددا، فلقيه المعز بأحسن أحوال البرّ والتجلّة، وأنزله أرفع المنازل من الدولة وقدّمه على الأعمام والقرابة وأسكنه بقصره، وأبرز الحرم للقائه، فيقال: إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحلّ له واحدة منهنّ، ووارى إبراهيم مع شلوه بجدثه. وكان استخلف على عمله ابنه ونّا فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه، وبعثوا عن حبّوس ابن عمّه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله، فبادر إليهم، ونزل بغرناطة، فانتقضوا عليه وبايعوه، واستحدث بها ملكا، وكان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة وولي من بعده ابنه باديس بن حبّوس ويلقّب بالمظفّر، ولم يزل مقيما لدعوة آل حمّو أمراء مالقة بعد تخلّفهم عن قرطبة سائر أيامه، وزحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع وعشرين وأربعمائة فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه وقتله وطالت
__________
[1] حشّ الحرب أي هيّجها (القاموس) .(6/239)
أيام ومدّ ملوك الطوائف أيديهم جميعا إلى مدده فكان ممن استمدّه محمد بن عبد الله البرز الي لمّا حاصره إسماعيل بن القاضي بن عبّاد بعساكر أبيه فأمدّه باديس بنفسه وقومه وصار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمّود صاحب المالقة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ورجعوا من طريقهم. وطمع إسماعيل بن القاضي بن عبّاد مع صريخه فيهم فاتبعهم ولحق بباديس في قومه، فاقتتلوا، وفرّ عسكر إسماعيل وأسلموه فقتله صنهاجة، وحمل رأسه إلى ابن حمود.
وكان القادر بن ذي النون صاحب طليطلة أيضا يستدفع به وبقومه استطالة ابن عبّاد وأعوانه. وباديس هذا هو الّذي مصّر غرناطة واختطّ قصبتها وشاد قصورها وشيّد حصونها، وآثاره في مبانيها ومصانعها باقية لهذا العهد. واستولى على مالقة عند انقراض بني حمود سنة تسع وأربعين وأربعمائة وأضافها إلى عمله، وهلك سنة سبع وستين وأربعمائة وظهر أمر المرابطين بالمغرب واستفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكين بن باديس، وتغلّب المظفر وعقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة أجازته المعروفة كما نذكره في أخباره. ونزل بغرناطة سنة ثلاث وثمانين فتقبّض على عبد الله بن بلكين واستصفى أمواله وذخيرته وألحق به أخاه تميما من مالقة واستصحبهما إلى العدوة، فأنزل عبد الله وتميما بالسوس الأقصى وأقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته، ويزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحلّ ملك بلكانة من صنهاجة ومن بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحلّ ملك بلكانة من صنهاجة ومن إفريقية والأندلس أجمع والبقاء للَّه وحده أهـ.
عبد الله بن بلكين بن باديس بن حيوس بن ماكسن بن زيري بن مناد(6/240)
الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة
هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثّمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراويّة بالجنوب، أبعدوا في المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أوّلها. فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذا عن العمران، واستئناسا بالانفراد، وتوحشا بالعز عن الغلبة والقهر.
فنزلوا من ريف الحبشة جوارا، وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاما تميزوا بشعاره بين الأمم، وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعدّدت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوقة فوتريكة فناوكا [1] فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلّهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة.
وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة، وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كأكدم وكان دينهم جميعا المجوسيّة شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرّين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس، وكانت الرئاسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم مذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارثه ملوك منهم: تلاكاكين وورتكا اوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدإ دولتهم، وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها، ودوّخوا تلك البلاد الصحراويّة وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام، فدان به كثيرهم. واتّقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور ثيولوثان.
(قال) ابن أبي زرع: أوّل من ملك الصحراء من لمتونة ثيولوثان، فدوّخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وملك بعده يلتّان [2] وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلاثمائة، وقتله صنهاجة وافترق
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فوتزيلة فتاركا.
[2] وفي النسخة الباريسية: بليان.(6/241)
أمرهم أهـ. كلام ابن أبي زرع. وقال غيره: كان من أشهرهم تيزا [1] وابن وانثبق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة، كان يركب في مائة ألف نجيب، وعمله مسيرة شهرين في مثلها، ودان له عشرون ملكا من ملوك السودان يعطونه الجزى، وملك من بعده بنوه. ثم افترق أمرهم من بعد ذلك، وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعا. قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن بلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبو عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني، فاجتمعوا عليه وأحبّوه وكان من أهل الدين والصلاح، وحجّ وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين أهـ كلامه.
وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أوّلا، وبإفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه.
الخبر عن دولة المرابطين [2] من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك وأولية ذلك ومصايره
كان هؤلاء الملثّمون في صحاريهم كما قلناه، وكانوا على دين المجوسيّة إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه، وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوسق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص.
فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق [3] بن منصور بن وصالة بن المنصور بن مزالت ابن أميت بن رتمال بن ثلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرئاسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء، وتظاهروا على أمرهم. وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة، فلقوا في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تينزوا.
[2] علق أحمد أمين في حديثه عن المرابطين والموحدين أنهم «لم يكونوا من سعة الأفق والعراقة في المدنية والحضارة بحيث يستطيعون ان يحكموا الأندلس طويلا. (ظهور الإسلام ج 3 ص 7) .
[3] ورتنطق: قبائل الغرب/ 332.(6/242)
منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي، واغتنموا ما متعوا به.
من هديه وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاويه.
وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم، فندب تلميذه إلى ذلك حرصا على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغبتهم فيه. فاستوعروا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك ابن زلوا اللمطي بسلجماسة من الآخذين عنه، وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه، ويروّض نفسه على مسغبة أرضهم في معاشه، فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ووصل معهم يعلّمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى ابن إبراهيم وافترق أمرهم، واطرحوا عبد الله بن ياسين، واستصعبوا عمله وتركوا الأخذ عنه لما تجشّموا فيه من مشاق التكليف، فأعرض عنهم وترهّب وتنسّك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة، وأخوه أبو بكر، فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحا في المصيف وغمرا في الشتاء، فتعود جزرا منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة، وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، فتسايلوا إليهم ودخلوا في دينهم وغيضتهم.
ولما كمل معهم ألف من الرجالات، قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين: إن ألفا لن تغلب من قلّة، وقد تعيّن علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه، فأخرجوا بنا لذلك، فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة [1] ومهمومة حتى أنابوا الى الحق واستقاموا على الطريقة، وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين، وسمّاهم بالمرابطين، وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر، فتخطّوا الرمال الصحراوية إلى بلاد درعة وسجلماسة فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا. ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء سجلماسة من مغراوة، وحرّضهم على تغيير أمرهم، فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وأربعمائة في عدد ضخم ركبانا على المهارى أكثرهم، وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز خمسين ألفا ونحوها.
ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها
__________
[1] هم من القبائل الملثمين/ قبائل المغرب ص 332.(6/243)
وعن بلاده، فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع أموالهم، واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلابا وقتلوا من كان بها من أهل مغراوة، وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس، واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم، فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين وقدم مكانه أخاه أبا بكر وندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وافتتح ماسة وتارودانت سنة تسع وأربعين وأربعمائة وفرّ أميرها لقوط بن يوسف بن عليّ المغراوي إلى تادلّا [1] واستضاف إلى بني يفرن ملوكها وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب غمات [2] وتزوّج امرأته زينب بنت إسحاق النفزاويّة، وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن عليّ بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخا على وريكة وهي زوجة هيلانة في دولة امغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلّب بنو يفرن على وريكة، وملكوا غمات فتزوّج لقوط زينب هذه، ثم تزوّجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين الى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا [3] وإنفا وجهات الريف الغربي، فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين وأربعمائة وقد أمّ المرابطين بعده سليمان بن حروا [4] ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم ثم استأصل شأفتهم ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدوّ سنة إحدى وخمسين وأربعمائة لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين.
ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعد ما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء، حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم، فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة، وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف
__________
[1] وفي قبائل المغرب ص 123: وتتبع أميرها لقوط الغماري الى تادلة ففتحها سنة 449.
[2] وفي قبائل المغرب ص 123: أغمات.
[3] تامسنا: قبائل المغرب ص 124.
[4] وفي نسخة أخرى: سليمان بن عدوّ.(6/244)
بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة لقتالهم، فارتحل أبو بكر إلى الصحراء، واستعمل على المغرب ابن عمّه يوسف بن تاشفين [1] ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحاق ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح بابا من جهاد السودان، فاستولى على نحو تسعين رحلة من بلادهم.
وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب، ونزل بلكّين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة، وانكفأ راجعا. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوّخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر الى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبدّ عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعدّ له متاع الصحراء وما عونها، ففطن لذلك الأمير أبو بكر وتجافى عن المنازعة وسلّم له الأمر، ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة.
واختطّ يوسف مدينة مرّاكش سنة أربع وخمسين وأربعمائة ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وكمل تشييدها وأسوارها علي [2] ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله ولعسكره وللتمرّس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشدّ منهم ولا أكثر جمعا. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب، وجذب الخيل من أيديهم، وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم فقد كانوا من ذلك على ألم (حدث المؤرّخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه) فنازل أولا قلعة فازاز وبها مهدي بن توالي من بني يحفش.
قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة، وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده، فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكرنامي صاحب مكناسة بما كان عدوا لمعنصر المغراوي صاحب فاس،
__________
[1] تحدث صاحب الأنيس المطرب ابن أبي زرع الفاسي عن حدود المملكة المرابطية فلاحظ ان يوسف بن تاشفين خطب له على 1900 منبر وان ملكه امتدّ من أقصى شرق الأندلس الى اشبونة، ومن جزائر بني فراغة الى طنجة الى آخر السوس الأقصى الى جبل الذهب من بلاد السودان الأنيس المطرب ج 2 ص 37. (المعجم التاريخي/ 64) .
[2] ذكر لسان الدين الخطيب في كتابه الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية ص 69: ان علي بن يوسف بن تاشفين هو أول من استعمل الروم بالمغرب. (المعجم التاريخي/ 64) .(6/245)
فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس، وجمع إليه معنصر ففضّ جموعه، وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها، وأقام عليها أياما قلائل، وظفر بعاملها بكّار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى مغراوة وافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحا سنة خمس وخمسين وأربعمائة ثم رجع إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيرا من بلادهم. وأشرف على طنجة وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة، وبقية الأمراء من موالي الحموديّة وأهل دعوتها. ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز، وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل عاملها.
واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما، وناجزه الحرب ففضّ جموعه وقتله، وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدّته الحاجب سكوت البرغواطي.
واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها، وألحّوا بالقتال عليها فمسّهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوّه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية، كانوا ملوكا بتازا وتسول، فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي سيمير [1] فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي بلاد فازاز [2] فارتحل سنة ست وخمسين وأربعمائة ونزل عليها عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب فافتتح بني مراسن ثم قبولادة [3] ، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين وأربعمائة. وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة نازل فاس فحاصرها مدّة ثم افتتحها عنوة قول بمفازتها ثلاثة آلاف من مغراوة وبنى يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات منهم، وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدويتها، وصيّرها
__________
[1] وفي نسخة اخرى: صغير.
[2] هي جبال فازاز (الأطلس المتوسط) قبائل المغرب/ 124.
[3] وفي نسخة أخرى: فنزلاوة.(6/246)
مصرا واحدا، وأدار عليها الأسوار وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد، ورتّب بناءها، وارتحل سنة ثلاث وستين وأربعمائة إلى وادي ملوية، فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين وأربعمائة إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة، ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين وأربعمائة إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحها ودوّخها، ثم اقتسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء قومه وذويه، ثم استدعاه المعتمد بن عبّاد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمّوديّة بسبتة، فأعاد إليه ابن عبّاد الرسل بالمشايعة إليهم، فجهّز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة، فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه ومعه ابنه ضياء الدولة، فانكشف وقتل الحاجب سكوت ولحق ابنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين، ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قائده مزدلى بن تبلكان [1] بن محمد بن وركوت من عشيرة في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان، وبها يومئذ الأمير العبّاس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر، فدوّخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة، وظفروا بيعلى ابن الأمير العبّاسي فقتلوه، وانكفأوا راجعين من غزاتهم.
ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بعدها إلى الريف وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرّب مدينة نكور فلم تعمّر بعده ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجده وبلاد بني يزتاسن ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة، وقتل العبّاس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن تيغمر المستوفي بها في عساكر المرابطين، فصارت ثغرا لملكه. ونزل بعساكره واختطّ بها مدينة تاكرارت بمكان محلته، وهو اسم المحلّة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر، وانكفأ راجعا إلى المغرب فاحتلّ مراكش سنة خمس وسبعين وأربعمائة ولم يزل محمد بن تيغمر واليا بتلمسان إلى أن هلك، وولي بعده أخوه تاشفين
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ملنكان وفي التونسية تيلنكان.(6/247)
ثم ان الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر، وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليطلة، وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد، وتسلّمها منه صلحا سنة ثمان وسبعين وأربعمائة على أن يملّكه بلنسية، فبعث معه عسكرا من النصرانية فدخل بلنسية وتملّكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليطلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف، وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها.
ثم نازل سرقسطة وضيّق على ابن هود بها، وطال مقامه وامتدّ أمله إلى تملّكها، فخاطب المعتمد بن عبّاد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منجزا وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية.
وكاتبه أهل الأندلس كافة من العلماء والخاصّة فاهتز للجهاد وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها برّا، وأحاطت بها أساطيل ابن عبّاد بحرا فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وأربعمائة وتقبّض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبرا، وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عبّاد البحر في جماعته والمرابطين، ولقيه بفاس مستنفرا للجهاد، وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطا لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ولقيه المعتمد بن عبّاد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونس [1] ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله، ولقي المرابطين بالزلّاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكرا بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيرة، ويعرف أبوه بالحاج، وكان محمد من بطانته وأعاظم قوّاد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس، ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئا، فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففرّ عليّ بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغريا بالقادر بن ذي النون، فأنفذ معه
__________
[1] ألفونس: قبائل المغرب/ 124. وأذفونش عند ابن الأثير ج 10/ 152.(6/248)
عسكرا وملك بلنسية، وقتل ابن ذي النون وذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية واتصل حصاره إيّاها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ثم استخلصتها عساكر المرابطين، وولّى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي، وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وأربعمائة وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسّوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم، فوجد عليهم، وعهد برفع المكوس وتحرّى المعدلة، فلما أجاز انقبضوا عنه إلّا ابن عبّاد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم، فتقبّض على ابن رشيق فأمكن ابن عبّاد منه العداوة التي بينهما. وبعث جيشا إلى المريّة ففرّ عنها ابن صمادح ونزل على المنصور بن الناصر ببجاية، وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره، وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم، وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل: الغزالي والطرطوشي، فعهد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبيد الله بن بلكّين بن باديس وأخاه تميما من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين، وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عبّاد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها، وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها، وقعد ابن عبّاد عن تلقّيه ومبرّته فأحفظه ذلك، وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر، ففسد ذات بينهما، وغلبه على جميع عمله.
واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الرائض من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيليّة فحاصر المعتمد بها وضيّق عليه، واستنجد الطاغية فعمد الى استنقاذه من هذا الحصار، فلم يغن عنه شيئا، وكان دفاع لمتونة مما فتّ في عضده، واقتحم والمرابطون إشبيليّة عليه عنوة سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتقبّض على المعتمد وقاده أسيرا إلى مراكش، فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة [1] ثم عمد إلى بطليوس وتقبّض على صاحبها
__________
[1] قبض على المعتمد بن عباد سنة 484 وحبس في مراكش فكيف يكون توفي سنة 470 ولعل هذا الخطأ خطأ الناسخ والصحيح أنه توفي سنة 490 كما هو معروف في كتب التاريخ. وفي النسخة التونسية 490.(6/249)
عمر بن الأفطس فقتله وابنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صحّ عنده من مداخلتهم الطاغية، وأن يملّكوه مدينة بطليوس، ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وأربعمائة وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه، وكان الظهور للمسلمين.
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وانضمّ إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامّة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف، ولم يبق منها إلّا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصما بالنصارى.
وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين، وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن، واستولى على العدوتين، واتصلت هزائم المرابطين مرارا وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي [1] الخليفة لعهده ببغداد، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب على يد المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر، فتلطّفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس، فعقد له وتضمّن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضّانه على العدل والتمسّك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله.
ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وأربعمائة وقد كان ما قدّمناه في أخبار بني حمّاد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن تيغمر وافتتاحه أكثر بلادهم، فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة وبعث إليهما مزدلي من بلنسية، وولي بلنسية عوضا منه أبا محمد بن فاطمة، وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة، وقام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك. وكانت أيامه صدرا منها وداعة ولدولته على الكفر وأهله ظهور وعزة، وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدوّ
__________
[1] وفي النسخة التونسية: المستظهر العباسي.(6/250)
قتلا وسبيا؟، وولّى على الأندلس الأمير تميم بن [1] وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم، ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة وأثخن في بلاد النصارى ورجع، وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيدا وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه.
ثم كانت سنة تسع وخمسمائة شأن برقة [2] وتغلّب أهل جنوة عليها وأخلوها. ثم رجع العمران إليها على يد مرتانا قرطست [3] من قوّاد المرابطين كما مرّ في ذكرها عند ذكر الطوائف. ثم استمرّت حال عليّ بن يوسف في ملكه، وعظم شأنه، وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وخمسمائة وأنزله قرطبة واشبيلية، وأجاز معه الزبير بن عمر، وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوقي على شرق الأندلس وأنزله بلنسية، وهو ممدوح بن خفّاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوقي على الجزائر الشرقيّة دانية وميورقة، واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحّدين، فقيها منتحلا للعلم والفتيا والتدريس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، متعرّضا بذلك للمكروه في نفسه.
ونالته بجاية وتلمسان ومكناسة أذايات من الفسقة ومن الظالمين، وأحضره الأمير عليّ بن يوسف للمناظرة ففلج عليّ خصومه من الفقهاء بمجلسه، ولحق بقومه هرغة من المصامدة، واستدرك عليّ بن يوسف رأيه فتفقّده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرّح إليهم البعث فأوقعوا به، وتقاسم معهم هنتاتة وتين ملّل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم.
وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقام بأمرهم عبد المؤمن بن عليّ الكومي كبير أصحابه بعهده إليه، وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مرارا.
وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية، وظهر أمر الموحّدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك عليّ بن يوسف سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده، وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ
__________
[1] بياض في جميع النسخ ولم نهتد الى اسم والد تميم هذا في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي النسخة التونسية: ميورقة.
[3] وفي نسخة أخرى: بن تامرظست.(6/251)
أمر الموحّدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه.
وغزا عبد المؤمن غزوته الكبرى إلى جبال المغرب، ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان ونازلة عبد المؤمن والموحّدون بكهف الضحّاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها، ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب، وشرهوا إلى مدافعة الموحّدين فغلبوهم، وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفرّ تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله، واتبعه الموحّدون واقتحموا عليه البلد فهلك يقال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة واستولى الموحّدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفا عاجزا، فخلع وبويع عمّه إسحاق بن عليّ بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحّدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه، فخرج إليهم في خاصّته فقتلهم الموحّدون وأجاز عبد المؤمن والموحّدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملكوا واستلحموا أمراء لمتونة وكافتهم وفرّوا في كل وجه، ولحق فلّهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جدّدوا من بعده للملك بناحية إفريقية، والله غالب على أمره.
دولة ابن غانية الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه على الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له على أمره وأولية ذلك ومصايره
كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثّمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين إمامهم، وتحوّل عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسّك وترهّب كما قلناه، حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمرو أبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رياسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثّمين، وكان مسوقة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم، فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظّ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم(6/252)
وشجعانهم، وكان مقدّما عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق انه قتل بعض رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهما، فتثاور الحيّان وفرّ هو إلى الصحراء، ففدّى يوسف بن تاشفين القتل وودّاه، واسترجع عليّا من مفرّه لسنين من مغيبه، وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمّى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك، فولدت منه محمدا ويحيى ونشأ في ظلّ يوسف بن تاشفين وحجر كفالته.
ورعى لهما عليّ بن يوسف ذمام هذه الأمور وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقيّة وميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسمائة، وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدّم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن وبعث معهم أبا إسحاق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموحّدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم، فملك إشبيليّة واقتضى طاعة يحيى بن عليّ بن غانية، واستنزله عن قرطبة إلى حمال [1] والقليعة، فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمتونة، ويحملهم على طاعة الموحّدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن بقصر باديس. وأمّا محمد بن عليّ فلم يزل واليا إلى أن هلك، وقام بأمره بعده ابنه عبد الله.
ثم هلك وقام بالأمر أخواه إسحاق بن محمد بن عليّ، وقيل إن إسحاق ولي بعد ابنه محمد، وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه، فقتلهما معا، واستبدّ بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسمائة. وخلّف ثمانية من الولد وهم: محمد وعليّ ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة، فقام بالأمر ابنه محمد. ولمّا أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم، ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبّضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه عليّ بن محمد بن عليّ، وتلوموا في ردّ ابن الزبرتير إلى مرسلة، وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري [2] استشهد في الجهاد باركش من العدوة، وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا
__________
[1] هي جيان كما في نسخة أخرى. وكانت تسمى عند الرومان أورنجس وقد كانت مركز علم وأدب أيام العرب وعاصمة لامارة الى أن استرجعها الاسبان سنة 1246 م بينها وبين غرناطة 97 كلم، وكانت قاعدة كورة البشارات التي كانت تشتمل على ما يقرب من ستمائة قرية كما عند الاويسي. (مجلة البيّنة/ 26) .
[2] وفي النسخة الباريسية: العشري وفي النسخة التونسية: العسري.(6/253)
ابن الزبرتير وركبوا البحر في اثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله، وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي، وولي على ميورقة عمّه أبا الزبير، وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حين غفلة من أهلها، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن، وكان بايميلول من خارجها في بعض مذاهبه، فلم تمانعه أهل البلد واستولوا عليها في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن، كان قافلا من إفريقية يؤم المغرب واكتسحوا ما كان بدار السادة والموحّدين.
وكان والي القلعة قاصدا مراكش وهو يستخبر خبر بجاية، فرجع وظاهر السيد أبا الربيع، وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما واستولى على أموالهما، وأسريا ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذ في تحصين تلمسان ورمّ أسوارها، وأقاما عند السيد يرومان الكرّة من صاحب تلمسان.
وعاث عليّ بن محمد بن غانية في الأموال وفرّقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم، ورحل إلى الجزائر فافتتحها، وولّى عليها يحيى بن أبي طلحة. ثم افتتح مازونة وانتهى إلى مليانة فافتتحها، وولّى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثا ودخلها عنوة، وكانت في المغرب خطة مشهورة. ثم قصد قسنطينة فامتنعت عليه واجتمعت إليه وفود العرب فاستنجدهم وجاءوا بأحلافهم. ولما اتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، سرّح العساكر في البرّ لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وعقد له على المغرب الأوسط، وبعث الأساطيل الى البحر وقائدها أحمد الصقلّي وعقد عليها لأبي محمد بن إبراهيم بن جامع، وزحفت العساكر من كل جهة فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه، وأمكنوا منهم السيد أبا يزيد فقتلهم على شلف، وعفا عن يحيى لنجدة عمه طلحة، وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو، فتقبّضوا عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته، وقادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله. وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفرّ إلى أخيه عليّ لمكانه من حصار قسنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها. ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية، وأطلق السيد أبا موسى من معتقله. ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة بعد أن كان أخذ ومضى شديدا في الصحراء، والموحّدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي(6/254)
ابن غانية في قفصة فملكها، ونازل بورق وقسطيلية فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري، وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته: أنّ صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلا يتحصّن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الّذي كان صلاح الدين عمّه من وزرائه. واستعجلوا النصر [1] فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففرّ قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفرّ إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظّم نسبة للملك المعظّم شمس الدولة بن أيوب أخي صلاح الدين. فأمّا قراقش فلحق ششرية [2] وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة وخطب فيها لصلاح الدين ولاستاذه تقي الدين. وكتب لهما بفتح زويلة وغلبه بني خطاب الهواري على ملك فزّان وكانت ملكا لعمّه محمد بن الخطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنغل بن خطّاب وهو آخر ملوكهم، وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطّاب فتقبّض عليه وغلبه على المال حتى هلك، ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل طرابلس واجتمع عليه عرب دياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب، واتصل به مسعود بن زمام شيخ الزواودة [3] من رياح عند مفرّة من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم، وفرض لهم العطاء واستبدّ بملك طرابلس وما وراءها. وكان قراقش من الأرمن وكان يقال له المعظّمي والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين.
وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم، ويكتب علامة الظهيرة بخطه. وثقت باللَّه وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه، فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها، وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن، فدخلها وخطب للعبّاسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحّدين.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: واستفحلوا بمصر.
[2] وفي نسخة أخرى: سنترية ولعلها شنت مريّة في البرتغال وقد مرّت معنا سابقا.
[3] وفي نسخة أخرى: الدواودة.(6/255)
(رجع الخبر الى ابن غانية)
ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحّدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم، واجتمع إليه من كان محرفا عن طاعة الموحّدين من قبائل هلال مثل:
جشم ورياح والأبثج، وخالفتهم زغبة إلى الموحّدين، فاحتفلوا [1] بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فلّ قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع، فانعقد أمره وتجدّد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيرا من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العبّاسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيء ببغداد مجدّدا ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة، وطلب المدد والإعانة. فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العبّاسية.
وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن، وولّى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل قفصة خلعوا طاعة ابن غانية، فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضا. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بإفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين وخمسمائة لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرّح في مقدّمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحّدين، فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده، فانهزم الموحّدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم، وأسر علي بن الزبرتير في آخرين، وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس، وصمد المنصور إليهم فأوقع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فاعتقلوا.(6/256)
بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر [1] وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية، فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتلموا الى مراكش، وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر أهلها بالطاعة.
ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من كان بها من الحشود.
وقتل إبراهيم بن قراتكين، وامتنّ على سائر الأعوان وخلّى سبيلهم، وأمّن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. تم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفرّ ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب قبل: جشم ورياح والعاصم كما قدّمناه. وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الاجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك عليّ في بعض حروبهما مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين وخمسمائة أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك، وعفى على قبره، وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه يحيى بن إسحاق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته على سنن أخيه علي.
ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحّدين سنة ست وثمانين وخمسمائة فهاجر إليهم بتونس وتقبّله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياما. ثم فرّ ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم، واستبدّ على أشياخ دباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين، كان منهم: محمود بن طرق أبو المحاميد وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغّل فيها، ثم فرّ إلى الصحراء ونزل ودّان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدّة وجمع عليه أهل الثأر من دباب، واقتحمها عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحّدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فرّ إلى ودّان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وخمسمائة.
(رجع الخبر) واستولى ابن غانية على الجريد، واستنزل ياقوت فولّى قراقش من
__________
[1] وفي النسخة التونسية: بجريعة الذقن.(6/257)
طرده، كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس، ونازلة ابن غانية بها، وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة، وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمدّه أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس، وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحّدون. وكان من خبر ميورقة أن عليّ بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية ترك أخاه محمدا وعليّ بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة، وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحاق فأطلق من معتقله، وصار الأمر له فدخل في دعوة الموحّدين، ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحاق، ركب البحر من إفريقية إلى صقلّيّة وأمدّوه بأسطول، ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها، ولم يزل بها واليا. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه، وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة إلى أن غلب عليه الموحّدون سنة تسع وتسعين وخمسمائة فقتل ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات.
(رجع الخبر) ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولّى عليها تاشفين ابن عمّه الغازي، وقصد قابس فوجد بها عامل الموحّدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، فاستدعاه أهلها لما فرّ عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس، وضيّق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلّي سبيل ابن بافراس [1] فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأغرمهم ستين ألف دينار، وقصد المهدية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الكرابي [2] .
(وكان من خبره) أنه نشأ بالمهديّة وصار من جندها المرتدّين، وهو كوفيّ الأصل، وكانت له شجاعة معروفة، فجمع لنفسه خيلا ورجالا وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة، وبعد في ذلك صيته وأمدّه الناس بالدعاء.
وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على إفريقية من قبل المنصور لأوّل ولايته، وولّى على المهدية أخاه يونس، وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم، وامتنع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تافراكين.
[2] وفي نسخة أخرى: الراكراكي.(6/258)
فانزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبّر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته، وتقبّض على يونس سنة خمس وتسعين وخمسمائة واعتقله إلى أن فدّاه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العتيق، واستبدل ابن عبد الكريم بالمهديّة ودعا لنفسه، وبلغت المتوكّل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن واليا على إفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين وخمسمائة واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحّدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك، وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدّة. ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهديّة، وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأمدّه السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله، واستولى على المهديّة واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقابس وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من إفريقية فنازل باجة، ونصب عليها المجانيق وافتتحها عنوة وخرّبها، وقتل عاملها عمر بن غالب، ولحق شريدها بالأربس وشقبناريّة وتركها خالية على عروشها، وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد، فزحف إليها ابن غانية ونازلها، وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسنطينة، وانهزم الموحّدون واستولى على معسكرهم.
ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها، وتقبّض على حافظها أبي الحسن بن أبي يعلى، وتملك بعدها بلنسية [1] والقيروان وبايعه أهل بونة، ورجع إلى المهديّة وقد استفحل ملكه، فأزمع على حصار تونس وارتحل إليها سنة تسع وتسعين وخمسمائة واستعمل على المهديّة علي بن الغازي ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية، ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوه بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات، واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة [2] . وقبض على السيد أبي زيد وابنه ومن كان معه من الموحّدين، وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار، وولّى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: تبسه.
[2] الصحيح في ختام المائة الخامسة.(6/259)
بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك، فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعملوا القتل فيما نقل أن إسماعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك، فرجع الطلب ببقيتها عنهم.
وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره ففعل بهم مثل ذلك، وأغرمهم بالناصر بمراكش ما دهم أهل إفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله، فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه، فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة [1] ، فاستباحها، وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس، ثم قفصة، ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في مطماطة. ونزل الناصر تونس، ثم قفصة، ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في جبل دمّر، فرجع عنه إلى المهديّة، وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها.
وسرّح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحّدين سنة اثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجورّا من نواحي قابس، وأوقع به وقتل أخاه جبارة بن إسحاق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله، ثم افتتح الناصر المهديّة ودخل إليها عليّ بن الغازي في دعوة فتقبله، ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها برسمه إليه على يد واصل [2] مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله، ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهدا.
وولىّ الناصر على المهديّة محمد بن يغمور من الموحّدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يولّيه أمر إفريقية لسدّ فرجها والذبّ عنها ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحّدين بتونس، وجمع ذؤبان العرب من الزواودة وغيرهم، وأوفد الزواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطف [3] وتحيّز بنو عوف بن سليم إلى الموحّدين، والتقوا بشبور [4] من نواحي تبسّة [5] فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: نغزاوة.
[2] وفي النسخة التونسية: من سبته إليه على يد ناصح.
[3] وفي نسخة أخرى: بن سلطان.
[4] وفي نسخة أخرى: بشبرو.
[5] تبسّة: بالفتح ثم الكسر، وتشديد السين المهملة: بلد مشهور من أرض افريقية، بينه وبين قفصة ست مراحل في قفر سبيبة، وهو بلد قديم به آثار الملوك، وقد خرّ الآن أكثرها ... (معجم البلدان) .(6/260)
ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثّمين فانتهى إلى سجلماسة وامتلأت أيدي اتباعه من النهاب، وخرقوا الأرض بالعيث والفساد. وانتهى إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة، وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية، وقتله وأسروا وافده [1] ، وكرّ راجعا إلى إفريقية، فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب إفريقية في جموع الموحّدين، واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ [2] ابن غانية إلى جبال طرابلس، وهاجر أخوه مسير بن إسحاق إلى مرّاكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث [3] ومن معهم من قبائل البربر، وعزم على دخول إفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست وستمائة ولقيهم بجبل نفوسة، ففلّ عسكرهم واستلحم أمرهم، وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن، وقتل معه ابن عمّه من كتّاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان، وهلك يومئذ من العرب الهلاليّين أمير قرّة سمّاد بن نخيل.
حكى ابن نخيل أن مغانم الموحّدين يومئذ من عساكر الملثّمين كانت ثمانية عشر ألفا من الظهر، فكان ذلك مما أوهن من شدّته ووطّى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه، وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي إفريقية ودفع سلبهم واستثار أشياخهم بأهلهم، وأسكنهم بتونس حسما لفسادهم. وصلحت أحوال إفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة وستمائة وولي أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن، ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد، فاستطار بعد مهلكه سور بن عبابة، ولخم فعابه رعيته [4] ، ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيّين، وسرّح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحّدين إلى درج وغدامس، وسرّح عسكرا آخر إلى ودان لحصار ابن غانية، فأرجف بهم العرب ونهضوا وهمّ بهم السيد أبو
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ولده.
[2] وفي النسخة التونسية: ونجا.
[3] وفي النسخة التونسية: ونفاث.
[4] وفي نسخة أخرى: ثور بن غانية، ونجم نفاقه وعيثه.(6/261)
العلا. وفرّ ابن غانية إلى الزاب، واتبعه السيد أبو زيد فنازل ببسكرة واقتحمها عليه.
ونجا ابن غانية وجمع أوباشا من العرب والبربر، واتبعه السيد أبو زيد في الموحّدين وقبائل هوّارة، وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين وستمائة فانهزم ابن غانية وجموعه، وقتل كثير من الملثّمين وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم.
وكان طرأ له يومئذ حماس من بعد ما سعى [1] في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس، فانكفّ راجعا، وأعيد بنو أبي حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بإفريقية. واستقلّ الأمير أبو زكريا منهم بأمرها، واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن [2] وتناولها من يد أخيه أبي محمد عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جدّ الخلفاء الحفصيّين وماهد أمرهم بإفريقية، فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرّده في أقطارها. ورفع يده شيئا فشيئا عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريدا مع العرب بالقفار، فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة، وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانه، وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر. وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من إمارته سنة إحدى وثلاثين وستمائة وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قتله الأريس يقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء باديس ومديد [3] من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثّمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلّف بنات بعثهن [4] زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر [5] فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهنّ، فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهنّ، وبنى لهنّ بحضرته دارا لصونهنّ معروفة لهذا العهد
__________
[1] هكذا بالأصل وفي نسخة أخرى: وكان لهوارة يومئذ، وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن في هذا الزحف اثر مذكور وبلاء حسن.
[2] وفي النسخة التونسية: من ملكة آل عبد المؤمن.
[3] وفي النسخة الباريسية: وتنومة. وفي النسخة التونسية: وبنومة.
[4] العبارة تكون أصح لو قال: وقد خلّف بنات زعموا بأنه بعثهن الى الأمير أبي زكريا.
[5] وفي النسخة التونسية صابر.(6/262)
بقصر البنات. وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهنّ بذلك منهنّ وحفظهنّ لوصاته. ولقد يقال أن ابن عم لهنّ خطب إحداهنّ، فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحقّ بك، فقالت لو كان ابن عمّنا ما كفلنا الأجانب، إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ.
أخبرني والدي رحمه الله أنه أدرك واحدة منهنّ أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. (قال) : ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفسا وأسراهنّ خلقا وأزكاهنّ خلالا والله وارث الأرض ومن عليها.
ومضى هؤلاء الملثّمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السواد ان حجزا بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وإفريقية، وهم لهذا العهد متّصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين، وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه، أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار، وأفناهم الرقّ [1] واستلحمهم أمراء الموحدين [2] وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأوّل من افتراق الكلمة واختلاف البين، وهم الآن يعطون طاعة لملوك السودان، يجبون إليهم خراجهم وينفرون في معسكرهم.
واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وإفريقية [3] فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسّان بن المعقل عرب السوس الأقصى، ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله بن المعقل أيضا عرب المغرب الأقصى، ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط، ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسنطينة، وتاركا في مقابلة سليم عرب إفريقية. وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم، والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمّونها النجيب، ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب، وسيرها هملجة، وتكاد تلحق بالركض [4] وربما يغزوهم أهل القفر من العرب وخصوصا بنو سعيد من بادية رياح، فهم أكثر العرب غزوا إلى بلادهم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: الترف.
[2] وفي النسخة التونسية: واستلحمهم آخرا الموحّدون.
[3] وفي النسخة التونسية: واتصل سياجهم على بلاد السودان الى المشرق، مناظرا لسياج العرب على بلاد المغربين وإفريقية.
[4] مقتضى السياق: وتكاد لا تلحق بالركض.(6/263)
فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير [1] . فإذا اتصل الصائح بأحيائهم وركبوا في اتباعهم واعترضوهم على المياه قبل فصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون، ويشتدّ الحرب بينهم فلا يخلص العرب من غوائلهم [2] إلّا بعد جهد، وقد يهلك بعضهم، وللَّه الخلق والأمر. وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب.
(ملوك السودان) (الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم)
هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني وما وراءه إلى آخر الأوّل بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق، ويجاورون بلاد البربر بالمغرب وإفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق، وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة، وأمّا أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعد ما ننسبهم، فبنو حام بن نوح بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام، والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي، وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر [3] بن حام، والزنج من ولد زنجي بن كوش، وأمّا سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر، ويقال: هو قبط بن حام.
وعدّ ابن سعيد من قبائلهم وأممهم سبعة عشر أمّة، فمنهم في المشرق الزنج على بحر الهند، لهم مدينة فنقية [4] وهم مجوس، وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم بربرا، وهم الذين ذكرهم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وينكفون مغزين.
[2] وفي النسخة التونسية: فلا يخلص العرب بغنائمهم.
[3] وفي النسخة التونسية: ابن ينصر.
[4] وفي النسخة التونسية: منبسة.(6/264)
امرؤ القيس في شعره. والإسلام لهذا العهد فاش فيهم، ولهم يومئذ مقاشن [1] على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وحولهم الدمادم وهم حفاة عراة.
قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج التتر إلى العراق، فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزو ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كفرة [2] ، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والّذي أسلم منهم لعهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما نعي إليه، كان اسمه النجاشيّ وهو بلسانهم: أنكاش بالكاف المشمة بالجيم عرّبتها العرب جيما محضة وألحقتها ياء النسب، شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرّفت فيها، وليس هذا الاسم سمة لكل من تملّك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا، ولو كان كذلك لشهروا اسمه إلى اليوم لأنّ ملكهم لم يتحوّل منهم، وملكهم لهذا العهد اسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه، أو اسم العشيرة الذين فيهم الملك. وفي غربيّه مدينة دامون وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم، وفي شماليه ملك آخر منهم اسمه حقّ الدين محمد بن علي بن واصمع [3] في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جدّه واصمع مطيعا لملك دامون، وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو واصمع بلادهم من الخطى وبنيه، واستولوا على وفاة وخرّبوها.
وبلغنا أنّ حق الدين هلك، وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحيانا وينابذونه أخرى والله مالك الملك. (قال ابن سعيد) : ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون، ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس، ويليهم النوبة إخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل، وأكثرهم مجاورون للديار المصرية، ومنهم رقيق. ويليهم زغاوة وهم مسلمون، ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي [4] ولهم التغلّب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مقدشوا.
[2] وفي نسخة أخرى: كعبر.
[3] وفي نسخة أخرى: ولصمع.
[4] وفي النسخة الباريسية: جنمي وفي النسخة التونسية حيمي.(6/265)
على بلاد الصحراء إلى فزّان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصيّة مذ أوّلها، ويليهم من غربهم كوكو، وبعدهم نغاله والتكرور ولمى وتميم وجاى [1] وكورى وأفكزار، ويتّصلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب. أهـ كلام ابن سعيد.
ولما فتحت إفريقية المغرب دخل التجّار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية، كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب، وكانوا أعظم أمّة ولهم أضخم ملك، وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمرا، ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك.
وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمّة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صوصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين، ثم بعدها أمّة أخرى تعرف مالي ثم بعدها أمّة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمّه أخرى تعرف بالتكرور.
(وأخبرني) الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علما ودينا وشهرة، قدم مصر سنة تسع وتسعين وستمائة حاجا بأهله وولده ولقيته بها فقال: إنهم يسمّون التكرور زغاي ومالي انكاويه أهـ.
ثم أنّ أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثّمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الاتاوات والجزى، وحملوا كثيرا منهم على الإسلام فدانوا به. ثم اضمحلّ ملك أصحاب غانية وتغلّب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم أنّ أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك، واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو أو ملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانية إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين، يذكرون أن أوّل من أسلم منهم ملك اسمه برمندان [2] هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده.
وكان ملكهم الأعظم الّذي تغلّب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الأمير الّذي يكون نسل السلطان وجاطة الأسد، واسم الحافد عندهم تكن، ولم يتّصل بنا نسب هذا الملك. وملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تمنم وجالي.
[2] وفي نسخة أخرى: برمندانة.(6/266)
عليهم خمسا وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده منسا ولي، ومعنى منسا السلطان، ومعنى ولي بلسانهم علي، وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس، وولي عليهم من بعده أخوه وأتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محمقا راويا، فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مجانا، فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمّى أبا بكر، وكان ابن بنته فملّكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الاخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه.
ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلّب على ملكهم اسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان: ضبطه بلسانهم أهل غانية سيكرة، وحجّ أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا، وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلّبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان، وارتحل إلى بلادهم التجّار من بلاد المغرب وإفريقية.
وقال الحاج يونس ترجمان التكروري إن الّذي فتح كوكو هو سغمنجة من قوّاد منسا موسى، وولي من بعده ساكورة وهذا هو ابن السلطان ماري جاطة. ثم من بعده ابنه محمد بن قو، ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولى عليهم منسا موسى بن أبي بكر، وكان رجلا صالحا وملكا عظيما، له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة، لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف بالطونجق [1] وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن، وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب، ولقيه في منصرفه صاحبنا المعمّر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن، كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر، وأجلب عليهم بعصائب من العرب فمكر به واركلا واعتقله، ثم خلّى سبيله بعد حين، فحاض إلى السلطان منسا موسى مستجيشا به عليهم، وقد كان بلغه توجّهه للحج، فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصرا على عدوّه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطوبجن.(6/267)
ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوّة سلطانه فلقي منه مبرّة وترحبا ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخرى وهو الثقة.
(قال: كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطونجق دون وزرائه ووجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث، نتمتع وكان متحفا) [1] في كل منزل بطرف المآكل والحلاوات قال:
والّذي تحمل آلته وحربته [2] من الوصائف خاصة اثنا عشر ألفا لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني.
(قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمّة بمصر) : جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملا من التبر، كل حمل ثلاثة قناطير، قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط، وأمّا السفر البعيد كالحج فعلى المطايا.
(قال أبو خديجة) : ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتا بمقعد [3] سلطانه محكم البناء مجللا لغرابته بأرضهم، فأطرفه أبو إسحاق الطونجق ببناء قبّة مربّعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين واضفى عليها من الكلس ووالي عليها بالأصباغ المشبّعة [4] فجاءت من أتقن المباني، ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفا من مثاقيل التبر مثوبة عليها، إلى ما كان له من الاثرة والميل إليه والصلات السنية. وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين، واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحت ممالكة ممّا تحدّث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه، بعث بها مع عليّ بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي واتصلت أيام منسا موسى هذا خمسا وعشرين سنة. ولمّا هلك ولي أمر مالي من بعده ابنه منسا مغا، ومغا عندهم محمد، وهلك لأربع سنين من ولايته، وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى، واتصلت أيامه أربعا وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده ابنه منسا بن سليمان وهلك لتسعة من ولايته،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حيث يتسع المقام، وكان يتحفنا.
[2] وفي النسخة التونسية: وخرثية.
[3] وفي نسخة أخرى: في قاعدة.
[4] وفي النسخة التونسية: وعالى عليها بالأصباغ المنمقة.(6/268)
فولي عليهم من بعده ماري جاطه بن منسا مغا بن منسا موسى واتصلت أيامه أربعة عشر عاما وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة، تحدث الناس بما اجتمع فيه من مفترق الجلي والشبه في جثمانه ونعوته دهرا.
(وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم واستعملوه في خطّة القضاء بما لقية منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته وذكر لي عن هذا السلطان جاطه أنه أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم، وكاد أن ينتقض شأن سلطانهم. (قال) : ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الّذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم، وهو حجر يزن عشرين قنطارا منقولا من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار، كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن، فعرضه جاطه هذا الملك المسرف على تجّار مصر المتردّدين إلى بلده وابتاعوه منه بأبخس ثمن إذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفا وتبذيرا في سبيل الفسوق والتخلّف.
(قال) : وأصابته علّة النوم، وهو مرض كثيرا ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصا الرؤساء منهم يعتاده غشي النوم عامّة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلّا في القليل من أوقاته، ويضرّ صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. (قال) : ودامت هذه العلّة بخلطه مدّة عامين اثنين وهلك سنة خمس وسبعين [وسبعمائة] وولّوا من بعده ابنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم، ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية ويغلب على دولته وزيره ماري جاطه، ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطه تقدّم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه، ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب، ودوّخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو وجهّز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثّمين، كتائب نازلتها الأوّل الدولة، وأخذت بمخنقها، ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة.
وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي وفيها من الملثّمين يعرف بالسلطان، وعليهم طريق الحاج من السودان، وبينه وبين أمير الزاب(6/269)
وواركلا مهاداة ومراسلة. (قال) : وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني [1] بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق، وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وإفريقية ومصر، والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر. ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وسبعمائة وولي بعده أخوه منسا مغا ثم قتل لسنة أو نحوها، وولي بعده صندكي زوج أمّ موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي بن ماري جاطه الأكبر، فتغلّب على الدولة وسلك أمرهم سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ولقبه منسا مغا، والخلق والأمر للَّه وحده.
(الخبر عن لمطة وكزولة وهسكورة بني تصكي وهم إخوة هوّارة وصنهاجه)
هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدّم لنا أنهم إخوة لصنهاجة، وأنّ أمّ الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس، فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع، وأمّا هوّارة فمن ولد أوريغ وهو ابنها ابن برنس، وأمّا الآخرون فلا تحقيق في نسبهم. (قال ابن حزم) : إنّ صنهاجة ولمطة لا يعرف لهما أب، وهذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء وجبال درن ملئوا بسائطه وجباله. (فأمّا لمطة) فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة ولهم شعوب كثيرة، وأكثرهم ظواعن أهل وبر ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس، صاروا في عداد ذوي حسّان من معقل، وبقايا لمطة بالصحراء مع الملثّمين ومعظمهم قبيلة بين تلمسان وإفريقية [2] وكان منهم الفقيه وكاك بن زيرك صاحب أبي عمران الفاسي [3] وكان نزل سجلماسة. ومن تلميذه كان عبد الله بن ياسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مرّ.
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولعلها بلاد بني وارثين وقد ذكرها ابن خلدون من قبل، وسترد معنا في الطبقة الثالثة من صنهاجة.
[2] وفي النسخة التونسية ومعظمهم في قبلة تلمسان وإفريقية.
[3] هكذا بالأصل وفي كتاب قبائل المغرب ص 332: «واليهم نسبة الفقيه واكاك بن زولو صاحب أبي عمران الفاسي وشيخ عبد الله بن ياسين داعية المرابطين، منهم اليوم فرقة مستقرّة بجبل زالغ المطل على فاس» .(6/270)
(وأمّا كزولة [1] ) فبطونهم كثيرة، ومعظمهم بالسوس ويجاورون لمطة ويحاربونهم.
ومنهم الآن ظواعن بأرض السوس، وكان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس، فلما دخلوه تغلّب عليهم، وهم الآن من خولهم وأخلافهم ورعاياهم.
(وأمّا هسكورة) وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحّدين، وهم أمم كثيرة وبطون واسعة ومواطنهم بجبالهم متّصلة من درن إلى تادلّا من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة وكان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش، ولم يستكملوا الدخول في الدعوة إلّا من بعده، فلذلك لا يعدّهم كثير من الناس في الموحّدين، وإن عدّوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أوّل الأمر، وما كان من حروبهم معه ومع أوليائه وشيعته. وكانوا ينادون بخلافهم وعداوتهم ويجهرون بلعنهم، فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم: لعن الله هنتاتة وتين ملّل وهرنة وهرزجة [2] ، فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاته وتين ملّل وهرغة وهزرجة فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش.
وبطون هسكورة هؤلاء متعدّدون فمنهم مصطاوة وعجرامة وزمراوة وانتيفت وبنو نفال وبنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم. وكانت الرئاسة عليهم آخر دولة الموحّدين لعمر بن وقاريط المنتسب، وذكره في أخبار المأمون والرشيد من بني عبد المؤمن خلاف الموحّدين بمراكش. ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن، وهو القائم يأمر دبوس والمظاهر له على شأنه، وأظنّه جد بني مسعود، الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطّاب لاتصال الرئاسة في هذا البيت، ولما انقرض أمر الموحّدين استعصوا على بني مرين مدّة واختلف حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ النازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم. ثم استقاموا وأذعنوا لأداء الضرايب والمغارم وجبايتها من قومهم، والخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة.
__________
[1] وفي قبائل المغرب/ 331: «جزولة بجيم بدوي. اخوة لصنهاجة لأم، فلذلك أضيفوا اليهم في الترتيب، ويدرجهم بعض النسابين والمؤرخين في مصمودة لغرب مواطن الفريقين، فقد كانت مصمودة تسكن جبال درن وجزولة تسكن قربهم باقليم سوس، وبجهاته كانوا يظعنون حتى زاحمهم به عرب معقل وغلبوهم عليه بعد حروب، فصارت جزولة لهم خولا وأحلافا. وكانت منهم اوزاع بوسط العطر الجزائري أيضا، واليهم ينسب جبل اكرول منه» .
[2] وفي النسخة التونسية: لعن الله منتاتة وتين ملّل وشيخهم الضال المضل.(6/271)
(وأمّا انتيفت فكانت رياستهم في أولاد هنّوا، وكان يوسف بن كنون [1] منهم اتخذ لنفسه حصن تاقيّوت، وامتنع به، ولم يزل ولده علي ومخلوف يشيد أنه من بعده، وهلك يوسف وقام بأمره ابنه مخلوف، وجاهر بالنفاق سنة اثنتين وسبعمائة. ثم راجع الطاعة وهو الّذي تقبّض على يوسف بن أبي عياد المتعدي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع وسبعمائة كما نذكر في أخباره، لما أحيط به، فتقبّض عليه مخلوف وأمكن منه. وكانت وسيلته من الطاعة وكان من بعده ابنه هلال بن مخلوف، والرئاسة فيهم متصلة لهذا العهد.
(وأمّا بنو نفال) فكانت رياستهم لأولاد تروميت، وكان منهم لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن، كبيرهم عليّ بن محمد، وكان له في الخلاف والامتناع ذكر، واستنزله السلطان أبو الحسن من محلّه لأوّل ولايته بعد حصاره بمكانه، وأصاره في جملته تحت عنايته وإمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف. وولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا، والرئاسة لهذا العهد في أهل بيتهم ولأهل عمومتهم.
(وأمّا فطواكة) وهم أوسع بطونهم وأعظمهم رياسة فيهم وأقربهم اختصاصا بصاحب الملك واستعمالا في خدمته. وكان بنو خطّاب منذ انقراض أمر الموحّدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق، وأعطوهم المقادة واختصّوا شيوخهم في بني خطّاب بالولاية عليهم. وكان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود، وابنه عمر من بعده. وهلك عمر سنة أربع وسبعمائة بمكانه من محلّه، وولي بعده عمّه موسى بن مسعود وسخطه السلطان لتوقع خلافه، فاعتقله. وكان خلاصه من الاعتقال سنة ست وسبعمائة، وقام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود.
ولما استفحل ملك بني مرين وذهب أثر الملك من المصامدة وبعد عهدهم صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم. ولم يكن فيهم أكبر رياسة من أولاد تونس في هنتاتة. وبني خطّاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشيّة وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي وأخيه محمد
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: منكون، وفي النسخة التونسية مكبول.(6/272)
شيوخ هنتاتة. فلم يزل واليا منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولحق ابنه إبراهيم بتلمسان ذاهبا إلى السلطان أبي الحسن. فلمّا دعا أبو عنّان إلى نفسه رجع عنه إلى محلّه، وتمسّك بما كان عليه من طاعة أبيه، ورعاه أبو عنّان لعمّه عبد الحق، وقلّده الأعمال المراكشية فلم يغن في منازعة إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش، فكان من أعظم دعاته، وأبلى في مظاهرته. فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنّان وأودعه السجن، ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن ملك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست وسبعين وسبعمائة فاستقدمه وتقبّض عليه، واعتقله بدار ابن عمّه نحوا من العام ابن مسعود بن خطّاب كان في جملته، وكان هو وأبوه نازعا إلى بني مرين خوفا على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر، فلما استمكن منه بداره معتقلا وثب عليه فقتله واستلحم بنيه معه، وسخطه السلطان لها فاعتقله قليلا ثم أطلقه، واستقلّ برياسة هسكورة لهذا العهد والله قادر على ما يشاء.
(الطبقة الثالثة من صنهاجة)
وهذه الطبقة ليس فيها ملك، وهم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب، فمنهم الموطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازى وتادلّا ومعدن بني فازان حيث الثنيّة المفضية إلى آكرسلوين [1] من بلاد النخل ومقصد تلك الثنية من بلادهم وبلاد المصامدة في المغرب من جبال درن. ثم اعتمروا قنن تلك الجبال وشواهقها، وتنعطف مواطنهم في تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن ينتهي إلى آكرسلوين. ثم ترجع مغرّبا من آكرسلوين إلى درعه إلى ضواحي السوس الأقصى، وأمصاره من تارودانت وأيفري الى فوتان وغيرها. ويعرف هؤلاء كلهم باسم صناكة حرفت إليها من اسم صنهاجة، وأسموا صاده زايا وأبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف والقاف أو بين الكاف والجيم، وهي معرّبة النطق.
__________
[1] آكرسلوين بناحية سجلماسة حيث تبتدأ مواطن الزناكة أو صنهاجة الجنوب قبائل المغرب/ 322.(6/273)
ولصنهاجة هؤلاء بين قبائل المغرب أوفر عدد وشدّة بأس ومنعة، وأعزّهم جانبا أهل الجبال المطلّة على تادلّا ورياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي ولهم اعتزاز على الدولة ومنعة عن الهضيمة والانقياد للمغرم. وتتصل بهم قبائل خباتة [1] منهم ظواعن يسكنون الخص وينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم بتيغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أمّ ربيع من تامسنا [2] في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن ورياستهم في ولد هيدي [3] من مشاهيرهم ولهم اعتياد بالمغرم وروم على الذلّ.
وتتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أمّ ربيع إلى مراكش، ويتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر قبيلة بناحية آزمور [4] ، وأخرى وافرة العدد مندرجة في عداد المصامدة وطنا ونحلة وجباية وعمالة، ورياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبروك [5] ، ورئيسهم لأوّل دولة زناتة، ويأتي ذكره ويعرف عقبه الآن ببني بطال، ومن قبائل صنهاجة بطون أخرى بجبال تازى وما والاها مثل بطوية وبخاصة وبني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم، يعطون المغرم عن عزّة، وبطوية منهم ثلاثة بطون: بطوية [6] على تازى، وبني ورياغل على ولد المزمة، وأولاد علي بتافرسيت. وكان لأولاد علي ذمّة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين، وكانت أمّ يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم. وكان منهم طلحة بن علي وأخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم.
ويتّصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن وجبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حمّاد [7] الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في عضاب وأودية وبسائط يسكنون بيوت الحجارة والطين مثل قشتالة وسطه وبنو ورياكل وبنو
__________
[1] وفي النسخة التونسية جاناته.
[2] وردت في طبعة بولاق المصرية تامستا وتامسنا وفي النسخة التونسية تامسنا والصحيح تامستا وقد مرّت معنا من قبل.
[3] وفي نسخة أخرى: هبيرة.
[4] ازمور: مدينة صغرى على شاطئ المحيط الاطلنطي بين الدار البيضاء والجديدة على ضفة وادي أم الربيع تعتبر مركزا مهما لقبائل الحوزية وشتوكه بدكاله ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها الفينيقيون (كتاب المغرب ص 42) وقد سمّاها ياقوت أزمورة بثلاث ضمات.
[5] وفي نسخة أخرى: عزيز بن يبورك،
[6] وفي نسخة أخرى: بقوية.
[7] وفي النسخة التونسية: غمارة.(6/274)
حميد وبنو مز جلدة وبنو عمران وبنو دركول [1] وورتزر وملواتة وبني وامرد. ومواطن هؤلاء كلّهم بورغة، وأمركو يحترفون بالحياكة والحراثة، ويعرفون لذلك صنهاجة البزّ، وهم في عداد القبائل المغارمة ولغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد وهم مجاورون بجبال غمارة.
ويتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال من صنهاجة وبني مغالة لا يحترفون بمعاش ويسمّون صنهاجة العزّ لما اقتضته منعة جبالهم. ويقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذلّ، لما هم عليه من الذلّ والمغرم.
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد يقال في بعض مزاعم البربر أنّ بني وديد من صنهاجة وبنو يزناسن وباطويه هم أخوال واصل بن ياسن أجناسن ومعناه بلغة الغرب الجالس على الأرض [2] .
(الخبر عن المصامدة من قبائل البربر وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب ومبدإ ذلك وتصاريفه)
وأمّا المصامدة وهم من ولد مصمود بن يونس بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم، من بطونهم: برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة. وكان المتقدّم فيهم قبيل الإسلام وصدره برغواطة. ثم صار التقدّم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد. وكان لبرغواطة في عصرهم دولة، ولأهل درن منهم دولة أخرى ودول حسبما نذكر، فلنذكر هذه الشعوب وما كان فيها من الدول بحسب ما بدا إلينا من ذلك.
__________
[1] بني دركون: بجيم بدوي ونون، وينطق أيضا دركول بكاف ولام، منهم فرقة مستقرة بناحية ازمورة القريبة من غليزان من المغرب الأوسط، وبطون مندرجة في بعض القبائل الصنهاجية بشمال المغرب الأقصى/ قبائل المغرب/ 331.
[2] وفي النسخة التونسية: اجلس على الأرض.(6/275)
(الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة ودولتهم ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم)
وهم الجيل الأوّل منهم، كان لهم في صدر الإسلام التقدّم والكثرة وكانوا شعوبا كثيرة مفترقين، وكانت مواطنهم خصوصا من بين المصامدة في بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأنقى وأسقى. وكان كبيرهم لأوّل المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صبيح [1] وكان من قوّاد ميسرة الخفير طريف المضفري [2] القائم بدعوة الصفريّة ومعها معزوز بن طالوت. ثم انقرض أمر ميسرة والصفريّة، وبقي طريف قائما بأمرهم بتامسنا، ويقال أيضا إنه تنبّأ وشرّع لهم الشرائع. ثم هلك وولي مكانه ابنه صالح، وقد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة وكان من أهل العلم والخير فيهم.
ثم انسلخ من آيات الله، وانتحل دعوى النبوّة، وشرّع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وأدعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سورا منه، يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء، وسورة هاروت وماروت وإبليس، وسورة غرائب الدنيا، وفيها العلم العظيم بزعمهم، حرّم فيها وحلّل، وشرّع قصّ، وكانوا يقرءونه في صلواتهم، وكانوا يسمّونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحاكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصاري سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
وكان يترجم عنه بجميع خبره داود [3] بن عمر المسطاسي. قال: وكان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك من سنة سبع وعشرين من المائة الثانية من الهجرة. وقد قيل إنّ ظهوره كان لأوّل الهجرة، وأنه إنما انتحل ذلك عنادا ومحاكاة لما بلغه شأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والأوّل أصح. ثم زعم أنه المهدي الأكبر الّذي يخرج في آخر الزمان، وأنّ عيسى يكون صاحبه ويصلّي خلفه، وأنّ اسمه في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: طريف ابو صالح وكذلك في قبائل الغرب/ 322.
[2] المضغري أو المطغري ويجوز الوجهين.
[3] وفي النسخة الباريسية: ذلواد وفي النسخة التونسية داورد.(6/276)
العرب صالح وفي السريان مالك وفي الأعجمي عالم وفي العبراني روبيا وفي البربري وربا [1] ومعناه الّذي ليس بعده نبي، وخرج إلى المشرق بعد ان ملك أمرهم سبعا وأربعين سنة، ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم، وأوصى بدينه إلى ابنه إلياس، وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أميّة، وبإظهار دينه إذا قوي أمرهم.
وقام بأمره بعده ابنه إلياس ولم يزل مظهرا للإسلام مسرا لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم. وكان طاهرا عفيفا زاهدا [2] . وهلك لخمسين سنة من ملكه، وولي أمرهم من بعده ابنه يونس، فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامسنا وما والاها، يقال إنه حرق [3] ثلاثمائة وثمانين مدينة، واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف، هو حجر عال نابت وسط الطريق [4] فقتل سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين.
(قال زمور) : ورحل يونس إلى المشرق وحجّ، ولم يحج أحد من أهل بيته قبله ولا بعده، وهلك لأربع وأربعين سنة من ملكه، وانتقل الأمر عن بنيه، وولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدّت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشار إليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله:
قفي قبل التفرّق وأخبرينا ... وقولي واخبري خبرا يقينا
وهذي أمّة هلكوا وضلّوا ... وغاروا [5] لاسقوا ماء معينا
يقولون: النبيّ أبو غفير ... فأخزى الله أمّ الكاذبينا
ألم تسمع ولم تر لؤم بيت [6] ... على آثار خيلهم ربينا [7]
وهنّ الباكيات فبين ثكلى ... وعادمة [8] ومسقطة جنينا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وريا.
[2] وفي النسخة التونسية: زاهدا في الدنيا.
[3] وفي النسخة التونسية: ضرب.
[4] وفي النسخة الباريسية: وسط السوق.
[5] وفي النسخة التونسية: وخابوا.
[6] وفي النسخة الباريسية: يهث بيت وفي التونسية يوم بيت.
[7] وفي النسخة التونسية: رنينا.
[8] وفي النسخة التونسية: وعاوية.(6/277)
ستعلم أهل تامسنا إذا ما ... أتوا يوم القيامة مقطعينا
هنالك يونس وبنو أبيه ... يقودون البرابر حائرينا
إذا زر ياور طافت عليهم ... جبهتهم بأيدي المنكرينا [1]
فليس اليوم يومكم ولكن ... ليالي كنتم متيسّرينا
واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعا وأربعين، وكان له من الولد مثلها وأكثر. وهلك أخريات المائة الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه وكان كثير الدّعة مهابا عند ملوك عصره يهادونه ويدافعونه بالمواصلة، وكان يلبس الملحفة والسراويل ويلبس المخيط، ولا يعتم أحد في بلاده إلّا الغرباء. وكان حافظا للجار وفيا بالعهد، وتوفي سنة إحدى وأربعين من المائة الرابعة لأربع وأربعين سنة من ملكه، ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده ابنه أبو منصور عيسى ابن اثنتين وعشرين سنة، فسار سير آبائه وادّعى النبوّة والكهانة، واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب.
(قال زمور) : وكان فيما أوصاه به أبوه: يا بني! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف. قال زمور: وكان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغواطة وعشرة آلاف من سواهم مثل جراوة وزواغة والبرانس ومجاصة [2] ومضغرة ودمّر ومطماطة وبنو وارزكيت. وكان أيضا بنو يفرن وآحدة وركامة [3] وايزمنّ ورصافة ورغصرارة على دينهم، ولم تسجد ملوكهم إلا له منذ كانوا أهـ. كلام زمور وكان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم أثناء هذا وبعده آثار عظيمة من الأدارسة والأموية والشيعة. ولما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب وقلّده المنصور بن أبي عامر عمله سنة ست وستين وثلاثمائة فنزل البصرة، ثم اختلف ذات بينه وبين أخيه يحيى واستمال عليه أخوه الجند وأمراء زناتة، فتجافى له جعفر عن العمل وصرف وجهه إلى جهاد برغواطة معتدّه من صالح عمله، وزحف إليهم في أهل المغرب وكافة الجند الأندلسيّين فلقوه ببسيط [4] بلادهم، وكانت عليه الدبرة،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: إذا وريا ورى رمت عليهم جهنم قائد المستكبرينا.
[2] وفي نسخة أخرى: مجكصة.
[3] وفي نسخة أخرى: إصادة وركانة.
[4] وفي نسخة ثانية: وسط.(6/278)
ونجا بنفسه في فلّ من جنده، ولحق بأخيه بالبصرة. ثم أجاز بعدها إلى المنصو باستدعائه، وترك أخاه يحيى على عمل المغرب. ثم حاربتهم أيضا صنهاجة لمّا غزا بلكّين بن زيري المغرب سنة ثمان وستين وثلاثمائة بعدها وأجفلت زناتة أمامه وانزووا إلى حائط سبتة، وامتنعوا منه بأعوادها فانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة، وزحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه، وكانت عليهم الهزيمة.
وقتل أبو منصور وأثخن فيهم بلكّين بالقتل، وبعث سبيهم إلى القيروان وأقام بالمغرب يردّد الغزو فيهم إلى سنة اثنتين وسبعين [وثلاثمائة] وانصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان. ولم أقف على من ملك أمرهم بعد أبي منصور. ثم حاربتهم أيضا جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح إمرة برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية، فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي. ثم حاربهم أيضا بنو يفرن لما استقل أبو يعلى بن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب. واقتطعوهم من عمل زيري بن عطية المغراوي بعد ما كان بينهما من الحروب.
وانتساب أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أوّل المائة الخامسة، وكان موطنا بمدينة سلا ومجاورا لبرغواطة، فكان له أثر كبير في جهادهم، وذلك في سني عشرين وأربعمائة، فغلبهم على تامسنا وولّى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبيا وقتلا. ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة وخرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب، وافتتحوا الكثير من معاقل السوس الأقصى وجبال المصامدة. ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامسنا وما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه، وكانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله ابن ياسين الكبروي [1] سنة خمسين وأربعمائة، واستمرّ أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم ومحوا من الأرض آثارهم وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فهلك في حروبهم وعليه كان انقراض أمرهم وقطع دابرهم على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الكزولي أو الجزولي كما في قبائل المغرب/ 323.(6/279)
يد هؤلاء المرابطين [1] ، والحمد للَّه رب العالمين. وقد نقل بعض الناس في نسب برغواطة فبعضهم يعده في قبائل زناتة، وآخرون يقولون في صالح إنه يهوديّ من ولد شمعون بن يعقوب نشأ برباط ورحل إلى المشرق، وقرأ على عبد الله المغربي واشتغل بالسحر، وجمع فنونا وقدم المغرب ونزل تامسنا فوجد بها قبائل جهّالا من البربر فأظهر لهم الزهد وسحرهم بلسانه، وموّه عليهم فقصدوه واتّبعوه، فادّعى النبوّة وقيل له برباطي نسبة إلى الموطن الّذي نشأ به، وهو برباط واد بحصن شريش من بلاد الأندلس، فعرّبت العرب هذا الاسم وقالوا برغواط، ذكر ذلك كلّه صاحب كتاب الجوهر وغيره من النسّابين للبربر وهو من الأغاليط البيّنة. وليس القوم من زناتة ويشهد لذلك موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. وأمّا صالح بن طريف فمعروف منهم وليس من غيرهم، ولا يتم الملك والتغلّب على النواحي والقبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه. سنة الله في عباده وإنما نسب الرجل برغواطة وهم شعب من شعوب المصامدة شعب معروف كما ذكرناه والله ولي المتقين.
(الخبر عن غمارة من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم)
هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غمار بن مصمود، وقيل غمار بن مسطاف [2] ابن مليل بن مصمود وقيل غمار بن أصاد بن مصمود. ويقول بعض العامّة أنهم
__________
[1] كانت المنطقة التي شاعت فيها ديانة برغواطة هي منطقة تامسنا بالمغرب الأقصى الممتدة من نهر سلا (أحد روافد نهر أبي رقراق الحالي) الى نهر أم الربيع، أي ما يعادل المنطقة التي تسكن فيها حاليا قبائل الشاوية وزعير، وكانت في الأصل موطنا لزناتة وزواغة حتى نزل بها طريف صاحب ميسرة الحقير الّذي سنّ لأهلها مذهبا لم يلبث ابنه صالح ان صيّره ديانة، فانضمت اليهم قبائل أخرى عرفوا وإياهم باسم المذهب الّذي يدينون به، وقد استمر هذا المذهب قائما الى منتصف القرن الخامس الهجريّ، ولكن أتباعه بقوا منذ تأسيسه معرّضين لهجمات الإمارات والممالك الإسلامية بالمغرب والأندلس وتنكيلها، ومن أشهر الأمراء والقواد الذين فتكوا بهم الأمير تميم اليفرني بعد سنة 420 هـ والفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي داعية الموحدين الّذي استشهد وهو يقاتلهم بكريغلة من أرض زعير سنة 450 هـ. وقد اندثر اسم برغواطة منذ ذلك التاريخ وحلّ محل أتباعه في مواطنهم وشاركهم فيها قبائل عربية طارئة وأخرى بربرية متعرّبة مثل مالك وسفيان وعامر وحصين، والشاوية وزعير. (قبائل المغرب/ 323) .
[2] سطاف: قبائل المغرب/ 325.(6/280)
عرب غمروا في تلك الجبال فسمّوا غمارة، وهو مذهب عاميّ، وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تحصر. والبطون المشهورة منهم بنو حميد ومثيوه وبنو فال وأغصاوه، وبنو وزروال ومجكسة، وهم آخر مواطنهم يعتمرون رحاب [1] الريف بساحل بحر الدر من عن يمين بسائط المغرب، من لدن غساسة فتكرّر [2] فبادس فتبكيساس فتيطّاوين فسبتة فالقصر الى طنجة خمس مراحل أو أزيد، أوطنوا منها جبالا شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجا بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن يتخطّى بسائط قصر كتامة ووادي ورغة من بسائط المغرب، ترتدّ عنها الأبصار وتنزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام وينفسح في رءوسها وبين قننها الفجاج، سبل السفر ومراتع السائمة وفدن الزراعة وادواح الرياض.
ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة وطنجة، وإليهم ينسب قصر المجاز الّذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف، ويعضده أيضا اتصال مواطنهم بمواطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط، إذ كان بنو حسّان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن آزغر وأصيلا إلى أنفى، من هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودوكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة.
فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلّا قليلا منها وغيرهم في البسائط. ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح، ولم يعلم ما قبل ذلك.
وللمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم وأعظمها لموسى بن نصير وهو الّذي حملهم على الإسلام واسترهن أبناءهم وأنزل منهم عسكرا مع طارق بطنجة. وكان أميرهم لذلك العهد يليان وهو الّذي وفد عليه موسى بن نصير وأعانه في غزو الأندلس، وكان منزله سبتة كما نذكره، وذلك قبل استحواء تاتكور [3] وكانت في غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم وكان فيهم متنبئون، ولم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها، كما نذكره إن شاء الله تعالى [4] .
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جبال الريف بساحل البحر الرومي.
[2] وفي نسخة ثانية: فتكوّر.
[3] وفي نسخة أخرى نكور.
[4] كانت مواطن غمارة تمتد على ساحل البحر المتوسط من حد بلاد الريف الى المحيط الأطلسي، ثم تمتد على(6/281)
(الخبر عن سبتة ودولة بني عصام بها)
نت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام، وكانت يومئذ منزل يليان ملك ارة، ولما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا وأذعن للجزية، فأقرّه عليها سترهن ابنه وأبناء قومه، وأنزل طارق بن زياد بطنجة للجزية، وضرب عليهم مسكر للنزول معه. ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث، كان الفتح لا كفاء له كما مرّ في موضعه. ولما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحا من أيدي قومه فعمّروها. ثم كانت فتنة ميسرة الحقير وما دعا إليه من سلالة الخارجيّة، وأخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة وغيرهم، فزحف من برابرة سنجة إلى سبتة وأخرجوا العرب منها وسبوها وخرّبوها فبقيت خلاء.
نزل بها ماجكس من رجالاتهم ووجوه قبائلهم، وبه سميت مجكسة فبناها ورجع إليها الناس وأسلم. وسمع من أهل زمانه إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام ووليها هرا. ولما هلك قام بأمره ابنه مجير فلم يزل واليا عليها إلى أن هلك، ووليها أخوه يرضي ويقال إنه ابنه، وكانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره. ولما سما لناصر أمل في ملك المغرب، وتناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد لهبط وغمارة حين أجهضتهم كتامة [1] وزناتة عن ملكهم بفاس، وقاموا بدعوة لناصر وبثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة، وأشاروا له إلى تناولها من بني عاصم، فسرّح إليها عساكره وأساطيله مع قائده نجاح بن غفير، فكان فتحها سنة
__________
[ () ] السهول الساحلية حيث كان يسكن بنو حسان منهم قبل دخول العرب الهلاليين حتى تصل الى تامسنا، حيث مواطن قبائل برغواطة. ثم حدثت تغيرات كثيرة في مساكن القبائل المصمودية منذ القرن السادس الهجريّ الّذي غمرت فيه المغرب موجات من العرب الهلاليين والمنضافين اليهم، فزاحموا قبائل البربر ومنهم غمارة بالسهول وألجئوها إلى الجبال، واضطر من بقي منها في غير الجبل الى التعرّب والاندماج فيهم، وقد تضاءلت المنطقة التي تسكنها القبائل المسماة اليوم غمارة وهي واقعة الى الجنوب الشرقي من تطواف على ساحل البحر ولكن قبائل غمارة المعروفة بأسمائها الفرعية ما زالت تعمر منطقة أوسع وأكبر. كما ان قبائل أخرى معروفة بالاسم الأصلي أو الأسماء الفرعية انتقلت من مواطنها الاولى الى مواطن جديدة بالمغرب الأقصى والمغرب الأوسط (قبائل المغرب/ 325- 326) .
[1] وفي نسخة ثانية: مكناسة.(6/282)
تسع عشرة وثلاثمائة، ونزل له الرضي بن عصام عنها وآتاه طاعته وانقرض أمر بني عصام. وصارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حمّاد واستحدثوا بعدها دولة أخرى كما نذكره.
(الخبر عن بني صالح بن منصور ملوك نكور ودولتهم في غمارة وتصاريف أحوالهم)
لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاتها واقتسموه وأمدّهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر، وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأوّل. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه، واقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين من الهجرة، قاله صاحب المقياس، وبلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة وجراوة ابن أبي الحفيظ [1] مسافة خمسة أيام وتجاوره من هنالك مطماطة، وأهل كدالة، ومرنيسة وغساسة أهل جبل مزك [2] وقلوع جاره التي لبني ورتندي، ولميد وزناتة، وينتهي من المغرب إلى مروان من غمارة، وبني حميد إلى مسطاسة وصنهاجة ومن ورائهم أوربة، حزب فرحون وبني ولميد وزناتة وبني يرنيان وبني واسن حزب قاسم صاحب صا والبحر جوفي نكور على خمسة أميال، فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله واجتمع إليه قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح وأسلموا على يده وقاموا بأمره، وملك تكسامان [3] ، وانتشر الإسلام فيهم. ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف وارتدّوا وأخرجوا صالحا وولّوا عليهم رجلا من نفزة يعرف بالرندي.
ثم تابوا وراجعوا الإسلام وراجعوا صالحا فأقام فيهم إلى أن هلك بتلمسان [4] سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وولي أمره من بعده ابنه المعتصم بن صالح، وكان شهما شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه، ثم هلك لأيام
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن أبي السميع.
[2] وفي نسخة أخرى: جبل هرك.
[3] وفي نسخة أخرى: تمسامان.
[4] وفي نسخة أخرى: بتمسامان.(6/283)
يسيرة وولي من بعده أخوه إدريس، فاختطّ مدينة نكور في عدوة الوادي ولم يكملها. وهلك سني ثلاث وأربعين ومائة وولي من بعده ابنه سعيد، واستفحل أمره، وكان ينزل مدينة تكسامان، ثم اختط مدينة نكور لأوّل ولايته ونزلها وهي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور مخرجه من بلاد كزنارية [1] ومخرجه من مخرج وادي ورغة واحد، والثاني غيس [2] ومخرجه من بلد بني ورياغيل، يجتمع النهران في آكال [3] ، ثم يفترقان إلى البحر ويقال نكور من عدوة الأندلس بزليانة.
وغزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع وأربعين ومائة فغلبوا عليها واستباحوها ثمانيا. ثم اجتمع إلى سعيد البرانس، وأخرجوهم عنها، وانتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه وولّوا عليهم رجلا منهم اسمه مسكن [4] وتزاحفوا فأظهره الله عليهم وفرّق جماعتهم وقتل مقدّمهم واستوسق أمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين ومائة لسبع وثلاثين من أيامه. وقام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبّل مذهب سلفه في الاستقامة والاقتداء وكان له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومائتين لاثنتين وسبعين سنة من ملكه.
وقام من بعده ابنه سعيد بن صالح وكان أصغر ولده فخرج إليه أخوه عبد الله وعمّه الرضي وظفر بهما بعد حروب كثيرة، فغرّب أخاه إلى المشرق ومات بمكة وأبقى على عمّه الرضي لذمة صهر بينهما. وقتل سائر من ظفر به من عمومته وقرابته، وأنهض لهما [5] سعادة الله بن هارون منهم، ولحق ببني يصليتن أهل جبل أبي الحسن ودلّهم على عورته. وبيّتوا معسكره واستولوا عليه، وأخذوا الآلة، وقتل منهم خلقا، ونجا سعادة الله بتلمسان [6] وتقبّض على أخيه ميمون فضرب عنقه. ثم سار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه وأنزله معه مدينة نكور، ثم غزا سعيد بقومه وأهل إيالته من غمارة بلاد بطوية ومرنيسة وقلوع جاره ورتندي وأصهر بأخيه إلى أحمد بن إدريس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كزناية وفي النسخة الباريسية: كزيانة.
[2] وفي النسخة الباريسية: عيش. وفي نسخة ثانية: عيس.
[3] وفي نسخة أخرى: آكدال.
[4] وفي نسخة أخرى: مسكن.
[5] وفي نسخة أخرى: وامتعض لهم.
[6] وفي نسخة أخرى: الى تمسامان(6/284)
بن محمد بن سليمان صاحبه. وأنزله مدينة نكور معه. وتوطأ الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبد الله المهدي يدعوه إلى أمره وفي أسفل كتابه لهم:
وإن تستقيموا أستقم بصلاحكم ... وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا
وأعلو بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عفوا واملؤها قتلا
فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد:
كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ... ولا علم الرحمن من قولك الفضلا
وما أنت إلّا جاهل ومنافق ... تمثّل للجهّال في السنّة المثلى
وهمّتنا العليا لدين محمّد ... وقد جعل الرحمن همّتك السفلى
فكتب عبد الله إلى مصالة بن حبّوس صاحب تاهرت، وأغزى إليه فغزاه سنة أربع وثلاثمائة لأربع وخمسين من دولته، فغلبهم سعيد وقومه أياما. ثم غلبهم مصالة وقتلهم، وبعث برءوسهم إلى رقادة، فطيف بها وركب بقيتهم البحر إلى مالقة، فتوسّع الناصر في إنزالهم إجارتهم واستبلغ في تكريمهم وأقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر. ثم قفل إلى تاهرت وولّى عليها دلول من كتامة، فانفضّ العسكر من حوله، وبلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح وقومهم بمالقة، وهمّ إدريس والمعتصم وصالح، فركبوا السفن إليها، وسبق صالح إليها منهم، فاجتمع البربر بمرسى تكسامان وبايعوه سنة خمس وثلاثمائة، ولقّبوه القيّم لصغره، وزحفوا إلى دلول فظفروا به وبمن معه وقتلوهم، وكتب صالح بالفتح إلى الناصر، وأقام دعوته بأعماله وبعث إليه الناصر بالهدايا والتحف والآلة، ووصل إليه إخوته وسائر قومه وأتوا طاعة.
ولم يزل على هدى أوّليه من الاقتداء إلى أن هلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة وولي بعده ابنه عبد البديع، ولقّب المؤيد، وزحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديين بالمغرب، فحاصره وتغلّب عليه فقتله، واستباح المدينة وخرّبها سنة سبع عشرة وثلاثمائة. ثم راجع إليها وقام بأمرهم أبو نور [1] إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور وأعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور وعمّرها وسكنها ثلاثا. ثم أغزى ميسور مولى أبي القاسم بن عبد الله صندلا مولاه عند ما أناخ على فاس، فبعث عسكرا مع صندل هذا فحاصر جراوة، ثم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو أيوب.(6/285)
عطف على نكور وتحصّن منه إسماعيل بن عبد الملك بفلعة اكدى. وبعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذّ السير وقاتله ثمانية أيام.
ثم ظفر به فقتله واستباح القلعة وسباها، واستخلف عليها من كتامة رجلا اسمه مرمازو، ووصل صندل إلى فاس فترافع أهل نكور وبايعوا الموسى بن المعتصم بن محمد بن قرّة بن المعتصم بن صالح بن منصور وكان عند أبي الحسن عند يصليتن وكان يعرف بابن رومي.
وقال صاحب المقياس: هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن رومي بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور، وأخذ مرمازو ومن معه وضرب أعناقهم، وبعث برءوسهم إلى الناصر. ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور، فخلعه وأخرجه عن نكور سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ولحق موسى بالأندلس ومعه أهله وولده وأخوه هارون بن رومي وكثير من عمومته وأهل بيته، فمنهم من نزل معه المريّة ومنهم من نزل مالقة. ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع وقتلوه. واستدعوا من مالقة جريج [1] بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، فبادر إليهم وبايعوه سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فاستقامت له الأمور وكان على مذهب سلفه في الاقتداء والعمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين وثلاثمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه، واتصلت الولاية في بنيه إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلّبون على وهران، وزحف أميرهم يعلى بن أبي الفتوح الأزداجي سنة ست وأربعمائة، وقتل سنة عشر فغلبهم على نكور وخرّبها، وانقرض ملكهم بعد ثلاثمائة سنة وأربعة عشر سنة من لدن ولاية صالح، وبقيت في بني يعلى بن أبي الفتوح وأزداجة إلى أعوام ستين وأربعمائة والله مالك الأمور لا إله إلا هو أهـ.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جرثم.(6/286)
(الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة)
كان غمارة هؤلاء عريقين في الجاهلية بل الجهالة والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير، وتنبّأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن جرير بن عمر بن رحفو [1] بن آزوال [2] بن مجكسة يكنّى أبا محمد وأبوه أبو خلف. تنبّأ سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريبا من تطوان، واجتمع إليه كثير منهم وأقرّوا بنبوّته وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام، وصنع لهم قرآنا كان يتلوه عليهم بلسانه. فمن كلامه: «يا من يخلى البصر، ينظر في الدنيا، خلني من الذنوب يا من أخرج موسى من البحر آمنت بحاميم وبأبيه أبي خلف من الله وآمن رأسي وعقلي وما يكنّه صدري، وما أحاط به دمي ولحمي، وآمنت تبانعنت [3] عمّة حاميم أخت أبي خلف من الله» ، وكانت كاهنة ساحرة إلى غير هذا، وكان يلقّب المفتري، وكانت أخته دبّو ساحرة كاهنة، وكانوا يستغيثون بها في الحروب والقحوط، وقتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمسة عشر وثلاثمائة، وكان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة، ووفد على الناصر. ورهطهم بنو زحفوا موطنون وادي لاو ووادي راس قرب تطوان، وكذلك تنبّأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي، وله أخبار مأثورة، وما زالوا يفعلون السحر لهذا العهد. وأخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق. قال: ولهم علم استجلاب روحانية ما يشاؤنه من الكواكب، فإذا استولوا عليه وتكنّفوا بتلك الروحانية تصرّفوا منها في الأكوان بما شاءوا والله أعلم.
(الخبر عن دولة الادارسة وهي غمارة وتصاريف أحوالهم)
كان عمر بن إدريس عند ما قسّم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين إخوته برأي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وصفوال.
[2] وفي نسخة أخرى: آزروال.
[3] وفي نسخة أخرى: بنابعيت وفي النسخة الباريسية: بتايغيت.(6/288)
جدّته كثيرة [1] أمّ إدريس اختصّ منها بتكيباس [2] وترغه وبلاد صنهاجة وغمارة، واختص القاسم بطنجة وسبتة والبصرة وما إلى ذلك من بلاد غمارة. ثم غلب عمر عليها عند ما تنكّر له أخوه محمد واستضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم. ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه، واختص منهم محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم قلعة حجر النسر الدانية وسبتة معقلا لهم وثغرا لعملهم. وبقيت الإمارة بفاس وأعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس. ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس، وكان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر وهو الّذي بايع لعبيد الله الشيعي على يده مصالة بن حبّوس قائده، وعقد له على فاس، ثم نكبه سنة تسع وثلاثمائة.
وخرج عليها سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس وتلقّب الحجّام لطعنه في المحاجم، وكان مقداما شجاعا، وثار أهل فاس بريحان وملّكوا الحسن، وزحف إليه موسى ففلّه ومات. واستولى ابن أبي العافية على فاس وأعمال المغرب، وأجلى الأدارسة وأحجرهم بحصنهم حجر النسر، وتحيّزوا إلى جبال غمارة وبلاد الريف، وكان لغمارة في التمسّك بدعوتهم آثار ومقامات، واستجدوا بتلك الناحية ملكا توزّعوه قطعا، كان أعظمها لبني محمد هؤلاء ولبني عمر بتيكيسان [3] ونكور وبلاد الريف. ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة ومدافعة الشيعة فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع وثلاثمائة وتناولها من يد الرضي بن عصام رئيس محكمة، وكان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها ودانوا بطاعته وأخذها من يده ولما أغزا أبو القاسم ميسورا إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم ودعا للمروانية وجدّ بنو محمد السبيل إلى الانتصار والانتقام منه بمظاهرة ميسور عليه، وما لأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور.
ولما استقل ابن أبي العافية من نكسته ورجع من الصحراء سنة خمس وعشرين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كنزة.
[2] وفي نسخة أخرى: تيكيساس.
[3] وفي نسخة أخرى: بتيكيساز وقد مرت معنا من قبل تيكيساس وهو الاسم الصحيح، وقد وردت في المعجم التاريخي تيجيساس: مدينة صغيرة ومرسى بحري وأنها محاطة بالحدائق الغنّاء.(6/289)
وثلاثمائة منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد وبني عمرو هلك بعد ذلك. وأجاز الناصر وزيره قاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة لحربهم، وكتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر وابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العيش عليهم، فتسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن وصالة، الى الطاعة، وأوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان، وأوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكدا للطاعة، فاحتفل لقدومه وأكّد له العقد، وتقبّل سائر الادارسة من بني محمد مذهبهم.
وسألوا مثل سؤالهم، فعقد لجميع بني محمد أيضا، وكان وفد منهم محمد بن عيسى ابن أحمد بن محمد والحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد، وكان بنو إدريس يرجعون في رياستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ استبدّ بها آخرهم الحسن بن محمد الملقّب بالحجّام في ثورته على ابن أبي العافية، فقدّموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقّب بكنّون بعد فرار موسى بن أبي العافية، وملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيما لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وقام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنّون، وكان فقيها عالما بالأيام والأخبار شجاعا ويعرف بأحمد الفاضل، وكان منه ميل للمروانية فدعا للناصر، وخطب له على منابر عمله ونقض طاعة الشيعة. وبايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة.
ولما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن ووفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة فاتصل به وفاة أبيه وهو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله وسرّحه، وهجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنّون على عمله بتيكيسان في غيبة محمد، فملكها واحتوى على مال ابن مصالة ولما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنّون ففظّعوا به وأثخنوه جراحة، وقتلوا أصحابه ببلاد غمارة. وأجاز الناصر قوّاده إلى المغرب، وكان أوّل من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة أحمد بن يعلى من طبقة القوّاد، أجازه إليهم في العساكر ودعاهم إلى هدم تطوان فامتنعوا، ثم انقادوا وتنصّلوا وأجابوا إلى هدمها.
ورجع عنهم فانتقضوا فسرّح إليهم حميد بن يصل [1] المكناسي في العساكر سنة تسع
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: نصل وفي نسخة ثانية: مصل.(6/290)
وثلاثين وثلاثمائة وزحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها، وتغلّب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد وبقي يصل على بيعة الناصر. ثم تخطّت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله، وأخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة كما ذكرناه، فضعف أمر بني محمد واستأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له وأمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر، فكانت ثلاثين مرحلة، فأجاز أبو العيش واستخلف على عمله أخاه الحسن بن كنّون، وتلقّاه الناصر بالمبرّة وأجرى له ألف دينار في كل يوم، وهلك شهيدا في مواقف الجهاد سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة ولما أغزا معدّ قائده جوهرا الكاتب الى المغرب واستنزل عماله، وتحصّن الحسن بن كنّون منه بقلعة النسر معقلهم. وبعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر. ولما قفل من المغرب راجع الحسن الطاعة للناصر إلى أن هلك سنة خمسين وثلاثمائة فأشحذ الحكم عزمه في سد ثغور المغرب وإحكام دعوتهم فيه. وشحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة، فكان بينهم وبين زيري وبلكّين ما ذكرناه. ثم أغزى معدّ بلكّين بن زيري المغرب سنة اثنتين وستين وثلاثمائة أولى غزواته، فأثخن في زناتة وأوغل في ديار المغرب. وقام الحسن بن كنّون بدعوة الشيعة ونقض طاعة المروانية، فلما انصرف بلكّين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طملس سنة اثنتين وستين وثلاثمائة لقتال الحسن بن كنّون وبني محمد، فكان الظهور والفلاح للحسن على عسكر الحكم.
وقتل قائده محمد بن طملس وخلقا كثيرا من عسكره وأوليائه. ودخل فلّهم إلى سبتة واستصرخوا الحكم، فبعث غالبا مولاه البعيد الصيت المعروف بالشهامة، وأمدّه بما يعينه على ذلك من الأموال والجنود، وأمره باستنزال الأدارسة وأجاز بهم إليه، وقال سريا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلّا حيّا منصورا أو ميتا معذورا. واتصل خبره بالحسن بن كنّون فأفرج عن مدينة البصرة واحتمل منها أمواله وحرمه وذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القريب من سبتة، ونازلة غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياما.
ثم بثّ غالب المال في رؤساء البربر من غمارة ومن معه من الجنود وفرّوا وأسلموه، وانحجز بقلعة جبل النسر [1] ونازلة غالب وأمدّه الحكم بعرب الدولة ورجال الثغور،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حجر النسر. وهو الأصح. كما في قبائل المغرب/ 116.(6/291)
وأجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن إبراهيم التجيبي فيمن معه من أهل بيته وحشمه سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فاجتمع مع غالب على القلعة، واشتدّ الحصار على الحسن، وطلب من غالب الأمان فعقد له وتسلّم الحصن من يده. ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم وسيرهم شردا، واستنزل جميع الأدارسة من معاقلهم وسار إلى فاس فملكها واستعمل عليها محمد بن علي بن قشوش في عدوة القرويين، وعبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس. وانصرف غالب إلى قرطبة ومعه الحسن بن كنّون وسائر ملوك الأدارسة، وقد مهّد المغرب وفرّق عماله في جهاته، وقطع دعوة الشيعة، وذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة، وتلقّاهم الحكم وأركب الناس للقائهم. وكان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة.
وعفا عن الحسن بن كنّون ووفّى له بالعهد، وأجزل له ولرجاله العطاء والخلع والجعالات، وأوسع عليه الجراية وأسنى لهم الأرزاق ورتّب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة. وتجنّى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدّت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه، فاتخذ منها أريكة يرتفقها ويتوسّدها، فسأله حملها إليه على أن يحكمه في رضاه، فأبى عليه مع سعاية بني عمّه فيه عند الخليفة، وسوء خلق الحسن ولجاجته، فنكبه واستصفى ما لديه من قطعة العنبر وسواها.
واستقام المغرب للحكم وتظافر أمراؤه على مدافعة بلكّين، وعقد الوزير المنصوري [1] لجعفر بن علي على المغرب، واسترجع يحيى بن محمد بن هاشم وغرب الحسن بن كنّون الأدارسة جميعا إلى المشرق استثقالا لنفقاتهم، وشرط عليهم أن لا يعودوا، فعبروا البحر من المريّة سنة خمس وستين وثلاثمائة، ونزلوا من جوار العزيز معدّ بالقاهرة خير نزل، وبالغ في الكرامة ووعد بالنصرة والترة. ثم بعث الحسن بن كنّون إلى المغرب وكتب له إلى آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة، فلحق بالمغرب ودعا لنفسه. وبعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه وتقبّضوا عليه، وأشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه كما ذكرناه في أخبارهم. وانقرض ملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المصحفي.(6/292)
الأدارسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر لبني حمّود منهم ببلاد غمارة وسبتة وطنجة كما نذكره إن شاء الله تعالى.(6/293)
(الخبر عن دولة حمّود ومواليهم بسبتة وطنجة وتصاريف أحوالهم وأحوال غمارة من بعدهم)
كان الأدارسة لمّا أجلاهم الحكم عن العدوة إلى المشرق، ومحا آثارهم من سائر بلاد المغرب واستقامت غمارة على طاعة المروانية، وأذعنوا لجند الأندلسيّين، ورجع الحسن بن كنّون لطلب أمرهم، فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم، وافترقت الأدارسة في القبائل ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب، واستحالت صبغتهم منه إلى البداوة. ولحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم وهم عليّ والقاسم ابنا حمّود بن ميمون بن أحمد ابن عليّ بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، فطار لهما ذكر في الشجاعة والإقدام. ولما كانت الفتنة البربريّة بالأندلس بعد انقراض الدولة العامريّة، ونصب البرابرة سليمان ابن الحكم ولقّبوه المستعين، واختصّ به أبناء حمّود هذان، وأحسنوا العناء في ولايته، حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة وعقد للمغاربة الولايات، عقد لعليّ بن حمود هذا على طنجة وأعمال غمارة فنزلها وراجع عهده معهم فيها.
ثم انتقض ودعا لنفسه وأجاز إلى الأندلس، وولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى. ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه عليّ منازعا لعمّه القاسم، واستقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة وسائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن غمارة. ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة وطنجة، وأنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت نظره واستبداده. ولمّا هلك إدريس واعتزم ابن بقيّة على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم لحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة ورتّب أمره في خلافته ورجع إلى سبتة. وعقد لحسن على عملهم في مواطن غمارة حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد. واستخلف على العمل من وثق به من الموالي الصقلبية، فلم يزل إلى نظرهم واحدا بعد آخر إلى أن استقلّ بسبتة وطنجة من موالي بني حمّود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي، كان عبدا للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم. ثم صار إلى عليّ بن حمّود فأخذ(6/295)
النجابة بطبعه إلى أن استقلّ بأمرهم واقتعد كرسي عملهم بطنجة وسبتة، وأطاعته قبائل غمارة.
واتصلت أيام ولايته إلى أن كانت دولة المرابطين، وتغلّب ابن تاشفين على مغراوة بفاس. ونجا فلّهم إلى بلاد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة، ونازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ودعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم، فهمّ بالانحياش ومظاهرته على عدوّه. ثم ثنّاه عن ذلك ابنه القائل الرأي.
فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة وأوقع بهم وافتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه، وانقاد المغرب لحكمه، صرف وجهه إلى سكوت فجهّز إليه العساكر وعقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجال لمتونة، فتباشرت الرعايا بمقدمهم وانثالوا عليهم. وبلغ الخبر الى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحدا من رعيته هدير طبولهم، ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله. وقد كان عليه من قبله ابنه ضياء الدولة المعز، وبرز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة وانكشفت عساكر سكوت، وطحنت رحى المرابطين، وسالت نفسه على ظباهم، ودخلوا طنجة واستولوا عليها، ولحق ضياء الدولة بسبتة.
ولما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس، وبعث ابن عبّاد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجزا وعده في جهاد الطاغية والذبّ عن المسلمين، وكاتبه أهل الأندلس كافة بالتحريض إلى الجهاد، وبعث ابنه المعزّ سنة ست وسبعين وأربعمائة في عسكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها برّا وأحاطت بها أساطيل ابن عبّاد بحرا، واقتحموها عنوة. وتقبّض على ضياء الدولة، واقتيد إلى المعزّ فطالبه بالمال لانحائه فأساء إيجابه فقتله لوقته، وعثر على ذخائره وفيها خاتم يحيى بن عليّ بن حمّود. وكتب إلى أبيه بالفتح، وانقرضت دولة بني حمّود وانمحى آثارهم وسلطانهم من بني غمارة [1] ، وأقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم.
ولما نجم [2] المهدي بالمغرب واستفحل أمر الموحّدين بعد مهلكه، تنقّل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى ففتح المغرب سنة سبع وثلاثين وما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم، واتبعوا أثره ونازلوا سبتة في عساكره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وامّحى أثر سلطانهم من بلاد غمارة.
[2] يقال: «نجم في بني فلان شاعر أو فارس» إذا نبع (القاموس) .(6/296)
وامتنعت عليهم، وتولّى كبر امتناعها قائدهم عيّاض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه وأبوّته وعلمه ومنصبه. ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى وأربعين فكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة.
ولما فشل أمر بني عبد المؤمن وذهبت ريحهم، وكثر الثوار بالقاصية، ثار فيهم ابن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين، كان أبوه من قصر كتامة منقبضا عن الناس وكان ينتحل الكيميا وتلقّنه عنه ابنه محمد هذا. وكان يلقّب أبا الطواحن فارتحل إلى سبتة ونزل على بني سعيد وادّعى صناعة الكيميا فاتبعه الغوغاء. ثم ادّعى النبوّة وشرّع شرائع، وأظهر أنواعا من الشعوذة فكثر تابعه. ثم اطلعوا على خبثه ونبذوا إليه عهده. وزحفت عساكر سبتة إليه ففرّ عنها، وقتله بعض البرابرة غيلة.
ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سنة أربعين وستمائة، واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين وستمائة فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم واستعصوا عليهم، وأقاموا بمنجاة من الطاعة، وعلى ثبج من الخلاف، وامتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم وصار أمرها إلى الشورى، واستبدّ بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم، كما سنذكر ذلك كله، إلى أن وقع بين قبائل غمارة ورؤسائهم فتن وحروب، ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مرين فأتوها طواعية.
وأدخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعا أو كرها، فملك بنو مرين أمرهم، واستعملوا عليهم، وتخطّوا إلى سبتة من ورائهم فملكوا أمر العزفيّين سنة سبع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره بعد عند ذكر دولتهم. وهم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز والكثرة يؤتون طاعتهم وجبايتهم عند استقلال الدولة، ويمرضون فيها عند التياثها بفشل واشتغال بمحاربها [1] فتجهّز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة، ولهم بوعورة جبالهم عزّ ومنعة وجوار لمن لحق بهم من أعياص الملك، ومستأمني الخوارج إلى هذا العهد. ولبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك لإشراف جبلهم على سائرها وسموه بقلاعه [2] إلى مجاري السحب دونها وتوعّر مسالكه بهبوب الرياح فيها. وهذا الجبل مطل على سبتة من غربيها ورئيسه منهم وصاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أو شغل بخارج.
[2] وفي نسخة ثانية: سموّ بقاعه.(6/297)
أمره يوسف بن عمر وبنوه، ولهم فيه عزّة وثروة، وقد اتخذوا به المصانع والغروس وفرض لهم السلطان بديوان سبتة العطاء، وأقطعهم ببسيط طنجة الضياع استئلافا لهم وحسما لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم، وللَّه الخلق والأمر بيده ملكوت السموات والأرض.
(الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصى من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومبادئ أمورهم وتصاريفها)
هذه الجبال بقاصية المغرب من أعظم جبال المعمور ربما أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها، ومدّت في الجوّ هياكلها، ومثلت سياجا على ريف المغرب سطورها تبتدئ من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها، وتذهب في المشرق إلى غير نهاية. ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة، وهي في الجانب مما يلي مراكش قد ركب بعضها بعضا متتالية على نسق من الصحراء إلى التل. يسير الراكب فيه متعرّضا من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعه من القبلة ثمان مراحل وأزيد، تفجّرت فيها الأنهار، وجلل الأرض، حمراء الشعراء [1] وتطابقت بينها ظلال الأدواح. وزكت فيها مواد الزرع والضرع، وانفسحت مسارح الحيوان ومراقع الصيد، وطابت منابت الشجر، ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلّا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيّدوا المباني والقصور واستغنوا بقطرهم عن سائر أقطار العالم، فرحل إليهم التجر من الآفاق، واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار، ولم يزالوا مذ أوّل الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقاليم تعدّدت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم، وافترقت أسماؤها بافتراق أجيالهم [2] .
تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدئ مواطن صنهاجة [3] ويحفّون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس وقبائل هؤلاء
__________
[1] وفي نسخة ثانية: خمر الشّعراء.
[2] وفي نسخة ثانية: أحيائهم.
[3] وفي نسخة ثانية: صناكة.(6/298)
المصامدة بهذه المواطن كثيرة فمنهم: هرغة وهنتاتة وتين ملّل وكدموية وكنفيسة ووريكة وركراكة وهزميرة ودكالة وحاحة وأمادين [1] وازكيت [2] وبنو ماكر وإيلانة ويقال هيلانة. ويقال أيضا أن إيلان هو ابن بر، أصهر المصامدة فكانوا حلفاء لهم [3] .
ومن بطون أمادين مصفاوة وماغوس، ومن مصفاوة دغاغة وبوطنان، ويقال إن غمارة ورهون وأمل من أمادين والله أعلم.
ويقال إنّ من بطون حاحة زكن وولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافا لذوي حسّان المتغلّبين عليها من عرب المعقل. ومن بطون كنفيسة أيضا قبيلة سكسباوة [4] الموطنون بأمنع المعاقل بهذه الجبال المطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من المغرب، ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم نذكره بعد. وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدّين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم. وكان من مشاهيرهم كثير [5] بن وسلاس بن شملال بن أمادة وهو يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك. دخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق في آخرين من مشاهيرهم استقرّوا بالأندلس. وكان لأعقابهم بها ذكر في الدولة الأموية. كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء. ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين، ومن صنهاجة بإفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله، وباللَّه التوفيق، لا رب سواه، ولا معبود إلّا إياه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أصّادن.
[2] وفي النسخة الباريسية: واركيت.
[3] وفي نسخة أخرى: فكانوا خلفاءهم.
[4] وفي نسخة أخرى: سكسيوة.
[5] وفي نسخة ثانية: كسير وفي النسخة الباريسية: كير.(6/299)
(الخبر عن مبدإ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها على يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وإفريقية وبداية ذلك وتصاريفه)
لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيما، وجماعتهم موفورة وبأسهم قويا، وفي أخبار الفتح من حروبهم عقبة بن نافع وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور إلى أن أظلتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلا، وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهما، حتى لما اختطّوا مدينة مراكش لنزلهم جوار(6/300)
مواطنهم من درن ليتميزوا عمن سواهم [1] ويذللوا من صعابهم. وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بن يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت [2] صاحب دولة الموحّدين المشتهر بالمهديّ، أصله من هرغة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمّى أبوه عبد الله وتومرت، وكان يلقّب في صغره أيضا أمغار، وهو محمد ابن عبد الله بن وجلّيد ابن بامصال [3] بن حمزة بن عيسى فيما ذكر ابن رشيق وحقّقه ابن القطّان. وذكر بعض مؤرخي المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا ابن سفيون بن الكلديس بن خالد [4] . وزعم كثير من المؤرّخين أن نسبه في أهل البيت، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان ابن سفيان بن صفوان بن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر. الواقع نسب الكثير من بيته في المصامدة وأهل السوس. كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا، وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس، ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب قال: فمن ولده كل طالبي بالسوس، وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب، وأن رباحا الّذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار العبّاس بن محمد بن الحسن، وعلى الأمرين فإن نسبة الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة ورسخت عروقه فيهم، والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم، وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم.
وكان أهل بيته أهل نسك ورباط. وشبّ محمد هذا قارئا محبا للعلم، وكان يسمى أسافو، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد لملازمتها. وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة، ومرّ بالأندلس ودخل قرطبة وهي إذ ذاك دار علم. ثم أجاز إلى الإسكندرية وحجّ ودخل العراق ولقي جلّة من العلماء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليتمرّسوا بهم.
[2] يوجد شخص اسمه محمد بن عبد الله بن تومرت وهو صاحب كنز العلوم ودر المنظوم في حقائق علم الشريعة ودقائق علم الطبيعة. (توجد منه نسخة في المكتبة الخديوية) ويرى بروكلمان- في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية- أن اسمه الحقيقي هو محمد بن علي بن تومرت وأنه أندلسي توفي سنة 391 هـ، إلا أنه ينسب كنز العلوم هو وهوارت الى المهدي، وسبب الخلط ان في هذا الكتاب نقد نظرية التجسيم.
وقد ذكر ابن الأثير محمد بن تومرت كان معاصرا للمهدي وهو الّذي كان يقترف جرائم القتل الجماعي في عهد المهدي.
[3] وفي النسخة التونسية تامصال. وفي نسخة ثانية: يامصال.
[4] وفي نسخة أخرى: محمد بن تومرت بن تيطاوين بن سافلا بن مسيغون ابن ايكلديس بن خالد.(6/301)
يومئذ وفحول النظار، وأفاد علما واسعا وكان يحدّث نفسه بالدولة لقومه على يده لما كان الكهّان والحزّاء يتحيّنون ظهور دولة يومئذ بالمغرب. ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي، وفاوضه بذات صدره بذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة وتقويض أركان السلطان الجامع الأمة، المقيم للملّة بعد أن ساء له عمن له من العصابة والقبائل التي يكون بها الاعتزاز والمنعة، ونشأ بها يتم أمر الله في درك البغيّة وظهور الدعوة. وانطوى هذا الإمام راجعا إلى المغرب بحرا متفجّرا من العلم، وشهابا واريا من الدين. وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنّة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفيّة والذبّ عنها بالحجج العقليّة الدافعة في صدر أهل البدعة. وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل وإقرار التشابهات كما جاءت. ففطن أهل المغرب في ذلك وحملهم على القوم بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة في التوحيد. وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة، وألف في ذلك كتابه في الإمامية الّذي افتتحه بقوله: أعزّ ما يطلب وصار هذا المفتتح لقبا على ذلك الكتاب، وأحل [1] بطرابلس أول بلاد المغرب معنيا بمذهبه ذلك مظهرا النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه، آخذا نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع، حتى لقي بسبب ذلك أذيّات في نفسه احتسبها من صالح عمله [2] . ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس ابن حماد من أمراء صنهاجة. وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير. وتعرّض يوما لتغيير بعض المنكرات في الطرق، فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به، فخرج منها خائفا ولحق بملالة على فرسخ منها، وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة. وكان لهم اعتزاز ومنعة، فآووه وأجاروه وطلبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا وأسخطوه، وأقام بينهم يدرس العلم أياما. وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريبا من ديار ملالة، وهي لهذا العهد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: احتلّ.
[2] وفي نسخة اخرى: اعماله.(6/302)
معروفة. وهناك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه، وانتهى عزمه عن وجهه ذلك، واختصّ به وتشمّر للأخذ عنه. وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته. ولحق بوانشرس. وصحبه منها البشير من جملة أصحابه. ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة ووبّخه على منتحله ذلك، وخلافه لأهل قطره. وظنّ أن من العدل نزعه عن ذلك، فصمّ عن قبوله. واستمر على طريقه إلى فاس، ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء. فأوجعوه ضربا، ولحق بمراكش وأقام بها آخذا في شأنه. ولقي علي بن يوسف بالمسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول. ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملّثمين في زي نسائهم فوبخها، ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه، ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته. وكانوا ملئوا منه حسدا وحفيظة لما كان ينتحل مذهب الأشعريّة في تأوي المتشابه وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إقراره كما جاء. ويرى أن الجمهور لقّنوه تجسيما، ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير فمال الرأي فأغروا الأمير به فأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم، وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات، وغيّر المناكير على عادته وأغرى به أهلها علي بن يوسف وطيّروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته، ودعا إسماعيل بن أيكيك من أصحابه وهو من أنجاد قومه [1] ، وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة. لحق أولا بمسفيوه، ثم بهنتاتة. ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي، وهو أبو حفص ويعرف بيته ابن هنتاتة ببني فاصكات.
وتقول نسّابتهم إن فاصكات هو جد وانودين، ويقال لهنتاتة بلسانهم هنتي فلذلك كان يعرف عمر بهنتي وسيأتي الكلام في تحقيق نسبهم عند ذكر دولتهم. ثم ارتحل المهدي عنهم إلى ايكيلين من بلاد هرغة، فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة. وبنى رابطة للعبادة اجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلّمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته واستدرك فقيه العلمية بمجلس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ودعا إسماعيل بن ايكيك من أصحابه مائتين من انجاد قومه.(6/303)
الأمير علي بن يوسف وهو مالك بن وهيب أغراه به. وكان حزّاء ينظر في النجوم وكان الكهّان يتحدثون بأن ملكا كائن بالمغرب لأمة من البربر ويتغيّر فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويّين من السيارة يقتضي ذلك في أحكامهم، وكان الأمير يتوقّعها، فقال: احتفظوا بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران.
والدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه وهو: أجعل على رجله كبلا لئلا يسمعك طبلا وأظنه صاحب الدرهم المربّع، فطلبه علي بن يوسف ففقده وسرّح الخيالة في طلبه ففاتهم، وداخل عامل السوس، وهو أبو بكر ابن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله، ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل أشياعهم [1] ، وقتلوا من داخل في أمره. ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد، وقتال المجسمين دونه سنة خمسة عشر وخمسمائة، فتقدّم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرها. وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن يكيبت ويونس [2] بن وانودين وابن يغمور، ومن تين ملّل أبو حفص عمر بن علي الصناكي ومحمد بن سليمان وعمرو بن تافراتكين [3] وعبد الله بن ملويات. وأهب [4] قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم، ثم دخل معهم كيدموية [5] وكنفيسة، ولما كملت بيعته لقّبوه بالمهديّ وكان لقبه قبلها الإمام. وكان يسمى أصحابه الطلبة، وأهل دعوته الموحّدين، ولمّا تمّ له خمسون من أصحابه سمّاهم ايت الخمسين. وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتين ملّل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح. وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردّدت عساكر لمتونة إليهم مرّة بعد أخرى ففضّوهم، وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تين ملّل فأوطنه، وبنى داره ومسجده بينهم حوالي منبع وادي نفيس.
وقاتل من تخلّف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا هزرجة وأوقع بهم مرارا، ودانوا بالطاعة. ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو دوقة اللمتوني فغلبهم وقفل فاتبعه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: امتناعهم.
[2] وفي نسخة أخرى: يوسف.
[3] وفي نسخة أخرى: تافركين.
[4] وفي نسخة أخرى: اوعب.
[5] وفي نسخة أخرى: كدميوه.(6/304)
بنو واسكيت فأوقع بهم الموحّدون وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا. ثم غزا بلد غجرامة [1] وكان قد افتتحه وترك فيه الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به، وقتلوه فغزاهم واستباحهم. ورجع إلى تين ملّل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير وميز الموحد من المنافق. وكانوا يسمّون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم، وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم الى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر [2] بن علي بن يوسف وإبراهيم بن تاعباشت فهزمهم الموحّدون. وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش، فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفا كلهم راجلين إلّا أربعمائة فارس.
واحتفل علي بن يوسف الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم خرج عليهم من باب إيلان فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وسبيا، وفقد البشير من أصحابه. واستحرّ القتل في هيلانة، وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء. وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها. وكان يسمّى أصحابه بالموحّدين تعريضا بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصورا لا يأتي النساء. وكان يلبس العباءة المرقّعة. وله قدم في التقشّف والعبادة، ولم تحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بنيه ووصف أحوالهم ومصاير أمورهم
لما هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة [3] كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المتقدّم ذكره، ونسبه عند ذكر قومه، فقبره بمسجده لصق داره من تين ملّل. وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن بن علي لكونه من غير جلدتهم، فأرجئوا الأمر إلى أن تخالط بشاش الدعوة قلوبهم، وكتموا موته، زعموا ثلاث سنين
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: غجدامة.
[2] وفي النسخة الباريسية: نكو وفي نسخة ثانية مكر.
[3] وفد قبائل المغرب ان المهدي توفي سنة 524 هـ- 1130 م/ ص 127.(6/305)
يموّهون بمرضه، ويقيمون سنّته في الصلاة والحزب الراتب. يدخل أصحابه إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته، فيجلسون حوالي قبره ويتفاوضون في شئونهم بمحضر أخته زينب ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه، ويتولّاه عبد المؤمن بتلقينهم حتى إذا استحكم أمرهم وتمكّنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم، وتملأ من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن. وتولّى كبر ذلك الشيخ أبو حفص، وأراد هنتاتة وسائر المصامدة غلبه فأظهروا للناس موت المهدي، وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك.
وروى يحيى بن يغمور أنه كان يقول في دعائه إثر صلواته: «اللَّهمّ بارك في الصاحب الأفضل» فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تين ملّل سنة أربع وعشرين وخمسمائة فقام بأمر الموحّدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلا، وأقام بها وأصاب منهم. ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين وخمسمائة ثم غزا تاسعون [1] وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مازرو [2] ومن كان معه من قومه غمارة بني وزار [3] وبني مزدرع ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجا، وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة، فسرّح علي بن يوسف ابنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وستين وخمسمائة فجاءهم من ناحية أرض السوس، وأحشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدّمته، فلقيهم الموحّدون بأوائل جبلهم وهزموهم. ورجع تاشفين ولم يلق حربا، ودخل كزولة من بعدها في دولة الموحّدين، وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب، فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين وخمسمائة إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ولم يراجع فيها تين ملّل حتى إذا انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين، خرج إليها من تين ملّل، وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسائط، والناس يفرّون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب للدفء إلى أن وصل إلى جبل غمارة، واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب، وامتنعت الرعايا من المغرم وألح الطاغية على المسلمين بالعدوة.
وهلك خلال ذلك علي بن يوسف أمير لمتونة ملك العدوتين سنة سبع وثلاثين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تاشعبوث وفي النسخة الباريسية تاسيغموت.
[2] وفي نسخة أخرى: مزروال.
[3] وفي نسخة أخرى: بني ونام، وفي النسخة الباريسية: وارنتي وفي نسخة ثانية: ونار.(6/306)
وخمسمائة، وولّى أمرهم تاشفين ابنه، وهو في غزاته هذه، وقد أحيط به. وحزن بعد أبيه على فتنة بني لمتونة ومسوقة [1] ، ففزع أمراء مسوقة مثل بدران [2] بن محمد ويحيى بن تاكصتن [3] ويحيى بن إسحاق المعروف بأنكار، وكان والي تلمسان، ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة، ودخلوا في دعوته، ونبذ إليهم لمتونة العهد، وإلى سائر مسوقة، واستمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة وامتنعت عليه، وتولّى كبر دفاعه عنها القاضي عيّاض الشهير الذكر. كان رئيسها يومئذ بدينه وأبوّته ومنصبه.
ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغرّبا عن سبتة بتادلا مستعملا في خطة القضاء بالبادية، وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثه وبطوية فافتتحها، ثم نزل ملويّة فافتتح حصونها. ثم تخطي إلى بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة. وكان بعث إليهم عساكر من الموحّدين إلى نظر يوسف بن وانودين وابن يرمور [4] فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانو عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونة وزناتة فهزمهم الموحّدون وقتل ابن فانو وانقضّ عسكر زناتة، ورجعوا إلى بلادهم.
وولّى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي، ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن بدر أمراء بني مانو، فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكر من الموحّدين، فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد، وبني باجدي [5] سبيا وأسرا، وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم وتزلوا منداماس [6] ، واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد، وشيخهم حمامة ابن مطهر، وبني نيكاس وبني ورسفان وبني توجين، فأوقعوا في بني مانو واستنقذوا غنائمهم، وقتل أبو بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه، وتحصّن الموحّدون وابن وانودين بجبال سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخا على لمتونة وزناتة، فارتحل معه إلى تلمسان. ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة ملتونة وزناتة،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مسوفة.
[2] وفي نسخة أخرى: برّاز وفي النسخة الباريسية: بران.
[3] وفي نسخة أخرى: تاكفت.
[4] وفي النسخة الباريسية: مرمور.
[5] وفي نسخة أخرى: يلومي.
[6] وفي نسخة أخرى: منداس.(6/307)
فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورتيك [1] ونزل تاشفين بأصطفصف ووصل مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قوّاده، أمدوا به تاشفين وقومه لعصبية الصنهاجيّة. وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحّدين، وكان يدل باقدام وبأس فزاري بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناجزة الموحّدين، وقال: إنما جئتكم أؤمنكم [2] من صاحبكم عبد المؤمن هذا، وأرجع إلى قومي، فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة، فحمل على القوم فركبوا وصمّموا للقائه، فكان آخر العهد به وبعسكره.
وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه، فأغار على بني سندم [3] وزناتة الذين كانوا في بسيطهم ورجع بالغنائم فاعترضه الموحّدون من عسكر عبد المؤمن فقتلوهم، وقتل الزبرتير وصلب ثم بعث بعثا آخر إلى بلاد بني مانو، فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحّدين وأوقعوا بهم.
واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل. وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران، وبعث ابنه إبراهيم وليّ عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة، وبعث كاتبا معه أحمد بن عطيّة، ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فأقام عليها شهرا ينتظر قائد اسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل، فأرسى قريبا من معسكره وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وبني مانو من زناتة، فتقدّموا إلى بلاد بني يلومي وبني عبد الواد وبني ورسيفين وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم.
ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم، وكان منهم سيّد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي فتلقّاهم بالقبول، وسار بهم في جموع الموحّدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضّوهم، ولجأ تاشفين إلى رابية هناك فأحد قوابها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل، فخرج تاشفين من الحصن راكبا على فرسه، فتردى من بعض حافات الجبل، وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني ورنيد.
[2] وفي نسخة أخرى: لأمكنكم.
[3] وفي نسخة ثانية: سنوس.(6/308)
وبعث برأسه إلى تين ملّل. ونجا فلّ العسكر إلى وهران فانحصروا مع أهلها حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعا على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة. وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فلّ لمتونة وفيهم أبو بكر بن ولحف [1] وسير بن الحاج وعليّ بن فيلو في آخرين من أعيانهم، ففرّ معهم من كان بها من لمتونة. وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم، فلقيهم يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم أجمعين.
ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم، وعفا عن أهل تلمسان، ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولّى عليها سليمان ابن محمد بن وانودين، وقيل يوسف بن وانودين. وفيما نقل بعض المؤرّخين أنه لم يزل محاصرا تلمسان والفتوح ترد عليه، وهنالك وصلته بيعة سجلماسة. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب، وترك إبراهيم بن جامع محاصرا لتلمسان، فقصد فاس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقد تحصّن بها يحيى الصحراوي ولحق بها من فلّ تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن، وبعث عسكرا لحصار مكناسة، ثم رحل في اتباعه وترك عسكرا من الموحّدين على فاس، وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم وصحابة المهدي العشرة، فحاصروه سبعة أشهر.
ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد وأدخل الموحّدين ليلا، وفرّ الصحراوي إلى طنجة، وأجاز منها إلى ابن غانية بالأندلس، وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة، فرجع إليها وولّى عليها إبراهيم بن جامع وولّى على مكناسة يحيى بن يغمور، ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع، لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضّب بن عسكر أمير بني مرين ونالوا منه ومن رفقته، فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين عامل تلمسان أن يجهّز إليهم العساكر، فبعثها صحبة عبد الحق بن منقاد [2] شيخ بني عبد الواد، فأوقعوا ببني مرين وقتل المخضّب أميرهم.
ولمّا ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة، فولّى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة، ومرّ على سلا فافتتحها بعد مواقعة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن نجي وفي نسخة ثانية: بن ويحى.
[2] وفي نسخة أخرى: منغفاد.(6/309)
قليلة، ونزل منها بدار ابن عشرة، ثم تمادى إلى مراكش وسرّح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعا إلى مراكش وقد ضمّوا إليها جموع لمطة، فأوقع بهم الموحّدون وأثخنوا فيهم قتلا، واكتسحوا أموالهم وظعائنهم، وأقاموا على مراكش تسعة أشهر [1] وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف، بايعوه صبيا صغيرا عند بلوغ خبر أبيه. ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحّدين، فانهزموا وتتبعهم الموحّدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوّال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل عامّة الملثّمين، ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحّدين وأحضر إسحاق بين جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحّدين وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحّدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع البلاد.
ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقّب بالهادي، وظهر في رباط ماسة، فأقبل إليه الشراد [2] من كل جانب، وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكة وقبائل تامسنا وهوّارة، وفشت ضلالته في جميع العرب، فسرّح إليه عبد المؤمن عسكرا من الموحّدين لنظر يحيى أنكمار اللمتوني النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي. ولقي هذا الثائر المآسي، ورجع مهزوما إلى عبد المؤمن فسرّح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحّدين، واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة، وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفا من الرجال وسبعمائة من الفرسان، فهزمهم الموحّدون، وقتل داعيتهم في المعركة مع كثرة أتباعه، وذلك في ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي حفص بن عطيّة الشهير الذكر، كان أبوه أبو أحمد كاتبا لعلي بن يوسف وابنه تاشفين، وتحصل في قبضة الموحّدين فعفا عنه عبد المؤمن.
ولما نزل على فاس اعتزم أبو حفص [3] هذا على الفرار فتقبّض عليه في طريقه، واعتذر فلم يقبل عذره وقتل. وكان ابنه أحمد كاتبا لإسحاق بن علي بمراكش
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سبعة أشهر.
[2] وفي النسخة التونسية الشرار والمقصود الأشرار أو المشردون.
[3] وفي نسخة أخرى: أبو أحمد.(6/310)
فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفلّ، وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك، فأجابه واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولا. ثم ارتفع عنده مكانه [1] فاستوزره، وبعد في الدولة صيته، وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها، ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولته إلى أن دبّت السعاية إلى مهاده الوثير، فكان فيها حتفه، ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور.
ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياما. ثم خرج غازيا إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن، فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم بالقتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع. ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم. ثم نهض الى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش، ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدّة ثم هزموه، واضطرمت نار الفتنة بالمغرب، وانتقض أهل سبتة، وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحّدين، وأجاز القاضي عيّاض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوقي الوالي بالأندلس، فلقيه بالخضراء وطلب منه واليا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الّذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها. وذكر أنه لحق بطنجة فأجاز البحر إلى الأندلس ولحق بابن غانية بقرطبة وصار في جملته.
وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه. وقام بأمرها ووصل يده بالقبائل الناكثة لطاعة الموحّدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحّدين كما ذكرناه. ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فدوّخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرّءوا من يحيى الصحراوي ولمتونة، ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه، ووصلته المرعبة [2] من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب. وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبّل منهم، وكذلك أهل سلا فصفح لهم وأمر بهدم سورهم والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بخلاله.
[2] وفي نسخة أخرى: الرغبة.(6/311)
(فتح الأندلس وشئونها)
ثم صرف عبد المؤمن من قصره إلى الأندلس، وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن عليّ، ومنازلة الموحّدين مدينة فاس. وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس، فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس، ودخل في دعوته وخطب له بجامع فاس [1] أوّل خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة. وبعث أحمد بن قيسي صاحب مرتلّة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس [2] رسولا إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وأدّى كتاب صاحبه فأنكر ما تضمّنه من النعت بالمهديّ، ولم يجاوب. وكان سدّراتي [3] بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلّب على أحمد ابن قيسي هذا، وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قيسي البحر إلى عبد المؤمن من بعد فتح مراكش لمداخلة عليّ بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة، فجهّزه يوسف بن مخلوف، ولحق بعبد المؤمن، ورغّبه في ملك الأندلس، وأغراه بالملثّمين فبعث معه عساكر الموحّدين لنظر براز بن محمد المسوقي الناظر إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين، وعقد له على حروب من بها من لمتونة والثّوار وأمدّه بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد، وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي، ولمّا أجازوا إلى الأندلس نازلوا بالغمر بن عزرون من الثّوار بشريش، وكانت له مع ولده [4] . ثم قصدوا لبلة وبها من الثّوار يوسف بن أحمد البطروجي [5] فأعطاهم الطاعة، ثم قصدوا مرتلة، وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قيسي. ثم قصدوا شلّب فافتتحوها، وأمكنوا منها ابن قيسي. ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحب سدراتي بن وزير.
ثم براز في عسكر الموحّدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قادس.
[2] وفي نسخة أخرى: حيسن وفي نسخة ثانية قيسي وفي النسخة الباريسية حبيش.
[3] وفي نسخة أخرى: سدراي.
[4] وفي نسخة أخرى: ذندة.
[5] وفي النسخة الباريسية: البطروحي.(6/312)
إشبيليّة فأطاعه أهل طليطلة [1] وحصن القصر، واجتمع إليه سائر الثّوار وحاصروا إشبيليّة برّا وبحرا إلى أن افتتحوها في شعبان من سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وفرّ الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم. وأتى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربيّ في هيعة تلك الدخلة من غير قصد. وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن عليّ. وقدم عليه وفودهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبّل طاعتهم وانصرفوا.
بالجوائز والأقطاعات لجميع الوفد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس. وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بأشبيليّة ساء أثرهما بالبلد واستطالت أيديهما على أهله، واستباحوا الدماء والأموال. ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحّدين الذين بها، وحوّل الدعوة عنهم. وبعث إلى طليطلة وحصن القصر، ووصل يده بالملثّمين الذين كانوا بالعدوة وارتدّ ابن قيسي في مدينة شلف، وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس ومحمد بن الحجام بمدينة بطليوس وثبت أبو الغمر بن عزرون على طاعة الموحّدين بشريش [2] ورندة [3] وجهاتهما.
وتغلّب ابن غانية على الجزيرة الخضراء، وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه، وضاقت أحوال الموحّدين بأشبيليّة، فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم. ولحقوا بجبال بستر [4] وجاءهم أبو الغمر بن عزرون، واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوها وقتلوا من كان بها من لمتونة، ولحق أخو المهدي بمراكش، وبعث عبد المؤمن على إشبيليّة يوسف بن سليمان في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: طلياطلة.
[2] شريش. مدينة كانت تدعى عند القوط سرت ceret.وبناحيتها وقعت المعركة الحاسمة بين طارق بن زياد وآخر ملوك الغوط سنة 711 م، وبعدها تم فتح المسلمين للأندلس، وكانت في أيام العرب مدينة مهمة ومركزا ثقافيا مشهورا، وهي اليوم كذلك من أهم مدن اسبانيا. استرجعها الاسبان نهائيا سنة 1264 م. بينها وبين إشبيليّة 97 كلم الى ناحية الجنوب. وكانت في أيام العرب من اعمال كورة البحيرة. (البيّنة/ 34) .
[3] رنده: اسمها اللاتيني روندا ronda وهي من أقدم مدن اسبانيا، وكانت مزدهرة أيام العرب، تقدّم فيها أدباء وعلماء مشهورون، ولها تاريخ مجيد في الاستماتة دفاعا عن استقلالها. ولم يستطع الاسبان الاستيلاء عليها إلا بعد حصار دام عشرين يوما سنة 1485 قبل غرناطة بسبع سنوات. ونزح أهلها إلى المغرب العربيّ، وتوجد الى الآن عائلات الرندي بالمغرب. تبعد 108 كلم عن جبل طارق باتجاه الشمال وعن مالقة 96 كلم الى ناحية الشرق (البيّنة/ 27) .
[4] وفي نسخة ثانية: بيستر.(6/313)
عسكر من الموحّدين وأبقى براز بن محمد على الجباية، فخرج يوسف ودوّخ أعمال البطروجي بلبلة وطليطلة وعمل ابن قيسي بشلب ثم أغار على جبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنت مريّة، وغزا معهم وأرسل محمد بن عليّ بن الحاج صاحب بطليوس [1] بهداياه فتقبّلت ورعيت له، ورجع يوسف إلى إشبيليّة. وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن عليّ بن غانية بقرطبة وألح على جهاته حتى نزل له عن بياسة [2] ورندة، وتغلّب على الاشبونة [3] وطرطوشة [4] ولاردة [5] وافراغة وشنت مريّة وغيرها من حصون الأندلس، وطالب ابن غانية بالزيادة في بيته أو الإفراج له عن قرطبة، فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا باستجة [6] وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلّى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتمّ العقد ووصل حطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازلة الطاغية بها فغدر بأقماطه واقتلعهم بقلعة ابن سعيد وافرج الطاغية عن جيان ولحق هذا بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين، قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحّدين فكان مهلكه بها في شعبان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وقبره بها معروف لهذا العهد. وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها ودفع الموحّدون بأشبيليّة أبا الغمر بن عزرون لحمايتها، ووصل إليه مدد يوسف
__________
[1] بطليوس: اسمها القديم بتاليوم Batallium:وهي مدينة على الحدود البرتغالية تبعد عن مجريط نحو 400 كلم. كانت عاصمة لبني الأفطس أيام ملوك الطوائف، وبالقرب منها كانت موقعة الزلاقة. ينسب إليها علماء وأدباء معروفون. وكانت تعتبر من كورة قصر ابن أبي وانس. (البينة/ 23) .
[2] بياسة: اسمها باللاتينية: فيفاتيا Vivatia وكان لها شأن أيام العرب ونبغ فيها أدباء وعلماء. خرّبها الاسبان بعد استرجاعها سنة 1277 ثم أعيد تجديدها (البينة/ 24) .
[3] الاشبونة هي عاصمة البرتغال اليوم وكانت تسمى قبل الإسلام أوليسيبو.Ulissipo افتتحها المسلمون سنة 711 وبقي نفوذهم بها إلى سنة 1147، وكانت من كورة البلاطة. (البينة/ 20) .
[4] طرطوشة، كانت أيام الرومان تدعى tosajuliaAugusta مدينة على شاطئ البحر المتوسط. كانت مركزا بحريا هاما أيام العرب ومدينة علم وأدب استرجعها الاسبان سنة 1148 م وهي الى جنوب برشلونة. كانت تعتبر من كورة البورتات. (البيّنة/ 28) .
[5] لاردة: كانت تسمى ايلاردة.Elerda فتحها العرب في القرن الثامن وهي على نهر شيقر. كانت من أهم الثغور الشرقية. (البيّنة/ 29) .
[6] استجة: اسمها في اللاتينية Astigi تقع جنوبي قرطبة لا تزال بها اثار عربية قيّمة وهي على وادي شنيل. (البيّنة/ 20) .(6/314)
البطروجي من لبلة [1] وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكرا من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن. ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبّلهم وصفح لهم ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين وخمسمائة واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعا، وبايعه الرؤساء من الثوّار على الانخلاع من الأمر مثل سدراتي بن وزير صاحب باجة، وباثورة [2] والبطروجي صاحب لبلة، وابن عزرون صاحب شريش ورندة وابن الحجّام صاحب بطليوس، وعامل بن مهيب صاحب طلبيرة، وتخلّف ابن قيسي وأهل شلب عن هذا الجمع فكان سببا لقتله من بعد. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثّوار فلم يزالوا بحضرته والله تعالى أعلم.
(فتح افريقية وشئونها)
ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه إفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد، وأنهم حاصروا مدينة القيروان، وأنّ موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها، فأجمع الرحلة إلى غزو إفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه. وخرج من مراكش في أواخر سنة ست وأربعين وخمسمائة موريا بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة واستوضح أحوال أهل الأندلس، ثم رحل عن سبتة موريا بمراكش، وأغذّ السير إلى باجة فدخل الجزائر على حين غفلة، وخرج إليه الحسن بن عليّ صاحب المهديّة، فصحبه واعترضه جيوش صنهاجة بأمّ العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلها.
وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدّهما لذلك، واحتمل فيهما ذخائره وأمواله والحق بقسنطينة إلى أن نزل بعد ذلك منها على أمان عبد المؤمن. واستقرّ
__________
[1] اسمها القديم Ilipla:وهي من أعمال أونبة تبعد عن إشبيليّة 65 كلم استرجعها الاذفونش العاشر سنة 1257 وهي موطن العائلة الفاسية ومنها نزحوا الى مالقة ثم إلى إشبيليّة، ثم الى فاس، وكانوا يحملون بالأندلس اسم بني الجد (البيّنة/ 29- 30) .
[2] وفي نسخة أخرى: يابورة.(6/315)
بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله.
ثم سرّح عبد المؤمن عساكر الموحّدين وعليهم ابنه عبد الله إلى القلعة، وبها جوش بن عبد العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم، وأضرم النار في مساكنها وقتل جوش. ويقال إنّ القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفا وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم والسبي، وبلغ الخبر إلى العرب بإفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة، وتآمروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز، وارتحلوا إلى سطيف وزحف إليه عبد الله بن عبد المؤمن في الموحّدين الذين معه وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة، فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله، والتقى الفريقان بسطيف واقتتلوا ثلاثا، ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم.
ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين وخمسمائة ووفد عليه كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم، ورجعوا إلى قومهم. وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن، واستوزر له يوسف بن سليمان، وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص واستوزر له أبا محمد بن وانودين. وعلى سبتة لابنه السيد أبي سعيد واستوزر له محمد بن سليمان. وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله واستوزر له يخلف بن الحسين، واختص ابنه أبا عبد الله بولاية عهده. وتغير بذلك كله ضمائر عبد العزيز وعيسى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة. ووصل على أثرهما الوزير أبو حفص بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفآ نار تلك الثورة وقتل أخو المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم.
(فتح بقية الأندلس)
وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين وخمسمائة أنّ يحيى بن يغمور صاحب إشبيليّة قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها. وتقبّل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيليّة بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن عليّ التينمللي، وعن(6/316)
قرطبة بأبي زيد بن بكيت، وبعث عبد الله بن سليمان فجاء بابن يغمور معتقلا إلى الحضرة، وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس. وخرج ميمون بن بدر اللمتوني عن غرناطة للموحّدين فملكوها، وأجاز إليها السيد أبا سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك، ولحق الملثّمون بمراكش، ونازل السيد أبو سعيد مدينة المريّة [1] حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان. وحضر لذلك الوزير أبو حفص بن عطيّة بعد أن أمدهم ابن مودهشي [2] الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه، وعجزوا جميعا عن المدافعة. ثم وفد أشياخ إشبيليّة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم، فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها، وافتتح أمره بمنازلة عليّ الوسيني الثائر بطلبيرة [3] ومعه الوزير أبو حفص بن عطيّة حتى استقام على الطاعة. ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قيسي، واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وكان الّذي أمكن الملثّمين منها ابن قيسي واستتم الفتح. ورجع السيد إلى إشبيليّة وانصرف أبو حفص بن عطيّة إلى مراكش فكانت فيها نكبته ومقتله. واستوزر عبد المؤمن من بعده عبد السلام الكومي، كان يمت إليه بذمّة صهر فلم يزل على وزارته والله أعلم.
(بقية فتح إفريقية)
لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ما كان من إيقاع الطاغية بابنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيليّة، ومن استشهد من أشياخ الموحّدين وحفاظهم، ومن الثّوار مثل ابن عزرون [4] وابن الحجّام، نهض يريد الجهاد، واحتل سلا، فبلغه
__________
[1] المرية: مدينة على البحر الأبيض المتوسط كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي، لكن العرب وسّعوها وجعلوها مرسى تجاريا وسمّوها المرية بمعنى المرآة الصغيرة. كانت أيام ملوك الطوائف عاصمة بني تجيب وقد ازدهرت في أيامهم وكانت مركزا ثقافيا مهما، استرجعها الاسبان سنة 1489 م وهي في شرقي مالقة تبعد عنها 222 كلم، وكانت تعتبر أيام العرب من أعمال كورة بجانة (البيّنة/ 32) .
[2] وفي نسخة أخرى: ابن مردنيش وهو الأصح.
[3] هكذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بمنازلة علي الوهبي الثائر بطبيرة.
[4] وفي نسخة أخرى: ابن عزّون.(6/317)
انتقاض إفريقية، وأهمه شأن النصارى بالمهديّة، فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس، ونهض يغذّ السير حتى نزل المهديّة وبها من نصارى أهل صقلّيّة [1] ، فافتتحها صلحا سنة خمس وخمسين وخمسمائة واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدوّ.
وبعث ابنه عبد الله من مكان حصاره للمهديّة إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان، بعض بطون رياح. واستخلص قفصة من يد بني الورد، وورغة من يد بني بروكسن وطبرقة من يد ابن علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خلفة [2] وشقبناريّة من يد بني عبّاد [3] ، بن نصر الله، ومدينة الأربص من يد من ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة.
ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين وخمسمائة بلغه أنّ الأعراب بإفريقية انتقضوا عليه، فرجّع إليهم عسكرا من الموحّدين، فنهضوا إلى القيروان وأوقعوا بالعرب، وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني عليّ إحدى بطون رياح والله تعالى أعلم.
(أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس)
كان بلغ عبد المؤمن وهو بإفريقية أنّ محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان. وأطاعه واليها محمد بن عليّ الكومي، ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها، ثم رجع إلى قرطبة وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله، فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح إفريقية، وأنه واصل إليهم. وعبر إلى جبل الفتح، واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحّدين، ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد، ولقيهم الطاغية فهزموه. وتغلّب السيد أبو يعقوب على
__________
[1] كان يحتل المهدية النورمانديون وقد استخلصها منهم عبد المؤمن سنة 1160 م- 555 هـ (قبائل المغرب ص 127) .
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بن خليفة.
[3] وفي نسخة أخرى بني عيّاد.(6/318)
قرمونة من يد ابن همشك صهر ابن مردنيش. وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيليّة وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش، فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وعلا ليلا بمداخلة من بعض أهلها. واستولى عليها وانحصر الموحّدون بقصبتها، وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا.
وقدّم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيليّة عبد الله بن أبي حفص بن علي، ونهضوا جميعا إلى غرناطة، فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم. ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة، وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحّدين، ونهضوا إلى غرناطة وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مددا لابن همشك، فلقيهم الموحّدون بفحص غرناطة وهزموهم. وفرّ ابن مردنيش إلى مكان في المشرق، ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحّدون. وأقبل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعي السيد أبو يعقوب بمراكش سنة ثمان وخمسين وخمسمائة لولاية العهد والادالة به من أخيه محمد، فلحق بمراكش وخرج في ركاب أخيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد. وأدركته المنية بسلا في جمادى الأخيرة من هذه السنة ودفن بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم.
(دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن)
لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبو حفص لأخيه أبي يعقوب باتفاق من الموحّدين كافة، ورضا من الشيخ أبي حفص خاصة. واستقل في رتبة وزارته ورجعوا إلى مراكش وكان السيد أبو حفص هذا وزيرا لأخيه عبد المؤمن، واستوزره عند نكبة عبد السلام الكومي، فرجّعه من إفريقية سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وكان أبو عليّ بن جامع متصرفا بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعة لأخيه أبي يعقوب. ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس والسيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة. ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من غرناطة سنة ستين وخمسمائة فقدم ولقيه السيد(6/319)
أبو حفص بسبتة.
ثم صرّح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عسكر الموحّدين لما بلغه ان إلحاح ابن مردنيش على قرطبة، بعد أن احتشد معه قبائل العرب، زغبة ورياح والأثبج، فأجاز البحر وقصد ابن مردنيش، وقد جمع جموعه وأولياءه من النصارى، ولقيتهم عساكر الموحّدين بفحص مرسية، فانهزم ابن مردنيش وأصحابه وفرّ إلى مرسية من سبتة، ونازلة الموحّدون بها ودوّخوا نواحيه.
وانصرف السيد أبو حفص وأخوه أبو سعيد سنة إحدى وستين وخمسمائة إلى مراكش، وخمدت نار الفتنة من ابن مردنيش. وعقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا، وعلى إشبيليّة للشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم. ثم أدال عنه بأخيه السيد أبي إبراهيم، وأقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته، وعقد على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحاق، وأثر السيد أبا سعيد على غرناطة. ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في المكتوبات بخط الخليفة، فاختاروا الحمد للَّه وحده لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته، فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم والله تعالى أعلم.
(فتنة غمارة)
وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة تحرّك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة، لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولّى كبرها سبع بن منغفاد ونازعهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحّدين لنظر الشيخ أبي حفص، ثم تعاظمت فتنة غمارة وصنهاجة فخرج إليهم بنفسه وأوقع بهم، واستأصلهم. وقتل سبع بن منغفاد وانحسم داؤهم، وعقد لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم. وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة اجتمع الموحّدون على تجديد البيعة واللقب بأمير المؤمنين، وخاطب العرب بإفريقية يستدعيهم إلى الغزو ويحرّضهم. وكتب إليهم في ذلك قصيدة ورسالة مشهورة بين الناس، وكان من إجابتهم ووفودهم عليه ما هو معروف
.(6/320)
(أخبار الأندلس)
لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوة وصرف نظره إلى الأندلس والجهاد، واتصل به ما كان من غدر العدو، دمّره الله بمدينة ترجالة [1] . ثم مدينة يابرة [2] ثم حصن شبرمة ثم حصن جلمانيه إزاء بطليوس، ثم مدينة بطليوس، فسرّح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحّدين احتفل في انتقائهم، وخرج سنة أربع وستين وخمسمائة لاستنقاذ بطليوس من هوة الحصار، فلما وصل إلى إشبيليّة بلغه أنّ الموحّدين وبطليوس هزموا ابن الرنك [3] الّذي كان يحاصرهم بإعانة ابن ادفونش، وأنّ ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيرا وفرّجوا ندة [4] الجلّيقي إلى حصنه، فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة، وبعث إليهم إبراهيم بن همشك من جيان بطاعته وتوحيده ومفارقته صاحبه ابن مردنيش لما حدث بينهما من الشحناء والفتنة، فألحّ عليه ابن مردنيش بالحرب، وردّد إليه الغزو، فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته.
وكان الشيخ أبو حفص في عساكر الموحّدين، فنهض من مراكش سنة خمس وستين وخمسمائة وفي جملته السيد أبو سعيد أخوه، فوصل إلى إشبيليّة وبعث أخاه أبا سعيد إلى بطليوس، فعقد الصلح مع الطاغية وانصرف، ونهضوا جميعا إلى مرسية ومعهم ابن همشك فحاصروا ابن مردنيش. وثار أهل لورقة [5] بدعوة الموحدين، فملكها السيد أبو حفص. ثم افتتح مدينة بسطة [6] وأطاع ابن عمه محمد بن مردنيش
__________
[1] ترجالة: تقع في ناحية ماردة تبعد عنها حوالي 90 كلم شمالا (البينة/ 25) .
[2] يابرة: اسمها القديم: ايبورا، فتحها العرب سنة 715 م وصارت في أيامهم احدى المدن المهمة في ناحية الاشبونة، استرجعها النصارى سنة 1166 وهي على بعد 117 كلم من شرق الاشبونة (البينة/ 35) .
[3] وفي النسخة الباريسية الزيك وفي نسخة أخرى الرتك.
[4] وفي نسخة أخرى: جراندة.
[5] لورقة: مدينة ايبيرية قديمة كانت تدعى عند الرومان،Ilucro فتحها العرب سنة 780 هـ وكانت عاصمة ناحية زراعية خصبة، استرجعها الإسبان سنة 1266 م وهي بين مرسية والمرية تبعد عن الاولى 62 كلم وعن الثانية 77 كلم وكانت أيام العرب من اعمال كورة تدمير (البينة/ 30) .
[6] بسطة: اسمها أيام الرومان بسطي Basti وكانت من أخريات المدن التي استرجعها الاسبان في ناحية وادي آش سنة 1489. ولا تزال بها الى الآن اثار عربية. تبعد عن وادي آش 48 كلم شرقا (البينة/ 24) .(6/321)
صاحب المريّة فحص [1] بذلك جناحه.
واتصل الحبر بالخليفة بمراكش، وقد توافت عنده جموع العرب من إفريقية صحبة أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي عمران صاحب تلمسان، وكان يوم قدومهم عليه يوما مشهودا، فاعترضهم وسائر عساكره، ونهض إلى الأندلس. واستخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتلّ بقرطبة سنة سبع وستين وخمسمائة ثم ارتحل بعدها إلى إشبيليّة، ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفا من غزاته. وكان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم، وباد أخوه أبو الحجّاج وهلك هو في رجب من هذه السنة. ودخل ابنه هلال في الطاعة، وبادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها وخرج هلال في جملته، وبعثه إلى الخليفة بأشبيليّة. ثم ارتحل الخليفة غازيا إلى بلاد العدو فنازل رندة أياما وارتحل عنها إلى مرسية. ثم رجع إلى إشبيليّة سنان ثمان وستين وخمسمائة واستصحب هلال بن مردنيش واصهر له في ابنته، وولّى عمّه يوسف على بلنسية وعقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة.
ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب، فخرج للقائهم وأوقع بهم بناحية قلعة رياح، وأثخن فيهم ورجع إلى إشبيليّة وأمر ببناء حصن القلعة ليحصّن جهاتها، وقد كان خرابا منذ فتنة أبي حجّاج فيه مع كريب بن خلدون بمدّة [2] ازمان المنذر بن محمد وأخيه عبد الله من أمراء بني أمية.
ثم انتقض ابن أذفونيش وأغار على بلاد المسلمين، فاحتشد الخليفة وسرّح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره، وافتتح قنطرة بالسيف، وهزم جموعه في كلّ جهة.
ثم ارتحل الخليفة من إشبيليّة راجعا إلى مراكش سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس، وعقد على قرطبة لأخيه الحسن، وعلى إشبيليّة لأخيه عليّ، وأصاب مراكش الطاعون فهلك من السادات أبو عمران وأبو سعيد وأبو زكريا، وقدم الشيخ أبو حفص من قرطبة فهلك في طريقه، ودفن بسلّا.
واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن، فعقد لأبي علي على سجلماسة ورجع أبو الحسن إلى قرطبة، وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص:
__________
[1] بمعنى نقص قدره.
[2] وفي نسخة أخرى: بمورة،(6/322)
لأبي زيد منهما على غرناطة، ولأبي محمد عبد الله على مالقة. وفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة سطا بذرية [1] بني جامع وغرّبهم إلى ماردة [2] . وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة عقد لقائم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة الأشبونة، فغنم ورجع. وفيه كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعد ما أبلى في الجهاد وبالغ في نكاية العدوّ. وقدم ابناه من الأندلس وأخبر الخليفة بانتقاض الطاغية، واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من إفريقية والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انتقاض قفوصة واسترجاعها)
كان عليّ بن المعزوّ يعرف بالطويل، من أعقاب بني الرند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس وسبعين [3] وخمسمائة كما ذكرناه في أخبارهم. وبلغ الخليفة خبره فنهض إليها من مراكش، وسار إلى بجاية وبقي عنده يعلى بن المنتصر الّذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصة أنه يواصل قريبه الثائر بها ويخاطب العرب، فتقبّض عليه، ووجدت المخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية واستصفى ما كان بيده، وارتحل إلى قفصة ونزلها. ووفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فقتلهم [4] ولم يزل محاصرا لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز، وانكفأ راجعا إلى تونس. وأنفذ عساكر العرب إلى المغرب، وعقد على إفريقية والزاب للسيد أبي علي أخيه، وعلى بجاية للسيد أبي موسى وقفل إلى الحضرة والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بوزرائه.
[2] اسمها الروماني EmeritaAugusta وهي من تأسيسهم سنة 25 بعد المسيح وكانت من أعظم مدنهم وأجملها حتى أطلق عليها اسم رومة اسبانيا. فتحها العرب في زحفهم العظيم على الأندلس سنة 713 م واسترجعها الاسبان سنة 1228، يخترقها نهر وادي يانة، تبعد عن بطليوس 61 كلم. وكانت تعتبر أيام العرب من كورة مصر بن أبي دانس (البيّنة/ 30) .
[3] وفي النسخة الباريسية: سنة سبع وخمسين.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فتقبلهم.(6/323)
(معاودة الجهاد)
لما قفل من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وخمسمائة وفد عليه أخوه السيد أبو إسحاق من إشبيليّة، والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية، وكافة الموحدين ورؤساء الأندلس يهنّونه بالإياب فأكرم موصلهم وانصرفوا إلى بلادهم. واتصل به أن محمد ابن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من إشبيليّة إلى أرض العدوّ فنازل مدينة يابرة وغنم ما حولها، وافتتح بعض حصونها ورجع إلى إشبيليّة، وأن عبد الله بن إسحاق بن جامع قائد الاسطول بأشبيليّة التقى بأسطول أهل أشبونة في البحر فهزموهم وأخذوا عشرين من قطائعهم مع السبي والغنائم.
ثم بلغ الخبر بأن أدفونش بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهات مالقة ورندة وغرناطة. ثم نزل أستجة [1] وتغلّب على حصن شنغيلة. وأسكن بها النصارى وانصرف، فاستنفر السيد أبو إسحاق سائر الناس للغزو ونازل الحصن نحوا من أربعين يوما. ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفأ راجعا. وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من إشبيليّة في جموع الموحدين ونازل طلبيرة [2] وبرز إليه أهلها، فأوقع بهم وانصرف بالغنائم، فاعتزم الخليفة أبو يعقوب على معاودة الجهاد، وولّى على الأندلس أبناءه وقدّمهم للاحتشاد، فعقد لابنه أبي إسحاق على إشبيليّة كما كان، ولابنه السيد أبي يحيى على قرطبة، ولابنه السيد أبي زيد الحصرصاني [3] على غرناطة. ولابنه السيد أبي عبد الله على مرسية.
ونهض سنة تسع وسبعين وخمسمائة إلى سلا، ووافاه بها أبو محمد بن أبي إسحاق بن جامع من إفريقية بحشود العرب. وسار إلى فاس وبعث في مقدّمته هنتاتة وتين ملّل
__________
[1] استجة: اسمها اللاتيني Astigi وهي في جنوبي قرطبة بينهما 56 كلم ولا تزال بها آثار عربية قيمة وهي على وادي شنيل، كانت تعتبر أيام العرب من كورة قنبانية (البينة/ 20) .
[2] طلبيرة: كانت تسمى عند القدماء Talabriga وهي على نهر تاجه في جنوبي غرب مجريط. كانت أيام العرب محصنة تحيط بها قلاع لا تزال آثارها قائمة الى الآن وهي عبارة عن ثمانية عشر برجا مربعا في غاية الجمال تسمى TorresAlbarranas وهي مشهورة بالفسيفساء الأزرق والأصغر. تبعد 85 كلم عن طليطلة وكانت تعتبر من كورة البشارات. (البينة/ 28) .
[3] وفي نسخة أخرى: الحرضاني.(6/324)
وحشود العرب. وأجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين وخمسمائة فاحتلّ جبل الفتح، وسار إلى إشبيليّة فوافته بها حشود الأندلس. وسخط محمد بن وانودين وغربة إلى حصن غافق، ورحل غازيا إلى شنترين فحاصرها أياما. ثم أقلع عنها واستمرّ الناس يوم إقلاعه، وخرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة ولا استعداد، فأبلى في الجهاد هو ومن حضره، وانصرفوا بعد جولة شديدة. وهلك في ذلك اليوم الخليفة، يقال من منهم أصابه في حومة القتال، وقيل من مرض طرقه عفا الله عنه.
(دولة ابنه يعقوب المنصور)
ولما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين وخمسمائة بويع ابنه يعقوب، ورجع بالناس إلى إشبيليّة فاستكمل البيعة. واستوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص، واستنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفّار. ثم أجاز البحر إلى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكريا ابن السيد أبي حفص قادما من تلمسان مع مشيخة زغبة، ومضى إلى مراكش فغير المناكير [1] وبسط العدل ونشر الأحكام، وكان من أوّل الأحداث في دولة شأن ابن غانية [2] .
(الخبر عن شأن ابن غانية)
كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلّب الغدوّ على جزيرة ميورقة وهلك واليها من موالي مجاهد، وهو مبشّر، وبقي أهلها فوضى، وكان مبشّر بعث إليه بالصريخ، والعدوّ محاصر له، فلما أخذها العدوّ وغنم وأحرق وأقلع، وبعث علي بن يوسف واليا عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة، وبعث معه خمسمائة فارس من
__________
[1] المناكير بمعنى المنكرات وفي نسخة أخرى: فقطع المناكر.
[2] كذا وفي نسخة أخرى: وباشر الأحكام، وكان أول الأحداث في دولته شأن ابن غانية.(6/325)
معسكره، فأرهب لهم حدّة، وأرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا، وقتل مقدّمهم فثاروا به وحبسوه. ومضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه، وولّى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوقي المعروف بابن غانية. وكان أخوه يحيى على غرب الأندلس، وكان نزله بأشبيليّة. واستعمل أخاه على قرطبة فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف محمد أخيه إلى ولاية ميورقة فارتحل إليها من قرطبة ومعه أولاده عبد الله وإسحاق وعلي والزبير وإبراهيم وطلحة، وكان عبد الله وإسحاق في تربية عمهما يحيى وكفالته فتبناهما. ولما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على وأنور وبعثه مصفدا إلى مراكش، وأقام على ذلك عشرا، وهلك يحيى بن غانية وقد ولّى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة، وأخاه إسحاق بن محمد على قرمونة. ثم هلك علي وضعف أمر لمتونة، وظهر عليهم الموحّدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله وإسحاق فوصلا إليه في الأسطول وانقضى ملك لمتونة.
ثم عهد محمد إلى ابنه عبد الله فنافسه أخوه إسحاق، وداخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه، وقتلوا أباه محمدا. ثم أجمعوا الفتك به فارتاب بهم وداخل لبّ بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم سنة ست وأربعين وخمسمائة. وبقي أميرا لميورقة. واشتغل أوّل أمره بالبناء والغراسة، وضجر منه الناس لسوء ملكته. وفرّ عنه لبّ ميمون إلى الموحّدين. ثم رجع أخيرا إلى الغزو، وكان يبعث بالأسرى والعلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكة سنة ثمانين وخمسمائة وخلّف من الولد: محمدا وعليّا ويحيى وعبد الله وسير والمنصور وجبارة وتاشفين وطلحة وعمر ويوسف والحسن، فولّى ابنه محمد وبعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته، فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه، وأحسّ بذلك إخوته فنكروه وتقبّضوا عليه.
وقدّموا عليّا منهم. وبلغهم مهلك الخليفة وولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية، وولّى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية، وولّى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في أسطوله على حين غفلة، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان خارجها في بعض مذاهبه، فاستولوا عليه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وتقبضوا على السيد أبي الربيع والسيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب إفريقية، وكان بها مجتازا واستعمل أخاه يحيى على بجاية، ومضى إلى الجزائر فافتتحها، وولّى عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم إلى مليانة فولّى عليها بدر بن عائشة. ونهض إلى القلعة،(6/326)
ثم إلى قسنطينة فنازلها. واتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، فسرّح السيد أبا زيد ابن عمّه السيد أبي حفص، وعقد له على حرب ابن غانية. وعقد لمحمد بن أبي إسحاق بن جامع على الأساطيل، وإلى نظره أبو محمد بن عطوش وأحمد الصقلي.
وانتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان وأخوه يومئذ السيد أبو الحسن كان واليا وقد أمعن النظر في تحصينها، ثم ارتحل بعساكره من تلمسان ونادى بالعفو في الرعيّة، فثار أهل مليانة على ابن غانية فأخرجوه وسبقت الاساطيل إلى الجزائر فملكوها وقبضوا على يحيى بن طلحة وسيق بدر بن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعا بشلف. وتقدّم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها ولحق يحيى بن غانية بأخيه عليّ بمكانه من حصار قسنطينة فأقلع عنها. ونزل السيد أبو زيد الهكلان [1] وخرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك. ثم ارتحل في طلب العدوّ فأفرج عن قسنطينة، وخرج إلى الصحراء واتبعه الموحدون إلى مقرّه بفاس. ثم قفلوا إلى بجاية واستقرّ السيد أبو زيد بها، وقصد علي بن غانية قفصة فملكها، ونازل توزر فامتنعت عليه، ولحق بطرابلس. وخرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلّب على أشير وسرّح إليهم السيد أبو زيد ابنه أبا حفص عمر، ومعه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولى على حللهم. وقتل غزّي وسيق رأسه إلى بجاية ونصب بها، وألحق به عبد الله أخوه. وغرّب بنو حمدون من بجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية. واستقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية، وقدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله وانصرف إلى الحضرة. وبلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة. وكان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره. لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك، فلمّا وصل ابن الزبرتير إليهم نكروا شأنه على أخيهم محمد واجتمعوا دونه وتقبّضوا عليه وعلى ابن الزبرتير في أمره، وداخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلى سبيلهم بأهليهم وولدهم إلى أرضهم، فتمّ له مراده منهم وصار بالقصبة [2] واستنفذ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: سكلات وفي نسخة أخرى سلات وفي نسخة ثانية تكلات.
[2] وفي نسخة أخرى: وثار بقفصة.(6/327)
محمد بن أبي إسحاق من مكان اعتقاله، ولحقوا جميعا بالحضرة. وبلغ الخبر علي ابن غانية بمكانه من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقلّيّة، وركب منها إلى ميورقة ونزل في بعض قراها. وأعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه وأضرم نار الفتنة بإفريقية.
ونازل علي بن غانية بلاد الجريد وتغلّب على الكثير منها، وبلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج المنصور إليه من مراكش سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ووصل فاس فأراح بها، وسار إلى رباط تازى، ثم سار على التعبية إلى تونس، وجمع ابن غانية من إليه من الملثّمين والأعراب، وجاء معه قراقش الغزّي صاحب طرابلس، فسرّح إليهم المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف ابن السيد أبي حفص، ولقيهم بغمرة فانقضّ جموع الموحّدين وانجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير وأبي علي بن يغمور، وفقد الوزير عمر بن أبي زيد، ولحق فلّهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلا، ونجا الباقون إلى تونس. وخرج المنصور متلافيا خبر الواقع في هذا الحال، ونزل القيروان، وأغذّ السير إلى الحامّة فتشاور الفريقان وتزاحفوا فكانت الدبرة على ابن غانية وأحزابه، وأفلت من المعركة بذماء نفسه ومعه خليلة قراقش، وأتى القتل على كثيرهم فصبح المنصور قابس فافتتحها ونقل من كان بها من حرم ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس. وثنى العنان إلى تونس فافتتحها وقتل من وجد بها، ثم إلى قفصة فنازلها أياما حتى نزلوا على حكمه. وأمّن أهل البلد والأغراب أصحاب قراقش، وقتل سائر الملثمين ومن كان معهم من الحشود، وهدم أسوارها وانكفأ راجعا إلى تونس، فعقد على إفريقية للسيد أبي زيد، وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ومرّ بالمهدية، واستجر [1] على طريق تاهرت، والعبّاس بن عطيّة أمير بني توجين دليله إلى تلمسان، فنكب بها عمّه السيد أبا إسحاق لشيء بلغه عنه وأحفظه.
ثم ارتحل إلى مراكش، ورفع إليه أنّ أخاه السيد أبا حفص والي مرسية الملقّب بالرشيد، وعمه السيد أبا الربيع والي تادلّا عند ما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة، حدّثوا أنفسهم بالتوثّب على الخلافة، فلمّا قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما، ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وأصحر.(6/328)
على بجاية، وقصد يحيى بن غانية قسنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه ودخل قسنطينة ودخل ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها وافتتحها عنوة. ثم حاصر قسنطينة فامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية وحاصرها، وكثر عيثه بإفريقية إلى أن كان من خبره ما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(اخباره في الجهاد)
لمّا بلغه تغلّب العدوّ على قاعدة شلّب، وأنه أوقع بعسكر إشبيليّة، وتردّدت سراياهم على نواحيها، واقتحم [1] كثيرا من حصونها، وخاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب اشبيلية بذلك. استنفر الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين وخمسمائة إلى قصر مصمودة فأراح به. ثم أجاز إلى طريف وأغذ السير منها إلى شلّب، ووافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها. وزحف إلى حصن طرّش فافتتحه ورجع إلى إشبيليّة. ثم رجع إلى منازلة شلّب سنة سبع وثمانين فافتتحه.
وقدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصونا أخرى. ثم قفل إلى حضرته بعد استكماله غزانة. وكتب بعهده لابنه الناصر.
وقدم عليه سنة ثمان وثمانين وخمسمائة السيد أبو زيد صاحب إفريقية، ومعه مشيخة العرب من هلال وسليم فتلقّاهم مبرّة وتكريما، وانقلب وفدهم إلى بلادهم. ثم بلغه سنة تسعين وخمسمائة استفحال ابن غانية بإفريقية وكثرة العيث والفساد بها، فاعتزم على النهوض إليها، ووصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمّه فصرف وجهه إليها، ووصل قرطبة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فأراح بها ثلاثا وإمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية. ثم ارتحل للقاء العدوّ ونزل بالأرك من نواحي بطليوس، وزحف إليه العدوّ من النصارى وأمراؤهم يومئذ ثلاثة: ابن أذفونش وابن الرند والبيّوح [2] . وكان اللقاء يوم كذا سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأبو محمد بن أبي حفص يومئذ على المطوّعة، وأخوه أبو يحيى على العساكر والموحّدين، فكانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وافتتح.
[2] وفي نسخة أخرى: الرنك ولبّبوج.(6/329)
الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفا بالسيف.
واعتصم فلّهم بحصن الأرك، وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم، فاستنزلهم المنصور على حكمه وفودي بهم عددهم من المسلمين. واستشهد في هذا اليوم أبو يحيى ابن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسنا، وعرف بنوه بعدها ببني الشهيد. وانكفأ المنصور راجعا إلى إشبيليّة. ثم خرج منها سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة غازيا إلى بلاد الجوف فافتتح حصونا ومدنا وخرّبها. كان منها ترجالة وطلبيرة. وأطلّ على نواحي طليطلة، فخرّب بسائطها واكتسح مسارحها، وقفل إلى إشبيليّة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألّف بعضها بخطه فحبس. ثم أطلق وأشخص إلى الحضرة وبها كانت وفاته.
ثم خرج المنصور من إشبيليّة غازيا إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة، وبلغه أن صاحب برشلونة أمدّ ابن أدفونش بعساكره، وأنهم جميعا بحصن مجريط، فنهض إليهم. ولمّا أطلّ عليهم انفضّت جموع ابن أذفونش من قبل القتال، ثم انكفأ المنصور راجعا إلى إشبيليّة. ثم رغب إليه ملوك النصرانيّة في السلم فبذله لهم.
وعقد على إشبيليّة للسيد أبي زيد ابن الخليفة، وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع ابن السيد أبي حفص، وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص. وأجاز إلى حضرته سنة أربع وتسعين وخمسمائة فطرقه المرض الّذي كان منه حتفه، وأوصى وصيّته التي تناقلها الناس. وحضر لوصيّته عيسى ابن الشيخ أبي حفص، وهلك رحمه الله سنة خمس وتسعين وخمسمائة في آخر ربيعها، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية)
كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيديّة منذ تسعين سنة وملكوا بيت المقدس، فلمّا استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم، وصار يفتح حصونها واحدا بعد واحد حتى أتى على جميعها. وافتتح(6/330)
بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهدم الكنيسة التي بنواحيها [1] ، وانفضّت أمم النصرانية من كل جهة واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس وثمانين وخمسمائة يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكّا وصور وطرابلس. ووفد عليه أبو الحرث عبد الرحمن بن منقذ بقيّة أمراء شيزر من حصون الشام، كانوا أشروا به عند اختلال الدولة العبيدية. فلمّا استقام الأمر على يد صلاح الدين، وانتظم ملك مصر والشام واستنزل بني منقذ هؤلاء ورعى لهم سابقتهم، وبعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهديّة تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين، ومائة درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلا من العود، وستمائة مثقال من المسك والعنبر، وخمسين قوسا عربية بأوتارها، وعشرين من النصول الهندية وسروج عدّة ثقيلة. ووصل إلى المغرب ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف. ويقال إنه جهّز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله تعالى أعلم.
(دولة الناصر بن المنصور)
لما هلك المنصور وأمر ابنه محمد وليّ عهده، وتلقّب الناصر لدين الله، واستوزر أبا زيد بن يوجان وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص. ثم استوزر أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص، وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص على بجاية، وفوّض إليه في شئونها. وبلغه سنة ست وتسعين وخمسمائة إجحاف العدوّ بإفريقية، وفساد الأعراب في نواحيها، ورجوع السيد أبي الحسن من قسنطينة منهزما أمام ابن غانية، فأنفذ السيد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحّدين لسدّ ثغورها. وأنفذ أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فتغلّب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهديّة. وثار بالسوس سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ثائر من كزولة يعرف بأبي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنوها عليها.(6/331)
قفصة، فسرّح الناصر إليه عساكر الموحّدين فقصدوا جموعه وقتل. وفي أيامه كان فتح ميورقة على ما نقلوا من خبرها.
(فتح افريقية)
وكان من خبرها أن محمد بن إسحاق لمّا فصل إخوته عليّ ويحيى إلى إفريقية، وولّى على ميورقة أخاهم طلحة، داخل محمد بعض الحاشية، وخرج من الاعتقال هو وابن الزبرتير، وقام بدعوة المنصور، وبعث بها مع ابن الزبرتير، فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلا بن جامع لتملّك ميورقة، فأبى محمد عن ذلك، راسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه، وانتقض عليه أهل ميورقة لذلك، وخشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن إسحاق وولّوا عليهم أخاه تاشفين.
وبلغ ذلك عليّا وهو على قسنطينة، فبعث إخوته عبد الله الغازي فداخلوا بعض أهل البلد وعزلوا تاشفين وولوا عبد الله، وبعث المنصور أسطوله مرارا مع أبي العلا بن جامع. ثم مع يحيى ابن الشيخ إبراهيم الهزرجي فامتنعوا عليهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقوي أمره وذلك سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمّه السيد أبي العلا والشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه وانخذل عنه أخوه تاشفين بالناس، ودخل البلد عنوة، واستفتحت وقتل. وانصرف السيد إلى مراكش وولّى عليها عبد الله بن طاع الله الكومي، ثم ولّى الناصر عليها عمّه السيد أبا زيد، وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر. وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، ثم أبو يحيى علي بن أبي عمران التينمللي، ومن يده أخذها النصارى سنة سبع وعشرين وستمائة، والله تعالى أعلم.
(خبر إفريقية وتغلب ابن غانية عليها ولاية أبي محمد بن أبي الشيخ أبي حفص)
لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بإفريقية، وولّى الناصر السيد أبا زيد والشيخ أبا(6/332)
سعيد بن أبي حفص، ويقال ان المنصور ولّاهما، وكثر الهرج بإفريقية وثار بالمهديّة محمد بن عبد الكريم الرجراجي، ودعا لنفسه، ونازع ابن غانية الموحّدين الأمر، وتسمّى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم الركراكي. ونزل تونس وعاث في قراها سنة ست وتسعين وخمسمائة ونازل ابن غانية بفاس فامتنع عليه، وكان محمد ابن مسعود البلطي شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه، وراجع ابن غانية فأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم وقصده وهو على قفصة فهزمه. واتبعه إلى المهديّة فنازله بها. وبعث إلى صاحب تونس في المدد بأسطوله فأمدّه، فضاقت حال ابن عبد الكريم، فسأل الأمان من ابن غانية فأمّنه، وخرج إليه فتقبض عليه واستولى على المهديّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة وقتله.
وبعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلا وعساكر الموحّدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ونازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها، فادعى ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو، ولا يمكنه إلّا لثقة الخليفة. وانصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله، وقسّم العسكر بينه وبين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس وصلحت الأحوال. ثم أن ابن غانية لمّا تغلّب على المهديّة وعلى قراقش الغزّيّ صاحب طرابلس، وقد مرّت أخباره في أخبار ابن غانية. ثم تغلّب على بلاد الجريد، ثم نزل تونس تسع وتسعين وخمسمائة وافتتحها عنوة، وتقبّض على السيد أبي زيد، وطالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق وبسط عليهم العذاب. وتولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم. ثم دخل في دعوته أهل بونه وبنزرت وشقبناريّة والاربص والقيروان وسبتة وصفاقس وقابس وطرابلس. وانتظمت له أعمال إفريقية وفرّق العمّال وخطب للعبّاسي كما ذكرناه في أخباره. ثم ولّى على تونس أخاه الغازي ونهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكرّرة مرّتين ورجع إلى تونس. واتصل بالناصر كثرة الهرج بإفريقية واستيلاء ابن غانية عليها وحصول السيد أبي زيد في قبضته، فشاور الموحّدين في أمره، فأشاروا بمسالة ابن غانية. وأشار أبو محمد بن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه، ونهض من مراكش سنة إحدى وستمائة، وبعث الأسطول في البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجيّ، فبعث ابن غانية ذخيرته وحرمه إلى المهديّة مع عليّ بن الغازي بن محمد بن علي. وانتقض(6/333)
أهل طرابلس على ابن غانية وأخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي ابن غانية، وقصدهم ابن غانية فافتتحها وخرّبها.
ووصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها وقتلوا من كان بها من أتباع ابن غانية، ونهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه ونازل المهديّة، وبعث أبا محمد بن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به وقتل أخاه جبارة. وكاتبه ابن اللمطي وعامله الفتح بن محمد. قال ابن نخيل: وكانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفا من أحمال المال والمتاع والخرثيّ والآلة. ونجا بأهله وولده فأطلق السيد أبا زيد من الاعتقال بعد أن همّ حرسه بقتله عند الهزيمة. ثم تسلّم الناصر المهديّة من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمّه فقبل شرطه ومضى لوجهه. ثم رجع من طريقه واختار التوحيد فناله من الكرامة والتقريب ما لا فوقه.
وهلك في يوم العقاب الآتي ذكره. ثم فرض الناصر على المهديّة، واستعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي، وعلى طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع، ورجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أخاه السيد أبا إسحاق في عسكر من الموحّدين لاتباع العدوّ فدوّخوا ما وراء طرابلس. واستأصلوا بني دمّر ومطماطة وجبال نفوسة وتجاوزوها إلى سويقة بني مذكور. وقفل السيد أبو إسحاق بهم إلى أخيه الناصر بتونس وقد كمل الفتح. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وأجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، وكان شيخ دولته وصاحب رأيه فامتنع إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف، فأكبر مجيئه وأناب لذلك على أن يقيم بإفريقية ثلاث سنين خاصة خلاف ما يستحكم صلاحها، وأن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبّل شرطه.
ورجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع وستمائة، وقدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين وكان على الوزارة أبو سعيد بن جامع، وكان صديقا لابن عبد العزيز. وعند مرجعه من إفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله ابن عبد المؤمن صاحب بجاية، وقد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل، وهو الّذي جدّد للربيع [1] . وكان بنو حمّاد شيّدوها من قبل، فأصابها الحريق وجدّدها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جدّد الرفيع والبديع من رياضها.(6/334)
السيد أبو الربيع. وفي سنة خمس وستمائة بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف ابن عبد المؤمن على تلمسان، أدال به من السيد أبي الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحّدين وتطوّف أقطارها، وزحف إليه ابن غانية هنالك فانفضّ الموحّدون وقتل السيد أبو عمران. وارتاع أهل تلمسان وأسرع السيد أبو زكريا من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان، وسرّحه في العساكر فنزل بها. وفرّ ابن غانية إلى مكانه من قاصية إفريقية ومعه محمد بن مسعود البلط شيخ الزواودة [1] من رياح وغيره من أعراب رياح وسليم. واعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا واستولى الموحّدون على محلاتهم وما بأيديهم، ولحقوا بجهات طرابلس. ورجع عنهم سير بن إسحاق آخذا بدعوة الموحّدين، وفي هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسين بن أبي عمران، أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعقد على بلنسية وعلى مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي، أدال به من أبي الحسن بن زاكاك [2] . وعقد للسيد أبي زيد على كورة جيان، أدال به من أبي موسى بن أبي حفص، وعقد للسيد أبي إبراهيم بن يوسف على إشبيليّة ولأبي عبد الله بن أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص على غرناطة إلى أن كان ما يذكر إن شاء الله تعالى.
(أخباره في الجهاد)
لمّا بلغ الناصر تغلّب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك وأقلقه، وكتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو، فأبى عليه فخالفه، وخرج من مراكش سنة تسع وستمائة ووصل إشبيليّة واستقرّ بها واستعدّ للغزو. ثم رجع من إشبيليّة وقصد بلاد ابن أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة والبخ [3] في طريقه. ونازل الطاغية قلعة رياح وبها يوسف بن قادس وأخذ بمخنقه فصالحه على النزول، ووصل إلى الناصر فقتله وصار على التعبية إلى الموضع المعروف بالعقاب. وقد استعدّ له
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الدواودة.
[2] وفي نسخة أخرى: واكاك.
[3] وفي نسخة أخرى: واثلج وفي النسخة الباريسية والح وفي نسخة ثانية وانلج.(6/335)
الطاغية، وجاءه طاغية برشلونة مددا بنفسه، فكانت الدبرة على المسلمين.
فانكشفوا في يوم بلاء وتمحيص أواخر صفر سنة تسع وستمائة. وانكفأ راجعا إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها. وكان ابن أذفونش قد ناظر ابن عمه اليهوج [1] صاحب ليون في أن يوالي الناصر ويجرّ الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك. ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين، فلقيهم السيد أبو زكريا ابن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من إشبيليّة فهزمهم، وانتعش المسلمون بها، واتصلت الحال على ذلك والله أعلم.
(ثورة ابن الفرس)
كان عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر، وحضر مجلس المنصور في بعض الأيام وتكلّم بما خشي عاقبته في عقده وخرج من المجلس فاختفى مدّة، ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة وانتحل الإمامة وادّعى أنه القحطاني المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا» ، إلى آخر الحديث. وكان مما ينسب إليه من الشعر:
قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي ... تأهّبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء سيّد قحطان وعالمها [2] ... ومنتهى القول والغلّاب للدول
والناس طوعا عصاه وهو سائقهم ... بالأمر والنهي بحر العلم والعمل
وبادروا [3] أمره فاللَّه ناصره ... والله خاذل أهل الزيغ والميل
فبعث الناصر اليه الجيوش فهزموه وقتل وسيق رأسه الى مراكش فنصب بها والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الببوج.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وعاملها.
[3] وفي نسخة أخرى: تبادروا.(6/336)
(دولة المستنصر بن الناصر)
لما هلك محمد الناصر بن المنصور بويع ابنه يوسف سنة إحدى عشرة وستمائة وهو ابن ست عشرة سنة ولقّب المستنصر باللَّه، وغلب عليه ابن جامع ومشيخة الموحّدين فقاموا بأمره. وتأخّرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من إفريقية لصغر سنّ المستنصر. ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع صاحب الاشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته، واشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب، وعقد للسادة على عمالات ملكه، فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور، وتلقّب بالظاهر على فاس، وهو أبو المرتضى. وعقد على إشبيليّة لعمّه السيد أبي إسحاق الأحول.
واستولى ألفنش على المعاقل التي أخذها الموحّدون، وهزم حامية الأندلس، ووفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي زيد بن يوجان، واستوزر أبا يحيى الهزرجي وولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي ثم رضي عن ابن جامع وأعاده، وعزل أبا زيد ابن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور، وبعثه إلى مرسية فاعتقل بها.
واستمرّت أيام المنصور في هدنة وموادعة إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشرة وستمائة، فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحّدين فهزموه وأسروه. ثم عرفوه وأطلقوه، ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية فولّى عليها أبا العلى أخا المنصور، وكان واليا بأشبيليّة فعزل. وولّى على إفريقية سعاية بن مثنّى خاصة السلطان فتوجه إليها كما يذكر في أخبار بني أبي حفص. وخرج بناحية فاس رجل من العبيديّين انتسب للعاضد، وتسمّى بالمهديّ، فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته وبذل لهم المال فتقبّضوا عليه، وساقوه إليه فقتل. وفي سنة تسع عشرة وستمائة عقد المستنصر لعمّه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية، وعزله عن غرناطة. وهلك سنة عشرين وستمائة وقد التاثت الأمور فكان ما نذكر، والله تعالى أعلم
.(6/337)
(الخبر عن دولة المخلوع أخي المنصور)
لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين وستمائة اجتمع ابن جامع والموحّدون وبايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، فقام بالأمر وأمر بمطالبة ابن أشرفي بالمال. وكتب أخوه لأبي العلا بتجديد الولاية على إفريقية بعد أن كان المستنصر أو عز بعزله، فأدركته الولاية ميتا فاستبدّ بها ابنه أبو زيد المشمّر كما نذكره في أخبار إفريقية. وأنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق. ثم صدّه ابن جامع عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحاق في الأسطول ليغرّبه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذه قبل وفاته. وكان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور وأغراه ابن يوجان بالتوثّب على الأمر، وشهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر. وكان الناس على كره ابن جامع. وولاة الأندلس كلّهم بنو منصور فأصغى إليه، وكان متردّدا في بيعة عمّه، فدعا لنفسه وتسمّى بالعادل. وكان إخوته أبو العلى صاحب قرطبة، وأبو الحسن صاحب غرناطة، وأبو موسى صاحب مالقة، فبايعوه سرّا.
وكان أبو محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان وعزله المخلوع بعمّه أبي الربيع بن أبي حفص فانتقض وبايع للعادل وزحف مع أبي العلى صاحب قرطبة وهو أخو العادل إلى إشبيليّة، وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم وامتنع السيد أبو زيد بن عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل، وتمسّك بطاعة المخلوع. وخرج العادل من مرسية إلى إشبيليّة فدخلها مع أبي زيد بن يوجان، وبلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحّدون على المخلوع.
وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة. وقام بأمر هنتاتة أبو زكريا يحيى بن أبي يحيى السيد ابن أبي حفص، وبأمر تين ملّل يوسف بن علي، وبعث على اسطول البحر أبا إسحاق بن جامع، وأنفذه لمنع الجواز من الزقاق. وكان أسرّ إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره، وقتل بمكان خفي في ربيع سنة إحدى وعشرين وستمائة وبعث الموحّدون ببيعتهم إلى العادل، والله أعلم
.(6/338)
(الخبر عن دولة العادل بن المنصور)
لما بلغت بيعة الموحّدين للعادل وكتاب ابن زكريا بن الشهيد بقصّة المخلوع، قارن ذلك تغييره للبيّاسي فانتقض عليه، ودعا لنفسه ببيّاسة، وتلقّب الظافر وشغل بشأنه، وبعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه، وبعث بعده ابنه أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضا، واختلّت الأحوال بالأندلس على العادل وكثرت غارة النصارى على إشبيليّة ومرسية وهو مقيم بها. وانهزمت جيوش الموحّدين على طليطلة وأغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة. وعظم أمر البيّاسي بالأندلس وظاهر النصارى على شأنه، فأجاز العادل إلى العدوة وولّى أخاه أبا العلى على الأندلس. ولما كان بقصر الحجاز دخل عليه عبّو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، فقال له كيف حالك فأنشده:
حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان اليه منها تائبا
فاستحسن ذلك وولّاه إفريقية. وكتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم، ووصل إلى سلا فأقام بها. وبعث عن شيوخ جشم، وكان لابن يوجان عناية واختصاص يهلال بن حمدان بن مقدّم أمير الخلط، فتثاقل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول، وأقبل الخلط وسفيان، وبادر العادل إلى مراكش فدخلها واستوزر أبا زيد بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص، وتغيّر لابن يوجان ففسد باطنه. وتغلّب على الدولة ابن الشهيد ويوسف بن علي شيخا هنتاتة وتين ملّل. ثم خالفت هسكورة والخلط وعاثوا نواحي مراكش، وخرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئا فخرّبوا بلاد دكالة فأنفذ إليهم العادل عسكرا من الموحّدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ أبي حفص وهو الّذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بإفريقية كما نذكره فانهزم وقتل.
وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلها للحشد ومدافعة هسكورة، فاتفقا على خلع العادل والبيعة ليحيى بن الناصر، وقصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر ونهبوه، وقتل العادل خنقا أيام الفطر من سنة أربع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم.(6/339)
(الخبر عن دولة المأمون بن المنصور ومزاحمة يحيى بن الناصر له)
كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحّدين والعرب على أخيه، وتلاشى أمره لنفسه بأشبيليّة فبويع وأجابه أكثر الأندلس وبايع السيد أبو زيد صاحب بلنسية وشرق الأندلس.
ثم كان ما قدّمناه من انتقاض الموحّدين على العادل وقتله بالقصر وبيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر، فكاتب ابن يوجان سرّا وعمل على إفساد الدولة، فداخلهم هسكورة والعرب في الغارة على مراكش، وهزم عساكر الموحّدين وفطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره. وخرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحّدون العادل [1] وبعثوا بيعتهم إلى المأمون.
وتولّى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله العريقي [2] والسيد أبو حفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر وابن الشهيد، فنزلوا إلى مراكش سنة ست وعشرين وستمائة وقتلوهم وبايع للمأمون صاحب فاس وصاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان، وصاحب سبتة أبو موسى بن المنصور، وصاحب بجاية ابن أخته ابن الأطامي [3] وامتنع صاحب إفريقية وكان ذلك سببا لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما يذكر. ولم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا إفريقية وسجلماسة.
وزحف البيّاسي إلى قرطبة فملكها، ثم زحف إلى إشبيليّة فنازل بها المأمون والطاغية معه، بعد أن نزل له عن مخاطة [4] وغيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي إشبيليّة ولحق البياسي بقرطبة فثاروا به إلى حصن المدور، فغدر به وزيره ميورك [5] ، وجاء برأسه إلى المأمون بأشبيليّة. ثم ثار محمد بن يوسف بن هود وملك مرسية واستولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره. وزحف إليه المأمون وحاصره وامتنع عليه فرجع إلى إشبيليّة، ثم خرج سنة ست وعشرين وستمائة
__________
[1] حسب مقتضى السياق: يحيى بن الناصر وهكذا في النسخة الباريسية.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغريغر.
[3] وفي نسخة أخرى: الاطاس.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: قجاطة.
[5] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يبورك.(6/340)
إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب، وبعثوا إليه ببيعاتهم، وبعث إليه هلال بن حميد ان أمير الخلط يستدعيه. واستمدّ الطاغية عسكرا من النصارى وأمره على شروط تقبّلها منه المأمون، وأجاز إلى العدوة. وبادر أهل إشبيليّة بالبيعة لابن هود، واعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون واستلحم من كان معه من الموحّدين والعرب، ولحق يحيى بجبل هنتاتة. ثم دخل المأمون الحضرة وأحضر مشيخة الموحّدين وعدّد عليهم فعلاتهم وتقبّض على مائة من أعيانهم فقتلهم، وأصدر كتابه إلى البلدان بمحو اسم المهدي من السكّة والخطبة، والنعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية، وزيادة النداء لطلوع الفجر وهو: «أصبح وللَّه الحمد» وغير ذلك من السنن التي اختصّ بها المهدي وعبد المؤمن، وجرى على سننها أبناؤه. فأوعز بالنهي عن ذلك كله. وشنّع عليهم في وصفهم الامام المهدي بالمعصوم، وأعاد في ذلك وأبدى.
وأذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم، فضربوا بها نواقيسهم. واستولى ابن هود بعده على الأندلس، وأخرج منها سائر الموحّدين، وقتلهم العامّة في كل محل [1] . وقتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور وكان المأمون تركه واليا بقرطبة. واستبد الأمير أبو زكريا بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية، وخلع طاعته سنة سبع وعشرين وستمائة للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الخرصان [2] على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا. وزحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم، ثم ثانية كذلك، واستلحم من كان معه ونصبت رءوسهم بأسوار الحضرة. ولحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة وسجلماسة.
ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى ودعا لنفسه بسبتة وتسمّى بالمؤيد، فخرج المأمون من مراكش وبلغه في طريقه أنّ قبائل بني فازان ومكلاتة حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها، فسار إليها وحسم عاملها [3] واستمرّ إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر، واستمدّ أخوه أبو موسى صاحب الأندلس لابن هود فأمدّه بأساطيله.
وخالف يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: في كل مطر.
[2] وفي نسخة ثانية: الحرضاني وفي النسخة الباريسية الخرصاني.
[3] وفي النسخة الباريسية عللها وهي أصح حسب مقتضى السياق.(6/341)
جرمون بن عيسى، ومعهم أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة، وعاثوا فيها، فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضرة وهلك في طريقه بوادي أمّ الربيع مفتتح سنة ثلاثين وستمائة وحين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود، وأمكنه من سبتة فأداله منها، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون)
لمّا هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقّب الرشيد، وكتموا موت أبيه وأغذّوا السير إلى مراكش، ولقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه، وقتل أكثر من معه. وصبّح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه بأشياعهم، ثم خرجوا إليه واستقاموا على بيعته. وكان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحلّ من الدولة بمكان، وكان إليه التدبير والحلّ والعقد، وبعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيّد وإخوته، جاءوا من إشبيليّة عند ثورة أهلها بهم، واستقرّوا بسبتة عند عمهم أبي موسى، ومنها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة ومرّوا بهسكورة، وكان ابن وقاريط حذرا من المأمون ومعتقدا أن لا يعود إليه، فتذمّم بصحبة هؤلاء الأولاد، وقدم على الرشيد فتقبّله واعتلق بوصله من السيد أبي محمد سعد وصحبه [1] لمسعود بن حمدان كبير الخلط.
ولما هلك السيد أبو محمد لحق ابن وقاريط بقومه ومعتصمه، وكشف وجه الخلاف، وأخذ بدعوة يحيى بن الناصر، واستنفر له قبائل الموحّدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى وثلاثين وستمائة واستخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس وصعد إليهم الجبل، فأوقع بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم. ولحق يحيى ببلاد سجلماسة وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته، واستأمن له كثير من الموحّدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمّنهم ولحقوا بحضرته. وكان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي، وجاء الباقون على أثره بسعيه بعد أن شرطوا عليه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وصحابة.(6/342)
إعادة ما كان أزال المأمون من رسوم المهدي فأعيدت. وقدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولا عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تين ملّل، ومحمد بن يوزيكن الهنتاني رسولا عن أبي علي بن عزوز، ورجعا إلى مرسليهما بالقبول، فقدما على الحضرة وقدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى وكبيره. وجاء على أثرهم أبو محمد ابن أبي زكريا وأنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية.
وكان مسعود بن حمدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما، وكان مدلّا ببأسه وكثرة جموعه. يقال: إنّ الخلط كانوا يومئذ يناهزون اثني عشر ألفا سوى الرّجل والأتباع والحشود، فمرض في الطاعة وتثاقل عن الوفادة، ولمّا علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم وقتلهم تمكينا للفرقة والشتات في الدولة فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه، وصرف عساكره إلى باجة [1] لنظر وزيره السيد أبي محمد، حتى خلا لابن حمدان الحوّ وذهب عنه الريب، واستقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة، وقدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط، فتقبّض عليه وقتل لحينه.
واستدعى مسعود بن حمدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبّض عليه وعلى أصحابه وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة، وقضى الرشيد حاجة نفسه فيهم. واستقدم وزيره وعساكره من باجة فقدموا، ولما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدّموا عليهم يحيى ابن هلال بن حمدان [2] ، وأجلبوا على سائر النواحي، وأخذوا بدعوة يحيى واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء.
وداخلهم في ذلك عمرو بن وقاريط، وزحفوا لحصار الحضرة، وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم عبد الصمد بن يلولان فدفع [3] ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا، وأحيط بجند النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة، وعدمت الأقوات.
واعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحّدين فخرج إليها. وسار منها إلى سجلماسة فملكها، واشتدّ الحصار على مراكش وافتتحها يحيى بن الناصر وقومه من هسكورة والخلط، وسار أمرهم [4] فيها وتغيّرت أحوال الخلافة. وتغلّب على السلطان السيد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حاجة.
[2] وفي نسخة أخرى: جميدان.
[3] وفي نسخة أخرى: فرجع.
[4] وفي نسخة أخرى: أثرهم.(6/343)
أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقّب بأبي حاقة، وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش، وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان، فأجازوا وادي أم الربيع وبرز إليه يحيى في جموعه، والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحرّ القتل فيهم، ودخل الرشيد إلى الحضرة ظافرا.
وأشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس، والأخذ بدعوته، فنكثوا بيعة يحيى وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ فاستقرّ هنالك. وخرج الرشيد من مراكش وفرّ الخلط أمامه، وسار إلى فاس وسرّح وزيره السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالها، وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب المعقل فأجاروه ووعدوه النصرة، واشتطّوا عليه في المطالب، وأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهة تازى، وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش، وأوعز إلى نائبة بها أبي علي ابن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله وهم: حسن بن زيد شيخ العاصم، وقائد وفائد ابنا عامر شيخا بني جابر، فقتلهم وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته سنة أربع وثلاثين وستمائة وبلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على سجلماسة، وذلك أنّ الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي التينمللي، فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش، وهو يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش، فثار عليه ثائر من صنهاجة وقتله في خبائه. قام ابنه أرقم يطلب الثأر، ولو بلغ منه ما أراد. ثم حدّثته نفسه بالانتقاض خوفا من عزل الرشيد إيّاه فانتقض.
ونهض إليه الرشيد سنة اثنتين وثلاثين وستمائة فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكّن منها وعفا عن أرقم. وكان ابن وقاريط لمّا فصل إلى ابن هود سنة أربع وثلاثين وستمائة ركب البحر في أسطول ابن هود، وقصد لسلا وبها السيد أبو العلى صهر الرشيد، فكاد ان يغلب عليها. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة بايع أهل إشبيليّة للرشيد ونقضوا طاعة ابن هود، وتولّى كبر ذلك أبو عمر بن الجدّ، واستخفّ [1] بنو حجاج إلى سبتة ووصل وفدهم إلى الحضرة ومرّوا في طريقهم بسبتة، فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد، وخلعوا أميرهم اليانشي [2] الثائر بها على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أشخص.
[2] وفي النسخة الباريسية: البانشتي.(6/344)
ابن هود وقدموا على الحضرة، وولّى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم. ولأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلا من إشبيليّة، أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني، كان توجّه رسولا إلى ابن هود عن الرشيد، فأمكنهم من ابن وقاريط. وبعث إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور وقتل وصلب برباط هسكورة، بعد أن طيف به على جمل. وانصرف وفد إشبيليّة وسبتة، واستقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبّض عليهم، وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحياءهم. ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن وقاريط، وقطع دابرهم. وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة اشتدّت الفتنة بالمغرب، وانتشر بنو مرين وقتلوهم قتلا ذريعا. وكان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس وثلاثين وستمائة وعقد له على فاس وسجلماسة وغمارة ونواحيها من أرض المغرب، فكان هنالك. ولما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه، ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه، وأقام في محاربتهم سنتين ورجع إلى الحضرة. واشتدّ عدوان بني مرين بالمغرب، وألحّوا على مكناسة حتى أعطوا الإتاوة لبني حمامة منهم، فأسفوا بني عسكر بذلك، واتصل عيثهم في نواحيها. وفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني [1] لمداخلة له مع بعض السادة، وهو عمر بن عبد العزيز أخي المنصور، وقف على كتابه إليه بخطه. وغلط الرسول بها فدفعها بدار الخليفة.
وفي سنة أربعين وستمائة بعدها كانت وفاة الرشيد غريقا، زعموا في بعض حوائز [2] القصر. ويقال إنه أخرج من الماء وحمّ لوقته، وكان فيها مهلكه، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن دولة السعيد بن المأمون) لمّا هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين، وتلقّب المقتدر باللَّه [3] واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم ويحيى بن عطوش.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن المأموني.
[2] وفي النسخة الباريسية: جزاء وفي نسخة أخرى: حوائر، ولعله يقصد أحواز جمع حوز، وهي بركة الماء.
[3] وفي نسخة أخرى: المعتضد باللَّه.(6/345)
وتقبّض على جملة من مشيخة الموحّدين واستصفى أموالهم واستخلف لنفسه رؤساء العرب من جشم. واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجكسة [1] ولأوّل بيعته انتقض عليه أبو علي بن الخلاص البلنسي صاحب سبتة، وكذلك أهل إشبيليّة وبايعوا جميعا للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية.
ثم انتقض عليه بسجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد اسرّها له فبايع للأمير أبي زكريّا. ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيّان صاحب تلمسان، فنهض الأمير أبو زكريّا صاحب إفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان، واستولى عليها. ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره. وخرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة اثنتين وأربعين وتغيّر لسعيد بن زكريّا الكدميوي فتقبّض عليه من معسكره بتانسفت وفرّ أخوه أبو زيد ومعه أبو سعيد العود الرطب، ولحقوا بسجلماسة فاستصفى أموالهم بمراكش، وارتحل بقصد سجلماسة وأخذ واليها عبد الله الهزرجي في أسباب الامتناع، فغدر به أبو زيد بن زكريّا الكدميوي، وداخل أهل سجلماسة في الثورة عليه وملك البلد. واستدعى السيد لها فوصل وقتل الهزرجي. وفرّ أبو سعيد العود الرطب إلى تونس. ثم رجع السعيد إلى المغرب وقتل سعيد بن زكريّا ونزل المقرمدة من أحواز فاس. وعقد المهادنة مع بني مرين وقفل إلى مراكش فتقبّض على أبي محمد بن وانودين واعتقله بأزمور. واعتقل معه يحيى بن مزاحم ويحيى بن عطّوش لنظر ابن ماكسن، فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله.
وخلص ليلا إلى كانون بن جرمون فأركبه وبعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة. وراسله السعيد على أثرها وسكنه واعتذر له، وأسعفه بسكنى تافيّوت من حصون عمله [2] بأهله وولده.
ثم انتقض على السعيد كانون بن جرمون وسفيان، وخالفهم إليه بنو جابر والخلط، وخرج من مراكش واستوزر السيّد أبا إسحاق ابن السيّد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور. واستخلف أخاه أبا زيد على مراكش، وأخاهما أبا حفص عمر على سلا وفصل من مراكش سنة [3] وجمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كبير مجلسه.
[2] وفي نسخة أخرى: جبله.
[3] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.(6/346)
راشد وبني ورا وسفيان، حتى إذا تراءى الفريقان للقاء، خالف كانون بن جرمون الموحّدين إلى أزمور. واستولى عليها ورجع السعيد أدراجه في أتباعه، ففرّ كانون واعترضه السعيد فأوقع به، واستلحم كثيرا من سفيان قومه، واستولى على ماله من مال وماشية، ولحق كانون في فلّ بني مرين ورجع السعيد إلى الحضرة. وفي ثلاث وأربعين وستمائة ثارت العامة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فقتلوه. وحذر مشيختها من سطوته فحوّلوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية، وبعثوا إليه ببيعتهم، وكانت من إنشاء أبي مطرف بن عميرة، وذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين ووفاقه لهم على ذلك. وشارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية.
ثم راجعوا أمرهم [1] وأوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد ورضوا عنه، وفي هذه السنة بعث أهل إشبيليّة وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية.
وبعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسي. وفي سنة ست وأربعين كان استيلاء الطاغية على إشبيليّة لسبع وعشرين من رمضان ولمّا بلغ السيّد بيعة أهل إشبيليّة وسبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلّبه على تلمسان، وأخذ يغمراسن بدعوته، ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة وأهل سجلماسة أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى إفريقية. وخرج إلى مراكش في ذي الحجّة من سنة خمس وأربعين وستمائة ووافاه كانون بن جرمون فعاوده الطاعة واستحشد سفيان وجاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جشم.
ولمّا احتلّ السعيد بتازي وافاه وفد بني مرين عن أميرهم أبي يحيى بن عبد الحق، فأعطوه الطاعة وبعثوا معه عسكرا من قومهم مددا له.
ثم ثار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامزردكت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست وأربعين وستمائة حسبما يشرح في أخبارهم. ويقال إنّ ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة وقتلوا عدوّهم كانون، وانفضّ العسكر إلى المغرب وقد اجتمعوا الى عبد الله بن السعيد واعترضهم بنو مرين بجهات تازي، فقتلوا عبد الله بن السعيد ولحق الفلّ بمراكش فبايعوا المرتضى كما نذكر إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رأيهم.(6/347)
(الخبر عن دولة المرتضى ابن أخي المنصور)
لما لحق فلّ العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش، اجتمع الموحّدون على بيعة السيّد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور، واستقدموه لها من سلا، فلقيه وافدهم بتامسنا من طريقه ومعه أشياخ العرب فبايعوه وتلقّب المرتضى، وعقد ليعقوب بن كانون على بني جابر ولعمّه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعد أن كان قومه قدّموه عليهم، ودخل الحضرة فاستوزر أبا محمد بن يونس وتقبّض على حاشية السعيد، ثم وصل أخوه السيد أبو إسحاق من الفلّ آخذا على طريق سجلماسة فاستوزره واستبدّ عليه واستولى أبو يحيى بن عبد الحق وبنو مرين إثر مهلك السعيد على رباط تازي من يد السيد أبي علي أخي أبي دبّوس وأخرجوه فلحق بمراكش.
ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع وأربعين وستمائة كما يذكر في أخبارهم بعد. وفي هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي وأخرج ابن الشهيد الوالي على سبتة من قرابة الأمير أبي زكريّا صاحب إفريقية، وحوّل الدعوة للمرتضى حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية وأخبار بني العزفي [1] وفي سنة تسع وأربعين وستمائة وفد على المرتضى موسى بن زيّان الونكاسي وأخوه علي من قبائل بني مرين وأغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم ولما انتهى إلى أمان إيملولي [2] أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصبحوا راحلين، وقد استولى الجزع على قلوبهم فانفضّوا ووقعت الهزيمة من غير قتال. ووصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشيء بلغه عنه، وأسكنه بحملته مع حاشيته، وفرّ من حملته عليّ بن بدر إلى السوس سنة إحدى وخمسين وستمائة، وجاهر بالعناد. وسرّح إليه السلطان عسكرا من الجند فرجعوا عنه ولم يظفروا به، وتفاقم أمره سنة اثنتين وخمسين وستمائة. وجمع أعراب الشبانات وبني حسّان وحمل أموال ونازل تارودانت فحاصر من كان بها. وسرّح المرتضى إليه عسكرا من الموحّدين فأفرج عنها. ثم رجع بعد قفولهم إلى حاله، وعثر المرتضى على خطابه لقريبة ابن يونس وكتاب ابن يونس إليه بخطه، فاعتقل هو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الغزى.
[2] وفي نسخة أخرى: يملّولن.(6/348)
وأولاده ثم قتل.
وفي هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة وقتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد. وفيها خرج أبو الحسن بن يعلو في عسكر من الموحّدين إلى تامسنا ليكشف أحوال العرب، ومعه يعقوب بن جرمون، وعهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب ابن محمد بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليه وعلى وزيره ابن مسلم وطيّر بهما إلى الحضرة معتقلين.
وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس ونواحيها من يد بني مرين المتغلّبين عليها، فوصل إلى بني بهلول، وزحف إليه بنو مرين وأميرهم أبو يحيى فكانت الهزيمة على الموحّدين بذلك الموضع. ورجع المرتضى مفلولا إلى مراكش، ورعى [1] بني مرين من بعد ذلك سائر أيامه. واستبدّ العزفي بسبتة، وابن الأمير بطنجة كما نذكره في أخبارهم.
وفي سنة خمس وخمسين وستمائة بعث المرتضى إلى السوس عسكرا من الموحّدين لنظر أبي محمد بن أصناك فلقيهم عليّ بن بدر وهزمهم واستبدّ بأمره في السوس. وفي هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وتقبّض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني بنواحي سلا، فصرف عبد الحق ابنه محمد هذا في مهمّة وقرّبه من بين أهل خدمته، وحدّثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أوّلا بالمشاركة في حاجاتهم عند مخدومه، والإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه.
ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته، وقدم وفده إلى البلد رسلا في بعض الحديث فتقبّض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو وأخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق فقاده وسرّحه إلى مراكش. وكان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه، وأنزل معه بها من رجالات بني مرين حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبدّ بأمر سجلماسة، وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلّا في أحكام الشريعة [2] .
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مروادع.
[2] وفي نسخة أخرى: الأحكام الشرعية.(6/349)
وبعث أبا عمر بن حجّاج قاضيا من الحضرة، وبعض السادات للنظر في القضيّة [1] ، وقائدا من النصارى بعسكر للحماية، فأعمل ابن الحجّاج الحيلة في قتل القطراني وتولّاه قائد النصارى. واستبدّ السيّد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى، واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك. ونزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامسنا، فسرّح إليهم المرتضى عساكر الموحّدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أمّ ربيع، فاتبعهم الموحّدون فرجعوا إليهم، وغدر بهم بنو جابر فانهزم الموحّدون بأمر الرجلين [2] . ولحق شيخ الخلط عيسى بن علي ببني مرين وارتحلوا إلى أوطانهم.
وكان المرتضى قدّم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان، وكان محمد ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه، وغصّ به فقتله، وثأر به أخواه مسعود وعليّ بفدفد فقتلاه. وولّى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن فاستوزر يوسف بن وازرك ويعقوب ابن علوان. وشغل بلذّاته وتصدّى لقطع السابلة، ثم نكث الطاعة ولحق ببني مرين، فولّى مكانه عمّه عبد الله بن جرمون ويكنّى بأبي زمّام. وعقد له المرتضى، ثم أدال منه بأخيه مسعود لعجزه. ووفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعا إلى طاعته ومفارقا لبني مرين، فأنزل معه أصحابه بمراكش وجاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون، فتقبّض على عواج ودفعه إلى علي بن أبي علي فقتله، وكان تقبّض معه على عبد الرحمن بن يعقوب ووزيره فقتلوا جميعا، واستبدّ برياسة سفيان مسعود بن كانون، وبرياسة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون.
وفي سنة ستين وستمائة عند رجوع يحيى بن وانودين من واقعة أمّ الرجلين، خرج عسكر من الموحّدين إلى السوس لنظر محمد بن علي الزلماط [3] ولقيه علي بن بدر فهزم جموعه وقتله، وعقد المرتضى من بعده على حرب علي بن بدر للوزير أبي زيد بن بكيت، وسرّح معه عسكرا من الجند، وكان فيهم دنلب من زعماء النصرانيّة، فدارت الحرب بين الفريقين، ولم يكن للموحّدين فيها ظهور على كثرتهم وقوّة جلدهم وحسن بلائهم، فسلبهم عن ذلك تكاسل دنلب وخروجه عن طاعة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: للسكنى في القصبة.
[2] وفي نسخة أخرى: بأم الرجلين.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: أزلماط(6/350)
الوزير. وكتب بذلك للمرتضى فاستقدمه، وأمر أبو زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه وقتله. وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش واتصلت الحرب بينهم وبين الموحّدين بظاهرها أياما هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب، فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية ولاطفه وضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام، فرضي وارتحل عنهم، والله أعلم.
(الخبر عن انتقاض أبي دبوس وتغلبه على مراكش ومهلك المرتضى وما كان في دولته من الأحداث)
لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فرّ من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملقّب بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكّنت فيه عند المرتضى، وصحبه ابن عمه السيّد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة، فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره.
ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخا به على شأنه. واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمدّه بالمال، يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى ابن أبي عليّ الخلطي بمظاهرته وإعطائه الآلات. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمدّه بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزوجة.
وبعثوا إليه عزوز بن ببورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور، وكان منحرفا عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق، ووفد عليه جماعة من السادة الموحّدين والجند والنصارى، وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان، وبإسماعيل بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليهما واعتقلهما، وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وقتل إسماعيل بن قيطون في معتقله، فانتفض أخوه ثائرا ولحق بهم، وحذّر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم، وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا يزيد بن بكيت في عساكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامّة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش، وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة، وركّز رمحه بمصراعه.(6/351)
ودخلت سنة خمس وستين وستمائة والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس والأسوار خالية من الحراس والحامية، وقصد أبو دبوس باب اغمات فتسور البلد من هنالك ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفرّ المرتضى ومعه الوزير أبو زيد بن يعلو الكومي، وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي، فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة، ومرّ في طريقه بعلي بن زكدان الونكاسي [1] كان نزع إليه عن قومه، ولم يفد عليه بعد، فنزل به المرتضى ورحل معه عليّ بمن معه إلى كدميوة، وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم، فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله، وسار إلى شفشاوة، ووجد بها عددا من الظهر فمنحها علي بن زكدان. وكتب إلى ابن وانودين بمعسكره من حاجة. وإلى ابن عطوش [2] بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة.
وخاطب أبو دبوس علي بن زكدان يرغبه في القدوم عليه، فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبّض عليه واليها ابن عطوش. وكذا صهره [3] واعتقله، وطيّر بالخبر إلى أبي دبوس، فأمر وزيره السيد أبا موسى ان يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة، فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئا عندهم، والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم، فعطف أبو دبوس عليه وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا موسى ومسعود بن كانون في إزعاجه إليه. ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادة، فكتب خطه إلى السيد أبي موسى بقتله، فقتله واستقل أبو دبوس بالأمر، وتلقّب الواثق باللَّه والمعتمد على الله. واستوزر السيد أبا موسى وأخاه السيد أبا زيد، وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعيّة، وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطّوش سفيرا إليه في ذلك. وبلغه أنّ يعقوب بن عبد الحق نزل تامسنا فأوفد عليه حميد [4] بن مخلوف الهسكوري بهديّة فقبلها، وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعا إلى وطنه. ورجع حميد إلى الواثق، ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن، فرجع أبو دبوس إلى
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علي بن زكداز الونكاسي.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: عصّوش.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وكان أصهره.
[4] وفي نسخة أخرى: حيمدي.(6/352)
مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة. وبلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدّث نفسه بالملك، وانّ ابن بكيت وابن كلداسن داخلوه في ذلك. وساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيّد أبي عمران خليفته، وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله، فأنفذ ذلك.
ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده، وحسم علل ابن بدر فيه. وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتقرى المنازل ويستنفر القبائل، ومرّ بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلا قلائل من الدور بخارجها. ونزل على حميدي صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه منازله أبو دبوس وحاصره أياما، وهزم فيها جموعه وداخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح عن ذلك ونجا بدمائه إلى بيته. وطولب بالمال، وبقي معتقلا عند ابن زكداز، وامتنع ابن بدر بحصنه. ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته، فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة. وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنه زاحف إلى [1] فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن، وخرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني [2] دليلا. وسلك بهم على القفر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن، فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة، فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين وعسكر المغرب، ونزل بضواحي مراكش وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحّدين فاستجره يعقوب إلى وادي اغفو، ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره. وانهزم يريد مراكش، والقوم في اتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس، وسمّوه المعتصم مدة خمسة أيام وخرج في جملتهم، وانقرض أمر بني عبد المؤمن، والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد البلد في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي النسخة الباريسية: المساكني وفي نسخة أخرى: الونكاسي.(6/353)
(وأمّا هسكورة)
وهم أكثر قبائل المصامدة، وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأمّا سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها، وإبرام عقدتها، فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم، وأمّا هسكورة فكان لهم بين الموحّدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلّا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا انغمسوا في نعيمهم. وكان جبلهم الّذي أوطنوه من حاله دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الفدد واليفاع الأشمّ والطود الشاهق، قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه. وتلفّع بالحساب في مروطه، وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء باذنه، وأظل على البحر الأخضر بشماريخه، واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره، وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحّدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب والمغارم عليهم، فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية، واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزّوا فيه بمنعتهم، فلم يغمسوا في خدمتهم يدا، ولا أعطوهم مقادا، ولا رفعوا بدعوتهم راية، إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرّست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة، ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته، وربّما تخطّاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هسكورة وكنفيسة، وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس.
وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الثبانات، وكان رئيسهم في ذكرنا بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف، وحرّروا لسان الأعجمين، هو عبد الواحد، وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة وكان منتحلا للعلم واعية له جمّاعة لكتبه ودواوينه، حافظا لفروع الفقه. يقال إن المدوّنة كانت من محفوظاته، محبّا في الفلسفة مطالعا لكتبها، حريصا على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة، مطلعا على الشرائع القديمة والكتب المنزّلة بكتب(6/354)
التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه، ثم ولي من بعده ابنه عبد الله، وكان مقتفيا سنن أبيه في ذلك وخصوصا في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن أخيه عمر، وسكن فتنة المغرب ودوّخ أقطاره وحلّ معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمدّه من أعراب السوس من ورائه، بما كان من تغلّبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم، فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه، واشترط للسلطان الهديّة والضيافة، فتقبّل منه ومنحه جانب الرضى.
ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان، واضطرب المغرب فتنة وخلا جوّ البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش، وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت دارا للأمرة ولمقام الكتائب المجمّرة، وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها، وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحلّ عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين على السلطان أبي عنّان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره.
ولما فرغ أبو عنّان من شأن أبيه واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد، ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقّه، فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به، ولحق بعبد الله السكسيوي فآواه وظاهره على أمره. فجرّد أبو عنّان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس ابن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين وستمائة واختطّ بسفح الجبل مدينة لحصاره سمّاها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحمت بمناكبها أركان معقلة حتى لاذت للسلم، واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه. وعقد له سلما على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم ايزم ومعناه الأسد، فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن محمد الهنتاتي كبير المصامدة لعهده، وعامل السلطان عليهم، فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاما ونصفه حتى وفد على السلطان، واستوهب في ذلك. ثم أجمع(6/355)
على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يدا. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودلّه على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بابنه ايزم فصاح به عبد الله وقومه. وفرّ محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه، واستقلّت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر ابن عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش، وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عمّ عبد الله، كان قتله أيام إمارته الأولى وأقام مملكا على سكسيوة إلى سني خمس وسبعين وستمائة، فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله، واستقلّ بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عمّ له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلّا أنّ اسمه عبد الرحمن، لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين وستمائة، فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبدّ بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين وستمائة ثم بلغني سنة ثمان وثمانين وستمائة أنّ عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر، واستبدّ بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه، وهو أخو ايزم بن عبد الله والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(وأما بقية قبائل المصامدة) من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكالة وغيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة، ومجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يقضي إلى السوس، يعمّره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان، يتحصّنون بملتقها وأدواحها ويعتصرون الزيت لادامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمّال إلى دار الملك في هداياهم فيطرفون به.
وبآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس وفي القبلة عن جبل درن بلدة دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم، ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة وكان شيخهم(6/356)
لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين، وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين وبعده ابن عمّهم خالد بن عيسى بن حمّاد واستمرّت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش، فقتله شيخ بن مرين علي بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده، وهم دكالة جميعا أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه، وللَّه الخلق والأمر وهو خير الوارثين.
كان الواثق جهّز لحرب أحد أمراء المصامدة، فكان وزيره داخله في ذلك وسائل من ذلك السيد أبا زيد ابن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل الى السوس لتمهيده، وحسم هلال بن بدر فيه وقدّم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتعدّى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلّا قليلا من الدور بخارجها، ونزل على حميدين صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه فنازله أبو دبّوس وحاصره أياما وهزم فيها جموعه.
وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبّوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته، وطولب بالمال وبقي معتقلا عند ابن زكدان، وامتنع على ابن بدر بحصنه، ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبة إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلا وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه، وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش، وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبّوس بعساكر الموحّدين فاستجرّه يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في اتباعه، فأدرك وقتل وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة، وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا(6/357)
بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبّوس وسمّوه المعتصم مدّة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء للَّه وحده أهـ.(6/358)
(الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم)
هذا العهد لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن وكان أصل دعوته نفي التجسيم الّذي آل إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة، وصرّح بتكفير من أبى ذلك آخذا بمذهب التكفير بالمثال فسمّى لذلك دعوته بدعوة التوحيد، وأتباعه بالموحّدين نعيا على الملثّمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية، وخصّ بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها، وجعل علامة تمكنها فتح مراكش، فكان إنما اختصّ بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح، وكان أهل تلك السابقة قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي وهنتاتة وتين ملّل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية، وكنفيسة وهزرجة وكدميوة ووريكة. وثمانية قبائل الموحّدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته، دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة واسمها. وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم. وبقي من بقي منهم بمحالهم ومعاقلهم بقية حتوف. وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى أبقوهم بالاتاوات، وانتظموا في عدد الغارمين من الرعايا، وصاروا يولّون عليهم من زناتة تارة ومن رجالاتهم أخرى، وفي ذلك عبرة وذكرى لأولي الألباب، والملك للَّه يورثه من يشاء.
(هرغة)
فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة، وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها(6/359)
وتعصّبهم على أمره. ولم يبق منهم إلّا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئا.
(تين ملّل)
وكذا تين ملّل إخوتهم في التعصّب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تحيّز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم، فكان يعطيهم من الفيء بقدر عظمهم من الابتلاء [1] ، وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم، وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم، وقبر الإمام بينهم بهذا العهد على حاله من التجلّة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحزابا بالغدوّ والعشيّ، وتعاهده بالزيارة وقيام الحجّاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن، واستشعار الأبّهة وتقديم الصدقات بين يدي زناتة على الرسم المعروف في احتفال الدولة، وهم مصمّمون مع كافة المصامدة أن الأمر سيعود وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي، لا يشكّون في ذلك ولا يستريبون فيه.
(هنتاتة)
وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر، وكل من بعدهم فإنما جاءوا على أثرهم وتبعا لهم، لما كانوا عليه من الكثرة والبأس، ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة. وكانت لهم بإفريقية دولة كما نذكرهم، فاتفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم، وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن، وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسّط من الاستبداد والخضوع ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش. ولما تغلّب بنو مرين على المصامدة، وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فكان حظّهم من الغناء بمقدار حظهم من الاستيلاء.(6/360)
كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن، فاختصّوهم بالإثرة والمخالصة.
وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق خالصة له من بين قومه. وهلك سنة سبعين وستمائة [1] على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه، وأنفذه على السلطان لابنه أمير مراكش فقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله، كان منهم: علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه، وندم على ما فرّط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما يذكر من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب. ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان، وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم، ودالوا بينهم في ذلك وأخبار السلطان بعد صدر من دولة موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة وجبايتهم، فعقد له وأنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين ورسخت فيها قدمه، وأورثها أهل بيته، وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا له في الولاية، وترشّحوا للوزارة. ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد، وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته، وعقد لعامر منهم على قومه. ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى إفريقية صحبه عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه، حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحّدين من بيوت الخطة وسعة الرزق. وأسام إليه فيها فكفاه همّها، ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وخطاياه السفن لنظر عامر هذا، حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المريّة من ثغور الأندلس، فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهنّ ابنه أبو عنّان المستبدّ على أبيه بملك المغرب، فامتنع من إسلامهنّ إليه وفاء بأمانته في خدمتهم.
وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحريّة إلى الجزيرة سنة خمسين وسبعمائة وزحف إلى بني عبد الواد ففلّوه ونهض إلى المغرب، وسلك إليه القفر حتى نزل سجلماسة فقصده أبو عنّان فخرج منها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم، فاحتشد، ولقي ابنه بأغمات بجهات أمّ ربيع فكانت الدبرة عليه، ونجا إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تسع وتسعين وفي نسخة اخرى: سبع وسبعين والنسخة الباريسية: أصح.(6/361)
جبل هنتاتة. وكان عبد العزيز بن محمد شيخا عليهم منذ مغيب عامر، وكان في جملته، وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره، وتآمر هو وقومه على إجارته والموت دونه فاعتصم بمعقلهم. وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهرا حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد، فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أبي عنّان فأكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء، وعقد لعبد العزيز على إمارته، واستقدم عامرا كبيرهم من مكانه بالمرية، فقام بهنّ لأمانته من حظايا السلطان وحرمه فلقاه السلطانة مبرّة وتكريما، وأناله من اعتنائه حظا.
وتخلّى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقرّه نائبا. ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين وسبعمائة على سائر المصامدة واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعا، وكفاه هم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته. وهلك السلطان أبو عنّان واستبدّ على ابنه السعيد ووزيره الحسن بن عمر المودودي [1] . وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة، وبينهما في ذلك شحناء، فخشي بادرته وخرج من مراكش، إلى معقلة في جبل هنتاتة، وحمل معه ابن السلطان أبي عنّان الملقّب بالمعتمد. وكان أبوه عقد له يافعا قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل، حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر واستقل بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه، وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبّل السلطان وفادته، وشكر وفاءه، وأقام ببابه مدّة. ثم عقد له على قومه، ثم استنفره معه إلى تلمسان، ولم يزل مقيما ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته.
ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن عمر على ما نذكره، وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة، وصل يده بيده، وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة، وحوّل عليه في حوط البلاد المراكشيّة وأن لا يؤتى من قبله، وكان زعيما بذلك. وعقد له على الأعمال المراكشيّة وما إليها إلى وادي أم ربيع. وفوّض إليه أمر تلك الناحية، واقتسما المغرب شق الأبلّمة [2] وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم، وعبد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغودودي.
[2] وفي النسخة الباريسية: الأبلة.(6/362)
المؤمن بن السلطان أبي علي، فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد. وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العساكر، واعتصم بجبله وقومه واستبد على الأمر من بعده [1] . ووصل عبد المؤمن من معتقله يجأجئ به بنو مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما آسفهم من حجر الوزراء لملوكهم. فلما رأوا استبداد عامر عليه أعرضوا عنه، وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب، ورجع واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها، حتى إذا هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره، حدثت أبا الفضل بن السلطان أبي سالم نفسه بالفتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله. ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل، ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه لأنه كان معتقلا بمراكش. واستحكمت لذلك النقرة بينه وبين عامر بن محمد. وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين وسبعمائة.
وفرّ أبو الفضل فلحق بتادلّا، وتقبّض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره. وطلب عامرا في الوفادة فخشيه على نفسه، واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته، واستجمع عزائمه. وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم، وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه، وأوقع به وتقبّض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه، فحرّك بها عزائم السلطان، ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب وأحاط به ونازلة حولا كريتا [2] . ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وانفضّت جموعه.
وتقبّض عليه عند اقتحام الجبل فسيق أسيرا إلى السلطان فقيّده، وقفل به إلى الحضرة. ولما قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبّخه. ثم أمر به فتلّ إلى مصرعه، واثخن جلدا بالسياط وضربا بالمقارع حتى فاض عفا الله عنه. وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز، كان نزع إليه بين يدي مهلك عمّه، وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم، أشار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: على الأميرين عنده.
[2] هكذا في النسخة التونسية وبياض في النسخة المصرية. ومقتضى السياق حولا كاملا.(6/363)
عليه بذلك أبوه نظرا له فظفر بالسلامة والحظ [1] ، وأصاره السلطان في جملته. ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز، واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقّب بأبي يفلّوسن ابن السلطان أبي علي. ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه. ثم أتّهمه باحتمال الأموال منذ عهد أبيه وشره إلى اسطفائه، ونذر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصادمة جيرانهم بأطراف السوس، ونزل عليهم. وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة، والله وارث الأرض ومن عليها.
(كدميوة)
وأما كدميوة وكانوا تبعا لهنتاتة وتين ملّل في الأمر، وجبلهم بصدف [2] جبل هنتاتة، وكان رؤساءهم لعهد الموحّدين بنو سعد الله. ولما تغلّب بنو مرين على المصامدة ووضعوا عليهم الضرائب امتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافرجا وتيسخنت من جبلهم [3] وخالفه عبد الكريم بن عيسى وقومه إلى طاعة بني مرين، واختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع وتسعين وستمائة، وعساكر يوسف بن يعقوب مجمّرة على حصاره، فهدموا حصونه، وأذلّوا من قومه.
واستخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم. ثم تقبّض على أمراء المصامدة واعتقله فيمن اعتقل منهم، حتى إذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بما لبس [4] الكتاب على لسان السلطان لابنه على أمير مراكش، فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم، وقتل معه بنوه عيسى وعليّ ومنصور، وابن أخيه عبد العزيز بن محمد. وامتعض السلطان لذلك وأفلت ابن الملياني من معسكره لحصار تلمسان فدخلها.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فظفر من السلامة بحظ.
[2] وفي نسخة أخرى: لصق.
[3] وفي نسخة أخرى: تيسخت.
[4] وفي نسخة أخرى: بتلبيس.(6/364)
ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن [1] الملياني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنّان، وكانت بينه وبين عامر بن محمد فتنة جرّها منصب العمالة، شأن المجاورين من القبائل، وقديم العداوة بين السلف. فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش وسائر المصامدة، نبذ إلى عبد الحق العهد ونحلة الخلاف والمداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أوّل الدولة، فصمد إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة في قومه ومشايخ السلطان التي كانت بمراكش لنظره فاقتحم عليه معقلة عنوة وقتله. واستولى على كدميوة ولحق بنو سعد الله بفاس، فأقاموا بها حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكه بعد أخيه أبي عنّان ونزل بغمارة، نزل [2] إليه يوسف بن سعد الله واعتقد منه ذمّة سابقيته تلك. فلما استولى على البلد الجديد واستقل سلطانه، عقد له على قومه رعيا لوسيلته، فأقام في ولايته مدّة السلطان أبي سالم.
وكان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان وبيوت الولاة بالمغرب معوّلا فيها على مظاهرته.
ولما هلك السلطان ابو سالم واستبدّ عمر بن عبد الله على الملوك بعده، بادر لحين ثورته بالعقد لعمر على أعمال مراكش ليستظهر به، وطيّر إليه الكتاب بذلك، ونزل إلى مراكش وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكث ابن أبي العلى، ثم قتله وألحقه بابنه عبد الحق [3] ، وذهبت الرئاسة من كدميوة برهة من الدهر، ثم رجعت إليهم في بني سعد الله، والله تعالى قادر على ما يشاء، وبيده تصاريف الأمور لا ربّ سواه، ولا معبود إلا إيّاه.
(وريكة)
فهم مجاورون لهنتاتة، وبينهم فتنة قديمة وحروب متصلة ودماء مطلولة، كانت بينهم سجالا، وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية،
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم أبيه من المراجع التي بين أيدينا. ولكن يبدو أن والده يدعى يوسف بن سعد الله وذلك حسبما يأتي في آخر هذا الموضع من هذه النسخة.
[2] وفي نسخة أخرى: نزع.
[3] وفي نسخة أخرى: وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكب بأبي العلى ثم قتله وألحقه بأبيه عبد الحق.(6/365)
فخضدوا منهم الشوكة وأصاروهم في الجملة، والله وارث الأرض ومن عليها. والله تعالى أعلم بغيبه وهو على كل شيء قدير
.(6/366)
(الخبر عن بني يدر [1] أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم)
كان أبو محمد بن يونس من جملة وزراء الموحدين من هنتاتة، وكان المرتضى قد استوزره ثم سخطه، وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتاء مصلحت، وفرّ عنه قومه وحاشيته وقرابته. وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداسن ففرّ إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين وستمائة ونزل بحصن تانصاحت بسفح الجبل حيث يدفع وادي السوس من درن، وشيّده وحصّنه وتغلّب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده، وأنزل فيه ابن عمه بوحمدين [2] . ثم تغلّب على بسيط السوس، وجأجأ بني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم بنواحي ملوية إلى بلاد الريف، فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس، وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم. وأجلب على عامل الموحدين بتار ودانت وضيّق عليه المسالك، وتفاقم أمره. واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر المرتضى باعتقاله وقتله سنة اثنتين وخمسين وستمائة وأغزى أبا محمد ابن أصال [3] إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند، وعقد له عليها فنزل تارودانت وتحصّن علي بن يدر في تيونودين [4] . وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيرا منهم، ورجع إلى مراكش مفلولا. وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاف، وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين وستمائة فهزمهم، وقتل ابن أزلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما مليا، وانقلب من غير ظفر، واستفحل ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من الشبانات وذوي حسّان.
وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة. وجبى الأموال واستخدم الرجال، يقال كان جنده ألف فارس، وكان بينه وبين كزولة فتن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يدر.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن عمه حمدين.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: ابن أصناك.
[4] وفي نسخة أخرى: ثيوينون.(6/367)
وحروب يستظهر في أكثرها بدّوي حسّان.
ولمّا استولى أبو دبّوس على مراكش سنة خمس وستين وستمائة وفرغ من تمهيد ملكه بها، اعتزم على الحركة إلى السوس، ورحل من مراكش، وقدّم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل ومن بالجبل، ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس، ونزل على بني باداسن وقبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونودين. وقصد تيزخت ومرّ بتارودنت وعاين آثار الخراب الّذي بها من عيث ابن يدر، ولما بلغ حصن تيزخت خيّم بساحته وحشد أمما من القبائل لحصاره، وكان بو حمدين [1] ابن عم علي بن يدر فحاصره أياما. ولما اشتدّ عليه الحصار داخل علي بن زكدان من مشيخة بني مرين، كان في جملة أبي دبّوس فداخله في الطاعة، وتقبّل السلطان طاعته على النزول عن حصنه.
ثم أعجله الحرب واقتحم عليهم الجلب ولجئوا إلى الحصن وفرّ حمدين إلى بيت علي بن زكدان فأمره السلطان باعتقاله. واستولى السلطان على الحصن، وأنزل به بعض السادة لولايته. وارتحل أبو دبّوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياما، ونصب عليه المجانيق. ولما اشتدّ عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة، فتقبّل وأقلع السلطان عن حصاره، وقفل إلى حضرته. ولما استولى بنو مرين على مراكش سنة ثمان وستين وستمائة استبدّ علي بن يدر وتملّك سوس واستولى على تارودنت ايغري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقلة، وأرهف حدّه للأعراب فزحفوا إليه. وكانت عليه الدبرة، وقتل سنة ثمان وستين وستمائة وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدّة. ثم هلك وقام بأمرهم علي بن الحسن بن بدر. ولمّا صار أبو علي بن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة يصلح عقده مع أبيه كما يذكر في أخبارهم، فنزلها وشيّد ملكه بها، واستخدم كافة عرب المعقل فرغّبوه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة، وفرّ ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة. واستولى السلطان أبو علي على حصنه نانصاصت وسائر أمصار السوس، واستصفى ذخيرته وأمواله، ورجع إلى سجلماسة.
ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر. ولحق به
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكان به حمدين.(6/368)
عبد الرحمن بن علي بن الحسن، وصار في جملته. وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى البريتاني [1] من طبقة وزرائه، وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك، وعقد لأخيه حسّون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان. وهلك حسّون وانقضّ العسكر من هنالك، وتغلّب عليه العرب من بني حسّان والشبانات، ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب. ولما استبدّ أبو عنّان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين وستمائة فملكه واستخدم القبائل والعرب من أهله، ورتّب المشايخ بأمصاره، وقفل إلى مكان وزارته، فانفضّت المشايخ ولحقت به.
وبقي عمل السوس ضاحيا من ظلّ الملك لهذا العهد، وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتّصل من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الاسكندريّة. وهذا الوطن قبلة جبال درن وعمائر وقرى ومزارع ومدن [2] وأمصار وجبال وحصون، ويحدّق به وادي السوس ينصبّ من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسيكسيوة، ويدفع إلى بسيطه، ثم يمرّ مغرّبا إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفا في هذا الوادي ذات المدن والمزارع، وأهلها يتّخذون فيها قصب السكر. وعند مصبّ هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت وبين مصبّ هذا الوادي في البحر ومصب وادي آش [3] مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر، وهناك رباط ماسة الشهير المعروف بتردّد الأولياء وعبادتهم. وتزعم العامة أنّ خروج الفاطمي منه.
ومنه أيضا إلى زوايا أولاد بو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر، وبعدها على مراحل عصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشايتهم وفي رأس وادي السوس جبل زكنون [4] قبلة جبل الكلاوي، وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعه ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمرّ مغرّبا إلى أن يصبّ في البحر. وعلى هذا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اليرنياني وفي النسخة الباريسية: البرنياني.
[2] وفي نسخة أخرى: فدن.
[3] وفي نسخة أخرى: ماسة.
[4] وفي نسخة أخرى: جبل زكندر.(6/369)
الوادي بلدتا كاوصت محطّ الرفاق والبضائع بالقبلة، وبها سوق في يوم واحد يقصده التجار من الآفاق، وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبال نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان، وأرض السوس مجالات لنزول لمطة [1] ، فلمطه منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلّب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن، فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم، وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسّان. والأمر على ذلك لهذا العهد، وبيد الله تصاريف الأمور، لا رب سواه، ولا معبود إلّا إيّاه.
علي عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن علي بن بدر من بني باداسن
(الخبر عن دولة بني حفص ملوك افريقية من الموحدين ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم)
قد قدّمنا أنّ قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل: هنتاتة وتين ملّل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة وغيرهم ممن لا يحصى. وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك. وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعا وأشدّها قوّة، وهم السابقون للقيام بدعوة المهديّ والممهّدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده، كما ذكرنا في أخباره. واسم هنتات جدّهم بلسان المصامدة حتى كان كبيرهم لعهد الإمام المهديّ الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، ونقل البيذق أنّ اسمه بلسانهم فارصكات [2] .
وهنتاتة لهذا العهد تقول إنه اسم جدّهم، وكان عظيما فيهم متبوع غير مدافع، وهو أوّل من بايع الإمام المهدي من قومه، فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة.
[2] وفي نسخة أخرى: فاصكات.(6/370)
وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره. واختصّ بصحابة المهديّ فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته. وكان تلو عبد المؤمن فيهم، ولم تكن مزية عبد المؤمن عليه إلّا من حيث صحابة المهدي.
وأمّا في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع، وكان يسمى بين الموحّدين بالشيخ كما كان المهديّ يسمى بالإمام، وعبد المؤمن بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن اليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد ابن نجية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحّدين. ويظهر منه أنّ هذا النسب القرشيّ وقع في المصامدة والتحم بهم، واشتملت عليه عصبيّته شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أوّل الكتاب. ولما هلك الإمام وعهد بأمره الى عبد المؤمن، وكان بعيدا عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من أثرة المهديّ واختصاصه فكتم موت المهدي وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة. وتوقّف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين، ثم قال له أبو حفص نقدّمك كما كان الإمام يقدّمك فعلم أنّ أمره منعقد. ثم أعلن ببيعته وأمضى عهد الإمام بتقديمه وحمل المصامدة على طاعته، فلم يختلف عليه اثنان. وكان الحل والعقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف، واستكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم همّها. وكان عبد المؤمن يقدّمه في المواقف فبلى فيها [1] . وبعثه على مقدّمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وزناتة كلّهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحّدين مثل بني ومانو وبني عبد الواد وبني ورسيغان وبني توجين وغيرهم، فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم. ولأوّل دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة، وانصرفت إليه وجود الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره، فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته.
ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية حركته الأولى لم يقدّم شيئا على استشارة أبي حفص. ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحّدون، ونكروا ولاية ابنه، فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس، وحمل الموحّدين على البيعة له.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فيجلي فيهم.(6/371)
وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله، وتمّ أمر العهد لابنه محمد. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة وحركة الثانية لفتح المهديّة استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وينقل من وصاة عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلّا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان، فأما عمر فإنه من أوليائكم، وأما يوسف فجهزه بعسكره إلى الأندلس تستريح منه. وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة. وأما ابن مردنيش فأتركه ما تركك وتربّص به ريب المنون، وأخل إفريقية من العرب وأجلهم إلى بلاد المغرب، وأدّخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك.
ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلّف الشيخ أبو حفص عن بيعته، ووجم الموحّدون لتخلّفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه، وأعجب بفضله وأعطاه صفقة يمينه، وأعلن بالرضا بخلافته فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر، وتسمّى بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين وخمسمائة. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن وتحرّكت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منقفاد سنة اثنتين وستين وخمسمائة عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك. ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم وكمل الفتح كما ذكرناه. ولمّا بلغه سنة أربع وستين وخمسمائة تكالب الطاغية على الأندلس وغدره بمدينة بطليوس، واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص، ونزل قرطبة وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه، فاستنفذ بطليوس من هذا الحصار، وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مشهورة. ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها، وكان ابناؤه من بعده يتداولون الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن، فولّى المنصور ابنه أبا سعيد على إفريقية لأوّل ولايته، وكان من خبره مع عبد الكريم المنتزي بالمهديّة ما ذكرناه في أخباره. واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد، وكان في مقدّمته يوم المعركة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فجلى عن المسلمين، وكان له في ذلك الموقف من النصرة والثبات ما طار له به ذكر. واستشهد في ذلك الموقف، وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر، وهم لهذا العهد بتونس.
ولما نهض الناصر إلى إفريقية سنة إحدى وستمائة، لما بلغه من تغلّب ابن غانية على(6/372)
تونس فاسترجعها، ثم نازل المهديّة فتعاونت عليه ذئاب الأعراب. وجمعهم ابن غانية ونزل قابس فسرّح الناصر، اليهم أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين، فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة اثنتين وستمائة، وقتل جبارة أخو ابن غانية، وأثخن فيهم قتلا وسبيا، واستبعد منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس، وأسره ابن غانية ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية. فكان سببا في فتحها. وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بإفريقية حسبما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن إمارة أبي محمد بن الشيخ أبي حفص بإفريقية وهي أولية أمرهم بها)
لمّا تكالب ابن غانية واتباعه على إفريقية واستولى على أمصارها، وحاصر تونس وملكها، وأسر السيد أبا زيد أميرها، ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشرّدهم عن نواحيها. وخيم على المهديّة يحاصرها، وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس، فسرّح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين. وزحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم، وأثخن فيهم بالقتل والسبي واستنفذ السيد أبا زيد من أسرهم، ورجع إلى الناصر بمعسكره من حصار المهديّة ظافرا ظاهرا. وعاين أهل المدينة يوم هزمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم، وسألوا النزول على الأمان. وكمل فتح المهديّة ورجع الناصر إلى تونس فأقام.
بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحاق ليتتبّع المفسدين، ويمحو مواقع عيثهم، فدوّخ ما وراء طرابلس، وأثخن في بني دمّر ومطماطة ونفوسه، وشارف أرض سرت وبرقة، وانتهى إلى سويقة ابن مذكور. وفرّ ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره. وانكفأ السيد راجعا إلى تونس. واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على إفريقية ظلّ الرضى [1] وضرب عليهم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ظل الأمر.(6/373)
سرادق الحماية. وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها، وأن مراكش بعيدة عن الصريخ، وأنه لا بدّ من رجل يسدّ فيها مسدّ الخلافة، ويقيم بها شئون الملك، فوقع اختياره على أبي محمد بن الشيخ أبي حفص، ولم يكن ليعدوه [1] لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة، وأنّ أمر بني عبد المؤمن إنما تمّ بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته، وأن أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبإخوته. وكان يولّيه صلاة الصبح إذا حضره شغل وأمثال ذلك.
وسار الخبر بذلك إلى أبي محمد [2] فامتنع، وشافهه الناصر به فاعتذر، فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله. وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات إفريقية في ثلاث سنين، وأن يختار عليهم من رجالات الموحّدين وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل، فقبل شرطه ونودي في الناس بولايته، ورفعت بين الموحدين رايته. وارتحل الناصر إلى المغرب ورجع عنه الشيخ أبو محمد من بجاية [3] فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوّال سنة ثلاث وستمائة، وأنفذ أوامره، واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس، فجمع أحزابه واتباعه من العرب من سليم وهلال.
وكان فيهم محمد بن مسعود في قومه من الزواودة، وعاودوا عيثهم، وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين. وتحيّز إليه بنو عوف من سلم وهم مرداس وعلاق فلقيهم بشير [4] فتواقعوا واحتربوا عامة يومهم، ونزل الصبر. ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار واتبعهم الموحّدون والعرب واكتسحوا أموالهم، وأفلت ابن غانية جريحا إلى أقصى مفرّة ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة.
وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحوّل عن الولاية فخاطبه بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته، وأنه يستأنف النظر في ذلك. وبعث إليه بالمال والخيل والكسى للإنفاق والعطاء. كان مبلغها مائة ألف ألف [5] دينار اثنتان وألف وثمانمائة كسوة، وثلاثمائة سيف، ومائة فرس، غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية، ووعده
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليبعدوه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أبي عمرو.
[3] وفي نسخة أخرى: باجة.
[4] وفي نسخة أخرى: شبرو.
[5] وفي نسخة أخرى: مائتا ألف دينار.(6/374)
بالزيادة. وكان تاريخ الكتب سنة خمس وستمائة فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(وقيعة تاهرت وما كان من أبي محمد في تلافيها واستنفاذ غنائمها)
كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة أشير [1] بدا له ليقصدنّ بلاد زناتة بنواحي تلمسان، وقارن ذلك وصول الشيخ أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن واليا عليها من مراكش، وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم.
وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيرا بشأنه، وأن لا يعرض له وأنه في اتباعه فأبى من ذلك، وارتحل إلى تاهرت وصبحه بها ابن غانية فانفضّ معسكره. وفرّت زناتة إلى حصن بها، وقتل السيد أبو عمران. واستبيحت تاهرت، فكان آخر العهد بعمرانها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وانقلبوا إلى إفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد في موضع [2] فأوقع بهم واستنفذ الأسرى من أيديهم، واكتسح سائر مغانمهم، وقتل فيها كثير من الملثّمين ولحق فلّهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(واقعة نفوسة ومهلك العرب والملثمين بها)
كان ابن غانية بعد واقعة أشير واستنفاذ [3] أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهة طرابلس، وتلاحق به فلّ الملثّمين وأولياؤه من العرب. وكان المجلي معه في مواقف الزواودة [4] من رياح، وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب، وتعاقدوا على الثبات والصبر، وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شبرو.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد المكان في المراجع التي بين أيدينا
[3] وفي نسخة أخرى: واستفتاح.
[4] وفي نسخة أخرى: في مواقفة الدواودة.(6/375)
حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم رياح ورغب والشريد وعوف ودباب ونغات. واحتلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول إفريقية، فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليه. وخرج من تونس سنة ست وستمائة وأغذّ السير إليهم، وتزاحفوا عند جبل نفوسة، واشتدت الحرب، ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد أبنيته وفسطاطه، وتحيّزا إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واختلّ مصاف ابن غانية واتبعه الموحّدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم، وسيقت ظعائن العرب. وقد كانوا قدّموها بين أيديهم للحفيظة أفذاذا في الكرّ والفرّ، فأصبحت مغنما للموحّدين وربات خدورها سبيا.
وهلك في المعركة خلق من الملثّمين وزناتة والعرب، وكان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان شيخ الزواودة، وابن عمه حركات بن الشيخ بن عساكر ابن السلطان [1] وشيخ بني قرّة وجرار بن ويفرن كبير مغزاوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم. وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحدّ عفوفا باليأس من جميع جهاته، وانقلب أبو محمد والموحّدون أعزّة ظاهرين، واستفحل أمر أبي محمد بإفريقية وحسم علل الفساد واستوفى جبايتها وطالت مواقف حروبه، ولم تهزم له راية. وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر واستبدّ عليه المشيخة لمكان صغره، وشغلوا بفتنة بني مرين وظهورهم بالمغرب، فاستكفى بالشيخ أبي محمد في إفريقية وعوّل على غنائه فيها، وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على أعمالها، وسرّب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها، ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة والله أعلم.
(الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد بن الشيخ أبي حفص وولاية عبد الرحمن ابنه)
كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة وستمائة ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه، وافترق أمر الموحّدين في الشورى فريقين بين عبد الرحمن بن الشيخ أبي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان.(6/376)
محمد وإبراهيم ابن عمّه إسماعيل بن الشيخ أبي حفص، فتردّدوا مليا ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه، وأعطوه صفقة إيمانهم، وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة، فسكن الثائرة وشمّر للقيام بالأمر عزائمه. وأفاض العطاء وأجاز الشعراء، واستكتب أبا عبد الله ابن أبي الحسن، وخاطب المستنصر بالشأن. وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزله لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب ومعه إخوانه وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة.
(الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على افريقية وابنه أبي زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضهم في الدولة الحفصية)
لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص، وقارن ذلك عزله السيد أبي العلا من إشبيليّة، ووصوله إلى الحضرة مسخوطا: وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور، وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك.
وعوّل على الوزير ابن المثنّى في جبر حاله، فسعى له عند الخليفة، وعقد له على إفريقية. ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل، واستقدام أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة. وقرئ الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة وستمائة، فقام الشيخ بالنيابة في أمره، واستعمل أحمد المشطب في وزارته، وغلب عليه بطانته، وأساء في الموالاة لقرابته.
واختصّ أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة، وظنّ امتداد الدولة له. ووصل السيد أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة، فنزل بالقصبة [1] ونزل ابنه السيّد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد، ورتّب الأمور ونهج السنن.
ولشهر من وصوله تقبّض علي محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد، وعلى أخويه
__________
[1] هي قصبة تونس كما في قبائل المغرب ص 160(6/377)
أبي بكر ويحيى، واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم. وكان المستنصر عهد إليه بذلك، لما كان أسفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد، فاعتقلهم السيّد أبو العلا، ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فرّ من سجنه وتقبّض فقتل. ونقل أبو بكر إلى مطبق المهديّة فأردع به [1] .
وخرج السيّد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة وستمائة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها، فنزل قصر العروسيين، وسرّح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها. وقدّم بين يده عسكرا آخرا لمنازلة ابن غانية بودّان، وواعدهم هناك منصرفة من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية. ومال بذله في ذلك فانفضّ العسكر، وزحفوا إلى قابس. وأهمل السيد ابو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرّهم. فلحق بأبيه وأخبره بالجليّ في أمرهم، فسخط قائد العسكر وهمّ بقتله. وطرق السيّد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس. وبلغه أن ابن غانية نهض من ودّان إلى الزاب، وأن أهل بسكرة أطاعوه، فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحّدين إليه، ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم.
ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب، ورجع إلى تونس. ثم بلغه أنّ ابن غانية قد رجع إلى جوانب إفريقية، واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر، فسرّح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان، وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوّارة بظعائنهم ومواشيهم.
وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين وستمائة، واشتدّ القتال وعضّت الموحدون الحرب، وأبلى هوّارة وشيخهم بعرة بن حنّاش بلاء جميلا. وضرب ابنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثّمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية، واستولى الموحّدون على معسكرهم.
وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيّد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين وستمائة. فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس واقصر عن متابعته. وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعة الملثمين، وكان المستنصر قد عزله واستبدل منه بأبي
__________
[1] كذا بالأصل، والأصح: فردع به بمعنى: صرع.(6/378)
يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة، ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد.
وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وستمائة، وولي عبد الواحد المخلوع بن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة، وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله، ونقض ما أصدر المستنصر من عزله، فأرسل عنانه في الولاية، وبسط يده في الناس بمكروهه، وتنكّرت له الوجوه، وانحرف عنه الناس، بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمّد بن أبي حفص وولده، الى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره، وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة.
(الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث)
لما هلك المخلوع وولي العادل، ولّى على إفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد. وولّى على بجاية يحيى بن الأطّاس التينمللي، وعزل عنها ابن يغمور.
وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم. وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمّه موسى بن إبراهيم بن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل، فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، واستقل أبو عمران موسى بأمر إفريقية، واستمرّت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر. وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى إفريقية.
ولما انتهى إلى بجاية قدّم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريّا ليعترضه طبقات الناس للقائه، فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة. وكان أولاد شدّاد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة، فسرّح أخاه الأمير أبا زكريّا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك. وخرج في رمضان من سنته، وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف، ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة، وتزحزح أبو عمران عن النيابة. ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين وستمائة، فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها، وذلك في جمادى من(6/379)
هذه السنة.
وبعد استقراره بتونس بلغه أنّ ابن غانية دخل بجاية عنوة، ثم تخطّى كذلك إلى تدلس، وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه.
وأغذّ السير إلى فحص أبة فصبح به هوّارة، وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد، فأطلق فيهم أيدي عسكره، واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهديّة. ثم مرّ في اتباع ابن غانية، فانتهى إلى بجاية، وسكّن أحوالها، ثم إلى متيجة ومليانة فأدركه الخبر أنّ ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعا إلى تونس، ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة، ولم يزل مستبدا بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا، وغلبه على الأمر كما نذكر.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بإفريقية ورافع الراية لهم بالملك واولية ذلك وبدايته)
لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وستمائة، وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحّدين. وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف، ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام، فامتنع أبو محمد وردّ رسله إليه، فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريّا وهو بمكانه من ولاية قابس.
وعقد له على إفريقية فأخذ له البيعة على من إليه، وداخله في شأنها ابن مكّي كبير المشيخة بقابس. واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم. ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحّدون نهوضه إلى حرب أخيه، وانتقضوا عليه وعزلوه. وطيّر بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برحاب بن محمد [1] وأعراب طرابلس، فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم. وخلع أبو محمد نفسه، ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين [وستمائة] ، وأنزل أخاه
__________
[1] وفي مكان آخر: رحاب بن محمود وهو أمير دباب.(6/380)
أبا محمد بقصر ابن فاخر، وتقبّض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس. واستكتبه ابو محمّد فغلب على هواه، وكان يغريه بأخيه، فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك. ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى المغرب فاستبدّ بملكه، واستوزر ميمون بن موسى الهنتاتي، واستقامت أموره.
(الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن)
لما اتّصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحّدين بمراكش، وخصوصا هنتاتة وتين ملّل.
وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم، وأنه أشاع النكير على المهديّ في العصمة، وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري، وإحداث النداء لصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه. وأنّه غيّر رسوم الدعوة، وبدّل صول الدولة. وأسقط اسم الإمام من الخطبة والسكّة وأعلن بلعنه. ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمّال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم، وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين وستمائة. وحوّل الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة. ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله، فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهديّ، وتلقّب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته. ثم جدّد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وستمائة، وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصرا على لفظ الأمير، لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين. وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها:
الأصل بالأمير المؤمنينا ... فأنت بها أحق العالمينا
فزحزحهم عن ذلك وأبي عنه، ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته.
(الخبر عن فتح بجاية وقسنطينة)
لما استقلّ الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس، وخلع بني عبد المؤمن، نهض إلى قسنطينة(6/381)
سنة ست وعشرين وستمائة، فنزل بساحتها وحاصرها أياما. ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرّتها فدخلها، وتقبّض على واليها السيد [1] ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري. وولّى عليها ابن النعمان. ورحل إلى بجاية فافتتحها، وتقبّض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيّرهما معتقلين في البحر إلى المهديّة. وأجريت عليهما هنالك الأرزاق، وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز [2] إلى الأندلس، فنزلوا بأشبيليّة. وبعث معهما إلى المهديّة في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف، وابن أبي الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة، فاعتقلوا بمطبق المهديّة وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته، وولّاه بعدها الولايات الجليلة، وكان يستخلفه بتونس في مغيبه. وفي هذه السنة تقبّض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله، وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة. ثم غرّبه إلى الإسكندريّة، واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع، إلى أن هلك، فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك.
(الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان الى بجاية وولاية ابنه الأمير أبي يحيى زكريا عليها)
لما استقل الأمير أبو زكريا بإفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله، فكانت له في ذلك مقامات مذكورة، وشرّده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا. واختطّ بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه، وأنزل بالأطراف عساكره وعمّاله لمنعها دونه. ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء، إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وانقطع عقبه فانقطع ذكره، ومحا الله آثار فتنته من الأرض. واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا السيد.
[2] كذا، وفي ب: أومازير.(6/382)
ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين وثلاثين وستمائة يؤمّ بلاد زناتة بالمغرب الأوسط. وأغذّ السير إلى بجاية فتلوّم بها. ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولّى عليها. ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن. وجاهر بنو توجين بخلافه، فنزل البطحاء وأوقع بهم. وتقبّض على رئيسهم عبد القوي بن العبّاس فاعتقله، وبعث به إلى تونس ودوّخ المغرب الأوسط وقفل راجعا إلى حضرته. وعقد مرجعه من المغرب لابنه الأمير أبي يحيى زكريا على بجاية وأنزله بها. واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى، وجبايته لعبد الحق بن ياسين، وكلّهم من هنتاتة. وكتب إليه بوصيّته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة، يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصّها فيما بعد.
(الخبر عن سطوة السلطان بهوارة)
كان لهوّارة هؤلاء بإفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح، وكانت دولة العبيديّين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم. وبقي منهم فلّ بجبل أوراس وما بعده من بلاد إفريقية وبسائطها إلى أبّة ومر ماجنّة وسبّيبة وتبرسق. ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحّدين وتغلّب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بإفريقية، وكثّروا ساكنها، وتغلّبوا عليهم أخذ هذا الفلّ بمذهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد. وهجروا لغتهم العجميّة إلى لغتهم، ثم نسوها كأن لم تكن لهم، شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه. ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه. فلما استبدّ الأمير أبو زكريا، وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة، وامتناع عن المغرم، وأضرار بالسابلة، فاعتمل السلطان في أمرهم. وخرج من تونس سنة ست وثلاثين وستمائة موريا بالغزو إلى أهل أوراس، وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره. ثم صبحهم في عسكره من الموحّدين والعرب ففتك بهم قتلا وسبيا، واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيّب بعرّة بن حنّاش وأفلت من أفلت منهم ناجيا(6/383)
بنفسه، عاريا من كسبه، فألانت هذه البطشة من حدّهم وخضّدت من شوكتهم، واستقاموا على الطاعة بعد.
(الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومنال أمره)
كان هذا الرجل من مشيخة الموحّدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنّى بأبي عبد الرحمن، وكان الأمير أبو زكريا وقد عقد له على طرابلس وجهاتها، وسرّح معه عسكرا من الموحّدين من أعراب دباب من بني سليم، فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها. واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجواهري مصدوقة ود. فلما قتل الجواهري سنة تسع وثلاثين وستمائة كما قدّمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكّأ، وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره، وحدّثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد. فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره، فتقبّضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها. وطيّروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى باب السلطان، ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس، وأصبحوا عبرة للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم.
وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران. وصل علقا [1] إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي، ونمي عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه. وكان بالمهديّة رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء [2] اشتهر بالنجدة في غزو البحر، وقدّم على الأسطول فردّد الغزو حتى هابه الغزّى من أمم الكفر، وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم. وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلا للجواهري والهرغي، وأن القاضي بالمهديّة أبا زكريا البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك، فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي
__________
[1] كذا، ولا معنى لها، وفي ب: غلقا بمعنى: غضبان.
[2] كذا، وفي ب: ابن أبي الأحمر.(6/384)
حفص بقتل ابن أبي الأحمر، وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلا، فأمضى عهده. ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرئ من مداخلتهم، فسرّحه وأعاده إلى بلده. وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند أتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم، وكان له تعلّق برحاب بن محمود أمير دباب، فأوعز السلطان إلى بعض الدعّار من زناتة، فقتله غيلة ثم أهدر دمه. وتتبّع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء، ومحا شوائب الفتنة.
(الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم)
لما استقلّ أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجّاج بن سعد بن مردنيش بملك بلنسية، وغلب عليها السيّد أبا زيد بن السيد أبي حفص، وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس، وخروج ابن هود على المأمون، ثم فتنته هو مع ابن هود، وثورة ابن الأحمر بأرجونة، واضطراب الأندلس بالفتنة. وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب. وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها، وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين وستمائة سبع محلّات لحصار المسلمين:
اثنتان منها على بلنسية، وجزيرة شقر وشاطبة. ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة، وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة.
ثم تملّك طاغية قشتالة مدينة قرطبة، وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة، وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية. وأنزل بها عسكره وانصرف، فاعتزم زيّان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره، واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون، وأصيب كثير منهم. واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدّثين بالأندلس، وكان يوما عظيما، وعنوانا على أخذ بلنسية ظاهرا. ثم تردّدت عليها سرايا العدو. ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين وستمائة فحاصرها واستبلغ في نكايتها. وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم، وظهر أمر بني أبي حفص بإفريقية، فأمّل ابن مردنيش وأهل شرق(6/385)
الأندلس الأمير أبا زكريا للكرّة، وبعثوا إليه بيعتهم، وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخا، فوفد وأدّى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة، وأنشد في ذلك المحفل قصيدته على روي السين، يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عزّ النصر ملتمسا
عاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للنّائبات وأمسى جدّها تعسا
في كلّ شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكلّ غاربة إجحاف نائبة ... تثني الأمان حذارا والسرور أسا
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلّا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلّها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان منبئسا
وصيّرتها العوادي عائثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
ما للمساجد عادت للعدى بيعا ... وللنّداء يرى أثناءها جرسا
لهفا عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارسا للمثاني أصبحت درسا
وأربعا غنمت أيدي الربيع بها ... ما شئت من خلع موشيّة وكسا
كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوّح النصر من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب ... يستوقف الركب أو يستركب الجلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا ... عيث الدبا في مغانيها التي كبسا [1]
وابتزّ بزّتها مما تحيّفها ... تحيّف الأسد الضاري لما افترسا [2]
__________
[1] وفي نسخة أخرى:
سرعان ما عاد جيش الكفر محتربا ... بعث الربا في مغانيها الّذي كبسا
[2] وفي نسخة أخرى: وابتز بزتها تخيف خائف الأسد الضاريات بها لكل ما افترسا(6/386)
فأين عيش جنيناه بها خضرا [1] ... وأين غصن جنيناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا وما نعسا
ورجّ [2] أرجاءها لمّا أحاط بها ... فغادر الشمّ من أعلامها خنسا
خلا له الجوّ وامتدّت يداه إلى ... إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيّها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهديّ ما طمسا
أيام صرت لنصر الحقّ مستبقا ... وبتّ من نور ذاك الهدي مقتبسا
وقمت فيها لأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتزّ أو كالعارض انبجسا
تمحو الّذي كتب التجسيم من ظلم ... والصبح ماحية أنواره الغلسا
هذي رسائلها تدعوك من كتب ... وأنت أفضل مرجوّ لمن يئسا
وافتك جارية بالنجح راجية ... منك الأمير الرضى والسيّد الندسا [3]
خاضت خضارة يعلوها ويخفضها ... عبابه فتعاني اللين والشرسا
وربما سبحت والريح عاتية ... كما طلبت بأقصى شدة الفرسا
تؤمّ يحيى بن عبد الواحد بن أبي ... حفص مقبّلة من تربه القدسا
ملك تقلّدت الأملاك طاعته ... دينا ودنيا فغشّاها الرضى لبسا [4]
من كلّ غاد على يمناه مستلما [5] ... وكل صاد إلى نعماه ملتمسا
مؤيّد لو رمى نجما لأثبته ... ولو دعا أفقا لبّى وما احتبسا [6]
إمارة تحمل المقدار [7] رايتها ... ودولة عزّها يستصحب القعسا
يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ... ويطلع الليل من ظلمائه لعسا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سمرا.
[2] وفي نسخة أخرى: وريح.
[3] وفي نسخة أخرى: السيد الرئسا.
[4] وفي نسخة أخرى: يئسا.
[5] وفي نسخة أخرى: ملتثما.
[6] وفي نسخة أخرى:
مؤيد نورها نجما لأثبته ... ولو دعا آبقا ولّى وما احتسبا
[7] وفي نسخة أخرى: الأقدار.(6/387)
كأنّه البدر والعلياء هالته ... تحفّ من حوله شهب القنا حرسا
له الثرى والثريّا خطّتان فلا ... أعزّ من خطّتيه ما سما ورسا
يا أيّها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنّك من ... يحيى بقتل [1] ملوك الصفر أندلسا
طهّر بلادك منهم إنّهم نجس ... ولا طهارة ما لم تغسل النجسا
وأوطئ الفيلق الجرّار أرضهم ... حتّى يطأطئ رأس كل من رأسا
وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعا تهمي زكاء وخسا
هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر حسمه انتكسا
املأ هنيئا لك التمكين ساحتها ... جردا سلاهب أو خطّية دعسا
واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه [2] ... لعلّ يوم الأعادي قد أتى وعسا
فأجاب الأمير أبو زكريا داعيتهم، وبعث إليهم أسطوله مشحونا بمدد الطعام والأسلحة والمال، مع أبي يحيى بن يحيى بن الشهيد أبي إسحاق بن أبي حفص. وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار. وجاءهم الأسطول بالمدد وهم في هذا الحصار، فنزل بمرسى دانية واستفرغ المدد بها ورجع بالناضّ إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلّمه. واشتدّ الحصار على أهل بلنسية، وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع، فوقعت المراودة على إسلام البلد فتسلّمها جاقمة ملك أرغون في صفر سنة ست وثلاثين وستمائة، وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر، فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريّا. ورجع ابن الأبّار إلى تونس، فنزل على السلطان وصار في جملته، وألحّ العدوّ على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر، وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته، وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكريا.
ثم داخل أهل مرسية، وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك ابن خطّاب في مفتتح السنة، فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله، وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكريا. وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته، وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين وستمائة، ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تقبل.
[2] وفي نسخة أخرى: للفتح نرقبه.(6/388)
على مرسية، وخرج عنها إلى لقنت [1] الحصون سنة ثمان وثلاثين وستمائة، إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وستمائة، وأجاز إلى تونس، والبقاء للَّه.
(الخبر عن الجوهري وأوليته ومآل أمره)
اسم هذا الرجل: محمّد بن محمد الجوهري، وكان مشتهرا بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب. وكان حسن الضبط متراميا إلى الرئاسة. ولمّا ورد على تونس وتعلّق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه، فوجد جباية أهل الخيام بإفريقية من البرابرة الموطّنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة [2] في ديوان، فنبّه على أنها مأكلة للعمّال ونهبة للولاة، فدفع إليها فأنمى [3] جبايتها وقرّر ديوانها، وصارت عملا منفردا يسمّى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر، جذب له السلطان أبو زكريا بضبعه، وعوّل على نصيحته واثره باختصاصه. ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر [4] صاحب الأشغال بالحضرة، فاستعمل مكانه، وكان لا يلي تلك الخطّة إلا كبير من مشيخة الموحّدين، فرشّحه السلطان لها لكفايته وغنائه، فظفر منها بحاجة نفسه، واعتدّها ذريعة إلى أمنيّته، فاتّخذ شارة أرباب السيوف، وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها.
وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما، فنصبا له، واغريا به السلطان، وحذّراه غائلة عصيانه. وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه، ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان، فقال له: عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم، فأعرض عنه السلطان واعتدّها عليه. وجعلها مصداقا لما نمي عنه. ولمّا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لمنت.
[2] وفي نسخة أخرى: محصيّة.
[3] وفي نسخة أخرى: فأنهى.
[4] وفي نسخة أخرى: موت أبي الربيع الكنفيسي المعروف بابن القريقر.(6/389)
قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكريا بن السلطان، أظهر له الجوهري أنّ ذلك بسعايته، وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه، فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكريا فقام لها وقعد، وأنف من استبداد الجوهري عليه. ولم تزل هذه وأمثالها تعدّ عليه حتى حقّ عليه القول فسطا به الأمير أبو زكريا وتقبّض عليه سنة تسع وثمانين وستمائة، ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن لمان [1] والندرومي، فتجلّد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتا بمحبسه. ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العبث به، وإلى الله المصير.
(الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية)
كان الأمير أبو زكريّا منذ استقل بأمر إفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولا إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة. وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغّبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة.
وكان يغمراسن منذ تقلّد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم وحربا على عدوهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البرّ والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تيمما [2] لمسراته، وميلا إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجبلين على المغرب والدولة، فاستكبر السلطان أبو زكريا اتصال الرشيد هذا يغمراسن وألزمهم من جواره بالمحل القريب.
وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل [3] بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخا على يغمراسن فسهّلوا له أمره، وسوّلوا له الاستبداد على تلمسان. وجمع كلمة زناتة، واغداد [4] ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بعض وفد بني منديل.
[2] وفي نسخة أخرى: واعتداد.
[3] كذا، وفي ب: ابن برتمار، وفي نسخة: أخرى برعان.
[4] وفي النسخة الباريسية: تضمنا وفي نسخة أخر تغمنا وهذا تحريف ظاهر.(6/390)
الموحّدين بمراكش، وانتظامه في أمره، وسلّما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا لولوج المغرب على أهله، فحرّكه إملاؤهم وهزّه إلى النعرة [1] صريخهم، وأهاب بالموحّدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان. واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم، فاهطعوا لداعيه [2] .
ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة. وسرّح إمام حركته عبد القوي بن العبّاس وأولاد منديل بن محمد لحشد من وافى بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم، وأحياء زغبة أحلافهم من العرب. وضرب معهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب، تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان، وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكريا الحيلة. زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم، فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحّدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة، فرجّعهم بالخيبة. ولما حلّت عساكر الموحّدين بساحة البلد، وبرز يغمراسن وجموعه للّقاء بصحبتهم ناشية السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا في ذويه وخاصته. واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له، ولحقوا بالصحراء وتسللت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال.
ولما تجلى غشي تلك الهيعة، وخسر تيّار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكريا نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها.
واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرّأ أمراء زناتة ضعفا عن مقاومة يغمراسن علما بأنّه الفحل الّذي لا يقرع أنفه، ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته.
وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله، واطلعوا من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: النفرة.
[2] وفي نسخة أخرى: فأهبطوا الحامية.(6/391)
المراقب عليه. ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق، واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وإفريقية. وان يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها، وأحسن وفادتها ومنقلبها، وسوّغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بإفريقية، وأطلق أيدي عماله على جبايته، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله.
وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره، ومعترضا عن مرامه، وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيّه، فأجابهم وقلّد كلّا من عبد القوي بن عطية التوجيني، والعبّاس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه، وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين. وأقاموا مراسمها ببابه. وأغذّ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه، وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه، وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته، فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح، وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق نذكره. الله أعلم.
(الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلية وكثير من أمصارها)
كان بأشبيليّة أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجدّ من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر، ورثا التجلّة عن جدّهما وأجراهما الخلفاء على سننهم. وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما. وكان السادة من بني عبد المؤمن يعوّلون على شوراهما في مصرهما. وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر، وانتزى بها السادة وافترقوا. وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيّان بن مردنيش، وبغربها ابن الأحمر. وغلب ابن هود الموحدين(6/392)
وأخرجهم عنها. وملك ابن هود إشبيليّة سنة ست وعشرين وستمائة واعتقل من كان بها من الموحدين. ثم انتقضوا عليه سنة تسع وعشرين وستمائة بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالما، وبايعوا الباجي وتسمّى بالمعتضد، واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد، ودخلت في بيعته قرمونة، وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة.
وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه، ورجعوا ظافرين، فدخل الباجي إلى إشبيليّة وعسكر بخارجها، ثم انتهز فرصته في إشبيليّة وبعث قريبه ابن اشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبّضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين وستمائة. ودخل ابن الأحمر إشبيليّة، ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود، وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالما. ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة صرف أهل إشبيليّة طاعتهم إلى الرشيد بمراكش، وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الّذي قدّمنا أنه كان واليا بقسنطينة، وأن الأمير أبا زكريا غلبه عليها واعتقله، وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بأشبيليّة. ولما سار أهل إشبيليّة للرشيد قدّموه على أنفسهم، وتولّى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد، وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقرّ السيد أبا عبد الله على ولايتهم. واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين وستمائة. وقد ملك الأمير أبو زكريا تلمسان وأشرف على أعمال المغرب، فاقتدوا بمن تقدّم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية ومرسية، وبايعوا للأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف، وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين وستمائة. وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولّى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس بن الشيخ أبي حفص، فقدم إشبيليّة وقام بأمرها، وسلّم له ابن الجد في نقضها وإبرامها.
ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر إشبيليّة، ووصل يده بالطاغية. وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف [1] واستقلّ بأمر إشبيليّة.
__________
[1] كذا، وفي ب: شقاف.(6/393)
ورجّع أبا فارس بن أبي حفص وولّاه بدعوة الأمير أبي زكريا فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة. ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع. وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح، ويرجعون في أمرهم آخرا إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص.
وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية، وبعث إليهم الأمير أبو زكريّا المدد، وجهّز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي.
وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي إشبيليّة، وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع. واستولى العدو عليها صلحا سنة ست وأربعين وستمائة بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته. وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن، والأمر للَّه.
(الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم وتصاريف أحوالهم ومال أمرهم)
كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم، ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود، وقدّموا عليهم أحمد الينشتي وتسمّى بالموفق.
ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عند ما بايعه أهل إشبيليّة سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وتقبّضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيد أبا العباس ابن السيّد أبي سعيد، كان واليا بغمرة فولّوه عليهم. ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي عليّ بن خلاص، كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلّى فيها. ودفعه إلى الأعمال فضبطها، فولّاه سبتة فاستقل بها. وولّى على طنجة يوسف ابن الأمير قائدا على الرحل الأندلسي وضابطا لقصبتها. حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وستمائة، وقد استفحل أمر الأمير أبي زكريا بإفريقية، واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس، فصرف ابن خلاص وجهه إليه.
وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال، فدخل في دعوته، وبعث الوفد ببيعته.
واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا. وعقد(6/394)
لابن خلاص على سبتة وما إليها، فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سمّاه الميمون، وأركب ابنه أبا القاسم فيه وافدا على السلطان، ومعه الأديب إبراهيم بن سهل، فعطب عند إقلاعه. ولما رجع الأسطول من إشبيليّة كما قدّمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي عليّ بن خلاص على ابنه، رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة، فانتقل بأهله واحتمل ذخيرته. ولمّا مرّ الأسطول بمرسي وهران نزل بساحلها فأراح، وأحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجأة سنة ست وأربعين وستمائة. وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى ابن زكريا ابن عمّه أبي يحيى الشهيد بن الشيخ أبي حفص. وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الإشبيلي، كان صديقا لشفاف وعدوّا لابن الجد. ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولّاه الأمير أبو زكريا أشغال سبتة، استمرت الحال إلى أن كان من استبداد العزفي بسبتة ما نذكره.
(الخبر عن بيعة المرية)
لما هلك محمد بن هود بالمريّة سنة خمس وثلاثين وستمائة كما ذكرناه واستبدّ وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها، وضبطها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكريا حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته. ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلّب عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة كما ذكرناه في أخباره.
وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته، وأحلّه أبو علي ابن خلاص محل البرّ والتكرمة، وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش، وأجمع الثورة بأبي خلاص، فنذر به وتغيّر له. فلما رجع الأسطول من إشبيليّة ركبه الرميمي ولحق بتونس، فنزل على الأمير أبي زكريا وحل من حضرته محل التكرمة. واستوطن تونس، وتملّك بها الضياع والقرى، وشيّد القصور إلى أن هلك والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن بيعة ابن الأحمر)
كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة، وتملّك جيّان وقرطبة(6/395)
وإشبيليّة وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته. ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين وستمائة عند ما بايعه أهل إشبيليّة وسبته، فلم يزل على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكريا بإفريقية وتأميله للنصرة والكرة، فحول ابن الأحمر إليه الدعوة، وأوفد بها أبا بكر بن عيّاش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكريا بالأموال للنفقات الجهادية. ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وستمائة، فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبدّ بسلطانه.
(الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها)
كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحّدين واليا بسجلماسة لبني عبد المؤمن.
ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين وستمائة، ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتبا فلم يعتبه. ومزّق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه، واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ونواحيها، فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته، فعقد له الأمير أبو زكريا على سجلماسة وأنحائها، وفوّض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها. وخطب له عبد الله بسجلماسة، وفرّ إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك، وأبو سعيد العود الرطب، فلحق بتونس. وأقام أبو زيد معه بسجلماسة. وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وستمائة، وقيل سنة أربعين، ومن معسكره كان مفرّ أولئك المشيخة.
وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به، فخرج من سجلماسة وأسلمها، وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي. وطيّر بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته، وغفر له سالفته. وتقبّض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب، وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها، ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه
.(6/396)
(الخبر عن بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين)
كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلّبهم في القفار فتن وحروب، ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع. فلمّا التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه، وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد ليعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل. ولما استبدّ الأمير أبو زكريا بأمر إفريقية، ودوّخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان، وأطاعه بنو عبد الواد، حذّر بنو مرين حينئذ غائلتهم. وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكريا عليهم، فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة، وخاطبوه بالتمويل، وأوجبوا له حق الخلافة، ووعدوه أن يكونوا أنصارا لدعوته وأعوانا في أمره، ومقدّمة في عسكره إلى مراكش وزحفه. وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم، والاعتصام ببيعتهم. ولم تزل المخاطبات بينهم وبين الأمير أبي زكريا في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده. ورسلهم تفد عليه بذلك مرّة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد. وقد استولى الأمير أبو زكريا على تلمسان، ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته.
وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثّبوا به وقتلوه. وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، فحملهم على بيعة الأمير أبي زكريا فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حدّه واعتزم على النهوض إليهم فخامرهم الرعب، وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة، فتقبّل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف
.(6/397)
(الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيى زكريا ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد الى أخيه محمد)
كان الأمير أبو زكريا قد عقد لابنه أبي يحيى زكريا على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حمّاد، وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة كما ذكرناه، فاستقل بذلك، وكان بمكان من الترشيح للخلافة بنفسه وجلاله، وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل. فولّاه الأمير أبو زكريا عهده سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه، وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره. وكتب إليه بالوصيّة التي تداولها الناس من كلامه ونصها:
أعلم سدّدك الله وأرشدك، وهداك لما يرضيه وأسعدك، وجعلك محمود السيرة، مأمون السريرة. إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه، وجعله مسئولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه، أن يقدّم رضي الله عز وجل في كل أمر يحاوله، وأن يكل أمره وحوله وقوّته للَّه، ويكون عمله وسعيه وذبّه عن المسلمين، وحربه وجهاده للمؤمنين، بعد التوكل عليه، والبراءة من الحول والقوة إليه. ومتى فاجأك أمر مقلق، أو ورد عليك نبأ مرهق، فريّض لبّك، وسكن جأشك، وارع عواقب أمر تأتيه، وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه. ولا تقدم إقدام الجاهل، ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل. وأعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله، وقصر عن مقاومته رجاله، فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم، وذي التجارب من نبهائهم. ثم الإقدام عليه، والتوكّل على الله فيما لديه، والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره، والصغير على قدره. ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك، وتغلّطه في نفسه وتفسد نيّة الكبير وتؤثره عليك، فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين، ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك.
واتّخذ كبيرهم أبا وصغيرهم ابنا، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ 17: 24 وَشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 3: 159. واتخذ نفسك صغيرة، وذاتك حقيرة، وحقّر أمورك، ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين، بأنّك(6/398)
أعظم الناس قدرا، وأكثرهم بذلا، وأحسنهم سيرة وأجملهم صبرا، فذاك غرور وبهتان وزور.
واعلم أنّ من تواضع للَّه رفعه الله. وعليك بتفقّد أحوال رعيّتك والبحث عن عمّالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم، ولا تنمّ عن مصالحهم، ولا تسامح أحدا فيهم.
ومهما دعيت لكشف ملمّة فاكشفها عنهم، ولا تراع فيهم كبيرا ولا صغيرا إذا عدل عن الحق. ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلّا ولا ذمّة، ولا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعيّة والمتظلمين. ولا تقف عند مراده في أحوالهم.
واتخذ لنفسك ثقات صادقين مصدقين، لهم في جانب الله أوفر نصيب، وفي مسائل خلقه، إليك أسرع مجيب. وليكن سؤالك لهم افذاذ [1] ، فأنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه، حمله الهوى على الميل، ودعته الحميّة إلى تجنّب الحق، وترك قول الصدق. وإذا رفع إليك أحد مظلمة، وأنت على طريق، فأدعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك. وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله، مصيخ إلى نازلته ونقله، ففي إصاختك له وحنّوك عليه أكبر تأنيس، وللسياسة والرئاسة في نفوس الخاصّة والعامّة، والجمهور أعظم تأسيس.
وأعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن باللَّه واليوم الآخر إلّا في حق أوجبه الكتاب والسنّة، وعضّدته أقاويل الشرعية والحجة، أو في مفسد عاثت في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم، فليس إلّا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء، ولا تقل عثرة حسود على النعم، عاجز عن السعي، فإن إقالته تحمله على القول، والقول يحمله على الفعل، ووبال عمله عائد عليك. فاحسم داءه قبل انتشاره، وتدارك أمره قبل إظهاره، واجعل الموت نصب عينيك، ولا تغتر بالدنيا وان كانت في يديك. لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح.
واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب، والقناعة مال لا ينفد. وقد قال بعض المفسرين في قوله عزّ من قائل: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ في الْآخِرِينَ» 37: 78 إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلّد فيها من الأعمال المشكورة، والفعلات الصالحة المذكورة.
__________
[1] الفذ: الفرد. جمع افذاذ وفذوذ.(6/399)
فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذبّ به عن عباده. وأرجو بك متى جعلت وصيّتي هذه نصب عينيك، لم تعدم من ربّك فتحا ييسّره على يديك، وتأييدا ملازما لا يبرح عنك إلّا إليك، بمنّ الله وحوله وطوله. والله يجعلك ممن سمع فوعى، ولبّى داعي الرشد إذ دعا، أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، 22: 6 وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تمت الوصيّة المباركة، فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك، وعلا في الدولة كعبه، وقوي عند الكافة تأميله، وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين، إلى أن هلك سنة ست وأربعين وستمائة، فأسى له السلطان، واحتفل الشعراء في رثائه وتأبينه، فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان، ويبعثون حزنه، وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد، بحضور الملأ، وإيداع الخاصّة كتابهم بذلك في السجل، إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعده.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا وما كان عقبه من الاحداث)
كان السلطان أبو زكريا قد خرج من تونس إلى جهة قسنطينة للاشراف على أحوالها، ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها، ووافته هنالك الدواودة، وشيخهم موسى بن محمّد. وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام. وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسنطينة. ثم أبلّ من مرضه، ووصل منها إلى بونة، فراجعه المرض. ولما نزل بظاهر بونة اشتدّ به مرضه. وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة لاثنتين وعشرين سنة من ولايته، ودفن بجامع بونة. ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسنطينة سنة ست وستين وستمائة بين يدي حصار النصارى تونس. وبويع إثر مهلكه ابنه وليّ عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره. وطار خبر مهلكه في الآفاق، فانتقض كثير من أهل القاصية، ونبذوا الدعوة الحفصيّة، وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصيّة. وتمسّك بها يغمراسن بن زيّان صاحب المغرب الأوسط، فلم(6/400)
يزالوا عليها حينا من الدهر، إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره. ولمّا بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة، وكان بها أبو يحيى بن الشهيد من قبل الأمير أبي زكريا كما نذكره، وأبو عمرو بن أبي خالد، والقائد شفاف، فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف، وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس. وتولّى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي.
واتفق الملأ على ولاية العزفي، وحوّلوا الدعوة للمرتضى، وذلك سنة سبع وأربعين وستمائة. وتبعهم أهل طنجة في الدعوة، واستبدّ بها ابن الأمير، وهو يوسف بن محمد بن عبد الله أحمد الهمدانيّ، كان واليا عليها من قبل أبي علي بن خلاص. فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي، خالفهم هو إلى الدعوة الحفصيّة، واستبدّ عليهم. ثم خطب للعبّاسي وأشرك نفسه معه في الدعاء، إلى أن قتله بنو مرين غدرا كما نذكره، وانتقل بنوه الى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم [1] عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة، انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء، فنزلوا بها وأصهر إليهم بنو الأمير [2] ، وارتحلوا معهم إلى تونس. وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق، واستعمل في حطة القضاء بالحضرة أيام السلطان، وكان له فيها ذكر.
ولمّا بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكريا إلى صقلّيّة أيضا، وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية، فتساكنوا حتى إذ بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجئوا إلى الحصون والأوعار، ونصبوا عليهم ثائرا من بني عبس، وحاصرهم طاغية صقلّيّة بمعقلهم من الجبل. وأحاط بهم حتى استنزلهم. وأجازهم البحر إلى عدوته، وأنزلهم بوجاره من عمائرها. ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها، وألحقهم بإخوانهم. واستولى الطاغية على صقلّيّة وجزائرها. ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره، والله غالب على أمره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو الصنم.
[2] وفي نسخة أخرى: بنو الأمين.(6/401)
(الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر وما كان في أيامه من الحوادث)
لما هلك الأمير أبو زكريا بظاهر بونة سنة سبع وأربعين وستمائة كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله، وأخذ له البيعة عمّه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر، وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة، فجدّد بيعته يوم وصوله وتلقّب المستنصر باللَّه. ثم جدّد البيعة بعد حين، واختار لوضع علامته: «الحمد للَّه، والشكر للَّه» وقام بأعباء ملكه، وتقبّض على خاصة أبيه الخصي كافور، كان قهرمان داره، فأشخصه إلى المهديّة، وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب. واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي، واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلّم ولد عمّه اللحياني الثائر عليه كما نذكره، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله ومقتل أبيه)
كان للأمير أبي زكريا من الإخوة اثنان: محمد وكان أسنّ منه ويعرف باللحياني لطول لحيته، والآخر أبو إبراهيم، وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه.
ولما هلك الأمير أبو زكريا، وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر، واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي، وكان عظيما في قومه، فأمل أن يستبدّ عليه لمكان صغره، إذ كان في سنّ العشرين ونحوها. واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين [1] ، والصنائع من بيوت الأندلس. فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا، ورتّب جندا كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة. فداخل ابن أبي مهدي السلطان، وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر، فلم يجد عندهما ما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العلوج.(6/402)
أمل من ذلك. فرجع إلى ابن محمد اللحياني، فأجابه إلى ذلك. وبايعه ابن أبي مهدي سرا، ووعده المظاهرة. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمّه محمد اللحياني وحذّره من غائلة ابنه، وأبلغه ذلك أيضا القاضي أبو زيد التوزري منتصحا.
وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتقبّض على الوزير أبي زيد بن جامع. وخرج ومشيخة الموحّدين معه، فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره، واستركب السلطان أولياءه. وعقد للقائد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء، ولقي [1] الموحدين بالمصلّى خارج البلد، ففضّ جمعهم، وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عمّ السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة، وحمل رءوسهما إلى السلطان.
وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه، وانتهب منازل الموحّدين وخرّبت. ثم سكنت الهيعة وهدأت الثورة، وعطف السلطان على الجند والأولياء وأهل الاصطناع، فأدرّ أرزاقهم ووصل تفقّدهم. وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجره أول الدولة، وتزحزح لابن مهدي عن رتبته، وتضاءل لاستطالته، فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك. ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر، وقبّحوا عنده ما أتاه من الافتيات في قتل عميه من غير جرم. ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة، وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه، فعقد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريدا، إلى أن كان من أمره ما كان.
(الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه)
فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكيّة، وأولها المصيد بناحية بنزرت. اتخذه للصيد سنة خمسين وستمائة، فأدار سياجا على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد، بحيث لا يراع فيه سرب الوحش، فإذا ركب للصيد تخطّى ذلك السياج إلى قوراء في لمّة من مواليه المتخصين [2] وأصحاب بيزرته [3] ، بما معهم من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ولحق.
[2] كذا، والأصح: خصية أو خصيان جمع خصي. وفي نسخة ثانية: المختصين.
[3] وفي نسخة ثانية: وأصحاب يبرزون.(6/403)
الجوارح بزاة وصقورا وكلابا سلوقية وفهودا، فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء، وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطرا من ذلك القنيص سائر يومه، فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها. ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة [1] بحائطين ممتدّين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقا سالكا ما بينهما، وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهنّ إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهنّ، فكان ذلك مصنعا فخما وأثرا على أيام الدولة خالدا.
ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك. وأساراك باللسان المصمودي هو القوراء الفسيحة. وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السماك متباعد الأقطار متّسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب، وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحه وغلقه بالعصبة أولي القوة.
ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب الى معارج قد نصبت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان، يناهز عددها الخمسين أو نحوها، ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء. ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود [2] ومشاهد الأعياد، فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبّهة الملك وجلالة الدولة.
واتخذ أيضا بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر، يشتمل على جنّات معروشات وغير معروشات، اغترس فيها من شجره كلّ فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمّان والنخيل والأعناب، وسائر الفواكه وأصناف الشجر. ونضّد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السدر والطلح والشجر البريّ، وسمّى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والحوائز [3] وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والرّيحان، وشجر الياسمين، والخيريّ والنيلوفر وأمثاله. وجعل وسط هذه الرياض روضا فسيح الساحة، وصنع فيه للماء حائزا من عداد البحور [4] ، جلب إليه الماء في القناة القديمة، كانت ما بين عيون زغوان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطالبية، وفي النسخة الباريسية: الطابية.
[2] كذا، وفي ب: والقود. وفي نسخة أخرى: والوفود.
[3] كذا، وفي ب: والحدائق. وفي نسخة أخرى: والجرار.
[4] وفي نسخة أخرى: وصنع فيه للماء حاجزا من أعواد الحور.(6/404)
وقرطاجنة تسلك بطن الأرض في أماكن، وتركب البناء العاديّ ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى، فعطف هذه القناة من أقرب السموات [1] إلى هذا البستان. وأمطاها حائطا وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى، رصيف البناء متباعد الأقطار مربّع القنا مجلّل بالكلس، إلى أن يغمره الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية، فينبعث في الصهريج إلى أن يعبق حوضه، وتضطرب أمواجه يترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهنّ تباري الفتح، ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبّتان متقابلتان كبرا وصغرا على أعمدة المرمر، مشيّدة جوانبها بالرخام المنجّد، ورفعت سقفها من الخشب المقدّر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمّقة، إلى ما اشتملت عليه هذه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفا من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار، وتأنّق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزّهاته من هذه، فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الآفاق.
(الخبر عن فرار أخيه أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث)
كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر، وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة، وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين وستمائة لبعض الوجوه السلطانيّة، ففرّ الأمير أبو إسحاق من معسكره، ولحق بالدواودة من رياح، فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس، واجتمعوا على أمره. وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمّة والرتبة، وقصدوا بسكرة وحاصروها، ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي ابن الحسن بن مزني من مشيختها. وائتمر به الملأ ليقتلوه، ففرّ إليه وصار في جملته. ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته. ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها، واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب. وأهمّ السلطان شأنه، وتقبّض
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الثمرات.(6/405)
على ولده فحبسهم بالقصبة جميعا. ووكّل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبي الحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر، بتحذير ألقاه إلى أخته بالحضرة تنصّحا، فبعثت به إلى أخيها، فتنكّر لظافر وفارقه، وسار إلى المغرب. ثم لحق بالأندلس، وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس. ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه، وأسنى له الجراية. وشهد هنالك الوقائع، وأبلى في الجهاد. ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر ويهاديه، ويوفد عليه مشيخة الموحّدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاء لحاله، إلى أن هلك. وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر. ولحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية. وأوفد ولده علي الواثق مستعتبا وراغبا في السبيل إلى الحجّ. وقلق المستولي على الدولة بمكانه، وراسل شيخ الموحّدين أبا هلال عياد [1] بن محمد الهنتاتيّ صاحب بجاية في اغتياله عن قصده، فذهب دمه هدرا وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق، وبيد الله تصاريف الأمور.
(الخبر عن بني النعمان ونكبتهم والخروج أثرها إلى الزاب)
كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة ورؤسائهم، وكان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور ومكان، وخلصت ولاية قسنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم.
واتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر، وكان كبيرهم أبو علي وتلوه ميمون وعبد الواحد، وكان لهم في مداخلة اللحياني أثر. فلما استوسق [2] للسلطان أمره، وتمهّدت دولته نكبهم وتقبّض عليهم سنة إحدى وخمسين وستمائة، فأشخص أبا علي إلى الإسكندريّة، وقتل ميمون وانقرض أمرهم. وظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمّى بأبي حمّارة، فخرج السلطان من تونس وقصده بالزاب، فأوقع به وبجموعه وتقبّض عليه، وسيق إلى السلطان فقتله، وبعث برأسه إلى تونس فنصب
__________
[1] كذا، وفي ب: عباد.
[2] استوسق الأمر: انتظم. (قاموس) .(6/406)
بها. وقفل السلطان إلى مقرّه فنزل بها، وسخط وجوها من سليم: من مرداس ودباب، كان فيهم رحاب بن محمود وابنه، فاعتقلهم واشخصهم إلى المهديّة فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافرا غانما.
(الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية)
كان صاحب مكّة ومتولّي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة، ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين، أبو نمى وأخوه إدريس، وكانوا قائمين بالدعوة العباسيّة منذ حوّلها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيّوب الكردي، وأمر الموسم وولايته راجعة إليه، وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد. وجرت بينهم وبين الشريف صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد، ومحوهم رسم الخلافة بها، وظهور الدعوة الحفصيّة بإفريقية، وتأميل أهل الآفاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة. وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلا بمكة، بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس، وكان حافظا للعلوم الشرعية والعقلية، وسالكا مرتاضا بزعمه على طريقة الصوفية. ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوّفة الغلاة، ويزعم بالتصوّف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقيدته، ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته، وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بأشبيليّة. ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكونيّ، فتنمّر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنّة وسخطوا حالته.
وخشي أن تأسره البيّنات فلحق بالمشرق ونزل مكة، وتذمّم بجوار الحرم الأمين، ووصل يده بالشريف صاحبها. فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب إفريقية، داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرّضه عليه، وأملى رسالة بيعتهم، وكتبها بخطه تنويها بذكره عند السلطان والكافة، وتأميلا للكرة ونصها:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 صلى الله على الإسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً(6/407)
عَزِيزاً، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً 48: 1- 4.
هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجة، وهو الّذي خصّت به مكة، وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر، وبه تتم النعمة، ويستقيم صراط الهداية، وتحفظ النهاية، وتغفر ذنوب البداية، ويحصل النصر العزيز، ونور السكينة، وتتمكن قواعد مكة والمدينة.
وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان. ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء، ولا في مكان دون مكان.
وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل، للمتبوع الّذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني، فإنه هو الإسوة صلّى الله عليه وسلم، وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه. وإن كانت نصبة مولده صلّى الله عليه وسلم ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الّذي نحن فيه، وأمامنا فيه هو ختم الأولياء. فمن فتح عليه بفتح مكة تمّت له النعمة، ورفعت له الدرجة، وضفت عليه الرحمة. ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه، ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وأرهاطه. ومن حرم هذا فقد حرم من ذلك، والأمر هكذا.
وسنة الله كذلك، وصلى الله على رسوله الّذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده، ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه، ثم من عمر صاحبه ووليّه والحمد للَّه على نعمه.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على سيد ولد آدم محمد. «حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً من عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً من رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 44: 1- 6. قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البيّنات، وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر، ويفسّر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان، وفيها تقرر خطة الإمامة والملك، وتقيض الإمامة بالهلك، وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور، وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور. ثم هي في أمّ القرى وفي حرمها تقدّر بقدر زائد، ويعم فضلها إلّا للحائد عن الفائد،(6/408)
وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها، والليلة التي فيها قرأتها، أنها من أفضل المطالب التي قصدت، وأن القرائن التي اجتمعت فيها ولها، زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت، وأيضا تأخّر فيها مجد إمام عن إمام، وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الإمام، ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقّب وعظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت، فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرّر حدها ويتحقّق مجدها، ولا يقدر قدرها فإنّها ليلة قدر، ليلة قدرها.
والحمد للَّه حمدا وأصلا: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وصلى الله على واحد الله في عنايته سيّدنا محمد طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ 28: 1- 2 إلى قوله مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته، وفي سنّة الله التي لا تحول ولا تبدّل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدّل ولا تعدّل، أن لكل هداية نبويّة ضلالة فرعونيّة، وكذا الحال في الأولياء، ومع كل مصيبة فرج، ولا ينعكس الأمر في الأتقياء. ولكلّ ظلم ظالم متجبّر قهر قاهر متكبّر، وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل. وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب، وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب، وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة، وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة. وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكّر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة. وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متّصلة الاستصحاب والسبب، وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب، وأن رجال الملّة الحنفية أعلى المنازل والرتب. ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل، ونوع موسى الأجل: أشخاصها متعددة، وأكوانها متّحدة، والله غالب على أمره. وقد قيل إن الملّة الحنفيّة المضريّة تنصرها السيرة العمريّة المحمديّة المستنصريّة.
ولعلّ الّذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه، يجيره من المغرب ولا ينقله عنه، فينبغي لمن آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسوله، وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده، قد قيّدت أقدام قوم بشرك الشرك، وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع [1] كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر
__________
[1] كذا، وفي ب: وكم.(6/409)
بصيرته، ولبس لهم ثوب الذلّ بالعرض، وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنّة والفرض. وأما هامان المرتدّين فليس هم بالمؤمنين، وعلا فرعون الشر في الأرض، والله يمنّ على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده، ويهلك المفسدين بجند من رفده. وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام، فإنّها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام وتكبر أربع تكبيرات على الأنس ويودع بعد ذلك وعد وسلام، وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام، والحمد للَّه على كل حال.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على الّذي أعجزت خصاله العدّ والحدّ، مسلم والطبقة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعدّه عدا. وقال صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد. زاد أبو العبّاس الهمدانيّ، وأشار بيده إلى المغرب. وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صحّحته روايته، ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العمليّة إلّا ما أبرزته درايته. ولا يعتبر من الأعلام الدينيّة إلى ما أدركته هدايته. قال في الترجمة الأولى: إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد، ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار، ويخطب له على منابر خلفاء بني العبّاس، ويكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند.
ذكرت هذا ليعلم المقام أيّده الله أنه هو المشار إليه، وأنه الّذي يعوّل في إصلاح ما فسد بحول الله عليه. ومن تأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان الحديث، تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه، منها: أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم، ولا ذكر في الدول الماضية، ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان. والثاني: أن آخر الزمان الّذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة، وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هو هذا بعينه. الثالث: لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الّذي قصدناه.
وهذه أقطار الملّة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات، والّذي يشاركه في الاسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه، إذ هو أضعف من ذرّة في كرّة، ومن نملة في رملة. وأفقر من قصد طالب السراب، ويده مع هذا أيبس من التراب فصحّ(6/410)
السبر والتقسيم، وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت إنه هو لا شريك له فيها، والمصحّح لذلك كله، والّذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الّذي يعجز عنه الحدّ، ولا يتوقّف فيه العد. وهذا خليفة الملّة كذلك، وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم. وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم، وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع، وهذه سعوده في صعوده، وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أخواله بالكلية صالحة، وهذه سعايته ناجحة.
ثم هذه موازين ترجيحه راجحة، والحمد للَّه كما يجب.
وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله إنه من بكة وإنه للحق وإنه بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وإنه إلى خضر لا تحصر الحصر ويحدر فيها الندر [1] ويحافظ على سنّة الرؤوف الرحيم. صلّى الله عليه وسلّم أمّا بعد فبهداهم اقتده، الحمد للَّه الّذي أحسن بمقام الإحسان وتمّم النعمة، وبيّن لمن تبيّن علم البيان، وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة، هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية، وهو القاهر الماضي المشيئة الّذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة. شهد له بالكمال الممكن الّذي أبرزه وخصّصه وعرّفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه. هو الّذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض، وأعمى من أهلها من توسّل له بنيّة العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور، وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام نجر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض.
سنته محمديّة، وسيرته بكريّة وسريرته علويّة، وسلالته عمريّة. فهذه ذرّية وأنواع مجد بعضها من بعض، بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض. عرف بالرياسة العالية، ووصف بالنفاسة السالية، وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص. النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام. صلى الله على الإسوة الرؤوف بالمؤمنين، سيّدنا محمد الّذي أنزل عليه التنزيل، وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص، ونبي الله به وبأئمة أمّته الذين شبّههم بالبنيان المرصوص،
__________
[1] كذا، وفي ب: النذر.(6/411)
وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهّرهم، ثم أيّدهم فطهّروا الأرض من الكفرة الفجرة. وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم، ويسّر بهم السبيل ثم السبيل يسّرهم.
ومنهم الخليفة المستنجد باللَّه المفضّل على الناس، ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه، وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه. وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية، تحيّة بعضها مكية وكلها ملكوتيّة، وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يدرك فيه صحبة النفث، روح القدس. وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض. لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض. ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد، تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنّة الخلد والنعيم. وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون.
وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة، وكريمة صبيّة، واقفة على حضرة الملك والسلطان، ومدار فلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة، ومعقل الهداية والدلالة، وأصل الأصالة ودار المتقين، وبيت العدالة وحزب اليقين. وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه، ومقر الإسلام ومقدّمه، القائم بالدعوة العامّة بعد أبيه إمام المجد والفخر، ثم الأمّة الّذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل، اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوّة، وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حد به [1] بخاصة خصاله بعد مجد الأبوّة وفخر النبوّة، لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلّا بالضد، فإنه مظهر العناية الإلهية، ومرآة المجد والجد.
هو علم العلم ثم هو محل الحلم، اسمه متوحّد في مدلوله كالاسم العلم، وعهده لا يتوقّف على اللسان ولا على رسوم القلم.
كتب في السماء وسمع به في الكرسي وكذلك العرش، وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى. وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش. ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد. ولا يقال هذا بحر العلم
__________
[1] كذا، وفي ب: حد له.(6/412)
فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد، لأن ذلك كله فيه بوجه أكمل وبه وعليه، وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة، بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية. وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان، ويتعجّب منه في القيامة عمره، ويسره أمره طلعت سعوده على مولده، ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعة. إن حرّر القول فيه وفهم شأنه، قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب، وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع المركّب.
أي غاية تطلب بعد طاعته، وأي تجارة تنظر مع بضاعته، له الحمد بيده الملك والأمانة، بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة، لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة، وفيه الإمارة والعلامة. منير مكة بإزاء بيت بكة خطب بخطبته، والّذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السرّ تطير إذا سمعت بذكره، والمهندات البتر تلين لباس ساعده. ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد، توحّدت له إذ هو واحدها الأوحد، وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبّرها الأرشد. ومع هذا كتابته أهملت صيت الصادين، وكورت شمس الفتح، ثم الفتح والصادين.
وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الأعجاز على الصدور، فإنه الّذي يعتبر في ذلك والّذي يصدر عنه هو واقع في الصدور، وأفعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شعر الرجلين. وبعده نذكر الطبقة، ثم شعراء نجد، والخبب والجبليّ والولد بعده والهذلي، والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك. والهذلي علوم الأدب، الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه. وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه، والفارسيّ تلميذه ثم الآخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب. وأقام أئمّة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه، ثم لا يكون كالمصيب. وكل كوفي بل كل بصري يحب الظهور إذا سمع به اختفى، والمنصف منهم هو الّذي بنحوه اكتفى. أقيسة الفقه الثلاثة هذّبها وحصّلها، وأصوله كما يجب علمها وفصلها. والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها، وسهّل الصعب من مخصّصها ومهملها.(6/413)
وإن فسّر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإعجاز بعد إعجازه، وإن تعرّض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره [1] وإيجازه. وإن شرع في شرح قصصه وجدله، وفي تفسير ترغيبه وترهيبه. ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر، فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى، وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى. وإن تكلّم على متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح. ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه، وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد. وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم، فبيده الزيادة وضد المزيد، وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه، وفواتح سوره وحقائقه. والّذي يقال إنه لا من جنس الّذي يكتسب والّذي هو أعظم من الّذي يرد، وإليه الأحوال تنتسب فهو الشارح لها والخبير بها، وإن تأخّر. وينوّع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرّر. وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها، وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها. والوراقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها، وحمله الأمر علوم الشريعة كلّها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها. وكل العلوم العقليّة والنقليّة ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان، والمقامات السنيّة المستنزلات العلويّة أدركها بعد التبيان. فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب. ومن ذكره ولم يتلذّذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب، ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل، وحضرة جلاله محفوظة بجدّها وجدّها وقاطعها المنفصل. ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ، 5: 54 قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. 6: 124 هذه كلّها. آياته والرابعة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها 16: 18 فإنّها هباته إن حدّث المحدّث بكرمه يقول، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده، ونصر الله إذا جاء لا يردّه، وفتحه من ذا الّذي عن السعيد يصدّه، والمؤرّخ يتذكّر بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب، إذ قال: وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب، العلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب، يسرّ
__________
[1] كذا، وفي ب: اختياره، وهو تحريف.(6/414)
بحكمته ويغتبط بها متى يتبع جملته، الباحث الحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفّح نعوته الشاعر العليم، وينشد طبعه في الحين والوقت والحزّة ويخرج الحروف من مخارج الهمزة.
شهدت لقد أوتيت جامع فضله ... وأنت على علمي بذاك شهيد
ولو طلبت في الغيب منك سجيّة ... لقد فرّ [1] موجود وعزّ وجود
أدام الله له المجد الّذي يسلك به على النجدين، وحفظ عليه مقامه الّذي لا يحتقر فيه إلّا جوهر النقدين، وبسط له في العلم والقدرة، وبارك له في نصيب النصرة، وجهّز به العسرة، وردّ به على الشرك والفتن الكرّة، وعرفه في كل ما يعتزمه صعا جميلا، ولطفا خفيا جليلا. وكفاه الشرّ المحض وخير الشرين، كما كشف له عن الخير المحض وعلم السريّن، وأيّده بروح منه في السّر والسريرة، وحفظه في حركاته وسكناته من الصغيرة والكبيرة. وجعل كلمته غالبة للضد والجند، وبلغ صيته الجزائر والبربر، ثم الى السند والهند. وخلّد ملكه وسلّم فلكه، ورفعه على أوج المجد بحدّه الطويل العريض. وأهبط عدوّه من الشرف الأعلى إلى الحضيض.
وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور، وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور، وما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وجبر به كسر الظفر، ووصل به ما انقطع من الأسباب. وعصم جنده من ضد الدنف الأنف، وردّهم إلى ردم الأبواب وقدّس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدّس، وسلك به مسالك السبل في المقيل والمعرس. وبعد هذا فهذه أدعيتنا، بل هذه أوديتنا، وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا، وهذه تحيّة حيّاها ذو الفطرة السليمة، وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة. واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب، والموجب لإصدارها محبّة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان: شوق قديم، ورعاية الآخرة والأولى، بل الأمر الّذي هو في خير الأمور من أوسطها، وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها، فإنه يحكي أحكام الشأن والقصّة، ويعلم المقام أيّده الله الّذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصّة، وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد ويحمل على جواهر
__________
[1] كذا. وفي ب: قر.(6/415)
الكمالات كالأعراض، فمن ذلك ذكر الملّة التي كملت وكبرت، والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت. والمنبر الّذي صعد خطب خطبته على الخطيب، وعرج إلى سماء السموّ وهو على درجه، والآخر الّذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه، وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر، لا بحرف المستعصم بن المستنصر.
بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الّذي أمات وأحيا، وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى، وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الاختبار، ثم في ليلة الآيات والاعتبار. ومن ذلك أيضا بعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف، وانقياد الّذي ظهر على طائفة الحق والسيد والشريف. ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحجّ ومقرّ وفوق الحاج، ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج، وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك، وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك، وتعرّفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة، وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة.
ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام، وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين، وطلع الذاكر بالتركيب إلى الجدّين الساكنين في الخلد والخالدين. فلمّا وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات، ذكر مع السبع الأولى سبع مرّات. وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف، وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف، وعند التوجّه من هناك ويوم النفر قرّرت آياته المذكورة في كتاب الجفر.
ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر. فلمّا وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان، أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن، وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب. والآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب.
والّذي حمل على هذا كلّه طاعة كاملة وغبطة عاملة، والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند، فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد، ومعاد التحيّة على المقام الأرفع والمقرّ الأنفع، وعلى خدام حضرته العلية، وأرباب دعوته الجليّة وأنواع رحمته تعالى وبركاته. والحمد للَّه كما يجب وصلى الله على نبيّه محمد وعلى آله وسلّم.(6/416)
كتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف، والحمد للَّه ربّ العالمين. ولما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ والكافة، وقرئت بمجمعهم وقام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها والإشادة بحسن موقعها، وإظهار رفعة السلطان ودولته بطاعة أهل البيت والحرم ودخولهم في دعوته. ثم جار بالدّعاء للسلطان وانفضّ الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة.
(الخبر عن الوفود من بني مرين والسودان وغيرهم)
كان بنو مرين كما قدّمناه قد تمسّكوا بطاعة الأمير أبي زكريا ودخلوا في الدعوة الحفصيّة، وحملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل: أهل مكناسة وتازى والقصر، وخاطبوا السلطان بالتمويل والخضوع. ولمّا هلك السلطان وولي ابنه المستنصر، وقارن ذلك ولاية المرتضى بمراكش. ثم كان بينهم وبين المرتضى من الفتنة والحرب ما ذكرناه ونذكره، فاتصل ذلك بينهم وبعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس، وأوفد بها مشيخة بني مرين على السلطان وذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة فكان لها موقع من السلطان والدولة. وقابلهم من الكرامة كل على قدره، وانصرفوا محبورين إلى مرسلهم. ولما هلك أبو يحيى بن عبد الحق، واستقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثانية رسله وهديّته، وطلب الإعانة من السلطان على المرتضى وأمر أهل مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها. ولم يزل دأبهم إلى أن كان الفتح.
وفي سنة خمس وخمسين وستمائة وصلت هديّة ملك كانم من ملوك السودان، وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس، وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلي والشيات، فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غصّ بها الفضاء، وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته، وأخذها من كل حيوان بشبه. وفي سنة ثمان وخمسين وستمائة وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضبا لأخيه، ووفد على السلطان بتونس فتلقّاه من المبرّة والحباء بما يلقى به(6/417)
كرام القوم وعظماء الملوك، ونزل من دولته بأعزّ مكان. وكان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة ورفع من قدرها.
(الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته)
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية، وكان علّامة في الحديث ولسان العرب، وبليغا في الترسيل والشعر. وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية. ثم عن ابنه السيد أبي زيد. ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية، ورجع عنه قبل أن يأخذ به. ثم كتب عن ابن مردنيش. ولمّا دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيّان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على رويّ السين يستصرخه، فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسى فوجدهم في هوّة الحصار، إلى أن تغلّب الطاغية على بلنسية. ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشّحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدّة. ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العبّاس الغسّاني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخطّ المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالردّ ووضعها استبدادا وأنفة، وعوتب على ذلك فاستشاط غضبا ورمى بالقلم وأنشد متمثّلا.
واطلب العزّ في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود
فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عدّ فيه من عوتب من الكتاب، واعتب. وسمّاه أعتاب الكتاب. واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة. ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس(6/418)
وأهل تونس، وكان في ابن الأبار أنفة وبأو [1] وضيق خلق، فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه، فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه.
وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت، وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته، ووصف أباه في عنوان مكتوبة بالمرحوم. ونبّه على ذلك فاستضحك وقال: إن أبا لا تعرف حياته من موته لأب خامل. ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرّها في نفسه، ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية. ثم رضي عنه واستقدمه ورجّعه إلى مكانه من المجلس. وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم، فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها، فاتّهم بتوقّع المكروه للدولة والتربّص بها كما كان أعداؤه يشنّعون عليه، لما كان ينظر في النجوم فتقبّض عليه. وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع، وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أوّلها:
طغى بتونس حلف سموه ظلما خليفة
فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه، ثم بقتله قعصا بالرماح، وسط محرم من سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه.
(الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله)
أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهديّة، مضمومة اللام مكسورة الثانية، وكان أبوه عاملا بالمهديّة، وبها نشأ ابنه أبو العبّاس. وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان. وتفقّه على أبي زكريّا البرقي، ثم طالع مذاهب الفلاسفة، ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية. ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلّص من نكبته، فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل
__________
[1] بأي، بأوا- عليهم: فخر، تكبر- قاموس.(6/419)
في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموال حتى قصر بهم وأديل منهم.
وكان الكثير منهم متعلّقا من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمّة خدمة، فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه، حتى سعوا به عند السلطان، وأنه يروم الثورة بالمهديّة، حتى خشن له باطن السلطان. فدخل عليه ذات يوم أبو العبّاس الغسّاني فاستجازه السلطان في قوله: «اليوم يوم المطر» فقال الغسّاني: «ويوم رفع الضرر» فتنبّه السلطان واستزاده فأنشد: «والعام تسعة كمثل عام الجوهري» فكانت إغراء باللياني، فأمر أن يتقبّض عليه وعلى عدوه ابن العطّار، وكان عاملا. وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذّبهما حتى استصفى أموالهما، والميل في ذلك على اللياني. وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله. ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلّيّة، وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقرّ عليه، فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله، ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه، ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى ان استنفدوا.
(الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة على يد الأمير أبي حفص)
كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلّب أبوه الأمير أبو زكريا عليه، وفتح تلمسان وأطاعه يغمراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب، وكانت مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان، وكانوا أهل بادية. وتقلّص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء. وكان أبو العبّاس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين، رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء، وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده. ونشأ ابنه أبو عليه علي من الخلال متهالكا في الرئاسة متبعا غواية الشبيبة، فلما رأى تقلّص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم، حدّثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم، وانبرى بها داعيا لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان فسرّح إليه أخاه الأمير أبا حفص، ومعه الأمير أبو زيد بن جامع، ودن الرنك أخو الفنش،(6/420)
وطبقات الجند. فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وستمائة وأغذّ السير إلى مليانة فنازلها مدة، وشد حصارها حتى اقتحموها غلابا. وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه الى المغرب الأقصى، إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد.
ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهّد نواحيها وعقد عليها الى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيما فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة. وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس، ولقيه بطريقة كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وإمارتها، فكره ذلك غبطة بجوار السلطان. وتردّدت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتيّ، وعقد له على بجاية. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكر بعد. وهلك شقيقه أبو بكر بن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى وستين وستمائة، فتفجّع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته، والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح)
كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة، وتحت جرايته، وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد. ولحق بالمغرب. وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا، وأوصى به ابنه إلى أن حدّثته نفسه بالتوثّب والخروج.
وخامرة الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء، سببها أن السلطان استحدث سكّة من النحاس مقدرة على قيمته من الفضة، حاكى بها سكّة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيرا لاقتضاء حاجاتهم. ولما كان لحق سكّة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها، وسمى سكّته التي استحدثها بالحندوس.
ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن، وفشا فيها الفساد. واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطّع وقتل، وصارت ريبة لمن تناولها.
وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقّعت الفتنة. وأشيع من طريق الحدثان الّذي تكلف به العامة أن الخارج الّذي(6/421)
يثير الفتنة هو أبو قاسم بن أبي زيد، فأزال السلطان تلك السكّة وعفا عليه، وأهمّه شأن أبي القاسم ابن عمه، وبلغه الخبر فخامره الرعب الى ما كان يحدّث نفسه من الخروج، ففرّ من الحضرة سنة إحدى وستين وستمائة، ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة، فبايع له وقام بأمره. ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله. ولما أحسّ أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلّموه إذا أزادهم السلطان عليها، تحوّل عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس، وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس. ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره. وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة. ثم رجع إلى تلمسان، وبها مات. وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره.
(الخبر عن خروج السلطان الى المسيلة)
لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد وفصاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم معه، خرج من تونس سنة أربع وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن، ومحو آثار الفساد منه، وتقويم العرب على الطاعة. وتنقّل في الجهات الى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها، وفرّ شبل بن موسى وقومه الدواودة الى القفر، واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح. ووافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجددا لطاعته، ومتبرّكا بزيارته، فتلقّاه من البرور تلقي أمثاله، وأثقل كاهله بالحباء والجوائز، وجنب له الجياد المقربات بالمراكب المثقلة بالذهب، واللجم المحلات. وضرب له الفساطيط الفسيحة الارجاء من ثياب الكتان وجدل القطن، الى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة. واقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب، وانقلب عنه الى وطنه.
ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره، ولثانية احتلاله في الحضرة كان مهلك مولاه هلال، ويعرف بالقائد،(6/422)
وكان له في الدولة مكان بمكان تلادا للسلطان، وكان شجاعا جوادا خيّرا محببا سهلا مقبلا على أهل العلم وذوي الحاجات، وله في سبل الخير آثار منقولة صار له بها ذكر، فارتمض السلطان لمهلكه، والله أعلم.
(الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة)
كان شبل بن موسى وقومه من الزواودة فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاغية، ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك، فبايعوا أوّلا للأمير أبي إسحاق كما ذكرناه، ثم بعده لأبي القاسم ابن عمّه أبي زيد، وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين وستمائة ودوّخ أوطانهم، ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبّلها، وطوى لهم على البتّ [1] . ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عبّاد عامل بجاية من مشيخة الموحّدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد، وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم ودباب وأفاريق بني هلال، وخرج من تونس سنة ست وستين وستمائة في عساكر الموحّدين وطبقات الجند، ووافاه بن عساكر ابن السلطان إخوة بني مسعود ابن السلطان من الزواودة فعقد لمهدي ابن عساكر عن إمارة قومه وغيرهم من رياح، وفرّ بنو مسعود ابن السلطان مصحرين والسلطان في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب، ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناسا للمراجعة على يده للدخلة في الساحة [2] ، فأشار عليهم بالوفادة على السلطان وفاء بقصده من ذلك، فتقبّلوا إشارته. ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى، وبنو عمّهما أولاد زيد بن مسعود: سباع بن يحيى بن دريد وابنه، وطلحة بن ميمون بن دريد، وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وأخوه، فتقبّض عليهم لحينهم، وعلى دريد ابن تازير من شيوخ كرفة. وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزوايا من جهات نقاوس حيث كانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: النثا ولا معنى لها هنا، والبت كما في القاموس بث الأمر: قطعه وأمضاه. وبث الوعد: أكد إنجازه. ولعلها: طوى لهم على الثناء.
[2] وفي نسخة أخرى: السابقة.(6/423)
بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد، وبعث برءوسهم إلى بسكرة فنصبها بها، وأغذّ السير غازيا إلى أحيائهم وأحلّهم [1] بمكانها من ثنايا الزاب.
وصحبهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية، فامتلأت أيدي وسدويكش منها، ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب، والعساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب وهو الوادي الّذي يخرج أصله من جبل راشد قبلة المغرب الأوسط ويمرّ إلى ناحية الشرق مجتازا بالزاب إلى أن يصبّ في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد.
فلمّا جاز فلّهم الوادي أصحروا إلى المفازات المعطشة والأرض الحرّة السوداء المستحجرة المسمّاة بالحمادة، فرجعت العساكر عنهم، وانقلب السلطان من غزاتة ظافرا، ظاهرا وأنشده الشعراء في التهنئة، ولحق فلّ الزواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيّان، وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق، فأجازوهم وأوسعوهم حباء وملئوا أيديهم بالصلات، ومرابطهم بالخيل، وأحياءهم بالإبل ورجعوا إلى مواطنهم فتغلّبوا على واركلة وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان. ثم انحرفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتّو وكان موطنا بمقرة، ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى بطاوة [2] فقتلوه عندها، واستطالوا على الزاب وجبل أوراس وبلاد الحصنة إلى أن اقتطعتهم الدول إيّاها من بعد ذلك، فصارت ملكا لهم، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن طاغية الافرنجة ومنازلته تونس في أهل نصرانيته)
هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة وتسمّيها العامة بالإفرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى إفرانسة، ونسبهم إلى يافث بن نوح، وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج القسنطينة، مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب. وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حللهم.
[2] وفي نسخة أخرى: قطاوة.(6/424)
الروم، ومنهم لقّنوا دينها. واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم وأجازوا البحر إلى إفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل سبيطلة وجلولا [1] وقرطاجنّة ومرناق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار وغلبوا على من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد.
ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار إفريقية، والعدوة الشرقية والجزر البحرية مثل أقريطش ومالطة وصقلّيّة وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم. ثم أجازوا خليج طنجة وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس، وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوّخها وعاثوا فيها.
ولم تزل الصوائف تتردّد إليها صدرا من دولة بني أميّة بالأندلس، وكان ولاة إفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضا يردّدون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية، ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن، فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها.
وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها. فلمّا وصل أمر الروم بالقسطنطينة ورومة، واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء، وكان ذلك على هيئة سموّ الخلافة بالمشرق.
فسموا حينئذ إلى التغلّب على معاقل الشام وثغوره، وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنو فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد، ونازلوا مصر والقاهرة مرارا حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنّة واقية، وعذابا على أهل الكفر مصبوبا، فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه، وطهّر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم، وهلك على حين غرّة من الغزو والجهاد. ثم عاودوا الكرّة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد الملك الصالح صاحب مصر والشام، وأيام الأمير أبي زكريا بتونس، فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلّبوا في قرى مصر. وهلك الملك الصالح خلال ذلك، وولي ابنه المعظّم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل، ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم، وقيد سلطانهم أسيرا
__________
[1] ورد في المقدمة ان المدن الحافلة التي كانت بالغرب أيام القرطاجنيين هي: سبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة. ومدينة جلولا تبعد عن القيروان أربعة وعشرين ميلا فتحها عبد الملك بن مروان في جيش معاوية بن حريج (المعجم التاريخي/ 23) .(6/425)
من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية، حتى مرّ عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكّنوا المسلمين من دمياط فوفّوا له. ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة، واعتزم على الحركة إلى تونس متجنّيا عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجّار أرضهم، وأنهم أقرضوا اللياني فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستندون إليه، فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهم فامتعض لهم ورغّبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان.
فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقّب بلغة الإفرنج روا فرنس ومعناه ملك إفرنس، فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها، وأرسل إلى القائد [1] خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته، وأطلق يده في أموال الكنائس مددا له. وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم، وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الإنكتار وملك اسكوسيا وملك نزول [2] وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج، هكذا ذكر ابن الأثير وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدّة، وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب، وانقبض تجّار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين. وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار رحاله ومشارطته على ما يكف عزمه. وحملوا ثمانين ألفا من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا، فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أنّ غزوة إلى أرضهم. فلما طلبوا المال اعتلّ عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر، فأحضر عند الفرنسيس واستجلس فأبى وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق من وزير نصيح [3]
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد نصارى المسيح
أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب ان الزمر بالطبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
__________
[1] هو بابا رومة.
[2] وفي نسخة أخرى: ملك تورك.
[3] وفي نسخة أخرى: من قؤول فصيح.(6/426)
وكل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح
سبعون ألفا لا يرى منهم ... إلّا قتيل أو أسير جريح
ألهمك الله إلى مثلها ... لعلّ عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيا ... فربّ غشّ قد أتى من نصيح [1]
فاتخذوه كاهنا إنه ... أنصح من شقّ لكم أو سطيح
وقل لهم إن أزمعوا عودة ... لأخذ ثار أو لشغل قبيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
يعني بدار ابن لقمان موضع اعتقاله بالإسكندرية والطواشي في عرف أهل مصر هو الخصي. فلما استكمل إنشاده لم يزد ذلك الطاغية إلا عتوّا واستكبارا، واعتذر عن نقض العهد في غزو تونس بما يسمع عنهم من المخالفات، عذرا دافعهم به، وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه. فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين وستمائة فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية. ثم وأعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له، والنفير إلى أقرب المدائن، وبعث الشواني لاستطلاع الخبر واستفهم أياما [2] .
ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنّة وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحّدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدّهم عنه، فأشار بعضهم بصدّهم حتى تنفد ذخيرتهم من الزاد والماء فيضطرون إلى الإقلاع. وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعدد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه، واستصعبت مغالبتهم عليه فوافق السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة.
ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس، وثلاثين ألفا من الرجّالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله قال: وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: إن يكن البابا بذا راضيا فربّ عسر قد أتى من نصيح.
[2] وفي نسخة أخرى: واستبهم أياما. وفي النسخة التونسية عبارة زائدة وهي: «ثم كان عينه فراره» وهذا المثل يضرب لمن يدل ظاهره على باطنه.(6/427)
وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وإخوة جرون [1] صاحب صقلّيّة وصاحب الجزر، والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة، وصاحب البر الكبير، وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكا ويعنون أنهم متباينون ظاهروا على غزو تونس وليس كذلك.
وإنما كان واحدا وهو طاغية الفرنجة وإخوته وبطارقته، عدّ كل واحد منهم ملكا لفضل قوّته وشدّة بأسه، فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة. وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها، ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضّدوا شرفاتها وأداروا على السور خندقا بعيد المهوى وتحصّنوا. وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها. وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلّيّة والعدوة بالرجل والأصلحة والأقوات.
وسلك بعض المسلمين طريقا في البحيرة واتبعهم العرب فأصابوا غرّة في العدوّ فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم، فكلّفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم، وبعث السلطان في ممالكه حاشدا فوافته الأمداد من كل ناحية، ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوّارة حتى أمدّه ملوك المغرب من زناتة، وسرّح إليه محمد بن عبد القوى عسكر بني توجين لنظر ابنه زيّان وأخرج السلطان أبنيته [2] وعقد لسبعة من الموحّدين على سائر الجند من المرتزقة والمطوّعة وهم: إسماعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو، وأمرهم كلّهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم.
واجتمع من المسلمين عدد لا يحصى، وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوائه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم:
الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود، وابن أبي الحسين، وقاضيه أبو القاسم بن البراء، وأخو العيش. واتصلت الحرب والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف، فزحف يومئذ يحيى بن صالح وجرون فمات من الفريقين خلق، وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده، ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: جرول.
[2] لا معنى لهذه الجملة وربما تكون: وخرج السلطان من أبنيته، أو أخرج السلطان من في.(6/428)
خمسمائة، فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت. وأمر بالخندق على المعسكر فتعاورته الأيدي، واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه، وابتلي المسلمون بتونس، وظنّوا الظنون واتّهم السلطان بالتحوّل عن تونس إلى القيروان.
ثم إنّ الله أهلك عدوّهم وأصبح ملك الفرنجة ميتا يقال حتف أنفه، ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف فأبته [1] ويقال أصابه مرض الوباء، ويقال وهو بعيد أنّ السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه. ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه، واعتزموا على الإقلاع. وكان أمرهم راجعا إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم، وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم.
وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأوّل سنة تسع وستين وستمائة فتولّى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاما. وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوى أمير بني توجين، واختصّ جرون صاحب صقلّيّة بسلم عقده على جزيرته. وأقلع النصارى بأساطيلهم وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا منه على العطب، وهلك الكثير منهم وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية. يقال إنه عشرة أحمال من المال وترك النصارى بقرطاجنّة تسعين منجنيقا. وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح، وأمر بتخريب قرطاجنّة وأن يؤتي بنيانها من القواعد، فصيّر أبنيتها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات.
واستبدّ صاحب صقلّيّة لنفسه، وكذا صاحب نايل وجنوده وسردانية، وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: فأثبته بمعنى أماته.(6/429)
(الخبر عن مهلك رئيس الدولة أبي عبد الله بن أبي الحسين وأبي سعيد العود الرطب)
أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة، وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحّدين بالعدوتين، وكان جدّه أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان. ونشأ حافده محمد هذا في كفالته. ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيده. ولمّا ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه. ثم جاء السيد أبو علي من مراكش وعلى إفريقية محمد ابن أبي الحسين في جملته إلى أن هلك في حصار هسكورة بمراكش كما قدّمناه ورجع ابن أبي الحسين إلى تونس واتصل بالأمير أبي زكريا لأوّل استبداده فغلب على هواه، وكان مبختا في صحابة الملوك. ولمّا ولي المستنصر أجراه على سنته برهة.
ثم تنكر له إثر كائنة اللحياني، وعظمت سعاية أعدائه من الباطنية [1] وأشاعوا مداخلته لأبي القاسم بن عزومة [2] أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان واعتقله بدارة تسعة أشهر. ثم سرّحه وأعاده إلى مكانه وثأر من أعدائه، واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وستمائة وكلّف ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن أشغال الحضرة، وكان قد اقتنى مالا جسيما ونال من الحضرة منالا عظيما. وكان الرئيس أبو عبد الله متفنّنا في العلوم مجيدا في اللغة والشعر ينظم فيجيد وينثر فيحسن [3] ، وله من التآليف: كتاب ترتيب المحكم لابن سيده على نسق الصحاح للجوهري واختصاره، وسمّاه الخلاصة. وكان في رياسته صليب الرأي قوى الشكيمة عالي المهمة، شديد المراقبة والحزم في الخدمة، وله شعر نقل منه التيجاني وغيره، ومن أشهره ما نقل له يخاطب عنّان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية، وهي على روي الراء، وكان قبلها أخرى على روي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: البطانة وهي الأصح.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن محذومه.
[3] وفي نسخة أخرى: يقرض الشعر فيحسن، ويرسل فيجيد.(6/430)
الدال. وكان له ولد اسمه سعيد وترقّى في حياة أبيه في المراتب السلطانية. ثم اغتبط دون غايته وفي ثالث مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاني المعروف بالعود الرطب، ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد. وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فرّ من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته، ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين وقد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي، وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس، ونزل على الأمير أبي زكريا ونظّمه في طبقات مشيخة الموحّدين وأهل مجلسه. ثم حظي عند ابنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا كفاء لها. واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة فشيع طيّب الذكر ملحقا بالرضوان من الخاصة والعامة، والله مالك الأمور.
(الخبر عن انتقاض أهل الجزائر وفتحها)
كان أهل الجزائر لما رأوا تقلّص ظلّ الدولة عن زناتة وأهل المغرب الأوسط حدّثوا أنفسهم بالاستبداد والقيام على أمرهم، وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان. وسرّح السلطان إليهم العساكر سنة تسع وستين وستمائة وأوعز إلى صاحب القفر صاحبه وهو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاتي فقدم إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى وسبعين وستمائة ونازلها مدّة حول، وامتنعت عليه فأقلع عنها ورجع إلى بجاية، وهلك بمعسكر ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع وسبعين وستمائة وسرّح إليهم العساكر في البر وأنفذ الأساطيل في البحر وعقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين وأوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فأنفذه لنظر أبي العبّاس بن أبي الأعلام، ونهضت هذه العساكر برا وبحرا إلى أن نازلتها وأحاطت بها من كل جانب، واشتدّ حصارها. ثم افتتحها عنوة وأثخن فيهم القتل وانتهبت المنازل وافتضح الكرائم في أبكارهنّ. وتقبّض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس وصفدين، واعتقلوا بالقصبة إلى أن سرّحهم الواثق بعد مهلك السلطان والله تعالى أعلم
.(6/431)
(الخبر عن مهلك السلطان المستنصر ووصف شيء من أحواله)
كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد وتفقد العمالات، فأصابه في سفره مرض ورجع إلى داره، واشتدّت علّته وكثر الإرجاف بموته، وخرج يوم الأضحى سنة خمس وخمسين وستمائة يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض [1] وجلس للناس على منبر متجلدا. ثم دخل بيته وهلك لليلته تلك رضوان الله عليه، وكان شأن هذا السلطان في ملوك آل حفص عظيما. وشهرته طائرة الذكر بما انفسح من أمر سلطانه، ومدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به.
وما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على ابنه وخصوصا الأندلس من شاعر مفلق وكاتب بليغ وعالم نحرير وملك أورع وشجاع أهيش متفيئين ظلّ ملكة متناغين في اللياذ به لطموس معالم الخلافة شرقا، وغربا على عهده، وخفوت صوت الملك إلّا في إيوانه [2] .
فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها، فأخذت قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وبلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعدها وإشبيليّة سنة ست وأربعين وستمائة، واستولى التتر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق وحاضرة الإسلام سنة ست وخمسين وستمائة، وانتزع بنو مرين ملك بني عبد المؤمن، واشتملوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان وستين وستمائة، كل ذلك على عهده وعهد أبيه ودولتهم أشدّ ما كانت قوّة وأعظم رفاهية وجباية وأوفر قبيلا وعصابة، وأكثر عساكر وجندا، فأمّله أهل العلم للكرّة، وأجفلوا إلى الإمساك بحقويه. وكان له في الأبّهة والجلال أخبار، وفي الحروب والفتوح آثار مشهودة، وفي أيامه عظمت حضارة تونس، وكثر ترف ساكنها. وتأنّق الناس في المراكب والملابس والمباني
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ورجلاه لا يخطّان الأرض «وهي أصح» .
[2] بعد وفاة أبو زكريا سنة 647 هـ 1249 م تولى ابنه المستنصر الحكم الّذي ازدادت في عهده الدولة قوة ومهابة والرعية رفاهية وهناء، لكنه كان شديد البطش غير متوقف في سفك الدماء، ومن ضحاياه الكاتب الكبير أبو عبد الله بن الأبار القضاعي صاحب المؤلفات الأدبية النفيسة. (قبائل المغرب ص 170) .(6/432)
والماعون والآنية، فاستجادوا وتناغوا في اتخاذها وانتقائها إلى أن بلغت غايتها رجعت من بعده أدراجها، والله مالك الأمور ومصرّفها كيف يشاء.
(الخبر عن بيعة الواثق يحيى بن المستنصر وهو المشهور بالمخلوع وذكر أحواله)
لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة كما قدّمناه، اجتمع الموحّدون وسائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى، فبايعوه ليله مهلك أبيه، وفي غدها وتلقّب الواثق. وافتتح أمره برفع المظالم وتسريح أهل السجون وافاضة العطاء في الجند وأهل الديوان، وإصلاح المساجد، وإزالة كثير من الوظائف عن الناس. وامتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم، وأطلق عيسى بن داود من اعتقاله وردّه إلى حاله. وكان المتولّي لأخذ البيعة عن الناس والقائم بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة ورسوخه في الشهرة، فقام بالأمر ولم يزل على ذلك إلى أن نكبه وأدال منه بالحببّر والله أعلم.
(الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين واستبداد ابن الحببر على الدولة)
هذا الرجل اسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي وكنيته أبو الحسن أندلسيّا من أعمال مرسية، وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو، وكان يحسن الكتابة ولم يكن له من الخلال سواها، فصرف في الأعمال، ثم ارتقى إلى خدمة أبي الحسين فاستكتبه، ثم رقّاه إلى ولاية الديوان فعظمت حالته، وكانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان، واعتدّها له سابقة. فلما استوثق الأمر للواثق رفع منزلته واختصّه بالشورى، وقلّده كتاب علامته. وكان سعيد بن أبي الحسين مزاحما له؟ منافسا لما كان أسف من تقديمه. فأغرى به السلطان ورغّبه في ماله فتقبّض على أبي سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست وسبعين وستمائة واعتقل(6/433)
بالقصبة. واستقل على معلة [1] ابن ياسين وابن صياد الرجّالة وغيرهم. وقدم على الأشغال مدافعا في الموالي المعلوجين. ووكّل أبا زيد بن أبي الأعلام من الموحّدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال وامتحانه.
ولم يزل يستخرج منه حتى ادّعى الاملاق واستحلف فخلف. ثم ضرب فادعى مؤتمنا من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدّوه. ثم دلّ بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منه زهاء ستمائة ألف من الدنانير، فلم يقبل بعدها مقاله، وبسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته، ودفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه.
واستبدّ أبو الحسن الحببّر على الدولة والسلطان، وبعث أخاه أبا العلاء واليا على بجاية، وأسف المشيخة والبطانة بعتوّه واستبداده وما يتجشمونه من مكابرة بابه إلى أن عاد وبال ذلك على الدولة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحاق من الأندلس ودخول أهل بجاية في طاعته)
كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين وستمائة لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي، وأدال به من أخيه الأمير أبي حفص، فأقام واليا عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة كما قدّمنا وعقد عليها من بعده لابنه محمد، وكان له غناء في ولايته واضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر وولي ابنه الواثق، فبادر إلى انقياد [2] طاعته، وبعث وفد بجاية ببيعتهم. ثم قلّد أبو الحسن القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية، فقام بها وأفنى الأموال وتحكّم في المشيخة. وأنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه فهمّ إدريس بنكبته، فخشي محمد بن أبي هلال بادرته وداخل بعض بطانته في قتله. وفاوض الملأ فيه فعدوا عليه لأوّل ذي القعدة سنة سبع وسبعين وستمائة بمقعده من باب السلطان فقتلوه ورموا برأسه إلى الغوغاء والزعانف فبعثوا به.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وتقبّض على نقله. ومقتضى السياق واستقلّ بنقله ابن ياسين وابن صيّاد.
[2] وفي نسخة أخرى: إيتاء.(6/434)
ووافق ذلك حلول السلطان أبي إسحاق بتلمسان، وكان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر أجمع أمره على الإجازة لطلب حقّه بعد ما تردّد برهة. ثم اعتزم وعاد إلى تلمسان، ونزل على يغمراسن بن زيّان فقام لمورده، واحتفل في مبرّته، وفعل أهل بجاية وابن أبي هلال فعلتهم وخشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطب السلطان أبا إسحاق وأتوه ببيعتهم، وبعثوا وفدهم يستحثّونه للملك، فأجابهم ودخل إليها آخر ذي القعدة من سنته، فبايعه الموحّدون والملأ من أهل بجاية. وقام بأمره محمد بن هلال. ثم زحف في عساكره إلى قسنطينة فنازلها، وبها عبد العزيز بن عيسى بن داود، فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره.
(الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق ثم دخوله في طاعته وخلع الواثق)
لما بلغ الخبر إلى الواثق ووزيره المستبدّ عليه ابن الحببّر بدخول السلطان أبي إسحاق بجاية، شيّع العساكر إلى حربه، وعقد عليها لعمّه أبي حفص. واستوزر له أبا زيد بن جامع، فخرج من تونس واضطرب معسكره بجباية. وعقد الواثق على قسنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمّة صهر كانت له من ابن الحببّر، فتقدّم إلى قسنطينة، ومانع عنها الأمير أبا إسحاق كما ذكرناه. ثم اضطرب رأي ابن الجيد في خروج الأمير أبي حفص، وأراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه، فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحاق، وبعثوا إليه بذلك. واتصل الخبر بالواثق وهو بتونس منتبذا عن الحامية والبطانة. فاستيقن ذهاب ملكه، وأشهد الملأ، وانخلع عن الأمر لعمّه السلطان أبي إسحاق غرّة ربيع الأوّل من سنة ثمان وسبعين وستمائة وتحوّل عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقورى وانقرضت دولته وأمره، والبقاء للَّه وحده
.(6/435)
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على الحضرة)
لما بلغ السلطان أبا إسحاق كتاب أخيه الأمير أبي حفص وابن جامع من بجاية، يادر مغذّا إليهم. ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس، فارتحلوا جميعا وسائر أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه، وآتوا طاعتهم ودخل الحضرة منتصف الحجة آخر سنة ثمان وسبعين وستمائة ومحمد بن هلال شيخ دولته. وعقد على حجابته لأبي القاسم بن الشيخ كاتب أبي الحسين، وعلى خطة الأشغال لابن أبي بكر بن الحسن ابن خلدون [1] . كان وفد مع أبيه الحسن على الأمير أبي زكريا من إشبيليّة لذمّة رعاها لهم، لما كانت أمّ ولده أمّ الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكريا محلهم.
ورحل الحسن إلى المشرق ومات هنالك، وبقي ابنه أبو بكر بالحضرة فاستعمله الأمير أبو إسحاق لأوّل دخوله في خطة الأشغال، ولم يكن يليها إلا الموحّدون كما قلناه.
وعقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب، ولم يكن أيضا يليها إلا الموحّدون. لكن رعى لفضل بن مزني ذمّة اغترابه معه إلى الأندلس، فعقد له على الزاب، ولأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية. ثم تقبّض على أبي الحببّر وأمر باعتقاله ودفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصادرة والامتحان. ووجد مكان التمائم عليه طوابع وطلسمات مختلفة الأشكال والصور، وتسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به وبالها.
وكان شأنه في الامتحان والاستحلاف والهلاك بالعذاب شأن سعيد بن أبي الحسين أيام صولته [2] ، إلى أن هلك في شهر جمادى الأولى من سنته، والله لا يظلم مثقال ذرة.
ولما اعتقد السلطان أبو إسحاق كرسيّ ملكه، واستوثق عرى خلافته، تقبّض على محمد بن أبي هلال وقتله بجرّ [3] نكبته سنة ست وسبعين وستمائة لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة وما عرف به من المساعي في الفتنة والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وعلى خطة الأشغال لابن أبي الحسن بن خلدون.
[2] وفي نسخة أخرى: شأن سعيد بن أبي الحسن منكوبه أيام دولته.
[3] وفي نسخة أخرى: لحين.(6/436)
(الخبر عن مقتل الواثق وولده)
لما انخلع الواثق عن الأمر وتحوّل إلى دار الأقوري فأقام بها أياما. وكان له ثلاثة من الولد أصاغر: الفضل والطاهر، والطيب، فكانوا معه. ثم نمي عنه للسلطان أبي إسحاق أنه يروم الثورة وأنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى من الجند، فأقلق مكان ترشيحه واعتقله بمكان اعتقال بنيه، وهو من القصبة أيام أخيه المستنصر. ثم بعث إليهم ليلتهم فذبحوا جميعا في شهر صفر سنة تسع وسبعين وستمائة واستوثق له الأمر وأطلق من عنان الإمارة لولده إلى أن كان من شأنهم ما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس ابن السلطان أبي إسحاق على بجاية بعهد أبيه والسبب في ذلك)
كان للسلطان أبي إسحاق من الأبناء خمسة: أبو فارس عبد العزيز وكان أكبرهم، وأبو محمد عبد الواحد، وأبو زكريا يحيى، وخالد، وعمر، وكان السلطان المستنصر قد حبسهم عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه ببعض حجر القصر، وأجرى عليهم رزقا فنشئوا في ظل كفالته وجميم رزقه، إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحاق على الملك فطلعوا بآفاقه. وطالت فروعهم في دوحه، واشتملوا على العز واصطنعوا أهل السوابق من الرجال، وأرخى السلطان لهم ظلهم في ذلك. وكان المجلّي فيها كبيرهم أبو فارس لما كان مرشّحا لولاية العهد، وكان ممن اصطنعه وألقى عليه رداء محبته في الناس وعنايته أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري، وأخوه أبو الحسين لسابقة رعاها لهما، وذلك أنّ أباهما أبا بكر بن سيد الناس، كان من بيوت إشبيليّة حافظا للحديث راوية له، ظاهريّا في فقهه على مذهب داود وأصحابه. وكانت لأهل إشبيليّة خصوصا من بين الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غرب الأندلس.(6/437)
فلمّا تكالب الطاغية على الدولة [1] والتهم ثغورها واكتسح بسائطها، وأشفّ إلى قواعدها وأمصارها، أجاز الأعلام وأهل البيوت إلى أرض المغربين وإفريقية. وكان قصدهم إلى تونس أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها. فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصايرها، وخفّة ساكنها، أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء. فأجاز البحر ونزل بتونس فلقاه السلطان تكرمه، وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهواء التي أنشأتها [2] أمّه أمّ الخلائف.
ونشأ بنوه أحمد وأبو الحسين في جوّ الدولة وحجر كفالتها للاختصاص الّذي كان لأبيهم بها. وعدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا، وتشوّقوا إلى مراتب السلطان، واتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحاق بمكانهم من حجر القصر حيث أنزلهم عمهم بعد ذهاب أبيهم، فخالطوهم واستخدموا لهم. ولما استولى السلطان على الأمر ورشّح ابنه أبا فارس للعهد، وأجراه على سنن الوزارة فاصطنع أحمد بن سيّد الناس، ونوّه باسمه وخلع عليه ملبوس كرامته. واختصه بلقب حجابته، وأخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنوة. ونفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا إسحاق بابنه وخوّفوه شأنه. وأن أحمد بن سيّد الناس داخله في التوثّب بالدولة. وتولّى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قائد الكلاعي من علية الكتاب ووجوههم. كان يكتب للعامّة يومئذ، فسطا السلطان بابن سيّد الناس سنة تسع وستين وستمائة آخر ربيع، استدعى إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبرا. ووري شلوه ببعض الحفر. وبلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس الحزن، فعزّاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيّد الناس على المكر والخديعة بالدولة. وأماط سواده بيده، ونجا أبو الحسين من هذه المهلكة. واعتقل في لمة من رجال الأمير أبي فارس بعد أن توارى أياما إلى أن أطلق من محبسه، وكان من أمره ما نذكره بعد. واستبلغ السلطان في تأنيس ابنه، ومسح الضغينة عن صدره، فعقد له على بجاية وأعمالها، وأنفذه إليها أميرا مستقلا. وأنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: العدوة.
[2] وفي نسخة أخرى: أسستها.(6/438)
الحسن بن خلدون، فخرج إليها سنة تسع وستين وستمائة وقام بأمرها، ولم يزل أميرا بها إلى آخر دولته كما نذكر والله أعلم.
(الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسنطينة ومقتله)
اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى، ونسبته في كوميه من بيوت الموحدين.
كان مستخدما لابن كلداسن الوالي بقسنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المستنصر. ووفد ابن كلداسن على الحضرة، وأقام ابن وزير نائبا عنه بقسنطينة، فكان له غناء وصداقة [1] . وولاه السلطان أبو إسحاق حافظا على قسنطينة. واتصلت ولايته، وهلك المستنصر واضطربت الأحوال. ثم ولّاه الواثق، ثم السلطان أبو إسحاق وكان ابن وزير هذا طموحا جموعا لأموال [2] الناس لا يمل.
وعلم أن قسنطينة معقل ذلك القطر وحصنه فحدّثته نفسه بالامتناع بها، والاستبداد على الدولة. وساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي إسحاق، واستعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل الحرابة من الطاغية [3] . وكتب هو بالاعتذار والنكير لما جاء به، فتقبّله وأغضى له عن هناته. ولما مرّ به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسع وسبعين وستمائة قعد عن لقائه وأوفد إليه جمعا من الصلحاء بالمعاذير والاستعطاف، فمنحه من ذلك كفاء مرضاته، حتى إذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية، اعتزم على الانتزاء. وكاتب ملك أرغون في جيش من النصارى يكون معهم في ثغره يردّد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعية له فأجابه ووعده ببعث الأسطول إليه، فجاهر بالخلعان، وانتزى بثغر. قسنطينة داعيا لنفسه آخر سنة ثمانين وستمائة.
وزحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في عساكره، واحتشد الأعراب وفرسان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فكان له غنا وصرامة.
[2] وفي نسخة ثانية: طموحا جموح الأمل.
[3] وفي نسخة ثانية: من مخايل انحرافه عن الطاعة.(6/439)
القبائل إلى أن احتل بميلة. ووفد عليه من أهل قسنطينة جمع من الرعية [1] بعثهم ابن وزير فأعرض عنهم، وقصد قسنطينة في أوّل ربيع سنة إحدى وثمانين وستمائة فثار بها وجمع الأيدي على حصارها. ونصب المجانيق وقرّب قواعد الرماة، وقاتلها يوما أو بعض يوم، وتسوّر عليهم المعقل من بعض جهاته. وكان المتولي لتسوّره صاحبه محمد ابن أبي بكر بن خلدون، وأبلى بن وزير عند الصدمة حتى أحيط به، وقتل هو وأخوه وأشياعهما، ونصبت رءوسهم بسور البلد. وتمشّى الأمير في سكك البلد مسكّنا ومؤنسا، وأمر برمّ ما تثلّم من الأسوار وبإصلاح القناطر. ودخل إلى القصر وبعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة. وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير، فأخفق مسعاهم، وارتحل الأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية، فدخلها آخر ربيع من سنته، والله أعلم.
(الخبر عن قيادة ابن السلطان العساكر إلى الجهاد)
كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكه، ويوليهم خطط سلطانه شغفا بهم وترشيحا لهم، فعقد في رجب سنة إحدى وثمانين لابنه الأمير زكريا على عسكر من الموحدين والجند، وبعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها. وضمّ جبايتها [2] فخرج إليها وقضى شأنه من حركته، وانصرف إلى تونس في رمضان من سنته. ثم عقد لابنه الآخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره، وأنفذه إلى وطن هوّارة لانقضاء مغارمهم وجباية ضرائبهم وفرائضهم، وبعث معه عبد الوهاب بن قائد الكلاعي مباشرا لذلك وواسطة بينه وبين الناس، فانتهى إلى القيروان، وبلغه شأن الدعي وظهوره في دباب بنواحي طرابلس، فطيّر بالخبر إلى السلطان وأقبل على شأنه. ثم انتشر أمر الدعي وانكفأ راجعا إلى تونس، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بمكر من الرغبة والتوسل.
[2] وفي نسخة ثانية: مجابيها.(6/440)
(الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن)
كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه، ونزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان، فاحتفل لقدومه وأركب الناس للقائه، وأتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر، ووعده النصرة من عدوّه والمؤازرة على أمره، وأصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفا خطبه منه، فأولاه إسعافا به [1] . ولما استولى السلطان على حضرته واستبدّ بأحوال ملكه بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنّى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد، فاعتمد السلطان مبرّتهم وأسعف طلبتهم، وأقاموا بالحضرة أياما، وظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات، وانصرفوا بظعينتهم سنة إحدى وثمانين وستمائة مجبورين محبورين. وابتغى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم ومفاخر دولتهم، وذكرا لهم ولقومهم إلى آخر الأيام.
(الخبر عن ظهور الدعي أبي عمارة وما وقع من الغريب في أمره)
كان أحمد بن مرزوق أبو عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة، نشأ ببجاية وسيما محترفا بصناعة الخياطة غرّا غمرا. وكان يحدّث نفسه بالملك لما كان يزعم أن العارفين يخبرونه بذلك. وكان هو يخط فيريه خطه ذلك. ثم اغترب عن بلده ولحق بصحراء سجلماسة واختلط بعرب المعقل وانتمى إلى أهل البيت، وادّعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار، وانه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة، فاشتملوا عليه وحدّثوا بشأنه أياما. أخبرني طلحة بن مظفّر من شيوخ العماريّة إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره بالمعقل ملتبسا بتلك الدعوى حتى فضحه العجز. ثم لمّا زهدوا فيه لعجز مدّعاه ذهب يتقلّب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس، ونزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فولّاه الإسعاف به.(6/441)
على دباب وصحب منهم الفتى نصيرا مولى الواثق بن المستنصر، ويلقّب بري [1] ولما رآه تبين فيه شبها من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي ويقبّل قدميه، فقال له ابن أبي عمارة: ما شأنك؟ فقصّ عليه الخبر، فقال: صدقتني في هذه الدعوى وأنا أثئرك من قاتلهم.
وأقبل نصير على أمراء العرب مناديا بالسرور بابن مولاه، حتى خيّل عليهم. ثم نزل بادس إلى ابن أبي عمارة من محاورات وقعت بين العرب وبين الواثق، قصّها عليهم ابن أبي عمارة نفيا للريب بأمره، فصدّقوا واطمأنّوا، وأتوه ببيعتهم. وقام بأمره صرغم [2] بن صابر بن عسكر أمير دياب وجمع له العرب ونازلوا طرابلس، وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي وشهر بعنق الفضة، فامتنعت عليهم، ورحلوا إلى بحر بين [3] الموطنين بزيزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم. ثم سار في تلك النواحي واستوفى جباية لماية وزواوة وزواغة، وأغرم نفوسة وغريان ونفزة من بطون هوارة وضائع ألزمهم إيّاها واستوفاها. ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة وأعطاه صفقته طواعية، وفاه بحق آبائه فيما طوّقوه وذريعة إلى الاستقلال الّذي كان يؤمّله، وأعلن بخلافته ونادى بقومه واستخدم له بني كعب بن سليم ورياستهم في بني شيخة [4] لعبد الرحمن بن شيخة، فأجابوا داعيه وأنابوا إلى خدمته، وتوافت إليه بيعة أهل حزبه والحامية [5] وقرى نفزاوة. ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه. ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها، وعظم أمره وعلا صيته. فجهز إليه السلطان أبو إسحاق العساكر من تونس كما نذكره. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انفضاض عساكر السلطان وتقويضه عن تونس)
لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس، ودخل الكثير من أهل الأنصار في طاعته،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وتلقّب نوبى.
[2] وفي نسخة أخرى: مرعم.
[3] وفي نسخة أخرى: ورحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور.
[4] وفي نسخة أخرى: بني شيحة.
[5] وفي نسخة أخرى: بيعة أهل جربه والحامه وقرى نفزاوة.(6/442)
جهّز السلطان عساكره وعقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه، فخرج من تونس ونزل القيروان، واقتضى منها غرائم ووضائع استأثر منها بأموال. ثم ارتحل إلى لقاء الدعي وانتهى إلى تموده، وبلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة فأرجف به العسكر وانفضّوا من حوله، ورجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته، وارتحل الدعي على أثره من قفصة واحتل بالقيروان، فبايع له أهلها واقتدى به أهل المهديّة وصفاقس وسوسة فبايعوا له، وكثر الإرجاف بتونس، فاضطرب السلطان وأخرج معسكره بظاهر البلد في وسط شوّال. وضرب الغزو على الناس واستكثر من العدد، وخرج إلى معسكره بالمهديّة وتلوّم بها لإزاحة العلل.
وارتحل الدعي من القيروان زاحفا إليه فتسرّبت إليه طبقات الجنود ومشيخة الموحّدين، رضي الله عنهم بمكانه وطاغية [1] بني المستنصر خليفتهم الطويل أمدّ الولاية عليهم، ورحمة لما نال الواثق وأبناءه من عملهم [2] ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحّدين، ولحق الدعي بطريقة، فاحتل أمر السلطان وانتقضت عرى ملكه، وفرّ إلى بجاية كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن لحاق السلطان أبي إسحاق بجاية ودخول الدعي بن أبي عمارة الى تونس وما كان من أمره بها)
لما انفض معسكر السلطان أبي إسحاق آخر شوّال من سنة إحدى وثمانين وستمائة ركب في خاصّته وبعض جنوده ذاهبا إلى بجاية، ومرّ بتونس فوقف عندها ثم احتمل أهله وولده وسار في كلب البرد، فكان يعاني من قلّة الأقوات وتعاور المطر والثلج شدّة.
وكان يصانع القبائل في طريقه سلما له [3] . ثم مرّ بقسنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن توفيان [4] الهرغي من دخولها وقرّب إليه بعض القرى من الأقوات، وارتحل إلى بجاية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: رضي بمكانه وصاغية الى بني المستنصر.
[2] وفي نسخة ثانية: عمّهم.
[3] وفي نسخة ثانية: يبذل ماله.
[4] وفي نسخة ثانية: عبد الله بن يوقيان الهرغي.(6/443)
وكان من أمره ما يذكر. ودخل الدعي بن أبي عمارة إلى الحضرة، وقلد موسى بن ياسين وزارته، وأبا القاسم أحمد بن الشيخ حجابته، وتقبّض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه وصادره على مال امتحنه عليه. ثم قتله خنقا، وصرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئيس قابس. واستكمل ألقاب الملك، وقسّم الخطط بين رجال الدولة، وصرف همّه إلى غزو بجاية، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه)
لما وصل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية في شهر ذي القعدة من سنته طريدا عن ملكه غافلا عن كرسي [1] سلطانه، انتقض عليه ابنه الأمير أبو فارس ومنعه من الدخول إلى قصره، فنزل بروض الرفيع، وأراده على الخلع فانخلع له. وأشهد الملأ من الموحّدين ومشيخة بجاية بذلك، وأنزله قصر الكوكب ودعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة، فبايعوه وتلقّب المعتمد على الله. ونادى في أوليائه من رياح وسدويكش.
وخرج من بجاية زاحفا إلى الدعيّ، واستخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا. وخرج معه الأمير أبو حفص وأخواه، فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن زحف الأمير أبي افرس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه واستلحامه وإخوته في المعركة وما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي إسحاق وفرار أخيهم الأمير أبي زكريا الى تلمسان)
لما بلغ الخبر إلى الدعيّ باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه واستعداده للقائه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حلى.(6/444)
تقبّض على أهل البيت الحفصي، فاعتقلهم بعد أن همّ بقتلهم. وخرج من تونس في عساكر من الموحّدين وطبقاتهم الجند في صفر اثنتين وثمانين وستمائة فانتهى إلى مر ماجنّة، وتراءى الجمعان ثالث ربيع الأوّل فاقتتلوا عامّة يومهم. ثم اختلّ مصاف الأمير أبي فارس، وتخاذل أنصاره فقتل في المعركة، وانتهب معسكره وقتل إخوته صبرا: عبد الواحد قتله الدعي بيده، وعمر وخالد وأبو محمد بن عبد الواحد وبعث برءوسهم إلى تونس فطيف بها على الرماح ونصبت بأسوار البلد. وتخلّص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر.
وبلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض، وخرج السلطان أبو إسحاق وابنه الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، فقدّم أهل بجاية عليهم محمد بن السيد قائما فيهم بطاعة الدعيّ، وخرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة، فتقبّض عليه، ونجا الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، وبقي السلطان أبو إسحاق ببجاية معتقلا ريثما بلغ الخبر إلى تونس، وأرسل الدعيّ محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة وانقضى أمره وللَّه عاقبة الأمور، لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
(الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص وبيعته وما كان على أثر ذلك من الأحداث)
قد ذكرنا أنّ الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعيّ بمرماجنّة، فخلص من المعركة راجلا، ونجا إلى قلعة سنان معقل هوّارة القريب من مكان الملحمة، ولاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم: أبو الحسين بن أبي بكر بن سيّد الناس، ومحمد بن القاسم بن إدريس الفازازي، ومحمد بن أبي بكر بن خلدون، وهو جدّ المؤلف الأقرب. وربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال. ولما نجا إلى قلعة سنان تحدّث به الناس وشاع خبر منجاته إليها. وكان الدعيّ قد أشف العرب وثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم، فليوم دخوله شكا إليه الناس(6/445)
عيثهم فتقبّض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم. ثم سرّح شيخ الموحّدين عبد الحق تافراكين لحسن عللهم وأوعز إليه بالإثخان فيهم. فاستلحم من لقي منهم. ثم تقبّض على مشايخ بني علاق وأودع سجونه منهم نحوا من الثمانين [1] ، فساء أثره فيهم وتطلّبوا أعياص البيت، وتسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان، فرحلوا إليه وأتوه ببيعتهم في ربيع سنة ثلاث وثمانين وستمائة وجمعوا له شيئا من الآلة والأخبية، وقام بأمره أبو ليل بن أحمد أميرهم. وبلغ الخبر إلى الدعيّ فداخلته الظنّة في أهل دولته. وتقبّض على أبي عمران بن ياسين شيخ دولته، وعلى أبي الحسن بن ياسين وابن وانودين، وعلى الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم واستصفى أموالهم. ثم قتلهم آخرا وتوجّع لهم الناس واضطرب أمر الدعيّ إلى أن كان ما نذكره انتهى.
(الخبر عن خروج الدعي ورجوعه واستيلاء السلطان أبي حفص على ملكه وغلبه ومهلكه)
لما ظهر السلطان أبو حفص وبايعه العرب تسامع به أهل الحضرة واجتمع إليه الناس وأوقع الدعيّ بأهل الدولة فمقتوه، وخرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل العسكر ورجع منهزما، ودخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص ونهض إلى تونس فنزل بسحوم قريبا منها. وعسكر الدعيّ بظاهر البلد تجاهه وطالت بينهما الحرب أياما والناس كل يوم يستوضحون خبء الدعيّ ومكره إلى أن تبرّؤا منه وأسلموه، ورحل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء، ودخل السلطان البلد في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة واستولى على سرير ملكه، وطهّر من الدنس قاصية ودانية [2] ، واختفى الدعيّ بتونس وغاص في لجّة ساكنيها وأحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدور بعض السوقة يعرف بأبي قاسم القرمادي فهدمت لحينها. وثلّ إلى السلطان فأحضر له الملأ، ووبّخه وساء له فاعترف بإدعائه في نسبهم فأمر بامتحانه وقتله. وذهب في غير سبيل مرحمة، وطيف بشلوه ونصب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نيفا على ثمانين
[2] وفي نسخة أخرى: وطهّره من دنس فاضحه ودعيّه.(6/446)
رأسه. وكان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله، وكان خبره من المثلات. واستبدّ السلطان بملكه وتلقّب المستنصر باللَّه، وبادر الناس إلى الدخول في طاعته. وبعث أهل القاصية ببيعتهم من طرابلس وتلمسان وما بينهما. وعقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عساكره على الحروب والضاحية، وأقطع البلاد والمغارم للعرب رعيا لذمّة قيامهم بأمره، ولم يكن لهم قبلها أقطاع، وكان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك لا يفتحون فيه على أنفسهم بابا، وأقام متمتعا في ماله وفي حضرته [1] إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء العدو على جزيرة جربة وميورقة ومنازلته المهديّة واجلابه على السواحل)
كان من أعظم الحوادث، تكالب العدوّ في أيام هذا السلطان على الجزر البحريّة، فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثمان وثمانين وستمائة ورياستها يومئذ من محمد بن مهو بن شيخ الوهبيّة [2] . ويخلف ابن امغار شيخ النكازة [3] وهما فرقتا الخوارج. وزحف إليها المراكيا صاحب صقلّيّة نائبا عن الغدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية وكانوا فيما قيل سبعين أسطولا من غربان وشواني، وضايقهم مرارا. ثم تغلّبوا عليها فانتهبوا أموالها وحملوا أهلها أسرا وسبيا.
فقيل إنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضّع في الجبوب [4] ، فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين. ثم بنوا بساحلها حصنا واعتمروه وشحنوه حامية وسلاحا. وفرض عليهم المغرم مائة ألف دينار كل سنة، وأقام على ذلك المراكيا إلى رأس المائة. وبقيت الجزيرة في ملك النصارى إلى أن عادوا إلى مالقة أواخر [5] الأربعين والسبعمائة كما نذكره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واقام متحليا ملكه وادعا في حضرته.
[2] وفي نسخة أخرى: محمد بن سمّون شيخ الوهبيّة.
[3] وفي النسخة الباريسية: ويخلف بن أومغار شيخ النكارة.
[4] يقتضي أن يقول: أجباب أو جباب أو جببه وهي جمع جب أي البئر العميقة (قاموس) .
[5] وفي نسخة أخرى: إلى أن أعادها الله في أواخر الأربعين والسبعمائة.(6/447)
وفي سنة خمس وثمانين وستمائة ظفر العدوّ بجزيرة ميورقة، ركب إليها طاغية برشلونة أساطيله في عشرين ألفا من الرجال المقاتلة ومروا بميورقة كأنهم سفر من التجّار وطلبوا من أبي عمر بن حكم ورئيسها النزول للاستسقاء فأذن لهم. فلمّا تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحفوا ثلاثا يثخن فيهم المسلمون في كلّها قتلا وجراحة بما يناهز آلافا، والطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف، فلمّا كان اليوم الثالث واستولت الهزيمة على قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون، ولجئوا إلى قلعتهم فانحصروا بكعابها، وعقدوا لابن حكم ذمة في أهله وحاشيته، فخرجوا إلى سبتة ونزل الباقون على حكم العدوّ، وسار إلى ميورقة [1] واستولى على ما فيها من الذخيرة والعدّة والأمر بيد الله وحده.
وفي سنة ست وثمانين وستمائة بعدها غدر النصارى بمرسى الخزور فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها واكتسحوا ما فيها، واحتملوا أهلها أسرى وأضرموا بيوتها نارا. ثم مرّوا بمرسى تونس وانصرفوا إلى بلادهم. وفيها أو في سنة تسع وثمانين وستمائة بعدها نازل أسطول العدوّ مدينة المهديّة، وكان فيها الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثا ظفر بهم المسلمون في كلّها. ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدوّ حتى اقتحموا عليهم الأسطول، وانقلبوا خائبين وتمت النعمة.
(الخبر عن استيلاء الأمير أبي بكر زكريا على الثغر المغربي بجاية والجزائر وقسنطينة وأولية ذلك ومصايره)
كان للأمير أبي بكر زكريا ابن السلطان من الترشيح للأمل بهداه وشرف همّته وحسن ملكته، ومخالطته أهلا لعلم ما يشهد له بحسن [2] حاله، وهو الّذي اختطّ المدرسة للعلم بإزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس، ولما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية، نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان، وجاء في أثره أبو الحسن بن أبي بكر بن سيّد الناس صنيعة أبيه وأخيه بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجنّة. فلما بايع له العرب وبدت مخايل الملك، رأى أبو
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: فأجازهم الى جارتهم منورقة.
[2] وفي نسخة أخرى: بمغبّة.(6/448)
الحسن إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه، ولحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان واستحثّه لطلب ملكه. واستقرض من تجّار بجاية مالا أنفقه في إقامة أبّهة الملك له، وجمع الرجال واصطنع الأولياء.
وفشا الخبر بما يرومه من ذلك، فصدّه عثمان بن يغمراسن عنه بما كان تقلّد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم من الخلفاء بالحضرة قبله، فاعتزم الأمير أبو زكريا على شأنه، وخرج من تلمسان مورّيا بالصيد الّذي كان ينتحله أيام قيامه بينهم، ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب، وكافة بني عامر من زغبة، أوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود بردّه إليه فأبي من إخفار ذمّته، وارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة، ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الزواودة، فتلقّاه بالطاعة وارتحلوا جميعا إلى ضواحي قسنطينة فدخل العرب سدويكش في طاعته.
ونزل البلد سنة ثلاث وثمانين وستمائة وعاملها يومئذ أبو نوفيان [1] من مشيخة الموحّدين، وكان صاحب بجاية بها أبو الحسن بن طفيل. كان له من العامل صهر فداخل الأمير أبا زكريا في شأن البلد، وشرط لنفسه وصهره فأمضى السلطان شرطهم وأمكنوه من البلد. وأقاموا بها دعوته، وارتحل إلى بجاية وكان قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدّى إلى الخلاف والتباين، واستحثوا الأمير أبا زكريا فأغذّ السير إليهم ودخلها سنة أربع وثمانين وستمائة ويقال إنّ ملكه ببجاية كان سابقا على ملكه بقسنطينة وهو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا. وبعث إليهم أهل الجزائر بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور القريبة [2] ، وتلقّب المنتخب لإحياء دين الله. وأغفل ذكر أمير المؤمنين أدبا مع عمّه الخليفة بالحضرة، حيث مالأ الموحّدين أهل الحلّ والعقد من الجماعة. ونصب للحجابة أبا الحسين بن سيّد الناس فقام بها، ورسخ ملكه وملك بنيه بهذه الناحية الغربية، وانقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه واستولوا على الحضرة كما نذكره إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن يوقيان وقد مرّ معنا من قبل.
[2] وفي نسخة أخرى: الغربية.(6/449)
(الخبر عن حركة الأمير أبي زكريا الى ناحية طرابلس ومنازلة عثمان بن يغمراسن بجاية في مغيبه)
لما استولى الأمير أبو زكريا على الناحية الغربيّة، واقتطعا من أعمال الحضرة اعتمد في الحركة على تونس، فنهض إليها في عساكره سنة خمس وثمانين وستمائة ووفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة ذباب ومانعه الفازازي عن أحواز تونس فنازل قابس وحاصرها، وكان له في قتالها أثر واستولت الهزيمة على مقاتلتها ذات يوم فأثخن فيهم قتلا وأسرا، وهدم ربضها وأحرق المنازل والنخل، وارتحل إلى مسراته وانتهى الى الأبيض وأطاعه الجواري والمحاميد وآل سالم وعرب برقة، وبلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف الى منازلة بجاية وكان من خبره أنّ الأمير أبا زكريا لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه، وامتنع جاره داود بن عطاف من ردّه، وامتلأ له عداوة وحقدا، وجدّد البيعة لصاحب تونس، وأوفد بها علي ابن محمد الخراساني من صنائعه. وكان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين ومغراوة بالمغرب الأوسط وضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكريا من مطالبتهم وتدويخه لقاصيتهم، فداخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقلة بعد [1] بجاية ليردّوه على عقبه عنهم، فزحف إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة ونازلها أياما وامتنع عليه سائر ضواحيها فلم يظفر بأكثر من الأطلال عليها. وانكفأ الأمير أبو زكريا راجعا إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة إلى أن كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجزيرة)
كان في بعض الأيام بين سدّادة وكثّومه [2] من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن شيخ سداده، وأقسم ليثأرنّ فيه بشيخ كثومة نفسه، وكان عامل توزر محمد بن يحيى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ثغر بجاية.
[2] وفي نسخة أخرى: كنومة.(6/450)
أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحّدين فتذمّم شيخ كثومة به، وبذل له مالا على نصره من عدوّه، فكاتب الحضرة وأعلن بخلاف أهل سداده واحتشد لهم أهل نفطة وتقيوس، وخرج في حشد أهل توزر وغزاهم في بلدهم ولاذ بإعطاء الرهن، وبذل المال فلم يقبل فأمدّهم أهل نفزاوة وزحفوا إليه، فانهزمت جموعه وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا إلى توزر، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة. ثم عاود غزوهم عقب ذلك ففتحوا عليه [1] ثم عقد لهم سلما على الوفاء بمغارمهم واشترطوا أن لا حكم عليهم في سواها، وأنّ رؤساء نفزاوة منهم، فأمضى شرطهم وكان أوّل استبداد أهل الجريه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعيا لنفسه بجهات طرابلس)
كان أبو دبّوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان وخمسين وستمائة، وافترق بنوه وتقلّبوا في الأرض، لحق منهم عثمان بشرق الأندلس، ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه، ووجد هنالك أعقاب عمّه السيّد أبي زيد المتنصّر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدوّ. وكان لهم هنالك مكان وجاه لنزوع أبيهم السيّد أبي زيد عن دينه إلى دينهم، فاستبلغوا في مساهمة قريبهم هذا الوافد، وخطبوا له عن الطاعة خطبا [2] . ووافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري من بني دياب في قبضة أسره، وكان قد أسره الغزى [3] من أهل صقلّيّة بنواحي طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة وباعوه من أهل برشلونة فاشتراه الطاغية، وقام عنده أسيرا إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبّوس هذا كما ذكرناه. وشهّر بطلب حق الدعوة الموحّدية [4] وأمّل الظفر في القاصية لبعدها عن الحامية، فعبر البحر إلى طرابلس، وكان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر، وعقد له حلفا معه على مظاهرته، وجهّز له أساطيل وشحنها بالمدد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فبلخوا عليه. وبلخ: تكبّر وحمق.
[2] وفي نسخة ثانية: وخطبوا له من الطاغية حظا. وفي نسختنا تحريف ظاهر.
[3] وفي نسخة ثانية: العدي.
[4] وفي نسخة ثانية: وشمر بطلب حقه في الدعوة الموحدية.(6/451)
من المقاتلة والأقوات على مال شرطوه، فنزلوا على طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة واحتشد مرغم قومه وحملهم على طاعة ابن أبي دبّوس، ونازلوا البلد معه ومع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثا، وساء أثرهم فيها. ثم رحل النصارى بأسطولهم وسروا بأقرب السواحل إلى البلد وتنقّل ابن أبي دبّوس ومرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكرا للحصار، فاستوفوا جباية المغارم والوضائع مالا دفعوه للنصارى في شرطهم، وانقلبوا في أسطولهم، وأقام ابن أبي دبّوس يتقلّب مع العرب. واستدعاه ابن مكّي من بعد ذلك لأن يشتدّ به في استبداده [1] ، فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيّد الناس حاجب بجاية وولاية ابن أبي حي [2] مكانه)
قد قدّمنا سلف هذا الرجل وأوليته، وأنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان، وأبلى في خدمته، فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي واقتطعه عن أعمال الحضرة، ونزل بجاية وظاهر بها تونس، عقد لأبي الحسين بن سيّد الناس على حجابته، وفوّض إليه فيما وراء بابه وأجراه في رياسته على سنن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الّذي كانوا يتلقّنون طرقه، وينزعون إلى مراميه، بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لجلاء جوّ الدولة ببجاية من مشيخة الموحّدين الذين يزاحمونه، كما كان ابن أبي الحسين مزاحما بهم، فاستولى أبو الحسين بن سيّد الناس على الدولة ببجاية، وقام بأمر مخدومه أحسن قيام، وصار إلى الحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وتمكّن في يده الزمام، إلى أن هلك سنة تسعين وستمائة أعظم ما كان رياسة وأقرب من صاحبه مكانا وشرفا [3] ، فأقام الأمير أبو زكريا مكانه كاتبه أبا القاسم بن أبي حيّ ولا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلس، وردّ على الدولة، وتصرّف في أعمالها، واتصل بأبي الحسين بن سيّد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لأنه يشبه به في استبداده.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن أبي جبى.
[3] وفي نسخة أخرى: سرا.(6/452)
الناس فاستكتبه، ثم رقّاه واستخلصه لنفسه، وأجرّه رسنه، وتناول زمام الدولة من يد سيّد الناس، فقادها في يد مظفّر [1] خدمته حتى اجتمعت عليه الوجوه وأمّله الخاصّة، وأطلع السلطان على اضطلاعه وكفايته في أمور مخدومه. وهلك أبو الحسين ابن سيّد الناس، فرشّحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيامه وصدرا من أيام ابنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى من أمره.
(الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص الى طاعة الأمير أبي زكريا وانتظام بسكرة في جماعته)
كان السلطان أبو إسحاق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه، فقام بأمره. ولما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطّنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه، وقتلوه سنة ثلاث وثمانين وستمائة كما نذكره، وأمّلوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني زيّان [2] ، واستقلوا بأمر بلدهم وبايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة ودانوا بطاعته على السنن.
وتوقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني. وكان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص ورموه بالدواهي فأمر باعتقاله، وأودع السجن سبع سنين إلى أن فرّ منه ولحق بكوفة من أحياء هلال بن عامر، وهم العرب المتولون أمر جبل أوراس، ونزل على الشبه بأفاريقهم فأركبوه وكسبوه ولحق ببجاية سنة اثنتين وتسعين وستمائة فنزل بباب السلطان، ورغّبه في ملك الزاب، وصانع الحاجب ابن أبي حي بأنواع التحف، وضمن له تحويل الدعوة بالزاب للسلطان الأمير أبو زكريا وتسريب جبايته إليه، فاستماله بذلك وعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر، ونازل بسكرة فامتنعت عليه ورأى مشيختها بنو رمان بعدهم عن صريخ تونس. وإلحاح عدوّهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا وبعثوا إليه ببيعتهم ووفدهم ودفع عادية بن مزني عنهم، فأرجعهم بما أمّلوه من القبول، وأن تكون
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مظهر وفي نسخة ثانية مطهر.
[2] وفي نسخة أخرى: بني رمان.(6/453)
أحكامهم إلى قائد عسكره. ونظر ابن مزني مصروفا إلى بجاية [1] ولما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد ومنصور بن مزني، فأدخلوه البلد ودانوا بالطاعة، وتصرّفت الأمور على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره، ولم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن استولى على الحضرة بعده بنوة لهذا العهد، كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك عبد الله الفازازي شيخ الموحدين والحاجب أبي القاسم بن الشيخ رؤساء الدولة)
كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحّدين، وكان خالصة للسلطان أبي حفص، وعقد له على العساكر كما قدّمناه ودفعه إلى الحروب وتمهيد النواحي، فقام في ذلك المقام المحمود، ودوّخ الجهات واستنزل الثّوار ودفعهم، وجبى الخراج وكانت له في ذلك آثار مذكورة، وفي بلاد الجريد ومشيختها تصاريف وأحوال، وهو الّذي امتحن أحمد بن بهلول [2] بسعاية المشيخة من أهل توزر، وكبح عنانه من مراميه إلى الرئاسة عليهم، وهلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث وتسعين وستمائة ولسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم بن الشيخ، وكان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست وعشرين وستمائة واتصل بعاملها محمد بن ياسين فاستكتبه وغلب عليه.
واستدعى ابن ياسين إلى الحضرة وابن الشيخ في جملته، والتمس السلطان من يرشحه لكتابته ويخف عليه، فاطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ وحلاه، وابتلاه السلطان فلم يرضه وصرفه، ثم راجع رأيه فيه واستحسنه ورسمه في خدمته، وأمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب وتصريفه في وجوه الخدمة ومذاهبها.
فكان له في ذلك غناء وخفّة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين. وكان الخراج بدار السلطان موقوفا على نظره من جملة ما إليه، وكان قلمه عاملا فيه، فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المنتصر. ولمّا ولي السلطان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الى الجباية فقط.
[2] وفي نسخة أخرى: أحمد بن يملول.(6/454)
الواثق استبدّ ابن أبي الحسين [1] عليه كما قلناه، فأبقاه على خطته واختصه لنفسه ودرجه في جملته. ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحاق فأقامه في رسمه وزاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله. وكانت الرئاسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس، ثم أبي زكريا عبد المؤمن من بعده. ثم كانت قضية الدعي [2] ، فاستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم بن الشيخ، واستضاف له إلى خطّة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع للسلطان أبي حفص ملكه وقتل الدعيّ، خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعيّ، فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير والعبادة وصلت بينهم وبينه فشفعوا له وتقبّلها السلطان، وأظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله، وقلّده حجابته مجموعة الى تنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه وقتل الخارج وصرف العلامة إلى غيره من طبقة الدولة، فلم يزل على ذلك إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وستمائة وبقي اسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث وأمر التدبير والحرب ورياستهما راجع إلى مشيخة الموحّدين إلى أن تصرفت الأحوال، وأديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار، وقلّد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله المحبي [3] من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده)
لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدّته، وأصابه وجع أوّل ذي الحجّة من سنة أربع وتسعين وستمائة ثم اشتدّ به الوجع وأهمّه أمر المسلمين وما قلّده من عدّتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق ونكره الموحدون لتخلّفه عن المراتب لصغره وأنه لم يحتلم وتحدّثوا في ذلك. وأفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه، وعدل عنهم إلى الشورى مع الوليّ أبي محمد المرجاني. وكان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن الحببّر.
[2] وفي نسخة أخرى: ثم كانت مضلّة الدعيّ.
[3] وفي النسخة الباريسية: الشخشي وفي نسخة ثانية التحتي.(6/455)
رأيه فيه جميلا وظنّه به صالحا. وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرّت إحدى جواريه، وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته، فسمّاه الشيخ محمدا، وعقّ عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة، فلقّب بأبي عصيدة إلى آخر الدهر. ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من قومه، حيث شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذمّة يثابر كل منهما على الوفاء بها، فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد وقصّ نكير الموحّدين لولده، أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبّل إشارته وعلم ترشيحه، وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحّدين، وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة وإلى الله المصير أهـ.
(الخبر عن دولة السلطان أبي عصيدة وما كان على أثرها من الأحوال)
لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحّدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة، فبايعوا بيعة عامة لوليّ عهده السلطان أبي عبد الله محمد، ويلقّب كما ذكرناه بأبي عصيدة ابن السلطان الواثق في الرابع والعشرين لذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة فانشرحت ببيعته الصدور، ورضيته الكافة، وتلقب المستنصر باللَّه.
وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه، وقلّد وزارته محمد ابن يرزيكن من مشيخة الموحّدين، وأبقى محمد الشخشي على خطّة الحجابة وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر، عند تعرّض ابنه للبيعة، واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك. وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله، حتى إذا نكب وهلك استبدّ هو على الدولة، واستقل الشخشي بحجابته. وكان محمد بن إبراهيم بن الدبّاغ رديفا له فيها.
وكان من خبر ابن الدبّاغ هذا أنّ إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية إشبيليّة سنة ست وأربعين وستمائة فولد هو بتونس ونشأ بها، وأفاد صناعة الديوان وحسباته من المبرزين كان فيه أبي الحسن وأبي(6/456)
الحكم ابني مجاهد، وأصهر إليهما في ابنة أبي الحسن فانكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال. ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشا مستعصيا على الخليفة، فكان كاتبه محمد بن الدبّاغ يروّضه لأغراض الخليفة إذا دسّها إليه الحاجب ابن الشيخ، فيقع ذلك من الخليفة أحسن الموقع.
ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنوة سابقة رعاها، وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلا عن أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدبّاغ ثم رقّاه إلى كتابة علامته سنة خمس وتسعين وستمائة وكان يتصرّف فيها فأصبح رديفا للشخشي في حجابته، وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة تسع وتسعين وستمائة فقلّده السلطان حجابته فاستقلّ بها على ما قدّمناه من أنّ التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحّدين.
(الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده)
كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص، وأصله من تين ملّل الموطّنين بتبرسق مذ أوّل الدولة، كانت له ولسلفه الرئاسة عليهم، وصارت إليه رياسة الموحّدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة، وكان حريصا على ولاية ابنه عبد الله للعهد. وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك، فأسرّ هاله السلطان أبو عصيدة. ولما استوثق له الأمر، وقتل عبد الله بمحبسه، تقبّض على أبي محمد بن سليمان واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ولم يزل معتقلا إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة، وفرّ عند نكبته ابناه محمد وعبد الله، فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا، وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد. وأمّا محمد فأبعد المفرّ ولحق بالمغرب الأقصى، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان، فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدّة. ثم عاود وطنه ونزل عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف. وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج، وامتدّ عمره وحسنت فيه ظنون الكافة، واعتقدوا فيه وفي دعائه، وكثرت غاشيته لالتماس البركة(6/457)
منه. وأوجب الخلفاء إزاء ذلك تجلّة أخرى، وأوفدوه على ملوك زناتة مرّة بعد مرّة في مذاهب الودّ وقصود الخير. وحضر في بعض الجهاد بجبل الفتح عند ما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن، ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاداته)
كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدّث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكريا، وكان الأمير أبو زكريا قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عاملها عليها من الموحدين من بني الكمازير، انبرى بها بعده محمد بن علّان من مشيختها، واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه، وتغلّبوا على توجين ومغراوة، وبلكّين [1] ، وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسّكا بدعوتهم ومتقبّلا مذهب أبيه في بيعتهم، فقويت عزائم السلطان أبي عصيدة لذلك، ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين وستمائة وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة، وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل وانتهى إلى ميلة، وفيها كان منقلبة إلى حضرته في رمضان من سنته.
ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكريا نظره في تسكين الناحية الغربية ليتفرّغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة، فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكّد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة. وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان، وألقى عليها بكلكله، واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكريا فأمدّه بعسكر من الموحّدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلا. ورجع فلّهم إلى بجاية وسرّح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سبّاع وفد عليها نازعا عن صاحب بجاية إليه، ومرغّبا له في ملكها، فأوسع له في الحباء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مليكش.(6/458)
والكرامة ما شاء، وبعث معه هذا العسكر فانتهوا إلى بجاية، وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلاد سدويكش، وعاثوا في تلك الجهات ودوّخوها وانقلبوا راجعين إلى السلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان.
وكان السلطان أبي عصيدة صاحب الحضرة لما علم بإمداد الأمير أبي زكريا لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوّهم وحرّضه على بجاية ونواحيها، وسفر له [1] في ذلك رئيس الموحّدين أبا عبد الله بن الكجار أولى سفارته. ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة فأغرب فيها بسرج وسيف ومهماز من الذهب من صنعة الحلي الفاخر من حصى الياقوت والجوهر. ورافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن يرزيكن ورجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتها ثلاثمائة من البغال، واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات. وكان يوسف بن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضا ويكاتب رئيس الموحّدين أبا يحيى اللحياني وتردّد عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مقتل هداج وفتنة الكعوب وبيعتهم لابن أبي دبوس وما كان بعد ذلك من نكبتهم)
كان هؤلاء الكعوب قد عظمت ثروتهم واصطناعهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص [2] ، فعمّروا ونموا وبطروا النعمة، وكثر عيثهم وفسادهم وطال إضرارهم بالسابلة وحطمهم للجنات، وانتهابهم للزرع، فاضطغن لهم العامّة وحقدوا عليهم سوء آثارهم. ودخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس وسبعمائة إلى البلد فحضرته [3] العيون وهمّت به العامة. وحضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنّوا عليه بأنه وطئ المسجد بخفّيه. وقال لم أنكر عليه ذلك: «إني أدخل مجلس السلطان بهما»
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وسفر بينهما من ذلك رئيس الموحّدين أبو عبد الله بن اكمارير أولى سفاراته.
[2] وفي نسخة أخرى: كان هؤلاء الكعوب قد أثرتهم الدولة واصطنعتهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص.
[3] وفي نسخة أخرى: فخزرته: من خزر أي نظر بمؤخر عينه.(6/459)
فثاروا به عقب الصلاة وقتلوه، وجروا شلوه في سكك المدينة، فزاد عيثهم وأجلابهم على السلطان، واستقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس، ونصّبه للأمر، وأجلب به على الحضرة ونازلها.
وخرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم، وسار بالعساكر لتمهيد الجهات وتسكين ثائرة العرب، وفد عليه أحمد بن أبي الليل ومعه سليمان بن جامع من رجالات هوّارة بعد أن راجع الطاعة. وصرف ابن أبي دبّوس إلى مكانه فتقبّض عليهما، وبعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان وسبعمائة وقام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل ومعه حمزة ومولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له. ثم خرج الوزير بعساكره سنة سبع وسبعمائة، واستوفد مولاهم ابن عمر وتقبّض عليه وبعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمّه أحمد. وجاهر أخوه حمزة بالخلاف وأتبعه عليه قومه فكثر عيثهم، وأضروا بالرعايا وكثرت الشكاية من العامة، ولغطوا بها في الأسواق وتصايحوا. ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسدّ الباب دونهم فرموا بالحجارة، وهم في ذلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدبّاغ ويطلبون شفاء صدورهم بقتله. ورفع أمرهم الحاجب واستلحمهم جميعا [1] فأبى من ذلك السلطان وأمره بملاطفتهم إلى أن مكنت بيعتهم [2] . ثم تتبع بالعقاب من تولى كبر ذلك منهم، وانحسم الداء. وكان ذلك في رمضان من سنة ثمان وسبعمائة واستمرّ العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن انتقاض أهل الجزائر واستبداد ابن علان بها)
قد قدمنا ما كان من انتقاض الجزائر أيام المستنصر ودخول عساكر الموحّدين عليهم عنوة، واعتقال مشيختهم بتونس حتى أطلقوا بتونس بعد مهلكه، ولما استقلّ الأمير
__________
[1] العبارة غير واضحة وسياق المعنى: ورفع الحاجب أمرهم الى السلطان لاستلحامهم ...
[2] وفي نسخة أخرى: الى أن سكنت هيعتهم.(6/460)
أبو زكريا الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية وقسنطينة. وكان الوالي على الجزائر ابن الحكم زمن الموحّدين [1] فبادر إلى طاعته باتفاق من مشيخة الجزائر، ووفد عليه. وكتب ابن أكمار بولايتها، فلم يزل واليا عليهم إلى أن نشأت [2] بنو مرين وزحفوا إلى بجاية. وكان ابن أكمار قد أسنّ وهرم فأدركته الوفاة خلال ذلك. وكان ابن علّان من مشيخة الجزائر مختصّا به متصرّفا بأوامره ونواهيه ومصدرا لإمارته.
حصلت له بذلك الرئاسة على أهل الجزائر سائر أيامه. ويقال كان له معه صهر، فلما وصل ابن اكمار حدّثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بالجزائر، فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره، وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد. وشغل الأمير أبو زكريا عنه بما كان من منازلة بني مرين ببجاية إلى أن هلك، وبقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملّكها بنو عبد الواد كما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا وبيعة ابنه الأمير أبي البقاء خالد)
كان الأمير أبو زكريا قد استولى على الثغور الغربية كما قلنا، واقتطعها من أعمال الحضرة، وقسّم الدعوة الحفصية بدولتين. وكان على غاية من الحزم والتيقّظ والصرامة لم يبلغها سواه. وكان كثير الإشراف على وطنه والمباشرة لأعماله بنفسه وسدّ خلله. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة. وكان قد عهد بالأمر لابنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان وتسعين وستمائة وعقد له على قسنطينة وأنزله بها. فلمّا هلك الأمير أبو زكريا جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي حي مشيخة الموحدين وطبقات الجند، وأخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء وطيّر له بالخير واستقدمه فقدم، وبويع البيعة العامّة، وابقى ابن أبي حي على حجابته واستوزر يحيى بن أبي الأعلام، وقدّم على صنهاجة أبا عبد الرحمن بن يعقوب بن حلوب منهم،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن اكمازير من مشيخة الموحدين وفي النسخة الباريسية ابن أكمار.
[2] وفي نسخة أخرى: إلى أن كان شأن بني مرين وزحفهم إلى بجاية.(6/461)
ويسمى المزدار [1] . وقلّد رياسة الموحّدين أبا زكريا يحيى بن زكريا من أهل البيت الحفصيّ واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن سفارة القاضي الغبريني ومقتله)
قد قدمنا ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس. ولما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعا للزبون عنه، وعيّن للسفارة في ذلك شيخ القرابة ببابه أبا زكريا يحيى بن زكريا الحفصي [2] ليحكم شأن المواصلة بينهما. وبعث معه القاضي أبا العبّاس الغبريني كبير بجاية وصاحب شوراها، فأدوا رسالتهم وانقلبوا إلى بجاية، ووجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به، وأشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثّب بالسلطان. وتولى كبر ذلك ظافر الكبير وذكّره بحديثه [3] ، وما كان منه في شأن السلطان أبي إسحاق وأنه الّذي أغرى بني غبرين به، فاستوحش منه السلطان وتقبّض عليه سنة أربع وسبعمائة. ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه في سنته تلك، وتولّى قتله منصور التركي، والله غالب على أمره.
(الخبر عن سفارة الحاجب بن أبي حي [4] الى تونس وتنكر السلطان له بعدها وعزله)
ولما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكر بني مرين متردّدة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه، فدوّخوا نواحيها. وكان ابن أبي حي مستبدّا على الدولة في حجابته، فضاق ذرعه بشأنهم وأهمته حال الدولة معهم. ورأى أنّ اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن عزمهم، فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المزوار.
[2] وفي نسخة أخرى: أبا زكريا الحفصي.
[3] وفي نسخة أخرى: ذكره بجرائره.
[4] وفي نسخة أخرى: ابن أبي جبى.(6/462)
سلطانه. فخرج من بجاية سنة خمس وسبعمائة وقدم على الحضرة رسولا عن سلطانه، فاهتزّت له الدولة ولقي بما يجب له ولمرسله من البرّ، وأنزله شيخ الموحدين ومدبّر الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني بداره استبلاغا في تكريمه. وقضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره، وكانت بطانة الأمير أبي البقاء لما خلا لهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على النصح إليه والسعاية بابن أبي حي عنده.
وشمّر لذلك يعقوب بن عمر وجلّى فيه وتابعه عليه عبد الله الرخامي من كاتب ابن أبي حي وصديقه بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس، ويوغر له صدورهم ببأوه وتحقيره بهم، فالحّ له العداوة في كل جانحة وأسخطه على عبد الله الرخامي.
وكان صديقه ومداخلة فتولّى من السعاية فيه مع يعقوب بن عمر كبرها، وألقى إلى السلطان أنّ ابن أبي حي داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغور قسنطينة وبجاية، بما كان على الأمير [1] العامل بقسنطينة صهرا لابن أبي حي، وهو الّذي ولّاه عليها فاستراب السلطان به، وتنكّر له بعد عوده من تونس. وخشي كل منهما بادرة صاحبه. ثم رغب ابن أبي حي في قضاء فرضه وتخلية سبيله إليه، فأسعف وخرج من بجاية ذاهبا إلى الحج، ولحق بالقبائل من ضواحي قسنطينة وبجاية فنزل عليهم وأقام بينهم مدّة. ثم لحق بتونس وأقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد، وحضر دخول الأمير أبي البقاء عليه بتونس، وخلص من تيّار تلك الصدمة فلحق بالمشرق وقضى فرضه. ثم عاد إلى المغرب ومرّ بإفريقية ولحق بتلمسان وأغرى أبا حمو بالحركة على بجاية فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن عمر ومصاير أمره)
هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن عمر السلميّ، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان جدّه محمد فيما حدّثني أهل بيتهم قاضيا بشاطبة، وخرج مع الجالية أيام العدوّ إلى
__________
[1] في نسخة أخرى: بما كان علي بن الأمين العامل بقسنطينة.(6/463)
تونس، ونزل بالربع الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة، وانتقل ابناه أبو بكر ومحمد إلى قسنطينة ونزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكريا الأوسط، فأوسعهما عناية وتكريما. وولّى أبا بكر على الديوان واستخلصه لنفسه. وكان يتردّد إلى الحضرة ببجاية في شئونه فاتصل بمرجان الخصيّ من موالي الأمير أبي زكريا وخواص داره، واستخدم على يد الأمير خالد وأمه من كرائم السلطان، فحظي عندهم وتزوّج ابنه يعقوب من بنات [1] القصر، وخوله، ونشأ في جوّ تلك العناية. وأعلقوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان وخاصته فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك. وكان الحاج فضل كثيرا ما يتردّد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك وانتقاء أصنافها. وكذلك إلى تونس لاستجادة الثياب منها. وبعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن عمر وهلك الحاج فضل هنالك، فعدل السلطان عن خطاب ابنه محمد إلى خطاب ابن عمر، فأمره بإتمام ذلك العمل والقدوم به، فقدم هو وابن الحاج فضل وساء لهما السلطان عن عملهما، فكان ابن عمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه وخفّ عليه، واعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية. ثم قلّد أعمال الأشغال وزاحم ابن أبي حي وعبد الله الرخامي، وغصّوا به فأغروا السلطان بنكبته، فنكبه وأشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك، واستعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه، وتشفّع بوسائل خدمته فاستقدمه. وقدم مع علي وحسين ابني الرنداحي، وركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي حي عن الحضرة فصادف من السلطان قبولا، وشمّر في السعاية بابن أبي حي مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك. وصرف ابن أبي حي كما ذكرناه، فقلّد السلطان حجابته ليعقوب بن عمر، وقدّم على الأشغال عبد الله الرخامي، وكان ناهضا في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه، فأصبح رديفا لابن عمر وغصّ بمكانه فأغرى به السلطان ودلّه على مكامن ثورته وعلى عداوته، فنكب وصودر وامتحن وغرّب إلى ميورقة، حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين من أسره، واستقدمه ليقلّده أشغاله عند تنكّره لعبد الله
__________
[1] وفي نسخة أخرى: من ربيبات القصر.(6/464)
ابن أبي مدين كما نذكره في أخباره، فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك، وأقام الرخامي بتلمسان وبها كان مهلكه. واستقل يعقوب بن عمر بأعباء خطّته واضطلع بها، وقوّض إليه السلطان في الإبرام والنقض، فحوّل المراتب بنظره وأجرى الأمور على غرضه. وكان أوّل ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه، وحذّره مغبّته فتقبّض عليه وألقي في البحر فالتقمه الحوت، فخلا وجه السلطان لابن عمر وتفرّد بالعقد والحلّ إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضرة وكان من أمره ما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ثورة ابن الأمير [1] بقسنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها وقتله)
كان يوسف بن الأمير الهمدانيّ بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى من بني مرين كما يأتي في أخبارهم، انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر ورعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة وبعدها إلى أن غلبهم عليها العز في كما نذكره في أخباره فلقّاهم مبرّة وتكريما، ونزلوا من الحضرة خير نزل تحت جراية ونعمة وعناية. وكان كبيرهم متحمّقا متعاظما فربما لقي في الدولة لذلك عسفا إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعا من اضطهادهم. ونشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم.
ثم هلك السلطان واضطربت الأمور وضرب الدهر ضرباته، ولحق عليّ منهم بالثغر الغربي، وتأكّدت له مع ابن أبي حي لحمة نسب وذمة صهر ووشجت بينهما عروقها. فلما استقل ابن أبي حي بحجابة الأمير أبي زكريا لم يأل جهدا في مشاركة علي بن الأمير وترقيته المنازل إلى أن ولّاه ثغر قسنطينة مستقلا بها وحاجبا للسلطان أبي بكر بن الأمير أبي زكريا، وأنزله معه فقام بحجابته وأظهر فيها غناءه وحزمه، حتى إذا سخط السلطان ابن أبي حي وصرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمير وخشي بوادر السلطان فحوّل الدعوة إلى صاحب الحضرة وطيّر إليه بالبيعة، واستدعى المدد والنائب فوصله رئيس الموحدين والدولة أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابن الأمين.(6/465)
اللحياني، وعقد البيعة لسلطانه سنة أربع وسبعمائة.
وبلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع وسبعمائة، ونازلة أياما فامتنع عليه، وهمّ بالإفراج عنه. ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمير يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين، وكان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور، فتسنّمه المقاتلة باغضاء ابن موزة لهم عنه، وركب السلطان في العساكر عند الصدمة ووقف على باب البلد، وقد استكمن أولياؤه منه فخرج إليه بنو المعتمد [1] وبنو باديس ومشيخة البلد، فاقتحم البلد عنوة ومضى أبو محمد الرخامي واستنزله. ثم حمله في رجال السلطان إلى دار ابن الأمير فغشيه بها وقد انفضّ عنه الناس واستخفى [2] بغرفة من غرف داره واستمات، فلاطفه الرخامي واستنزله. ثم حمله على برذون مستدبرا، وأحضره بين يدي السلطان فقتل، ونصب شلوه وأصبح آية للمعتبرين والله أعلم.
(الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر)
قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكريا واستبداد ابن علان بها. فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر وتمهّدت له الأحوال وأقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان، أعمل السلطان نظره في الحركة إليها، فخرج إليهم سنة سبع وسبعمائة أو ست وسبعمائة وانتهى إلى متيجة ودخل في طاعته منصور بن محمد شيخ ملكين [3] وجمع قومه ولجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هاربا أمام بني عبد الواد، فآواه إلى ظلّه وألقى عليه جناح حمايته. واحتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل وزحف إلى الجزائر وأقام عليها أياما فامتنعت عليه، وانكفأ راجعا إلى حضرته ببجاية، وأقام ملكين على طاعته ومطاولته الجزائر بالقتال إلى أن كان من أمرها. وتغلّب بنو عبد الواد عليها كما نذكره في أخبارهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بنو المغفل وفي النسخة الباريسية: بنو الغنفذي.
[2] وفي نسخة ثانية: استحصن.
[3] وفي نسخة أخرى ملكيش.(6/466)
وجاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمّما لخدمته إلى ان قتله عبد الرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن السلف وشروطه بين صاحب تونس وصاحب بجاية)
لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسنطينة وقتل ابن الأمير وفرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر، وقارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الّذي كانوا يرجونه شاغلا له فجنحوا إلى السلم، وبعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا وألحموا. وشرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للآخر والبيعة له، فتقرّر [1] الشرط وحضر الملأ والمشيخة من الموحّدين ببجاية، ثم بتونس، فأشهدوا به على أنفسهم، وربط ذلك العهد وأحكمت أو أخيه إلى أن نقضها أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس ابن اللحياني لحصار جربة ومضيه منها الى الحج)
لما انعقد أمر هذا الصلح واستتم، راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني نظره لنفسه، وأعمل فكره في الخلاص ممن استوطنه [2] ، وكان يؤمل رجوع الوفد المقربين بالمهديّة من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه، وأبطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده وورّى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى والرجوع عنها من بعد ذلك إلى الجريد لتمهيد أحواله.
وتناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له وسرّح معه العساكر فخرج من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فتقبلوا.
[2] وفي نسخة أخرى: من انشوطته.(6/467)
تونس في جمادى سنة ست وسبعمائة غازيا إلى جربة. ولم يزل يغذّ السير حتى انتهى إلى مجازها. ثم عبر منه إلى الجزيرة، وكان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان وثمانين وستمائة شيّدوا بها حصنا لاعتصام الحامية سمّوه بالقشتيل، فنزلت العساكر عليه.
وأنفذ الشيخ أبو يحيى عمّاله للجباية وأقام في منازلته شهرين. ثم انقطعت الأقوات واستعصى الحصن إلّا بالمطاولة فرجع إلى قابس. ثم ارتحل إلى بلاد الجريد وانتهى إلى توزر ونزلها، وأعمل في خدمته أحمد بن محمد بن بهلول [1] من مشيختها، فاستوفى جباية الجريد وعاد إلى قابس.
وأنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره، وصرّح بما روى عنه من حجّه. وصرف العساكر إلى الحضرة وولي بعده رياسة الموحدين وتدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن، وتحوّل عن قابس إلى بعض جبالها تجافيا عن هوائها الوخم. وأقام في انتظار الركب الحجازي، وكان مريضا فتحوّل إلى طرابلس فأقام بها عاما ونصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان وسبعمائة فخرج معهم حاجّا، ثم قضى فرضه وعاد فكان من شأنه واستيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره. ووصل مدد النصرانية إلى قشتيل سنة ثمان وسبعمائة بعد منصرف العساكر عنهم، وفيهم فردريك ابن الطاغية صاحب صقلّيّة، فقاتلهم أهل الجزيرة من المكارية [2] لنظر أبي عبد الله ابن الحسين من مشيخة الموحدين ومعه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم. ولم يزل شأن هذه الجزيرة من المكان مع العدوّ كذلك منذ نشأت دولة صنهاجة، وربما وقعت الفتنة بين المكارية فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة [3] وأربعين لعهد مولانا السلطان أبي يحيى كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة وخبر أبي بكر الشهيد)
كان السلطان أبو عصيدة بعد تهيؤ سلطانه [4] ، وتمهيد ملكه، طرقه مرض الاستسقاء
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أحمد بن محمد بن يملول.
[2] وفي نسخة ثانية: النكارين.
[3] بياض بالأصل ولم نهتد إلى تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا
[4] وفي نسخة أخرى: بعد تملّي سلطانه.(6/468)
فأزمن به. ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، ولم يخلف ابنا، وكان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير أبي زكريا جدّهم من ولد أبي بكر ابنه الّذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر، فلم يزل بنوه في قصورهم وفي ظل ملكهم. ونشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة، وربي في جميم نعمته. فلما هلك السلطان أبو عصيدة ولم يعقب، وكان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغّبه في ملك الحضرة واستحثه عليها. ثم وصل أبو عبد الله بن يرزيكن السلطان أبا عصيدة واستنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس، فنهض كما نذكر. واستراب الموحدون بتونس في شأن حركته فخافوه على أنفسهم، فبايعوا لهذا الأمير أبي بكر الّذي عرف بالشهيد بما كان من قبله لسبع عشرة ليلة من بيعته، وأبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته وزحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة. فتوعّده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه، فكان عونا عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء على الحضرة وانفراده بالدعوة الحفصية)
لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية وأعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأنّ من مات قبل صاحبه جمع الأمر بعده للآخر، داخلته الظنّة أن ينتقض أهل الحضرة في هذا الشرط واعتزم على النهوض لمشارفة الحضرة، ووصل إليه حمزة بن عمر نازعا عنهم، فرغّبه واستحثّه، وخرج من بجاية في عساكره، وورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه، واستبداد ابن علّان بها. ثم ارتحل إلى قصر جابر وعند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا، فاضطغنها على الموحدين.
وأغذّ السير وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل واجتمع أمثالهم أولاد مهلهل إلى(6/469)
صاحب تونس، وخرج معهم شيخ الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله ابن يرزيكن في العساكر للّقاء، ووقّوا سلطانهم بأنفسهم. فلما زحف إليهم السلطان أبو البقاء اختلّ مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر، وقتل الوزير ابن يرزيكن، وأجفلت أحياء العرب إلى القفر، ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر، وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا، ثم تفرّق عنه العسكر وتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء. وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجهات فثلّ إلى السلطان فاعتقله في بعض الفازات، وغدا على السلطان أهل الحضرة من المشيخة والموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته. وقتل الأمير فسمّي الشهيد آخر الدهر، وباشر قتله ابن عمه أبو زكريا يحيى بن زكريا شيخ الموحدين. ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة، وتلقّب بالناصر لدين الله المنصور. ثم استضاف إلى لقبه المتوكل. وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لأبي زكريا يحيى بن أبي الأعلام الّذي كان رئيسا عنده قبلها واستمرّ على خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن عمر، وولّى على الأشغال بالحضرة منصور بن فضل بن مزني، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن بيعة ابن مزني يحيى بن خالد ومصاير أموره)
كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق في جملة السلطان أبي البقاء خالد، وتنكّرت له الدولة لبعض النزغات فخشي البادرة وفرّ فلحق بمنصور بن مزني. وكان منصور قد استوحش من ابن عمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب، وعقد له على حجابته، وجمع له العرب وأجمع على قسنطينة أياما، وبها يومئذ ابن طفيل، وكانت قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد اشتملوا عليه واشتمل عليهم، وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره، واطلع ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، فانفضّت جموعه ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، فانفضّت جموعه وراجع ابن مزني طاعة السلطان أبي البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبّلوه، ولحق(6/470)
يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشا، ونزل على أميرها أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من قدومه. وولي بعده أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمدّه وزحف إلى محاربة قسنطينة فامتنعت عليه. ثم استدعاه ابن مزني إلى بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية، ورتّب عليه الحرس. وكان السلطان ابن اللحياني يبعث إليه من تونس بالجائزة مصانعة له في شأنه، حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية ما كان للسلطان وابنه، فلم يزل في إسهامه وإسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى ابن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين وسبعمائة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة على يد الحاجب ابن عمر وأوّلية ذلك)
لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد الرحمن بن يعقوب بن مخلوف [1] مضافا إلى رياسته في قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها، وكان يلقّب المزوار، وجعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكر على قسنطينة فانتقل إليها.
وعكف السلطان أبو البقاء في تونس على لذّاته وأرهف حدّه وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعار بن حريز [2] من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا غدرته [3] وأعمل الحاجب ابن غمر وصاحبه منصور بن فضل عامل الزاب الحيلة في التخلّص من إيالته، واستعصب [4] راشد بن محمد أمير مغراوة، كان نزع إليهم عند استيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقّوه من الكرامة بما يناسبه واستقرّ في جملتهم، وعليه وعلى قومه كانت تدور رحى حروبهم.
واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فدفع بعضهم حشمه إلى الحاجب في مقعد حكمه، وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه.
وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فرتب لها عزائمه، وقوّض خيامه لحينه مغاضبا،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المخلوف.
[2] وفي نسخة أخرى: دعا بن حريز وفي النسخة الباريسية ابن جرير.
[3] وفي نسخة أخرى: بادرته.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى واستغضب.(6/471)
فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده وتمت حيلته صاحبه. وأهمّ السلطان شأن بجاية ونواحيها، وخشي عليها من راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن مخلوف وفاوضهما فيمن يدفعه إليها، فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني، وأشار منصور بالحاجب، وتدافعاها أياما حتى دفعاها جميعا إليه [1] . وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسنطينة فعقد له، وولّى عليا ابن عمه الحجابة بتونس نائبا عنه. وفصل من الحضرة ولحق بقسنطينة، وصرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر. وقام ابن عمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرّف في حجابته. ثم داخله في الانتقاض على أخيه، وبدت مخايل ذلك عليهم فارتاب لهم السلطان أبو البقاء وأحسّ علي بن الغمر بارتيابه فلحق بقسنطينة. وجهّز السلطان أبو البقاء عسكرا وعقد عليه لظافر مولاه المعروف بالكبير، وسرّحه إلى قسنطينة فانتهى إلى باجة وأناخ [2] بها الى أن كان من أمره ما يذكر.
وبادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان ودعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه، وأخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وتلقّب بالمتوكل وعسكر بظاهر قسنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن مخلوف بخلافهم، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء السلطان على بجاية ومقتل ابن مخلوف وما كان من الادارة في ذلك)
كان يعقوب بن مخلوف ويكنى أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة من جند السلطان الموطّنين بنواحي بجاية، وكان له مكان في الدولة وغناء في حروبهم ودفاع عدوّهم. ولما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث وسبعمائة، كان له في حروبهم مقامات مذكورة وآثار معروفة. وكان الأمير أبو زكريا وابنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها، وكان يلقّب بالمزوار. ولما هلك خلفه في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حتى دفعهما جميعا إليها.
[2] وفي نسخة أخرى: أراح.(6/472)
سبيله تلك ابنه عبد الرحمن واستخلفه السلطان أبو البقاء خالد على بجاية عند ما نهض إلى تونس سنة تسع وسبعمائة وأنزله بها، وكان طموحا لجوجا مدلا ببأسه وقدمه ومكانه من الدولة. فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه وخلع طاعة أخيه، وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس وخاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية وأعمالها فأبى منها، وتمسّك بدعوة صاحبه، ونفس على ابن عمر ما تحصّل له من ذلك من الحظ فجاهر بخلافهم.
وجمع واحتشد وتقبّض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري وعلى صاحب الديوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المريّة كان أسدى إليه عند اجتيازه به معروفا، ورحل إليه عند ما استولى على الرتبة ببجاية، فكافأه عن معروفه واصطنعه وألقى عليه محبته ورقاه إلى الرتب، وصرّفه في أعمال الجباية وقلّده ديوان بجاية، فتقبّض عبد الرحمن بن مخلوف عليه وعلى صاحبه. وجمع الناس وأعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد وارتحل السلطان أبو بكر من معسكر بظاهر قسنطينة وأغذّ السير إلى بجاية، ونزل مطلّا عليها وأمهل الناس عامة يومهم [1] وشرط ابن مخلوف على السلطان عزل ابن غمر، وتردّدت الرسل بينهم في ذلك. وكان الوزير أبو زكريا بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن مخلوف. وحين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم وحبسه عنده، وزحف أهل المعسكر بالسلطان وخاموا عن لقاء صنهاجة ومن معهم من مغراوة أهل الشوكة والعصبية والعدد والقوّة.
وأجفل السلطان من معسكره فانتهب وأخذت آلته، وسلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس. ودخل السلطان إلى قسنطينة في فلّ من عسكره، وبعث ابن مخلوف عسكرا في اتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة. ثم وصلوا إلى قسنطينة فقاتلوها أياما، ثم رجعوا إلى بجاية. وأقام السلطان واضطرب أمره، وتوقع زحف ظافر إليه من باجة، واتصل به أنّ أبا يحيى زكريا بن أحمد اللحياني قفل من المشرق، وأنه لما انتهى إلى طرابلس دعا لنفسه لما وجد بإفريقية من الاضطراب، فبويع وتوافت إليه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واقتتل الناس عامة يومهم.(6/473)
العرب من كل جهة، فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه، ويشتغل أهل الحضرة عنه، فورّى بالفرار عن السلطان وتواطأ معه على المكر بابن مخلوف في ذلك.
ولحق ابن عمر باللحياني واستحثّه لملك تونس وهوّن عليه الأمر، وغدا السلطان عند فصول ابن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته، وولّى حجابته حسن بن إبراهيم ابن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسنطينة والفل من كتامة، يعرف قومه ببني نهلان [1] ، وكان قد اصطنعه من قبل، وارتحل بالعساكر إلى بجاية سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واستخلف على قسنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب.
وأشيع بالجهات أن السلطان تنكّر لابن غمر وسخطه، وأنه ذهب إلى ابن اللحياني واستجاشه على الحضرة، وبلغ ذلك ابن مخلوف واستيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر، وتوثّق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل بن عثمان بن سبّاع بن يحيى من رجالات الزواودة والولي يعقوب الملاذي [2] من نواحي قسنطينة. وأغذّ السير من بجاية ولقي السلطان بغرجيوه من بلاد سدويكش فلقّاه مبرّة ورحبا. ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل، واستغضبوه ببعض النزعات فغضب وأقزع فتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن قتلوه، وجرّوا شلوه فطرحوه بين الفساطيط، وتقبّض على سائر قومه وحاشيته، وفرّ كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب. وارتحل السلطان مغذّا إلى بجاية فدخلها وظفر بها، وتملّك بها حتى ربا ملكه وعلا، وكان دخوله إلى بجاية على حين غفلة من أهلها واستولى السلطان على سائر المملكة التي كانت تحت إيالة أبيه بالجهة المعروفة بالناحية الغربية، وتكمل واستوثق له أمرها، وأقام في انتظار صاحبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ضيلان وفي نسخة أخرى نليلان وفي نسخة ثانية: تيلان.
[2] وفي نسخة ثانية: الملاري.(6/474)
(الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد واستيلاء السلطان أبي يحيى بن اللحياني على الحضرة)
كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة قد اضطربت أحواله وجهّز إليه العساكر لمنازلة قسنطينة، وعقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير فعسكر ببجاية [1] وأراح ينتظر أمر السلطان. وكان أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد ابن اللحياني ابن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق، ورأى اضطراب الأحوال ووفد عليه هنالك الحاجب أبو عبد الرحمن بن عمر بهدية من السلطان أبي بكر، وأنّه يمدّه ويظاهره على شأنه، فأحكم ذلك من عقدته وشدّ من أمره، وتوافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل، ومعهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذّوا السير إلى الحضرة. وبعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشا به، فاعترضوه قبل وصوله وأوقعوا به واعتقلوا ظافرا وصبحوا تونس ثامن جمادى سنة إحدى عشرة وسبعمائة ووقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكريا الحفصي، وعدا القاضي أبو إسحاق بن عبد الرفيع على السلطان. وكان متبوعا صارما قويّ الشكيمة، فأغراه بمدافعة العدوّ فخام عن لقائه، واعتذر بالمرض وأشهد بالانخلاع عن الأمر وحل البيعة. ودخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن من اعتقاله.
ثم جاء السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني على أثره بلا تأخر ثاني رجب فبويع البيعة العامّة بظاهرها ودخل إلى البلد، واستولى عليها، وولّى على حجابته كاتبه أبا زكريا يحيى بن علي بن يعقوب، وعلى الاشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب وبنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم والقضاء، قدموا إلى الحضرة مع الجالية، وكان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب، وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدّمناه. وتصرّف في القضاء بإفريقية، وولّاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة. وسافر عنه إلى ملوك مصر، وكان بنو علي هؤلاء عبد الواحد ويحيى ومحمد من أقاربه، فكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص وبعدها، وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: باجة(6/475)
عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد، وهلك بتوزر سنة اثنتين وسبعمائة. وكان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكريا يحيى أيام رياسته على الموحّدين فحظي عنده واختصّه ولازمه وحج معه. فلما ولي الخلافة أحظاه وولّاه حجابته. ولما استقرّ بتونس استوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسلة السلطان ابن بكر بعد أن وثق معه العهد إلى أبي يحيى على المعاهدة [1] ، وضمن له ابن غمر من ذلك ما رضيه وتمسّك بابن عمّه على ابن غمر فأقام عنده مكرما متسع الجراية والإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن قدوم ابن عمر على السلطان ببجاية ونكبة ابن ثابت وظافر الكبير)
لما قدم ابن غمر على بجاية استبدّ بحجابته وكفالته كما كان، وليوم وصوله فرّ عبد الله ابن هلال كاتبه ابن مخلوف، ولحق بتلمسان وشمّر ابن غمر عزائمه للاطلاع بأمره، ودفع حسن بن إبراهيم بن ثابت عن الرتبة فلم يتزحزح يوما [2] ، وخرج لجباية الوطن. ثم أغرى به السلطان وحذّره من استبداده بقسنطينة لمكان معقلة المجاور لها وسعايات تنصّح بها حتى صادفت القبول لمكانه والوثوق بنصائحه. وخرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة للنظر في أحوالها. فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبّض عليه وعلى أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة وسبعمائة بعد أن استصفى أموالهما، ويقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى عمل قسنطينة بعث في أثره بعض مواليه، وأوعز معهم إلى عمل عبد الكريم بن منديل ورجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن. وأنّ السلطان لم يباشر نكبته، وكان ظافر الكبير بعد انهزامه وحصوله في أسر العرب كما قدّمناه أنعموا عليه وأطلقوه، ولحق بالسلطان أبي بكر فآثره واستخلصه كما كان لأخيه، وولّاه على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر الى مرسلة السلطان أبي يحيى بعد أن وثق العهد معه على المهادنة.
[2] وفي نسخة ثانية: فلم يتزحزح له.(6/476)
قسنطينة عند نكبة ابن ثابت. واستكتب أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوّه من الولايات فأقام ظافرا واليا بقسنطينة. ثم استقدمه السلطان إلى بجاية وقد غصّ ابن غمر بمكانه، فأغرى به السلطان فتقبّض عليه وأشخصه في السعية [1] إلى الأندلس والله أعلم.
(الخبر عن منازلة عساكر بني عبد الواد ببجاية وما كان في أثر ذلك من الاحداث)
كان السلطان أبو يحيى بعد انهزام جنده عن بجاية سنة عشر وسبعمائة بعث سعيد بن بشر بن يخلف عن مواليه إلى أبي حموّ موسى بن عثمان بن يغمراسن. وكان قد أتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر واعتزاز. فملك أمصارهم من أيدي بني مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان ودوّخ جهاته، واستولى على أعمال مغراوة وتوجين، وملك الجزائر، واستنزل منها ابن علّان الثائر بها وملك تدلس من يد ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة والمظافرة، وأن تكون يدهما على ابن مخلوف واحدة، فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية. ثم بلغه مهلك ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة واستيلاء السلطان على ثغره فاستمرّ على المطالبة.
وادّعى أنّ بجاية له في شرطه، وقارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغّبوه في ملك بجاية وضمنوا له أمرها. ثم قدم عثمان بن سبّاع بن يحيى مغاضبا للسلطان بما كان من إساءته عليه في ابن مخلوف وإخفار ذمّته وعهده فيه، واستقرّ عنده ابن أبي يحيى بعد منصرفه عن الحجابة [2] ، ورجوعه من الحج فرغّبوه في ذلك واستحثّوه لطلب بجاية، فسرّح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن ومسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم ومولاه مسامح. وبعث معهما أبا القاسم ابن أبي يحيى الحاجب ففصلوا عنه بدار مقامه بشلف، فأغذّوا السير. وهلك ابن أبي يحيى في طريقه بجبل الزاب ونازلوا البلد. ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السفين.
[2] وفي نسخة ثانية: واستقر عنده ابن أبي جبى منذ منصرفه عن الحجابة.(6/477)
فأثخنوا فيها ودخلوا جبل ابن ثابت، واستولوا عليه واستباحوه سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ونالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل والجراحات أعظم النيل، وقفلوا راجعين فشيّدوا حصنا بأصفون وشحنوه بالأقوات. ولما وصل محمد بن يوسف ومسامح وبّخهما وطوفهما ذنب القصور والعجز وعزلهما. وبعث السلطان عسكرا في البر وأسطولا في البحر بعد رجوعه من قسنطينة سنة أربع عشرة وسبعمائة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون، فخرّب وانتهبت أقواته وعدده، وسرّح أبو حمو عسكرا آخر لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمّه ابن أبي عامر بن إبراهيم بن يغمراسن، فنازلوها سنة خمس عشرة وسبعمائة واتصل بهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن بني توجين معه على أبي حموّ، وأنهم أوقعوا به وهزموه، واستولوا على معسكره، فأجفل مسعود بن أبي عامر وعسكره وأفرجوا عن بجاية. ووصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة والانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد ابن الحاج فضل بالهدية والآلة، ووعده بالمظاهر وتسويغ السهام التي كانت ليغمراسن بإفريقية. وشغل ابن عبد الواد عن بجاية، وخرج السلطان في عساكره للإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية)
لم يزل ابن غمر مستبدّا على السلطان في حجابته يرى أنّ زمامه بيده وأمره متوقف على إنفاذه. وصار يغريه ببطانته فيقتلهم ويغرّمهم [1] ، وربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه. وداخله بعض أهل قسنطينة سنة ثلاث عشرة وتسعمائة في اغتياله ابن غمر فهمّوا بذلك، ولم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم وقسّمهم بين النكال والعذاب فرقا. ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لما أهمهم من حصاره، واتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشدّه وأرهف حدّه وسطا محمد بن فضل فقتلهم في خلوة معاقرته من غير مؤامرة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يغرّبهم.(6/478)
الحاجب. وباكر ابن غمر مقعدة بباب دار السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرّجا في ثيابه، وأخبر أنّ السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان وإرهاف حدّه، وخشي بوادره، وتوقّع سعاية البطانة وأهل الخلوة. فتحيّل في بعده عنه واستبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب إفريقية من يد ابن اللحياني، وجهّزه بما يصلح من الآله والفساطيط والعساكر والخدام، ورتّب له المراتب. وارتحل السلطان إلى قسنطينة سنة خمس عشرة وسبعمائة ثم تقدّم غازيا إلى بلاد هوّارة، وأجفل عنها ظافرا بهم [1] وكان قائدها من مواليهم. فاستوفى جباية هوّارة، وقفل إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة واستبدّ ابن غمر ببجاية ومدافعة العدوّ من زناتة عنها.
واستخلف على حجابة السلطان محمد بن قالون، وقرّت عينه بما كان يؤمّل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن سفر السلطان أبي يحيى اللحياني الى قابس وتجافيه عن الخلافة)
كان هذا السلطان أبو يحيى اللحياني قد طعن في السنّ، وكان بصيرا بالسياسة مجرّبا للأمور، وكان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة واستحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكريا الأكبر. وعلم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر واستغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه [2] ، وارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة وفحول شولهم من توجين ومغراوة وبني عبد الواد وبني مرين. كانوا يفزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم، لما قاسموهم في النسب وساهموهم في يعسوبيّة القبيل وفحوليّة الشول، ومنهم من غلبوا على مواطنهم فملكوها عليهم مثل مغراوة وبني نوجين وملكيش، فاستكشف بذلك جند السلطان وكثرت جموعه وهابه الملوك.
ونهض سنة ست عشرة وسبعمائة إلى إفريقية وجال في بلاد هوّارة وأخذ جبايتها كما ذكرنا، فتوقّع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس. وكانت إفريقية مضطربة عليه، وكان تعويله في الحامية والمدافعة على أوليائه من العرب، تولى منهم حمزة بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية ثم. وفي نسخة أخرى. وأجفل عنها ظافرا ممن تعاطى قائدها من مواليهم.
[2] وفي النسخة الباريسية: في جملته.(6/479)
عليّ بن عمر بن أبي الليل فحكمه في أمره وأشركه في سلطانه، وأفرده برياسة العرب وأجرّه الرسن، وسرّب إليه الأموال، وكثر بذلك زبون العرب واختلافهم عليه، فاجتمع على التقويض عن إفريقية ونفض اليد من الخلافة، فجمع الأموال والذخيرة، وباع ما كان بمودعاتهم من الآنية والفرش والخرثيّ والماعون والمتاع، حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكريا الأكبر جمعها واستجاد أصولها ودواوينها، أخرجت للورّاقين فبيعت بدكاكين سوقهم. فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين قنطارا وجوالقين من حصى الدرّ والياقوت، وخرج من تونس إلى قابس موريا بمشارفة عملها فاتح سنة سبع عشرة وسبعمائة بعد أن رتّب الحامية بالحضرة وباجة والحمامات، واستخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين وانتهى إلى قابس فأقام بها، وصرف القمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر الى الحضرة ورجوعه إلى قسنطينة)
لما رجع [1] السلطان من هوّارة إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة كما قدّمناه استبلغ في جهاد حركة أخرى إلى تونس، فاحتشد وقسّم العطاء وأزاح العلل، واعترض الجنود على طبقاتهم من زناتة والعرب وسدويكش. واستخلف على قسنطينة الحاجب محمد بن القالون وبعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن عمر [2] بمكانه من إمارة بجاية في مدد المال للنفقات والأعطيات. فبعث إليه منصور بن فضل بن مزني عامل الزاب، وكان ابن عمر لما رأى من كفايته وأنه جمّاعة للمال، استضاف له عمل جبل أوراس والحصنة وسدويكش وعياض وسائر أعمال الضاحية، فكانت أعمال الجباية كلّها لنظره، وأموالها في حساب دخله وخرجه، فبعثه ابن عمر ليقيم إنفاق السلطان. واستخلفه على خطة حجابته، وارتحل السلطان من قسنطينة في جمادى سنة سبع عشرة وسبعمائة يطوي المراحل. ولقيه في طريقه وفود العرب،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: خرج.
[2] وفي النسخة الباريسية ابن عمرو في النسخة التونسية ابن غمر(6/480)
وانتهى إلى باجة مستغيثا [1] حاميتها إلى تونس.
وكان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدّمناه، واستخلف عليها أبا الحسن بن وانودين، وبعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس، وأنه محتاج إلى المدافعة، فاعتذر لهم اللحياني بما قبله من الأموال، وأطلق يدهم في الجيش والمال، فأركبوا واستلحقوا ورتّبوا الديوان، وأخرجوا ابنه محمدا ويكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله.
ولقيهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة، فخرجوا جميعا من تونس، وخالفهم إلى السلطان مولاهم ابن عمر بن أبي الليل. كان مضطغنا على الدولة متربّصا بها، لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة، فلقي السلطان في دوين باجة، فأعطاه صفقته واستحثّه، ووصل إلى تونس، فنزل روض السنافرة [2] من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة وسبعمائة وخرج إليه الملأ وتردّدوا في البيعة بعض الشيء انتظارا لشأن أبي ضربة وأصحابه. وكان من خبرهم أنّ السلطان لما أغذ السير من باجة بادر حمزة بن عمر إلى بطانة اللحياني وأوليائه بتونس، فلقيهم وقد خرجوا عنها، فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة ابن السلطان اللحياني ومزاحفة القوم به، فبايعوه وزحفوا إلى لقاء السلطان.
ودسّ حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان عن مقامته بروض السنافرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة، وارتحل إلى قسنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه، وسرّح منصور بن مزني إلى عمر ابن عمر بباجة ودخل أبو ضربة بن اللحياني والموحّدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته. وبويع بالحضرة البيعة العامّة وتلقّب المستنصر. وأراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض فيكون سياجا عليها، فأجابوه إلى ذلك وشرع فيه، وأوهنه العرب في مطالبهم واشتطّوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فانفضّت.
[2] وفي نسخة أخرى: روض السناجرة.(6/481)
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر على الحضرة وإيقاعه بأبي ضربة وفرار أبيه من طرابلس الى المشرق)
لما قفل السلطان من تونس إلى قسنطينة بعث قائد محمد بن سيّد الناس بين يديه إلى بجاية فارتاب لذلك ابن عمر بوصول أمره [1] ، وتنكّر له وشعر السلطان بذلك.
وأغضى له وطالبه في المدد، فاحتفل في الحشد والآلة والأبنية. وبعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر وهم: محمد بن سيّد الناس، ومحمد بن الحكم، وظافر السنّان وأخوه من موالي الأمير أبي زكريا الأوسط، ومحمد المديوني ومحمد المجرسي ومحمد البطوي [2] . وبعث له من فحول زناتة وعظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره، وأبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد فيمن كان معهم من قومهم وحاشيتهم.
توافوا بعساكرهم عند السلطان بقسنطينة، فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس، وكان قد اختبر أحوال إفريقية وأحسن في ارتيادها، فخرج في صفر من سنة ثماني عشرة وسبعمائة واستعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون، ويرادفه أبو الحسن بن عمرو وافاه بالأندلس وفد هوّارة وكبيرهم سليمان بن جامع، وأخبروه بأنّ ضربة بن اللحياني انتقل [3] من باجة بعد أن نازلها معتزما على اللقاء، فارتحل مولانا السلطان مغذّا ولقيه مولاهم بن عمر فراجع الطاعة، وارتحلوا في أتباع أبي ضربة وجموعه حتى شارفوا على القيروان، فخرج إليه عاملها ومشيختها فألقوا إليه باليد وأعطوا الطاعة.
وارتحل السلطان راجعا عن اتباع عدوّه إلى الحضرة وقد نزل بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانة محمد بن الغلاق ليمانع دونها، فأخرج الرماة إلى ساحتها وقفل العساكر ساعة من النهار. ثم اقتحموها عليه، واستبيح عامّة أرباضها وقتل ابن الغلاق ودخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته، فأقام خلالا انعقدت بين العامّة. وقدّم على
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: فارتاب ابن غمر بوصوله.
[2] وفي نسخة أخرى: محمد البطوني.
[3] وفي نسخة أخرى: أجفل.(6/482)
الشرطة ميمون بن أبي زيد واستخلفه على البلد. ورحل في اتباع أبي ضربة بن اللحياني وجموعه فأوقع بهم بمصبوح [1] من جهات بلاد هوارة.
وقتل من مشيخة الموحّدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي، وأبو عبد الله بن ياسين. ومن طبقات الكتّاب أبو الفضل البجائي [2] وتقبّض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور. وقيد إلى السلطان فعفا عنه وقومه [3] ليومه. ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك. ورجع السلطان إلى تونس من سنته. وكان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة وسبعمائة وما كان من بيعة الموحّدين والعرب لابنه أبي ضربة، وارتحل من مقامه بقابس إلى نواحي طرابلس. ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعدا لملكه بسور البلد مما يلي البحر سمّاه الطارمة، وبعث العمّال في الجهات لجباية الأموال، وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه ومعه هجرس بن مرغم كبير الجواري من ذئاب [4] فدوّخ البلاد وفتح المعاقل وجبى الأموال وانتهى إلى برقة. واستخدم آل سالم وآل سليمان من عرب ذئاب، ورجع إلى سلطانه بطرابلس ووافاه الجند بانهزام أبي ضربة ابنه، فبعث حاجبه أبا زكريا بن يعقوب ووزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب، ففرّقوها في علّاق وذئاب وزحف أبو ضربة إلى القيروان. وبلغ خبره إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان من سنة ثمان عشرة وسبعمائة فأجفلوا عن القيروان. ثم تذامروا وعقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم حتى أطلّت عليهم العساكر بمكان فجّ النعام، فانفضت جموعهم وشرّدت رواحلهم وارتحلوا منهزمين، والقتل والنهب يأخذ منهم مأخذه. ولجأ أبو ضربة في فلّه إلى المهديّة، وكانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع منها إلى أن كان من شأنه ما نذكره.
وبلغ خبره إلى أبيه بمكانه من طرابلس فاضطرب معسكره وبعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله وولده، وركب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بمصرح وفي نسخة ثانية بمصوح.
[2] وفي النسخة الباريسية: التجاني.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية ونوهه.
[4] وفي نسخة أخرى: دبّاب وهي الأصح.(6/483)
البحر ومعه حاجبه أبو زكريا بن يعقوب إلى الإسكندرية، واستخلف على طرابلس أبا عبد الله بن أبي عمران من ذوي قرابته وصهره، فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب ونصّبوه للأمر، وأجلبوا به على السلطان مرارا كما نذكره بعد. وركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الاسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر والشام واستقدمه إلى مصر فعظّم من مقدمه واهتزّ للقائه ونوّه من مجلسه، وأسنى من جرايته وأقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ورجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة وقومه بفجّ النعام، فدخلها في شوّال من سنته. واستقامت إفريقية على طاعته، وانتظمت أمصارها وثغورها في دعوته إلى المهديّة وطرابلس كما ذكرناه إلى أن كان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك الحاجب ابن عمر ببجاية وولاية الحاجب محمد بن القالون عليها ثم الادالة منه بابن سيد الناس)
كان الحاجب بن عمر لما استبدّ ببجاية سنة خمس عشرة وسبعمائة، انتقل السلطان إلى قسنطينة ولم يراجعها بعد. ثم لما رجع من تونس ثانية حركته سنة سبع عشرة وسبعمائة صرف إليه منصور بن فضل وبعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد ابن حاجب أبيه محمد [1] بن سيد الناس يهيئ له قصوره ببجاية للتحوّل إليها، فردّه ابن عمر وتنكّر له وطالبه السلطان في المدد فبادر به فأقطعه جانب الرضا. وعقد له على بجاية وقسنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل. فاستبدّ ابن عمر بالثغر وما إليه من الأعمال مقتصرا على ذكر السلطان في الخطبة واسمه في السكّة. وأقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس واستولى على جهاتها، وبعث إليه بان عمّه علي بن محمد بن عمر فعقد له أبو عبد الرحمن الحاجب على قسنطينة فمضى إليها، وهو في خلال ذلك كلّه يدافع عساكر زناتة عن بجاية.
وقد كان أبو حمّو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف واسترجاعه بلاد مغراوة وتوجين من يده كما قدّمناه يسرّب العساكر لحصارها. وابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة بكر يجهّز [2] بها الكتائب لحصارها. ثم هلك أبو حمّو وولي ابنه أبو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حاجب أبيه أبي الحسن.
[2] وفي نسخة أخرى: قلعة تكر ليجمرّ بها الكتائب.(6/484)
تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة وسبعمائة فتنفّس مخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس وفتحها. ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله، وقتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريس كما نذكره في أخبارهم، فارتحل من هنالك غازيا إلى بجاية، فاطلّ عليه في سنة تسع عشر وسبعمائة وبدا له من حصنها وكثرة مقاتلتها وامتناعها ما لم يحتسب فانكفأ راجعا إلى تلمسان، وأصاب ابن عمر المرض فبعث عن عليّ ابن عمّه بمكان عمله بقسنطينة، وعهد إليه بأمره والقيام بولاية بجاية إلى أن يصل أمر السلطان.
وهلك لأيام على فراشه في شوّال من سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقام علي بن عمر بأمر بجاية، واتصل الخبر بالسلطان فأهمّه شأن الثغر. وطيّر ابن سيّد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه والبحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت والذخيرة، وقدم معه علي بن غمر، فأولاه السلطان من رضاه ما أحسب أمله، وأقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن أبي عمران. ثم راجع الطاعة وقد أحفظ السلطان بولاية عدوّه. فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح هلال بقتله، فاغتالوه خارجا من بستانه فأشووه، وهلك من جراحته، والله أعلم.
(الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله على قسنطينة وأخيه الأمير أبي زكريا على بجاية وتولية ابن القالون على حجابتها)
لما هلك ابن عمر أهمّ السلطان شأن بجاية لما كانت عليه من حال الحصار، ومطالبة بني عبد الواد لها فرأى أي أن يكشف الحامية بالثغور الغربية وينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية، وعقد على قسنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله وعقد على بجاية لابنه الآخر الأمير أبي زكريا وجعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبدّا عليها لمكان صغرهما. وأكثف له الجند وأمره بالمقام ببجاية للممانعة من العدّ والملح على حصارها وارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين وسبعمائة في احتفال من العسكر والأصحاب والأبّهة. وأبقى خطة الحجابة خلوا ممن يقوم بها. وأبقى على ابن القالون. وبقي للتصرّف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقّب بالمزوار. وكان مقدّما على بطانة السلطان المعروف بالدخلة. وعلى الأشغال(6/485)
الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز، وسنذكر أوليتهما بعد. وانصرف إلى بجاية رافلا في حلل العزّ والتنويه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن استقدام ابن القالون والادالة منه بابن سيّد الناس في بجاية وبظافر الكبير في قسنطينة)
لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن قالون إلى بجاية، وخلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته ببجاية، بثوا فيه السعايات ونصبوا الغوائل، وتولى كبر ذلك المزوار بن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال. وعظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلته فيه الظنّة، وعقد لمحمد بن سيّد الناس على بجاية، وقام بأمر حصارها وحجابة أميرها إلى أن استقدم للحجابة، وكان من أمره ما نذكره. ومرّ ابن قالون بقسنطينة في طريقه إلى الحضرة فحدّثته نفسه بالامتناع بها، وداخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه، فأشخصهم إلى الحضرة نكالا بهم. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرّها لابن القالون وعزم على استضافة الحجابة بقسنطينة لابن سيّد الناس، فأستعفى مشيختها من ذلك وأروه أن ابن الأمين قريبه وابن أخيه، وذكّروه ثروة أبيه فأقصر عن ذلك، وصرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير وذلك عند قدومه من المغرب، وكان من خبره أنه كان من موالي الأمير أبي زكريا، وكان له في دولة ابنه السلطان أبي البقاء ظهور، وزحف هو بالعساكر عند ما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة. وجاء المزدوري والعرب إلى تونس في مقدّمة ابن اللحياني فزحف إليهم ففضّوه وتقبّضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله. ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى وأعاده إلى مكانه من الدولة، وولّاه قسنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ثم غصّ به ابن عمر وأغرى به السلطان فأشخصه في السفين إلى الأندلس، وجاز إلى المغرب. ونزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن عمر فكرّ راجعا إلى تونس، ولقاه السلطان مبرة وتكريما. ووافق ذلك وصول الحاجب ابن قالون من بجاية، فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة ابنه بقسنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها وقام بأمرها، واستعمل ذويه وحاشيته في وجوه خدمتها وصرف من كان هنالك من(6/486)
الخدّام أهل الحضرة إلى بلدهم. وكان بها أبو العبّاس بن ياسين متصرّفا بين يدي الأمير أبي عبد الله، والكاتب أبو زكريا بن الدبّاغ على أشغال الجباية، وكانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر لحين وصوله، واستقلّ بأمره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى
(الخبر عن ظهور ابن أبي عمران وفرار ابن قالون إليه على عينه)
كان محمد بن أبي عمران هذا من أعقاب أبي عمران موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص، وهو الّذي ولي إفريقية نائبا عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد، كتب له بها من مراكش لأوّل ولايته، فأقام واليا عليها ثمانية أشهر إلى ان قدم آخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك ونشأ بنوه في ظلّ دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا، فكان له صيت وذكر. وكان السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني قد رعى له ذمّة قرابته، ووصله بصهر عقده لابنه محمد على ابنته. واستخلفه على تونس عند خروجه عنها.
ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفينة إلى الإسكندرية. وكان أبو ضربة بعد انهزامه وافتراق جموعه اعتصم بالمهديّة، ونازلة بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه وأقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة وأقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان يتقلّب في نواحي إفريقية حتى عظم زبونه على السلطان ونزع إليه الكثير من الأعراب وكثرت جموعه، فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته لثغر طرابلس.
وزحف إلى تونس معارضا للسلطان قبل اجتماع عساكره وكمال تعبيته، فخرج السلطان أبو بكر عن تونس في رمضان من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ولحق بقسنطينة وصحبه إليها مولاهم ابن عمر وكان الحاجب محمد بن يحيى بن القالون قد غصّته البطانة والحاشية بالمعاية فيه عند السلطان، وتبين له انحرافه عنه. وكان معن ابن مطاع [1] الفزاري وزير حمزة بن عمرو صاحب شواره صديقا لابن القالون
__________
[1] وفي نسخة ثانية: معن بن وطاعن.(6/487)
ومخالصا، فداخله في الاجلاب بابن أبي عمران. فلما خرج السلطان أمام زحفهم تخلّف ابن القالون بتونس، وركب من الغد في البلد مناديا بدعوة ابن أبي عمران.
ودخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان، واستولى على الحضرة وأقام بها بقية سنته، وصدرا من أخرى، ولحق السلطان بقسنطينة فجمع عساكره واحتشد جموعه، وأزاح العلل واستكمل التعبية وزحف منها في صفر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وخرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب ولقيهم السلطان أولى وثانية بالرجلة وأوقع بهم، وقتل شيخ الموحّدين أبا عبد الله بن أبي بكر. وكان على مقدّمتهم محمد بن أبي منصور بن مزني وغيره. أثخنت العساكر فيهم قتلا وأسرا، وكان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له. ثم تقبّض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مقتل مولاهم بن عمر وأصحابه بن الكعوب)
لما أتيح للسلطان من الظهور على ابن أبي عمران وأتباعه والظفر بهم ما أتيح، وصنع لهم فيه رغم أنف مولاهم ابن عمر، وظهرت مع أصحابه كلمات أنبأت بفاسد دخلتهم. ثم نمي للسلطان أنّ مولاهم داخل في الفتك به ابنه منصور وربيبه جعدان [1] ومعدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب، وسليمان بن جامع من شيوخ هوارة. وشى بذلك عنهم ابن عمّهم عون ابن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها، فتنصّح بها للسلطان. فلمّا عدوا على السلطان تقبّض عليهم وبعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها، ورجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادى من سنته. وجدّد البيعة على الناس، وزحفت العرب في اتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد وشرطوا عليه إطلاق مولاهم وأصحابه، فأنفذ السلطان قتلهم فقتلوا بمحبسهم، وبعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن، وصرخ في قومه وتآمروا أن يثأروا بصاحبهم [2] .
وأغذّ السير إلى الحضرة وابن أبي عمران معهم على حين افتراق وازاحة السلطان.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زعدان.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وتدامروا ان يثيروا بصاحبهم.(6/488)
وظنوا أنهم ينتهزون الفرصة، وخرج السلطان عن تونس لأربعين يوما من دخوله ولحق بقسنطينة ودخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه واستكمل تعبيته. ونهض من قسنطينة وزحف إليه ابن أبي عمران وهزمه ابن عمر في جموعه. فأوقع السلطان بهم وأثخن فيهم وشرّدهم في النواحي وعاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ومضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني وزناتة وواقعة الشقة مع ابن أبي عمران)
لما انهزم حمزة بن عمرو ابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى ورأى حمزة ابن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس، وبعث إلى أبي ضربة ابن السلطان اللحياني بمكانه من المهديّة فداخله في الصريخ بزناتة والوفود على سلطان بني عبد الواد فرحل معه أبو ضربة ووفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان ورغّبوه في الظفر ببجاية، وأن يشغل صاحب تونس عن مددها بترديد البعوث وتجهيز العساكر إليه، فسرّح معهم السلطان آلافا من العسكر وعقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمرزدكت، وكثير الحاشية والرجالات. وارتحلوا من تلمسان يغذّون السير، وبلغ السلطان خبر فصولهم بتلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة وقسنطينة.
ولما أطلّت عساكر زناتة والعرب اختل مصاف السلطان، وانهزمت المجنّبات وثبت في القلب وصدق العزيمة واللقاء، فاختلّ مصافّهم وانهزموا في شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وامتلأت أيدي العساكر من أسلابهم والسبايا من نساء زناتة، ومن عليهنّ السلطان وأطلقهنّ. ورجع أبو ضربة وموسى بن علي الكردي في فلّهم إلى تلمسان، وعاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم. ولقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب بنواحي القيروان، فتخطّى الحضرة إليهم ولقيهم بالشقّة، وأوقع بهم ورجع إلى تونس في شوّال من سنة أربع وعشرين. فاتبعه حمزة ومن معه إلى تونس عند ما افترقت العساكر، ومعه إبراهيم بن الشهيد الحفصي.(6/489)
وسبق إليه بخبرهم عامر أبو علي [1] ابن كثير وسحيم بن [2] فخرج للقائهم من يومه في خفّ من الجنود بعد أن بعث عن عسكر باجة، وقائدها عبد الله العاقل مولاه فصبحه العرب بنواحي شاذلة فقاتلوه صدرها وحمى الوطيس، ووصل عبد الله العاقل والناس متواقفون، واشتدّت الحرب ثم كانت الهزيمة على العرب، واستبيحت حرماتهم وافترقت جموعهم، ورجع السلطان إلى البلد واستقرّ بالحضرة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن إجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد وتغلبه على الحضرة)
لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني وحمزة بن عمر وعساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها، ولقي حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي، ويئس الكعوب من غلابه وتذامر والفتنة والإجلاب عليه، فوفد حمزة بن عمر على ابن تاشفين صريحا ومعه طالب بن مهلهل، قرنه في قومه، ومحمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس وكلّهم من سليم ومعهم الحاجب ابن القالون، فاستحثّوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي وأعاده معهم. ونصب لهم لملك تونس من أعياص أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم، وأبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطّاب عبد الرحمن الّذي نصّب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيدة، وقتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه. وكان أبوهم هذا قد لحق بالعرب ونصّبوه للأمر وأجلبوا به على تونس أثر واقعة رغيس وبرزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه، ولحق بتلمسان وجاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم واستعمل على حجابته محمد بن يحيى بن القالون، وبعث معهم العساكر لنظر موسى بن علي الكردي وزحفوا إلى إفريقية. وخرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم في ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وسبعمائة وانتهى إلى قسنطينة وعاجلوه قبل استكمال التعبية فنزل بساحتها. وأقام موسى بن عليّ على منازلتها بعساكر بني عبد الواد. وتقدّم إبراهيم بن الشهيد وحمزة بن عمر إلى تونس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عامر بن بو علي بن كثير.
[2] بياض بالأصل، ولم نستطع تحديد هذا الاسم في المراجع التي بين أيدينا.(6/490)
فدخلها في رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستمكن منها، وعقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين وثار عليه في بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء، وكان منهم يوسف بن عامر بن عثمان، وهو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، وفيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة، وابن حسّان [1] نقيب الشرفاء فاعتدّوا واجتمعوا من جوف الليل وهتفوا بدعوة السلطان وطافوا بالقصبة فامتنعت عليهم، فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة، وكان بطانة لابن القالون فقاتلوها وامتنعت عليهم. ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم وتتبعوا بالقتل، وفرغ من شأنهم، وكان موسى بن علي ومن معه من العساكر لمّا تخلّف عن ابن الشهيد لحصار قسنطينة أقام عليها أياما، ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته ورجع إلى صاحبه بتلمسان. وخرج السلطان من قسنطينة فاستكمل الحشد والتعبية، ونهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد وابن القالون، ودخلها السلطان في شوّال سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستولى على دار ملكه، وأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حصار بجاية وبناء تيمرزدكت وانهزام عساكر السلطان عنها)
كان أبو تاشفين منذ خلاله الجوّ وتمكن في الأمر من القوم [2] يلحّ على بجاية بترديد البعوث ومطاولة الحصار، والسلطان أبو بكر يدفع لحمايتها والممانعة دونها من رجالات دولته وعظماء وزرائه الأول، فالأوّل من أهل الكفاية والاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك. وسرّب إليهم المدد من الأموال والأسلحة والجنود وتعهّد إليهم بالصبر والثبات في المواطن ونظراؤه من وراء ذلك. وكان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوضه إلى المدافعة عنها، أو عزم على غزو كتائبه المجمّرة عليها رماه بشاغل يوهن من عزمه ويسكّن [3] عنان بطشه. وكان فتنة ابن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن جسّار.
[2] وفي نسخة أخرى: وتمكنت في الأمر منه القدم
[3] وفي نسخة أخرى: يمسك.(6/491)
كان يجنب العرب عن الطاعة، ويجمع الأعراب للإجلاب على الحضرة، وينصّب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة. كان ذلك ديدنا متصلا أزمان تلك المدّة.
ولما سرّح أبو تاشفين العساكر سنة خمس وعشرين وسبعمائة إلى إبراهيم بن الشهيد وحمزة بن عمر وأوليائهم من أهل إفريقية، وعقد عليها لموسى بن علي من رجالاته، فنازل قسنطينة ثم أقلع عنها وعاود حصارها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وشنّ الغارة في نواحيها، واكتسح الأموال ورجع إلى وادي بجاية فاختطّ مدينة بتيكلات على مرحلة منها، وعلى قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق بما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر، فاختطّوا تلك المدينة وشيّدوها وجمعوا الأيدي عليها، وقسّموها مسافات على جيوشهم فاستتمت لأربعين يوما سمّوها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة، حيث امتنع يغمراسن على السعيد ونازلة وهلك عليه كما ذكرناه في أخباره. وشحنوا هذه المدينة بالأقوات والعدد وعمّروها بالمقاتلة من الرجل والفرسان والقبائل، وأخذت بمخنق البلد.
وقلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قوّاد عساكره وأصحاب عمالاته من مواليه وصنائعه أن يفرّوا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيّد الناس ويزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب، ويستميتوا دون تخريبه، فنهض ظافر الكبير من قسنطينة وعبد الله العاقل من هوّارة وظافر السنان من بونة، وتوافر ببجاية سنة سبع وعشرين وسبعمائة وبلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من عساكر بني عبد الواد، وخرجت العساكر جميعا من بجاية تحت لواء ابن سيّد الناس. وزحف إلى العدوّ بمحلّهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه وعلى أصحابه، وقتل ظافر الكبير ورجع فلّهم إلى بجاية. وداخلت ابن سيّد الناس فيهم الظنّة كما تداخل موسى بن علي ابن زبون كل واحد منهما بصاحبه على سلطانه [1] . فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ وأسحروا قافلين إلى أعمالهم، وعقد السلطان على قسنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياما. ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلا من الأدوات التي تحتاج إليها الحجابة. وعقد على حجابة الأمير أبي عبد الله بقسنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحويل شأنه ما نذكره أهـ.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بما كان يداخل موسى بن عيسى في الزبون كل واحد منهما لصاحبه على سلطانه.(6/492)
(الخبر عن مهلك الحاجب المزوار وولاية ابن سيد الناس مكانه ومقتل ابن القالون)
هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار، لا أدري من أوّليته أكثر من أنه كرديّ من الأكراد الذين وفد رؤساؤهم على ملوك المغرب أيام أجلاهم التتر عن أوطانهم بشهرزور عند تغلّبهم على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، فمنهم من أقام بتونس، ومنهم من تقدّم إلى المغرب فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم. وصار قوم منهم إلى بني مرين وآخرون إلى بني عبد الواد حسبما يذكر في أخبارهم.
ومن المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغور الغربية، وتحت كنف من اصطناعه. واختلط بأبنائه وقدم في جملة ابنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدّما في بطانته ورئيسا على الحاشية المتسمين بالدخلة، وكان يعرف لذلك بالمزوار. وكان شهما وقورا متديّنا وله في الدولة حظ من الظهور، وهو الّذي تولى كبر السعاية في الحاجب بن القالون حتى ارتاب بمكانه. ووفد إلى أبي عمران سنة إحدى وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه. وولّاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعينا بالكاتب أبي القاسم بن عبد العزيز لخلوّة هو من الأدوات. وإنما كان شجاعا ذا همة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع وعشرين وسبعمائة وأراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدّنا الأقرب فأبى، ورغب في الإقالة فأجيب جنوحا لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية في السكون والفرار من الرتب. وأشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس لتقدمة سلفه مع سلف السلطان، وكثرة تابعه وخاشيته وقوّة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه. أخبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله وصاحبنا محمد بن منصور بن مزني، قال لي: حضرت لاستدعاء جدّكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار، وأدخله السلطان إلى رواقه، وغاب مليّا ثم خرج وقد استفاض بين البطانة والحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها، وأقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم، واستقدم خالصته محمد ابن حاجب أبيه أبي الحسين ابن سيّد الناس، فقدم في محرّم فاتح ثمان(6/493)
وعشرين وسبعمائة وولّاه حجابته فاضطلع بها، وجدّد له العقد على بجاية وحجابة ابنه بها، فدفع إليها للنيابة عنه في الحجابة صنيعته محمد بن فرحون، ومعه كاتبه أبو القاسم بن المريد. وجرى الحال على ذلك ببجاية وعساكر زناتة تجوس خلالها ومعاقلهم تأخذ بمخنقها. وقدم ابن القالون دوين مقدّم ابن سيّد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الزواودة، وطمع في عوده إلى الخطّة.
وكان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران رأى ركوب السفن إلى الأندلس، فأعجلهم السلطان عن ذلك وخرج ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مرارا، ولحق بتلمسان. ثم جاء مع ابن الشهيد وفعل الأفاعيل، ثم انحلّ أمر ابن الشهيد، ولحق هو بالزواودة من رياح. ونزل على عليّ ابن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره وأنزله بطولقة من بلاد الزاب، وخاطب السلطان في شأنه واقتضى له الأمان حتى أسعف ووفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد، وفي نفس ابن القالون طمع في الخطة. وسبقه ابن سيّد الناس إلى السلطان فأشغل بها. وجاء ابن القالون من بعده فأوصله السلطان إلى نفسه، واعتذر إليه ووعده وعقد له على قفصة فسار إليها وصحب موالي السلطان من المعلوجين بشهير وفارح [1] وأوعز ابن سيّد الناس إلى مشيخة قفصة يتقبّضون على حاميته ليتمكن الموالي منه. فلما نزل بساحة البلد دخل كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته وكان يستظهر بمكانه. فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لقتله هيعة تسامع الناس بعظمها [2] من خارج البلد، وبرز ابن القالون من فسطاطه وقد كرّ [3] فتقدّم إليه الموالي الذين جاءوا معه وتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن هلك. والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن ولاية الفضل على بونة)
كان السلطان عقد على بونة منذ أوّل دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام بأمرها فاضطلع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المعلوجي بشير وفارح.
[2] وفي نسخة أخرى: لغطها.
[3] وفي نسخة أخرى: وقد جث للرعب.(6/494)
بولايتها، وكان من الغلظة ومراس الحروب بمكان. وكان مع ذلك غشوما جبارا وخرج إلى ولهاصة سنة [1] فاضطرّهم ونهضوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم. وبلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لابنه أبي العبّاس الفضل، وبعثه إليها. وولّى على حجابته وقيادة عسكره ظافر السنان من مواليه المعلوجين [2] فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره.
(الخبر عن واقعة الرياس وما كان قبلها من مقتل الأمير أبي فارس أخي السلطان)
كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد وعبد العزيز وعبد الرحمن، وهلك عبد الرحمن منهم وبقي الآخران. وكانا في ظلّ ظليل من النعمة، وحظ كبير من المساهمة في الجاه. وكان في نفس الأمير أبي فارس تشوّق إلى نيل الرتبة وتربّص بالدولة. وكان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين وأعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعا إليها من الأندلس، فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشر وسبعمائة ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرّة ورحبا، ووفّر حظّه وحظ حاشيته من الجرايات والاقطاع، وجعل له أن يستركب ويستلحق، وكان يستظهر به في مواقف حروبه، ويتجمل في المشاهد بحركاته [3] بما كان سيّدا في قومه. وكان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه، وكانت فيه غلظة وأنفة وإباء. وغدا في بعض أيامه على الحاجب بن سيّد الناس فتلقّاه الإذن بالعذر [4] ، فذهب مغاضبا، ومرّ بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج والثورة، وخرجا من يومهما في ربيع سنة سبع وعشرين وسبعمائة ومرّا ببعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحيّ فعرض عليهما النزول، فأمّا عبد الحق فأبى وذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان، وأمّا الأمير أبو فارس فأجاب ونزل، وطيّروا بالخبر إلى السلطان
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى المعلوجي.
[3] وفي نسخة أخرى: بمكانه من سريره.
[4] وفي نسخة أخرى: الإذن بالغدر.(6/495)
فسرّح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه وقوّاد دولته في طائفة من العسكر والنصارى، فصبحوه في الحيّ وأحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد، ودافع عن نفسه مستميتا فقتلوه قعصا [1] بالرماح، وجاءوا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها.
ونزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين حين نزل، ورغّبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصيّة وتدويخ ممالكها، ووفد على أثر، حمزة بن عمر ورجالات سليم صريحا على عادتهم. فأجاب أبو تاشفين صريخهم ونصب لهم محمد بن أبي عمران وكان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملا على طرابلس. فلما انهزم أبو ضربة وانحلّ أمره استقدمه العرب وأجلبوا به على الحضرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فملكها ستة أشهر. ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها، ولحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع وعشرين وسبعمائة وثاروا به وأخرجوه فلحق بالعرب وأجلبوا به على السلطان مرارا ينهزمون عنه في كلها.
ثم لحق بتلمسان واستقرّ بها عند أبي تاشفين في خير جوار وكرامة وجراية إلى أن وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنصبه للأمر بإفريقية. وأمدّهم بالعساكر من زناتة. عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه. ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته من بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته. وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة، فنهضوا جميعا إلى تونس فزحف السلطان للقائهم وتراءى الجمعان بالرياس من نواحي هوّارة آخر سنة تسع وعشرين [2] وسبعمائة، فدارت الحرب واختل مصاف السلطان، وفلّت جموعه. وأحيط به فأفلت بعد عصب الريق، وأصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها، وقتل كثير من بطانته وحاشيته، كان من أشهرهم محمد المديوني. وانتهب المعسكر وتقبّض على أحمد وعمر ابني السلطان فاحتملا إلى تونس [3] حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه وبين السلطان فاتحه فيها أبو تاشفين، وجنح إلى السلم وأطلق الابنين ولم يتمّ شأن الصلح من بعد ذلك. وتقدّم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين وسبعمائة واستبدّ عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد، وحجب التصرّف
__________
[1] قوصا: أي قتله في مكانه، أجهز عليه.
[2] وفي نسخة أخرى: سبع وعشرين.
[3] وفي نسخة أخرى: تلمسان.(6/496)
في شيء من أمره، ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه. ونهض السلطان أبو بكر من قسنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد والتعبية، فأجفل ابن أبي عمران عنها، ودخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره.
(الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة على بني عبد الواد وما يتبع ذلك من المصاهرة)
كان السلطان أبو بكر لما خلص من واقعة الرياس نجا إلى بونة، وركب منها البحر إلى بجاية، وقد ضاق ذرعه بإلحاح بني عبد الواد على ممالكه وتجهيز الكتائب على ثغره وترديد البعوث إلى وطنه، فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه وسلفهم من السابقة، وما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار والإحف، ليبعث بذلك دواعيهم على مطالبة بني عبد الواد: فيأخذ بحجزتهم عنه.
ثم عيّن للوفادة عليه ابنه الأمير أبا زكريا، وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحّدين لسانا لخطابه ونجيا لشوراه. وركبوا البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة، واهتز صاحب المغرب لقدومه وأكرم وفادته واستبلغ في القرى والاجارة، وأجاب دعاءهم إلى محاربة عدوّهم وعدوّه على شريطة اجتماع اليد عليها وموافاة السلطان أبي سعيد والسلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك.
وكان السلطان أبو سعيد بعث سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يحيى الرنداحي [1] قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه، وشغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران. فلما وفد عليه ابن السلطان وأولياؤه أعاد الحديث في ذلك، وعين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي وصرفه مع الوفد، فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين وسبعمائة وقد طرد عدوّه وشفى نفسه، فجاءوه بأمنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان. وخطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد، فعقد على ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكريا السفير إليهم وزفّها إليه في أساطيله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وأنفذ
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الزنداجي.(6/497)
لزفافها من مشيخة الموحدين أبا القاسم بن عتو ومحمد بن سليمان الناسك، وقد مرّ ذكره، فنزلت على وثير من الغبطة والعزّ، وكان الشأن في مهرها وزفافها ومشاهد أعراسها وولائمها وجهازها كله من المفاخر للدولتين، ولم يزل مذكورا على الأيام.
(الخبر عن حركة السلطان الى المغرب وفرار بني عبد الواد وتخريب تيمرزدكت)
مات السلطان أبو سعيد على تفيئة ما قدّمناه من الأخبار آخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى أبي تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه ببلاد الموحدين وطغيانه عليها، فلج واستكبر وأساء الردّ، فنهض إليه على سبيل الصريخ لهم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وطوى البلاد طيا إلى تلمسان، وأفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم. وتقدّم السلطان أبو الحسن عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية والأخذ بحجزة العدوّ لمحاصرتها وبعث عسكرا من قومه مددا لهم عقد عليهم لمحمد البطوي، وأركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوا إليها وقوبلوا بما يناسبهم من الكرامة والجراية. واستنهض السلطان أبو الحسن أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان الشرط بين أبيه وبين ابنه الأمير أبي زكريا، فشرع السلطان في جهاز حركته وإزاحة علله. وأقام السلطان أبو الحسن في تاسالة في انتظاره شهرا حتى انصرف فصل الشتاء. وبلغه بمعسكره من تاسالة أنّ أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض عليه وخرج إلى درعة، فقتل عامله عليها بعد أن كان داخله وعقد له على المهادنة والتجافي عنه بمكانه من سجلماسة. فلما بلغه هذا الخبر كرّ راجعا إلى المغرب لإصلاح شأنه. وكان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس واحتفل في الحشد والتعبية فانتهى إلى بجاية وبعث مقدّماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها. ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت، وفرّت عنها الكتائب المجهّزة [1] بها، فأناخ عليها حتى خرّبها وانتهب أموالها وأسلحتها، ونسف آثارها وقفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغيّ، وموطن أولاد سبّاع بن يحيى من الزواودة، كانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المجمّرة.(6/498)
مشيختهم سليمان ويحيى ابنا علي بن سباع وعثمان بن سبّاع عمهم وابنه سعيد، قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين وحملوا عليها قومهم، ونهجوا لعساكره السبيل إلى وطء بلاد الموحدين والعيث فيها ومجاذبة حبلها.
وأقطعهم أبو تاشفين بلاد المسيلة وجبال مشنان ووانوغة وجبل عياض فأصاروها من أعمالها، فلما شرّد السلطان عساكرهم عن بجاية وهدم ثغرهم عليها واسترجع أعمال بجاية إليها سار بجموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله ويجدّد به دعوته. وزاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد لقتال أولاد سبّاع هؤلاء ونظرائهم وأهل أوتارهم ودخولهم، فارتحل غازيا إلى المسيلة حتى نزلها، واصطلم نعمها وخرّب أسوارها، وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني واجلابه على تونس، وكان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكريا سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنزل على دباب وبايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس، وتسامع به الناس وإفريقية شاغرة من الحامية والعساكر لنهوضهم مع السلطان، فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة، واستقدمه فبايع له ورحل به إلى الحضرة، فنزل بساحتها، ودخل عبد الواحد بن اللحياني بصحابة ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى السلطان، فقفل من الحضرة وبعث في مقدّمته محمد بن البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك، فأجفل ابن اللحياني وجموعه عن تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم، ودخل البطوي إليها وجاء السلطان على أثره أيام عيد الفطر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
(الخبر عن نكبة الحاجب ابن سيد الناس وولاية ابن عبد العزيز وابن عبد الحكم من بعده)
قد قدّمنا أوّلية هذا الرجل وأنّ أباه الحسن كان حاجبا للأمير أبي زكريا ببجاية. ولما هلك سنة تسعين وستمائة خلف ابنه محمدا هذا في كفالة السلطان ومرعى نعمته، فاشتمل كرسيهم [1] عليه وآواه إلى حجره وأرضهم مع الكثير من بنيه، ونشأ في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قصرهم.(6/499)
كنفه. وكان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي حيّ والرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه ويؤثرونه على أنفسهم في التجلّة. ولم يدرأ في سنّ الرجولية والسعي في المجد إلا أيام ابن عمر آخرهم، فكان له منه مكان حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسنطينة لطلب تونس، وجهّز له ابن عمر الآلات والعساكر، وأقام له الحجّاب والوزراء والقوّاد، كان فيمن سرّح معه محمد بن سيد الناس قائدا على عسكر من عساكره. وكان سفيرا للسلطان فكانت له عنده أثره واختصاص، وعقد له من بعد مهلك ابن عمر على بجاية لما عزل عنها ابن القالون كما قدّمناه، فاستبدّ بها على السلطان وحماها دون عساكر زناتة، ودفع في صدورهم عنها وكان له في ذلك كلّه مقامات مذكورة. وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي بن زبون مداخلة [1] كل واحد منهما في مكان صاحبه على سلطانه، وفطن لأمرهما. فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره، وأما السلطان أبو بكر فأغضى لابن سيّد الناس عنها. ثم استدعاه وقلّده حجابته سنة سبع وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه، واستخلف على مكانه ببجاية صنيعته محمد بن فرحون وأحمد بن مزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدوّ وكفالة الأمير أبي زكريا ابن السلطان. وقدم هو على السلطان وأسكنه بقصور ملكه، وفوّض إليه أمور سلطانه، تفويض الاستقلال، فجرى في طلق الاستبداد عليه وأرخى له السلطان حبل الإمهال واعتدّ عليه فلتات الدالة على ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدوّ والزبون على مولاه باستغلاظهم. وأمهله السلطان لمكانه من حماية ثغر بجاية والاشتغال [2] به دونه، حتى إذا تجلّت غمامتهم، وأطلّ أبو الحسن عليهم من مرقبه ونهض السلطان أبو بكر إلى بجاية وخرّب تيمرزدكت، فأغراه البطانة حينئذ بالحاجب محمد بن سيّد الناس، وتنبه له السلطان فأحفظ له استبداده وتقبّض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقله. ثم امتحنه بأنواع العذاب لاستخراج المال منه فلم ينبس بقطرة، وما زال يستغيث ويتوسّل بسوابقه من الرضاع والمربى، وسوابق أبيه عند سلفه حتى لدغه العذاب فأفحش، ونال من السلطان وأقذع فقتل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي مداخلة في زبون.
[2] وفي نسخة أخرى: من حماية الثغر ببجاية والاستقلال به دونه(6/500)
شدخا بالعصي وجرّ شلوه فأحرق خارج الحضرة وعفا رسمه كأن لم يكن، وإلى الله عاقبة الأمور.
ولما تقبّض السلطان على ابن سيّد الناس ومحا أثر استبداده قلّد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز، وقد كان قدم من الحج عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت، فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته، وتقبض على ابن سيّد الناس فولّاه الحجابة، وكان مضعّفا لا يقوم بالحرب، فعقد السلطان على الحرب والتدبير لصنيعته وكبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم وفوّض له فيما وراء الحضرة، وهو محمد بن علي بن محمد بن حمزة بن إبراهيم بن أحمد اللخمي، ونسبه في بني العز في الرؤساء بسبتة. وجدّه أحمد هو أبو العبّاس المذكور بالعلم والدين والرأي ابن القاسم [1] المستقل برياسة سبتة من بعد الموحدين، وكان من خبر أوّليته فيما حدّثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة، والمنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته، وحدّثني أيضا بها حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب، وحدّثني بها أيضا الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعا: إنّ أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمّى إبراهيم، وكان مسرفا على نفسه وأصاب دما في سبتة، وحلف أخوه أبو القاسم ليقتادنّ منه، ففرّ ولحق بديار المشرق. هذا آخر خبرهم. وأنّ محمدا هذا من بنيه. وبقية الخبر عن أهل هذا البيت من سراتهم أنّ إبراهيم أنجب محمدا، وأنجب محمد حمزة، ثم أنجب حمزة عليا فكلف بالقراءة واستظهر علم الطبّ في إيالة السلطان أبي بكر [2] بالثغور الغربية وأصاب السلطان وجع في بعض أزمانه وأعياه دواؤه فجمع له الأطباء وكان فيهم عليّ هذا فحدس على المرض وأحسن المداواة، فوقع من السلطان أحسن المواقع واستخلصه لنفسه وخلطه بخاصته وأهل خلوته، وصار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه. وكان يدعى في الدولة بالحكيم وبه عرف ابنه من بعده، وأصهر إلى أحد بيوت قسنطينة فزوّجوه وخلط أهله بحرم السلطان. وولد له محمد ابنه بقصره، ورضع مع الأمير أبي بكر ابنه، ونشأ في حجر الدولة وكفالتها على أحسن الوجوه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والد أبي القاسم.
[2] وفي نسخة أخرى: أبي زكريا.(6/501)
تربيتها. ولما بلغ الحدّ وصرف إليه رئيس الدولة يعقوب بن عمر وجه إقباله واختصاصه، فكان له منه مكان أكسبه ترشيحا للرئاسة فيما بعد من بين خواص السلطان وخلصائه.
ولما نهض السلطان إلى إفريقية قلّده قيادة بعض العساكر، ثم عقد له بعد مهلك ابن عمر على عمل باجة حين رقى ابن سيّد الناس عنها إلى بجاية، وكان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فأضطلع به، ثم لما آمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيّد الناس دفعه لذلك، فولي القبض عليه كمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية. واستدعى ابن سيّد الناس إلى السلطان ومرّ بمكانهم، فلما انتهى إليهم توثّبوا به وشدّوه كتافا وتلّوه إلى محبسه بالبرج المعدّ لعقاب أمثاله بالقصبة.
وتولّى ابن الحكيم من امتحانه وعذابه ما ذكرناه إلى أن هلك، وعقد له السلطان مكانه على الحرب والتدبير من خططه، وفوّض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه.
وجعل تنفيذ الأموال والكتب على الأوامر لابن عبد العزيز، فكان عدله في حمل الدولة، إلا أنّ ابن عبد الحكيم كان أشفّ فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب والرئاسة على الكتابة، لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته وأحسن الغناء والولاية إلى أن كان من خبره وخبر الدولة ما نذكر.
(الخبر عن فتح قفصة وولاية الأمير أبي العباس عليها)
كان أهل الجريد منذ تقلّص عنهم ظل الدولة عند انقسام الملك بين الثغور الغربية والحضرة وما إليها، وصار أمرهم إلى الشورى من المشيخة إلا في الأحايين يؤمّلون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين، فقدم عبد المؤمن إلى إفريقية وبنو الرند على قفصة وقسنطينة [1] ، وابن واطاس على توزر، وابن مطروح على طرابلس فأمّلوا فتكها [2] ، وشغل مولانا السلطان أبو بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر وانفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيّان واجلاب عساكرهم مع حمزة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قسطيلية.
[2] وفي نسخة أخرى: مثلها.(6/502)
ابن عمر على أوطانه. حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم وأطل عليهم من مراقبة فعادوا إلى أوكارهم بعد أن استبدّوا [1] ، وتنفّس مخنق الثغور الغربية من حصارهم، وزال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم وسكن اضطراب الخوارج على الدولة خفتت أصوات المرجفين في ممالكها، وصرف السلطان نظره في أعطاف ملكه ومحو الشقاق من سائر أعماله، وسمت همّته إلى تدويخ القاصية من بلاد الجريد واستنقاذ أهلها من أيدي الذئاب الغاوية والكلاب العاوية زعماء أمصارها وأعراب فلاتها، فنهض إلى قفصة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد كان استبدّ بشوراها يحيى ابن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها، فنازلها أياما والعساكر تلجّ عليها بأنواع القتال، ونصب عليها المجانيق فامتنعوا. ثم جمع الأيدي حتى قطع تحيّلهم وامتناع صرائحهم [2] فنادوا بالأمان فأمّنهم. وخرج إليه ابن عبد الجليل رئيسهم الآخر من سنته، فأشخصه إلى الحضرة وأنزله بها ورجالات من قومه بني العابد. وفرّ سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي ودخل أهل البلد في حكمه، وتفيئوا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم. وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام والإقطاع وتجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية. ثم آثرهم بسكنى بلده المخصوص بعديد لعهد الأمير أبي العبّاس، وأنزله بين ظهرانيهم وأوصاه بهم، وعقد له على قسنطينة وما إليها. وجعل معه على حجابته أبا القاسم ابن عتو من مشيخة الموحدين، وقفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته، والله أعلم.
(الخبر عن ولاية الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد سوسة ثم اضافة المهدية اليهما)
لما نكب السلطان حاجبه ابن سيّد الناس، وولّى محمد بن فرحون على حجابة ابنه الأمير أبي زكريا، وقرب [3] ذلك ما نزل بآل يغمراسن من عدوّهم وتفرغ السلطان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بعد أن اسفوا.
[2] هكذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حتى قطع نخيلهم وإقلاع شجرائهم.
[3] وفي نسخة أخرى: وقارن.(6/503)
للنظر في ملكه وتمهيد أحواله، وأن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه. فعقد على سوسة والبلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز وخالد شريكين في الأمر، وأنزلهما بسوسة، وأنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة ومن بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية، ورياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف. وكان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك. ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية معه باستبداد ابنه وأن يولّي من شاء على حجابته وأنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. ثم استدعاه الأمير أبو زكريا فرجع إليه وأقام هذان الأميران بسوسة حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم واستنزل قريبه محمد بن الزكزاك [1] من المهدية كان أنزله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس، ويعرف بابن عبد الغفّار سنة [2] واتخذها حسنا لنفسه، وأنزل بها قريبه هذا وشحنها بالعدد والأقوات فلم يغن عنه. ولما هلك استنزل ابن الزكزاك وبعث السلطان عليهما ابنه الأمير أبا البقاء، وأفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة من الأبناء وولاية بنيه من بعده)
كان الأمير أبو عبد الله مخصوصا من أبيه من بين ولده بالأثرة والعناية قد صرف إليه إقباله وأوقع [3] عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح، وما تحلّى به من خلال الملك. وكان الناس يعرفون له حق ذلك. وذلك أنّ ابن عمر كان مستبدّا بالثغور الغربية ببجاية وقسنطينة ومدافعا عنها العدو من زناتة المطالبين لها. فلما هلك ابن عمر سنة تسع عشرة وسبعمائة كما قدّمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره، فعقد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: محمد بن الركراك.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي نسخة أخرى: وألقى.(6/504)
على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا وعقد على حجابته لابن القالون وسرّحه معه لمدافعة العدوّ، وعقد على قسنطينة للأمير أبي عبد الله ومعه أحمد بن ياسين. وخرجوا جميعا من تونس سنة عشرين وسبعمائة ونزل كل بعمله. وقدّم ظافر الكبير من الغرب فولّاه السلطان حجابة ابنه بقسنطينة وأنزله بها إلى أن هلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة على تيمرزدكت كما ذكرناه، فجاء لحجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوما. ثم رجع إلى الحضرة وأضاف السلطان حجابة قسنطينة لابن سيّد الناس إلى حجابة بجاية، وبعث إليها نائبا عنه مولاه هلالا النازع إليه عن موسى بن علي قائد بني عبد الواد فقام بخدمة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيّد الناس عند ما بلغ الأمير أبا عبد الله أثره [1] وجرى في طلق استبداده ففوّض له في عمله السلطان وأطلق من عنانه، وكان يؤامره في شأنه ويناجيه في خلوته. وأنزل معه بقسنطينة نبيلا من المعلوجين يقيم له رسم الحجابة. ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع وثلاثين وسبعمائة لقيادة الأعنّة والحرب، فقدم لذلك وأقام سنة ونصفها. ثم رجع وقام نبيل لحجابته كما كان ودفع يعيش بن [2] من صنائع الدولة لقيادة العساكر وحماية الأوطان فقاسمه لذلك مراسم الخدمة ورتب الدولة واستمرّت حال الأمير أبي عبد الله على ذلك والأيام تزيده ظهورا ومساعيه الملوكية تكسبه جلالا وترشيحا إلى أن أسقط [3] دون غايته واغتاله الأجل عن مداه، فهلك رضوان الله عليه آخر سبع وثلاثين وسبعمائة وقام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير أبو زيد عبد الرحمن، فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره، واستمرّت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة، وكان من أمره ما نذكر بعد والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عند ما بلغ الأمير أبو عبد الله أشده.
[2] بياض بالأصل ولم نعثر على هذا الاسم في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي نسخة أخرى: اغتبط.(6/505)
(الخبر عن شأن العرب ومهلك حمزة ثم إجلاب بنيه على الحضرة وانهزامهم ومقتل معزوز بن همر وما قارن ذلك من الأحداث)
لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان وأعمالها، وقطع دابر آل زيّان واجتثّ أصلهم وجمع كلمة زناتة على طاعته، واستتبعهم عصابة تحت لوائه، ودانت القبائل بالانقياد له ورجفت القلوب لرعبه، ووفد عليه حمزة بن عمر يرغّبه في ممالك إفريقية ويستحثّه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله، فكفّ بالبأس من غلوائه، وزجره عن خلافه على السلطان وشقاقه. ونهج له بالشفاعة سبيلا إلى معاودة طاعته والعمل بمرضاته، فرجع حمزة إلى السلطان عائذا بحلمه متوسّلا بشفاعة صاحبه راغبا بإذعانه، وقلعه مواد [1] الخلاف من العرب باستقامته فتلقّاه السلطان بالقبول وأسعاف الرغبة والجزاء على المناصحة والمخالصة. ولم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه وإقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية مناديا بمظاهرة محمد بن الحكيم قائد عسكره [2] ، وشهاب دولته على تدويخ إفريقية وتدويخ أعمالها وحسم أدواء الفساد منها.
وأخذ الصدقة من جميع ظواعن البدو الناجعة في أقطارها، وجمع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة والكفّ عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار لذلك مهّدت من الدولة وأرغمت أنوف المتعاصين بالاستبداد [3] في القاصية حتى استقام الأمر وانمحت آثار الشقاق فاستولى على المهديّة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وغلب عليها ابن عبد الغفّار المنتزي عليها من أهل رحيش [4] واستولى على تبسة وتقبّض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها وأودعه سجن المهديّة إلى أن أطلق
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زعيما باذعانه وقطع مواد.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: قائد حربه.
[3] وفي نسخة أخرى: المتعاطين للاستبداد.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى رجيس.(6/506)
بعد نكبته، ونازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن بهلول على طاعته للعصبية، واسترهن ولده، ونازل بسكرة غير مرّة يدافعه يوسف بن منصور من بني مزني بذمّة يدّعيها من السلطان أبي بكر وسلفه. ويعطيه الجباية بدفع ما كان من الاعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن فتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه، وزحف إلى بلاد ريغة [1] فافتتح قاعدتها تغرت واستولى على أموالها وذخيرتها وسار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقلة. وعصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب وجاست عساكر السلطان خلال كل أرض. وفي أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على يد ابن عون بن أبي علي من بني كثير [2] أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه غيلة فأشواه [3] وقام بأمره من بعده بنوه، وكبيرهم يومئذ عمر، وداخلتهم الظنّة بأن قتله بإملاء الدولة فاعصوصبوا وتآمروا واستجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيّشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة والجند ففلوه واستلحموا كثيرا من وجوههم. ورجع إلى الحضرة فتحصّن بها واتبعوه فنزل بساحتها ثلاثين وسبعمائة وقاتلوا العساكر سبع ليال. ثم اختلفوا ونزل طالب بن مهلهل إلى طاعة السلطان فأجفلوا وخرج السلطان في جمادى من سنته في عساكره وأحزابه من عرب هوّارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان ورجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته. وذهبوا مفلولين إلى القفر ومرّوا في طريقهم بالأمير أبي العبّاس بقفصة فرغّبوه بالخلاف على أبيه، وأن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في ذلك حتى ظفر بالمعز بن مطاع وزير حمزة وكان رأس النفاق والغواية فتقبّض عليه وقتله، وبعث برأسه إلى الحضرة ونصب بها. ووقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع.
ووفد بعدها على الحضرة فبايع لها بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة والكافة بإيوان ملكه. وكان يوما مشهودا قرئ فيه سجل العهد على الكافة، وانفصلوا منه داعين للسلطان. وراجع بنو حمزة الطاعة بعدها واستقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] يقال لشعب اوريغة وريغة أو ريغة اختصارا، ويقال لهم هوّارة تغلبيا، وهم بنو اوريغ بن برنس.
[2] وفي نسخة أخرى: أبي عون علي بن كبير.
[3] أشواه: أصاب شواه أي أطرافه ولم يصب مقتله، على أنه أراد هنا بمعنى قتله، وجاء بها بمعنى قتله في مواضع أخرى من هذا الكتاب. قال عمر بن الغارض: سهم شهم القوم أشوى وشوى سهم أمحا حكم أحشاي شي. (قاموس)(6/507)
(الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين من بعد وما كان على تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم)
هذا الرجل اسمه أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الغسّاني وكنيته أبو القاسم، وأوصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش واستخدموا بها للموحّدين، واستقرّ أبوه إسماعيل بتونس. ونشأ أبو القاسم بها واستكتبه الحاجب ابن الدبّاغ ولما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس، ونكب ابن الدبّاغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن عمر، وخرج من تونس إلى قسنطينة واستقرّ ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرّب إلى الأندلس كما قدّمناه. واستعمله ابن عمر على الأشغال بقسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فقام بها وتعلّق بخدمة ابن القالون بعد استبداد ابن عمر ببجاية. فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة وسبعمائة استقدمه ابن القالون واستعمله على أشغال تونس. ثم كانت سعايته في ابن القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فرّ ابن القالون سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وولي الحجابة المزوار بن عبد العزيز، وكان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفه لضعف أدواته.
ولما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيّد الناس، من بجاية، وتقلّد الحجابة كما قدّمناه فغصّ بمكان ابن عبد العزيز هذا وأشخصه عن الحضرة وولّاه أعمال الحامّة [1] ثم استقدم منها عند ما ظهر عبد الواحد اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت، وأقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيّد الناس، وولي الحجابة بالحضرة كما ذكرت ذلك كله من قبل إلى أن هلك فاتح سنة أربع وأربعين وسبعمائة فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد بن عبد الله بن تافراكين.
وكان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تين ملّل ومن آيت الخميس. وولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على قابس أوّل ما ملكها الموحدون سنة أربعين
__________
[1] الحامة: خاصة الرجل من أهله وولده (القاموس) .(6/508)
وخمسمائة إلى أن فتحوا مراكش، فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه عنها على الإمارة والصلاة. ولما ثار بمراكش عبد العزيز وعيسى ابنا أومغار أخو الإمام المهدي سنة إحدى وخمسين كان مغيبه عنها على أوّل ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافراكين عند ندائه بالصلاة فقتلوه، وفضحهم الصبح فاستلحمهم العامّة، ثم كان ابنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحّدين ومشيختهم. ولما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيّد أبي إسحاق أنزله معه عبد الله بن عمر ابن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين، وكان عبد الله المقدّم فيهم وجاء ابنه عمر من بعده مشتغلا بمذهبه مرموقا بتجلته [1] . ولمّا ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على إفريقية ولّاه قابس وأعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة وكبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين، خالف الموحّدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون، فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الآذان للصبح، بما كان محافظا على شهود الجماعات. ورعاها له المأمون في أخيه عبد الحق وبنيه أحمد ومحمد وعمر فلما استلحم الموحّدون وعمهم الجزع ارتحل عبد الحق موريا بالحج ونزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة وسرّحه بعض الأحايين إلى الحامة لحسم الداء فيها. وقد كان توقّع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها، وقتل أهل الخلاف وحسم العلل، وولّاه السلطان أبو إسحاق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها. ولما ولي الدعيّ ابن عمارة أنه سرّحه في عسكر من الموحّدين لقهر العرب وكفّ عداوتهم فأثخن فيهم ما شاء. ولم يزل معروفا بالرياسة مرموقا بالتجلة إلى أن هلك. وكان بنو أخيه عبد العزيز وهم: أحمد ومحمد وعمر جاءوا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل، وغذوا بلبان النعمة والجاه فيها. وكان أحمد كبيرهم، وولّاه السلطان أبو حفص على قفصه ثم على المهدية، ثم استعفى من الولاية فعوفي.
وكان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا أخرج منها على ما كان لأوّله إلى أن هلك الأوّل المائة الثامنة سنة ثلاث. ونشأ ابناه أبو محمد عبد الله وأبو العبّاس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متقبلا مذهبه مرموقا تجلّته.(6/509)
أحمد في حجر الدولة وجوّ عنايتها وأصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن زذوتين شيخ الدولة في ابنته فعقد عليها. وأصهر من بعده أخوه أحمد بن أبي محمد بن يعمور في ابنته فعقد له أيضا عليها، واستخلص أبو ضربة بن اللحياني كبيرها أبا محمد عبد الله وآثره بصحبته، فلم يزل معه إلى أن كانت الواقعة عليه بمصوح، وتقبّض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم. ومن عليه السلطان أبو بكر ورقّاه في رتب عنايته إلى أن ولّاه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم. ثم قدّمه شيخا على الموحّدين بعد مهلك شيخهم أبي عمر بن عثمان سنة اثنتين وأربعين وبعثه إلى ملك المغرب مع ابنه الأمير أبي زكريا صاحب بجاية صريخا على بني عبد الواد فجلّى في خدمة السلطان وعرض سفارته. وتوجّه للإيثار بعدها إليه. واختصّ بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه. وغصّ الحاجب ابن سيّد الناس بمكانه، وهمّ بمكروهه فكبح السلطان عنانة عنه، ويقال إنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته. ولما انقسمت خطط الدولة من الحرب والتدبير ومخالصة السلطان وتنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب وابن الحكيم القائد. كان له هو القدح المعلى في المشورة والتدبير، وكانوا يرجعون إليه ويعوّلون على رأيه، وكان ثالث أثافيهم ومصقلة آرائهم.
ولما هلك ابن عبد العزيز، وكان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم، لما كان يتعاطاه من الاستبداد ويحتجنه من أموال السلطان، وأسرّ الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم وسوء دخلته، وأنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة اثنتين وأربعين كما قدّمناه في الادالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس، كانوا معتقلين بالحضرة، ألقاها الغدر على لسانه ضجرا من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب وسآمة ما هو فيه من الحصار واعتدّها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته، وبريء منها إليه فأودعها إذنا واعية وكان حتف ابن الحكيم فيها. ولمّا هلك وولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم، وكان يتربّض به لما كان بينهما من المنافسة.
وكان ابن الحكيم غائبا عن الحضرة في تدويخ القاصية، وقد نزل جبل أوراس فاقتحمه واقتضى مغارمه وتوغّل في أرض الزاب واستوفى جباية من عامله يوسف بن منصور، وتقدّم إلى ريغة ونازل تغرت وافتتحها، وامتلأت أيدي العساكر من(6/510)
مكاسبهم وخيلهم [1] . واتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظنّ أنّ السلطان لا يعدل بها عنه. وكان يرشح له كاتبه أبا القاسم وازار [2] ، ويرى أنّ ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثارا عليه، فبدا له ما لم يحتسبه فظنّ الظنون وجمع أصحابه، وأغذّ السير إلى الحضرة وقد آمر السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته وأعدّ البطانة للقبض عليه. وقدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع وأربعين وجلس له السلطان جلوسا فخما فعرض عليه هديّته من المقرّبات والرقيق والأنعام، حتى إذا انفضّ المجلس وشيّع السلطان وزراؤه وانتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فلحقوا به ونقلوه إلى محبسه [3] . وبسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكان احتجانها وحصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين أو مثالها أو ما يقاربها قيمة من الجوهر والعقار إلى أن استصفى. ولما افتك عظمه ونفد ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته وذهب مثلا في الأيام. وغرب ولده مع أمّه إلى المشرق، وطوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك، وراجع الحضرة علي وعبيد منهم في آخرين من أصاغرهم بعد أيام وأحوال والله يحكم لا معقب لحكمه.
(الخبر عن شان الجريد واستكمال فتحه وولاية أحمد بن مكي على جزيرة جربة)
كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى منذ شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب، واستبدّ مشيخة كل بلد بأمره، ثم انفرد واحد منهم بالرياسة، وكان محمد بن بهلول من مشيخة توزر هم القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره. ولما نزعت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حدّه للثّوار وعفى على آثار المشيخة بقفصة وعقد لابنه الأمير أبي العبّاس على قسطيلية. ونزل بقفصة فأقام بها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حليهم.
[2] وفي نسخة أخرى: أبا القاسم بن واران.
[3] وفي نسخة أخرى: فأحدقوا به وتلّوه الى محبسه.(6/511)
ممهدا لإمارته، ومردّدا بعوثه إلى البلاد اختبارا لما يظهرون من طاعته. وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتوّ سنة [1] بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف، وكانوا إخوة أربعة استبدوا برياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب، ولاذوا منه بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش، وسألوا النزول على حكم السلطان فجذبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين، وأفلت السيف عليّا صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة، فكانت له ذمّة واقية من الهالكة. فانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في مملكته وجدّد له العقد عليها أبوه. وتملّك الكثير من نفزاوة.
ولما استبيحت نفطة ونفزاوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق، وخشي مقدّمها محمد بن بهلول عيث [2] حاله فذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكهما في سنة واحدة، واضطرب أمر توزر وتواثب بنوه وإخوته وقتل بعضهم بعضا. وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية، ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الّذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد وصارت لذلك شجا معترضا في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر وأغراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين والتقى به ففرّ عنه وانتهى إلى قفصة وصار الخبر إلى أبي بكر ابن بهلول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفضّ من حوله الأولياء، وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففرّ عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد المعمودي المعروف الشهرة، ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني وأغذّ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بن بهلول وألقى إليه يده وخلط نفسه بجملته.
ثم ندم على ما فرّط من أمره وأحس بالنكير من الدولة، وأنذر بالهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما تحدّث به الناس ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العبّاس وأنزله بها وأمكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظافرا عزيزا، واتصلت [3]
__________
[1] بياض بالأصل ولم تستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة أخرى: مغبّة.
[3] وفي نسخة أخرى: وتملأ.(6/512)
أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر. واتصلت ممالك الأمير أبي العبّاس في بلاد الجريد وساور أبو بكر بن بهلول [1] توزر مرارا يفلت في كلّها من الهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبيل مهلك الناس كما نذكر. وأقام أبو العباس بمحل إمارته ولم يزل يمهّد الأحوال ويستنزل الثوّار. وكان أبو مكي قد امتنع عليه بقابس، وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الّذي كان حاجبا له وذهب ابن اللحياني إلى المغرب وأقام هو بقابس. ثم استراب بمكان أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيّان فأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصّلا من ذنوبه متذمّما بشفاعته منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياسته. واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة.
وكان لأحمد بن مكي حظ من المال والأدوات ونفس مشغوفة بالرياسة والشرف [2] ، وكان يقرض الشعر فكان يجيد ويرسل فيحسن، وكان خط كتابته أنيقا ينحو به منحى الخط الشرقيّ شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء، فكانت لذلك كلّه في نفس الأمير أبي العبّاس صاغية إليه. وكان هو مستريبا بالمخالطة لما شاء من آثاره السالفة. ولم يزل الأمير أبو العبّاس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جلبه إلى مجلس السيدة أمّه الواحدة [3] أخت مولانا السلطان قافلة من حجهّا فمسح ما كان بصدره، وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز. وعقد له السلطان على جزيرة جربة، واستضافها إلى عمله وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين وعقد له السلطان عليها فنزلها أحمد بن مكي. واستقل عبد الملك أخوه برياسة قابس فقاما على ذلك وجرّدا عزائمهما في ولاية أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد فلم يزالوا كذلك إلى أن كان من أمر الجميع ما نذكر إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو بكر يملول.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالرياسة والسرو.
[3] وفي النسخة الباريسية: أمة الواحد.(6/513)
(الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين)
كان السلطان أبو بكر عند نكبة القائد ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وفوّض إليه فيما وراء بابه وعقد على الوزارة لأخيه أبي العبّاس أحمد وكان أبو محمد جليس الباب لمكان الحجابة فرفع إلى الحرب وقود العساكر، وإمارة الضاحية أخاه أبا العبّاس فقام بما دفع إليه من ذلك. وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الإذعان وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الاجلاب على الحضرة ما ذكرناه وكان سحيم بن [1] من أولاد القوس بن حكيم بينه وبينهم غدر وخلاف وعناد [2] ، وكان السلطان قد ولّى على حجابة ابنه الأمير أبي العبّاس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف، وينفس عليهم ما آتاهم الله من الرتبة والحظ، فلمّا ولي أبو محمد الحجابة مليء منه حسدا وحقدا [3] ، وداخل فيما زعموا سحيما هذا الغوي في النيل من أبي العبّاس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أدّاه إليه وتكاتموا أمرهم. وخرج أبو العبّاس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوّارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب. ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه، فانفضّ معسكره وكبابه فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها وجاهر سحيم بالخلاف، وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى مهلك السلطان كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والده في المراجع التي بين أيدينا.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بهمة غوار ومارد خلاف وعناد.
[3] وفي نسخة ثانية: حسدا وحفيظة.(6/514)
(الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا صاحب بجاية من الانباء وما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص وولاية ابنه الأمير أبي عبد الله)
كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب بن عمر عقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا كبير ولده، وأنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه وجعل أموره تحت نظره. ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيّد الناس كذلك، فلما استبدّ سيّد الناس بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون. ثم لما تقبّض على ابن سيّد الناس وعلي ابن فرحون وقد استبدّ الأمير أبو زكريا بأمره، وقام على نفسه فوض إليه السلطان الأمر في بجاية وبعث إليه ظافرا السنان مولى أبيه الأمير أبي زكريا الأوسط قائدا على عسكره. والكاتب أبا إسحاق بن علاق [1] متصرّفا في حجابته فأقاما ببابه مدة ثم صرفهما إلى الحضرة، وقدّم لحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكريا الرندي، كان أبوه من أهل العلم وكان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة، ويطالع كتب عبد الحق بن سبعين. ونشأ أحمد هذا ببجاية واتصل بخدمة السلطان وترقّى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبو زكريا كما قلناه. ثم هلك وقد أنف السلطان أبو بكر من الأمراء هؤلاء على حجابة ابنه [2] فأنفذ لها من حضرته كبير الموحدين يومئذ وصاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سني أربعين وسبعمائة فأقام أحوال ملكه، وعظم أبّهة سلطانه، وجهّز العساكر لسفره وأخرجه إلى أعماله فطاف عليها وتفقّدها، وانتهى إلى تخومها من المسيلة ومقرة. ولم يستكمل الحول حتى سخطه المشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الأبهة والحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان، وتولى كبر ذلك القاضي ابن يوسف تعنّتا وملالا، واستعفى هو من ذلك فأعفي وعاد إلى مكانه بالحضرة.
ثم استقدم الأمير أبو زكريا حاجبه الأوّل بعهد ابن سيّد الناس، وهو أبو عبد الله محمد ابن فرحون، وقد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: علان، وفي نسخة أخرى: غلان.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: من انتزاء هؤلاء السوقة على حجابة ابنه.(6/515)
الّذي بعثه مددا للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف. وكان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائده ببحر بجاية، فلما رجع أبو عبد الله ابن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكريا واستعمله على حجابته إلى أن هلك فولي من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صنائع دولته. ثم عزله وولّى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتّاب، واتصل بدار هذا الأمير وترقّى في ديوانه إلى أن ولّاه خطة الحجابة. ثم عزله وولى يحيى بن محمد بن المنت الحضرميّ [1] . كان أبوه وعمّه قدما على جالية الأندلس وكانا ينتحلان القراءات.
وأخذ أهل بجاية عن عمّه أبي الحسن علم القراءات، وكان خطيبا بجامع السلطان ونشأ علي ابن أخيه واستعمل في الديوان، وكان طموحا للرئاسة واتصل بحظية كانت للمولى أبي زكريا تسمّى أمّ الحكم قد غلبت على هواه، فرسمت على ابن المنت هذا بخطة الحجابة [2] واستعمله فيها فقام بها وأصلح معونات السلطان وأحوال مقاماته في سفره، وجهّز له العساكر وجال في نواحي أعماله.
وهلك هذا الأمير في إحدى سفراته وهو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجلية من مرض كان أزمن به في ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين وسبعمائة وكان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح بن معلوجي ابن سيّد الناس. وكان اصطنعه فألفاه قابلا للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة، وبادر حاجبه الأوّل أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة وأنهى الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص كان معه بالحضرة، وهو من أصاغر ولده، وأنفذه إليها مع رجاله وأولى اختصاصه.
وخرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية ودخلها على حين غفلة. وحمله الأوغاد من البطانة على إرهاف الحدّ وإظهار السطو فخشي الناس البوادر وائتمروا. ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثّب بالأمير القادم فطافوا بالقصبة في سلاحهم ونادوا بإمارة ابن مولاهم. ثم تسوّروا جدرانها واقتحموا داره وملكوا أمره وأخرجوه برمّته بعد أن انتهبوا جميع موجودة، وتسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم ومولاهم بعد أن كان معتزما على التقويض عنهم واللحاق بالخليفة جدّه. وأذن له في ذلك عمه القادم فبايعوه بداره من البلد. ثم نقلوه من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم عزله بعلي بن محمد بن المنت الحضرميّ.
[2] وفي نسخة ثانية: فرسخت على ابن المنت هذا خطة الحجابة.(6/516)
الغد إلى قصره بالقصبة وملّكوه أمرهم. وقام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة واستمرّ حالهم على ذلك. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادى الأولى من سنته لشهر يوم ولايته إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره. وتدارك السلطان أمر بجاية وبعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبار الصالحين ومشيخة الموحدين يسكنهم ويؤنسهم وبعث معه كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي زكريا طالبا مرضاتهم [1] فسكنت نفوسهم وأنسوا بولاية ابن مولاهم، وجاءت الأمور إلى مصايرها كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى والله وليّ التوفيق.
(الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر وولاية ابنه الأمير أبي حفص)
بينما الناس في غفلة من الدهر وظلّ ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمّة وافية من العدل، إذ ريع بالسرف وتكدّر الشرق [2] وتقلّصت ظلال العز والأمن، وتعطّل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، فهبّ الناس من مضاجعهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى. وبادر الأمير أبو حفص عمر من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره، ودعوا المشيخة من الموحّدين والموالي وطبقات الجند، وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص. ثم جلس من الغد جلوسا فخما على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته لعوائدها وقوانين ترتيبها، تلقّنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين، وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم. وانفضّ المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته.
وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيما بالحضرة قدمها رائدا [3] منذ أشهر وأقام
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ذهابا مع مرضاتهم.
[2] وفي نسخة أخرى: إذ ريع السرب وتكدّر الشرب.
[3] وفي نسخة أخرى: زائرا.(6/517)
متهنئا [1] من الزيارة، فلما سمع النعي فرّ من ليلته، وتقبّض عليه أولاد منديل من الكعوب وردّوه إلى الحضرة فاعتقل بها. وقام أبوه محمد بن تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلّا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه يذكرون منافساته ومناقشة سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه، واتصل ذلك منهم غصا لمكانه، وأنذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما يذكر بعد أهـ، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن زحف الأمير أبي العباس وليّ العهد من مكان إمارته بالجريد الى الحضرة وما كان من مقتله ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد)
كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فلمّا بلغه خبر مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه، حقد على أهل الحضرة ما جاءوا به من نقض عهده. ودعا العرب إلى مظاهرة أمره، فأجابوه ونزعوا جميعا إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفا لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم. وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فآتاه طاعته وصار في جملته، وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل، وخرج غرّه شعبان وارتحل عن تونس، وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد أنذر منه بالهلكة، واعتمل في أسباب النجاة، حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجيا إلى المغرب. وبلغ خبر مفرّة إلى السلطان فأجفل واختلّ مصادفه، وتحيّز إلى باجة فتلوم بها وتخلّف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس، وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله.
ثم دخل إلى قصره لسبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص في ثامنها فاقتحم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متمليا.(6/518)
عليه البلد لضاغنة كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه نساءهم [1] وطروقه منازلهم أيام جنون الشباب وقضاء لذاته في مرباه. وفتك بأخيه الأمير أبي العبّاس.
ولسرعان ما نصب رأسه على القناة، وداست شلوه هنالك سنابك العسكر، وأصبح آية للمعتبرين. وثارت العامّة بمن كان بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل. وتلّوا كثيرا منهم إلى السلطان فاعتقلهم، وقتل أبا الهون [2] بن حمزة بن عمر بن بينهم، وتقبّض على أخويه خالد وعزوز، فأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم. واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابتها أبا العبّاس أحمد بن علي بن زين من طبقة الكتّاب، وكان كاتبا للضحشى [3] الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير. واتصل السلطان أبو بكر لأوّل ملكه بالحضرة فأسف عليّ بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه. ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب ونزل على السلطان ابن سعيد فأجمل نزله، ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشرّدا أيام السلطان كلّها واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمدا وكانت له به وصلة، فلما استوسق له الملك بعد مفرّ أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وولّى أباه أبا العبّاس هذا على حجابته، وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجدّه المعروف بالسّنان، واستخلص لنجواه وسرّه كاتبه أبا عبد الله محمد بن الفضل ابن نوّار [4] من طبقة الفقهاء والقضاة ومن أهل البيوت النابهة بتونس، كان له بها سلف مذكور، واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتبا لولده. وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك يد [5] ومزيد عناية عنده. ولما استبدّ بأمره كان هو مستبدّا بشوراه، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أسمارهم.
[2] وفي نسخة ثانية: أبو الهول.
[3] وفي نسخة ثانية: للشخشي الحاجب
[4] وفي نسخة ثانية: ابن نزار.
[5] وفي نسخة ثانية: خصوصية به.(6/519)
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على افريقية ومهلك الأمير أبي حفص وانتقال الأبناء من بجاية وقسنطينة الى المغرب وما تخلل ذلك من الاحداث)
كان السلطان أبو الحسن يحدّث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك إفريقية، ويتربّص بالسلطان أبي بكر ويسرّ له حسدا في ارتقاء [1] ، فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثّه بالقدوم عليها، وجدّد له الجوار [2] فتنبهت لذلك عزائمه. ثم وصل الخبر بمهلك وليّ العهد وأخويه وخبر الواقعة، فأحفظه لذلك بما كان من رضاه بعهده، وخطه بالوفاق على ذلك بيده في سجله. وذلك أنّ حاجب الأمير أبي العبّاس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية. وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن، وسأل منه إمضاء لمولاه وكتب ذلك بخطه في سجله، فخطّه بيمينه وأحكم له عقده. فلما بلغه مهلك وليّ العهد تعلّل بأنّ النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو إفريقية ومن بها، فعسكر بظاهر تلمسان، وفرّق الأعطيات، وأزاح العلل. ثم رحل في صفر من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة يجرّ الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية، ورجالات الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية، ورجالات الكعوب أخاهم خالدا يستصرخه لثأر أخيهم أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم.
ونزع إليهم أيضا أهل القاصية من إفريقية بطاعتهم فجاءوا في وفد واحد مع ابن مكي صاحب قابس وابن يملول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنّان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة، فلقوه بوهران وآتوه بيعتهم رغبة ورهبة. وأدّوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس، ولم يتخلّف عنهم إلا من بعد داره. ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني ومعه مشيخة الموحدين الزواودة، وكبيرهم يعقوب بن علي فلقيه بنو حسن من أعمال بجاية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ويسرّ له حسوا في ارتغاء.
[2] وفي نسخة ثانية: وحرّك له الحوار.(6/520)
فأوسع الكل حبا وتكرمة، وأسنى الصلات والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله. وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياوي [1] من طبقة وزرائه، وأغذّ السير إلى بجاية، فلما أطلت عساكره عليها توافر أهلها في الامتناع، ثم أنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا فآتاه طاعته، وصرفه إلى المغرب مع إخوانه، وأنزله ببلد ندرومة. وأقطع له الكفاية من جبايتها وبعث على جباية عمّاله وخلفائه [2] . وسار إلى قسنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد وآتوه طاعتهم، وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها، وأنزل بقسنطينة خلفاء وعمّاله، وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها، وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه، ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه، وأصارهم في جملته حتى صرفهم إلى المغرب من الحضرة من بعد ذلك.
ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمرو مشايخ قومهم الكعوب فأخبروه باجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل، واستحثّوه باعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر، وسرّح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه، وسرّح عسكرا آخر إلى تونس لنظر يحيى بن سليمان من بني عسكر ومعه أبو العبّاس بن مكي، وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس، وضبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء، ثم انفضّوا وكبابا لأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء اليرابيع [3] ، وانجلت الغيابات عنه وعن مولاه ظافر راجلين فتقبّض عليهما، وأوثقهما قائد الكتائب بيده، حتى إذا جنّ الليل وتوقّع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما، وبعث برءوسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة.
وخلص الفلّ من الواقعة إلى قابس، فتقبّض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة، كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى بن رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة، فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اليرنياني.
[2] وفي نسخة ثانية: الكفاف من جبايتها وبعث على بجاية عماله وخلفاءه.
[3] كذا في النسخة الباريسية ونافقاء اليربوع: جحره. وفي نسخة أخرى تافقاء الجرابيع.(6/521)
فأمّا ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطّعهم من خلاف، واعتقل الباقي، وسيقت العساكر إلى تونس. ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادى الآخرة من سنته، وخفتت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد، وانقرض أمر الموحدين إلّا أذيالا في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه. ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهديّة وتطوّف على المعالم التي بها، ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها، والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء في ساحتها، وقفل إلى تونس فدخلها آخر شعبان والله تعالى أعلم.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل على بونة وأوّلية ذلك ومصايره)
كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه، وأوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة وصاحب شواره وخالصة سرّه وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء والكتاب والموالي كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي وكاتب دولته أبو الفضل عبد الله بن أبي مدين وأمير الحرم عنبر الخصيّ، فاسعفه السلطان وعقد له على حظيته عزونة شقة ابنه الفضل وزفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل، ومعه أبو محمد عبد الواحد ابن الجماز [1] من مشيخة الموحّدين، وأدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم. فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن، ورفع مجلس الفضل، واستتبّ له ملكها فأعرض عن ذكر ذلك، إلّا أنه رعى له ذمّة الصهر وسابقة الوعد فأسعفه [2] بالعقد على بونة مكان عملة منذ أيام أبيه، وأنزله بها عند ما رحل عنها إلى تونس. وانقمع [3] المولى الفضل من ذلك حقدا لما يرجوه من تجافيهم له عن ملك
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أكمازير وفي نسخة ثانية أكماز.
[2] وفي نسخة أخرى: فأقنعه.
[3] وفي نسخة أخرى: واضطغن.(6/522)