ويمنعون عنهم الميرة ثم وصل الخبر عاشر جمادى الاولى بوفاة السلطان بركيارق فاستشار جكرمس أهل البلد فردّوا النظر إليه واستشار الجند فأشاروا بطاعة السلطان محمد فأرسل إليه بذلك واستدعى وزيره سعد الملك فدخل عليه وأشار عليه بلقاء السلطان فخرج إليه على كره من أهل البلد فتلقاه السلطان بالكرامة وأعاده سريعا الى البلد ليطمئن الناس.
استيلاء السلطان محمد على بغداد وخلع ملك شاه ابن أخيه ومقتل أياز
قد كنا قدّمنا صلح بركيارق وأخيه محمد من أنه يستقل بركيارق بالسلطنة وينفرد محمد بالأعمال التي ذكرنا وموت بركيارق أثر ذلك وتقديم ابنه ملك شاه ببغداد فوصل الخبر بذلك إلى محمد وهو يحاصر الموصل فأطاعه جكرمس وسار محمد إلى بغداد ومعه جكرمس وسقمان القطبي مولى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود وياقوتي عمّ ملك شاه ومحمد وغيرهما من الأمراء وجمع صدقة صاحب الحلة العساكر وبعث ابنه بدران ودبيسا إلى محمد يستحثانه وجاء السلطان محمد الى بغداد فاعتزم الأمير أياز أتابك ملك شاه على دفاعه وخيم خارج بغداد وأشار عليه بذلك أصحابه وخالفهم وزيره أبو المحاسن الضبعي وأبلغ في النصيحة له بطاعة السلطان فأقام مترددا ونزل محمد بالجانب الغربي وخطب له هنالك منفردا ولهما معا في بعض الجوامع واقتصر على سلطان العالم في بعضها ورجع أياز إلى استحلاف الأمراء ثانيا فوقف بعضهم وقال لا فائدة في إعادة اليمين وارتاب أياز عندها وبعث وزيره الضبعي أبا المحاسن لعقد الصلح مع السلطان واستحلافه فقرأ على وزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد فدخل معه الى السلطان وأجابه الى ما طلب وجاء معه من الغد قاضي القضاة والفتيان واستحلفاه لاياز وللامراء فحلف إلا أن ينال الحسامي و [1] وقال أما ملك شاه فهو ابني وأنا أبوه وجاء أياز من الغد وقارن وصول صدقة بن مزيد فانزلهما واحتفى بهما وذلك آخر جمادى الاولى من سنة ثمان وتسعين ثم احتفل أياز بعدها في عمل صنيع للسلطان في بيته وهي دار كوهراس وأهدى إليه تحفا من جملتها حبل
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 385 فلما سمع الأمير أياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذين معه من الدور ونصبوا الخيام بالزاهر خارج بغداد، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعله فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه ومنعه عن السلطنة والاتفاق معه عن طاعة ملك شاه بن برقيارف وكان أشدهم في ذلك نيال وصباوة فإنّهم بالغا في الأطماع بالسلطان محمد والمنع له عن السلطنة.(5/41)
البلخش الّذي أخذه من تركة نظام الملك بن مؤيد الملك واتفق انّ أياز تقدّم لمواليه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان وكان عندهم مصفعان فألبسوه درعا تحت ثيابه وتناوله بالنخس فهرب عنهم ودخل في حاشية السلطان مذعورا فلمسوه فإذا الدرع تحت ثيابه فارتابوا ونهض السلطان إلى داره ثم دعا الأمراء بعد ذلك بأيام [1] فاستشارهم في بعث يبعثهم إلى ديار بكر [1] انّ ارسلان بن سليمان بن قطلمش قصدها فاتفقوا على الإشارة بمسير أياز وطلب هو أن يكون معه صدقة بن مزيد فأسعفه السلطان بذلك واستدعاهما لانفاذ ذلك وقد أرصد في بعض المخادع بطريقهم جماعة لقتل أياز فلما مرّ بهم تعاورته سيوفهم وقطع رأسه وهرب صدقة وأغمى على الوزير وهرب عسكر أياز فنهبوا داره وأرسل السلطان من دفعهم عنها وسار السلطان من بغداد الى أصبهان وهذا أياز من موالي السلطان ملك شاه ثم سار في جملة ملك آخر فساء وأمّا الضبعي وزير أياز فاختفى أشهرا ثم حمل إلى الوزير سعد الملك في رمضان فلما وصل كان ذلك سبب رياسته بهمدان.
استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين وموته
كان هذا الحصن في ديار بكر أقطعه السلطان بركيارق لمغن كان عنده وكان حواليها خلق كثير من الأكراد يغيرون عليها ويخيفون سابلتها واتفق أنّ كربوقا خرج من الموصل لحصار آمد وكانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لانجاده ولقيه كربوقا ومعه زنكي بن آقسنقر وأصحابه وأبلوا ذلك اليوم بلاء شديدا فانهزم وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي مدّة محبوسا وكثر خروج الأكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي الى المغني يسأله أن يطلقه ويقيم عنده بالريف لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي الى خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة فلا يهيجهم ثم حدّثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام بعد مرجعه من الاغارة ودنا من القلعة وعرّضهم للقتل ان لم يفتحها أهلوهم ففتحوها وملكها وجمع الجموع وسار الى نصيبين وإلى جزيرة ابن عمر وهي لجكرمس فكبسه جكرمس وأصحابه وأصابه في الحرب سهم فقتله
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 388: استدعي السلطان الأمير صدقة وأياز وجكرمش وغيرهم من الأمراء فلما حضروا أرسل إليهم أنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها ويسير منها إلى الجزيرة.(5/42)
وبكاه جكرمش وكانت تحت ياقوتي بنت عمه سقمان فمضت الى أبيها وجمعت التركمان وجاء [1] بهم الى نصيبين لطلب الثأر فبعث اليه جكرمش ما أرضاه من المال في ديته.
فرجع وأقام بماردين بعد ياقوتي أخوه على طاعة جكرمش وخرج منها لبعض المذاهب وكتب نائبة بها الى عمه سقمان بأنه تملك ماردين على جكرمش فبادر إليها سقمان واستولى عليها وعوض عنها ابن أخيه جبل جور وأقامت ماردين في حكمه مع حصن كيفا واستضاف إليها نصيبين ثم بعث إليها فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يستنجده على الافرنج وكان استبدّ بها على الخلفاء العبيد بين أهل مصر وثار له الافرنج عند ما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن ارتق سنة ثمان وتسعين فأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغتكين صاحب دمشق المستبدّ بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الفرنج فأسرع السير معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغتكين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه ومات هو بالقريتين فكفاهم الله تعالى أمره وقد كان أصحابه عند ما أيقن بالموت أشاروا عليه بالعود إلى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت كان لي ثواب شهيد.
خروج منكبرس على السلطان محمد ونكبته
كان منكبرس بن يورس [2] بن البارسلان مقيما بأصبهان وانقطعت عنه المواد من السلطان فخرج إلى نهاوند ودعا لنفسه وكاتب الأمراء بني برسق بخوزستان يدعوهم إلى طاعته وكان أخوهم زنكين عند السلطان محمد فقبض عليه وكاتب إخوته في التدبير على منكبرس فأرسلوا إليه بالطاعة حتى جاءهم فقبضوا عليه بخوزستان وبعثوا به إلى أصبهان فاعتقل مع ابن عمه تتش وأطلق زنكين بن برسق وأعيد إلى مرتبته وكانت اقطاع بني برسق الأسير وسابور وخوزستان وغيرها ما بين الأهواز وهمدان فعوضهم عنها بالدينور وأخرجهم من تلك الناحية والله تعالى أعلم.
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 392: وجمعت التركمان وطلبت بثأر ابن ابنها وحصر سلمان نصيبين، وهي لجكرمش، فسير جكرمش إلى سكمان مالا كثيرا سرا فأخذه ورضي وقيل: أنه قتل في الحرب ولا يعرف قاتله.
[2] وفي الكامل بور برس وفي كتب التاريخ الحديثة بربروس.(5/43)
(مقتل فخر الملك بن نظام الملك) قد ذكرنا قبل أن فخر الملك بن نظام الملك كان وزيرا لتتش ثم حبسه ولما هزمه بركيارق ووجده في محبسه أطلقه وكان أخوه مؤيد الملك وزيرا له فمال إليه فخر الدولة بسعاية مجد الملك الباسلاني واستوزره سنة ثمان وثمانين ثم فارق وزارته ولحق بسنجر بن ملك شاه بخراسان فاستوزره فلما كان في آخر المائة الخامسة جاء باطني يتظلم إلى باب داره فأدخله يسمع شكواه فطعنه بخنجر فقتله وأمر السلطان سنجر بضربه فأقرّ على جماعة من الناس وقتل.
ولاية جاولي سكاور [1] على الموصل وموت جكرمش
كان جاولي سكاور قد استولى على ما بين خوزستان وفارس فعمر قلاعها وحصنها وأساء السيرة في أهلها فلما استقلّ السلطان محمد بالملك خافه جاولي وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن أنوتكين فتحصن منه جاولي وحاصره مودود ثمانية أشهر ودس جاولي إلى السلطان بطلب غيره فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر فسار إليه بأصبهان وجهزه في العساكر لجهاد الافرنج بالشام واسترجاع البلاد منهم وكان جكرمش صاحب الموصل قد قطع الحمل فأقطع السلطان الموصل وديار بكر والجزيرة لجاولي فسار إلى الموصل وجعل طريقه على بغداد على البواريخ [2] فاسباحها أياما ثم سار إلى أربل وكان صاحبها أبو الهيجاء بن برشك الكردي الهرباني [3] إلى جكرمش يستحثه فسار في عسكر الموصل والقوا قريبا من اريل فانهزم أصحاب جكرمش وكان يحمل في المحفة [4] فقاتل عنده غلمانه وأحمد بن قاروت بك فخرج وانهزم إلى الموصل ومات وجيء بجكرمش فحبسه ووصل من الغد إلى الموصل فولوا ازنكين بن جكرمش وأقام بالجزيرة وقام بأمره غزغلي مولى أبيه وفرّق الأموال والخيول وكتب إلى قلج أرسلان صاحب بلاد الروم ميتا وكان قد شيد الموصل وبنى أسوارها وحصنها بالخندق وبينما هو كذلك سار إليه قلج ارسلان من بلاد الروم باستدعاء غزغلي كما تقدم وانتهى إلى نصيبين فرحل جاولي عن الموصل ثم جاء البرسقي شحنة بغداد
__________
[1] وفي بعض النسخ سكاوو.
[2] وفي الكامل البوزيج والأصوب: البوازيج كما في معجم البلدان.
[3] وفي الكامل: فأتاه كتاب أبي الهيجاء بن موسك الكردي الهذباني صاحب أربل لذكر استيلاء جاولي على البوازيج.
[4] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 423: وأرسل إليه أبو الهجاء عسكره مع أولاده، فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال أربل.(5/44)
ونزل عن الموصل وخاطبهم فلم يجيبوه فرجع من يومه وسار قلج ارسلان من نصيبين إلى الموصل وتأخر عنها جاولي إلى سنجار واجتمع ابو الغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش وجاء جريح رضوان بن تتش من الشام على الافرنج [1] فسار إلى الرحبة وبعث أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين واستحلفوه فحلف وجاء إلى الموصل فملكها في منتصف ختام المائة الخامسة وخلع على ابن جكرمش وخطب لنفسه بعد الخليفة وقطع خطبة السلطان محمد وأحسن إلى العسكر وأخذ القلعة من غزغلي فولى جكرمش وأقرّ القاضي أبا محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوريّ على القضاء وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس وكان في جملة فلهم أرسلان إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد ومحمد بن حموا صاحب خرتبرت كان إبراهيم ابن نيال ولاة تتش على آمد فبقيت بيده وكان ابن حموا ملك خرتبرت من يد القلادروس ترجمان الروم كانت له الرها وانطاكية فملك سليمان قطلمش انطاكية وبقيت له الرها وخرتبرت وأسلم القلادروس على القيام بأعماله فملك محمد بن حموا خرتبرت وأسلم القلادروس فلما ولى فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف القلادروس عن الرها على يد ملك شاه وأمره عليها ولما سار جاولي إلى الرحبة قاصدا صريخ رضوان بن تتش نزل عليها آخر رمضان من السنة وحاصرها وبها محمد بن السباق من بني شيبان ولاه عليها دقاق فاستبدّ بها وخطب لقلج أرسلان فحاصره جاولي وكتب إلى رضوان يستدعيه ويعده بالمسير معه لدفاع فجاء رضوان وحاصر معه الرحبة ثم دس إلى جاولي جماعة من حامية الأسوار فوثبوا بها وأدخلوا وملك البلد وأبقى على محمد الشيبانيّ وسار معه ثم انّ قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل ولّى عليها ابنه ملك شاه في عسكر ومعه أمير يدبره وسار إلى قتال جاولي ورجع عنه إبراهيم بن نيال إلى بلده آمد من الخابور فبعث إلى بلده في الحشد فعاجله جاولي بالحرب والتقوا في آخر ذي القعدة من السنة وانهزم أصحاب قلج أرسلان على دفاعه وأعاد الخطبة للسلطان واستصفى أصحاب جكرمش ثم سار إلى الجزيرة وبها جيش بن جكرمش ومعه غزغلي من موالي أبيه فحاصره مدّة ثم صالحه على ستة آلاف دينار ورجع إلى الموصل وأرسل ملك شاه من قلج أرسلان إلى السلطان محمد والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] وفي الكامل ج 10 ص 426: فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام ويقول له: إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم.(5/45)
مقتل صدقة بن مزيد
ولما استوحش صدقة بن مزيد صاحب الحلة من السلطان محمد سار إليه السلطان وملك أعماله ولقيه صدقة فهزمه السلطان وقتل في المعركة كما ذكرنا ذلك في أخبار صدقة في دولة ملوك الحلة والله سبحانه وتعالى أعلم.
(قدوم ابن عمار صاحب طرابلس على السلطان محمد) كان فخر الدولة أبو علي بن عمار صاحب طرابلس استبدّ بها على العبيديين فلما ملك الافرنج سواحل الشام ردّدوا عليها الحصار فضاقت أحوالها فلما انتظم الأمر للسلطان محمد واستقام ملكه قصده فخر الملك بن عمار صريخا للمسلمين بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب وفرق في الجند عطاءهم لستة أشهر ورتب الجامكية في مقاعدهم للقتال وسار إلى دمشق فلقيه طغتكين أتابك وخيم بظاهرها أياما ورحل إلى بغداد فأركب السلطان الأمراء لتلقيه ولم يدخر عنه برا ولا عرامة وكذلك الخليفة وأتحف السلطان بهدايا وذخائر نفيسة وطلب النجدة وضمن النفقة على العسكر فوعده بالنصر وأقام ثم لقي الأمير حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة وجاولي ثم يسير حسين معه إلى الشام ثم رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى وخمسمائة لقتال صدقة واستدعى ابن عمار وهو بالنهروان فودّعه وسار معه الأمير حسين إلى دمشق وكان ابن عمار لما سار عن طرابلس استخلف عليها ابن عمه ذا المناقب فانتقض واجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلوية وبعثوا إلى الأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على الدولة بمصر بطاعتهم ويسألون الميرة فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليا معه الزاد من الأقوات والسلام فدخل البلد وقبض على أهل ابن عمار وأصحابه واستصفى ذخائرهم وحمل الجميع إلى مصر في البحر.
استيلاء مودود بن أبي شكين على الموصل من يد جاولي
قد تقدم لنا استيلاء جاولي على الموصل من يد قلج بن أرسلان وابن جكرمش وهلاكهما على يده واستفحل ملكه بالموصل وجعل السلطان محمد ولاية ما يفتحه من البلاد له فقطع الحمل عن السلطان واستنفره لحرب صدقة فلم ينفر معه وداخل صدقة بأنه معه فلما فرغ السلطان من أمر صدقة بعث مودود بن أبي شكين في العساكر وولاه الموصل وبعث معه الأمراء ابن برسق وسقمان القبطي وآق سنقر البرسقي ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك(5/46)
الكردي وأبو الهيجاء صاحب أربل مددا فوصلوا الموصل وخيموا عليها فوجدوا جاولي قد استعدّ للحصار وحبس الأعيان وخرج عن البلد وترك بها زوجته هي وابنه برسق في ألف وخمسمائة مقاتل فأحسن في مصادرة الناس واشتد عليهم الحصار فلما كان المحرم سنة اثنتين خرج بعض الحامية من فرجة من السور وأدخلوا منها مودود والعساكر وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام ثم استأمنت وخرجت إلى أخيها يوسف بن برسق بأموالها واستولى مودود على الموصل وأعمالها وأمّا جاولي فلما سار عن الموصل حمل معه القمص الّذي كان أسر بنعمان وأخذه منه جكرمش وسار به إلى نصيبين وسأل من صاحبها أبو الغازي بن أرتق المظاهر على السلطان فلم يحبه إلى ذلك ورحل عن نصيبين إلى ماردين بعد أن ترك ابنه مقيما مع الحامية فتبعه جاولي ودخل عليه وحده بالقلعة متطارحا عليه فأجابه وسار معه إلى نصيبين إلى سنجار وحاصراها فامتنعت عليهما ثم هرب أبو الغازي ليلا إلى نصيبين وتركه فسار جاولي إلى الرحبة وأطلق القمص بردويل لخمس سنين من الصرّة على مال قرّره عليه وأسرى من المسلمين يطلقهم وعلى النصرة مهما طلبه وأرسله إلى سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاء ابن خالته جوسكر صاحب تل ناشز [1] من زعماء الفرنج وكان أسر مع القمص فافتدى بعشرين ألف دينار وأقام جوسكر رهينة وسار القمص إلى انطاكية ثم أطلق جاولي جوسكر وأخذ رهنا عنه صهره وصهر القمص وبعثه في إتمام ما ضمن ولما وصل إلى انطاكية أعطاه شكري صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحا وغير ذلك وكانت الرها ومروج بيد القمص ولما أسر ملك جكرمش الرها من أصحابه طلبها منه إلآن فلم يجبه فخرج القمص مغاضبا له ولحق بتل ناشز وقدم عليه جوسكر عند ما أطلقه جاولي ثم سار إليهما شكري يعاجلهما قبل اجتماع أمرهما فحاصرهما أياما ورجع القمص وجوسكر على حصون شكري صاحب انطاكية واستمدّ أبو سيل الأرمني صاحب رعيان وكيسوم والقلاع شمالي حلب فأنجدهم بألف فارس وسار إليهم شكري وحضر البترك وشهد جماعة من القسيسين والبطارقة أنّ أسمند خال شكري قال له عند ما ركب البحر إلى بلاده أعد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر فحكم البترك بإعادتها فأعادها تاسع صفر من السنة وعبر القمص الفرات ليرفع إلى جاولي المال والأسرى كما شرط له وكان جاولي لما أطلق القمص سار إلى الرحبة ولقيه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور وكانا مقيمين بعد قتل أبيهما عند سالم بن مالك فاستنجداه ووعداه أن يسير معهما إلى الحلة واتفقوا على تقديم أبي الغازي تكين ثم قدم عليهم أصبهبذ صباوو وقد أقطعه السلطان
__________
[1] وفي نسخة أخرى تل باشر.(5/47)
الرحبة فأشار على جاولي بقصد الشام لخلوها عن العساكر والتجنب عن العراق وطريق السلطان فقبل إشارته وأحصر على الرحبة ثم وفد عليه صريح سالم بن مالك صاحب قلعة جعفر يستغيث به من بني نمير وكان حيوش البصري قد نزل على ابن سالم بالرقّة وملكها وسار إليه رضوان من حلب فصالحه بنو نمير بالمال ورجع عليهم فاستنجد سالم الآن جاولي فجاء وحاصر بني نمير بالرقة سبعين يوما فأعطوه مالا وخيلا ورحل عنهم واعتذر لسالم ثم وصل جاولي الى الأمير حسين بن أتابك قطلغ تكين كان أبوه أتابك السلطان محمد بكنجة فقتلته وتقدم ولده هذا عند السلطان وبعثه مع ابن عمار ليصلح أمر جاولي وتسير العساكر كلها الى الجهاد مع ابن عمار فأجاب جاولي لذلك وقال لحسين سر إلى الموصل ورحّل العساكر عنها وأنا أعطيك ولدي رهينة وتكون الجباية لوال من قبل السلطان فجاء حسين إلى العساكر قبل أن يفتحوها فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه امتنع من الرحيل إلا بإذن من السلطان وأقام محاصرا لها حتى افتتحها وعاد ابن قطلغ إلى السلطان فأحسن الاعتذار عن جاولي وسار جاولي إلى بالس فملكها من أصحاب رضوان بن تتش وقتل جماعة من أهلها فيهم القاضي محمد بن عبد العزيز بن الياس وكان فقيها صالحا ثم سار رضوان بن دقاق لحرب جاولي واستمدّ شكري صاحب انطاكية فأمدّه بنفسه وبعث جاولي إلى القمص بالرها يستمدّه وترك له مال المفاداة فباء إليه بنفسه ولحقه بمنبج وجاء الخبر إلى جاولي باستيلاء مودود وعساكر السلطان على الموصل وعلى خزائنه فاضطرب أمره وانفض عنه كثير من أصحابه منهم زنكي بن آق سنقر وبكتاش وبقي معه أصبهبذ صباوو وبدران بن صدقة وابن جكرمش وانضمّ إليه كثير من المتطوّعة ونزل تل ناشر وأتى عسكر رضوان وشكري وكاد أن يهزمهم لولا أنّ أصحابه ساروا عنه وسار في أتباعهم فأبوا عليه فمضى منهزما وقصد أصبهبذ الشام وبدران بن صدقة قلعة جعفر وابن جكرمش جزيرة ابن عمر وقتل من المسلمين خلق ونهب صاحب انطاكية سوادهم وهرب القمص وجوسكر إلى تل ناشر وكان المنهزمون من المسلمين يمرون بهم فيكرمونهم ويجيزونهم إلى بلادهم ولحق جاولي بالرحبة فلقي بها سرايا مودود صاحب الموصل وخفي عنهم فارتاب في أمره ولم ير الخير له من قصد السلطان محمد ثقة بما ألقى إليه حسين بن قطلغ تكين في شأنه فأوغر في السير ولحق بالسلطان قريبا من أصبهان ونزل حسين بن قطلغ فدخل به إلى السلطان فأكرمه وطلب منه بكتاش ابن عمه تتش واعتقله بأصبهان.(5/48)
مقتل مودود بن توتكين [1] صاحب الموصل في حرب الافرنج وولاية البرسقي مكانه
كان السلطان محمد قد أمر مودودا صاحب الموصل سنة خمس وخمسمائة بالمسير لقتال الإفرنج وأمدّه بسقمان القبطي صاحب ديار بكر وأرمينية واياكي وزنكي ابني برسق أمراء همدان وما جاورها والأمير أحمد بك أمير مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل والأمير أبو الغازي صاحب ماردين وبعث إليه أياز مكانه فسار إلى سنجار وفتحوا حصونا للإفرنج وحاصروا مدينة الرها فامتنعت عليهم وأقام الإفرنج على الفرات بعد أن طرقوا أعمال حلب فعاثوا فيها ثم حاصر العساكر الإسلامية قلعة ناشر فامتنعت ودخلوا إلى حلب فامتنع رضوان من لقائهم فعادوا ومات سقمان القبطي في دلاس فحمله أصحابه في تابوت إلى بلاده واعترضهم أبو الغازي بن أرتق ليأخذهم فهزموه ثم افترقت العساكر بمرض ابن برسق ومسير أحمد ابن صاحب مراغة إلى السلطان لطلب بلاد سقمان القبطي واجتمع قطلغتكين صاحب دمشق بمودود ونزل معه على نهر القاضي وسمع الإفرنج بافتراق العساكر فساروا إلى افاميه وجاء السلطان ابن منقذ صاحب شيراز إلى مودود وقطلغتكين وحصرهما على الجهاد ونزلوا جميعا على شيراز ونزل الفرنج قبالتهم ثم رأوا قوّة المسلمين فعادوا إلى أفامية ثم سار مودود سنة ست إلى الرها وسروج فعاث في نواحيها فكبسه جوسكر صاحب تل ناشر في الإفرنج ونال منه ثم اجتمع المسلمون سنة سبع للجهاد باستنجاد قطلغتكين صاحب دمشق لمودود فاجتمع معه بمنزل صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي وعبروا الفرات إلى قطلغتكين وقصدوا القدس فسار إليهم صاحبها بقزوين ومعه جوسكر صاحب تل ناشر على جيشه ونزلوا الأردن واقتتلوا قريبا من طبرية فانهزم الافرنج وقتل كثير منهم وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن وغنم المسلمون سوادهم ثم لقيهم عسكر طرابلس وانطاكية من الفرنج فاستعانوا بهم وعادوا الحرب ونزلوا في جبل طبرية فحاصرهم فيه المسلمون ثم ساروا فعاثوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا إلى القدس ثم نزلوا دمشق وفرق مودود عساكره ووعدهم العود من قابل للجهاد ودخل دمشق ليستريح عند قطلغتكين فصلى الجمعة في الجامع فطعنه باطني فأثواه وهلك لآخر يومه واتهم قطلغتكين به وقتل الباطني من يومه ولما بلغ الخبر السلطان بقتل مودود ولي
__________
[1] وفي بعض النسخ انوتكين. ومودود بن أبي شكين.(5/49)
على الموصل وأعمالها آق سنقر البرسقي سنة ثمان وخمسمائة وبعث معه ابنه الملك مسعود في جيش كثيف وأمره بجهاد الإفرنج وكتب إلى الأمراء بطاعته فوصل إلى الموصل واجتمعت إليه عساكر النواحي فيهم عماد الدين زنكي بن آق سنقر ونمير صاحب سنجار وسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر فأطاعه نائب مودود بها ثم سار إلى ماردين فأطاعه أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه أياز فسار إلى الرها فحاصرها شهرين ثم ضاقت الميرة على عسكره ثم رحل إلى شميشاط بعد أن خرب نواحي الرها وسروج وشميشاط وكانت مرعش للإفرنج هي وكسوم ورعيان وكان صاحبها كراسك واتفقت وفاته وملكت زوجته بعده فراسلت البرسقي بالطاعة وبعث إليها رسوله فأكرمته وأرجعته إلى البرسقي بالهدايا والطاعة وفرّ عنها كثير من الإفرنج إلى أنطاكية ثم قبض البرسقي على أياز بن أبي الغازي لاتهامه إياه في الطاعة فسار إليه أبو الغازي في العساكر وهزمه واستنقذ ابنه أياز من أسره كما ترى في أخبار دولة أبي الغازي وبنيه وبعث السلطان يهدده فوصل يده بقطلغتكين صاحب دمشق والفرنج وتحالفوا على التظاهر ورجع أبو الغازي إلى ديار بكر فسار إليه قزجان بن مراجا صاحب حمص وقد تفرّق عنه أصحابه فظفر به وأسره وجاء قطلغتكين في عساكره وبعث الى قزجان في إطلاقه فامتنع وهم بقتله فعاد عنه قطلغتكين الى دمشق وكان قزجان قد بعث الى السلطان بخبره وانتظر من يصل في قتله فأبطأ عليه فأطلق أبا الغازي بعد أن توثق منه بالحلف وأعطاه ابنه أياز رهينة ولما خرج سار إلى حلب وجمع التركمان وحاصر قزجان في طلب ابنه إلى أن جاءت عساكر السلطان.
مسير العساكر لقتال أبي الغازي وقطلغتكين والجهاد بعدهما
ولما كان ما ذكرناه من عصيان أبي الغازي وقطلغتكين على السلطان محمد وقوّة الفرنج على المسلمين جهز السلطان جيشا كثيرا مقدمهم الأمير برسق صاحب همدان ومعه الأمير حيّوش بك والأمير كشغرة وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بقتال أبي الغازي وقطلغتكين فإذا فرغوا منهما ساروا إلى الفرنج فارتجعوا البلاد من أيديهم فساروا لذلك في رمضان من سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرّقة وجاءوا إلى حلب وطلبوا من صاحبها لؤلؤ الخادم ومن مقدم العسكر المعروف بشمس الخواص تسليم حلب بكتاب السلطان في ذلك فتعلل عليهم وبعث إلى أبي الغازي وقطلغتكين بالخبر واستنجدهما فسار إليه في ألفين وامتنعت حلب على(5/50)
عساكر السلطان فسار برسق بالعساكر إلى حماة وهي لقطلغتكين فملكها عنوة وسلمها إلى قزجان صاحب حمص بعهد السلطان له بذلك في كل ما يفتحونه من البلاد فثقل ذلك على الأمراء وتخاذلوا وتسلم قزجان حماة بن برسق وأعطاه ابن أبي الغازي ابنه رهينة عنده ثم سار أبو الغازي وقطلغتكين وشمس الخواص الى أنطاكية مستنجدين بصاحبها بردويل وجاءهم بعد ذلك بغدوين صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من الإفرنج واتفقوا على تأخير الحرب إلى انصرام الشتاء واجتمعوا بقلعة أفامية وأقاموا شهرين وانصرم الشتاء والمسلمون مقيمون فوهنت عزائم الإفرنج وعادوا إلى بلادهم وعاد أبو الغازي إلى ماردين وقطلغتكين إلى دمشق وسار المسلمون إلى كفر طاب من بلاد الإفرنج فحاصروه وملكوه عنوة وأسروا صاحبه واستلحموا من فيه ثم ساروا إلى قلعة أفامية فامتنعت عليهم فعادوا إلى المعرة وفارقهم حيوش بك إلى مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وقدموا أثقالهم وخيامهم فصادفهم بردويل صاحب أنطاكية في خمسمائة فارس وألفي راجل صريخا لأهل كفر طاب وصادف مخيم العسكر ففتك فيه وفعل الأفاعيل وهم متلاحقون وجاء الأمير برسق وعاين مصارعهم وأشار عليه إخوته بالنجاء بنفسه فنجا بنفسه وأتبعهم الإفرنج ورجعوا عنهم على فرسخ وعاثوا في المسلمين في كلّ ناحية وقتل أياز بن أبي الغازي قتله الموكلون به وجاء أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين ما لم يحتسبوه ويئسوا من النصرة ورجعت العساكر منهزمة إلى بلادها وتوفي برسق زنكي سنة عشر بعدها.
ولاية حيوش بك ومسعود بن السلطان محمد علي الموصل
ثم أقطع السلطان الموصل وما كان بيد آق سنقر البرسقي للأمير حيوش بك وبعث معه ابنه مسعود وأقام البرسقي بالرحبة وهي اقطاعه إلى أن توفي السلطان محمد.
ولاية جاولي سكاوو على فارس وأخباره فيها ووفاته
كان جاولي سكاوو لما رجع إلى السلطان محمد ورضي عنه ولاه فارسا وأعمالها وبعث معه ابنه جعفري بك طفلا كما فصل من الرضاع وعهد إليه بإصلاحها فسار إليها ومرّ بالأمير بلداجي في بلاده كليل وسرماة وقلعة إصطخر وكان من مماليك السلطان ملك شاه فاستدعاه للقاء جعفري بك وتقدّم إليه بأن يأمر بالقبض عليه فقبض عليه ونهبت أمواله وكان أهله وذخائره في قلعة(5/51)
إصطخر وقد استناب فيها وزيره الخيمي ولم يمكنه الّا من بعض أهله فلما وصل جاولي إلى فارس ملكها منه وجعل فيها ذخائر ثم أرسل إلى خسرو وهو الحسين بن مبارز صاحب نسا وأمير الشوامكار من الأكراد فاستدعاه للقاء جعفري بك من السلطان خشية مما وقع لبلداجي فأعرض عنه وأظهر الرجوع إلى السلطان ومضى رسول خبره فبشر بانضافه عن فارس فما أدّى إليه الخبر إلا وجاولي قد خالطهم رجع من طريقه وأوغر في السير إليهم ثم هرب خسرو إلى عمدالج وفتك جاولي في أصحابه وماله ثم سار جاولي إلى مدينة نسا فملكها ونهب جهرم وغيرها وسار إلى خسرو فامتنع عليه بحصنه فرجع إلى شيراز وأقام بها ثم سار إلى كازرون فملكها وحاصر أبا سعيد بن محمد في قلعته مدّة عامين وراسله في الصلح فقتل الرسل مرّتين ثم اشتدّ عليه الحصار واستأمن فأمنه وملك الحصن ثم استوحش من جاولي فهرب وقبض على ولده وجيء به أسيرا فقتل ثم سار جاولي إلى دار بكرد فهرب صاحبها إبراهيم إلى كرمان وصاحبها أرسلان شاه كرمان شاه ابن أرسلان بن قاروت بك فسار جاولي إلى حصار درابكرد فامتنعت عليه فخرج إلى البرية ثم جاءهم من طريق كرمان كاءنة مدد لهم من صاحب كرمان فأدخلوه فملك البلد واستلحم أهله ثم سار إلى كرمان وبعث إلى خسرو مقدّم الشوذكان يستدعيه للمسير معه فلم يحد بدّا من موافقته وجاء وصاحبه الى كرمان وبعث إلى ملك كرمان بإعادة الشواذكان الذين عنده فبعث بالشفاعة فيهم فاستخلص السلطان الرسول بالإحسان وحثه على صاحبه ووعده بأن يرد العساكر عن وجهه ويخذلهم عنه ما استطاع وانقلب عنه إلى صاحبها ففي عساكر كرمان وزيره بالسيرجان فتراءى لهم أنّ جاولي عازم على مواصلتهم وأنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان وأشار عليه بالرجوع فرجعوا وسار جاولي في أثر الرسول وحاصر حصنا بطرف كرمان فارتاب ملك كرمان بخبر الرسول ثم أطلع عليه من غير جامعة فقتله ونهب أمواله وبعث العساكر لقتاله واجتمع معهم صاحب الحصن المحاصر وسلك بهم غير الجادة وسمع جاولي بخبرهم فأرسل بعض الأمراء ليأتيه بالخبر فلم يحد بالجادة أحدا فرجع وأخبره أن عسكر كرمان قد رجع فاطمأنّ ولم يكن الا قليل حتى بيتته عساكر كرمان في شوّال سنة ثمان وخمسمائة فانهزم وفتكوا فيه قتلا وأسرا وأدركه خسرو بن أبي سعد الّذي كان قتل أباه فلما رآهما خاف منهما فآنساه وأبلغاه إلى مأمنه بمدينة نسا ولحقته عساكره وأطلق ملك كرمان الأسرى وجهزهم إليه وبينما هو يجهز العساكر لكرمان لأخذ ثاره توفي جعفري بك ابن السلطان في ذي الحجة من سنة تسع لخمس سنين من عمره فقطعه ذلك عن معاداة كرمان ثم بعث ملك كرمان(5/52)
إلى السلطان ببغداد في منع جاولي عنه فقال له لا بدّ أن تسلم الحصن إلى حاصره جاولي في حدّ كرمان وانهزم عليه وهو حصن فرح ثم توفي جاولي في ربيع سنة عشر فامنوا إعادته والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود
ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة من ملكه بعد أن أجلس ولده محمودا على الكرسي قبل وفاته بعشر ليال وفوّض إليه أمور الملك فلما توفي نفذت وصيته لابنه محمود فأمره فيها بالعدل والإحسان وخطب له ببغداد وكان مناهز الحلم وكان السلطان محمد شجاعا عادلا حسن السيرة وله آثار جميلة في قتال الباطنية قد مرّ ذكرها في أخبارهم ولما ولي قام بتدبير دولته الوزير أبو منصور وأرسل إلى المستظهر في طلب الخطبة ببغداد له في منتصف المحرم من سنة اثنتي عشرة وأقر طهرون شحنة على بغداد وقد كان السلطان محمد ولاه عليها سنة اثنتين وخمسمائة ثم عاد البرسقي وقاتله وانهزم إلى عسكر السلطان محمود على الحلة دبيس بن صدقة وقد كان عند السلطان محمد منذ قتل أبوه صدقة وأحسن إليه وأقطعه وولي على الحلة سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة فلما توفي رغب من ابنه السلطان محمود العود إلى الحلة فأعاده واجتمع عليه العرب والأكراد.
وفاة المستظهر وخلافة ابنه المسترشد
ثم توفي المستظهر بن المقتدي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة منتصف ربيع الآخر ونصب للخلافة ابنه المسترشد واسمه الفضل وقد تقدّم ذلك في أخبار الخلفاء.
خروج مسعود ابن السلطان محمد على أخيه محمود
تقدّم لنا أنّ السلطان ولى على الموصل ابنه مسعودا ومعه حيوس بك وان السلطان محمود اودبيس بن صدقة سارا إلى الحلة فلما توفي السلطان محمد وولي ابنه محمود سار مسعود من الموصل مع أتابك حيوس بك ووزيره فخر الملك على بن عمار وقسيم الدولة وزنكي بن آقسنقر صاحب سنجار وأبي الهيجاء صاحب أربل وكرباوي بن خراسان صاحب(5/53)
المواريح [1] وقصدوا الحلة فدافعهم دبيس فرجعوا إلى بغداد وسار البرسقي إلى قتالهم فبعث إليه حيوس بك بأنهم إنما جاءوا لطلب الصريخ على دبيس صاحب الحلة فاتفقوا وتعاهدوا ونزل مسعود بدار الملك ببغداد وجاء الخبر بوصول عماد الدين منكبرس الشحنة وقد كان البرسقي هزم ابنه حسينا كما مر فسار بالعساكر إلى البرسقي فلما علم بدخول مسعود إلى بغداد عبر دجلة من النعمانية إلى دبيس بن صدقة فاستنجده وخرج مسعود وحيوس بك والبرسقي ومن معهم للقائهم وانتهوا إلى المدائن فأتتهم الأخبار بكثرة جموع منكبرس ودبيس فرجعوا وأجازوا نهر صرصر ونهبوا السواد من كل ناحية وبعث المسترشد إلى مسعود والبرسقي [2] والحث على الموادعة والصلح وجاءهم الخبر بأنّ منكبرس ودبيس بعثا مع منصور أخي دبيس وحسين بن أرز [3] وبني منكبرس عسكرا لحماية بغداد فرجع البرسقي إلى بغداد دليلا ومعه زنكي بن آق سنقر وترك ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر فالتقى [4] ومنع عسكر منكبرس من العبور وأقام يومين ثم وافاه كتاب ابنه بأن الصلح تمّ بين الفريقين بعده ففشل وعبر إلى الجانب الغربي ومنصور وحسين في أثره ونزلا عند جامع السلطان وخيم البرسقي عند القنطرة القبلية وخيم مسعود وحيوس بك عند المارستان ودبيس ومنكبرس تحت الرقة وعز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفردا عن أبيه وكان سبب انعقاد الصلح أن حيوس بك أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود فأقطعهما أذربيجان ثم وصل الخبر بمسيرهما إلى بغداد فاستشعر منهما العصيان وجهز العساكر الى الموصل فكتب إليه رسوله بذلك ووقع الكتاب بيد منكبرس الشحنة فبعث إليه وضمن له إصلاح الحال له وللسلطان مسعود وكان منكبرس متزوّجا بأم السلطان مسعود واسمها سر جهان فكان يؤثر مصلحته فاستقر الصلح واتفقوا على إخراج البرسقي من بغداد إلى الملك وأقام عنده واستقر منكبرس شحنة بغداد وساء أثره في الرعية وتعرض لأموال الناس وحرمهم وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فاستدعاه إليه فبقي يدافع ثم سار خوفا من عامة بغداد والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] وفي بعض النسخ البوازيج.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 540: فأرسل المسترشد باللَّه إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال ويأمرهم بحقن الدماء وترك الفساد.
[3] الأمير حسين بن أزبك ربيب منكبرس.
[4] كذا بياض بالأصل وفي الكامل، واستحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر فوصل إلى ديالى، ومنع عسكر منكبرس من العبور.(5/54)
خروج الملك طغرل [1] على أخيه السلطان محمود
كان الملك طغرل بن السلطان محمد عند وفاة أبيه مقيما بقلعة سر جهان وكان أبوه أقطعه سنة أربع سماوة وآوة وزنجان وجعل أتابك الأمير شيركير الّذي حاصر قلاع الإسماعيلية كما مرّ في أخبارهم وكان عمره يومئذ عشرا فأرسل السلطان محمد الأمير كسعدي أتابكا له وأعجله إليه وكان كسعدي حاقدا عليه فحمل طغرل على العصيان ومنعه من المجيء إلى أخيه وانتهى ذلك إلى محمود فأرسل إلى أخيه بتحف وخلع وثلاثين ألف دينار ومواعد جميلة فلم يصيخوا إليها وأجابه كسعدي [2] إننا في الطاعة ومعترضون لمراسم الملك فسار إليهم السلطان مغذا ليكبسهم وجعل طريقه على قلعة شهران التي فيها ذخائر طغرل وأمواله ونما الخبر إلى طغرل وكسعدي فخرجا من العسكر في خفية قاصدين شهران وأخلى الطريق عنها لما سبق من اللطف فوقعا على قلعة سرجهان وجاء السلطان إلى العسكر فأخذ خزائن أخيه طغرل وفيها ثلاثمائة ألف دينار ثم أقام بزنجان أياما ولحق منها بالريّ ولحق طغرل وكسعدي بكنجة واجتمع إليه أصحابه وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه.
فتنة السلطان محمود مع عمه سنجر
ولما توفي السلطان محمد بلغ الخبر إلى أخيه سنجر بخراسان أظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله حتى جلس للعزاء على الرماد وأغلق بابه سبعا ثم سمع بولاية ابنه محمود فنكر ذلك وعزم على قصد بلاد الجبل والعراق وطلب السلطنة لنفسه مكان أخيه وكان قد سار إلى غزنة سنة ثمان وخمسين وفتحها وتنكر لوزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر ابن نظام الملك لما بلغه أنه أخذ عليه الرشوة من صاحب غزنة ليثنيه عن قصده إليه وفعل مثل ذلك بما وراء النهر وامتحن أهل غزنة بعد فتحها وأخذ منها أموالا عظيمة وشكا إليه الأمراء اهانته إياهم فلما عاد إلى بلخ قبض عليه وقتله واستصفى أمواله وكانت لا يعبر عنها كان فيها من العين وحده ألف دينار مرتين واستوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك وكان يعرف بابن الفقير فلما مات أخوه السلطان محمد عزم على طلب الأمر
__________
[1] وبعض النسخ طغرل
[2] ورد اسمه في الكامل كنتغدي ج 10 ص 347.(5/55)
لنفسه وعاوده الندم على قتل وزيره أبي جعفر لما يعلم من اضطجاعه بمثلها ثم انّ السلطان محمود أبعث إليه يصطنعه بالهدايا والتحف وضمن له ما يزيد عن مائتي ألف دينار كل سنة وبعث في ذلك شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغرل فقال لهما سنجر أن ابن أخي صغير وقد تحكم عليه وزيره وعلي بن عمر الحاجب فلا بدّ من المسير وبعث في مقدمته الأمير أنزوسار السلطان محمود وبعث في مقدّمته الحاجب علي بن محمد وكان حاجب أبيه قبله فلما تقاربت المقدّمتان بعث الحاجب علي بن عمر إلى الأمير أنز وهو بجرجان بالعتاب ونوع من الوعيد فتأخر عن جرجان فلحقته بعض العساكر ونالوا منه ورجع الحاجب إلى السلطان محمود بالري فشكر له فعله وأقاموا بالري ثم ساروا إلى كرمان وجاءته الإمداد من العراق مع منكبرس ومنصور بن صدقة أخي دبيس وأمراء فسار إلى همدان وتوفي وزيره الربيب فاستوزر أبا طالب الشهيري ثم سار السلطان في عشرين ألفا وثمانية عشر فيلا ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد والأمير أنز والأمير قماج وكرشاسف بن ضرام بن كاكويه صاحب برد وهو صهره على أخته وكان خصيصا بالسلطان محمد فاستدعاه بعد موته سنجر وتأخر عنه وأقطع بلده لقراجا السامر فبادر إليه وتراجعوا بقرب ساوة في جمادى ثالث عشرة فسبقت عساكر السلطان محمود إلى الماء من أجل المسافة التي بين ساوة وخراسان وكانت عساكر السلطان ثلاثين ألفا ومعه الحاجب علي بن عمر ومنكبرس وأتابك غزغلي وبنو برسق وآق سنقر البحاري وقراجا الساني ومعه سبعمائة حمل من السلاح فعند ما اصطفوا إلى الحرب انهزم عساكر السلطان سنجر ميمنة وميسرة وثبت هو في القلب والسلطان محمود قبالته وحمل السلطان سنجر في الفيلة فانهزمت عساكر السلطان محمود واسر أتابك غزغلي وكان يكاتب السلطان سنجر بأنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك ثم قتله ونزل سنجر في خيام محمود واجتمع إليه أصحابه ونجا محمود من الواقعة وأرسل دبيس ابن صدقة للمسترشد في الخطبة لسنجر فخطب له أواخر جمادى الأولى من السنة وقطعت خطبة محمود ثم أنّ السلطان سنجر رأى قلة أصحابه وكثرة أصحاب محمود فراسله في الصلح وكانت تحضه على ذلك فامتنع ولحق البرسقي بسنجر وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من يوم خروجه من بغداد فسار سنجر من همدان إلى الكرخ وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح ووعده بولاية عهده فأجاب وتحالفا على ذلك وسار محمود إلى عمه سنجر في شعبان بهدية حافلة ونزل على جدته فتقبل منه سنجر وقدّم له خمسة أفراس عربية وكتب لعماله بالخطبة لمحمود بعده في جميع ولايته وإلى بغداد بمثل ذلك(5/56)
وأعاد عليه جميع ما أخذه من بلاده سوى الريّ وصار محمود في طاعة عمه سنجر ثم سار منكبرس عن السلطان محمود إلى بغداد وبعث دبيس بن صدقة من منعه من دخولها فعاد ووجه الصلح بين الملكين قد أسفر فقصد السلطان سنجر مستجيرا به من الاستبداد عليه ومسيره لشحنة بغداد من غير إذنه ثم أنّ الحاجب علي بن عمر ارتفعت منزلته في دولته وكثرت سعاية الأمراء فيه فأضمر السلطان نكبته فاستوحش وهرب إلى قلعة له كان ينزل بها أهله وأمواله وسار منها إلى خوزستان وكانت بنو برسق اسوري وابن أخويه ارغوي بن ملتكى وهدد بن زنكي [1] بعثوا عسكرا يصدّونه عن بلادهم ولقوة قريبا من تستر فهزموه وجاءوا به أسيرا وكاتبوا السلطان محمودا بأمره فأمرهم بقتله وحمل رأسه إليه ثم أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الذين تهدّدوا إلى شحنة بغداد فعاد إليها وعزل نائب دبيس بن صدقة [2] .
استبداد علي بن سكمان بالبصرة
كان السلطان محمد قد أقطع البصرة للأمير آقسنقر البخاري واستخلف عليها سنقر الشامي فأحسن السيرة فلما توفي السلطان محمد وثب عليه غزغلي مقدّم الأتراك الإسماعيلية وكان يحج بالناس منذ سنين وسنقر ألبا وملكا البصرة من يده وحبساه وذلك سنة احدى عشرة وهمّ سنقر البا بقتله فعارضه غزغلي فلم يرجع وقتله فقتله غزغلي به وسكن الناس وكان بالبلد أمير اسمه علي بن سكمان حج بالناس وغاب عن هذه الواقعة فغصّ به غزغلي لتمام الحج على يده وخشي أن يثأر منهم بسنقر البا لتقدّمه عليهم فأوغر الى عرب البرية فنهب الحاج [3] وانثنى علي بن سكمان في الدفاع عنهم الى أن قارب البصرة والعرب يقاتلونه فبعث اليه غزغلي بالمنع من البصرة فقصد القرى أسفل دجلة وصدق الحملة على العرب فهزمهم ثم سار اليه غزغلي وقاتله فأصابه سهم فمات وسار علي بن سكمان الى البصرة وملكها وكاتبه آقسنقر البخاري صاحب عمان بالطاعة واقترنوا به على أعماله وكان عند السلطان وطلبه أن يوليه البصرة فأبى وبقي ابن سكمان مستبدا بالبصرة الى أن بعث السلطان آق سنقر البخاري الى البصرة سنة أربع
__________
[1] كذا الأصل وفي الكامل ج 10 ص 557: وكانت بيراقبوري بن برسق وابني أخويه أرغلي بن يلبكي وهندو بن زنكي.
[2] كذا في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 560 أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز إلى شحنكية الطرق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل عنها.
[3] توصل لفرض فاسد بلحوف ضرر لحجاج بيت الله الحرام فلم يتم له ذلك الغرض وحالت المنية دون الامنية- (من خط الشيخ العطار) .(5/57)
عشرة فملكها علي بن سكمان.
استيلاء الكرج على تفليس
كان الكرج قديما يغيرون على أذربيجان وبلاد ارّان قال ابن الأثير والكرج هم الخزر وقد بينا الصحيح من ذلك عند ذكر الأنساب وأن الخزر هم التركمان [1] الا أن يكون الكرج من بعض شعوبهم فيمكن ولما استفحل ملك السلجوقية أمسكوا عن الاغارة على البلاد المجاورة لهم فلما توفي السلطان محمد رجعوا الى الغارة فكانت سراياهم وسرايا القفجاق تغير على البلاد ثم اجتمعوا وكانت بلد الملك طغرل وهي ارّان ونقجوان الى أوس مجاورة لهم فكانوا يغيرون عليها الى العراق لملك بغداد ونزل على دبيس ابن صدقة فسار هو وأتابك كبغري ودبيس بن صدقة وأبي الغازي بن أرتق وسار في ثلاثين ألفا الى الكرج والقفجاق فاضطرب المسلمون وانهزموا وقتل منهم خلق وتبعهم الكفار عشرة فراسخ وعادوا عنهم وحاصروا مدينة تفليس وأقاموا عليها سنة وملكوها عنوة سنة خمس عشرة [2] ووصل صريخهم سنة ست عشرة الى السلطان محمود بهمدان فسار لصريخهم وأقام بمدينة تبريز وانفذ عساكره الى الكرج فكان من أمرها ما يذكر ان شاء الله تعالى.
الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود
قد تقدّم لنا مسير مسعود الى العراق وموت أبيه السلطان محمد وما تقرّر بينهما من الصلح ورجوعه الى الموصل بلده وان السلطان محمودا زاده آذربيجان ولحق به قسيم الدولة البرسقي عند ما طرده عن شحنة بغداد فأقطعه مسعود مراغة مضافة الى الرحبة وكاتب دبيس حيوس بك أتابك مسعود يحرضه على نكبة البرسقي وانه يباطن السلطان محمودا ووعده على ذلك بالأموال وحرضهم على طلب الأمر لمسعود ليقع الاختلاف فيحصل له علو الكلمة كما حصل لأبيه في فتنة بركيارق ومحمد وشعر البرسقي بسعاية دبيس فخشي على نفسه ولحق بالسلطان محمود فقبله وأعلى محله ثم اتصل بالملك مسعود الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي
__________
[1] الصحيح ان الكرج من الأرمن، واما الخزر فهم يعدون من الأتراك، والآن اختلطوا مع الروم لقرب الديار والتغلب عليهم.
[2] كانت تفليس داخلة في الفتح الإسلامي، واستمرت بيد المسلمين الى هذا الحد، وبعد أخذها بقيت بيد الكرج واتخذوها مقر- (من خطه أيضا) .(5/58)
الأصبهاني الطغرائي [1] وكان ابنه أبو الوليد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغري للملك مسعود فلما وصل أبوه استوزره مسعود وعزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة فأغري مسعودا بالخلاف على أخيه السلطان محمود فكتب اليهم السلطان بالترغيب والترهيب فأظهروا أمرهم وخاطبوا الملك مسعودا بالسلطان وضربوا له النوب الخمس واغزّوا اليه السير وهو في خف من العسكر فسار اليهم في خمسة عشر ألفا وفي مقدّمته البرسقي ولقيهم بعقبة أستراباذ منتصف ربيع الأول سنة أربع عشرة فانهزم الملك مسعود وأصحابه وأسر جماعة من أعيانهم منهم الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي وزير الملك مسعود فأمر السلطان محمود بقتله وقال ثبت عندي فساد عقيدته وكان قتله لسنة من وزارته وكان كاتبا شاعرا يميل الى صناعة الكيمياء وله فيها تصانيف معروفة ولما انهزم الملك مسعود لحق ببعض الجبال على اثني عشر فرسخا من المعركة فاختفى فيه مع غلمان صغار وبعث يستأمن من أخيه فأرسل اليه آق سنقر البرسقي يؤمنه ويجيء به إليه وخالفه إليه بعض الأمراء فحرضه على اللحاق بالموصل وآذربيجان ومكاتبة دبيس ومعاودة الحرب فسار معه لذلك وجاء البرسقي الى مكانه الأوّل فلم يحده فاتبعه الى أن أدركه على ثلاثين فرسخا وأعلمه حال أخيه من الرضا عنه وأعاده فرجع ولقيه العساكر بأمر السلطان محمود وأنزله عند أمه ثم أحضره وهش له وبكى وخلطه بنفسه وذلك لثمانية وعشرين يوما من الخطبة بآذربيجان وأما حيوس بك الاتابك فافترق من السلطان من المعركة وسار الى الموصل وجمع الغلال من سوادها واجتمعت اليه العساكر وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار الى الزاب موريا بالصيد ثم أجدّ السير الى السلطان بهمدان فأمنه وأحسن اليه وبلغ الخبر بالهزيمة الى دبيس وهو بالعراق فنهب البلاد وأخربها وبعث اليه السلطان فلم يصغ الى كتابه.
ولاية آقسنقر البرسقي على الموصل ثم على واسط وشحنة العراق
ولما وصل حيوس بك الى السلطان محمود بعثه الى أخيه طغرل وأتابك كبغري فسار الى كنجة وبقي أهل الموصل فوضى من غير وال وكان آقسنقر البرسقي قد أبلى في خدمة السلطان محمود وردّ اليه أخاه مسعودا يوم الهزيمة فعرف له حق نصحه وحسن أثره فأقطعه الموصل وأعمالها
__________
[1] وهو صاحب اللامية المشهورة بلامية المعجم، وهي من فرائد الشعر مملوءة حكما وأمثالا. يقال ان الطغرائي كان من الواصلين في علم الكيمياء- (من خط الشيخ العطار) .(5/59)
وما يضاف اليها كسنجار والجزيرة فسار اليها سنة خمس عشرة وتقدّم الى سائر الأمراء بطاعته وأمره بمجاهدة الافرنج واسترجاع البلاد منهم فوصل الى الموصل وقام بتدبيرها وإصلاح أحوالها ثم أقطعه سنة ست عشرة بعدها مدينة واسط وأعمالها مضافة الى الموصل وجعله شحنة بالعراق فاستخلف عماد الدين زنكي بن آقسنقر وبعثه اليها فسار اليها في شعبان من السنة.
مقتل حيوس بك والوزير الشهيرمي
ثم انّ السلطان بعد وصول حيوس بك بعثه لحرب أخيه طغرل كما قلناه وأقطعه أذربيجان فتنكر له الأمراء وأغروا به السلطان فقتله على باب هرمز في رمضان سنة عشر وأصله تركي من موالي السلطان محمد وكان عادلا حسن السيرة ولما ولى الموصل والجزيرة وكان الأكراد بتلك الأعمال انتشروا وكثرت قلاعهم وعظم فسادهم فقصدهم وفتح كثيرا من قلاعهم كبلد البكارية [1] وبلد الزوزن وبلد النكوسة وبلد التخشيبة وهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق وصلحت السابلة وأمن الناس وأمّا الوزير الكمال أبو طالب الشهيرمي فإنه برز مع السلطان دبيس الى همدان وخرج في موكبه وضاق الطريق فتقدّم الموكب بين يديه فوثب عليه باطني وطعنه بسكين فأنفذه واتبعه الغلمان فوثب عليه آخر فجذبه عن سرجه وطعنه طعنات وشرّدهم الناس عنه فوثب آخر فجذبه وذلك لأربع سنين من وزارته وكان سيّئ السيرة ظلوما غشوما كثير المصادر ولما قتل رفع السلطان ما كان أحدث من المكوس.
رجوع طغرل الى طاعة أخيه السلطان محمود
قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالريّ سنة ثلاث عشرة وأنّ السلطان محمود سار اليه وكبسه فلحق بر جهان ثم لحق منها بكنجة وبلاد أرّان ومعه أتابك كبغري [2] فاشتدّت شوكته وقصد التغلب على بلاد آذربيجان وهلك كبغري في شوّال سنة خمس عشرة ولحق بأقسنقر الارمني صاحب مراغة ليقيم له الاتابكية وحرّضه على قتال السلطان محمود فسار معه الى مراغة ومروا بأردبيل فامتنعت عليهم فساروا الى هرمز وجاءهم الخبر
__________
[1] وفي بعض النسخ الهكارية.
[2] وفي الكامل ج 10 ص 567: كنتغدي.(5/60)
هنالك بأنّ السلطان محمود بعث الأمير حيوس بك الى أذربيجان وأقطعه البلاد وأنه وصل الى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز الى خونج وانتقض عليهم وراسلوا الأمير بشيركين [1] الّذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به وكان كبغري الاتابك قبض عليه بعد السلطان محمد ثم أطلقه السلطان سنجر وعاد الى أبهر وزنجان وكانت أقطاعه فأجاب داعيهم وسار أمامهم الى أبهر ولم يتم أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة وعاد طغرل الى أخيه وانتظم أمرهم.
مقتل وزير السلطان محمود
كان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك وكان حظيا عنده فكثرت سعاية أصحابه فيه وكان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفي واستوزر سنجر بعده أبا طاهر القمي عدوا لبني نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه ودفعه الى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال [2] ثم قتله بعد ذلك وكان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد وعزل به جلال الدين أبا علي بن صدقة فلما بلغه نكبة شمس الملك ومقتله عزل أخاه نظام الدين وأعاد ابن صدقة الى وزارته والله سبحانه وتعالى أعلم.
ظفر السلطان بالكرج
ثم وفد سنة سبع عشرة على السلطان محمود جماعة من أهل دنباوند وشروان يستصرخونه على الكرج ويشكون ما يلقون منهم فسار لصريخهم ولما تقارب الفئتان همّ السلطان بالرجوع وأشار به وزيره شمس وتطارح عليه أهل شروان فأقام وباتوا على وجل ثم وقع الاختلاف بين الكرج وقفجاق واقتتلوا ليلتهم ورحلوا منهزمين وعاد السلطان الى همدان والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي بعض النسخ الأمير شيركير.
[2] كذا في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 614: فبعثه الى بلدة خلخال فحبسه فيها.(5/61)
عزل البرسقي عن شحنة العراق وولاية برتقش الزكوي
كان الخليفة المسترشد قد وقعت بينه وبين دبيس بن صدقة حروب شديدة بنواحي المباركة من أطراف غانة وكان البرسقي معه وانهزم دبيس فيها هزيمة شنيعة كما مرّ في أخباره وقصد غزنة صريخا فلم يصرخوه فقصد المنتفق وسار بهم الى البصرة فدخلوها واستباحوها وقتلوا سلمان نائبها فأرسل الخليفة الى البرسقي بالنكير على إهمال أمر دبيس حتى فتك في البصرة فسار البرسقي اليه وهرب دبيس فلحق بالافرنج وجاء معهم لحصار حلب فامتنعت فلحق بطغرل ابن السلطان محمد يستحثه لقصد العراق كما مر ذلك في أخبار دبيس وبقيت في نفس المسترشد عليه ولحق بها أمثالها فتنكر له وبعث الى السلطان محمود في عزله فعزله وأمره بالعود الى الموصل لجهاد الافرنج ووصل نائب برتقش الى بغداد وأقام بها الشحنة وبعث السلطان ابنا له صغيرا ليكون معه على الموصل وسار البرسقي به ووصل الموصل وقام بولايتها.
بداية أمر بني آقسنقر وولاية عماد الدين زنكي على البصرة
كان عماد الدين زنكي في جملة البرسقي ولما أقطعه السلطان واسط بعث عليها زنكي فأقام فيها أياما ثم كان مسير البرسقي الى البصرة في أتباع دبيس فلما هرب دبيس عنها بعث البرسقي اليها عماد الدين زنكي فأقام بحمايتها ودفع العرب عنها ثم استدعاه البرسقي عند ما سار الى الموصل فضجر من تلوّن الأحوال عليه واختار اللحاق بأصبهان [1] فقدم عليه بأصبهان فأكرمه السلطان وأقطعه البصرة وعاد اليها سنة ثمان عشرة والله تعالى أعلم.
استيلاء البرسقي على حلب
لما سار دبيس الى الافرنج حرّضه على حلب وان ينوب فيها عنهم ووجدهم قد ملكوا مدينة صور وطمعوا في بلاد المسلمين وساروا مع دبيس الى حلب فحاصروها حتى جهد أهلها الحصار وبها يومئذ تأس بن [2] ابن ارتق فاستنجد بالبرسقي صاحب الموصل وشرط عليهم ان يمكنوه من القلعة ويسلموها الى نوابه وسار الى انجادهم فاجفل عنهم
__________
[1] وفي بعض النسخ: أصفهان.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 623: حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي بن ارتق.(5/62)
الافرنج ودخل الى حلب فأصلح أمورها ثم سار الى كفر طاب فملكها من الافرنج ثم سار الى قلعة إعزاز من أعمال حلب وصاحبها جوسكين فحاصرها وسارت اليه عساكر الافرنج فانهزم وعاد الى حلب فخلف فيها ابنه مسعودا وعبر الفرات الى الموصل.
مسير طغرل ودبيس الى العراق
ولما ارتحل الافرنج عن حلب فارقهم دبيس ولحق بالملك طغرل فتلقاه بالكرامة والميرة وأغراه بالعراق وضمن له ملكه فساروا لذلك سنة تسع عشرة وانتهوا الى دقوقا فكتب مجاهد الدين بهرام بن تكريت الى المسترشد يخبرهم فتجهز للقائهم وأمر برتقش الزكوي ان يتجهز معه [1] خامس صفر وانتهى الى الخالص وعدل طغرل ودبيس الى طريق خراسان ثم نزلوا رباط جلولاء ونزل الخليفة بالدسكرة وفي مقدّمته الوزير جلال الدين بن صدقة وسار دبيس الى جسر النهروان لحفظ المقابر وقد كان رأيه مع طغرل أن يسير طغرل الى بغداد فيملكها وتقدّم دبيس في انتظاره فقعد به المرض عن لحاقه وغشيتهم أمطار أثقلتهم عن الحركات وجاء دبيس الى النهروان طريحا من التعب والبرد والجوع واعترضوا ثلاثين حملا للخليفة جاءت من بغداد بالملبوس والمأكول فطعموا وأكلوا وناموا في دفء الشمس وإذا بالمسترشد قد طلع عليهم في عساكره بلغه الخبر بأن دبيسا وطغرل خالفوه الى بغداد فاضطرب عسكره واجفلوا راجعين الى بغداد فلقوا في طريقهم دبيسا كما ذكرنا على دبال غرب النهروان وقف الخليفة عليه فقبل دبيس الأرض واستعطف حتى همّ الخليفة بالعفو عنه ثم وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه ووقف دبيس مع برتقش الزكوي يحادثه ثم شغل الوزير بمدّ الجسر للعبور فتسلل دبيس ولحق بطغرل وعاد المسترشد الى بغداد ولحق طغرل ودبيس بهمدان فعاثوا في أعمالها وصادروا أهلها وخرج اليهم السلطان محمود فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر بخراسان شاكين من المسترشد برتقش الشحنة والله أعلم بغيبه وأحكم.
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 626 وامر يرنقش الزكويّ شحنة العراق ان يكون مستعدا للحرب. وجمع العساكر والأمراء البكجيّة وغيرهم فبلغت عدة العساكر اثني عشر الفا سوى الرجالة وأهل بغداد، وفرق السلاح وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة ورجّالة ...(5/63)
مقتل البرسقي وولاية ابنه عز الدين على الموصل
ثم ان المسترشد تنكر للشحنة برتقش وتهدّده فلحق بالسلطان محمود في رجب سنة عشرين فأغراه بالمسترشد وخوفه غائلته وانه تعود الحروب وركب العيث ويوشك أن يمتنع عنك ويستصعب عليك فاعتزم السلطان على قصد العراق وبعث اليه الخليفة يلاطفه في الرد لغلاء البلاد وخرابها ويؤخره الى حين صلاحها فصدق عنده حديث الزكوي وسار مجدّا فعبر المسترشد بأهله وولده وأولاد الخلفاء الى الجانب الغربي في ذي القعدة راحلا عن بغداد والناس باكون لفراقه وبلغ ذلك الى السلطان فشق عليه وأرسل يستعطفه في العود الى داره فشرط عليه الرجوع عن العراق في القوت كما شرط أوّلا فغضب السلطان وسار نحو بغداد والخليفة بالجانب الغربي ثم أرسل خادمه عفيفا الى واسط يمنع عنها نواب السلطان فسار اليه عماد الدين زنكي من البصرة وهزمه وفتك في عسكره قتلا وأسرا وجمع المسترشد السفن اليه وسد أبواب قصره ووكل حاجب الباب ابن الصاحب بدار الخلافة ووصل السلطان الى بغداد في عشر من ذي الحجة ونزل باب الشماسية وأرسل المسترشد في العود والصلح وهو يمتنع وجرت بين العسكرين مناوشة ودخل جماعة من عسكر السلطان الى دار الخليفة ونهبوا التاج أوّل المحرّم سنة احدى وعشرين وخمسمائة فضج العامة لذلك ونادوا بالجهاد وخرج المسترشد من سرادقه ينادي بأعلى صوته وضربت الطبول ونفخت البوقات ونصب الجسر وعبر الناس دفعة وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب في دور الخلافة والأمراء وكان في دار الخلافة ألف رجل كامنون في السرداب فخرجوا عند ذلك ونالوا من عسكر السلطان وأسروا جماعة من أمرائه ونهب العامة دور وزير السلطان وأمرائه وحاشيته ومثل منهم خلق وعبر المسترشد الى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد ودفع السلطان وعسكره عن بغداد وحفر عليها الخنادق واعتزموا على كبس السلطان فأخافهم أبو الهيجاء الكردي صاحب اربل ركب للقتال فلحق بالسلطان ووصل عماد الدين زنكي من البصرة في جيش عظيم في البرّ والبحر أذهل الناس برؤيته فحام المسترشد عن اللقاء وتردّد الرسل بينهما فأجاب الى الصلح وعفا السلطان عن أهل بغداد وأقام بها الى عاشر ربيع الآخر وأهدى اليه المسترشد سلاحا وخيلا وأموالا ورحل الى همدان وولى زنكي بن آقسنقر شحنة بغداد ثقة بكفايته واستقامت أحواله مع الخليفة وأشار به أصحابه ورأوا أنه يرقع الخرق ويصلح الأمر فولاه على ذلك مضافا الى ما بيده من البصرة وواسط وسار الى همدان وقبض في طريقه على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر الشادي اتهمه بممالأة المسترشد لكثرة سعيه(5/64)
في الصلح فقبض عليه واستدعى شرف الدولة أنوشروان بن خالد من بغداد فلحقه بأصبهان في شعبان واستوزره عشرة أشهر ثم عزله ورجع الى بغداد وبقي أبو القاسم محبوسا الى أن جاء السلطان سنجر الى الريّ فأطلقه وأعاده الى وزارة السلطان محمود آخر اثنتين وعشرين.
وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين زنكي على الموصل وأعمالها ثم استيلاؤه على حلب
ولما استولى عز الدين على الموصل وأعمالها واستفحل أمره طمحت همته الى الشام فاستأذن السلطان في المسير اليه وسار الى دمشق ومرّ بالرحبة فحاصرها وملكها ثم مات اثر ذلك وهو عليها وافترقت عساكره وشغلوا عن دفنه ثم دفن بعد ذلك ورجعت العساكر الى الموصل وقام بالأمر مملوكه جاولي ونصب أخاه الأصغر وأرسل الى السلطان يطلب تقرير الولاية له وكان الرسول في ذلك القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي الشهرزوريّ وصلاح الدين محمد الباغسياني أمير حاجب البرسقي واجتمعا بنصير الدين جعفر مولى عماد الدين زنكي وكان بينه وبين صلاح الدين سر فخوفهما جعفر ابن جاولي وحملهما على طلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنه الولايات والاقطاع فأجابوه وجاء بهما الى الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد فقالا له انّ الجزيرة والشام قد تمكن منهما الافرنج من حدود ماردين الى عريش مصر وكان البرسقي يكفهم وقد قتل وولده صغير ولا بد للبلد ممن يضطلع بأمرها ويدفع عنها وقد خرجنا عن النصيحة إليكم فبلغ الوزير مقالتهما الى السلطان فأحضرهما واستشارهما فذكر جماعة منهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه مقربا الى خزانة السلطان مالا جزيلا فولاه السلطان لما يعلم من كفايته وولى مكانه شحنة العراق مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت وسار عماد الدين زنكي فبدأ بالبوازيج وملكها ثم سار الى الموصل وتلقاه جاولي مطيعا وعاد الى الموصل في خدمته فدخلها في رمضان وأقطع جاولي الرحبة وبعثه اليها وولى نصير الدين جعفرا قلعة الموصل وسائر القلاع وجعل صلاح الدين محمد الباغسياني أمير صاحب وولى بهاء الدين الشهرزوريّ قضاء بلاده جميعا وزاده أملاكا وأقطاعا وشركه في رأيه ثم سار الى جزيرة ابن عمر وقد امتنع بها مماليك البرسقي فجدّ في قتالهم وكانت دجلة تحول بينه وبين البلد فعبر بعسكره الماء سبحا واستولى على المسافة التي بين دجلة والبلد وهزم من كان فيها من الحامية حتى أحجزهم بالبلد وضيق حصارهم فاستأمنوا وأمنهم ثم سار الى نصيبين وهي لحسام الدين تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين فحاصرها واستنجد حسام الدين ابن عمه(5/65)
ركن الدولة داود بن سكمان بن ارتق صاحب كيفا فأنجده بنفسه وأخذ في جمع العساكر وبعث تمرتاش ماردين الى نصيبين يعرّف العساكر بالخبر وأنّ العساكر واصلة اليهم عن خمسة أيام وكتبه في رقعة وعلقها في جناح طائر فاعترضه عسكر زنجي وصادوه وقرأ زنكي الرقعة وعوض الخمسة أيام بعشرين يوما وأطلق الطائر بها الى البلد فقرءوا الكتاب وسقط في أيديهم واستطالوا العشرين واستأمنوا لعماد الدين زنكي فأمنهم وملك نصيبين وسار عنها الى سنجار فملكها صلحا وبعث العساكر الى الخابور فملكها ثم سار الى حرّان وخرج اليه أهل البلد بطاعتهم وكانت الرها وسروج والميرة ونواحيها للافرنج وعليها جوسكين صاحب الرها فكاتب زنكي وهادنه ليتفرّغ للجهاد بعد ثم عبر الفرات الى حلب في المحرّم سنة اثنتين وعشرين وقد كان عز الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي لما سار عنها الى الموصل بعد قتل أبيه استخلف عليها قرمان من أمرائه ثم عزله بآخر اسمه قطلغ ابه وكتب له الى قرمان فمنعه الا أن يرى العلامة التي بينه وبين عز الدين ابن البرسقي فعاد قطلغ الى مسعود ليجيء بالعلامة فوجده قد مات بالرحبة فعاد الى حلب وأطاعه رئيسها فضائل بن بديع والمقدّمون بها واستنزلوا قرمان من القلعة على ألف دينار وأعطوه إياها وملك قطلغ القلعة منتصف احدى وعشرين ثم ساءت سيرته وظهر ظلمه وجوره وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار ابن ارتق وكان ملكها قبل وخلع عنها فدعاه الناس الى البيعة وثاروا بقطلغ فامتنع بالقلعة فحاصروه وجاء مهيار صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح أمرهم فلم يتفق وطمع الافرنج في ملكها وتقدّم جوسكين بعسكره اليها فدافعوه بالمال ثم وصل صاحب انطاكية فحاصرهم الى آخر السنة وهم محاصرون القلعة فلما ملك عماد الدين زنكي الموصل والجزيرة والشام فأطاعوا وسار عبد الجبار وقطلغ الى عماد الدين بالموصل وأقام أحد الأميرين بحلب حتى بعث عماد الدين زنكي صاحبه صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر فملك القلعة ورتب الأمور وولى عليها وجاء عماد الدين بعساكره في أثره وملك في طريقه منبج ومراغة ثم دخل حلب وأقطع أعمالها الأجناد والأمراء وقبض على قطلغ ابه وسلمه لابن بديع فكحله فمات واستوحش ابن بديع فهرب الى قلعة جعفر وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق.
قدوم السلطان سنجر الى الريّ ثم قدوم السلطان محمود الى بغداد
الموصل طغرل ودبيس الى السلطان سنجر بخراسان حرضه دبيس على العراق والسلطان(5/66)
محمود قد اتفقا على الامتناع منه [1] فسار سنجر وأخبر السلطان محمود باستدعائه فوافاه لا قرب وقت وأمر العساكر بتلقيه وأجلسه معه على التخت وأقام السلطان محمود عند الى آخر اثنتين وعشرين ثم رجع سنجر الى خراسان بعد أن أوصى محمود بدبيس وأعاده الى بلده ورجع محمود الى همذان ثم سار الى العراق وخرج الوزير للقائه ودخل بغداد في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين ثم لحقه دبيس بمائة ألف دينار في ولاية الموصل وسمع بذلك زنكي وجاء الى السلطان وحمل المائة ألف مع هدايا جليلة فخلع عليه وأعاده وسار منتصف السنة عن بغداد الى همذان بعد أن ولى الحلة مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد.
(وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود) ثم توفي السلطان محمود بهمذان في شوّال سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه بعد أن كان قبض على جماعة من أمرائه وأعيان دولته منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي وأبو شنكين المعروف بشيركين بن حاجب وابنه عمر فخافهم الوزير أبو القاسم الشابادي؟ فانرى بهم السلطان فنكبهم وقتلهم ولما توفي اجتمع الوزير أبو القاسم والاتابك آقسنقر الأحمد يلي وبايعوا لابنه داود وخطبوا له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل ثم سكنت وهرب الوزير الى الريّ مستجيرا بالسلطان فأمّر بها.
منازعة السلطان مسعود لداود ابن أخيه واستيلاؤه على السلطان بهمذان
لما هلك السلطان محمود سار أخوه مسعود من جرجان الى تبريز فملكها فسار داود من همذان في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وحاصره بتبريز في محرّم سنة ست وعشرين ثم اصطلحوا وتأخر داود عن الأمر لعمه مسعود فسار مسعود من تبريز الى همذان وكاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر وأرسل الى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد وكان
__________
[1] كذا بالأصل، عبارات غير مترابطة وغير منسجمة وفي الكامل ج 10 ص 651: في هذه السنة (522) خرج السلطان سنجر من خراسان الى الري في جيش كثير وكان سبب ذلك ان دبيس بن صدقه لمّا وصل اليه هو والملك طغرل على ما ذكرناه لم يزل يطمعه في العراق ويسهل عليه قصده، ويلقي في نفسه ان المسترشد باللَّه والسلطان محمودا متفقان على الامتناع منه. ولم يزل به حتى اجابه الى السير الى العراق. فلما ساروا وصل الى الري وكان السلطان محمود بهمذان فأرسل اليه السلطان سنجر يستدعيه اليه لينظر هل هو على طاعته أم قد تغير على ما زعم دبيس.(5/67)
داود قد أرسل في ذلك قبله وردّ المسترشد الأمر في الخطبة الى السلطان سنجر ودسّ اليه أن لا يأذن لواحد منهما وان تكون الخطبة له فقط وحسن موقع ذلك عنده وسار السلطان مسعود الى بغداد وسبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع أتابك قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان ونزل في دار السلطان واستخلفه الخليفة لنفسه ولما سار السلطان مسعود أوعز الى عماد الدين زنكي أن يسير الى بغداد فسار من الموصل اليها وانتهى السلطان مسعود الى عباسة الخالص وبرزت اليه عساكر المسترشد وسلجوق شاه وسار قراجا الساقي الى مدافعة زنكي فدافعه على المعشوق فهزمه وأسر كثيرا من أصحابه ومرّ منهزما الى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الاملاك الايوبية فهيأ له المعابر وعبر دجلة الى بلاده وسار السلطان مسعود من العباسة وقاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق وبعث سلجوق يستحث قراجا بعد انهزام زنكي فعاد سريعا وتأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكي وأرسل الى المسترشد بأنّ عمه سنجر وصل الى الريّ عازما على بغداد ويشير بمدافعته عن العراق وتكون العراق لوكيل الخليفة ثم تراسل القوم واتفقوا على ذلك وتحالفوا عليه وان يكون مسعود السلطان ولىّ العهد ودخلوا الى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان وسلجوق دار الشحنة والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق.
هزيمة السلطان مسعود وملك طغرل أخيه
لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان الى بلاد الجبل ومعه طغرل ابن أخيه محمد وانتهى الى الريّ ثم سار الى همذان فسار مسعود لقتاله ومعه قراجا الساقي وسلجوق شاه وقد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا اليه قراجا فسار الى خانقين وأقام وقطعت خطبة سنجر من العراق وخالفهم الى بغداد دبيس وزنكي وقد سمي اقطاعه لسنجر الحلة وزنكي ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد الى بغداد لموافقتهما وسار السلطان وأخوه سلجوق شاه للقاء سنجر ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوما وليلة ثم تراجعوا عند الدينور وكان مسعود يماطل باللقاء انتظارا للمسترشد فلم يجد بدّا من اللقاء فالتقوا على النقيبة [1] وحمل قراجا عليهم وتورّط في المعركة وأصيب بجراحات ثم
__________
[1] لم يذكرها صاحب معجم البلدان ولعلها قرية صغيرة في العراق وورد في معجم البلدان: النقيب: تصغير نقب، موضع في بلاد الشام بين تبوك ومعان على طريق حاج الشام. وورد أيضا نقيب بالفتح: شعب من اجاء.(5/68)
التفوا عليه وأسروه وانهزم من أصحاب مسعود قزل وقد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة وعشرين وقتل كثير من أكابر الأمراء ونزل سنجر في خيامهم وأحضر قراجا فقتله وجيء اليه بالسلطان مسعود فأكرمه وأعاده الى كنجة وخطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة وخطب له في جميع البلاد واستوزر له أبا القاسم الساباذي وزير السلطان محمود وعاد الى نيسابور آخر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة.
هزيمة السلطان داود واستيلاء طغرل بن محمد على الملك
لما ولىّ طغرل همذان وولىّ عنه السلطان سنجر الى خراسان وبلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لإصلاحه وشغل بذلك فقام الملك داود بأذربيجان وبلاد كنجة وطلب الأمر لنفسه وجمع العساكر وسار الى همذان ومعه برتقش الزكوي وأتابك آقسنقر الأحمد يلي ومعه طغرل بن برسق ونزل وقد استقرّ ثم اضطرب عسكر داود وأحسوا من برتقش الزكوي بالفشل فنهب التركمان خيامه وهرب آقسنقر أتابك وانهزم في رمضان سنة ست وعشرين ثم قدم بغداد في ذي القعدة ومعه أتابك آقسنقر فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان.
عود السلطان مسعود الى الملك وهزيمة طغرل
قد تقدّم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر وعوده الى كنجة وولاية طغرل السلطان ثم محاربة داود ابن أخيه له وانهزام داود ثم رجوع داود الى بغداد فلما بلغ الخبر الى مسعود جاء الى بغداد ولقيه داود قريبا منها وترجل له عن فرسه ودخلا بغداد في صفر سنة سبع وعشرين ونزل مسعود بدار السلطان وخطب له ولداود بعده وطلبا من السلطان عسكرا ليسير معهما الى أذربيجان فبعث معهما العساكر الى أذربيجان ولقيهم آقسنقر الاحمديلي في مراغة بالإقامة والأموال وملك مسعود بلاد أذربيجان وهرب بين يديه من كان بها من الأمراء وامتنعوا بمدينة أذربيجان فحاصرهم بها وملكها عليهم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون ثم سار الى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه وملك همذان في شعبان من السنة ولحق طغرل بالريّ وعاد الى أصبهان ثم قتل آقسنقر الاحمديلي بهمذان غيلة ويقال انّ السلطان مسعودا دسّ عليه من قتله ثم سار الى حصار طغرل بأصبهان ففارقها طغرل الى فارس وملكها مسعود وسار في اثر طغرل الى البيضاء فاستأمن اليه بعض أمراء طغرل فأمنه وخشي طغرل أن يستأمنوا اليه فقصد الريّ(5/69)
وقتل في طريقه وزيره أبا القاسم الساباذي في شوّال من السنة ومثل به غلمان الأمير شيركين الّذي سعى في قتله كما مرّ ثم سار الأمير مسعود يتبعه الى أن تراجعا ودارت بينهما حرب شديدة وانهزم طغرل وأسر من أمرائه الحاجب تنكي وأتى بقرا وأطلقهما السلطان مسعود وعاد الى همذان والله تعالى أعلم.
عود الملك طغرل الى الجبل وهزيمة السلطان مسعود
ولما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار اليه وحاصره بقلعة [1] فحصر جمع طغرل العساكر وتغلب على بلاده وسار اليه واستعمل بعض قوّاده فسار مسعود للقائه ولقيه عند قزوين وفارق مسعود الأمراء الذين استمالهم طغرل ولحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان وعشرين وبعث الى المسترشد يستأذنه في دخول بغداد فأذن له وكان أخوه سلجوق بأصبهان مع نائبة فيها البقش السلاحي فلما سمع بانهزامه سبقه الى بغداد وأنزله المسترشد بدار السلطان وأحسن اليه بالأموال ووصل مسعود وأكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالإنفاق والمراكب والظهر واللباس والآلة ودخل دار السلطان منتصف شوّال وأقام طغرل بهمذان.
وفاة طغرل واستيلاء مسعود على الملك
ولما وصل مسعود الى بغداد حمل اليه المسترشد ما يحتاج اليه وأمره بالمسير الى همذان لمدافعة طغرل ووعده بالمسير معه بنفسه فتباطأ مسعود عن المسير واتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة ثم اطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه ونهب ماله وارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود وبعث المسترشد في إعادتهم اليه فدافعه ووقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه وبينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرّم سنة تسع وعشرين فسار مسعود الى همذان واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد حمله من بغداد وأقبلت اليه العساكر فاستولى على همذان وبلاد الجبل انتهى.
فتنة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وخلافة ابنه الراشد
قد تقدّم لنا انّ الوحشة وقعت عند ما كان ببغداد بسبب أمرائه الذين اتصلوا بخدمة
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 12: فسار اليه وحصره بقلعة (روئين دزوكان) فتحصن بها واشتغل بخصمه.(5/70)
المسترشد ثم هربوا عنه الى السلطان مسعود فلما سار السلطان مسعود الى همذان بعد موت أخيه طغرل وملكها استوحش منه جماعة من أعيان أمرائه منهم برتقش وقزل وقراسنقر الخمارتكين والي همذان وعبد الرحمن بن طغرلبك ودبيس بن صدقة وساروا الى خوزستان ووافقهم صاحبها برسق بن برسق واستأمنوا الى الخليفة فارتاب من دبيس وبعث الى الآخرين بالأمان مع سديد الدولة بن الانباري وارتاب دبيس منهم أن يقبضوا عليه فرجع الى السلطان مسعود وسار الآخرون الى بغداد فاستحثوا المسترشد للمسير الى قتال مسعود فأجابهم وبالغ في تكرمتهم وبرز آخر رجب من سنة تسع وعشرين وهرب صاحب البصرة اليها وبعث اليه بالأمان فأبى فتكاسل عن المسير فاستحثوه وسهلوا له الأمر فسار في شعبان ولحق به برسق بن برسق وبلغ عدّة عسكره سبعة آلاف وتخلف بالعراق مع خادمه إقبال ثلاثة آلاف وكاتبه أصحاب الاطراف بالطاعة وأبطأ في مسيره فاستعجلهم مسعود وزحفوا اليه فكان عسكره خمسة عشر ألفا وتسلل عن المسترشد جماعة من عسكره وأرسل اليه داود ابن محمود من أذربيجان يشير بقصد الدينور والمقام بها حتى يصل في عسكره فأبى واستمرّ في مسيره وبعث زنكي من الموصل عسكرا فلم يصل حتى تواقعوا وسار السلطان محمود الى مجدّا فوافاهم عاشر رمضان ومالت ميسرة المسترشد اليه وانهزمت ميمنته وهو ثابت لم يتحرّك حتى أخذ أسيرا ومعه الوزير والقاضي وصاحب المحرّر وابن الانباري والخطباء والفقهاء والشهود فأنزل في خيمة ونهب مخيمه وحمل الجماعة أصحابه الى قلعة ترجمعان ورجع بقية الناس الى بغداد ورجع السلطان الى همذان وبعث الأمير بك ابه الى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عميد وقبضوا أملاك المسترشد وغلاتها وكانت بينهم وبين العامّة فتنة قتل فيها خلق من العامّة وسار السلطان في شوّال الى مراغة وقد تردّدت الرسل بينهما في الصلح على مال يؤدّيه المسترشد وأن لا يجمع العساكر ولا يخرج من داره لحرب ما عاش وأجابه السلطان وأذن له في الركوب وحمل الغاشية وفارق المسترشد بعض الموكلين به فهجم عليه جماعة من الباطنية فألحموه جراحا وقتلوه ومثلوا به جدعا وصلبا وتركوه سليبا في نفر من أصحابه قتلوهم معه وتبع الباطنية فقتلوا وكان ذلك منتصف ذي القعدة سنة ستة وعشرين لثمان عشرة سنة من خلافته وكان كاتبا بليغا شجاعا قرما ولما قتل بمراغة كتب السلطان مسعود الى بك ابه شحنة بغداد بأن يبايع لابنه فبويع ابنه الراشد أبو جعفر منصور بعهده اليه لثمانية أيام من مقتله وحضر بيعته جماعة من أولاد الخلفاء وأبو النجيب الواعظ وأمّا(5/71)
إقبال خادم المسترشد فلما بلغه خبر الواقعة وكان مقيما ببغداد كما قد مناه عبر الى الجانب الغربيّ ولحق بتكريت ونزل على مجاهد الدين بهروز.
فتنة الراشد مع السلطان مسعود
لما بويع الراشد بعث اليه السلطان مسعود برتقش الزكوي يطالبه بما استقرّ عليه الصلح مع أبيه المسترشد وهو أربعمائة ألف دينار فأنكر الراشد أن يكون له مال وانما مال الخلافة كان مع المسترشد فنهب ثم جمع الراشد العساكر وقدّم عليهم كجراية وشرع في عمارة السور واتفق برتقش مع بك ايه على هجوم دار الخلافة وركبوا لذلك في العساكر فقاتلهم عساكر الراشد والعامّة وأخرجوهم عن البلد الى طريق خراسان وسار بك ايه [1] الى واسط وبرتقش الى سرخس ولما علم داود بن محمود فتنة عمه مسعود مع الراشد سار من أذربيجان الى بغداد في صفر سنة ثلاثين ونزل بدار السلطان ووصل بعده عماد الدين زنكي من الموصل وصدقة بن دبيس من الحلة ومعه عش بن أبي العسكر يدبر أمره ويديره وكان أبوه دبيس قد قتل بعد مقتل المسترشد بأذربيجان وملك هو الحلة ثم وصل جماعة من أمراء مسعود منهم برتقش بازدار صاحب فروق والبقش الكبير صاحب أصبهان وابن برسق وابن الاحمديلي وخرج للقائهم كجراية والطرنطاي وكان إقبال خادم المسترشد قد قدم من تكريت فقبض عليه الراشد وعلى ناصر الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير فاستوحش أهل الدولة وركب الوزير جلال الدين بن صدقة الى لقاء عماد الدين زنكي فأقام عنده مستجيرا حتى أصلح حاله مع الراشد واستجار به قاضي القضاة الزينبيّ ولم يزل معه الى الموصل وشفع في إقبال فأطلق وسار اليه ثم جدّ الراشد في عمارة السور وسار الملك داود لقتال مسعود استخلفه الراشد واستخلفه عماد الدين زنكي وقطعت خطبة مسعود من بغداد وولىّ داود شحنة بغداد برتقش بازدار ثم وصل الخبر بأنّ سلجوق شاه أخا الأمير مسعود ملك واسط وقبض على الأمير بك ايه فسار الأمير زنكي لدفاعه فصالحه ورجع وعبر الى طريق خراسان للحاق داود واحتشد العساكر ثم سار السلطان مسعود لقتالهم وفارق زنكي داود ليسير الى مراغة ويخالف السلطان مسعود الى همذان وبرز الراشد من بغداد أوّل رمضان وسار الى طريق خراسان وعاد بعد ثلاث وعزم على الحصار ببغداد واستدعى داود الأمراء ليكونوا معه عنده فجاءوا لذلك ووصلت رسل السلطان مسعود بطاعة الراشد والتعريض بالوعيد
__________
[1] ورد اسمه بك ابه (الكامل) ج 11 ص 25(5/72)
للامراء المجتمعين عنده فلم يقبل طاعة من أجلهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصار بغداد ومسير الراشد الى الموصل وخلعه وخلافة المقتفى
ثم انّ السلطان مسعودا أجمع المسير الى بغداد وانتهى الى الملكية فسار زين الدين علي من أصحاب زنكي حتى شارف معسكره وقاتلهم ورجع ونزل السلطان على بغداد والعيارون فأفسدوا سائر المحال ببغداد وانطلقت أيديهم وأيدي العساكر في النهب ودام الحصار نيفا وخمسين يوما وتأخر السلطان مسعود الى النهروان عازما على العود الى أصبهان فوصله طرنطاي صاحب واسط في سفن كثيرة فركب الى غربيّ بغداد فاضطرب الأمراء وافترقوا وعادوا إلى أذربيجان وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر اليه الراشد وسار معه الى الموصل ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة فسكن الناس وجمع القضاة والفقهاء وأوفقهم على يمين الراشد التي كتبها بخطه اني متى جمعت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه واتفق أرباب الدولة ممن كان ببغداد ومن أسر مع المسترشد وبقي عند السلطان مسعود كلهم على ذمّه وعدم أهليته على ما مرّ في أخباره بين أخبار الخلفاء وبويع محمد بن المستظهر ولقب المقتفي وقد قدّمت هذه الاخبار بأوسع من ذلك ثم بعث السلطان العساكر مع قراسنقر لطلب داود فأدركته عند مراغة وقاتله فهزمه وملك آذربيجان ومضى داود الى خوزستان واجتمع عساكر من التركمان وغيرهم فحاصر تستر وكان عمه سلجوق بواسط فسار اليه بعد ان أمره أخوه مسعود بالعساكر ولقي داود على تستر فهزمه داود ثم عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد واستوزر كمال الدين أبا البركات بن سلامة من أهل خراسان ثم بلغه انّ الراشد قد فارق الموصل فأذن للعساكر التي عنده ببغداد في العود الى بلادهم وصرف فيهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد ان أصهر اليه في ابنته وقدم عليه جماعة من الأمراء الذين كانوا مع داود منهم البقش اسلامي وبرسق بن برسق وصاحب تستر وسنقر الخمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم وأمنهم وعاد الى همذان سنة احدى وثلاثين.
الفتنة بين السلطان مسعود وبين داود والراشد وهزيمة مسعود ومقتل الراشد
كان الأمير بوزابة صاحب خوزستان والأمير عبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال والملك(5/73)
داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان فاجتمعوا عند الأمير منكبرس صاحب فارس وبلغهم مسير الراشد من الموصل الى مراغة فراسلوه في أن يجتمعوا عليه ويردّوه الى خلافته فأجابهم وبلغ الخبر الى السلطان مسعود فسار اليهم في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأوقع بهم وأخذ منكبرس أسيرا فقتله وافترقت عساكره للنهب فانفرد بوزابة وطغرلبك وصدقا الحملة عليه فانهزم وقبض على جماعة من الأمراء مثل صدقة بن دبيس صاحب الحلة وكافله غبتر ابن أبي العساكر وابن أتابك قراسنقر صاحب آذربيجان وحبسهم بوزابة حتى تحقق قتل منكبرس ولحق السلطان مسعود بآذربيجان منهزما وسار داود الى همذان فملكها ووصل اليه الراشد هنالك وأشار بوزابة وكان كبير القوم بالمسير الى فارس فساروا معه واستولى عليها وملكها ولما علم سلجوق شاه وهو بواسط انّ أخاه السلطان مسعود امضى الى آذربيجان سار هو الى بغداد ليملكها ودافعه البقش التخت ونظم الخادم أمير الحاج وثار العيارون بالبلدان وأفحشوا في النهب فلما رجع الشحنة استأصل شأفتهم وأخذ المستورين بجنايتهم فجلا الناس عن بغداد الى الموصل وغيرها ولما قتل صدقة بن دبيس أقرّ السلطان مسعود أخاه محمدا على الحلة ومعه مهلهل بن أبي العساكر أخو عش المقتول كما مرّ في أخباره ثم لما ملك بوزابة فارس رجع مع الراشد والملك داود ومعهما خوارزم شاه الى خوزستان وخربوا الجزيرة فسار اليهم مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود الى فارس وخوارزم شاه الى بلده وسار الراشد الى أصبهان فثار به نفر من الخراسانية كانوا في خدمته فقتلوه عند القائلة في خامس عشر رمضان من السنة ودفن بظاهر أصبهان ثم قبض السلطان آخر السنة على وزيره أبي البركات بن سلامة الدركزيني واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الخازن وكان نبيها حسن السيرة فرفع المظالم وأزال المكوس وأقام وظائف السلطان وجمع له الأموال وضرب على أيدي العمال وكشف خيانتهم فثقل عليهم وأوقعوا بينه وبين الأمراء فبالغوا في السعاية فيه عند السلطان وتولى كبرها قراسنقر صاحب آذربيجان فإنه بعث الى السلطان يتهدّده بالخروج عن طاعته فأشار على السلطان خواصه بقتله خشية الفتنة فقتله على كره وبعث برأسه الى قراسنقر فرضي وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة لسبعة أشهر من وزارته واستوزر بعده أبا العز طاهر بن محمد اليزدجردي وزير قراسنقر ولقب عز الملك وضاقت الأمور على السلطان وأقطع البلاد للامراء ثم قتل السلطان البقش السلاحي الشبحنة بما ظهر منه من الظلم والعسف فقبض عليه وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز ثم أمر بقتله فلما قرب(5/74)
للقتل ألقى نفسه في دجلة فمات وبعث برأسه الى السلطان فقدّم مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فحسن أثره ثم عزله السلطان سنة ست وثلاثين وولىّ فيها قرلي أميرا آخرا من موالي السلطان محمود وكانت له يزدجر والبصرة فأضيف له اليهما والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
فتنة السلطان سنجر مع خوارزم شاه
وهو أوّل بداية بني خوارزم قد تقدّم لنا ذكر أولية محمد خوارزم شاه وهو محمد بن أبي شنتكين وانّ خوارزم شاه لقب له وانّ الأمير داود حبشي لما ولاه بركيارق خراسان وقتله أكنجي ولىّ محمد بن أبي شنتكين وولىّ بعده ابنه أتسز فظهرت كفاءته وقرّ به السلطان سنجر واستخلصه واستظهر به في حروبه فزاده ذلك تقدّما ورفعة واستفحل ملكه في خوارزم ونمي للسلطان سنجر انه يريد الاستبداد فسار اليه سنة ثلاث وثلاثين وبرز أتسز ولقيه في التعبية فلم يثبت وانهزم وقتل من عسكره خلق وقتل له ابن فحزن عليه حزنا شديدا وملك سنجر خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمد ورتب له وزيرا وأتابك وحاجبا وعاد الى مرو منتصف السنة فخالفه أتسز الى خوارزم وهرب سليمان شاه ومن معه الى سنجر واستولى أتسز على خوارزم وكان من أمره ما يذكر بعد ان شاء الله تعالى.
استيلاء قراسنقر صاحب آذربيجان على بلاد فارس
ثم جمع أتابك قراسنقر صاحب آذربيجان وبرّز طالبا ثأر أبيه الّذي قتله بوزابة في المصاف كما مرّ وأرسل السلطان مسعود في قتل وزيره الكمال فقتله كما مرّ فانصرف عنه الى بلاد فارس وتحصن عنه بوزابة في القلعة البيضاء ووطئ قراسنقر البلاد وملكها ولم يمكنه مقام فسلمها لسلجوق شاه ابن السلطان محمود وهو أخو السلطان مسعود وعاد الى آذربيجان فنزل بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين وهزم سلجوق شاه وأسره وحبسه ببعض قلاعه واستولى على البلاد ثم هلك قراسنقر صاحب آذربيجان وارّان بمدينة أردبيل وكان من مماليك طغرل وولىّ مكانه جاولي الطغرلي والله سبحانه ولىّ التوفيق.
مسير جهان دانكي الى فارس
ثم أمر السلطان سنة خمس وثلاثين الأمير إسماعيل جهان دانكي فسار اليها ومنعها مجاهد الدين بهروز من الوصول واستعدّ لذلك بخسف المعابر وتغريقها فقصد الحلة فمنعها أيضا فقصد واسط فقاتله طرنطاي وانهزم ودخل واسط ونهبها ونهب النعمانية وما اليها واتبعهم طرنطاي الى البطيحة ثم فارقه عسكره الى طرنطاي فلحق بتستر وكتب إسماعيل الى السلطان فعفا عنه
.(5/75)
هزيمة السلطان سنجر امام الخطا واستيلاؤهم على ما وراء النهر
وتلخيص هذا الخبر من كتاب ابن الأثير أنّ أتسز بن محمد ملك خوارزم واستقرّ بها فبعث الى الخطا وهم أعظم الترك فيما وراء النهر وأغراهم بمملكة السلطان سنجر واستحثهم لها فساروا في ثلاثمائة ألف فارس وسار سنجر في جميع عساكره وعبر اليهم النهر ولقيهم سنة ست وثلاثين واقتتلوا أشدّ قتال ثم انهزم سنجر وعساكره وقتل منهم مائة ألف فيهم أربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة السلطان سنجر ولحق سنجر بترمذ وسار منها الى بلخ وقصد أتسز مدينة مرو فدخلها مراغما للسلطان وفتك فيها وقبض على جماعة من الفقهاء والأعيان وبعث السلطان سنجر الى السلطان مسعود يأذن له في النصر وفي الريّ ليدعوه ان احتاج اليه فجاء عباس صاحب الريّ بذلك الى بغداد وسار السلطان مسعود الى الريّ امتثالا لأمر عمه سنجر قال ابن الأثير وقيل انّ بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاد سامسون وجبى [1] وطراز وغيرها مما وراء النهر كانت بيد الخانيّة وهم مسلمون من نسل مراسيان ملك الترك المعروف خبره مع ملوك الكينيّة وأسلم جدّهم الأوّل سبق قراخان لأنه رأى في منامه انّ رجلا نزل من السماء وقال له بالتركية ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة وأسلم في منامه ثم أسلم في يقظته ولما مات ملك مكانه موسى بن سبق ولم يزل الملك في عقبه الى ارسلان خان بن سليمان بن داود ابن بقرخان بن إبراهيم طغاج خان بن ايلك نصر بن ارسلان بن علي بن موسى بن سبق فخرج عليه قردخان وانتزع الملك منه ثم نصر سنجر وقتل قردخان وخرج بعد ذلك خوارزم ونصره السلطان سنجر منهم وأعاده الى ملكه وكان في جنده نوع من الأتراك يقال لهم القارغليّة والأتراك الغزيّة الذين نهبوا خراسان على ما نذكره بعد وهم صنفان صنف يقال لهم حق وأميرهم طوطي بزداديك وصنف يقال لهم برق وأميرهم برغوث بن عبد الحميد.
وكان لأرسلان نصر خان شريف يصحبه من أهل سمرقند وهو الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلويّ فحمل ابن ارسلان نصر خان وطلبوا انتزاع الملك منه فاستصرخ السلطان سنجر فعبر اليه في عساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة وانتهى الى سمرقند فهرب القارغليّة أمامه وعاد الى سمرقند فقبض على ارسلان خان وحبسه ببلخ فمات بها وولى على
__________
[1] جبي: بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة وفي الآخر ياء آخر الحروف، مدينة كثيرة النخل وقصب السكر، ومنها ابو علي الجبائي المعتزلي، قال في المشترك جبى كورة وبلد من نواحي خوزستان، قال وجبي أيضا قرية من نواحي النهروان (تقويم البلدان لأبي الفداء) .(5/76)
سمرقند مكانه قلج طمقاج أبا المعالي الحسن بن علي بن عبد المؤمن ويعرف بحسن تكر من أعيان بيت الخانية الا أن ارسلان خان اطرحه فولاه سنجر ولم تطل أيامه فولى بعده محمود بن ارسلان خان وأبوه هو الّذي ملك سمرقند من يده وهو ابن أخت سنجر وكان في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة قد خرج كوهرخان من الصين الى حدود كاشغر في جموع عظيمة وكوهر الأعظم بلسانهم وخان السلطان. فمعناه أعظم ملك ولقيه صاحب كاشغر أحمد بن الحسن الخان فهزمه وقد كان خرج قبله من الصين أتراك الخطا وكانوا في خدمة الخانيّة أصحاب تركسان وكان ارسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم على الدروب بينه وبين الصين مسالح ولهم على ذلك جرايات واقطاعات وسخط عليهم بعض السنين وعاقبهم بما عظم عليهم فطلبوا فسيحا من البلاد يأمنون فيه من ارسلان خان لكثرة ما كان يغزوهم ووصفت لهم بلاد سامسون فساروا اليها ولما خرج كونان من الصين ساروا اليه واجتمعوا عليه ثم ساروا جميعا الى بلاد ما وراء النهر ولقيهم الخان محمود بن ارسلان خان محمد في حدود بلاده في رمضان سنة احدى وثلاثين فهزموه وعاد الى سمرقند وعظم الخطب على أهلها وأهل بخارى واستمدّ محمود السلطان سنجر وذكر ما لقي السلطان من العنت واجتمع عنده ملوك خراسان وملك سجستان من بني خلف وملك غزنة من الغوريين وملك مازندران وعبر النهر للقاء الترك في أكثر من مائة ألف وذلك لآخر خمس وثلاثين وخمسمائة وشكا اليه محمود خان من القارغليّة فقصدهم واستجاروا بكوهرخان ملك الصين فكتب الى سنجر بالشفاعة فيهم فلم يشفعه وكتب اليه يدعوه للإسلام ويتهدّده بكثرة العساكر فأهان الرسول وزحف للقاء سنجر والتقى الجمعان بموضع يسمى قطران خامس صفر سنة ست وثلاثين وأبلى القارغليّة من الترك وصاحب سجستان من المسلمين ثم انهزم المسلمون فقتل كثير منهم وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر فأطلقهم كوهرخان ومضى السلطان سنجر منهزما وملك الترك الكفار والخطا بلاد ما وراء النهر الى أن مات كوهرخان ملكهم سنة سبع وثلاثين ووليت بعده ابنته ثم ماتت قريبا وملكت أمّها من بعدها وهو زوجة كوهرخان وابنه محمد وصار ما وراء النهر بيد الخطا الى أن غلبهم عليه عماد الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة.(5/77)
أخبار خوارزم شاه بخراسان وصلحه مع سنجر
ولما عاد السلطان منهزما سار خوارزم شاه الى سرخس في ربيع سنة ست وثلاثين فأطاعته ثم الى مرو الشاهجان فشفع فيهم الامام أحمد الباخرزي ونزل بظاهرها وبينما هو قد استدعى أبا الفضل الكرماني وأعيان أهلها للشورى ثار عامّة البلد وقتلوا من كان عندهم من جنده وامتنعوا فطاولها ودخلها عنوة وقتل كثيرا من علمائها ثم رجع في شوّال من السنة الى نيسابور وخرج اليه علماؤها وزهادها يسألون معافاتهم مما نزل بأهل مرو فأعفاهم واستصفى أصحاب السلطان وقطع خطبة سنجر وبعث عسكرا الى أعمال صغد فقاتلوهم أياما ولم يطق سنجر مقاومته لمكان الخطا وجوارهم له ثم سار السلطان سنجر سنة ثمان وثلاثين لقتال خوارزم وحاصرها أياما وكاد يملكها واقتحمها بعض أمرائه يوما فدافعه أتسز بعد حروب شديدة ثم أرسل أتسز الى سنجر بالطاعة والعود الى ما كان عليه فقبله وعاد سنة ثمان وثلاثين.
صلح زنكي مع السلطان مسعود
ثم وصل السلطان مسعود سنة ثمان وثلاثين الى بغداد [1] عادته فتجهز لقصد الموصل وكان يحمل لزنكي جميع ما وقع من الفتن فبعث اليه زنكي يستعطفه مع أبي عبد الله بن الأنباري وحمل معه عشرين ألف دينار وضمن مائة ألف على أن يرجع عنه فرجع وانعقد الصلح بينهما وكان مما رغب السلطان في صلحه أنّ ابنه غازي بن زنكي هرب من عند السلطان خوفا من أبيه فردّه الى السلطان ولم يجتمع به فوقع ذلك من السلطان أحسن موقع والله تعالى أعلم.
انتقاض صاحب فارس وصاحب الريّ
كان بوزابة صاحب فارس وخوزستان كما قدمنا فاستوحش من السلطان مسعود فانتقض سنة أربعين وخمسمائة وبايع لمحمد ابن محمود وهو ابن أخي السلطان مسعود وسار الى مامشون واجتمع بالأمير عباس صاحب الريّ ووافقه على شأنه واتصل به سليمان شاه أخو السلطان مسعود وتغلبوا على كثير من بلاده فسار اليهم من بغداد في رمضان من السنة ومعه الأمير طغايرك حاجبه وكان له التحكم في الدولة والميل الى القوم واستخلفه على بغداد الأمير مهلهل ونصير أمير الحاج وجماعة من غلمان بهروز وسار فلما تقاربوا للحرب نزع السلطان شاه عنهم الى أخيه مسعود وسعى عبد الرحمن في الصلح
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 93: وصل السلطان مسعود الى بغداد على عادته.(5/78)
فانعقد بينهما على ما أحبه القوم وأضيف الى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وارّان الى خلخال عوضا من جاولي الطغرلي واستوزر أبا الفتح بن دراست وزير بوزابة وقد كان السلطان سنة تسع وثلاثين قبض على وزيره اليزدجردي واستوزر مكانه المرزبان بن عبد الله بن نصر الأصبهاني وسلم اليه اليزدجردي واستصفى أمواله فلما كان هذه السنة وفعل بوزابة في صلح القوم ما فعل اعتضد بهم على مقامه عند السلطان وتحكم عليه وعزل وزيره واستوزر له أبا الفتح هذا.
مقتل طغايرك [1] وعباس
قد قدّمنا ان طغايرك وعبد الرحمن تحكما على السلطان واستبدّا عليه ثم آل أمره الى أن منعا بك ارسلان المعروف بابن خاص بك بن البتكري [2] من مباشرة السلطان وكان تربيته وخاصا به ونجيّ خلوته وتجهز طغايرك لبعض الوجوه فحمله في جملته فأسرّ السلطان الى بك ارسلان الفتك بطغابرك وداخل رجال العسكر في ذلك فأجاب منهم زنكي جاندار ان يباشر قتله بيده ووافق بك ارسلان جماعة من الأمراء واعترضوا له في موكبه فضربه الجاندار فصرعه عن فرسه وأجهز عليه ابن خاص بك ووقف الأمراء الذين واطئوه على ذلك دون الجاندار فمنعوه وكان ذلك بظاهر صهوة [3] وبلغ الخبر الى السلطان مسعود ببغداد ومعه عباس صاحب الريّ في جيش كثيف فامتعض لذلك ونكره فداراه السلطان حتى سكن وداخل بعض الأمراء في قتله فأجابوه وتولى كبر ذلك البقش حروسوس [4] للحف وأحضر السلطان عبّاسا وأدخله في داره وهذان الأميران عنده وقد أكمنوا له في بعض المخادع رجالا وعدلوا به الى مكانهم فقتلوه ونهبت خيامه وأصاخت البلاد لذلك ثم سكنت وكان عبّاس من موالي السلطان محمود وكان عادلا حسن السيرة وله مقامات حسان في جهاد الباطنية وقتل في ذي القعدة سنة احدى وأربعين ثم حبس السلطان أخاه سليمان شاه في قلعة تكريت وسار عن بغداد الى أصبهان والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] وقد ورد اسمه أيضا طغايرك
[2] ورد في بعض النسخ المعروف بابن خاص بك بن بتكرى.
[3] كذا بالأصل وفي معجم البلدان: صهوة كل شيء اعلاه والصهوة بنواحي المدينة. وفي الكامل: قتله بظاهر جنزة. وجنزة اسم مدينة باران كما في معجم البلدان واستنادا الى رواية معجم البلدان تكون رواية ابن الأثير أصح.
[4] وفي الكامل: البقش كون خر وتنر، وهو أمير اللحف.(5/79)
مقتل بوزابة صاحب فارس
قد تقدّم لنا أنّ طغايرك كان مستظهرا على السلطان بعبّاس صاحب الريّ وبوزابة صاحب فارس وخوزستان فلما قتل طغايرك وامتعض له عبّاس قتل اثره وانتهى الخبر الى بوزابة فجمع العساكر وسار الى أصبهان سنة اثنتين وأربعين فحاصرها وبعث عسكرا آخر لحصار همذان وآخر الى قلعة الماهكي من بلاد اللحف وكان بلاد اللحف من قلاع البقش كوزحر [1] فسار اليها ودفعهم عنها ثم سار بوزابة عن أصبهان لطلب السلطان مسعود فامتنع وتراجفا بمرج مزاتكن واشتدّ القتال بينهما وكبا الفرس ببوزابة وسيق إلى السلطان فقتل بين يديه وقيل أصابه سهم فسقط ميتا وانهزمت عساكره وكان هذا الحرب من أعظم الحروب بين السلجوقية.
انتقاض الأمراء على السلطان
ولما قتل طغايرك وعباس وبوزابة اختص بالسلطان ابن خاص بك لميله اليه واطرح بقية الأمراء فاستوحشوا وارتابوا بأنفسهم أن يقع بهم ما وقع بالآخرين ففارقوه وساروا نحو العراق أبو ركن المسعودي صاحب كنجة وارّان والبقش كوزحر صاحب الجبل والحاجب خريطاي المحمودي شحنة واسط وابن طغايرك والركن وقرقوب ومعهم ابن أخي السلطان وهو محمد بن محمود وانتهوا الى حرّان فاضطرب الناس ببغداد وغلت الأسعار وبعث اليهم المقتفي بالرجوع فلم يرجعوا ووصلوا الى بغداد في ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين ونزلوا بالجانب الشرقي وهرب أجناد مسعود شحنة بغداد الى تكريت ووصل اليهم علي بن دبيس صاحب الجبلة ونزل بالجانب الغربي وجمع الخليفة العساكر ثم قاتل العامة عساكر الأمراء فاستطردوا لهم ثم كروا عليهم فملئوا الأرض بالقتلى ثم جاست خيولهم خلال الديار فنهبوا وسبوا ثم جاءوا مقايل التاج يعتذرون وردّدوا الرسل الى الخليفة سائر يومهم ثم ارتحلوا من الغد الى النهر وان فعاثوا فيها وعاد مسعود من بلاد تكريت الى بغداد ثم افترق الأمراء وفارقوا العراق ثم عاد البقش كوزحر والطرنطاي وابن دبيس سنة أربع وأربعين ومعهم ملك شاه بن محمود وهو ابن أخي السلطان وطلبوا من الخليفة الخطبة لملك شاه فأبى وجمع العساكر وشغل بما كان فيه من أمر عم السلطان سنجر وذلك أن السلطان سنجر بعث اليه يلومه في تقديم ابن خاص بك ويأمره بابعاده وتهدّده فغالطه ولم يفعل فسار الى الريّ فبادر اليه مسعود وترضاه فرضي عنه ولما علم البقش كوزحر مراسلة
__________
[1] وفي بعض النسخ كون خر.(5/80)
المقتفي لمسعود نهب النهروان وقبض على عليّ بن دبيس وسار السلطان بعد لقاء عمه الى بغداد فوصلها منتصف شوّال سنة أربع وأربعين فهرب الطرنطاي الى النعمانيّة ورحل البقش الى النهروان بعد أن أطلق علي بن دبيس فجاء الى السلطان واعتذر فرضي عنه.
وفاة السلطان مسعود وولاية ملك شاه بن أخيه محمود ثم أخيه محمد من بعده
ثم توفى السلطان مسعود بهمذان في رجب منتصف سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من طلبه الملك وبه كمل استفحال ملك السلجوقية وركب الخمول دولتهم بعده وكان عهد الى ملك شاه بن أخيه محمود فلما توفى بايع له الأمير ابن خاص بك وأطاعه العسكر وانتهى خبر موته الى بغداد فهرب الشحنة بلاك الى تكريت وأمر المقتفى بالحوطة على داره ودور أصحاب السلطان مسعود ثم بعث السلطان ملك شاه عسكر الى الجبلة مع سلادكرد من أمرائه فملكها وسار اليه بلاك الشحنة فخادعه حتى استمكن منه فقبض عليه وغرّقه واستبدّ بلاك الشحنة بالجبلة وجهز المقتفي العساكر مع الوزير عون الدين بن عبيرة الى الجبلة وبعث عساكرا الى الكوفة وواسط فملكهما ووصلت عساكر السلطان ملك شاه فملكوها وسار اليها الخليفة بنفسه فارتجعها منهم وسار منها الى الجبلة ثم الى بغداد آخر ذي القعدة من السنة ثم انّ ابن خاص بك طمع في الانفراد بالأمر فاستدعى محمد بن محمود من خوزستان فأطمعه في الملك ليقبض عليه وعلى أخيه ملك شاه فقبض على ملك شاه أولا لستة أشهر من ولايته ووصل محمد في صفر من سنة ثمان وأربعين فأجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة وحمل اليه الهدايا وقد سعى للسلطان محمد بما انطوى عليه ابن خاص بك فلما باكره صبيحة وصوله فتك به وقتله وقتل معه زنكي الجاندار قاتل طغايرك وأخذ من أموال ابن خاص بك كثيرا وكان صبيا كما بينا اتصل بالسلطان مسعود وتنصح له فقدّمه على سائر العساكر والأمراء وكان أنوغري التركي المعروف بشملة في جملة ابن خاص بك ومن أصحابه ونهاه عن الدخول الى السلطان محمد فلما قتل ابن خاص بك نجا شملة الى خوزستان وكان له بها بعد ذلك ملك والله أعلم بغيبه وأحكم.
تغلب الغز على خراسان وهزيمة السلطان سنجر وأسره
كان هؤلاء الغز فيما وراء النهر وهم شعب من شعوب الترك ومنهم كان السلجوقية أصحاب(5/81)
هذه الدولة وبقوا هنالك بعد عبورهم وكانوا مسلمين فلما استولى الخطا على ملك الصين وعلى ما وراء النهر حجر هؤلاء الغزّ الى خراسان وأقاموا بنواحي بلخ وكان لهم من الأمراء محمود ودينار وبختيار وطوطي وارسلان ومعز وكان صاحب بلخ الأمير قماج فتقدّم اليهم أن يبعدوا عن بلخ فصانعوه فتركهم وكانوا يعطون الزكاة ويؤمنون السابلة ثم عاد اليهم في الانتقال فامتنعوا وجمعوا فخرج اليهم في العساكر وبذلوا له مالا فلم يقبل وقاتلوه فهزموه وقتلوا العسكر والرعايا والفقهاء وسبوا العيال ونجا قماج الى مرو وبها السلطان سنجر فبعث اليهم يتهدّدهم ويأمرهم بمفارقة بلاده فلاطفوه وبذلوا له فلم يقبل وسار اليهم في مائة ألف فهزموه وأثخنوا في عسكره وقتل علاء الدين قماج وأسروا السلطان سنجر ومعه جماعة من الأمراء فقتلوا الأمراء واستبقوا السلطان سنجر وبايعوه ودخلوا معه الى مرو فطلب منه بختيار اقطاعها فقال هي كرسي خراسان فسخروا منه ثم دخل سنجر خانقاه فقسط على الناس وأطرهم وعسفهم وعلق في الأسواق ثلاث غرائر وطالبهم بملئها ذهبا فقتله العامّة ودخل الغز نيسابور ودمّروها تدميرا وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها وقتلوا القضاة والعلماء في كل بلد ولم يسلم من خراسان غير هراة وسبستان لحصانتهما وقال ابن الأثير عن بعض مؤرّخي العجم ان هؤلاء الغز انتقلوا من نواحي التغرغر من أقاصي الترك الى ما وراء النهر أيام المقتفي وأسلموا واستظهر بهم المقنّع الكنديّ على مخارقه وشعوذته حتى تمّ أمره فلما سارت اليه العساكر خذلوه وأسلموه وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخانية ثم طردهم الأتراك القارغلية عن اقطاعهم فاستدعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيبانيّ المستولي على حدود طخارستان وأنزلهم بلاده واستظهر بهم على قماج صاحب بلخ وسار بهم لمحاربته فخذلوه لأنّ قماج كان استمالهم فانهزم زنكي وأسر هو وابنه وقتلهما قماج وأقطع الغز في بلاده فلما سار الحسين بن الحسين الغوري الى بلخ برز اليه قماج ومعه هؤلاء الغز فخذلوه ونزعوا عنه الى الغوري حتى ملك بلخ فسار السلطان سنجر الى بلخ وهزم الغوري واستردّها وبقي الغزّ بنواحي طخارستان وفي نفس قماج حقد عليهم فأمرهم بالانتقال عن بلاده فتألفوا وتجمّعوا في طوائف من الترك وقدموا عليهم أرسلان بوقاء التركي ولقيهم قماج فهزموه وأسروه وابنه أبا بكر وقتلوهما واستولوا على نواحي بلخ وعاثوا فيها وجمع السلطان سنجر وفي مقدمته محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول والمؤيد ابنه في محرّم سنة ثمان وأربعين وجاء السلطان سنجر على أثرهم وبعثوا اليه بالطاعة والأموال فلم يقبل منهم وقاتلهم فهزموه الى بلخ ثم عاود قتالهم فهزموه الى مرو واتبعوه فهرب هو وعسكره من مرو رعبا منهم ودخلوا البلد وأفحشوا فيه قتلا ونهبا وقتلوا القضاة والأئمة والعلماء(5/82)
ولما خرج سنجر من مرو وأسروه وأجلسوه على التخت على عادته وآتوه طاعتهم ثم عاودوا الغارة على مرو فمنعهم أهلها وقاتلوهم ثم عجزوا واستسلموا فاستباحوها أعظم من الاولى ولما أسر سنجر فارقه جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك ووصلوا الى نيسابور واستدعوا سليمان شاه بن السلطان محمود وخطبوا له بالسلطان في منتصف السنة واجتمعت عليه عساكر خراسان وساروا لطلب الغزّ فبارزوهم على مرو وانهزمت العساكر رعبا منهم وقصدوا نيسابور والغز في اتباعهم ومرّوا بطوس فاستباحوها وقتلوا حتى العلماء والزهاد وخربوا حتى المساجد ثم ساروا الى نيسابور في شوّال سنة تسع وأربعين ففعلوا فيها أفحش من طوس حتى ملئوا البلاد من القتلى وتحصن طائفة بالجامع الأعظم من العلماء والصالحين فقتلوهم عن آخرهم وأحرقوا خزائن الكتب وفعلوا مثل ذلك في جوين وأسفراين فحاصروهما واقتحموهما مثل ما فعلوا في البلاد الأخرى وكانت أفعال الغز في هذه البلاد أعظم وأقبح من أفعال الغز في غيرها ثم انّ السلطان سليمان شاه توفى وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك في شوّال سنة ثمان وأربعين فاستوزر ابنه نظام الملك وانحلّ أمره وعجز عن القيام بالملك فعاد الى جرجان في صفر سنة تسع وأربعين فاجتمع الأمراء وخطبوا للخان محمود بن محمد بن بقراخان وهو ابن أخت سنجر واستدعوه فملكوه في شوّال من السنة وساروا معه لقتال الغز وهم محاصرون هراة فكانت حروبه معهم سجالا وأكثر الظفر للغز ثم رحلوا عن هراة الى مرو منتصف خمسين وأعادوا مصادرة أهلها وسار الخان محمد الى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد كما يذكر فراسل الغز في الصلح فصالحوه في رجب.
استيلاء المؤيد على نيسابور وغيرها
هذا المؤيد من موالي سنجر واسمه وكان من أكابر أوليائه ومطاعا فيهم ولما كانت هذه الفتنة وافترق أمر الناس بخراسان تقدم فاستولى على نيسابور وطوس ونسا [1] وان ورد وشهرستان والدامغان وحصنها ودافع الغز عنها ودانت له الرعية لحسن سيرته فعظم شأنه وكثرت جموعه واستبدّ بهذه الناحية وطالبه الخان محمود عند ما ملكوه بالحضور عنده وتسليم البلاد فامتنع وتردّدت الرسل بينهما على مال
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 236: تقدم المؤيد «اي ابه» بقبض أعيان نيسابور وحبسهم وقال:
أنتم الذين اطمعتم الزنود والمفسدين حتى فعلوا هذه الفعال، ولو أردتم منعهم لاقتنعوا. وقتل من أهل الفساد وجماعة فخر بن نيسابور بالكلية.(5/83)
يحمله للخان محمود فضمنه المؤيد وكف عنه محمود واستقرّ الحال على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء ايتاخ على الريّ
كان ايتاخ من موالي السلطان سنجر وكانت الريّ أيضا من أعمال سنجر فلما كانت فتنة الغز لحق بالريّ واستولى عليها وصانع السلطان محمد شاه ابن محمود صاحب همذان وأصبهان وغيرهما وبذل له الطاعة فأقرّه فلما مات السلطان محمد مدّ يده الى أعمال تجاوزته وملكها فعظم أمره وبلغت عساكره عشرة آلاف فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره وقد كان أنس به عند ولاية سليمان على خراسان سار اليه وقام بخدمته وبقي مستبدا بتلك البلاد والله سبحانه وتعالى أعلم.
الخبر عن سليمان شاه وحبسه بالموصل
كان سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر وجعله وليّ عهده وخطب له على منابر خراسان فلما وقعت فتنة الغز وأسر سنجر قدمه أمراء خراسان على أنفسهم ثم عجز ومضى الى خوارزم شاه فزوّجه ابنة أخيه ثم سعى به عنده فأخرجه من بلده وجاء الى أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فمضى الى قاشان فبعث السلطان محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا ليدفعه عنها فسار الى خوزستان فمنعه ملك شاه منها فقصد اللحف ونزل وأرسل المقتفي في أثره فطلبه في زوجته رهينة ببغداد فبعث بها مع جواريها وأتباعها فأكرمهم المقتفي وأذن له في القدوم وخرج الوزير ابن هبيرة وقاضي القضاة والفتيان لتلقيه وخلع عليه المقتفي وأقام ببغداد حتى إذا دخلت سنة احدى وخمسين أحضر بدار الخلافة وحضر قاضي القضاة والأعيان واستحلف على الطاعة والتجافي للخليفة عن العراق وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمدّ بثلاثة آلاف من العسكر وجعل معه الأمير دوران أمير حاجب صاحب الجبلة وسار الى بلاد الجبل في ربيع الأوّل من السنة وسار المقتفي الى حلوان وبعث الى ملك شاه بن السلطان محمود يدعوه الى موافقة عمه سليمان شاه وان يكون وليّ عهده فقدم في ألفي فارس وتحالفا وأمدّهما المقتفي بالمال والاسلحة واجتمع معهم ايلدكز صاحب كنجة وأرانية وساروا لقتال السلطان محمد فلما بلغه خبرهم أرسل الى قطب الدين مودود بن زنكي ونائبة زين الدين على كوجك في المساعدة والارتفاق فاجاباه وسارا للقاء عمه سليمان شاه ومن معه واقتتلوا في جمادى الاولى فهزمهما السلطان محمد وافترقوا وتوّجه سليمان شاه الى بغداد على شهرزور وكانت لصاحب الموصل وبها الأمير بوران من جهة على كوجك نائب(5/84)
الموصل فاعترضه هنالك كوجك وبوران فاحتمله كوجك الى الموصل فحبسه بها وبعث الى السلطان محمد بالخبر وانه على الطاعة والمساعدة فقبل منه وشكر له.
فرار سنجر من أسر الغز
قد تقدّم لنا ما كان من أسر السلطان سنجر بيد الغز وافتراق خراسان واجتماع الأمراء بنيسابور وما اليها على الخان محمود بن محمد وامتنعوا من الغز وامتنع أتسز بن محمد أنوشتكين بخوارزم وانقسمت خراسان بينهم وكانت الحرب بين الغز وبينهما سجالا ثم هرب سنجر من أسر الغز وجماعة من الأمراء كانوا معه في رمضان سنة احدى وخمسين ولحق بترمذ ثم عبر جيحون الى دار ملكه بمرو فكانت مدّة أسره من جمادى سنة ثمان وأربعين ثلاث سنين وأربعة أشهر ولم يتفق فراره من الأسر الا بعد موت علي بك مقدّم القارغلية لأنه كان أشدّ شيء عليه فلما توفي انقطعت القارغلية اليه وغيرهم ووجد فسحة في أمره والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصار السلطان محمد بغداد
كان السلطان محمد بن محمود لأوّل ولايته الملك بعد عمه مسعود بعث الى المقتفي في الخطبة له ببغداد والعراق على عادتهم فمنعه لما رجا من ذهاب دولتهم استفحالهم واستبدادهم فسار السلطان من همذان في العساكر نحو العراق ووعده صاحب الموصل ونائبة بمدد العساكر فقدم آخر احدى وخمسين وبعث المقتفي في الحشد فجاء خطا وفرس في عسكر واسط وخالفهم مهلهل الى الجبلة فملكها واهتم المقتفي وابن هبيرة بالحصار وقطع الجسر وجمع السفن تحت التاج ونودي في الجانب الغربي بالعبور فعبروا في محرم سنة اثنتين وخمسين وخرب المقتفي ما وراء الخرسة صلاحا في استبداده وكذلك السلطان محمد من الجهة الأخرى ونصبت المنجنيقات والعرّادات وفرّق المقتفي السلاح على الجند والعامة وجاء زين الدين كجك في عسكر الموصل ولقي السلطان علي أوانا واتصلت الحرب واشتدّ الحصار وفقدت الأقوات وانقطعت المواد عن أهل بغداد وفتر كجك وعسكره في القتال أدبا مع المقتفي وقيل أوصاه بذلك نور الدين محمود بن زنكي أخو قطب الدين الأكبر ثم جاء الخبر بأنّ ملك شاه أخا السلطان محمد وايلدكز صاحب ارّان وربيبه ارسلان بن طغرل قصدوا همذان فسار عن بغداد مسرعا الى همذان آخر ربيع الأوّل وعاد زين الدين الى الموصل ولما وصل ملك شاه وايلدكز وربيبه ارسلان الى همذان أقاموا بها قليلا وسمعوا بمجيء السلطان فاجفلوا وساروا الى الري فقاتلهم الشحنة انبانج فهزموه(5/85)
وحاصروه وأمدّه السلطان محمد بعسكر بن سقمس بن قماز فوجدهم قد أفرجوا عنه وقصدوا بغداد فقاتلهم فهزموه ونهبوا عسكره فسار السلطان محمد ليسابقهم الى بغداد فلما انتهى الى حلوان بلغه أن ايلدكز بالدينور ثم وافاه رسول انبانج بانه ملك همذان وخطب له فيها وان شملة صاحب خراسان هرب عن ايلدكز وملك شاه الى بلاده فعاد الى ارّان ورجع السلطان الى همذان قاصدا للتجهز الى بلاد ايلدكز باران.
وفاة سنجر
ثم توفي السلطان سنجر صاحب خراسان في ربيع سنة اثنتين وخمسين وقد كان ولى خراسان منذ أيام أخيه بركيارق وعهد له أخوه محمد فلما مات محمد خوطب بالسلطنة وكان الملوك كلهم بعدها في طاعته نحو أربعين سنة وخطب له قبلها بالملك عشرين سنة وأسره الغز ثلاث سنين ونصف ومات بعد خلاصه من الأسر وقطعت خطبته ببغداد والعراق ولما احتضر استخلف على خراسان ابن أخته محمد بن محمود بن بقراخان فأقام بجرجان وملك الغز مرو وخراسان وملك به المؤيد نيسابور وناحيته من خراسان وبقي الأمر على هذا الخلاف سنة اربع وخمسين وبعث الغز الى محمود الخان ليحضر عندهم فيملكوه فخافهم على نفسه وبعث ابنه اليهم فأطاعوه مدّة ثم لحق هو بهم كما نذكر بعد.
منازعة ايتاق للمؤيد
كان ايتاق هذا من موالي السلطان سنجر فلما كانت الفتنة وافترق الشمل ومات السلطان سنجر وملك المؤيد نيسابور وحصل له التقدّم بذلك على عساكر خراسان حسده جماعة من الأمراء وانحرف عنه ايتاق هذا فتارة يكون معه وتارة يكون في مازندان فلما كان سنة اثنتين وخمسين سار من مازندران في عشرة آلاف فارس من المنحرفين عن المؤيد وقصد نسا وأبيورد وأقام بها [1] المؤيد ايتاق فسار اليه وكبسه وغنم معسكره ومضى ايتاق منهزما الى مازندران وكان بين ملكها رستم وبين أخيه علي منازعة فتقرب ايتاق الى رستم بقتال أخيه علي فوجد لذلك غلبة ودفعه عنه وسار يتردد في نواحي خراسان بالعيث والفساد وألح على
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 226: واقام بنواحي نسا وأبيورد لا يظهر المخالفة للمؤيد، بل يراسله بالموافقة والمعاضدة له ويبطن ضدها. وانتقل المؤيد من المكاتبة الى المكافحة وسار اليه جريدة فأغار عليه وأوقع به فتفرق عنه جموعه.(5/86)
أسفراين فخربها وراسله السلطان محمود الخان والمؤيد في الطاعة والاستقامة فامتنع فساروا اليه في العساكر في صفر سنة ثلاث وخمسين فهرب الى طبرستان وبعث رستم شاه مازندان الى محمود والمؤيد بطاعته وبأموال جليلة وهدية فقبلوا منه وبعث ايتاق ابنه رهنا على الطاعة فرجعوا عنه واستقرّ بجرجان ودستان وأعمالها.
منازعة سنقر العزيزي للمؤيد ومقتله
كان سنقر العزيزي من أمراء السلطان سنجر وكان في نفسه من المؤيد ما عند الباقين فلما شغل المؤيد بحرب ايتاق سار سنقر من عسكر السلطان محمود بن محمد الى هراة فملكها واشترط عليه أن يستظهر بملك الغورية الحسين فأبى وطمع في الاستبداد لما رأى من استبداد الأمراء على السلطان محمود بن محمد فحاصره المؤيد بهراة واستمال الأتراك الذين كانوا معه فأطاعوه وقتلوا سنقر العزيزي غيلة وملك السلطان محمد هراة ولحق الفل من عسكر سنقر بإيتاق وتسلطوا على طوس وقراها واستولى الخراب على البلاد والله تعالى أعلم.
فتنة الغز الثانية بخراسان وخراب نيسابور على يد المؤيد
كان الغز بعد فتنتهم الاولى أوطنوا بلخ ونزعوا عن النهب والقتل بخراسان واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان محمود بن محمد الخان وكان القائم بدولته المؤيد أبوابه فلما كان سنة ثلاث وخمسين في شعبان سار الغز الى مرو فزحف المؤيد اليهم وأوقع طائفة منهم وتبعهم الى مرو وعاد الى سرخس وخرج معه الخان محمود لحربهم فالتقوا خامس شوّال وتواقعوا مرارا ثلاثا انهزم فيها الغز على مرو وأحسنوا السيرة وأكرموا العلماء والأئمة ثم أغاروا على سرخس وطوس واستباحوهما وخربوهما وعادوا الى مرو وأمّا الخان محمود بن محمد فسار الى جرجان ينتظر مآل أمرهم وبعثوا اليه الغز سنة أربع وخمسين يستدعونه ليملكوه فاعتذر لهم خشية على نفسه فطلبوا منه جلال الدين عمر فتوثق منهم بالحلف وبعثه اليهم فعظموه وملكوه في ربيع الآخر من سنة أربع ثم سار أبوه محمود الى خراسان وتخلف عنه المؤيد أبوابه وانتهى الى حدود نساوا بيورد فولى عليهم الأمير عمر بن حمزة النسوي فقام في حمايتهما المقام المحمود بظاهر نسا ثم سار الغز من نيسابور الى طوس لامتناع أهلها من طاعتهم فملكوها واستباحوها(5/87)
وعادوا الى نيسابور فساروا مع جلال الدين عمر بن محمود الخان الى حصار سارورا [1] وبها النقيب عماد الدين محمد بن يحي العلويّ الحسيني فحاصروه وامتنعت عليهم فرجعوا الى نسا وأبيورد للقاء الخان محمود بجرجان كما قدّمناه فخرج منها سائر الى خراسان واعترضه الغز ببعض القرى في طريقه فهرب منه وأسر بعضهم ثم هرب منه ولحق بنيسابور فلما جاء الخان محمود اليها مع الغز فارقها منتصف شعبان ودخلها الغز وأحسنوا السيرة وساروا الى سرخس ومرو فعاد المؤيد في عساكره الى نيسابور وامتنع أهلها عليه فحاصرها وافتتحها عنوة وخربها ورحل عنها الى سبق في شوّال سنة أربع وخمسين.
استيلاء ملك شاه بن محمود على خوزستان
ولما رجع السلطان ملك شاه محمد بن محمود من حصار بغداد وامتنع الخليفة من الخطبة له أقام بهمذان عليلا وسار أخوه ملك شاه الى قم وقاشان فافحش في نهبها ومصادرة أهلها وراسله أخوه السلطان محمد في الكف عن ذلك فلم يفعل وسار الى أصبهان وبعث الى ابن الجمقري وأعيان البلد في طاعته فاعتذروا بطاعة أخيه فعاث في قراها ونواحيها فسار السلطان اليه من همذان وفي مقدّمته كرجان الخادم فافترقت جموع ملك شاه ولحق ببغداد فلما انتهى الى قوس لقيه موبذان وسنقر الهمذاني فأشارا عليه بقصد خوزستان من بغداد فسار الى واسط ونزل بالجانب الشرقي وساء أثر عسكره في النواحي ففتحوا عليهم البثوق وغرق كثير منهم ورجع ملك شاه الى خوزستان فمنعه شملة من العبور فطلب الجوار في بلده الى أخيه السلطان فمنعه فنزل على الأكراد الذين هنالك فاجتمعوا عليه من الجبال والبسائط وحارب شملة ومع ملك شاه سنقر الهمذاني وموبذان وغيرهما من الأمراء فانهزم شملة وقتل عامّة أصحابه واستولى ملك شاه على البلاد وسار الى فارس والله هو المؤيد بنصره.
وفاة السلطان محمد وولاية عمه سليمان شاه
ثم توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملك شاه آخر سنة أربع وخمسين وهو الّذي حاصر بغداد يطلب الخطبة له من الخليفة ومنعه فتوفي آخر هذه السنة لسبع سنين ونصف من ولايته وكان له ولد صغير فسلّمه الى سنقر الاحمديلي وقال هو وديعة عندك فأوصل به
__________
[1] وردت في الكامل ج 11 ص 233: (سابزوار) . ولم يذكر صاحب معجم البلدان سارورا ولعلها سارية. وقال البلاذري: كور طرستان ثماني كور، سارية وبها منزل العامل في أيام الطاهرية، وكان العامل قبل ذلك في آمل، وجعلها أيضا الحسن بن زيد ومحمد بن زيد العلويان دار مقامهما.(5/88)
الى بلادك فانّ العساكر لا تطيعه فوصل به الى مراغة واتفق معظم الجند على البيعة لعمه سليمان شاه وبعث أكابر الأمراء بهمذان الى أتابك [1] زين الدين مودود أتابك ووزير مودود وزيره فأطلقه مودود وجهزه بما يحتاج اليه في سلطانه وسار معه زين الدين على كجك في عساكر الموصل فلما انتهى الى بلاد الجبل وأقبلت العساكر للقاء سليمان شاه ذكر معاملتهم مع السلطان ودالتهم عليه فخشي على نفسه وعاد الى الموصل ودخل سليمان شاه همذان وبايعوا له والله سبحانه تعالى أعلم.
وفاة المقتفي وخلافة المستنجد
ثم توفي المقتفي لأمر الله في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة من خلافته وقد كان استبدّ في خلافته وخرج من حجر السلجوقية عند افتراق أمرهم بعد السلطان مسعود كما ذكرناه في أخبار الخلفاء ولما توفي بويع بعده بالخلافة ابنه المستنجد فجرى على سنن أبيه في الاستبداد واستولى على بلاد الماهلي ونزل اللحف وولى عليها من قبله كما كانت لأبيه وقد تقدّم ذكر ذلك في أخبارهما انتهى.
اتفاق المؤيد مع محمود الخان
قد كنا قدّمنا أنّ الغز لما تغلبوا استدعوا محمود الخان ليملكوه فبعث اليهم بابنه عمر فملكوه ثم سار محمود من جرجان الى نسا وجاء الغز فساروا به الى نيسابور فهرب عنها المؤيد ودخلها محمود والغز ثم ساروا عنها فعاد اليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة وخربها في شوّال سنة أربع وخمسين ورحل عنها الى سرخس فعاد اليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة ورحل عنها الى بيهق ثم رجع اليها سنة خمس وخمسين وعمر خرابها وبالغ في الإحسان اليها ثم سار لإصلاح أعمالها ومحو آثار المفسدين والثّوار من نواحيها ففتح حصن إشقيل وقتل الثوار الزيدية وخرّبه وفتح حصن خسر وجور من أعمال بيهق وهو من بناء كنجر وملك الفرس أيام حربه مع جراسياق وملكه ورتب فيه الحامية وعاد الى نيسابور ثم قصد مدينة كندر من أعمال طرسا وفيها متغلب اسمه خرسده يفسد السابلة ويخرب الأعمال ويكثر الفتك وكان البلاء به عظيما في خراسان فحاصره ثم ملك عليه الحصن عنوة وقتله وأراح البلاد منه ثم قصد في رمضان من السنة مدينة بيهق وكانوا قد
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 254: سار سليمان شاه من الموصل الى همذان لتولي السلطنة. وقد تقدم سبب قبضه واخذه الى الموصل. وسبب مسيره اليها ان الملك محمد بن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان الى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه اليهم ليولوه السلطنة فاستقرت القاعدة بينهم ان يكون سليمان شاه سلطانا وقطب الدين أتابك وجمال الدين وزير قطب الدين وزيرا لسليمان شاه وتحالفوا على هذا.(5/89)
عصوا عليه فراجعوا الطاعة وقبلهم واستفحل أمره فأرسل اليه الخان محمود بن محمد وهو مع الغز بالولاية على نيسابور وطوس وما اليها فاتصلت يده به واستحكم الصلح بينه وبين الغز وذهبت الفتن.
الحرب بين عسكر خوارزم شاه والأتراك البرزية
كان هؤلاء الأتراك البرزية من شعوب الترك بخراسان وأميرهم بقراخان بن داود فأغار عليهم جمع من عساكر خوارزم شاه وأوقعوا بهم وفتكوا فيهم ونجا بقراخان في الفل منهم الى السلطان محمود بخراسان ومن معه من الغز مستصرخا بهم وهو يظن أن أيتاق هو الّذي هيج عليهم فسار الغز معه على طريق نسا وأبيورد وقصدوا ايتاق فلم يكن له بهم قوّة فاستنصر شاه مازندان فسار لنصره واحتشد في أعماله من الأكراد والديلم والتركمان وقاتلوا الغز والبرزية [1] بنواحي دهستان فهزمهم خمسا وكان ايتاق في ميمنة شاه مازندان وأفحش الغز في قتل عسكرهم ولحق شاه مازندان بسارية وايتاق شهروز خوارزم ثم ساروا الى دهستان فنهبوها وخربوها سنة ست وخمسين وخربوا جرجان كذلك وافترق أهلها في البلاد ثم سار ايتاق الى بقراتكن المتغلب على أعمال قزوين فانهزم من بين يديه ولحق بالمؤيد وصار في جملته واكتسح ايتاق سائر أعماله ونهب أمواله فقوى بها.
وفاة ملك شاه بن محمود
قد قدّمنا انّ ملك شاه بن محمود سار بعد أخيه السلطان محمد من خوزستان الى أصبهان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس فأطاعه ابن الخجنديّ رئيس أصبهان وسائر أهلها وجمع له الأموال وأرسل ملك شاه الى أهل الدولة بأصبهان يدعوهم الى طاعته وكان هو أهم مع عمه سليمان فلم يجيبوه الى ذلك وبعثوا عن سليمان من الموصل وملكوه وانفرد ملك شاه بأصبهان واستفحل أمره وبعث الى المستنجد في الخطبة له ببغداد مكان عمه سليمان شاه وان تعاد الأمور الى ما كانت ويتهدّدهم فوعد الوزير عميد الدين بن هبيرة جارية جاعلها على سمه فسمته في الطعام وفطن المطبب بأنه مسموم وأخبر بذلك شملة
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وعبارة ابن الأثير ج 10 ص 261: فاستنجد شاه مازندران فجاءه ومعه من الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي ايسكون جمع كثير فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم.(5/90)
ودكلا فاحضروا الجارية وأقرت ومات ملك شاه وأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه وعاد شملة الى خراسان فارتجع ما كان ملك شاه تغلب عليه منها.
قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان
كان سليمان لما ملّك أقبل على اللهو ومعاقرة الخمر حتى في نهار رمضان وكان يعاشر الصفاعين والمساخر وعكف على ذلك مع ما كان فيه من الخرق والتهور فقعد الأمراء عن غشيان بابه وشكوا الى شرف الدين كردبازه الخادم وكان مدبر مملكته وكان حسن التربية والدين فدخل عليه يوما يعذله على شأنه وهو مع ندمائه بظاهر همذان فأشار اليهم أن يعبثوا بكردبازه فخرج مغضبا واعتذر اليه عند ما صحا فأظهر له القبول وقعد عن غشيان مجلسه وكتب سليمان شاه الى انبانج صاحب الريّ يدعوه الى الحضور فوعده بذلك إذا أفاق من مرضه وزاد كردبازه استيحاشا فاستحلف الأمراء على خلع سليمان وبدأ بقتل جميع الصفاعين الذين كانوا ينادمونه وقال انما فعلته صونا لملكك ثم عمل دعوة في داره فحضر سليمان شاه والأمراء وقبض على سليمان شاه ووزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحاقدي وعلى خواصه وذلك في شوّال سنة خمس وخمسين وقتل وزيره وخواصه وحبس سليمان شاه قليلا ثم قتله ثم أرسل الى ايلدكز صاحب أرّان وأذربيجان يستقدم ربيبه أرسلان بن طغرل ليبايع له بالسلطنة وبلغ الخبر الى انبانج صاحب الريّ فسار الى همذان ولقيه كردبازه وخطب له بالسلطنة بجميع تلك البلاد وكان ايلدكز قد تزوّج بأم أرسلان وولدت له ابنه البهلوان محمد ومزدارسلان عثمان فكان ايلدكز أتابك وابنه البهلوان حاجبا وهو أخو أرسلان لأمّه وايلدكز هذا من موالي السلطان مسعود ولما ملك أقطعه ارّان وبعض أذربيجان وحدثت الفتن والحروب فاعتصم هو باران ولم يحضر عند أحد من ملوكهم وجاء اليه ارسلان شاه من تلك الفتن فأقام عنده الى أن ملك ولما خطب له بهمذان بعث ايلدكز أتابك الى انبانج صاحب الريّ ولاطفه وصاهره في ابنته لابنه البهلوان وتحالفا على الاتفاق وبعث الى المستنجد بطلب الخطبة لارسلان في العراق واعادة الأمور الى عادتها أيام السلطان مسعود فطرد رسوله بعد الإهانة ثم أرسل ايلدكز الى آقسنقر الاحمديلي يدعوه الى طاعة السلطان ارسلان فامتنع وكان عنده ابن السلطان شاه بن محمود المدني أسلمه اليه عند موته فتهدّده بالبيعة له وكان الوزير ابن هبيرة يكاتبه من بغداد ويقمعه في الخطبة لذلك الصبي قصدا للنصر من بينهم فجهز ايلدكز العساكر مع البهلوان الى آقسنقر واستمدّ آقسنقر شاهر بن سقمان(5/91)
القطبي صاحب خلاط وواصله فمدّه بالعساكر وسار نحو البهلوان وقاتله فظفر به ورجع البهلوان الى همذان مهزوما والله تعالى أعلم.
الحرب بين ايلدكز وانبانج
لما مات ملك شاه بن محمود بأصبهان كما قلناه لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس ومعهم ابنه محمود فانتزعه منهم صاحب فارس زنكي بن دكلا السلقدي [1] وأنزله في قلعة إصطخر فلما ملك ايلدكز السلطان ارسلان وطلب الخطبة ببغداد وأخذ الوزير ابن هبيرة في استفساد الاطراف عليهم وبعث لابن آقسنقر في الخطبة لابن السلطان محمد شاه الّذي عنده وكاتب صاحب فارس أيضا يشير عليه بالبيعة للسلطان محمد بن السلطان ملك شاه الّذي عنده ويعده بالخطبة له إن ظفر بايلدكز فبايع له ابن دكلا وخطب له بفارس وضرب النوب الخمس على بابه وجمع العساكر وبلغ الى ايلدكز فجمع وسار في أربعين ألفا الى أصبهان يريد فارس فأرسل الى زنكي في الخطبة لارسلان شاه فأبى فقال له ايلدكز أنّ المستنجد أقطعني بلادك وأنا سائر اليها وتقدّمت طائفة الى نواحي أرجان فلقيتها سريّة لارسلان بوقا صاحب أرجان فأوقعوا بطائفته وقتلوا منهم وبعثوا بالخبر الى انبانج فنزل [2] من الري في عشرة آلاف وأمدّه آقسنقر الأحمد يلي [3] بخمسة آلاف فقصد [4] وهرب صاحب ابن البازدان وابن طغايرك وغيرهما من أولياء ايلدكز للقاء انبانج ورد عسكر المدافعة زنكي عن شهبرم وغيرها من البلاد فهزمهم زنكي بن دكلا ورجعوا اليه فاستدعى عساكره من أذربيجان وجاء هبيس بن مزدارسلان واستمدّ انبانج وقتل أصحابه ونهب سواده ودخل الريّ وتحصن في قلعة طبرك ثم تردّدت الرسل بينه وبين ايلدكز في الصلح وأقطعه حربادفان [5] وغيرها وعاد ايلدكز الى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفتنة بنيسابور وتخريبها
وفي ربيع سنة ست وخمسين قبض المؤيد على أحياء [6] نيسابور وحبسهم وفيهم نقيب
__________
[1] وقد ورد اسمه أيضا السلفري (الكامل) ج 10 ص 346.
[2] وقد ورد اسمه أيضا اينانج (الكامل) ج 11 ص 266.
[3] ورد في بعض النسخ آقسنقر الاحمديلي وفي الكامل أيضا ج 11 ص 270.
[4] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 271: فأرسل اليه ابنه آقسنقر الاحمديلي خمسة الاف فارس وهرب ابن البازداد صاحب قزوين.
[5] لم يذكر صاحب معجم البلدان بلدة بهذا الاسم، وفي الكامل ج 9 ص 75: جرماذقان.
[6] ورد في الكامل أعيان نيسابور ج 11 ص 271.(5/92)
العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وآخذهم على ما فعله آباؤهم بأهل البلد من أهل البلد من النهب والاعتداء على الناس في أموالهم وحرصهم فأخذ هؤلاء الأعيان ينهونهم كأنهم لم يضربوا على أيديهم [1] وقتل جماعة من أهل الفساد فخرب البلد وامتدّت الايدي الى المساجد والمدارس وخزائن الكتب وأحرق بعضها ونهب بعضها وانتقل المؤيد الى الشادباخ فأصلح سوره وسدّ ثلمة وسكنه وخرب نيسابور بالكلية وكان الّذي اختط هذا الشادباخ عبد الله بن طاهر أيام ولايته على خراسان يتفرد بسكناه هو وحشمه عن البلد تجافيا عن مزاحمتهم ثم خربت وجدّدها البارسلان ثم خربت فجدّدها الآن المؤيد وخربت نيسابور بالكلية ثم زحف الغز والخان محمود معهم وهو ملك خراسان لذلك العهد فحاصروا المؤيد بالشادباخ شهرين ثم هرب الخان عنهم الى شهرستان كأنه يريد الحمام وأقام بها وبقي الغز إلى آخر شوّال ثم رجعوا فنهبوا البلاد ونهبوا طوس ولما دخل الخان الى نيسابور أمهله المؤيد الى رمضان سنة سبع وخمسين ثم قبض عليه وسمله وأخذ ما كان معه من الذخائر وحبسه وحبس معه جلال محمد فماتا في محبسهما وخطب المؤيد لنفسه بعد المستنجد ثم زحف المؤيد الى شهرستان وقرب نيسابور فحاصرها حتى نزلوا على حكمه في شعبان سنة تسع وخمسين ونهبها عسكره ثم رفع الايدي عنها واستقامت في ملكه والله أعلم.
فتح المؤيد طوس وغيرها
ثم زحف المؤيد الى قلعة دسكرة من طوس وكان بها أبو بكر جاندار ممتنعا فحاصره بها شهرا وأعانه أهل طوس لسوء سيرته فيهم ثم جهده الحصار فاستأمن ونزل فحبسه وسار الى كرمان فأطاعوه وبعث عسكرا الى أسفراين فتحصن بها رئيسها عبد الرحمن بن محمد بالقلعة فحاصره واستنزله وحمله مقيدا الى الشادباخ فحبس ثم قتل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين ثم ملك المؤيد قهندر ونيسابور واستفحل ملكه وعاد الى ما كان عليه وعمر الشادباخ وخرّب المدينة العتيقة ثم بعث عسكرا الى بوشنج وهراة وهي في ولاية محمد بن لحسين ملك الغور فحاصرها وبعث الملك محمد عسكرا لمدافعته فأفرجوا عنها وصفت ولاية هراة للغورية.
__________
[1] وفي الكامل: وحبسهم في ربيع الأخر سنة ست وخمسين وقال: أنتم الذين أطعتم الزنود والمفسدين حتى فعلوا هذه الفعال ولو أردتم منعهم لامتنعوا (ج 11 ص 271) .(5/93)
الحرب بين المسلمين والكرج
كان الكرج قد ملكوا مدينة انى من بلاد أران في شعبان سنة ست وخمسين واستباحوها قتلا وأسرا وجمع لهم شاه ارمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط جموعا من الجند والمتطوّعة وسار اليهم فقاتلوه وهزموه وأسر كثير من المسلمين ثم جمع الكرج في شعبان سنة سبع وخمسين ثلاثين ألف مقاتل وملكوا دوس من أذربيجان والجبل وأصبهان فسار اليهم ايلدكز وسار معه شاه ارمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط وآقسنقر صاحب مراغة في خمسين ألفا ودخلوا بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين فاستباحوها وأسروا الرجال وسبوا النساء والولدان وأسلم بعض أمراء الكرج ودخل مع المسلمين وكمن بهم في بعض الشعاب حتى زحف الكرج وقاتلوا المسلمين شهرا أو نحوه ثم خرج الكمين من ورائهم فانهزموا واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وعادوا ظافرين.
ملك المؤيد اعمال قومس والخطبة للسلطان ارسلان بخراسان
ثم سار المؤيد الى ابه صاحب نيسابور الى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان وولى بسطام مولاه تنكز فجرى بينه وبين شاه مازندان اختلاف أدى الى الحرب واقتتلوا في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ولما ملك المؤيد قومس بعث اليه السلطان ارسلان بن طغرل بالخلع والاولية لما كان بين المؤيد وايلدكز من المودّة وأذن له في ولاية ما يفتحه من خراسان ويخطب له فيها فخطب له في أعمال قومس وطوس وسائر أعمال نيسابور ويخطب لنفسه بعد ارسلان وكانت الخطب في جرجان ودهستان لخوارزم شاه ارسلان بن اتسز وبعده للأمير ايتاق والخطبة في مرو وبلخ وسرخس وهي بيد الغز وهراة وهي بيد الأمير اتيكين وهو مسالم للغز للسلطان سنجر يقولون اللهمّ اغفر للسلطان السعيد سنجر وبعده لأمير تلك المدينة والله تعالى وليّ التوفيق.
اجلاء القارغلية من وراء النهر
كان خان خاقان الصيني ولي على سمرقند وبخارى الخان جغرا بن حسين تكين وهو من بيت(5/94)
قديم في الملك ثم بعث اليه سنة سبعة وخمسين باجلاء القارغلية من أعماله الى كاشغر ويشتغلون بالمعاش من الزراعة وغيرها فامتنعوا فألح عليهم فاجتمعوا وساروا الى بخارى فدس أهل بخارى الى جغراخان وهو بسمرقند ووعدوا القارغلية بالمصانعة وطاوعوهم الى أن صجهم جغر في عساكره فأوقع بهم وقطع دابرهم والله تعالى أعلم.
استيلاء سنقر على الطالقان وغرشستان
وفي سنة تسع وخمسين استولى الأمير صلاح الدين سنقر من موالي السلطان سنجر على بلاد الطالقان وأغار على غرشستان حتى ملكها وصارت في حكمه بحصونها وقلاعها وصالح أمراء الغز وحمل لهم الاتاوة.
قتل صاحب هراة
كان صاحب هراة الأمير اتيكين وبينه وبين الغز مهادنة فلما قتل الغز ملك الغور محمد بن الحسين كما مرّ في أخباره طمع اتيكين في بلاده فجمع جموعه وسار اليها في رمضان سنة تسع وخمسين وتوغل في بلاد الغور فقاتله أهلها وهزموه وقتل في المعركة وقصد الغز هراة وقد اجتمع أهلها على أثير الدين منهم فاتهموه بالميل للغز وقتلوه واجتمعوا على أبي الفتوح بن علي ابن فضل الله الطغرائي ثم بعثوا الى المؤيد بطاعتهم فبعث اليهم مملوكه سيف الدين تنكز فقام بأمرهم وبعث جيشا الى سرخس ومرو وأغاروا على دواب الغز فأفرجوا عن هراة ورجعوا لطاعته والله تعالى أعلم.
ملك شاه مازندران قومس وبسطام ووفاته
قد ذكرنا استيلاء المؤيد على قومس وبسطام وولاية مولاه تنكز عليها ثم أنّ شاه مازندران وهو رستم بن علي بن هربار بن قاروت [1] جهز اليها عسكرا مع سابق الدين القزويني من أمرائه فملك دامغان وسار إليه تنكز ممن معه من العسكر فكبسهم القزويني وهزمهم واستولى على البلاد وعاد تنكز إلى المؤيد بنيسابور وجعل يغير على بسطام قومس ثم توفي شاه مازندان في ربيع سنة ستين فكتم ابنه علاء الدين موته حتى استولى على حصونه وبلاده ثم أظهره وملك مكانه ونازعه اتياق صاحب جرجان ودهستان ولم يرع ما كان بينه وبين أبيه فلم يظفر بشيء والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] وفي الكامل ج 1/ 500 رستم بن علي بن شهريار بن قارن(5/95)
حصر عسكر المؤيد نسا
ثم بعث المؤيد عساكره في جمادى سنة ستين لحصار مدينة نسا فبعث خوارزم شاه بك ارسلان بن اتسز في عساكره إليها فأجفلت عنها عساكر المؤيد ورجعوا إلى نيسابور وصارت نسا في طاعة خوارزم شاه وخطب له فيها ثم سار عسكر خوارزم إلى دهستان وغلبوه عليها وأقام فيها بطاعته والله أعلم.
الحرب بين البهلوان وصاحب مراغة
ثم بعث آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة سنة ثلاث وستين إلى بغداد في الخطبة للملك الّذي عنده وهو ابن السلطان محمد شاه على أن يتجافى عن العراق ولا يطلب الخطبة منه إلا إذا أسعف بها فأجيب بالوعد الجميل وبلغ الخبر إلى ايلدكز صاحب البلاد فبعث ابنه البهلوان في العساكر لحرب آقسنقر فحاربه وهزمه وتحصن بمراغة فنازله البهلوان وضيق عليه وتردّد بينهما الرسل واصطلحوا وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.
ملك شملة فارس وإخراجه عنها
كان زنكي بن دكلا قد أساء السيرة في جنده فأرسلوا إلى شملة صاحب خوزستان واستدعوه ليملكوه فسار ولقي زنكي وهزمه ونجا إلى الأكراد الشوابكار وملك شملة بلاد فارس فأساء السيرة في أهلها ونهب ابن أخيه خرسنكا البلاد فنفر أهل فارس عنه ولحق بزنكي بعض عساكره فزحف إلى فارس وفارقها شملة إلى بلاده خوزستان وذلك كله سنة أربع وستين وخمسمائة.
ملك ايلدكز الري
كان إنبانج قد استولى على الريّ واستقرّ فيها بعد حروبه مع ايلدكز على جزية يؤديها إليه ثم منع الضريبة واعتذر بنفقات الجند فسار إليه ايلدكز سنة أربع وستين وحاربه إنبانج فهزمه ايلدكز وحاصره بقلعة طبرك وراسل بعض مماليكه ورغبهم فغدروا به وقتلوه واستولى أيلدكز(5/96)
على طبرك وعلى الريّ وولي عليها علي بن عمر باغ ورجع إلى همذان وشكر لموالي إنبانج الذين قتلوه ولم يف لهم بالوعد فافترقوا عنه وسار الّذي تولى قتله إلى خوارزم شاه فصلبه لما كان بينه وبين انبانج من الوصلة والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
وفاة صاحب كرمان والخلف بين أولاده
ثم توفي سنة خمس وستين الملك طغرل بن قاروت بك صاحب كرمان وولى ابنه أرسلان شاه مكانه ونازعه أخوه الأصغر بهرام شاه فحاربه أرسلان وهزمه فلحق بالمؤيد في نيسابور فأنجده بالعساكر وسار إلى أخيه أرسلان فهزمه وملك كرمان ولحق أرسلان بأصبهان مستنجدا بايلدكز فأنجده بالعساكر وارتجع كرمان ولحق بهرام بالمؤيد وأقام عنده ثم هلك أرسلان فسار بهرام إلى كرمان وملكها ثم توفي المستنجد وولي ابنه المستضيء ولم نترجم لوفاة الخلفاء هاهنا لأنها مذكورة في أخبارهم وإنما ذكرناها قبل هؤلاء لأنهم كانوا في كفالة السلجوقية وبني بويه قبلهم فوفاتهم من جملة أخبار الدولتين وهؤلاء من لدن المقتفي قد استبدوا بأمرهم وخلافتهم من بعد ضعف السلجوقية بوفاة السلطان مسعود وافترقت دولتهم في نواحي المشرق والمغرب واستبد منها الخلفاء ببغداد ونواحيها ونازعوا من قبلهم أنهم كانوا يخطبون لهم في أعمالهم ونازعهم فيها مع ذلك حرصا على الملك الّذي سلبوه وأصبحوا في ملك منفرد عن أولئك المنفردين مضافا إلى الخلافة التي هي شعارهم وتداول أمرهم إلى أن انقرضوا بمهلك المستعصم على يد هلاكو.
وفاة خوارزم شاه وولاية ابنه سلطان شاه ومنازعته مع أخيه الأكبر علاء الدين تكش
لما انهزم خوارزم شاه أرسلان أمام الخطا رجع إلى خوارزم فمات سنة ثمان وستين وولي ابنه سلطان شاه فنازعه أخوه الأكبر علاء الدين تكش واستنجد بالخطا وسار إلى خوارزم فملكها ولحق سلطان شاه بالمؤيد صريخا فسار معه بجيوشه ولقيهم تكش فانهزم المؤيد وجيء به أسيرا إلى تكش فقتل بين يديه صبرا وعاد أصحابه إلى نيسابور فولوا ابنه طغان شاه أبو بكر ابن المؤيد وكان من أخبار طغان شاه وتكش ما نذكره في أخبار دولتهم وفي كيفية قتله خبر آخر نذكره هنالك ثم سار خوارزم شاه سنة تسع وستين إلى نيسابور وحاصرها مرّتين ثم هزم(5/97)
في الثانية طغان شاه بن المؤيد وأخذه أسيرا وحمله إلى خوارزم وملك نيسابور وأعمالها وجميع ما كان لبني المؤيد بخراسان وانقرض أمرهم والبقاء للَّه وحده والله تعالى أعلم.
وفاة الأتابك شمس الدين أيلديكز وولاية ابنه محمد البهلوان
ثم توفي الاتابك شمس الدين أيلدكز أتابك أرسلان شاه بن طغرل صاحب همذان وأصبهان والريّ وأذربيجان وكان أصله مملوك الكمال الشهير ابن وزير السلطان محمود ولما قتل الكمال صار السلطان وترقى في كتب الولاية فلما ولي السلطان مسعود ولاه أرانية فاستولى عليها وبقيت طاعته للملوك على البعد واستولى على أكثر أذربيجان ثم ملك همذان وأصبهان والريّ وخطب لربيبه أرسلان بن طغرل وبقي أتابك وبلغ عسكره خمسين ألفا واتسع ملكه من تفليس إلى مكران وكان متحكما على أرسلان وليس له من الدولة إلا جراية تصل إليه ولما هلك أيلدكز قام بالأمر بعده ابنه محمد البهلوان وهو أخو السلطان أرسلان لامّه فسار أوّل ملكه لإصلاح أذربيجان وخالفه ابن سنكي وهو ابن أخي شملة صاحب خوزستان إلى بلد نهاوند فحاصرها ثم تأخر ابن سنكي من تستر وصحبهم من ناحية أذربيجان يوهمهم أنه مدد البهلوان ففتحوا له البلد ودخل فطلب القاضي والأعيان ونصبهم وتوجه نحو ما سندان قاصدا العراق ورجع إلى خوزستان ثم سار شملة سنة سبعين وقصد بعض التركمان فاستنجدوا البهلوان بن أيلدكز فأنجدهم وقاتلوه فهزموه وأسر شملة جريحا وولده وابن أخيه وتوفي بعد يومين وهو من التركمان الأتسزية وملك ابنه من بعده وسار البهلوان سنة سبعين إلى مدينة تبريز وكان صاحبها آقسنقر الأحمديلي قد هلك وعهد بالملك بعده لابنه ملك الدين فسار إلى بلاده وحاصر مراغة وبعث أخاه فنزل وعاد عن مراغة إلى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة السلطان أرسلان بن طغرل
ثم توفي السلطان أرسلان بن طغرل مكفول البهلوان بن أيلدكز وأخوه لامّه بهمذان سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وخطب بعده لابنه طغرل.(5/98)
وفاة البهلوان محمد بن أيلديكز وملك أخيه قزل
ثم توفي البهلوان محمد بن أيلدكز أوّل سنة اثنتين وخمسمائة وكانت البلاد والرعايا في غاية الطمأنينة فوقع عقب موته بأصبهان بين الحنفية والشافعية وبالريّ بين أهل السنة والشيعة فتن وحروب آلت إلى الخراب وملك البلاد بعد البهلوان أخوه فنزل أرسلان واسمه عثمان وكان البهلوان كافلا للسلطان طغرل وحاكما عليه ولما هلك قزل لم يرض طغرل بتحكمه عليه وفارق همذان ولحق به جماعة من الأمراء والجند وجرت بينه وبين قزل حروب ثم غلبه طغرل إلى الخليفة فأمره بعمارة دار السلطان فطرد رسوله وهدمت دار السلطنة وألحقت بالأرض وبعث الخليفة الناصر لدين الله سنة أربع وثمانين عسكرا مع وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس لانجاده قزل على طغرل قبل همذان وهزمهم ونهب جميع ما معهم وأسر الوزير ابن يونس.
قتل قزل أرسلان قتلغ وولاية أخيه
قد تقدّم لنا ما كان بين السلطان طغرل وبين قزل بن أيلدكز من الحروب ثم أن قزل غلبه واعتقله في بعض القلاع ودانت له البلاد وأطاعه ابن دكلا صاحب فارس وخوزستان وعادا إلى أصبهان والفتن بها متصلة فأخذ جماعة من أعيان الشافعية وصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة سنة سبعة وثمانين ثم قتل غلبة على فراشه ولم يعرف قاتله وأخذ جماعة من غلمانه بالظنة وكان كريما حليما يحب العدل ويؤثره ولما هلك ولى من بعده قتلغ ابن أخيه البهلوان واستولى على الممالك التي كانت بيده.
قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاه
ولما توفي قزل وولي قتلغ بن أخيه البهلوان كما قلناه أخرج السلطان طغرل من محبسه بالقلعة التي كان بها واجتمع إليه العساكر وسار إلى همذان فلقيه قتلغ بن البهلوان فانهزم بين يديه ولحق بالريّ وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تتش ليستنجده فسار إليه سنة ثمان وثمانين وندم قتلغ على استدعائه فتحصن ببعض قلاعه وملك خوارزم شاه الري وملك قلعة طبرك(5/99)
وصالح السلطان طغرل وولى على الريّ وعاد إلى خوارزم سنة تسعين فأحدث أحدوثة السلطان شاه [1] نذكره في أخبارهم وسار السلطان طغرل إلى الري فأغار عليها وفر منه قتلغ بن البهلوان وبعث إلى خوارزم شاه يستنجده ووافق ذلك وصول منشور من الخليفة إليه بإقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الريّ وأطاعه قتلغ وسار معه إلى همذان وخرج طغرل للقائهم قبل أن يجمع العساكر ولقيهم قريبا من الريّ في ربيع الأوّل فحمل عليهم وتورط بينهم فصرع عن فرسه وقتل وملك خوارزم شاه همذان وتلك البلاد جميعا وانقرضت مملكة بني ملك شاه وولى خوارزم شاه على همذان وملك الأعمال فبلغ انبانج بن البهلوان وأقطع كثيرا منها مماليكه وقدم عليهم مساحق منهم ثم استولى وزير الخليفة ابن العطاف على همذان وأصبهان والريّ من يدمو إليه وانتزعها منهم خوارزم كما ذكرناه في أخبار الخلفاء وجاءت العساكر من قبل الخليفة إلى همذان مع أبي الهيجاء الشمس من أمراء الايوبية وكان أميرا على القدس فعزلوه عنها وسار إلى بغداد فبعثه الناصر سنة ثلاث وتسعين بالعساكر إلى همذان ولقي عندها أزبك بن البهلوان مطيعا فقبض عليه وأنكر الخليفة ذلك وبعث بإطلاقه وخلع عليه وعاد إلى بلاد أذربيجان.
ملك الكرج الدويرة
كان أزبك بن البهلوان قد استولى على أذربيجان بعد موته وكان مشغولا بلذاته فسار الكرج إلى مدينة دوير [2] وحاصرها وبعث أهلها إليه بالصريخ فلم يصرخهم حتى ملكها الكرج عنوة واستباحوها والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 107: فشتى خوارزم شاه بخوارزم فلما انقضى الشتاء سار إلى مرو لقصد أخيه سنة تسع وثمانين فترددت الرسل بينهما في الصلح. وإذ قد ورد على خوارزم شاه رسول من مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسلم إليه القلعة لأنه قد استوحش من صاحبه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجدا فتسلم القلعة وصار معه. وبلغ ذلك سلطان شاه ففت ذلك في عضده، وتزايد كمده فمات سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعته إلى مرو فتسلمها، وتسلم مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه.
[2] ورد اسمها في بعض النسخ دوبرة وفي الكامل ج 12 ص 283: استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان ونهبوها واستباحوها وأكثروا القتل في أهلها، وكانت هي وجميع بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان.(5/100)
قتل كوجه ببلاد الجبل وملك آيدغمش
كان كوجه [1] من موالي البهلوان قد تغلب على الريّ وهمذان وبلاد الجبل واصطنع صاحبه آيدغمش ووثق به فنازعه الأمر وحاربه فقتله واستولى آيدغمش على البلاد وبقي أزبك بن البهلوان مغلبا ليس له من الحكم شيء.
قصد صاحب مراغة وصاحب أربل أذربيجان
قد ذكرنا أن أزبك كان مشغولا بلذاته مهملا لملكه ثم حدثت بينه وبين صاحب أربل وهو مظفر الدين كوكبري سنة اثنتين وستمائة فتنة حملت مظفر الدين على قصده فسار إلى مراغة واستنجد صاحبها علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي فسار معه لحصار تبريز وبعث أزبك الصريخ إلى آيدغمش بمكانه من بلاد الجبل فسار إليه وأرسل مظفر الدين بالفتن والتهديد فعاد إلى بلده وعاد علاء الدين بن قراسنقر إلى بلاد مراغة فسار آيدغمش وأزبك وحاصروه بمراغة حتى سلم قلعة من قلاعه ورجعوا عنه والله تعالى أعلم.
وفاة صاحب مازندان والخلف بين أولاده
ثم توفي حسام الدين أزدشير صاحب مازندان [2] وولي ابنه الأكبر وأخرج أخاه الأوسط عن البلاد فلحق بجرجان وبها على شاه برتكش نائبا عن أخيه خوارزم فاستنجده على شرط الطاعة له وأمره أخوه تكش بالمسير معه فساروا من جرجان وبلغهم في طريقهم مهلك صاحب مازندان المتولي بعد أبيه وأنّ أخاه الأصغر استولى على الكراع والأموال فساروا إليه وملكوا البلاد ونهبوها مثل سارية وآمد وغيرها وخطب لخوارزم شاه فيها وعاد علي شاه إلى خراسان وأقام ابن صاحب مازندان وهو الأوسط الّذي استصرخ به وقد امتنع أخوه الأصغر بقلعة كوري ومعه الأموال والذخائر وأخوه الأوسط فراسله واستعطف وقد ملك البلاد جميعا والله وليّ التوفيق.
__________
[1] ورد اسمه في الكامل: كوكجا.
[2] ورد في بعض النسخ مازندان وهو الصحيح وفي معجم البلدان: مازندران: بعد الزاي نون ساكنة، ودال مهملة وراء وآخره نون: اسم لولاية طبرستان، وما أظن هذا إلا اسما محدثا لها فإنّي لم أره مذكورا في كتب الأوائل.(5/101)
ملك ابن البهلوان مراغة
ثم توفي سنة أربع وستمائة علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي صاحب مراغة وأقام بأمرها من بعده خادمه ونصب ابنه طفلا صغيرا وعصى عليه بعض الأمراء وبعث العسكر لقتاله فانهزموا أوّلا ثم استقرّ ملك الطفل ثم توفي سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته فسار أزبك ابن البهلوان من تبريز إلى مراغة واستولى على مملكة آل قراسنقر ما عدا القلعة التي اعتصم بها الخادم وعنده الخزائن والذخائر.
استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب آيدغمش وقتله
لما تمكن آيدغمش في بلاد الجبل بهمذان وأصبهان والريّ وما إليها عظم شأنه حتى طلب الأمر لنفسه وسار لحصار أزبك ابن مولاه الّذي نصبه للأمر وكان بأذربيجان فخرج عليه مولى من موالي البهلوان اسمه منكلي وكثر جمعه واستولى على البلاد وقدم آيدغمش إلى بغداد واحتفل الخليفة لقدومه وتلقاه وذلك سنة ثمان وأقام بها [1] كان ايدغمش قد وفد سنة ثمان وستمائة إلى بغداد وشرفه الخليفة بالخلع والألوية وولاه على ما كان بيده ورجع إلى همذان ووعده الخليفة بمسير العساكر فأقام ينتظرها عند سليمان بن مرحم [2] أمير الإيوانية من التركمان فدس إلى منكلي بخبره ثم قتل آيدغمش وحمل أصحابه إلى منكلي وافترق أصحابه واستولى منكلي وبعث إليه الخليفة بالنكير فلم يلتفت إليه فبعث إلى مولاه أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان يحرّضه عليه وإلى جلال الدين الإسماعيلي صاحب قلعة الموت لمساعدته على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولأزبك بعضها ولجلال الدين بعضها وبعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر ووجه السبع [3] وأمره بطاعة مظفر الدين كوكبري بن زين الدين على كجك صاحب أربل وشهرزور وهو مقدّم العساكر جميعا فسار
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 296: فخرج الناس كافة، وكان يوم وصوله مشهودا ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل فأكرمت وأنزلت عند زوجها، وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة.
[2] ورد اسمه في الكامل: ابن ترجم.
[3] وفي بعض النسخ: وبعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر الملقب بوجه السبع.(5/102)
لذلك وهرب منكلي وتعلق بالجبل ونزلوا بسفحه قريبا من كوج فناوشهم الحرب فانهزم أزبك ثم عاد ثم أسرى من ليلته منهزما وأصبحوا فاقتسموا البلاد على الشريطة وولي أزبك فيما أخذ منها [1] مولى أخيه فاستولى عليها ومضى منكلي إلى ساو وبها شحنة له فقتله وبعث برأسه إلى أزبك واستقر [2] في بلاد الجبل حتى قتله الباطنية سنة أربع عشرة وستمائة وجاء خوارزم شاه فملكها كما نذكر في أخباره ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران في طاعته وخطب له على منابر أعماله وانقرض أمر بني ملك شاه ومواليهم من العراقين وخراسان وفارس وجميع ممالك المشرق وبقي أزبك ببلاد أذربيجان ثم استولى التتر على أعمال محمد بن تكش فيما وراء النهر وخراسان وعراق العجم سنة ثماني عشرة وستمائة وموالي الهند وسار جنكزخان فأطاعه أزبك بن البهلوان سنة إحدى وعشرين وأمره بقتل من عنده من الخوارزمية ففعل ورجع عنه إلى خراسان ثم جاء جلال الدين بن محمد بن تكش من الهند سنة اثنتين وعشرين فاستولى على عراق العجم وفارس وسار إلى أذربيجان فملكها ومرّ أزبك إلى كنجة من بلاد أران ثم ملك كنجة وبلاد أران ومد أزبك إلى بعض القلاع هنالك ثم هلك وملك جلال الدين على جميع البلاد وانقرض أمر بني أزبك واستولى التتر على البلاد وقتلوا جلال الدين سنة ثمان وعشرين كما يأتي في أخبارهم جميعا وانتهى الكلام في دولة السلجوقية فلنرجع إلى أخبار الدول المتشعبة عنها واحدة بعد واحدة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 307: واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد فأعطى جلال الدين ملك الإسماعيلية من البلاد ما كان استقر له، وأخذ الباقي أوزبك فسلمها إلى غلمش مملوك أخيه. وكان توجه الى خوارزم شاه علاء الدين محمد وبقي عنده. ثم عاد عنه وشهد الحرب فابلى فيها فولاه اوزبك البلاد، وعالى كل طائفة من العسكر الى بلادهم.
[2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وأرسل رأسه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد وفي صفحة 316:
ومنها أن أغلمش لما ملك بلاد الجبل خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش فيها جميعا، فلما قتله الباطنية غضب له وخرج لئلا تخرج البلاد عن طاعته، فسار مجدا في عساكر تطبق الأرض فوصل إلى الرّيّ فملكها.(5/103)
بنو أنوشتكين
كان أنوشتكين جدّهم تركيا مملوكا لرجل من غرشستان ولذلك يقال له أنوشتكين غرشه ثم صار لرجل من أمراء السلجوقية وعظمائهم اسمه ملكابك وكان مقدما عنده لنجابته وشجاعته ونشأ ابنه محمد على مثل حاله من النجابة والشجاعة وتحلى بالأدب والمعارف واختلط بأمراء السلجوقية وولي لهم الأعمال واشتهر فيهم بالكفاية وحسن التدبير ولما ولي بركيارق ابن السلطان ملك شاه وانتقض عليه عمه أرسلان أرغون واستولى على خراسان بعث إليه العساكر سنة تسعين وأربعمائة مع أخيه سنجر وسار في أثره ولقيهم في طريقهم خبر مقتل أرغون عمهم وأن بعض مواليه خلفه فعدا عليه فقتله كما مر قبل فسار بركيارق في نواحي خراسان وما وراء النهر حتى دوّخها وولي عليها أخاه سنجر وانتقض عليه أمير ميران [1] من قرابته اسمه محمد بن سليمان فسار إليه سنجر وظفر به وسمله وعاد بركيارق إلى العراق بعد أن ولى على خوارزم أكنجي شاه ومعنى شاه بلسانهم السلطان فأضيف إلى خوارزم على عادتهم في تقديم المضاف إليه على المضاف ولما انصرف بركيارق إلى العراق تأخر من أمرائه قودز [2] وبارقطاش وانتقضا على السلطان ووثبا بالأمير اكنجي صاحب خوارزم وهو بمرو ذاهبا إلى السلطان شاه فقتلاه وبلغ الخبر إلى السلطان وقد انتقض عليه بالعراق الأمير أنزو مؤيد الملك بن نظام الملك فمضى لحربهما وأعاد الأمير داود حبشي بن أيتاق في عسكر إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وعاجلاه قبل اجتماع عساكره فعبر جيحون وسبق إليه بارقطاش فهزمه داود وأسره وبلغ الخبر إلى قودز فثار به عسكره وفرّ إلى بخارى فقبض عليه نائبا ثم أطلقه ولحق بالملك سنجر فقبله وأقام برقطاش أسيرا عند الأمير داود وصفت خراسان من الفتنة والثوار واستقام أمرها للأمير داود حبشي فاختار لولاية خوارزم محمد بن أنوشتكين فولاه وظهرت كفايته وكان محبا لأهل الدين والعلم مقرّ بالهم عادلا في رعيته فحسن ذكره وارتفع محله ثم استولى الملك سنجر على خراسان فأقر محمد بن أنوشتكين وزاده تقديما وجمع بعض ملوك الترك وقصد خوارزم وكان محمد غائبا عنها ولحق بالترك محمد بن اكنجي الّذي كان أبوه أميرا على خوارزم واسمه طغرل تكين محمد فحرض الترك على خوارزم وبلغ الخبر إلى محمد بن أنوشتكين فبعث إلى سنجر بنيسابور يستمده وسبق إلى خوارزم فافترق الترك وطغرل تكين
__________
[1] ورد في بعض النسخ: أميران ولم يذكرها صاحب معجم البلدان.
[2] قودن: ابن الأثير: ج 10/ 205(5/105)
محمد وسار كلّ منهما إلى ناحية ودخل محمد بن أنوشتكين إلى خوارزم فازداد بذلك عند سنجر ظهورا والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق لا رب سواه.
وفاة محمد بن أنوشتكين وولاية ابنه أتسز
ثم هلك محمد بن أنوشتكين خوارزم وولي بعده ابنه اتسز وسار بسيرة أبيه وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وحارب الأعداء فلما ولي افتتح أمره بالاستيلاء على مدينة مقشلاع وظهرت كفايته في شأنها فاستدعاه السلطان سنجر فاختصه وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه وكلما مرّ يزيد تقدّما عنده والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.
الحرب بين السلطان سنجر واتسز خوارزم شاه
ثم كثرت السعاية عند السلطان سنجر في اتسز خوارزم شاه وإنه يحدّث نفسه بالامتناع فسار سنجر إليه لينتزع خوارزم من يده فتجهز اتسز للقائه واقتتلوا فانهزم اتسز وقتل ابنه وخلق كثير من أصحابه واستولى سنجر على خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمدا ورتب له وزيرا وأتابك وحاجبا الى مرو منتصف ثلاث وثلاثين وكان أهل خوارزم يستغيثون لأتسز فعاد إليهم بعد سنجر فأدخلوه البلد ورجع سليمان شاه الى عمه سنجر واستبدّ اتسز بخوارزم والله أعلم.
انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر
ثم سار سنجر سنة ست وثلاثين لقتال الخطا من الترك فيما وراء النهر لما رجعوا لملك تلك البلاد فيقال أن اتسز أغراهم بذلك ليشغل السلطان سنجر عن بلده وأعماله ويقال أن محمود بن محمد سليمان بن داود بقراخان ملك الخانية في كاشغر وتركستان وهو ابن أخت سنجر زحفت إليه أمم الخطا من الترك ليتملكوا بلاده فسار إليهم وقاتلهم فهزموه وعاد إلى سمرقند وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فعبر النهر إليه في عساكر المسلمين وملوك خراسان والتقوا في أوّل صفر سنة ست وثلاثين فانهزم سنجر والمسلمون وفشا القتل فيهم يقال كان القتلى مائة ألف رجل وأربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة السلطان سنجر وعاد منهزما وملك الخطا ما(5/106)
وراء النهر وخرجت عن ملك الإسلام وقد تقدّم ذكر هذه الواقعة مستوفي في أخبار السلطان سنجر ولما انهزم السلطان سنجر قصد اتسز خوارزم شاه خراسان فملك سرخس ولقي الإمام أبا محمد الزيادي وكان يجمع بين العلم والزهد فأكرمه وقبل قوله ثم قصد مرو الشاهجان فخرج إليه الإمام أحمد الباخوري وشفع في أهل مرو وأن لا يدخل لهم أحد من العسكر فشفعه وأقام بظاهر البلد فثار عامة مرو وأخرجوا أصحابه وقتلوا بعضهم وامتنعوا فقاتلهم اتسز وملكها عليهم غلابا أوّل ربيع من سنة ست وثلاثين وقتل الكثير من أهلها وكان فيهم من أكابر العلماء وأخرج كثيرا من علمائها إلى خوارزم منهم أبو بكر الكرماني ثم سار في شوّال إلى نيسابور وخرج إليه جماعة من العلماء والفقهاء متطارحين أن يعفيهم مما وقع بأهل مرو فأعفاهم واستصفى أموال أصحاب السلطان وقطع الخطبة لسنجر وخطب لنفسه ولما صرح باسمه على المنبر هم أهل نيسابور بالثورة ثم ردّهم خوف العواقب فاقصروا وبعث جيشا إلى أعمال بيهق فحاصرها خمسا ثم ساروا في البلاد ينهبون ويكتسحون والسلطان سنجر خلال ذلك متغافل عنه فيما يفعله في خراسان لما وراءه من مدد الخطا وقوتهم ثم أوقع الغزسنة ثمان وأربعين بالسلطان سنجر واستولوا على خراسان وكان هؤلاء الغز مقيمين بما وراء النهر منذ فارقهم ملوك السلجوقية وكانوا يدينون بالإسلام فلما استولى الخطا على ما وراء النهر أخرجوهم منها فأقاموا بنواحي بلخ وأكثروا فيها العيث والفساد وجمع لهم سنجر وقاتلهم فظفروا به وهزموه وأسروه وانتثر سلك دولته فلم يعد انتظامه وافترقت أعماله على جماعة من مواليه واستقلّ حينئذ اتسز بملك خوارزم وأعماله وأورثها بنيه ثم استولوا على خراسان والعراق عند ما ركدت ريح السلجوقية وكانت لهم بعد ذلك دولة عظيمة نذكر أخبارها مفصلة عند دول أهلها والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
وفاة اتسز وملك ولده أرسلان
ثم توفي اتسز بن محمد بن أنوشتكين في منتصف إحدى وخمسين وخمسمائة لستين سنة من ولايته وكان عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم ولما توفي ملك بعده أرسلان بن اتسز فقتل جماعة من عماله وسمل أخاه ثم بعث بطاعته للسلطان سنجر عند ما هرب من أسر الغز فكتب له بولاية خوارزم وقصد الخطا خوارزم وجمع أرسلان للقائهم وسار غير بعيد ثم طرقه المرض فرجع وأرسل الجيوش لنظر أمير من أمرائه فقاتله الخطا وهزموه وأسروه ورجع إلى ما وراء النهر والله سبحانه وتعالى أعلم
.(5/107)
وفاة خوارزم شاه ارسلان وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وملك طغان شاه بن المؤيد ثم موته وملك ابنه سنجر شاه
ثم توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز من مرضه الّذي قعد به عن لقاء الخطا وملك بعده ابنه الأصغر سلطان شاه محمود في تدبير أمه وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما في إقطاعه بالجند فاستنكف من ولاية أخيه الأصغر وسار إلى ملك الخطا مستنجدا ورغبه في أموال خوارزم وذخائرها فأنجده بجيش كثيف وجاء إلى خوارزم ولحق سلطان شاه وأمه بالمؤيد أنه صاحب نيسابور والمتغلب عليها بعد سنجر وأهدى له ورغّبه في الأموال والذخائر فجمع وسار معه إذا كان على عشرين فرسخا من خوارزم سار إليه تكش وهزمه وجيء بالمؤيد أسيرا إلى تكش فأمر بقتله وقتل بين يديه صبرا ولحق أخوه سلطان شاه بدهستان وتبعه تكش فملكها عنوة وهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد إلى خوارزم ولحق سلطان شاه بنيسابور وقد ملكوا طغان شاه أبا بكر ابن ملكهم المؤيد ثم سار سلطان شاه من عنده إلى غياث الدين ملك الغورية فأقام عنده وعظم تحكم الخطا على علاء الدين تكش صاحب خوارزم واشتطوا عليه وبعثوا يطلبونه في المال متفرقين على أهل خوارزم ودس إليهم فبيتوهم ولم ينج منهم أحد ونبذ إلى ملك الخطا عهده وسمع ذلك أخوه سلطان شاه فسار من غزنة إلى ملك الخطا يستنجده على أخيه تكش وادعى أنّ أهل خوارزم يميلون إليه فبعث معه جيشا كثيفا من الخطا وحاصروا خوارزم فامتنعت وأمر تكش بإجراء ماء النهر عليهم فكادوا يغرقون وأفرجوا عن البلاد ولاموا سلطان شاه فيما غرّهم فقال لقائدهم أبعث معي الجيش لمرو لانتزعها من دينار الغزي الّذي استولى عليها من حين فتنتهم مع سنجر فبعث معه الجيش وسار إلى سرخس واقتحمها على الغز الذين بها وأفحش في قتلهم واستباحهم ولجأ دينار إلى القلعة فتحصن بها ثم سار سلطان شاه إلى مرو وملكها وأقام بها ورجع الخطا إلى ما وراء النهر وأقام سلطان شاه بخراسان يقاتل الغز فيصيب منهم كثيرا وعجز دينار ملك الغز عن سرخس فسلمها لطغان شاه بن المؤيد صاحب نيسابور فولى عليها مراموش من أمرائه ولحق دينار بنيسابور فحاصر دينار سلطان شاه وعاد إلى نيسابور ولحق به مراموش وترك قلعة سرخس ثم ملك نطوش والتم وضاقت الأمور على طغان شاه بنيسابور إلى أن مات في محرم سنة اثنتين وثمانين وملك ابنه سنجر شاه واستبدّ عليه منكلي تكين مملوك(5/108)
جدّه المؤيد وأنف أهل الدولة من استبداده وتحكمه فلحق أكثرهم بسلطان شاه في سرخس وسار الملك دينار من نيسابور في جموع الغز إلى كرمان فملكها ثم أساء منكلي تكين السيرة بنيسابور في الرعية بالظلم وفي أهل الدولة بالقتل فسار إليه خوارزم شاه علاء الدين تكش في ربيع سنة اثنتين وثمانين فحاصره بنيسابور شهرين فامتنعت عليه فعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين فحاصرها وملكها على الأمان وقتل منكلي تكين وحمل سنجر شاه إلى خوارزم فأنزله بها وأكرمه ثم بلغه أنه يكاتب أهل نيسابور فسلمه وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين قال ابن الأثير ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقيّ في كتاب مسارب التجارب وذكر غيره أن تكش بن أرسلان لما أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم وقصد سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم ارتجعوها منه ونالوا من عساكره فعبر إلى الخطا واستنجدهم وضمن لهم المال وجاء بجيوشهم فملك مرو وسرخس ونسا وأبيورد من يد الغز وصرف الخطا فعادوا إلى بلادهم ثم كاتب غياث الدين الغوري وله هراة وبوشنج وباذغيس وأعمالها من خراسان يطلب الخطبة له يتوعده فأجابه غياث الدين بطلب الخطبة منه بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان ثم ساءت سيرة سلطان شاه في خراسان وصادر رعاياها فجهز غياث الدين العساكر مع صاحب سجستان وأمر ابن أخته بهاء الدين صاحب باميان بالمسير معه فساروا إلى هراة وخاف سلطان شاه من لقائهم فرجع من هراة إلى مرو حتى انصرم فصل الشتاء ثم أعاد مراسلة غياث الدين فامتعض وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالخبر وكان بالهند فرجع مسرعا إليه وساروا إلى خراسان واجتمعوا بعسكرهم الأوّل على الطالقان وجمع سلطان شاه جموعه من الغز وأهل الفساد ونزل بجموع الطالقان وتواقفوا كذلك شهرين وتردّدت الرسل بين سلطان شاه وغياث الدين حتى جنح غياث الدين إلى النزول له عن بوشنج وباذغيس وشهاب الدين ابن أخته وصاحب سجستان يحنحان إلى الحرب وغياث الدين يكفهم حتى حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين لإتمام العقد والملوك جميعا حاضرون فقام [1] الدين العلويّ الهودي وكان غياث الدين يختصه وهو يدلّ عليه فوقف في وسط المجمع ونادى بفساد الصلح وصرخ ومزق ثيابه وحتى التراب على رأسه وأفحش لرسول سلطان شاه وأقبل على غياث الدين وقال كيف تعمد إلى ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك والسنجرية فتعطيه
__________
[1] كذا بياض في الأصل، وفي الكامل ج 11 ص 381: فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلويّ الهرويّ إليه، وكان خصيصا بغياث الدين، بحيث يفعل في ملكه ما يختار له فلا يخالف.(5/109)
هذا الطريد إذ لا يقنع منا أخوه وهو الملك بخوارزم ولا بغزنة والهند فأطرق غياث الدين ساكتا فنادى في عسكره بالحرب والتقدّم الى مروالروذ وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه وأخذ أكثر أصحابه أسرى ودخل إلى مرو في عشرين فارسا ولحق الفل من عسكره وبلغ الخبر إلى أخيه تكش فسار من خوارزم لاعتراضه وقدم العساكر إلى جيحون يمنعون [2] إلى الخطا وسمع أخوه سلطان شاه بذلك فرجع عن جيحون وقصد غياث الدين ولما قدم عليه أمر بتلقيه وأنزله معه في بيته وأنزل أصحابه عند نظرائهم من أهل دولته وأقام إلى انصرام الشتاء وكتب أخوه علاء الدين خوارزم إلى غياث الدين في ردّه إليه ويعدّد فعلاته في بلاده وكتب مع ذلك إلى نائب غياث الدين بهراة يتهدّده فامتعض غياث الدين لذلك وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير له وشفيع في التجافي عن بلاده وانصافه من وراثة أبيه ويطلب مع ذلك الخطبة له بخوارزم والصهر مع أخيه شهاب الدين فامتعض خوارزم شاه وكتب إليه يتهدّده ببعض بلاده فجهز غياث الدين إليه العساكر مع ابن أخته أبو غازي إلى بهاء الدين سامي صاحب سجستان وبعثهما مع سلطان شاه إلى خوارزم وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده وكانت ابنته تحت غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وخيم بظاهر نيسابور وكان خوارزم شاه عزم على لقاء أخيه والغورية وسار عن خوارزم فلما سمع خبر المؤيد عاد إلى خوارزم واحتمل أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وترك خوارزم وسار أعيانها إلى أخيه سلطان شاه والبوغازي ابن أخت غياث الدين فآتوا طاعتهم وطلبوا الوالي عليهم وتوفي سلطان شاه منسلخ رمضان سنة تسع وعاد البوغازي إلى خاله غياث الدين ومعه أصحاب سلطان شاه فاستخدمهم غياث الدين وأقطعهم وبلغ وفاة سلطان شاه إلى أخيه خوارزم تكش فعاد إلى خوارزم وعاد الشحنة إلى بلاد سرخس ومرو فجهز إليهم نائب الغورية بمرو عمر المرغني عسكرا ومنعهم منها حتى يستأذن غياث الدين وأرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح والصهر في وفد من فقهاء خراسان والعلوية يعظمونه ويستجيرون به من خوارزم شاه أن يجيز إليهم الخطا ويستحثهم ولا يحسم ذلك إلا صلحه أو سكناه بمرو فأجابهم إلى الصلح وعقدوه وردّ على خوارزم تكش بلاد أخيه وطمع الغز فيها فعاثوا في نواحيها وجاء خوارزم شاه إليها ودخل مرو وسرخس فسار البورد وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد ابنه فجمع وسار إليها وعاد خوارزم شاه إلى بلده وأفسد الماء في طريقه وأتبعه المؤيد
__________
[2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه إن أراد الخطا. ج 11 ص 382.(5/110)
فلم يحد ماء ثم كرّ عليه خوارزم شاه وقد جهد عسكره العطش فأوقع بهم وجيء إليه بالمؤيد أسيرا فقتله وعاد إلى خوارزم وقام بنيسابور بعد المؤيد ابنه [1] طغان شاه ورجع إليه خوارزم شاه من قابل فحاصره بنيسابور وبرز إليه فأسره وملك نيسابور واحتمل طغان شاه وعياله وقرابته فأنزلهم بخوارزم قال ابن الأثير هذه الرواية مخالفة للأولى وإنما أوردتها ليتأمل الناظر ويستكشف أيهما أوضح فيعتمدها والله تعالى أعلم.
وفاة أيلديكز وملك ابنه محمد البهلوان
قد تقدم لنا في أخبار الدولة السلجوقية ولاية أرسلان شاه بن طغرل في كفالة أيلدكز وابنه محمد البهلوان من بعده ثم أخيه أزبك أرسلان بن أيلدكز وأنه اعتقل السلطان طغرل ثم توفي فولي مكانه قطلغ ابن أخيه البهلوان فخرج السلطان من محبسه وجمع لقتاله سنة ثمان وثمانين فهزمه ولحق قطلغ بالريّ وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش فسار إليه وندم قطلغ على استدعائه فتحصن منه ببعض قلاعه وملك خوارزم شاه الريّ وقلعة طبرك ورتب فيها الحامية وعاد إلى خوارزم لما بلغه أنّ أخاه سلطان شاه خالفه إليها ولما كان ببعض الطريق لقيه الخبر بأنّ أهل خوارزم منعوا سلطان شاه وعادى خائبا فتمادى إلى خوارزم وأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء ثم سار إلى أخيه سلطان شاه بمرو سنة تسع وثمانين وتردّدت الرسل بينهما في الصلح ثم استأمن إليه نائب أخيه بقلعة سرخس فسار إليها وملكها ومات أخوه سلطان شاه سنة تسع فسار خوارزم شاه إلى مرو وملكها وملك أبيورد ونسا وطوس وسائر مملكة أخيه واستولى على خزائنه وبعث على ابنه علاء الدين محمد فولاه مرو وولي ابنه الكبير ملك شاه نيسابور وذلك آخر تسع وثمانين ثم بلغه أنّ السلطان طغرل أغار على أصحابه بالريّ قطلغ ابنانج فبعث إليه بابنه يستنجده ووصل إليه رسول الخليفة يشكو من طغرل وأقطعه أعماله فسار من نيسابور إلى الريّ وتلقاه قطلغ أبنانج بطاعته وسار معه ولقيهم السلطان طغرل قبل استكمال تعبيته وحمل عليهم بنفسه وأحيط به فقتل في ربيع سنة تسعين وبعث خوارزم شاه برأسه إلى بغداد وملك همذان وبلاد الجبل أجمع وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد بعثه الخليفة الناصر مددا لخوارزم شاه في أمره فرحل إليه واستوحش ابن القصاب فامتنع ببعض الجبال هنالك وعاد خوارزم شاه إلى همذان وسلمها وأعمالها إلى قطلغ أبنانج وأقطع
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 378: فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه.(5/111)
كثيرا منها مماليكه وقدم عليهم مناجي وأنزل معه ابنه وعاد إلى خوارزم ثم اختلف مناجي وقطلغ أبنانج واقتتلوا سنة أحدى وتسعين فانهزم قطلغ وكان الوزير ابن القصاب قد سار إلى خوزستان فملكها وكثيرا من بلاد فارس وقبض على بني شملة أمرائها وبعث بهم إلى بغداد وأقام هو يمهد البلاد فلحق به قطلغ أبنانج هنالك مهزوما سليبا واستنجده على الري فأزاح علله وسار معه إلى همذان فخرج مناجي وابن خوارزم شاه إلى الريّ وملك ابن القصاب همذان في سنة إحدى وتسعين وسار إلى الريّ فأجفل الخوارزميون أمامهم وبعث الوزير العساكر في أثرهم حتى لحقوهم بالدامغان وبسطام وجرجان ورجعوا عنهم واستولى الوزير على الريّ ثم انتقض قطلغ ابنانج على الوزير وامتنع بالريّ فحاصره الوزير وغلبه عليها ولحق أبنانج بمدينة ساوة ورحل الوزير في أتباعه حتى لحقه على دريندكرخ فهزمه ونجا أبنانج بنفسه وسار الوزير إلى همذان فأقام بظاهرها ثلاثة أشهر وبعث إليه خوارزم شاه بالنكير على ما فعل ويطلب إعادة البلاد فلم يجب إلى ذلك وسار خوارزم إليه وتوفي قبل وصوله فقاتل العساكر بعده في شعبان سنة اثنتين وتسعين فهزمهم وأثخن فيهم وأخرج الوزير من قبره فقطع رأسه وبعث به إلى خوارزم لأنه كان قتل في المعركة واستولى على همذان وبعث عسكره إلى أصبهان فملكها وأنزل بها ابنه وعاد إلى خوارزم وجاءت عساكر الناصر أثر ذلك مع سيف الدين طغرل فقطع بلاد اللحف من العراق فاستدعاه أهل أصبهان فملكوا البلد ولحق عسكر خوارزم شاه بصاحبهم ثم اجتمع مماليك البهلوان وهم أصحاب قطلغ وقدموا على أنفسهم كركجة من أعيانهم وساروا إلى الريّ فملكوها ثم إلى أصبهان كذلك وأرسل كركجة الى الديوان ببغداد يطلب أن يكون الريّ له مع جوار الريّ وساوة وقم وقاشان وما ينصاف إليها وتكون أصبهان وهمذان وزنجان ومرو من الديوان فكتب له بذلك والله أعلم.
وفاة ملك شاه بن خوارزم شاه تكش
قد تقدّم لنا أنّ خوارزم شاه تكش ولي ابنه ملك شاه علي نيسابور سنة تسع وثمانين وأضاف إليه خراسان وجعله ولي عهده في الملك فأقام بها إلى سنة ثلاث وتسعين ثم هلك في ربيع منها وخلف ابنا اسمه هندوخان وولى خوارزم شاه على نيسابور ابنه الآخر فطلب الّذي كان ولاه بمرو
.(5/112)
الخطا انهزام الخطا من الغورية
كان خوارزم شاه تكش لما ملك الريّ وهمذان وأصبهان وهزم ابن القصاب وعساكر الخليفة بعث إلى الناصر يطلب الخطبة ببغداد فامتعض الناصر لذلك وأرسل إلى غياث الدين ملك غزنة والغور فقصد بلاد خوارزم شاه فكتب إليه غياث الدين يتهدّده بذلك فبعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم على غياث الدين ويحذرهم أن يملك البلاد كما ملك بلخ فسار الخطا في عساكرهم ووصلوا بلاد الغور وراسلوا بهاء الدين سام ملك باميان وهو ببلخ يأمرونه بالخروج عنها وعاثوا في البلاد وخوارزم شاه قد قصد هراة وانتهى إلى طوس واجتمع أمراء الغورية بخراسان مثل محمد بن بك مقطع الطالقان والحسين بن مرميل وحروس [1] وجمعوا عساكرهم وكبسوا الخطا وهزموهم وألحقوهم بحيمون فتقسموا بين القتل والغرق وبعث ملك الخطا إلى خوارزم شاه يتجنى عليه في ذلك ويطلب الدية على القتلى من قومه ويجعله السبب في قتلهم فراجع غياث الدين واستعطفه ووافقه على طاعة الخليفة وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام وأجاب ملك الخطا بأن قومه إنما جاءوا لانتزاع بلخ من يد الغورية ولم يأتوا لنصرتي وأنا قد دخلت في طاعة غياث الدين فجهز ملك الخطا عساكره إليه وحاصروه فامتنع فرجعوا عنه بعد أن فني أكثرهم بالقتل وسار في أثرهم وحاصر بخارى وأخذ بمخنقها حتى ملكها سنة أربع وتسعين فأقام بها مدّة وعاد إلى خوارزم والله تعالى ولي التوفيق.
ملك خوارزم شاه تكين الريّ وبلاد الجبل
ثم سار خوارزم شاه تكين لارتجاع الريّ وبلاد الجبل من يد مناجق والبهلوانية الذين انتفضوا عليه فهرب مناجق عن البلاد وتركها وملكها خوارزم شاه واستدعاه فامتنع من الحضور واتبعه فاستأمن أكثر أصحابه ورجعوا عنه ولحق هو بقلعة من أعمال مازندان فامتنع بها فبعث خوارزم شاه إلى الخليفة الناصر فبعث بالخلع له ولولده قطب الدين وكتب له تقليدا
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 136: فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوريّ، وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين وكان شجاعا، وكاتب الحسين بين حرميل وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأمير حروش الغوري.(5/113)
بالأعمال التي بيده ثم سار خوارزم شاه لقتال الملحدة فافتتح قلعة لهم قريبة من قزوين وانتقل إلى حصار قلعة الموت من قلاعهم فقتل عليها رئيس الشافعية بالريّ صدر الدين محمد بن الوزان وكان مقدّما عنده ولازمه ثم عاد إلى خوارزم فوثب الملحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه فجهز ابنه قطب الدين لقتالهم فسار إلى قلعة مر نسيس من قلاعهم فحاصرها حتى سألوه في الصلح على مائة ألف دينار يعطونها فامتنع أوّلا ثم بلغه مرض أبيه فأجابهم وأخذ منهم المال المذكور وعاد والله أعلم.
وفاة خوارزم شاه
ثم توفي خوارزم شاه تكش بن البارسلان بن أتسز بن محمد أنوشتكين صاحب خوارزم بعد أن استولى على الكثير من خراسان وعلى الريّ وهمذان وغيرها من بلاد الجبل وكان قد سار من خوارزم إلى نيسابور فمات في طريقه إليها في رمضان سنة ست وتسعين وخمسمائة وكان عند ما اشتدّ مرضه بعث لابنه قطب الدين محمد يخبره بحاله ويستدعيه فوصل بعد موته فبايع له أصحابه بالملك ولقبوه علاء الدين لقب أبيه وحمل شلو أبيه إلى خوارزم فدفنه بالمدرسة التي بناها هنالك وكان تكش عادلا عارفا بالأصول والفقه على مذهب أبي حنيفة ولما توفي ابنه علاء الدين محمد كان ولده الآخر علي شاه بأصبهان فاستدعاه أخوه محمد فسار إليه ونهب أهل أصبهان فخلعه وولاه أخوه على خراسان فقصد نيسابور وبها هندوخان ابن أخيهما ملك شاه منذ ولاه جدّه تكش عليها بعد أبيه ملك شاه وكان هندوخان يخاف عمه محمدا لعداوة بينه وبين أبيه ملك شاه ولما مات جدّه تكش نهب الكثير من خزائنه ولحق بمرو وبلغ وفاة تكش الى غياث الدين ملك غزنة فجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة إعظاما لقدره ثم جمع هندوخان جموعا وسار إلى خراسان فبعث علاء الدين محمد بن تكش العساكر لدفاعه مع جنقر التركي فخام هندوخان عن لقائه ولحق بغياث الدين مستنجدا فأكرمه ووعده النصر ودخل جنقر مدينة مرو وبعث بأمّ هندوخان وولده الى خوارزم مكرمين فأرسل غياث الدين صاحب غزنة إلى محمد بن ضربك نائبة بالطالقان أن ينبذ إلى جنقر العهد ففعل وسار من الطالقان إلى مروالروذ فملكها وبعث الى جنقر يأمره بالخطبة في مرو لغياث الدين أو يفارقها فبعث إليه جنقر يتهدّده ظاهرا ويسأله سرّا أن يستأمن له غياث الدين فقوي طمعه في البلاد بذلك وأمر أخاه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان والله أعلم
.(5/114)
ملوك الغوريّة استيلاء ملوك الغورية على أعمال خوارزم شاه محمد تكش بخراسان وارتجاعه إياها منهم ثم حصاره هراة من أعمالهم
ولما استأمن جنقر [1] نائب مرو الى غياث الدين طمع في أعمال خوارزم شاه بخراسان كما قلناه واستدعاه أخوه شهاب الدين للمسير اليها فسار الى غزنة واستشار غياث الدين نائبة بهراة عمر بن محمد المرغني في المسير الى خراسان فنهاه عن ذلك ووصل أخوه شهاب الدين في عساكر غزنة والغور وسجستان وساروا منتصف سبع وتسعين ووصل كتاب جنقر نائب مرو الى شهاب الدين وهو بقرب الطالقان يحثه للوصول وأذن له غياث الدين فسار الى مرو وقاتل العساكر الذين بها من الخوارزمية فغلبهم وأحجرهم بالبلد وسار بالفيلة الى السور فاستأمن أهل البلد وأطاعوا وخرج جنقر الى شهاب الدين ثم جاء غياث الدين بعد الفتح الى هراة مكرما وسلم مرو الى هندوخان بن ملك شاه كما وعده ثم سار الى سرخس فملكها صلحا وولىّ عليها زنكي بن مسعود من بني عمه وأقطعه معها نسا وأبيورد ثم سار الى طوس وحاصرها ثلاثا واستأمن اليه أهلها فملكها وبعث الى علي شاه علاء الدين محمد بن تكش بنيسابور في الطاعة فامتنع فسار اليه وقاتل نيسابور من جانب وأخوه شهاب الدين من الجانب الآخر [2] اليه سقوطه ودخلوا نيسابور وملكوها ونادوا بالأمان وجيء بعلي شاه من خوارزم الى غياث الدين فأمّنه وأكرمه وبعثه بالامراء الخوارزمية الى هراة وولى على خراسان ابن عمه وصهره على ابنته ضياء الدين محمد بن علي الغوري ولقبه علاء الدين وأنزله نيسابور في جمع من وجوه الغورية وأحسن الى أهل نيسابور وسلم على شاه الى أخيه شهاب الدين ورحل الى هراة ثم سار شهاب الدين الى قهستان [3] وقيل له عن قرية من قراها انهم إسماعيلية فأمر بقتلهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وخرّب القرية ثم سار الى حصن من
__________
[1] اسمه في الكامل ج 12 ص 164: جقر التركي، نائب علاء الدين خوارزم شاه بمرو
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: فلم يردهم أحد عن السور، حتى اصعدوا علم غياث الدين اليه. فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه: اقصدوا بنا هذه الناحية، واصعدوا السور من هاهنا، وأشار الى مكان فيه، فسقط السور منهدما، فضج الناس بالتكبير، وذهل الخوارزميون وأهل البلد، ودخل الغوريّة البلد وملكوه عنوة. (ج 12 ص 165) .
[3] كذا بالأصل، وكذا بالكامل. وفي معجم البلدان قوهستان.(5/115)
أعمال قهستان وهم إسماعيلية فملكه بالأمان بعد الحصار ووليّ عليه بعض الغورية فأقام بها الصواب وشعار الإسلام وبعث صاحب قهستان الى غياث الدين يشكو من أخيه شهاب الدين ويقول انّ هذا نقض العهد الّذي بيني وبينكم فما راعه الا نزول أخيه شهاب الدين على حصن آخر للاسماعيلية من أعمال دهستان فحاصره فبعث بعض ثقاته الى شهاب الدين يأمره بالرحيل فامتنع فقطع أطناب سرادقه ورحل مراغما وقصد الهند مغاضبا لأخيه ولما اتصل بعلاء الدين محمد بن تكش مسيرهما عن خراسان كتب الى غياث الدين يعاتبه عن أخذه بلاده ويطلب إعادتها ويتوعده باستنجاد الخطا عليه فماطله بالجواب الى خروج أخيه شهاب الدين من الهند لعجزه عن الحركة لاستيلاء مرض النقرس عليه فكتب خوارزم شاه الى علاء الدين الغوريّ نائب غياث الدين بنيسابور يأمره بالخروج عنها فكتب بذلك الى غياث الدين فأجابه يعده بالنصر وسار اليه خوارزم شاه محمد بن تكش آخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة فلما قرب أبيورد هرب هندوخان من موالي غياث الدين وملك محمد بن تكش مدينة مرو ونسا وأبيورد وسار الى نيسابور وبها علاء الدين الغوري فحاصرها وأطال حصارها حتى استأمنوا اليه واستحلفوه وخرجوا اليه فأحسن اليهم وسأل من علاء الدين الغوريّ السعي في الإصلاح بينه وبين غياث الدين فضمن ذلك وسار الى هراة وبها أقطاعه وغضب على غياث الدين لقعوده عن انجاده فلم يسر اليه وبالغ محمد بن تكش في الإحسان الى الحسن بن حرميل من أمراء الغورية ثم سار الى سرخس وبها الأمير زنكي من قرابة غياث الدين فحاصرها أربعين يوما وضيق مخنقها بالحرب وقطع الميرة ثم سأله زنكي الإفراج ليخرج عن الأمان فأفرج عنه قليلا ثم ملأ البلد من الميرة بما احتاج اليه وأخرج العاجزين عن الحصار وعاد الى شأنه فندم محمد بن تكش ورحل عنها وجهز عسكرا لحصارها وجاء نائب الطالقان ممدا لمحمد بن خربك داحس بعد ان أرسل اليه بأنه [1] عساكر الخوارزمية المجمرة عليه وأشاع ذلك فأفرجوا عنه وجاء اليه زنكي من الطالقان فخرج معه ابن خربك الى مروالروذ وجبي خراجها وما يحاورها وبعث اليه محمد بن تكش عسكرا نحوا من ثلاثة آلاف مع خاله فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فارس فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا وغنم سوادهم وعاد خوارزم شاه محمد بن تكش الى خوارزم وأرسل الى غياث الدين في الصلح فأجابه مع الحسن بن محمد المرغني من كبراء
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 175: فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغورية وأرسل الى زنكي أمير سرخس يعرفه انه يريد يكبس أن الخوارزميين لئلّا ينزعج إذا سمع الفلبة. وسمع الخوارزميّون الخبر ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكرا في مروالروذ ...(5/116)
الغورية وغالطه في القول ولما وصل الحسن المرغني الى خوارزم شاه واطلع على أمره قبض على الحسن وسار الى هراة فحاصرها وكتب الحسن الى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة بالخبر فاستعدّ للحصار وقد كان لحق بغياث الدين أخوان من حاشية سلطان شاه عمّ محمد بن تكش المتوفى في سرخس فأكرمهما غياث الدين وأنزلهما بهراة فكاتبا محمد بن تكش وداخلاه في تمليكه هراة فسار لذلك وحاصر البلد وأميرها عمر المرغني مرّ الى الأخوين وعندهما مفاتيح البلد واطلع أخوه الحسن في محبسه على شأن الأخوين في مداخلة محمد بن تكش فبعث الى أخيه عمر بذلك فلم يسعفه فبعث اليه بخط أحدهما فقبض عليهما وعلى أصحابهما واعتقلهم وبعث محمد بن تكش عسكرا الى الطالقان للغارة عليها فظفر بهم ابن خربك ولم يفلت منهم أحد ثم بعث غياث الدين ابن أخته البوغاني في عسكر من الغورية فنزلوا قريبا من عسكر خوارزم شاه محمد بن تكش وقطع عنهم الميرة ثم جاء غياث الدين في عسكر قليل لأنّ أكثرها مع أخيه شهاب الدين بالهند وغزنة فنزل قريبا من هراة ولم يقدم على خوارزم فلما بلغ الحصار أربعين يوما وانهزم أصحاب خوارزم شاه بالطالقان ونزل غياث الدين وابن أخته البوغاني قريبا منه وبلغه وصول أخيه شهاب الدين من الهند الى غزنة أجمع الرحيل عن هراة وصالح عمر المرغني على مال حمله اليه وارتحل الى مرو منتصف ثمان وتسعين وسار شهاب الدين من غزنة الى بلخ ثم الى باميان معتزما على محاربة خوارزم شاه والتقت طلائعهما فقتل بين الفريقين خلق ثم ارتحل خوارزم شاه عن مرو فجفلا الى خوارزم وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لاتهامه بالمخادعة وسار شهاب الدين الى طوس وأقام بها الى انسلاخ الشتاء معتزما على السير لحصار خوارزم فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فرجع الى هراة واستخلف بمرو محمد بن خربك فسار اليه جماعة من أمراء خوارزم شاه سنة تسع وتسعين [1] ابن خربك ولم ينج منهم الا القليل فبعث خوارزم شاه الجيوش مع منصور التركي لقتال ابن خربك ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو وقاتلهم فهزموه ودخل مرو منهزما فحاصروه خمسة عشر يوما ثم استأمن اليهم وخرج فقتلوه وأسف ذلك شهاب الدين وتردّدت الرسل بينه وبين خوارزم شاه في الصلح فلم يتمّ وأراد العود الى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخته البوغاني وملك علاء الدين بن أبي على الغوري مدينة مرو وزكورة وبلد الغور واعمال خراسان وفوّض اليه في مملكته وعاد الى غزنة سنة تسع وتسعين وخمسمائة ثم عاد خوارزم شاه الى هراة منتصف سنة ستمائة وبها البوغاني ابن أخت شهاب
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 176: فخرج اليهم محمد ليلا وبيتهم فلم ينج منهم الا القليل.(5/117)
الدين الغوري وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة الى لهاوون [1] غازيا فحصر خوارزم شاه هراة الى منسلخ شعبان وهلك في الحصار بين الفريقين خلق وكان الحسن بن حرميل مقيما بخوزستان وهي اقطاعه فأرسل الى خوارزم شاه يخادعه ويطلب منه عسكرا يستلمون الفيلة وخزانة شهاب الدين فبعث اليه ألف فارس فاعترضهم هو والحسن بن محمد المرغني فلم ينج منهم الا القليل فندم خوارزم شاه على إنفاذ العسكر وبعث الى البوغاني أن يظهر بعض طاعته ويفرج عنه الحصار فامتنع ثم أدركه المرض فخشي أن يشغله المرض عن حماية البلد فيملكها عليه خوارزم شاه فرجع الى اجابته واستحلفة وأهدى وخرج له ليلقاه ويعطيه بعض الخدمة فمات في طريقه وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار الى سرخس فأقام بها.
حصار شهاب الدين خوارزم شاه وانهزامه أمام الخطا
ولما بلغ شهاب الدين بغزنة ما فعل خوارزم شاه بهراة وموت نائبة بها البوغاني ابن أخته وكان غازيا الى الهند فانثنى عزمه وسار الى خوارزم وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس وأقام بظاهر مرو فلما بلغه خبر مسيره أجفل راجعا الى خوارزم فسبق شهاب الدين اليها وأجرى الماء في السبخة حواليها وجاء شهاب الدين فأقام أربعين يوما يطرق المسالك حتى أمكنه الوصول ثم التقوا واقتتلوا وقتل بين الفريقين خلق كان منهم الحسن المرغني من الغورية وأسر جماعة من الخوارزمية فقتلهم شهاب الدين صبرا وبعث خوارزم شاه الى الخطا فيما وراء النهر يستنجدهم على شهاب الدين فجمعوا وساروا الى بلاد الغور وبلغ ذلك شهاب الدين فسار اليهم فلقيهم بالمفازة فهزموه وحصروه في أيد حوى حتى صالحهم وخلص الى الطالقان وقد كثر الإرجاف بموته فتلقاه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان وأزاح علله ثم سار الى غزنة واحتمل ابن حرميل معه خشية من شدّة جزعه أن يلحق بخوارزم شاه ويطيعه فولاه حجابته وسار معه ووجد الخلاف قد وقع بين أمرائه لما بلغهم من الإرجاف بموته حسبما مرّ في أخبار الغورية فأصلح من غزنة ومن الهند وتأهب للرجوع لخوارزم شاه وقد وقع في خبر هزيمته أمام الخطا بالمفازة وجه آخر ذكرناه هنالك وهو أنه فرّق عساكره في المفازة لقلة الماء فأوقع بهم الخطا منفردين وجاء في الساقة فقاتلهم أربعة أيام مصابرا وبعث اليه صاحب
__________
[1] (وفي الكامل لهاوور) واسمها اليوم لاهور ج 12- ص 185) .(5/118)
سمرقند من عسكر الخطا وكان مسلما وأشار عليه بالتهويل عليهم فبعث عسكرا من الليل وجاءوا من الغد متسايلين وخوّفهم صاحب سمرقند بوصول المدد لشهاب الدين فرجعوا الى الصلح وخلص هو من تلك الواقعة وذلك سنة احدى وستمائة ومات شهاب الدين اثر ذلك.
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان
كان نائب الغورية بهراة من خراسان الحسن بن حرميل ولما قتل شهاب الدين الغوري في رمضان سنة اثنتين وستمائة قام بأمرهم غياث الدين محمود ابن أخيه غياث الدين واستولى على الغور من يد علاء الدين محمد بن أبي علي سروركاه ولما بلغ وفاة شهاب الدين الى الحسن بن حرميل نائب هراة جمع أعيان البلد وقاضيهم واستحلفهم على الامتناع من خوارزم شاه ظاهرا ودسّ الى خوارزم شاه بالطاعة ويطلب عسكرا يمتنع به من الغورية وبعث ابنه رهينة في ذلك فأنفذ اليه عسكرا من نيسابور وأمرهم بطاعة ابن حرميل وغياث الدين خلال ذلك يكاتب ابن حرميل ويطلبه في الطاعة فيراوغه بالمواعدة وبلغه خبره مع خوارزم شاه فاعتزم على النهوض اليه واستشار ابن حرميل بهراة أعيان البلد يختبر ما عندهم فقال له عليّ بن عبد الخالق مدرّس مية وناظر الأوقاف الرأي صدق الطاعة لغياث الدين فقال انما أخشاه فسر اليه وتوثق لي منه ففعل وسار الى غياث الدين فأطلعه على الجليّ من أمر ابن حرميل ووعده الثورة به وكتب غياث الدين الى نائبة بمرو يستدعيه فتوقف وحمله أهل مرو على المسير فسار فخلع عليه غياث الدين وأقطعه واستدعى غياث الدين أيضا نائبة بالطالقان أميران قطر فتوقف فأقطع الطالقان سونج مملوك ابنه المعروف بأمير شكار وبعث الى ابن حرميل مع ابن زياد بالخلع ووصل معه رسوله يستنجز خطبته له فمطله أياما حتى وصل عسكر خوارزم شاه من نيسابور ووصل في أثرهم خوارزم شاه وانتهى الى بلخ على أربعة فراسخ فندم ابن حرميل عند ما عاين مصدوقة الطاعة وعرف عسكر خوارزم شاه بأنّ صاحبهم قد صالح غياث الدين وترك له البلاد فانصرفوا الى صاحبهم وبعث اليه معهم بالهدايا ولما سمع غياث الدين بوصول عسكر خوارزم شاه الى هراة أخذ اقطاع ابن حرميل وقبض على أصحابه واستصفى أمواله وما كان له من الذخيرة في حروبان وتبين ابن حرميل في أهل هراة الميل الى غياث الدين والانحراف عنه وخشي من ثورتهم به فأظهر طاعة غياث الدين وجمع أهل البلد على مكاتبته بذلك فكتبوا جميعا وأخرج الرسول بالكتاب ودسّ(5/119)
اليه بأن يلحق عسكر خوارزم شاه فيردّهم اليه فوصل الرسول بهم لرابع يومه ولقيهم ابن حرميل وأدخلهم البلد وسمل ابن زياد الفقيه وأخرج صاعدا القاضي وشيع الغورية فلحقوا بغياث الدين وسلم البلد لعسكر خوارزم شاه وبعث غياث الدين عسكره مع على بن أبي علي وسار معه أميران صاحب الطالقان وكان منحرفا عن غياث الدين بسبب عزله فدسّ الى ابن حرميل بأن يكبسه وواعده الهزيمة وحلف له على ذلك فكبسه ابن حرميل فانهزم عسكر غياث الدين وأسر كثير من أمرائه وشنّ ابن حرميل الغارة على بلاد باذغيس وغيرها من البلاد واعتزم غياث الدين على المسير بنفسه الى هراة ثم شغل عن ذلك بأمر غزنة ومسير صاحب باميان الى الدوس فأقصر واستظهر خوارزم شاه الى بلخ وقد كان عند مقتل شهاب الدين أطلق الغورية الذين كان أسرهم في المصاف على خوارزم وخيرهم في المقام عنده أو اللحاق بقومهم واستصفى من أكابرهم محمد بن بشير وأقطعه فلما قصد الآن بلخ قدم اليه أخوه علي شاه في العساكر وبرز اليه عمر بن الحسن أميرها فدافعه عنها ونزل على أربعة فراسخ وأرسل الى أخيه خوارزم شاه بذلك فسار اليه في ذي القعدة من السنة ونزل على بلخ وحاصرها وهم ينتظرون المدد من صاحبهم باميان بن بهاء الدين وقد شغلوا بغزنة فحاصرها خوارزم شاه أربعين يوما ولم يظفر فبعث محمد بن بشير الغوري الى عماد الدين عمر بن الحسن نائبها يستنزله فامتنع فاعتزم خوارزم شاه على المسير الى هراة ثم بلغه أن أولاد بهاء الدين أمراء باميان ساروا الى غزنة وأسرهم تاج الدين الزر فأعاد محمد بن بشير الى عمر بن الحسين فأجاب الى طاعة خوارزم شاه والخطبة له وخرج اليه فأعاده الى بلده وذلك في ربيع سنة ثلاث وستمائة ثم سار خوارزم شاه الى جوزجان وبها علي بن أبي علي فنزل له عنها وسلمها خوارزم شاه الى ابن حرميل لأنها كانت من أقطاعه وبعث الى غياث الدين عمر بن الحسين من بلخ يستدعيه ثم قبض عليه وبعث به الى خوارزم شاه وسار الى بلخ فاستولى عليها واستخلف عليها جغري التركي وعاد الى بلاده.
استيلاء خوارزم شاه على ترمذ وتسليمها للخطأ
ولما أخذ خوارزم شاه بلخ سار عنها الى ترمذ وبها عماد الدين عمر بن الحسين الّذي كان صاحب بلخ وقدم اليه محمد بن بشير بالعذر عن شأن أبيه وانه انما بعثه لخوارزم مكرما وهو أعظم خواصه ويعده بالاطلاع فاتهم [1] على صاحبها أمره واجتمع عليه خوارزم شاه
__________
[1] مقتضى السياق: فأبهم على صاحبها امره.(5/120)
والخطا من جميع جوانبه وأسر أصحابه ملوك باميان بغزنة فاستأمن الى خوارزم شاه وملك منه البلد ثم سلمها الى الخطا وهم على كفرهم ليسالموه حتى يملك وينتزعها منهم فكان كما قدّره والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء خوارزم شاه على الطالقان
ولما ملك خوارزم شاه ترمذ سار الى الطالقان وبها سونج واستناب على الطالقان أمير شكار نائب غياث الدين محمود وبعث اليه يستميله فامتنع وبرز للحرب حتى تراءى الجمعان فنزل عن فرسه ونبذ سلاحه وجاء متطارحا في العفو عنه فأغرض عنه وملك الطالقان واستولى على ما فيها وبعث اليه سونج واستناب على الطالقان بعض أصحابه وسار الى قلاع كالومين ومهوار وبها حسام الدين عليّ بن أبي عليّ فقاتله ودفعه على ناحيته وسار الى هراة وخيم بظاهرها وجاء رسول غياث الدين بالهدايا والتحف ثم جاء ابن حرميل في جمع من عساكر خوارزم شاه الى أسفراين فملكها على الأمان في صفر من السنة وبعث الى صاحب سجستان وهو حرب بن محمد بن إبراهيم من عقب خلف الّذي كان ملكها منذ عهد ابن سبكتكين في الطاعة لخوارزم والخطبة له فامتنع وقصد خوارزم شاه وهو على هراة القاضي صاعد بن الفضل الّذي أخرجه ابن حرميل ولحق بغياث الدين فلما جاء الى خوارزم شاه رماه ابن حرميل بالميل الى الغورية فحبسه بقلعة زوزن ووليّ القضاء بهراة الصفي أبا بكر بن محمد السرخسي وكان ينوب عن صاعد وابنه في القضاء.
استيلاء خوارزم شاه على مازندان وأعمالها [1]
ثم توفي صاحب مازندان حسام الدين ازدشير وولىّ مكانه ابنه الأكبر وطرد أخاه الأوسط فقصد جرجان وبها الملك على شاه ينوب عن أخيه خوارزم شاه محمد بن تكش واستنجده فاستأذن أخاه وسار معه من جرجان سنة ثلاث وستمائة ومات الأخ الّذي ولىّ على مازندان وولىّ مكانه أخوهما الأصغر ووصل على شاه ومعه أخو صاحب مازندان فعاثوا في البلاد وامتنع الملك بالقلاع مثل سارية وآمد فملكوها من يده وخطب فيها لخوارزم شاه وعاد علي شاه الى جرجان وترك ابن صاحب مازندان الّذي استجار به ملكا في تلك البلاد وأخوه بقلعة كورة.
__________
[1] مازندان (معجم البلدان) .(5/121)
استيلاء خوارزم شاه على ما وراء النهر وقتاله مع الخطا وأسره وخلاصه
قد تقدّم لنا كيف تغلب الخطا على ما وراء النهر منذ هزموا سنجر بن ملك شاه وكانوا أمّة بادية يسكنون الخيام التي يسمونها الخركاوات وهم على دين المجوسية كما كانوا وكانوا موطنين بنواحي أوزكنده وبلاساغون وكاشغر وكان سلطان سمرقند وبخارى من ملوك الخانية الأقدمين عريقا في الإسلام والبيت والملك ويلقب خان خاقان بمعنى سلطان السلاطين وكان الخطا وضعوا الجزية على بلاد المسلمين فيما وراء النهر وكثر عيثهم وثقلت ووطأتهم فأنف صاحب بخارى من تحكمهم وبعث الى خوارزم شاه يستصرخه لحادتهم على أن يحمل اليه ما يحملونه للخطأ وتكون له الخطبة والسكة وبعث في ذلك وجوه بخارى وسمرقند فحلفوا له ووضعوا رهائنهم عنده فتجهز لذلك وولّى أخاه على شاه على طبرستان مع جرجان وولّى على نيسابور الأمير كزلك خان من أخواله وأعيان دولته وندب معه عسكرا وولىّ على قلعة زوزن أمين الدين أبا بكر وكان أصله حمالا فارتفع وترقي في الرتب الى ملك كرمان وولىّ على مدينة الجام الأمير جلدك وأقرّ على هراة الحسن بن حرميل وأنزل معه ألفا من المقاتلة واستناب في مرو وسرخس وغيرهما وصالح غياث الدين محمودا على ما بيده من بلاد الغور وكرمسين وجمع عساكر وسار الى خوارزم فتجهز منها وعبر جيحون واجتمع بسلطان بخارى وسمرقند وزحف اليه الخطا فتواقعوا معه مرّات وبقيت الحرب بينهم سجالا ثم انهزم المسلمون وأسر خوارزم شاه ورجعت العساكر الى خوارزم معلولة وقد أرجف بموت السلطان وكان كزلك خان نائب نيسابور محاصرا لهراة ومعه صاحب زوزن فرجعوا الى بلادهما وأصلح كزلك خان سور نيسابور واستكثر من الجند والأقوات وحدّثته نفسه بالاستبداد وبلغ خبر الإرجاف الى أخيه علي شاه بطبرستان فدعا لنفسه وقطع خطبة أخيه وكان مع خوارزم شاه حين أسر أمير من أمرائه يعرف بابن مسعود فتحيل للسلطان بأن أظهر نفسه في صورته واتفقا على دعائه باسم السلطان وأوهما صاحبهما الّذي أسرهما انّ ابن مسعود هو السلطان وانّ خوارزم شاه خديمه فأوجب ذلك الخطائي حقه وعظمه لاعتقاده انه السلطان وطلب منه بعد أيام أن يبعث ذلك الخديم لأهله وهو خوارزم شاه في الحقيقة ليعرف أهله بخبره ويأتيه بالمال فيدفعه اليه فأذن له الخطائيّ في ذلك وأطلقه بكتابه ولحق بخوارزم ودخل اليها في يوم مشهود وعلم بما فعله أخوه علي شاه بطبرستان وكزلك خان بنيسابور وبلغهما خبر خلاصه(5/122)
فهرب كزلك خان الى العراق ولحق علي شاه بغياث الدين محمود فأكرمه وأنزله وسار خوارزم شاه الى نيسابور فأصلح أمورها وولّى عليها وسار الى هراة فنزل عليها وعسكره محاصر دونها وذلك سنة أربع وستمائة والله أعلم.
مقتل ابن حرميل ثم استيلاء خوارزم شاه على هراة
كان ابن حرميل قد تنكر لعسكر خوارزم شاه الذين كانوا عنده بهراة لسوء سيرتهم فلما عبر خوارزم شاه جيحون واشتغل بقتال الخطا قبض ابن حرميل على العسكر وحبسهم وبعث الى خوارزم شاه يعتذر ويشكو من فعلهم فكتب اليه يستحسن فعله ويأمره بإنفاذ ذلك العسكر اليه ينتفع بهم في قتال الخطا وكتب الى جلدك بن طغرل صاحب الجام أن يسير اليه بهراة ثقة بفعله وحسن سريرته وأعلم ابن حرميل بذلك ودسّ الى جلدك بالتحيل على ابن حرميل بكل وجه والقبض عليه فسار في ألفى مقاتل وكان يهوي ولاية هراة لأنّ أباه طغرل كان واليا بها لسنجر فلما قارب هراة أمر ابن حرميل الناس بالخروج لتلقيه وخرج هو في أثرهم بعد ان أشار عليه وزيره خواجا الصاحب فلم يقبل فلما التقى جلدك وابن حرميل ترجلا عن فرسيهما للسلام وأحاط أصحاب جلدك بابن حرميل وقبضوا عليه وانهزم أصحابه الى المدينة فأغلق الوزير خواجا الأبواب واستعدّ للحصار وأظهر دعوة غياث الدين محمود وجاء جلدك فناداه من السور وتهدّده بقتل ابن حرميل وجاء بابن حرميل حتى أمره بتسليم البلد لجلدك فأبي وأساء الردّ عليه وعلى جلدك فقتل ابن حرميل وكتب الى خوارزم شاه بالخبر فبعث خوارزم شاه الى كزلك خان نائب نيسابور والى أمين الدين أبي بكر نائب زوزن بالمسير الى جلدك وحصار هراة معه فسار لذلك في عشرة آلاف فارس وحاصروها فامتنعت وكان خلال ذلك ما قدّمناه من انهزام خوارزم شاه أمام الخطا وأسرهم إياه ثم تخلص ولحق بخوارزم ثم جاء الى نيسابور ولحق بالعساكر الذين يحاصرون هراة فأحسن الى أمرائهم لصبرهم وبعث الى الوزير خواجا في تسليم البلد لانه كان يعد عسكره بذلك حين وصوله فامتنع وأساء الردّ فشدّ خوارزم في حصاره وضجر أهل المدينة وجهدهم الحصار وتحدّثوا في الثورة فبعث جماعة من الجند للقبض عليه فثاروا بالبلد وشعر جماعة العسكر من خارج بذلك فرجعوا الى السور واقتحموه وملك البلد عنوة وجيء بالوزير أسيرا الى خوارزم شاه فأمر بقتله فقتل وكان ذلك سنة خمس وستمائة ووليّ على هراة خاله أمير ملك وعاد وقد استقرّ له أمر خراسان.(5/123)
[1] استيلاء خوارزم شاه على بيروز كوه [1] وسائر بلاد خراسان
لما ملك خوارزم شاه هراة وولىّ عليها خاله أمير ملك وعاد الى خوارزم بعث الى أمير ملك يأمره [2] بيروزكوه وكان بها غياث الدين محمود بن غياث الدين وقد لحق به أخوه علي شاه وأقام عنده فسار أمير ملك وبعث اليه محمود بطاعته ونزل اليه فقبض عليه أمير ملك وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه وقتلهما جميعا سنة خمس وستمائة وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش وانقرض أمر الغورية وكانت دولتهم من أعظم الدول وأحسنها والله تعالى ولىّ التوفيق.
هزيمة الخطا
ولما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه واستنغر وعبر نهر جيحون وسار اليه الخطا وقد احتفلوا للقائه وملكهم يومئذ طانيكوه ابن مائة سنة ونحوها وكان مظفرا مجربا بصيرا بالحرب واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند وبخارى وتراجعوا سنة ست وستمائة ووقعت بينهم حروب لم يعهد مثلها ثم انهزم الخطا وأخذ فيهم القتل كل مأخذ وأسر ملكهم طانيكوه فأكرمه خوارزم شاه وأجلسه معه على سريره وبعث به الى خوارزم وسار هو الى وراء النهر وملكها مدينة مدينة الى أوركند وأنزل نوّابه فيها وعاد الى خوارزم ومعه صاحب سمرقند فأصهر اليه خوارزم شاه بأخته وردّه الى سمرقند وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان أيام الخطا والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.
انتقاض صاحب سمرقند
ولما عاد صاحب سمرقند الى بلده أقام شحنة خوارزم شاه وعسكره معه نحوا من سنة ثم استقبح سيرتهم وتنكر لهم وأمر أهل البلاد فثاروا بهم وقتلوهم في كل مذهب وهمّ بقتل
__________
[1] بيروزكوه من المشترك بكسر الباء الوحدة وسكون المثناة التحتية وضم الراء المهملة وواو ثم زاء معجمة وضم الكاف ثم واو وهاء، معناه الجبل الأزرق، وهي قلعة حصينة دار مملكة جبال الغور (أهـ من أبي الفداء) .
[2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 265: وبلغ أخاه علي شاه فخافه وسار على طريق قهستان ملتجئا الى غياث الدين محمود الغوري صاحب فيروزكوه وأكرمه وأنزله عنده.(5/124)
زوجته أخت خوارزم شاه فغلقت الأبواب دونه واسترحمته فتركها وبعث الى ملك الخطا بالطاعة وبلغ الخبر الى خوارزم شاه فامتعض وهمّ بقتل من في بلده من أهل سمرقند ثم انثنى عن ذلك وأمر عساكره بالتوجه الى ما وراء النهر فخرجوا أرسالا وهو في أثرهم وعبر بهم النهر ونزل على سمرقند وحاصرها ونصب عليها الآلات وملكها عنوة واستباحها ثلاثا قتل فيها نحوا من مائتي ألف واعتصم صاحبها بالقلعة ثم حاصرها وملكها عنوة وقتل صاحبها صبرا في جماعة من أقرانه ومحا آثار الخانية وأنزل في سائر البلاد وراء النهر نوّابه وعاد الى خوارزم والله تعالى ولىّ النصر بمنه وفضله.
استلحام الخطا
قد تقدّم لنا وصول طائفة من أمم الترك الى بلاد تركستان وكاشغر وانتشارهم فيما وراء النهر واستخدموا للملوك الخانية أصحاب تركستان وكان ارسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الريف فيما بينه وبين الصين ولهم على ذلك الاقطاعات والجرايات وكان يعاقبهم على ما يقع منهم من الفساد والعيث في البلاد ويوقع بهم ففرّوا من بلاده وابتغوا عنه فسيحا من الأرض ونزلوا بلاساغون ثم خرج كوخان ملك الترك الأعظم من الصين سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فسارت اليه أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بقراخان وهو ابن أخت السلطان سنجر فهزموه وبعث بالصريخ الى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم في صفر سنة ست وثلاثين ولقيه أمم الترك والخطا فهزموه واثخنوا في المسلمين وأسرت زوجة السلطان سنجر ثم أطلقها كوخان بعد ذلك وملك الترك بلاد ما وراء النهر ثم مات كوخان ملكهم سنة سبع وثلاثين ووليت بعده ابنته وماتت قريبا وملكت من بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر الى آن غلبهم عليه خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش كما قدّمنا وكانت قد خرجت قبل ذلك خارجة عظيمة من الترك يعرفون بالتتر ونزلوا في حدود الصين وراء تركستان وكان ملكهم كشلى خان ووقع بينه وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم وزحف كشلى في أمم التتر الى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا الى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوّهم قبل أن يستحكم أمرهم وتضيق عنه قدرته وقدرتهم وبعث اليه كشلى يغريه بهم وأن يتركه وإياهم ويحلف له على مسالمة بلاده فسار خوارزم شاه(5/125)
يوهم كل واحد من الفريقين انه له وأقام منتبذا عنهما حتى تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه ولم ينج منهم الا القليل فتحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه كانوا معه وبعث خوارزم شاه الى كشلى خان ملك التتر يعتدّ عليه بهزيمة الخطا وانها انما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وسار لحربهم ثم علم انه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم على اللقاء كشلى خان يعذ له في ذلك وهو يغلطه واستولى كشلى خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وبلاساغون ثم عمد خوارزم شاه الى الشاش وفرغانة واسحان وكاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله انزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها الى بلاد الإسلام وخرّب جميعها خوفا أن يملكها التتر ثم اختلف التتر بعد ذلك وخرج على كشلى طائفة أخرى منهم يعرفون بالمغل وملكهم جنكزخان فشغل كشلى خان بحربهم عن خوارزم شاه فعبر النهر الى خراسان وترك خوارزم شاه الى أن كان من أمره ما نذكره والله تعالى أعلم.
استيلاء خوارزم شاه على كرمان ومكران والسند
قد تقدّم لنا أنه كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش تاج الدين أبو بكر وانه كان كريا للدواب ثم ترقت به الأحوال الى أن صار سروان لتكش والسروان مقدّم الجهاد ثم تقدّم عنده لجلده وإماتته وصار أمير وولاه قلعة زوزن ثم تقدّم عند علاء الدين محمد بن تكش واختصه فأشار عليه بطلب بلاد كرمان لما كانت مجاورة لوطنه فبعث معه عسكرا وسار الى كرمان سنة اثنتي عشرة وصاحبها يومئذ محمد بن حرب أبي الفضل الّذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فغلبه على بلاده وملكها ثم سار الى كرمان وملكها كلها الى السند من نواحي كابل وسار الى هرمز من مدن فارس بساحل البحر واسم صاحبها مكيك فأطاعه وخطب لخوارزم شاه وضمن مالا يحمله وخطب له بقلعات وبعض عمان من وراء النهر لانهم كانوا يتقربون الى صاحب هرمز بالطاعة وتسير سفنهم بالتجار الى هرمز لانه المرسي العظيم الّذي تسافر اليه التجار من الهند والصين وكان بين صاحب هرمز وصاحب كيش مغاورات وفتن وكل واحد منهما ينهى مراكب بلاده أن ترسي ببلاد الآخر وكان خوارزم شاه يطيف بنواحي سمرقند خشية أن يقصد التتر أصحاب كشلى خان بلاده
.(5/126)
استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها
ولما استولى خوارزم شاه محمد بن تكش على بلاد خراسان وملك باميان وغيرها وبعث تاج الدين المرز صاحب غزنة وقد تغلب عليها بعد ملوك الغورية وقد تقدّم في أخبار دولتهم فبعث اليه في الخطبة له وأشار عليه كبير دولته قطلغ تكين مولى شهاب الدين الغوري وسائر أصحابه بالإجابة الى ذلك فخطب له ونقش السكة باسمه وسار قنصيرا وترك قطلغ تكين بغزنة نائبا عنه فبعث قطلغ تكين لخوارزم شاه يستدعيه فأغذ له السير وملك غزنة وقلعتها وقتل الغورية الذين وجدوا بها خصوصا الأتراك وبلغ الخبر المرز فهرب الى أساون ثم أحضر خوارزم شاه قطلغ ووبخه على قلة وفائه لصاحبه وصادره على ثلاثين حملا من أصناف الأموال والأمتعة وأربعمائة مملوك ثم قتله وعاد الى خوارزم وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة وقيل سنة اثنتي عشرة بعد ان استخلف عليها ابنه جلال الدين منكبرس والله أعلم بغيبه وأحكم.
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل
كان خوارزم شاه محمد بن تكش قد ملك الرها وهمذان وبلاد الجبل كلها أعوام تسعين وخمسمائة من يد قطلغ آبنايخ [1] بقية أمراء السلجوقية ونازعه فيها ابن القصاب وزير الخليفة الناصر فغلبه خوارزم شاه وقتله كما مرّ في أخباره ثم شغل عنها تكش الى أن توفي وذلك سنة سبع وتسعين وصار ملكه لابنه علاء الدين محمد بن تكش وتغلب موالي البهلوان على بلاد الجبل واحدا بعد واحد ونصبوا أزبك بن مولاهم البهلوان ثم انتقضوا عليه وخطبوا لخوارزم شاه وكان آخر من ولىّ منهم أغماش وأقام بها مدّة يخطب لعلاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه ثم وثب عليه بعض الباطنية وطمع أزبك بن محمد البهلوان بقية الدولة السلجوقية بآذربيجان وارّان في الاستيلاء على أعمال أصبهان والريّ وهمذان وسائر بلاد الجبل وطمع سعد بن زنكي صاحب فارس ويقال سعد بن دكلا في الاستيلاء عليها أيضا كذلك وسار في العساكر فملك أزبك أصبهان بممالأة أهلها وملك سعد الريّ وقزوين وسمنان وطار الخبر الى خوارزم شاه بأصبهان بسمرقند فسار في العساكر سنة أربع عشرة وستمائة في مائة ألف بعد ان جهز العساكر فيما وراء النهر وبثغور الترك وانتهى الى قومس ففارق العساكر وسار متجرّدا في اثني عشر ألفا فلما ظفرت مقدمته بأهل الريّ وسعد مخيم بظاهرها ركب
__________
[1] وفي مكان آخر: آبنانج(5/127)
للقتال بظنّ انه السلطان ثم تبين الآلة والمركب واستيقن انه السلطان فولت عساكره منهزمة وحصل في أسر السلطان وبلغ الخبر الى أزبك بأصبهان فسار الى همذان ثم عدل عن الطريق في خواصه وركب الاوعار الى أذربيجان وبعث وزيره أبا القاسم بن علي بالاعتذار فبعث اليه في الطاعة فأجابه وحمله الضريبة فاعتذر بقتال الكرج وأمّا سعد صاحب فارس فبلغ الخبر بأسره الى ابنه نصرة الدين أبي بكر فهاج بخلعان أبيه وأطلق السلطان سعدا على أن يعطيه قلعة إصطخر ويحمل اليه ثلث الخراج وزوّجه بعض قرابته وبعث معه من رجال الدولة من يقبض إصطخر فلما وصل الى شيراز وجد ابنه منتقضا فداخله بعض أمراء ابنه وفتح له باب شيراز ودخل على ابنه واستولى على ملكه وخطب لخوارزم شاه واستولى خوارزم شاه على شاورة وقزوين وجرجان وابهر وهمذان وأصبهان وقم وقاشان وسائر بلاد الجبل واستولى عليها كلها من أصحابها واختص الأمير طائيين بهمذان وولىّ ابنه ركن الدولة ياور شاه عليهم جميعا وجعل معه جمال الدين محمد بن سابق الشاوي وزيرا.
طلب الخطبة وامتناع الخليفة منها
ثم بعد ذلك بعث خوارزم شاه محمد بن تكش الى بغداد يطلب الخطبة بها من الخليفة كما كانت لبني سلجوق وذلك سنة أربع عشرة وذلك لما رأي من استفحال أمره واتساع ملكه فامتنع الخليفة من ذلك وبعث في الاعتذار عنه الشيخ شهاب الدين السهروردي فأكبر السلطان مقدمه وقام لتلقيه وأوّل ما بدأ به الكلام على حديث الخطبة ببغداد وجلس على ركبتيه لاستماعه ثم تكلم وأطال وأجاد وعرض بالموعظة في معاملة النبيّ صلّى الله عليه وسلم في بني العباس وغيرهم والتعرّض لاذايتهم فقال السلطان حاش للَّه من ذلك وأنا ما آذيت أحدا منهم وأمير المؤمنين كان أولى مني بموعظة الشيخ فقد بلغني أنّ في محبسه جماعة من بني العباس مخلدين يتناسلون فقال الشيخ الخليفة إذا حبس أحدا للإصلاح لا يعترض عليه فيه فما بويع الا للنظر في المصالح ثم ودّعه السلطان ورجع الى بغداد [1] وكان ذلك قبل أن يسير الى العراق [2] فلما استولى على بلاد الجبل وفرغ من أمرها سار الى بغداد وانتهى الى عقبة سراباد وأصابه هنالك ثلج عظيم أهلك الحيوانات وعفن أيدي الرجال وأرجلهم حتى
__________
[1] أي رجع الشيخ الى بغداد
[2] أي يسير السلطان الى العراق(5/128)
قطعوها ووصله هنالك شهاب الدين السهروردي ووعظه فندم ورجع عن قصده فدخل الى خوارزم سنة خمس عشرة والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق.
قسمة السلطان خوارزم شاه الملك بين ولده
ولما استكمل السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش ملكه بالاستيلاء على الريّ وبلاد الجبل قسم أعمال ملكه بين ولده فجعل خوارزم وخراسان ومازندان لولىّ عهده قطب الدين أولاغ شاه وانما كان ولىّ عهده دون ابنه الأكبر جلال الدين منكبرس لأنّ أمّ قطب الدين وأمّ السلطان وهي تركمان خاتون من قبيلة واحدة وهم فياروت من شعوب يمك احدى بطون الخطا فكانت تركمان خاتون متحكمة في ابنها السلطان محمد بن تكش وجعل غزنة وباميان والغور وبست ومكساماد وما من الهند لابنه جلال الدين منكبرس وكرمان وكيس ومكرمان لابنه غياث الدين يتر شاه وبلاد الجبل لابنه ركن الدين غور شاه كما قدّمناه وأذن لهم في ضرب النوب الخمس له وهي دبادب صغار تقرع عقب الصلوات الخمس واختص هو بنوبة سماها نوبة ذي القرنين سبع وعشرين دبدبة كانت مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة بالجواهر هكذا ذكر الوزير محمد بن أحمد السنوي المنشى كاتب جلال الدين منكبرس في أخباره ابنه علاء الدين محمد بن تكش وعلى كتابه اعتمدت دون غيره لانه أعرف بأخبارهما وكانت كرمان ومكران وكيش لمؤيد الملك قوام الدين وهلك منصرف السلطان من العراق فأقطعها لابنه غياث الدين كما قلناه وكان الملك هذا سوقة فأصبح ملكا وأصل خبره أنّ أمّه كانت داية في دار نصرة الدين محمد بن أبز صاحب زوزن ونشأ في بيته واستخدمه وسفر عنه للسلطان فسعى به أنه من الباطنية ثم رجع فخوّفه من السلطان بذلك فانقطع نصرة الدين الى الإسماعيلية وتحصن ببعض قلاع زوزن وكتب قوام الدين بذلك الى السلطان فجعل اليه وزارة زوزن وولاية جبايتها ولم يزل يخادع صاحبه نصرة الدين الى أن راجع فتمكن من السلطان وسمله ثم طمع قوام الدين في ملك كرمان وكان بها أمير من بقية الملك دينار وأمدّه السلطان بعسكر من خراسان فملك كرمان وحسن موقع ذلك من السلطان فلقبه مؤيد الملك وجعلها في أقطاعه ولما رجع السلطان من العراق وقد نفقت جماله بعث اليه بأربعة آلاف بختي وتوفي أثر ذلك فردّ السلطان أعماله الى ابنه غياث الدين كما قلناه وحمل من تركته الى السلطان سبعون حملا من الذهب خلا الأصناف
.(5/129)
أخبار تركمان خاتون أمّ السلطان محمد بن تكش
كانت تركمان خاتون أمّ السلطان محمد بن تكش من قبيلة بياروت من شعوب الترك يمك من الخطا وهي بنت خان حبكش من ملوكهم تزوّجها السلطان خوارزم شاه تكش فولدت له السلطان محمدا فلما ملك لحق بها طوائف يمك ومن جاورهم من الترك واستظهرت بهم وتحكمت في الدولة فلم يملك السلطان معها أمره وكانت تولى في النواحي من جهتها كما يولي السلطان وتحكم بين الناس وتنحف من الظلامات وتقدم على الفتك والقتل وتقيم معاهد الخير والصدقة في البلاد وكان لها سبعة من الموقعين يكتبون عنها وإذا عارض توقيعها لتوقيع السلطان عمل بالمتأخر منهما وكان لقبها خداوند جهان أي صاحبة العالم وتوقيعها في الكتاب عصمة الدنيا والدين اولاغ تركمان ملك نساء العالمين وعلامتها اعتصمت باللَّه وحده تكتبها بقلم غليظ وتجوّد كتابتها أن تروّر عليها واستورت للسلطان وزيره نظام الملك وكان مستخدما لها فلما عزل السلطان وزيره أشارت عليه بوزارة نظام الملك هذا فوزر له على كره من السلطان وتحكم في الدولة بتحكمها ثم تنكر له السلطان لأمور بلغته عنه وعزله فاستمرّ على وزارتها وكان شأنه في الدولة أكبر وشكاه اليه بعض الولاة بنواحي خوارزم أنه صادره فأمر بعض خواصه بقتله فمنعته تركمان من ذلك وبقي على حاله وعجز السلطان عن إنفاذ أمره فيه والله يؤيد بنصره من يشاء.
التتر (خروج التتر وغلبهم على ما وراء النهر وفرار السلطان أمامهم من خراسان
ولما عاد السلطان من العراق سنة خمس عشرة كما قدّمناه واستقرّ بنيسابور وفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من المعدنين ونوافج المسك وحجر البشم والثياب الطائية التي تنسج من وبر الإبل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما يليها من بلاد الترك ويسأل الموادعة والاذن للتجار من الجانبين في التردّد في متاجرهم وكان في خطابه اطراء السلطان بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك واستدعى محمودا الخوارزمي من الرسل واصطنعه ليكون عينا له على جنكزخان واستخبره على ما قاله في كتابه من ملكه الصين واستيلائه على مدينة(5/130)
طوغاج فصدق ذلك ونكر عليه الخطاب بالولد وسأله عن مقدار العساكر فغشه وقللها وصرفهم السلطان بما طلبوه من الموادعة والاذن للتجار فوصل بعض التجار من بلادهم الى انزار وبها نيال خان ابن خال السلطان في عشرين ألفا من العساكر فشره الى أموالهم وخاطب السلطان بأنهم عيون وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم فقتلهم خفية وأخذ أموالهم وفشا الخبر الى جنكزخان فبعث بالنكير الى السلطان في نقض العهد وان كان فعل نيال افتياتا فبعث اليه يتهدّده على ذلك فقتل السلطان الرسل وبلغ الخبر الى جنكزخان فسار في العساكر واعتزم السلطان أن يحصن سمرقند بالاسوار فجبي لذلك خراج سنتين وجبي ثالثة استخدم بها الفرسان وسار الى احياء جنكزخان فكبسهم وهو غائب عنها في محاربة كشلي خان فغنم ورجع واتبعهم ابن جنكزخان فكانت بينهم واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين ولجأ خوارزم شاه الى جيحون فأقام عليه ينتظر شأن التتر ثم عاجله جنكزخان فأجفل وتركها وفرّق عساكره في مدن ما وراء النهر انزار وبخارى وسمرقند وترمذ وجند وأنزل آبنايخ من كبراء أمرائه وحجاب دولته في بخارى وجاء جنكزخان الى انزار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها نيال خان الّذي قتل التجار وأذاب الفضة في أذنيه وعينيه ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى ملكوها ثم غدر بهم وقتلهم وسلبهم وخرّبها ورحل جنكزخان الى سمرقند ففعلوا فيها مثل ذلك سنة تسع عشرة وستمائة ثم كتب كتبا على لسان الأمراء قرابة أمّ السلطان يستدعون جنكزخان ويعدها بزيادة خراسان الى خوارزم وبعث من يستخلفه على ذلك وبعث الكتب مع من يتعرّض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمّه وبقرابتها.
إجفال السلطان خوارزم شاه الى خراسان ثم الى طبرستان ومهلكه
ولما بلغ السلطان استيلاء جنكزخان على انزار وبخارى وسمرقند وجاءه نائب بخارى ناجيا في الفلّ أجفل حينئذ وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وعلاء الدين صاحب قيدر وتخاذل الناس وسرّح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا يسميهم التتر المغرّبة لسيرهم نحو غرب خراسان فتوغلوا في البلاد وانتهوا الى بلاد بيجور واكتسحوا كل ما مرّوا عليه ووصل السلطان الى نيسابور فلم يثبت بها ودخل الى ناحية العراق بعد أن أودع أمواله قال المنشي في كتابه حدّثني الأمير تاج الدين البسطامي قال لما انتهى خوارزم شاه في مسيره الى العراق استحضرني وبين يديه عشرة صناديق مملوءة لآلئ لا تعرف قيمتها وقال في(5/131)
اثنين منها فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بأسرها وأمرني بحملها الى قلعة اردهز من أحصن قلاع الأرض وأخذت خط يد الموالي بوصولها ثم أخذها التتر بعد ذلك حين ملكوا العراق انتهى ولما ارتحل خوارزم شاه من نيسابور قصد مازندران والتتر في أثره ثم انتهى الى أعمال همذان فكبسوه هناك ونجا الى بلاد الجبل وقتل وزيره عماد الملك محمد بن نظام الملك وأقام هو بساحل البحر بقرية عند الفريضة يصلي ويقرأ ويعاهد الله على حسن السيرة ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا ووصلوا الى جزيرة في بحر طبرستان فأقام بها وطرقه المرض فكان جماعة من أهل مازندان يمرضونه ويحمل اليه كثيرا من حاجته فيوقع لحاملها بالولايات والاقطاع وأمضى ابنه جلال الدين بعد ذلك جميعها ثم هلك سنة سبع عشرة وستمائة ودفن بتلك الجزيرة لإحدى وعشرين سنة من ملكه بعد أن عهد لابنه جلال الدين منكبرس وخلع ابنه الأصغر قطب الدين أولاغ شاه ولما بلغ خبر اجفاله الى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت هاربة بعد أن قتلت نحوا من عشرين من الملوك والأكابر المحبوسين هنالك ولحقت بقلعة ايلان من قلاع مازندان فلما رجع التتر المغربة عن السلطان خوارزم شاه بعد ان خاض بحر طبرستان الى الجزيرة التي مات بها فقصدوا مازندان وملكوا قلاعها على ما فيها من الامتناع ولقد كان فتحها بأخر الى سنة تسعين أيام سليمان بن عبد الملك فملكوها واحدة واحدة وحاصروا تركمان خاتون في قلعة ايلان الى أن ملكوا القلعة صلحا وأسروها وقال ابن الأثير انهم لقوها في طريقها الى مازندان فأحاطوا بها وأسروها ومن كان معها من بنات السلطان وتزوّجهنّ التتر وتزوّج دوشي خان بن جنكزخان بإحداهنّ وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهنّ في خمول وذل وكانت تحضر سماط جنكزخان كاحداهنّ وتحمل قوتها منه وكان نظام الملك وزير السلطان مع أمّه تركمان خاتون فحصل في قبضة جنكزخان وكان عندهم معظما لما بلغهم من تنكر السلطان له وكانوا يشاورونه في أمر الجباية فلما استولى دوشي خان على خوارزم وجاء بحرم السلطان الذين كانوا بها وفيهنّ مغنيات فوهب احداهنّ لبعض خدمه فمنعت نفسها منه ولجأت للوزير نظام الملك فشكاه ذلك الخادم لجنكزخان ورماه بالجارية فأحضره جنكزخان وعدّد عليه خيانة استاذه وقتله.
مسير التتر بعد مهلك خوارزم شاه من العراق الى أذربيجان وما وراءها من البلاد هنالك
ولما وصل التتر الى الريّ في طلب خوارزم شاه محمد بن تكش سنة سبع عشرة وستمائة ولم(5/132)
يحدوه عادوا الى همذان واكتسحوا ما مرّوا عليه وأخرج اليهم أهل همذان ما حضرهم من الأموال والثياب والدواب فأمّنوهم ثم ساروا الى زنجان ففعلوا كذلك ثم الى قزوين فامتنعوا منهم فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها ويقال أنّ القتلى بقزوين زادوا على أربعين ألفا ثم هجم غليهم الشتاء فساروا الى أذربيجان على شأنهم من القتل والاكتساح وصاحبها يومئذ أزبك بن البهلوان مقيم بتبريز عاكف على لذاته فراسلهم وصانعهم وانصرفوا الى بوقان ليشتوا بالسواحل ومرّوا الى بلاد الكرج فجمعوا لقتالهم فهزمهم التتر وأثخنوا فيهم فبعثوا الى ازبك صاحب أذربيجان والى الأشرف بن العادل بن أيوب صاحب خلاط والجزيرة يطلبون اتصال أيديهم على مدافعة التتر وانضاف الى التتر اقرش من موالي أزبك واليه [1] جموع من التركمان والأكراد وسار مع التتر الى الكرج واكتسحوا بلادهم وانتهوا الى بلقين [2] وسار اليهم الكرج فلقيهم اقرش أوّلا ثم لقيهم التتر فانهزم الكرج وقتل منهم ما لا يحصى وذلك في ذي القعدة من سنة سبع عشرة ثم عاد التتر الى مراغة ومرّوا بتبريز فصانعهم صاحبها كعادته وانتهوا الى مراغة فقاتلوها أياما وبها امرأة تملكها ثم ملكوها في صفر سنة ثماني عشرة واستباحوها ثم رحلوا عنها الى مدينة اربل وبها مظفر الدين بن [3] فاستمد بدر الدين صاحب الموصل فأمدّه بالعساكر ثم همّ بالخروج لحفظ الدروب على بلاده فجاءت كتب الخليفة الناصر اليهم جميعا بالمسير الى دقوقا ليقيموا بها مع عساكره ويدافع عن العراق وبعث معهم بشتمر كبير أمرائه وجعل المقدّم على الجميع مظفر الدين صاحب اربل فخاموا عن لقاء التتر وخام التتر عن لقائهم وساروا الى همذان وكان لهم بها شحنة منذ ملكوها أوّلا فطالبوه بفرض المال على أهلها وكان رئيس همذان شريفا علويا قديم الرئاسة بها فحضهم على ذلك فضجروا وأساءوا الردّ عليه وأخرجوا الشحنة وقاتلوا التتر وغضب العلويّ فتسلل عنهم الى قلعة بقربها فامتنع وزحف التتر الى البلد فملكوه عنوة واستباحوه واستلحموا أهله ثم عادوا الى أذربيجان فملكوا أردبيل واستباحوها وخربوها وساروا الى تبريز وقد فارقها ازبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وارّان وقصد نقجوان وبعث بأهله وحرمه الى حوى فرارا من التتر لعجزه وانهماكه فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائي وجمع أهل البلد واستعدّ للحصار فأرسل اليه التتر في المصانعة فصانعهم وساروا الى مدينة سوا
__________
[1] اي وانضاف اليه.
[2] وهي البليقان كما في معجم البلدان.
[3] كذا بياض بالأصل ج 12 ص 423: مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب إربل.(5/133)
فاستباحوها وخرّبوها وساروا الى بيلقان فحاصروها وبعثوا الى أهل البلد رجلا من أكابرهم يقرّر معهم في المصانعة والصلح فقتلوه فأسرى التتر في حصارهم وملكوا البلد عنوة في رمضان سنة ثمان عشرة واستلحموا أهلها وأفحشوا في القتل والمثلة حتى بقروا البطون على الأجنة واستباحوا جميع الضاحية قتلا ونهبا وتخريبا ثم ساروا الى قاعدة ارّان وهي كنجة ورأوا امتناعها فطلبوا المصانعة من أهلها فصانعوهم ولما فرغوا من أعمال أذربيجان وارّان ساروا الى بلاد الكرج وكانوا قد جمعوا لهم واستعدّوا ووقعوا في حدود بلادهم فقالتهم التتر فهزموهم الى بلقين قاعدة ملكهم فجمعوا هنالك ثم خاموا عن لقائهم لما رأوا من اقتحامهم المضايق والجبال فعادوا الى بلقين واستولى التتر على نواحيها فخربوها كيف شاءوا ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة الاوعار والدوسرات فعادوا عنها ثم قصدوا درنبر [1] شروان وحاصروا مدينة سماهي [2] وفتكوا في أهلها ووصلوا الى السور فعالوه باشلاء القتلى حتى ساموه [3] واقتحموا البلد فأهلكوا كل من فيه ثم قصدوا الدربند فلم يطيقوا عبوره فأرسلوا الى شروان في الصلح فبعث اليهم رجلا من أصحابه فقتلوا بعضهم واتخذوا الباقين أذلاء فسلكوا بهم دربند شروان وخرجوا الى الأرض الفسيحة وبها أمم القفجاق واللان واللكن وطوائف من الترك مسلمون وكفار فأوقعوا بتلك الطوائف واكتسحوا عامّة البسائط وقاتلهم قفجاق واللان ودافعوهم ولم يطق التتر مغالبتهم ورجعوا وبعثوا الى القفجاق وهم واثقون بمسالمتهم فأوقعوا بهم وجر من كان بعيدا منهم الى بلاد الروس واعتصم آخرون بالجبال والغياض واستولى التتر على بلادهم وانتهوا الى مدينتهم الكبرى سراي على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادّتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال وركب بعضهم الى بلاد الروم في ايالة بني قلج ارسلان ثم سار التتر سنة عشر وستمائة من بلاد قفجاق الى بلاد الروم المجاورة لها وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا الى مدافعتهم في تخوم بلادهم ومعهم جموع من القفجاق سافروا اليهم فاستطرد لهم التتر مراحل ثم كرّوا عليه وهم غارون فطاردهم القفجاق والروم أياما ثم انهزموا وأثخن التتر فيهم
__________
[1] وهي مدينة دربند (معجم البلدان) .
[2] وهي مدينة شماخي (معجم البلدان) .
[3] كذا، وفي الكامل ج 12 ص 384: ثم ان التتر صعدوا سورها بالسلاليم، وقيل بل جمعوا كثيرا من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك، ومن قتل الناس منهم وممن قتل من غيرهم، والقوا بعضه فوق بعض وصار مثل التل وصعدوا عليه.(5/134)
قتلا وسبيا ونهبا وركبوا السفن هاربين الى بلاد المسلمين وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر ثم عادوا اليها وقصدوا بلغار أواخر السنة واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم الا القليل وارتحلوا عائدين الى جنكزخان بأرض الطالقان ورجع القفجاق الى بلادهم واستقرّوا فيها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.
أخبار خراسان بعد مهلك خوارزم شاه
قد كنا قدّمنا مهلك خوارزم شاه ومسير هؤلاء التتر المغربة في طلبه ثم انتهائهم بعد مهلكه الى النواحي التي ذكرناها وكان جنكزخان بعد إجفال خوارزم شاه من جيحون وهو بسمرقند قد بعث عسكرا الى ترمذ فساروا منها الى كلات من أحصن القلاع الى جانب جيحون فاستولوا عليها وأوسعوها نهبا وسير عسكرا آخر الى فرغانة وكذلك عسكرا آخر الى خوارزم وعسكرا آخر الى خوزستان فعبر عسكر خراسان الى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع وستمائة ولم يعرضوا لها بعيث وانزلوا شحنتهم بها ثم ساروا الى زوزن وميمنة وايدخوي وفارياب فملكوها وولوا عليها ولم يعرضوا لأهلها بأذى وانما استنفروهم لقتال البلد معهم ثم ساروا الى الطالقان وهي ولاية متسعة فقصدوا قلعة صوركوه من أمنع بلادها فحاصروها ستة أشهر وامتنعت عليهم فسار اليهم جنكزخان بنفسه وحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى إذا رأى امتناعها أمر بنقل الخشب والتراب حتى اجتمع منه تلّ مشرف على البلد واستيقن أهل البلد الهلكة واجتمعوا وفتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرّقوا في الجبال والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر البلد فاستباحوها ثم بعث جنكزخان صهره قفجاق قوين الى خراسان ومرواسا وقاتلوها فامتنعت عليهم وقتل قفجاق قوين فأقاموا على حصارها وملكوها عنوة واستباحوها وخرّبوها ويقال قتل فيها أزيد من سبعين ألفا وجمع عددا من الجثث فكان كالتلال العظيمة وكان رؤساؤها بني حمزة بخوارزم منذ ملكها خوارزم شاه تكش فعاد اليها اختيار الدين جنكي بن عمر بن حمزة وبوعمه وضبطوها ثم بعث جنكزخان ابنه في العساكر الى مدينة مرو واستنفر أهل البلاد التي ملكوها قبل مثل بلخ وأخواتها وكان الناجون من هذه الوقائع كلها قد لحقوا بمرو واجتمع بها ما يزيد على مائتي ألف وعسكروا بظاهرها لا يشكون في الغلب فلما قاتلهم التتر صابروهم فوجدوا في مصابرتهم ما لم يحتسبوه فولوا منهزمين وأثخن التتر فيهم ثم حاصروا البلد خمسة أيام وبعثوا الى أميرها يستميلونه للنزول عنها(5/135)
فاستأمن اليهم وخرج فأكرموه أولا ثم أمروا بإحضار جنده للعرض حتى استكملوا وقبضوا عليهم ثم استكتبوه رؤساء البلد وتجاره وصناعة على طبقاتهم وخرج أهل البلد جميعا وجلس لهم جنكزخان على كرسي من ذهب فقتل الجند في صعيد واحد [1] وقسم العامة رجالا وأطفالا ونساء بين الجند فاقتسموهم وأخذوا أموالهم وامتحنوهم في طلب المال ونبشوا القبور في طلبه ثم أحرقوا البلد وتربة السلطان سنجر ثم استلحم في اليوم الرابع أهل البلد جميعا يقال كانوا سبعمائة ثم ساروا الى نيسابور وحاصروها خمسا ثم اقتحموها عنوة وفعلوا فيها فعلهم في مرو وأشدّ ثم بعثوا عسكرا الى طوس وفعلوا فيها مثل ذلك وخربوها وخربوا مشهد علي بن موسى الرضا ثم ساروا الى هراة وهي من أمنع البلاد فحاصروها عشرا وملكوها وأمنوا من بقي من أهلها وأنزلوا عندهم شحنة وساروا لقتال جلال الدين بن خوارزم شاه كما يذكر بعد فوثب أهل هراة على الشحنة وقتلوه فلما رجع التتر منهزمين اقتحموا البلد واستباحوه وخربوه وأحرقوه ونهبوا نواحيه اجمع وعادوا الى جنكزخان بالطالقان وهو يرسل السرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا وكان ذلك كله سنة سبع عشرة وبقيت خراسان خرابا وتراجع أهلها بعض الشيء فكانوا فوضى واستبدّ آخرون في بعض مدنها كما نذكر ذلك في أماكنه والله أعلم.
أخبار السلطان جلال الدين منكبرس مع التتر بعد مهلك خوارزم شاه واستقراره بغزنة
ولما توفي السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش بجزيرة بحر طبرستان ركب ولده البحر الى خوارزم يقدمهم كبيرهم جلال الدين منكبرس وقد كان وثب بها بعد منصرف تركمان خاتون أمّ خوارزم شاه رجل من العيارين فضبطها وأساء السيرة وانطلقت اليها أيدي العيارين ووصل بعض نواب الديوان فأشاعوا موت السلطان ففرّ العيارون ثم جاء جلال الدين واخوته واجتمع الناس اليهم فكانوا معهم سبعة آلاف من العساكر أكثرهم اليارونية قرابه أمّ خوارزم شاه فمالوا الى أولاغ شاه وكان ابن أختهم كما مرّ وشاوروا في الوثوب بجلال الدين وخلعه ونمى الخبر اليه فسار الى خراسان في ثلاثمائة فارس وسلك المفازة الى بلد نسا فلقى هنالك رصدا من التتر فهزمهم ولجأ فلهم الى نسا وكان بها الأسير اختيار زنكي بن محمد بن
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 392: وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم فاحضروا وضربت رقابهم جرا، والناس ينظرون اليهم ويبكون.(5/136)
عمر بن حمزة قد رجع اليها من خوارزم كما قدّمناه وضبطها فاستلحم فل التتر وبلغ وبعث الى جلال الدين بالمدد فسار الى نيسابور ثم وصلت عساكر التتر الى خوارزم بعد ثلاث من مسير جلال الدين فأجفل أولاغ واخوته وساروا في اتباعه ومرّوا بنسا فسار معهم اختيار الدين صاحبها واتبعتهم عساكر التتر فأدركوهم بنواحي خراسان وكبسوهم فقتل أولاغ شاه وأخوه انشاه واستولى التتر على ما كان معهم من الأموال والذخائر وافترقت في أيدي الجند والفلاحين فبيعت بأبخس الأثمان ورجع اختيار الدين زنكي الى نسا فاستبدّ بها ولم يسم الى مراسم الملك وكتب له جلال الدين بولايتها فراجع أحوال الملك ثم بلغ الخبر الى جلال الدين بزحف التتر الى نيسابور وأنّ جنكزخان بالطالقان فسار الى نيسابور ومن نيسابور الى بست واتبعه نائب هراة أمير ملك ابن خال السلطان خوارزم شاه في عشرة آلاف فارس هاربا أمام التتر وقصد سجستان فامتنعت عليه فرجع واستدعاه جلال الدين فسار اليه واجتمعوا فكبسوا التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحموهم ولم يفلت منهم أحد فرجع جلال الدين الى غزنة وكانت قد استولى عليها اختيار الدين قربوشت صاحب الغور عند ما ساروا اليها عن جلال الدين صريخا عن أمس ملك سجستان فخالفه قربوشت اليها وملكها فثار به صلاح الدين النسائي والى قلعتها وقتله وملك غزنة، وكان بها رضا الملك شرف الدين بن أمور ففتك به رضا الملك واستبدّ بغزنة فلما ظفر جلال الدين بالتتر على قندهار رجع الى غزنة فقتله وأوطنها وذلك سنة ثمان عشرة.
استيلاء التتر على مدينة خوارزم وتخريبها
قد كنا قدّمنا أنّ جنكزخان بعد ما أجفل خوارزم شاه من جيحون بعث عساكره الى النواحي وبعث الى مدينة خوارزم عسكرا عظيما لعظمها لأنها كرسي الملك وموضع العساكر فسارت عساكر التتر اليها مع ابنه جنطاي واركطاي فحاصروها خمسة أشهر ونصبوا عليها الآلات فامتنعت فاستمدّوا عليها جنكزخان فأمدّهم بالعساكر متلاحقة فزحفوا اليها وملكوا جانبا منها وما زالوا يملكونها ناحية ناحية الى أن استوعبوها ثم فتحوا السدّ الّذي يمنع ماء جيحون عنها فسار اليها جيحون فغرّقها وانقسم أهلها بين السيف والغرق هكذا قال ابن الأثير وقال النسائي الكاتب انّ دوشي خان بن جنكزخان عرض عليهم الأمان فخرجوا اليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرّم سنة سبع عشرة ولما فرغ التتر من خراسان وخوارزم رجعوا الى ملكهم جنكزخان بالطالقان
.(5/137)
خبر آبنايخ نائب بخارى وتغلبه على خراسان ثم فراره أمام التتر الى الريّ
كان آبنايخ [1] أمير الأمراء والحجاب أيام خوارزم شاه وولاه ثانيا بخارى فلما ملكها التتر عليه كما قلناه أجفل الى المفازة وخرج منها الى نواحي نسا وراسله اختيار الدين صاحبها يعرضها عليه للدخول عنده فأبى فوصله وأمده وكان رئيس بشخوان من قرى نسا أبو الفتح فداخل التتر فكتب الى شحنة خوارزم بمكان آبنايخ فجرّد اليهم عسكرا فهزمه آبنايخ وأثخن فيهم وساروا الى بشخوان فحاصروها وملكوها عنوة وهلك أبو الفتح أيام الحصار ثم ارتحل آبنايخ الى أبيورد وقد تغلب تاج الدين عمر بن مسعود على أبيورد وما بينها وبين مرو فجبى خراجها واجتمع عليه جماعة من أكابر الأمراء وعاد الى نسا وقد توفى نائبها اختيار الدين زنكي وملك بعده ابن عمه عمدة الدين حمزة بن محمد بن حمزة فطلب منه آبنايخ خراج سنة ثمان عشرة وسار الى شروان وقد تغلب عليها ايكجي بهلوان فهزمه وانتزعها من يده ولحق بهلوان بجلال الدين في الهند واستولى آبنايخ خان على عامّة خراسان وكان تكين بن بهلوان متغلبا بمرو فعبر جيحون وكبس شحنة التتر ببخارى فهزموه سنة سبع ورجع الى شروان وهم باتباعه ولحقوا بآبنايخ خان على جرجان فهزموه ونجا الى غياث الدين يترشاه بن خوارزم شاه بالريّ فأقام عنده الى أن هلك كما نذكر ان شاء الله تعالى.
خبر ركن الدين غور شاه صاحب العراق من ولد خوارزم شاه
قد كان تقدّم لنا أنّ السلطان لما قسم ممالكه بين أولاده جعل العراق في قسمة غورشاه منهم ولما أجفل السلطان الى ناحية الريّ لقيه ابنه غورشاه ثم سار الى الريّ الى كرمان فملكها تسعة أشهر ثم بلغه أن جلال الدين محمد بن آبه القزويني وكان بهمذان أراد أن يملك العراق واجتمع اليه بعض الأمراء وأنّ مسعود بن صاعد قاضي أصبهان مائل اليه فعاجله ركن الدولة واستولى على أصبهان وهرب القاضي الى الاتابك سعد بن زنكي صاحب فارس فأجاره وبعث ركن الدين العساكر لقتال همذان فتخاذلوا ورجعوا دون قتال ثم مضى الى الريّ ووجد بها قوما من الإسماعيلية يحاولون إظهار دعوتهم ثم زحف التتر الى ركن الدولة فحاصروه بقلعة رواند واقتحموها فقاتلوه واستأمن اليهم ابن آبه صاحب همذان فأمنوه ودخلوا همذان فولوا عليها علاء الدين الشريف الحسيني عوضا من ابن آبه.
__________
[1] وفي مكان آخر: آبنانج.(5/138)
خبر غياث الدين ثير شاه صاحب كرمان من ولد السلطان خوارزم شاه
قد كنا قدّمنا أنّ السلطان خوارزم شاه ولى ابنه غياث الدين ثير شاه كرمان وكيش ولم ينفذ اليها أيام أبيه ولما كانت الكبسة على قزوين خلص الى قلعة ماروت من نواحي أصبهان وأقام عند صاحبها ثم رجع الى أصبهان ومرّ به التتر ذاهبين الى أذربيجان فحاصروه وامتنع عليهم وأقام بها الى آخر سنة عشرين وستمائة فلما جاء أخوه ركن الدين غور شاه من كرمان الى أصبهان لقيه هنالك وحرّضه غياث الدين على كرمان فنهض اليها وملكها فلما قتل ركن الدين كما قلناه سار غياث الدين الى العراق وكان ركن الدين لما ولاه أبوه العراق جعل معه الأمير بقاطابستي اتابكين [1] فاستبدّ عليه فشكاه الى أبيه وأذن له في حبسه فحبسه ركن الدين بقلعة سرجهان فلما قتل ركن الدين كما قلناه أطلقه نائب القلعة أسد الدين حولي فاجتمع عليه الناس وكثير من الأمراء واستماله غياث الدين وأصهر اليه بأخته وماطله في الزفاف يستبرئ ذهاب الوحشة بينهما وكانت أصبهان بعد مقتل ركن الدين غلب عليها أزبك خان واجتمعت عليه العساكر وزحف اليه الأمير بقاطابستي فاستنجد ازبك غياث الدين فانجده بعسكر مع الأمير دولة ملك وعاجله بقاطابستي فهزمه بظاهر أصبهان وقتله وملكها ورجع دولة ملك إلى غياث الدين فزحف غياث الدين إلى أصبهان وأطاعه القاضي والرئيس صدر الدين وبادر بقاطابستي الى طاعته ورضي عنه غياث الدين وزفّ اليه أخته واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخراسان وأقطع مازندان وأعمالها دولة ملك وبقاطابستي همذان وأعمالها ثم زحف غياث الدين الى آذربيجان وشنّ الغارة على مراغة وتردّدت رسل صاحب آذربيجان ازبك بن البهلوان في المهادنة فهادنه وتزوّج بأخته صاحب بقحوان وقويت شوكته وعظم فكان بقاطابستي في دولته وتحكم فيها ثم حدّثته نفسه بالاستبداد وانتقض وقصد آذربيجان وبها مملوكان منتقضان على ازبك بن البهلوان فاجتمعا معه وزحف اليهم غياث الدين فهزمهم ورجعوا مغلوبين الى آذربيجان ويقال انّ [2] الخليفة دسّ بذلك الى بقاطابستي وأغراه بالخلاف على غياث الدين ثم لحق بغياث الدين آبنايخ خان نائب بخارى مفلتا من واقعته مع التتر بجرجان فأكرمه وقدّمه ونافسه خال السلطان دولة ملك وأخوه وسعوا اليها فزجرهما عنه فذهبا مغاضبين ووقع
__________
[1] وفي بعض النسخ بقاطابستي اتابكا وفي الكامل ج 12 ص 415. ايغان طائسي
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 415: وقيل ان الخليفة الناصر لدين الله اقطعه البلاد سرا.(5/139)
دولة ملك في عساكر التتر بمرو وزنجان فقتل وهرب ابنه بركة خان الى ازبك بآذربيجان ثم أوقع عساكر التتر بقاطابستي وهزموه ونجا الى الكرم وخلص الفل الى غياث الدين وعاد التتر الى ما وراء جيحون ثم تذكر [1] صاحب فارس سعد الدين بن زنكي وكاتبته أهل أصبهان حين كانوا منهزمين عنه فسار اليه وحاصره في قلعة إصطخر وملكها ثم سار الى شيراز وملكها عليه عنوة ثم سار الى قلعة حرة فحاصرها حتى استأمنوا وتوفى عليها آبنايخ خان ودفن هنالك بشعب سلمان وبعث عسكرا الى كازرون فملكها عنوة واستباحها ثم سار الى ناحية بغداد وجمع الناس الجموع من اربل وبلاد الجزيرة ثم راسل غياث الدين في الصلح فصالحه ورجع الى العراق.
أخبار السلطان جلال الدين منكبرس وهزيمته أمام التتر ثم عوده الى الهند
قد كان تقدّم لنا أن أباه خوارزم شاه لما قسم البلاد بين ولديه جعل في قسمه غزنة وباميان والغور وبست وهكياباد وما يليها من الهند واستناب عليها أمير ملك وأنزله غزنة فلما انهزم السلطان خوارزم شاه أمام التتر زحف اليه حربوشة والي الغور فملكها من يده وكان من أمره ما قدّمناه الى أن استقرّ بها رضا الملك شرف الدين ولما أجفل جلال الدين من نيسابور الى غزنة واستولى التتر على بلاد خراسان وهرب أمراؤها فلحقوا بجلال الدين فقتل نائب هراة أمين الملك خال السلطان وقد قدّمنا محاصرته بسجستان ثم مراجعته طاعة السلطان جلال الدين ولحق به أيضا سيف الدين بقراق البلخي وأعظم ملك من بلخ ومظهر ملك والحسن فزحف كل منهم في ثلاثين ألفا ومع جلال الدين من عسكره مثلها فاجتمعوا وكبسوا التتر المملوكة محاصرين قلعة قندهار كما قلناه واستلحموهم ولحق فلهم بجنكزخان فبعث ابنه طولى خان في العساكر فساروا الى جلال الدين فلقيهم بشروان وهزمهم وقتل طولى خان بن جنكزخان في المعركة وذهب التتر منهزمين واختلف عسكر السلطان جلال الدين على الغنائم وتنازع سيف الدين بقراق مع أمين الملك نائب هراة وتحيز الى العراق وأعظم ملك ومظهر ملك وقاتلوا أمين الملك فقتل أخ لبقراق وانصرف مغاضبا الى الهند وتبعه أصحابه ولاطفهم جلال الدين ووعظهم فلم يرجعوا وبلغ خبر الهزيمة الى جنكزخان فسار في أمم التتر وسار
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 420: ففي آخر سنة عشرين وستمائة سار الى بلاد فارس، فلم يشعر صاحبها وهو أتابك سعد بن دكلا الا وقد وصل غيّاث الدين الى بلاده.(5/140)
جلال الدين فلقى مقدّمة عساكره فلم يفلت من التتر الا القليل ورجع فنزل على نهر السند وبعث بالصريخ الى الأمراء المنحرفين عنه وعاجله جنكزخان قبل رجوعه فهزمه بعد القتال والمصابرة ثلاثا وقتل أمين الملك قريب أبيه واعترض المنهزمين نهر السند فغرق أكثرهم وأسر ابن جلال الدين فقتل وهو ابن سبع سنين ولما وقف جلال الدين على النهر والتتر في اتباعه فقتل أهله وحرمه جميعا واقتحم النهر بفرسه فخلص الى عدوته وتخلص من عسكره ثلاثمائة فارس وأربعة آلاف راجل وبعض أمرائه ولقوة بعد ثلاث وتخلص بعض خواصه بمركب مشحون بالأقوات والملابس فسد من حاجتهم وتحصن أعظم ملك ببعض القلاع وحاصره جنكزخان وملكها عنوة وقتله ومن معه ثم عاد التتر الى غزنة فملكوها واستباحوها وأحرقوها وخربوها واكتسحوا سائر نواحيها وكان ذلك كله سنة تسع عشرة ولما سمع صاحب جبل جردي من بلاد الهند بجلال الدين جمع للقائه وخام جلال الدين وأصحابه عن اللقاء لما نهكتهم الحرب فرجعوا ادراجهم وأدركهم صاحب جلال الدين صوري فقاتلهم وهزموه وملكوا أمرهم وبعث اليهم نائب ملك الهند فلاطفهم وهاداهم والله تعالى وليّ التوفيق.
أخبار جلال الدين بالهند
كان جماعة من أصحاب جلال الدين وأهل عسكره لما عبروا اليهم حصلوا عند قباجة ملك الهند منهم بنت أمين الملك خلصت الى مدينة ارجاء من عمله ومنهم شمس الملك وزير جلال الدين حياة أبيه ومنهم قزل خان بن أمين الملك خلص الى مدينة كلور فقتله عاملها وقتل قباجة شمس الملك الوزير لخبر جلال الدين بأموره وبعث أمين الملك ولحق بجلال الدين جماعة من أمراء أخيه غياث الدين فقوى بهم وحاصر مدينة كلور وافتتحها وافتتح مدينة ترنوخ كذلك فجمع قباجة للقائه وسار اليه جلال الدين فخام عن اللقاء وهرب وترك معسكره فغنمه جلال الدين بما فيه وسار الى لهاوون [1] وفيها ابن قباجة ممتنعا عليه فصالحه على مال يحمله ورحل الى تستشان وبها فخر الدين السلاوي نائب قباجة فتلقاه بالطاعة ثم سار الى اوجا وحاصرها فصالحوه على المال ثم سار الى جانس وهي لشمس الدين اليتمشي من ملوك الهند ومن موالي شهاب الدين الغوري فأطاعه أهلها وأقام بها وزحف اليه ايتش في ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلاثمائة فيل وزحف جلال الدين في عساكره وفي مقدّمته جرجان بهلوان ازبك واختلفت المقدّمتان فلم يمكن اللقاء وبعث ايتش في الصلح
__________
[1] هي مدينة لاهور.(5/141)
فجنح اليه جلال الدين ثم اجتمع قباجة وايتش وسائر ملوك الهند فخام عن لقائهم ورجع لطلب العراق واستخلف جهان بهلوان الملك على ما ملك من الهند وعبر النهر الى غزنة فولى عليها وعلى الغور الأمير وفاملك واسمه الحسن فزلف وسار الى العراق وذلك سنة احدى وعشرين بعد مقدّمه لها بسنتين.
أحوال العراق وخراسان في ايالة غياث الدين
كان غياث الدين بعد مسير جلال الدين الى الهند اجتمع اليه شراد [2] العساكر بكرمان وسار بهم الى العراق فملك خراسان ومازندان كما تقدّم وأقام منهمكا في لذاته واستبدّ الأمراء بالنواحي فاستولى قائم الدين على نيسابور وتغلب يقز بن ايلجي بهلوان على شروان وتملك ينال خطا بهاتر ونظام الملك أسفراين ونصرة الدين بن محمد مستبدّ بنسا كما مرّ واستولى تاج الدين عمر بن مسعود التركماني على أبيورد وغياث الدين مع ذلك منهمك في لذاته وسارت اليه عساكر التتر فخرج لهم عن العراق الى بلاد الجبل واكتسحوا سائر جهاته واشتط عليه الجند وزادهم في الاقطاع والإحسان فلم يشبعهم وأظهروا الفساد وعاثوا في الرعايا وتحكمت أمّ السلطان غياث الدين في الدولة لاغفاله أمرها واقتفت طريقة تركمان خاتون أم السلطان خوارزم شاه وتلقبت بلقبها خداوند جهان الى أن جاء السلطان جلال الدين فغلب عليه كما قلناه.
وصول جلال الدين من الهند الى كرمان وأخباره بفارس والعراق مع أخيه غياث الدين
ولما فارق جلال الدين الهند كما قلناه سنة احدى وعشرين وسار الى المفازة وخلص منها الى كرمان بعد أن لقي بها من المتاعب والمشاق ما لا يعبر عنه وخرج معه أربعة آلاف راكب على الحمير والبقر ووجد بكرمان براق الحاجب نائب أخيه غياث الدين وكان من خبر براق هذا أنه كان حاجبا لكوخان ملك الخطا وسفر عنه الى خوارزم شاه فأقام عنده ثم ظفر خوارزم شاه بالخطا وولاه حجابته ثم صار الى خدمة ابنه غياث الدين ترشه بمكران فأكرمه ولما سار جلال الدين الى الهند ورجع عنه التتر سار غياث الدين لطلب العراق فاستناب براق في
__________
[2] والصحيح: شرد جمع شرود، أو شرد جمع شارد. اي الخارج عن الطاعة.(5/142)
كرمان فلما جاء جلال الدين من الهند اتهمه وهمّ بالقبض عليه فنهاه عن ذلك وزيره شرف الملك فخر الدين علي بن أبي القاسم الجندي خواجا جهان أن يستوحش الناس لذلك ثم سار جلال الدين الى شيراز وأطاعه صاحبها برد الاتابك وأهدى له وكان أتابك فارس سعد بن زنكي قد استوحش من غياث الدين فاصطلحه جلال الدين وأصهر اليه في ابنته ثم سار الى أصبهان فأطاعه القاضي ركن الدين مسعود يستعطفه وأهدى له سلب طولي خان بن جنكزخان الّذي قتل في حرب بزوان كما مرّ وفرسه وسيفه ودس الى الأمراء الذين معه بالاستمالة فمالوا اليه ووعدوه بالمظاهرة ونمى الخبر الى غياث الدين فقبض على بعضهم ولحق الآخرون بجلال الدين فجاءوا به الى المخيم فمال اليه أصحاب غياث الدين وعساكره واستولى على مخيمه وذخائره وأمه ولحق غياث الدين بقلعة سلوقان وعاتب جلال الدين أمه في فراره فاستدعته وأصلحت بينهما ووقف غياث الدين موقف الخدمة لأخيه السلطان جلال الدين وجاء المتغلبون بخراسان والعراق وأذعنوا الى الطاعة وكانوا من قبل مستبدين على غياث الدين فاختبر السلطان طاعتهم وعمل فيها على شاكلتها والله أعلم.
استيلاء ابن آبنايخ على نسا
كان نصرة الدين بن محمد قد استولى على نسا بعد ابن عمه اختيار الدين كما مرّ واستناب في أموره محمد بن أحمد النسائي المنشي صاحب التاريخ المعتمد عليه في نقل أخبار خوارزم شاه وبنيه فأقام فيها تسع عشرة سنة مستندا على غياث الدين ثم انتقض عليه وقطع الخطبة له فسرّح اليه غياث الدين العساكر مع طوطي بن آبنايخ وأنجده بأرسلان وكاتب المتغلبين بمساعدته فراجع نصرة الدين محمد بن حمزة نفسه وبعث نائبة محمد بن أحمد المنشي الى غياث الدين بمال صالحه عليه فبلغه الخبر في طريقه بوصول جلال الدين واستيلائه على غياث الدين فأقام بأصبهان ينتظر صلاح السابلة وزوال الثلج ثم سار الى همذان فوجد السلطان غائبا في غزو الاتابك بقطابستي وكان من خبره أنه صهر الى غياث الدين على أخته كما قدّمنا فهرب بعد خلعه الى آذربيجان واتفق هو والاتابك سعد وسار اليهما جلال الدين فخالفه الأمير ايغان طائسي الى همذان وسار الى جلال الدين وكبسه هنالك فأخذه ثم أمنه وعاد الى مخيمه ولقيه وافد نصرة الدين على بلاد نسا وما يتاخمها وبعث الى ابن آبنايخ بالافراج عن نسا ثم بلغ الخبر بعد يومين بهلاك نصرة الدين واستيلاء ابن آبنايخ على نسا.(5/143)
مسير السلطان جلال الدين الى خوزستان ونواحي بغداد
ولما استولى السلطان جلال الدين على أخيه غياث الدين واستقامت أموره سار الى خوزستان شاتيا وحاصر قاعدتها مظفر الدين وجه السبع مولى الخليفة الناصر وانتهت سراياه في الجهات الى بادرايا والى البصرة فأوقع بهم تلكين [1] نائب البصرة وجاءت عساكر الناصر مع مولاه جلال الدين قشتمر وخاموا عن اللقاء وأوفد ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود السوي العارض على الخليفة ببغداد عاتبا وكان في مقدّمته جهان بهلوان فلقي في طريقه جمعا من العرب وعساكر الخليفة فرجع وأوقع بهم ورجعوا الى بغداد وجيء بأسرى منهم الى السلطان فأطلقهم واستعدّ أهل بغداد للحصار وسار السلطان الى يعقوبا على سبع فراسخ من بغداد ثم الى دقوقا فملكها عنوة وخربها وقاتلت بعوثه عسكر تكريت وتردّدت الرسل بينه وبين مظفر الدين صاحب اربل حتى اصطلحوا واضطربت البلد بسبب ذلك وأفسد العرب السابلة وأقام ضياء الملك ببغداد الى أن ملك السلطان مراغة والله تعالى أعلم.
أولية الوزير شرف الدين
هذا الوزير هو فخر الدين علي بن القاسم خواجه جهان ويلقب شرف الملك أصله من أصفهان وكان أوّل أمره ينوب عن صاحب الديوان بها وكان نحيب الدين الشهرستاني وزير السلطان وابنه بهاء الملك وزير الجند وفخر الدين هذا يخدمه بها ثم تمكن من منصب الإفتاء وطمح الى مغالبة نجيب الدين على الوزارة وسعى عند السلطان بأنه تناول من جبايتها مائتي ألف دينار فسامحه بها السلطان ولم يعرض له ثم سعى بفخر الدين ثانية فولى وزارة الجند وأقام بها أربع سنين حتى عبر السلطان الى بخارى فكثرت به الشكايات فأمر بالقبض عليه فاختفى ولحق بالطالقان الى أن اتصل بجلال الدين حين كان بغزنة بعد مهلك ابنه فرتبه في الحجابة الى أن أجاز بحر السند وكان وزيره شهاب الدين الهروي فقتله قباجة ملك الهند كما مرّ واستوزر جلال الدين مكانة فخر الدين هذا ولقبه شرف الملك ورفع رتبته على الوزراء وموقفه وسائر آدابه وأحواله.
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 426: شحنة البصرة الأمير ملتكين(5/144)
عود التتر الى الريّ وهمذان وبلاد الجبل
وبعد رجوع التتر المغربة من أذربيجان وبلاد قفجاق وسروان كما قدّمناه وخراسان يومئذ فوضى ليس بها ولاة الا متغلبون من بعض أهلها بعد الخراب الأوّل والنهب فعمروها فبعث جنكزخان عسكرا آخر من التتر اليها فنهبوها ثانيا وخربوها وفعلوا في ساوة وقاشان وقم مثل ذلك ولم يكن التتر أوّلا أصابوا منها ثم ساروا الى همذان فاجفل أهلها وأوسعوها نهبا وتخريبا وساروا في اتباع أهلها الى أذربيجان وكبسوهم في حدودها فأجفلوا وبعضهم قصد تبريز فسار التتر في اتباعهم وراسلوا صاحبها ازبك بن البلهوان في إسلام من عنده فبعث بهم بعد ان قتل جماعة منهم وبعث برءوسهم وصانعهم بما أرضاهم فرجعوا عن بلاده والله تعالى أعلم.
وقائع أذربيجان قبل مسير جلال الدين اليها
لما رجع التتر من بلاد قفجاق والروس وكانت طائفة من قفجاق لما افترقوا وفروا أمام التتر ساروا الى درنبر شروان واسم ملكه يومئذ رشيد وسألوه المقام في بلاده وأعطوه الرهن على الطاعة فلم يجبهم ريبة بهم فسألوه الميرة فأذن لهم فيها فكانوا يأتون اليها زرافات وتنصح له بعضهم بأنهم يرومون الغدر به وطلب منه الانجاد بعسكره وسار في أثرهم فأوقع بهم وهم باخلون بالطاعة فرجع ذلك القفجاقي بالعسكر ثم بلغه انهم رحلوا من مواضعهم فاتبعهم ثانيا بالعساكر حتى أوقع بهم ورجع الى رشيد ومعه جماعة منهم مستأمنين وقد اختفى فيهم كبير من مقدميهم وتلاحق به جماعة منهم فاعتزموا على الوثوب فهرب خائفا ولحق ببلاد شروان واستولت طائفة القفجاق على القلعة وعلى مخلف رشيد فيها من المال والسلاح واستدعوا أصحابهم فلحقوا بهم واعتزموا وقصدوا قلعة الكرج فحاصروها وخالفهم رشيد الى القلعة فملكها وقتل من وجد بها منهم فعادوا من حصار تلك المدينة الى درنبر وامتنعت عليهم القلعة فرجعوا الى تلك المدينة فاكتسحوا نواحيها وساروا الى كنجة من بلاد ارّان وفيها مولى لازبك صاحب أذربيجان فراسلوه بطاعة ازبك فلم يجبهم اليها وعدد عليهم ما بدر منهم في الغدر ونهب البلاد واعتذروا بأنهم انما غدروا شروان لانه منعهم الجواز الى صاحب أذربيجان وعرضوا عليه الرهن فجاءهم بنفسه ولقوة في عدد قليل فعدا عن محال التهمة فبعث بطاعتهم الى سلطانه وبعث بذلك الى أزبك وجاء بهم الى كنجة فأفاض فيهم الخلع والأموال وأصهر اليهم وأنزلهم بجبل كيكلون وجمع لهم الكرج فآواهم الى كنجة ثم(5/145)
سار اليهم أمير من أمراء قفجاق ونال منهم فرجعوا الى جبل كيكلون وسار القفجاق الذين كبسوهم الى بلاد الكرج فاكتسحوها وعادوا فاتبعهم الكرج واستنقذوا الغنائم منهم وقتلوا ونهبوا فرحل القفجاق الى بردعة وبعثوا الى أمير كنجة في المدد على الكرج فلم يحبهم فطلبوا رهنهم فلم يعطهم فمدّوا أيديهم في المسلمين واسترهنوا أضعاف رهنهم وثار بهم المسلمون من كلّ جانب فلحقوا بشروان وتخطفهم المسلمون والكرج وغيرهم فافنوهم وبيع سبيهم وأسراهم بأبخس ثمن وذلك كله سنة تسع عشرة وكانت مدينة فيلقان من بلاد ارّان فأخر بها التتر كما قدّمناه وساروا عنها الى بلاد قفجاق فعاد اليها أهلها وعمروها وسار الكرج في رمضان من هذه السنة اليها فملكوها وقتلوا أهلها وخربوها واستفحل الكرج ثم كانت بينهم وبين صاحب خلاط غازي بن العادل بن أيوب واقعة هزمهم فيها وأثخن فيهم كما يأتي في دولة بني أيوب ثم انتقض على شروان شاه ابنه وملك البلاد من يده فسار الى الكرج واستصرخ بهم وساروا معه فبرز ابنه اليهم فهزمهم واثخن فيهم فتشاءم الكرج بشروان شاه فطردوه عن بلادهم واستقر ابنه في الملك واغتبط النّاس بولايته وذلك سنة اثنتين وعشرين ثم سار الكرج من تفليس الى أذربيجان وأتوها من الاوعار والمضايق يظنون صعوبتها على المسلمين فسار المسلمون وولجوا المضايق اليهم فركب بعضهم بعضا منهزمين ونال المسلمون منهم أعظم النيل وبينما هم يتجهزون لاخذهم الثأر من المسلمين وصلهم الخبر بوصول جلال الدين الى مراغة فرجعوا الى مراسلة ازبك صاحب أذربيجان في الاتفاق على مدافعته وعاجلهم جلال الدين عن ذلك كما نذكره ان شاء الله تعالى.
استيلاء جلال الدين على أذربيجان وغزو الكرج
قد تقدّم لنا مسير جلال الدين في نواحي بغداد وما ملك منها وما وقع بينه وبين صاحب اربل من الموافقة والصلح ولما فرغ من ذلك سار الى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين وقصد مراغة أوّلا فملكها وأقام بها وأخذ في عمارتها وكان بغان طابش [1] حال أخيه غياث الدين مقيما بأذربيجان كما مرّ فجمع عساكره ونهب البلد وسار الى ساحل ارّان فشتى هنالك ولما عاث جلال الدين في نواحي بغداد كما قدّمناه بعث الخليفة الناصر الى بغان طابش وأغراه بجلال الدين وأمره بقصد همذان واقطعه أياما وما يفتحه من البلاد فعاجله جلال الدين وصبحه بنواحي همذان على غرة وعاين الجند فسقط في يده وأرسل زوجته أخت
__________
[1] ورد اسمه في الكامل: ايغان طائسي.(5/146)
السلطان جلال الدين فاستأمنته له فآمنه وجرد العساكر عنه وعاد الى مراغة وكان ازبك بن البهلوان قد فارق تبريز كرسي ملكه الى كنجة فأرسل جلال الدين الى أهل تبريز يأمرهم بميرة عسكره فأجابوا الى ذلك وتردّدت عساكره اليها فتجمع الناس وشكا أهل تبريز الى جلال الدين ذلك فأرسل اليهم شحنة يقيم عندهم للنصفة بين الناس وكانت زوجة ازبك بنت السلطان طغرلبك بن ارسلان وقد تقدّم ذكرها في أخبار سلفها مقيمة بتبريز حاكمة في دولة زوجها ازبك ثم ضجر أهل تبريز من الشحنة فسار جلال الدين اليها وحاصرها خمسا واشتدّ القتال وعابهم بما كان من إسلام أصحابه الى التتر فاعتذروا بأنّ الأمر في ذلك لغيرهم والذنب لهم ثم استأمنوا فآمنهم وأمر ببنت السلطان طغرل وأبقى لها مدينة طغرل الى خوي كما كانت وجمع ما كان لها من المال والاقطاع وملك تبريز منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وبعث بنت السلطان طغرل الى خوي مع خادميه فليح وهلال وولى على تبريز ربيبها نظام الدين ابن أخي شمس الدين الطغرائي وكان هو الّذي داخله في فتحها وأفاض العدل في أهلها وأوصلهم اليها وبالغ في الإحسان اليهم ثم بلغه آثار الكرج في أذربيجان وارّان وأرمينية ودرنبر شروان وما فعلوه بالمسلمين فاعتزم على غزوهم وبلغه اجتماعهم برون فسار اليهم وعلى مقدّمته جهان بهلوان الكعبي فلما تراءى الجمعان وكان الكرج على جبل لم يستهلوه فتسنمت اليهم العساكر الاوعار فانهزموا وقتل منهم أربعة آلاف أو يزيدون وأسر بعض ملوكهم واعتصم ملك آخر منهم ببعض قلاعهم فجهز جلال الدين عليها عسكرا لحصارها وبعث عساكره في البلاد فعاثوا فيها واستباحوها.
فتح السلطان مدينة كنجة ونكاحه زوجة ازبك
لما فرغ السلطان من أمر الكرج واستولى على بلادهم وكان قد ترك وزيره شرف الدين بتبريز للنظر في المسالح وولىّ عليها نظام الملك الطغرائي فقصد الوزير به وكتب الى السلطان بأنه وعمه شمس الدين داخلوا أهل البلد في الانتقاض واعادة ازبك لشغل السلطان بالكرج فلما بلغ ذلك الى السلطان أسرّه حتى فرغ من أمر الكرج وترك أخاه غياث الدين نائبا على ما ملك منها وآمره بتدويخ بلادهم وتخريبها وعاد الى تبريز فقبض على نظام الملك الطغرائي وأصحابه فقتلهم وصادر شمس الدين على مائة ألف وحبسه بمراغة ففرّ منها الى ازبك ثم لحق ببغداد وحج سنة خمس وعشرين وبلغ السلطان تنصله في المطاف ودعاؤه على نفسه أن كان فعل شيئا من ذلك فأعاده الى تبريز ورد عليه أملاكه ثم بعثت اليه زوجة ازبك في(5/147)
الخطبة وأنّ ازبك حنث فيها بالطلاق فحكم قاضي تبريز عزّ الدين القزويني بحلها للنكاح فتزوّجها السلطان جلال الدين وسار اليها فدخل في خوي ومات ازبك لما لحقه من الغمّ بذلك ثم عاد السلطان الى تبريز فأقام بها مدّة ثم بعث العساكر مع ارخان الى كنجة من أعمال نقجوان وكان بها ازبك ففارقها وترك بها جلال الدين القمي نائبا فملكها عليه ارخان واستولى على أعمالها مثل وشمكور وبردعة وشنة وانطلقت أيدي عساكره في النهب فشكا ازبك الى جلال الدين فكتب الى ارخان بالمنع من ذلك وكان مع ارخان نائب الوزير الى السلطان فعزل ارخان وذهب مغاضبا الى أن قتلته الإسماعيلية وفي آخر رمضان من سنة اثنتين وعشرين توفي الخليفة الناصر لسبع وأربعين سنة من خلافته واستخلف بعده ابنه الظاهر أبو نصر محمد بعهده اليه بذلك كما مرّ في أخبار الخلفاء.
استيلاء جلال الدين على تفليس من الكرج بعد هزيمته إياهم
كان هؤلاء الكرج اخوة الأرمن وقد تقدّم نسبة الأرمن الى إبراهيم عليه السلام وكان لهم استطالة بعد الدولة السلجوقية وكانوا من أهل دين النصرانية فكان صاحب أرمن الروم يخشاهم ويدين لهم بعض الشيء حتى ان ملك الكرج كان يخلع عليه فيلبس خلعته وكان شروان صاحب الدربند يخشاهم وكذلك ملكوا مدينة أرجيش من بلاد ارمينية ومدينة فارس وغيرها وحاصروا مدينة خلاط قاعدتها فأسر بها مقدّمهم ايواي وفادوه بالرحيل عنهم بعد ان اشترطوا عليه متابعته لهم في قلعة خلاط فبنوها وكذلك هزموا ركن الدولة فليحا ارسلان صاحب بلاد الروم لما زحف لأخيه طغرل شاه بارزن الروم استنجدهم طغرل فأنجدوه وحزموا ركن الدين أعظم ما كان ملكا واستفحالا وكانوا يجوسون خلال أذربيجان ويعيثون في نواحيها وكان ثغر تفليس من أعظم الثغور طرزا على من يجاوره منذ عهد الفرس وملكه الكرج سنة خمس عشرة وخمسمائة أيام محمود بن ملك شاه ودولة السلجوقية يومئذ أفحل ما كانت وأوسع ايالة وأعمالا فلم يطق ارتجاعه من أيديهم واستولى ايلدكز بعد ذلك وابنه البهلوان على بلاد الجبل والريّ وأذربيجان وأران وارمينية وخلاط وجاورهم بكرسيه ومع ذلك لم يطلق ارتجاعه منهم فلما جاء السلطان جلال الدين الى أذربيجان وملكها زحف الى الكرج وهزمهم سنة اثنتين وعشرين وعاد الى تبريز في مهمه كما قدّمناه فلما فرغ من مهمه ذلك وكان قد ترك العساكر ببلاد الكرج مع أخيه غياث الدين ووزيره شرف الدين فأغذ(5/148)
السير اليه غازيا من تبريز وقد جمع الكرج واحتشدوا وأمدّهم القفجاق واللكز وساروا للقاء فلما التقى الفريقان انهزم الكرج وأخذتهم سيوف المسلمين من كلّ جانب ولم يبقوا على أحد حتى استلحموهم وافنوهم ثم قصد جلال الدين تفليس في ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين ونزل قريبا منها وركب يوما لاستكشاف أموالها وترتيب مقاعد القتال عليها وأكمن الكمائن حولها واطلع عليهم في خف من العسكر فطمعوا فيه وخرجوا فاستطرد لهم حتى تورطوا والتفت عليهم الكمائن فهربوا الى البلد والقوم في اتباعهم ونادى المسلمون من داخلها بشعار الإسلام وهتفوا باسم جلال الدين فالقى الكرج بأيديهم وملك المسلمون البلد وقتلوا كل من فيها الا من اعتصم بالإسلام واستباحوا البلد وامتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى والسبايا وكان ذلك من أعظم الفتوحات هذه سياقة ابن الأثير في فتح تفليس وقال النسائي الكاتب أنّ السلطان جلال الدين سار نحو الكرج فلما وصل نهر أرس مرض واشتد الثلج ومر بتفليس فبرز أهلها للقتال فهزمهم العساكر وأعجلوهم عن دخولها فملكوها واستباحوها وقتلوا من كان فيها من الكرج والأرمن واعتصم أهلها بالقلعة حتى صالحوا على أموال عظيمة فحملوها وتركوهم.
انتقاض صاحب كرمان ومسير السلطان اليه
ولما اشتغل السلطان جلال الدين بشأن الكرج وتفليس طمع براق الحاجب في الانتقاض بكرمان والاستيلاء على البلاد وقد كنا قدمنا خبره وان غياث الدين استخلفه على كرمان عند مسيره الى العراق وان جلال الدين لما رجع من الهند ارتاب به وهم بالقبض عليه ثم تركه وأقره على كرمان فلما انتقض الآن وبلغ خبره الى السلطان وهو معتزم على قصد خلاط فتركها وأغذ السير اليه واستصحب أخاه غياث الدين ووعده بكرمان وترك مخلفه بكيكلون وترك وزيره شرف الدين بتفليس وأمره باكتساح بلاد الكرج وقدّم الى صاحب كرمان بالخلع والمقاربة والوعد فارتاب بذلك ولم يطمئن وقصد بعض قلاعه فاعتصم بها ورجع الرسول الى جلال الدين فلما علم أن المكيدة لم تتم عليه أقام بأصبهان وبعث اليه وأقره على ولايته وعاد وكان الوزير شرف الدين بتفليس كما قلناه وضاق الحل به من الكرج وأرجف عند الأمراء بكيكلون أنّ الكرج حاصروه بتفليس فسار ارخان منهم في العساكر الى تفليس ثم وصل البشير من نقجوان برجوع السلطان من العراق فأعطاه الوزير أربعة آلاف دينار ثم افترقت العساكر في بلاد الكرج وبها ايواني مقدّمهم مع بعض أعيانهم وبعث عسكرا آخر(5/149)
الى مدينة فرس واشتدّ عليها الحصار ثم جمر العساكر عليها وعاد الى تفليس.
مسير جلال الدين الى حصار خلاط
كانت خلاط في ولاية الأشرف بن العادل بن أيوب وكان نائبة بها حسام الدين علي الموصلي وكان الوزير شرف الدين حين أقام بتفليس عند مسير جلال الدين الى كرمان ضاقت على عساكره الميرة فبعث عسكرا منهم الى أعمال أرزن الروم فاكتسحوا نواحيها ورجعوا فمروا بخلاط فخرج نائبها حسام الدين واعترضهم واستنقذ ما معهم من الغنائم وكتب الوزير شرف الدين بذلك الى جلال الدين وهو بكرمان فلما عاد جلال الدين من كرمان وحاصر مدينة اني استقر حسام الدين نائب خلاط للامتناع منه فارتحل هو الى بلاد انحاز ليأتيه على غرة ورحل جلال الدين من انحاز فسار الى خلاط وحاصر مدينة ملاذ كرد في ذي القعدة من السنة وانتقل منها الى مدينة خلاط وحاصرها وضيق مخنقها وقاتلها مرارا واشتدّ أهل البلد في مدافعته لما يعملون من سيرة الخوارزمية الالوائية وكانوا متغلبين على الكثير من بسائط ارمينية وأذربيجان فبلغه أنهم أفسدوا البلاد وقطعوا السابلة وأخذوا الضريبة من أهل خوي وخربوا سائر النواحي وكتب اليه بذلك نوابه وبنت السلطان طغرل زوجته فلما رحل عن خلاط قصدهم على غرّة قبل أن يصعدوا الى حصونهم بجبالهم الشاهقة فأحاطت بهم العساكر واستباحوهم واقتسموهم بين القتل والغنيمة وعاد الى تبريز.
دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقها
ولما عاد السلطان من خلاط وغزو التركمان فرق عساكره للمشتى وكان الأمراء أساءوا السيرة الى تفليس وهرب العسكر الذين بها واستلحموا بقيتهم وخربوا البلاد وحرقوها لعجزهم عن حمايتها من جلال الدين وذلك في ربيع سنة أربع وعشرين وستمائة وعند النسائي الكاتب أن استيلاء الفرنج على تفليس وإحراقهم إياها كان والسلطان جلال الدين على خلاط وانه لما بلغه ذلك رجع وأغار على التركمان في طريقه لما بلغه من افسادهم فنهب أموالهم وساق مواشيهم الى موقان وكان خمسها ثلاثين ألفا ثم سار الى خوي لملاقاة بنت طغرل ثم سار الى كنجة فبلغه الخبر بانصراف الكرج على تفليس بعد إحراقها قال ولما وصل كنجة قدم عليه هنالك خاموش بن الاتابك ازبك بن البهلوان مؤدّيا منطقة بلخش قدر الكف مصنوعا عليه منقوشا اسم كيكاوس وجماعة من ملوك الفرس فغير السلطان صناعتها ونقشها على اسمه(5/150)
وكان يلبس تلك المنطقة في الأعياد وأخذها التتر يوم كبسوه وحملت الى الخان الأعظم ابن جنكزخان بقراقرم وأقام خاموش في خدمة السلطان الى أن صرعة الفقر ولحق بعلاء الملك ملك الإسماعيلية فتوفي عنده انتهى كلام النسائي.
أخبار السلطان جلال الدين مع الإسماعيلية
كان السلطان جلال الدين بعد وصوله من الهند ولى ارخان على نيسابور وأعمالها وكان وعده بذلك بالهند فاستخلف عليها وأقام مع السلطان وكان نائبة بها يتعرّض لبلاد الإسماعيلية المتاخمة له بهستان وغيرها بالنهب والقتل فأوفدوا على السلطان وهو بخوي وقد أمنهم يشكون من نائب ارخان وأساء عليهم ارخان في المجاورة ولما عاد السلطان الى كنجة وكان قد أقطعها وأعمالها لارخان فلما خيم بظاهرها وثب ثلاثة من الباطنية ويسمون الفداوية لانهم يقتلون من أمرهم أميرهم بقتله ويأخذون فديتهم منه وقد فرغوا عن أنفسهم فوثبوا به فقتلوه وقتلتهم العامة وكانت الإسماعيلية قد استولوا على الدامغان أيام الفتنة ووصل رسولهم بعد هذه الواقعة الى السلطان وهو ببيلقان فطالبهم بالنزول على الدامغان فطلبوا ضمانها بثلاثين ألف دينار وقرّرت عليهم وكان الرسول الوافد في خدمة الوزير وهم راجعون الى أذربيجان فاستخفه الطرب ليلة وأحضر له خمسة من الفداوية معه بالعسكر وبلغ خبرهم السلطان فأمره بإحراقهم انتهى كلام النسائي وقال ابن الأثير أنّ السلطان بعد مقتل ارخان سار في العساكر الى بلاد الإسماعيلية من الموت الى كردكوه فاكتسحها وخرّبها وانتقم منهم وكانوا بعد واقعته قد طمعوا في بلاد الإسلام فكف عاديتهم وقطع اطماعهم وعاد فبلغه أنّ طائفة من التتر بلغوا الدامغان قريبا من الريّ فسار اليهم وهزمهم وأثخن فيهم ثم جاء الخبر بأن جموع التتر متلاحقة لحربه فأقام في انتظارهم في الريّ انتهى.
استيلاء حسام الدين نائب خلاط على مدينة خوى
قد تقدّم لنا أن بنت السلطان طغرل زوجة ازبك بن البهلوان لما ملك السلطان جلال الدين تبريز من يدها أقطعها مدينة خوى ثم تزوّجها بعد ذلك كما قدّمناه وتركها لما هو فيه من أشغال ملكه فوجدت لذلك ما فقدته من العز والتحكم قال النسائي الكاتب وأضاف لها السلطان مدينتي سلماس وارمينية وعين رجلا لقبض أقطاعها فتنكر لها وأغرى بها الوزير فكاتب السلطان بأنها تداخل الاتابك ازبك وتكاتبه ثم وصل الوزير الى خوى فنزل بدارها(5/151)
واستصفى وكانت مقيمة بقلعة طلع فحاصرها وسألت المضي الى السلطان فأبى الا نزولها على حكمه انتهى وكان أهل خوى مع ذلك قد ضجروا من ملكة جلال الدين وجوره وتسلط عساكره فاتفقت الملكة معهم وكاتبوا حسام الدين الحاجب النائب عن الأشرف بخلاط فسار اليهم في مغيب السلطان جلال الدين بالعراق واستولى على مدينة خوى وأعمالها وما يحاورها من الحصون وكاتبه أهل نقجوان وسلموها له وعاد الى خلاط واحتمل الملكة بنت طغرل زوجة جلال الدين الى خلاط الى أن كان ما نذكره.
واقعة السلطان مع التتر على أصبهان
ثم بلغ الخبر الى السلطان بأنّ التتر زحفوا من بلادهم فيما وراء النهر الى العراق فسار من تبريز للقائهم وجرد أربعة آلاف فارس الى الريّ والدامغان طليعة فرجعوا وأخبروه بوصولهم الى أصبهان فنهض للقائهم واستخلف العساكر على الاستماتة وأمر القاضي بأصبهان باستنفار العامّة وبعث التتر عسكرا الى الريّ فبعث السلطان عسكرا لاعتراضهم فأوقعوا بالتتر فنالوا منهم ثم التقي الفريقان في رمضان سنة خمس وعشرين لرابعة وصولهم الى أصبهان وانتقض عنه أخوه غياث الدين وجهان بهلوان الكجي في طائفة من العسكر وانهزمت مسيرة التتر والسلطان في اتباعهم وكانوا قد أكمنوا له فخرجوا من ورائه وثبت واستشهد جماعة من الأمراء وأسر آخرون وفيهم علاء الدولة صاحب يزد ثم صدق السلطان عليهم الحملة فأفرجوا له وسار على وجهه وانهزمت العساكر فبلغوا فارس وكرمان ورجعت ميمنة السلطان من قاشان فوجدوه قد انهزم فتفرّقوا أشتاتا وفقد السلطان ثمانية من فرقه وكان بقاطابستي مقيما بأصبهان فاعتزم أهل أصبهان على بيعته ثم وصل السلطان فاقصروا عن ذلك وتراجع بعض العسكر وسار السلطان فيهم الى الريّ وكان التتر قد حاصروا أصبهان بعد الهزيمة فلما وصل السلطان خرج معه أهل أصبهان فقاتلوا التتر وهزموهم وسار السلطان في اتباعهم الى الريّ وبعث العساكر وراءهم الى خراسان وعند ابن الأثير أن صاحب بلاد فارس وهو ابن الاتابك سعد الّذي ملك بعد أبيه حضر مع السلطان في هذه الواقعة وأنّ التتر انهزموا أوّلا فاتبعهم صاحب فارس حتى إذا أبعدوا انفرد عن العسكر ورجع عنهم فوجد جلال الدين قد انهزم لانحراف أخيه غياث الدين وأمرائه عنه ومضى الى شهرم تلك الأيام ثم عاد الى أصبهان كما ذكرناه
.(5/152)
الوحشة بين السلطان جلال الدين وأخيه غياث الدين
كان ابتداؤها أنّ الحسن بن حرميل نائب الغوية بهراة لما قتلته عساكر خوارزم شاه محمد بن تكش وحاصروا وزيره الممتنع بها حتى اقتحموها عليه عنوة وقتلوه، هرب محمد بن الحسن بن حرميل الى بلاد الهند فلما سار السلطان جلال الدين وحظي لديه وأقامه شحنة بأصبهان فلما سار السلطان الى أصبهان للقاء التتر انحرف جماعة من غلمان غياث الدين عنه فصاروا الى نصرة الدين بن حرميل واسترجعهم منه غياث الدين في بيته وطعنه فأشواه ومات لليال وأحفظ ذلك السلطان وأقام غياث الدين مستوحشا فلما كان يوم اللقاء انحرف عن أخيه ولحق بخوزستان وخاطب الخليفة فبعث اليه بثلاثين ألف دينار وسار من هنالك الى قلعة الموت عند صلاح الدين شيخ الإسماعيلية فلما رجع السلطان من وقعة التتر الى الريّ سار الى قلعة الموت وحاصرها فاستأمن علاء الدين الى السلطان لغياث الدين فأمنه وبعث من يأتيه به فامتنع غياث الدين وفارق القلعة واعترضه عساكر السلطان بنواحي همذان وأوقعوا به وأسروا جماعة من أصحابه ونجا الى براق الحاجب بكرمان فتزوّج بأمّه كرها ونمي اليه أنها تحاول سمه فقتلها وقتل معها جهان بهلوان الكجي وحبس غياث الدين ببعض القلاع ثم قتله بمحبسه ويقال بل هرب من محبسه ولحق بأصبهان وقتل بأمر السلطان قال النسائي وقفت على كتاب براق الحاجب الى الوزير شرف الملك والسلطان بتبريز وهو يعدّد سوابقه فعد منها قتله أعدى عدوّ السلطان والله تعالى ولىّ التوفيق.
انتقاض البهلوانية
لما ارتحل السلطان والوزير شرف الملك معه وانتهى الى همذان بلغه أنّ الأمراء البهلوانية اجتمعوا بظاهر تبريز يرومون الانتقاض واتبعه خاموش بن الاتابك ازبك من قلعة قوطور وكان مقيما بها فرجع السلطان اليهم وقدّم بين يديه الوزير شرف الملك فلقيهم قريبا من تبريز وهزمهم وقبض على الذين تولوا أكبر الفتنة منهم ودخل تبريز قصبتهم وقبض على القاضي المعزول فصادمه قوام الدين الحرادي ابن أخت الطغرائي وصادره وسار السلطان للقاء التتر وأقام الوزير نائبا للبلاد.(5/153)
إيقاع نائب خلاط بالوزير
ولما كان ما ذكرناه من مسير حسام الدين نائب خلاط الى أذربيجان واحتماله زوجة السلطان جلال الدين إلى خلاط امتعض الوزير لذلك فسار الى موقان من بلاد أران وجمع التركمان وفرّق العمال للجباية وطلب الحمل من شروان شاه وهو خمسون ألف دينار فتوقف وأغار على بلاده فلم يظفر بشيء ورجع إلى أذربيجان وكانت بنت الأتابك بهلوان في بقجان فارقها مولانا ايدغمش وجاء الى الوزير فأطمعه فيها وصار الوزير مضمرا الغدر بها وامتنعت عليه ونزل بالمرج فأكرمته وقربته ورحل الى حورس من أعمالها وكانت للأشرف صاحب خلاط أيام أزبك فانتشرت أيدي العسكر في تلك الضياع وقاتلها الوزير وجاء الحاجب صاحب خلاط في عساكره فانهزم الوزير ترك أثقاله وذلك سنة أربع وعشرين وكان مع الحاجب فخر الدين سام صاحب حلب وهشام الدين خضر صاحب تبريز برم وكان الوزير [1] وتكاليفه فظهر الآن بمخلفه وخلص الوزير الى أران وسار الحاجب على في اتباعه ثم عاد الى تبريز ومرّ بخوي فنهبها ثم سار الى بقجان فملكها ثم الى تدمر كذلك وأقام الوزير بتبريز وكان بها الاتابك ازبك متنسكا منعه أهل تبريز من الدخول وحملوا اليه النفقة ثم جاء الخبر برجوع السلطان الى أصبهان بعد الهزيمة كما مرّ فسار الوزير الى أذربيجان ولقي ثلاثة من الأمراء جاءوا مددا له من عند السلطان وأمره بحصار خوى فسار اليها وبها نائب الحاجب حسام الدين صاحب خلاط وهو بدر الدين بن صرهنك والحاجب حسام الدين على منوشهر فنهض اليه الوزير من خوى فتأخر الى تركري والتقيا هنالك فانهزم الحاجب ودخل تركري فاعتصم بها وحاصره الوزير وطلب الصلح فلم يسعفه ورجع الأمراء الذين كانوا معه بعساكرهم الى أذربيجان وأفرج الوزير عن حصار تركري ومرّ بخوي وقد فارقها ابن صرهنك الى قلعة قوطور واستأمن للسلطان من بعد ذلك ودخل الوزير مدينة خوى وصادر أهلها وسار الى ترمذ ونقجوان ففعل فيهما مثل ذلك وانقطعت ايالة الحاجب صاحب خلاط والله أعلم.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ويظهر من الفصول التالية ان اسم هذا الوزير: ابو المكارم على بن أبي القاسم، وانه كان منبسطا في العطاء حتى استغرق اموال الديوان، لذلك يكون مقتضى سياق العبارة هنا: وكان الوزير منبسطا في عطائه وتكاليفه.(5/154)
فتوحات الوزير بآذربيجان وارّان
ولما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته الى تمهيد البلاد ومدافعة صاحب خلاط وارتجاع البلاد التي ملك من آذربيجان وارّان وفتح القلاع العاصية فكان بينه وبين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه وهو خلال ذلك يستميل أصحاب القلاع ويفيض فيهم الأموال والخلع حتى أجاب أكثرهم ثم قبض على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية وكان معتزلا عند نصرة الدين محمد بن سبكتكين فصادره على مال وتسلم من نائبة قلعة كانت بيده ثم مات نائب السلطان بكنجة آقسنقر الاتابكي فنهض اليها وقبض على نائبة شمس الدين كرشاسف وصادره وتسلم منه قلعة هردوجاربرد من أعمال ارّان ثم جر العساكر لحصار قلعة زونين وبها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها وعرضت عليه نكاحها فأبى ولما رجع السلطان من العراق تزوّجها وولّى خادمه سعد الدين على القلعة فأساء اليها وانتزع أملاكها فأخرجوه وعادوا الى الانتقاض ولما خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أرّان فجبى الأموال وجمع واحتشد وقصد قلعة مردانقين وكانت لصهر الوزير ركبة الدين فصانعه بأربعة آلاف دينار حملها اليه ثم سار الى قلعة حاجين وبها جلال الدولة ابن أخت أبواني أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار وسبعمائة أسير من المسلمين ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها وسرح الجند عنها وشرح الخبر عنها أنّ بعض مماليك أتابك ازبك كان قد أفحش في قتل الخوارزمية بأذربيجان عند زحفهم اليها أيام فرارهم من التتر فلما ملك السلطان جلال الدين أذربيجان ومحاملك البهلوانية منها لحق الأمير مقدي هذا بالأشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشام وأقام عنده فلما بلغه انهزام الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الأشرف بخلاط فرّ من الشام الى آذربيجان ليقيم مع الاتابكية ومرّ بالحاجب في خوى فاتبعه وعبر النهر وخاطب من عدوته معتذرا فرجع عنه ودخل مقدي بلاد قبار وفيها قلاع استولى عليها المنتقضون والعصاة فراسلهم في اقامة الدعوة الاتابكية والبيعة لابن خاموش بن ازبك يستدعونه من قلعة قوطور واتصل ذلك بالوزير فأقلقه ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصبهان فازداد قلقا وسار الأمير مقدي الى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في القول وكتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدي ما أحب في مراجعة الطاعة ففعل وجاء به الى الوزير فأكرمه وخلع عليه وعلى من جاء معه وعاهده على العفو عن دماء الخوارزمية وجاء الخبر(5/155)
برجوع السلطان من أصبهان فارتحل الوزير للقائه ومعه الأمير مقدي وابن سبكتكين وأكرمهما السلطان.
أخبار الوزير بخراسان
كان صفي الدين محمد الطغرائي وزيرا بخراسان وأصل خبره انه كان قرية من كلاجرد وأبوه رئيسها وكان هو حسن الخط ورتبة الأطوار ثم لحق بالسلطان في الهند وخدم الوزير شرف الملك فلما عادوا الى العراق ولاه الطغرائي ولما ملك السلطان تفليس من يد الكرج ولىّ عليها آقسنقر مملوك الاتابك ازبك وأقام صفي الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب آقسنقر وأقام صفي الدين فحاصروه أياما ثم أفرجوا ووقع ذلك من السلطان أحسن المواقع وولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة وضجر منه أهلها فلما جاء السلطان الى الريّ وأقام بها كثرت به الشكايات ونكبه السلطان واستصفي أمواله وقبض على مواليه وحاشيته وقيدت خيله الى مرابط السلطان وكانت ثلاثمائة وخلص من مواليه على الكرماني الى قلعة كان حصنها فامتنع بها واستوزر السلطان مكانه تاج الدين البلخي المستوفي وسلم اليه الصفي ليستصفيه ويقلع القلعة من مولاه وشدّد في امتحانه وكان عدوّه فلم يظفر منه بشيء وكان لما نكب طالبه خاتون السلطان بإحضار الجواهر وما ساقه لخدمة الوزير وغيره فاحضر أربعة آلاف دينار وسبعين فصا من ياقوت وبلخش واستأثر الخازن بها الظنة أنه مقتول ثم كاتب الصفي أرباب الدولة ووعدهم بالأموال فشفعوا فيه وخلصوه وكتب السلطان بخطه بسراحه فجاء واستخلص ماله من الخازن الا الفصوص فأنه تعذر عليه ردها وولىّ السلطان على وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض من بيت رياسة بها ورمت به الحادثة الى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الإنشاء والحبس وعظم أمره وغص به الوزير شرف الملك فلما ورد أحمد بن محمد المنشي الكاتب رسولا عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مرّ ولاه السلطان الإنشاء فارتمض لذلك ضياء الدين وطلب وزارة نسا فولاه السلطان إياها وأقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة وذهب اليها لإقامة وظيفته واستناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابورىّ ثم قطع الحمل فعزله السلطان ووليّ مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشئ وتعرض للسعاية فيه فطرده السلطان وهلك في طرده.
خبر بلبان صاحب خلخال
كان من أتابكية ازبك ولما كانت فتنة التتر وخلاء خراسان واستيلاء السلطان جلال الدين(5/156)
على آذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى عليها وعلى قلاعها وشغل عنه السلطان بأمر العراق وصاحب خلاط فلما انصرف المسلمون من واقعة التتر بالعراق حاصروه بقلعة فيروزاباذ حتى استأمن وملكها السلطان وولىّ عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد أتابك فارس ثم خلف السلطان أثقاله بموقان وتجرد لخلاط وعاقه البردبار جيش فنهب بعض قلاع وكان عز الدين الخلخالي في كفر طاب قريبا من أرجيش فلحق بخلاط وجهزه الحاجب الى آذربيجان يشغلهم باثارة الفتنة فيها فلم يتمّ قصده من ذلك فلحق بجبال زنجان وأقام يخيف السابلة وكتب له السلطان بالأمان ونزل الى أصبهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه الى السلطان ثم رجع السلطان من كفر طاب الى خرت برت فنهبها وخرّبها ووصله خلال ذلك الخبر بوفاة الخليفة الظاهر منتصف ثلاث وعشرين وولاية ابنه المنتصر وجاءه كتابه بأخذ البيعة وأن يبعث اليه بالخلع والله تعالى ولىّ التوفيق لا رب غيره.
تنكر السلطان للوزير شرف الملك
لما رجعت العساكر الى موقان وأقام السلطان بخويّ شكا اليه أهلها بكثرة مصادرة الوزير لهم واطلع على إساءته للملكة بنت طغرل واستصفائه مالها مع براءتها مما نسب اليها ثم جاء الى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك وهو بقرية كورتان من أعمالها فافتقد رئيسها وكان يخدمه فقيل أن الوزير صادره على ألف دينار لمملوكين له فلما وصل الى تبريز حبس من أخذها حتى ردّها على صاحبها وأسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين وكتب لهم بذلك وكثرت الشناعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان هذا مع ما كان منه في محاربة الإسماعيلية بأنّ السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول الشام من أجل رسول من عند التتر بعثوه الى الشام وقصد بذلك معاتبة الخليفة إن عثر على الرسول فمرّ به فلّ الإسماعيلية فقتلهم واستولى على أموالهم فلما عاد السلطان الى آذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك الإسماعيلية يعاتبه على ذلك ويطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما فعله ووكل به أميرين حتى ردّ ما أخذ من أموالهم وكانت ثلاثين ألف دينار وعشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط وأعرض عن خطابه وكان يكاتب فلا يجاب وعجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح اهراء الوزير والتصرف فيها ورجع السلطان الى موقان فلم يغير عليه شيئا ووقع له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار في كلّ سنة والله أعلم
.(5/157)
وصول القفجاق لخدمة السلطان
كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان وأهل بيته وكانوا يصهرون اليهم غالبا ببناتهم ومن أجل ذلك استأصلهم جنكزخان واشتدّ في طلبهم فلما عاد السلطان من واقعة أصبهان وقد هاله أمر التتر رأى أن يستظهر عليهم بقبائل قفجاق وكان في جملته سبيرجنكش منهم فبعثه اليهم يدعوهم لذلك ويرغبهم فيه فأجابوا وجاءت قبائلهم إرسالا وركب البحر كوركان من ملوكهم في ثلاثمائة من قرابته ووصل الى الوزير بموقان فشتى بها ثم جاء السلطان فخلع عليه وردّه بوعد جميل في فتح دربند وهو باب الأبواب ثم أرسل السلطان لصاحب دربند وكان طفلا وأتابكه يلقب بالأسد يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه وأقطع له وملكه العمل على أن يفتح له الدربند وجهز عساكر وأمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الأسد وشنوا الغارة على نواحي الباب واعمل الأسد الحيلة وتخلص من أيديهم وتعذر عليهم ما أرادوه.
استيلاء السلطان على أعمال كستاسفى
كان علم الوزير يشكر أنّ السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة فسار في العساكر وعبر نهر زاس [1] فاستولى على أعمال كستاسفي من يد شروان شاه فلما عاد السلطان الى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن شروان شاه وكان أسيرا عند الكرج أسلمه أبوه اليهم على أن يزوّجوه بنت الملك رسودان بنت تاماد فلما فتح السلطان بلاد الكرج استخلصه من الأسر ورباه وبقي عنده وأقطعه الآن كستاسفي وكان أيضا عند الكرج ابن صاحب ارزن الروم وكان تنصر فزوّجوه رسودان بنت تاماد فأخرجه السلطان لما فتح بلاد الكرج ثم رجع الى ردنّة ولحق بالكرج فوجد رسودان قد تزوّجت.
قدوم شروان شاه
كان السلطان ملك شاه بن البارسلان لما ملك ارّان أطلق الغارة على بلاد شروان فوفد عليه ملكها أفريدون بن فرتبريز وضمن حمل مائة ألف دينار في السنة فلما ملك السلطان جلال الدين ارّان سنة اثنتين وعشرين وستمائة طلب شروان شاه أفريدون بالحمل فاعتل بتغلب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نهر أذس.(5/158)
الكرج وضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل فلما عاد الآن قدم عليه شروان شاه وأهدى له خمسمائة فرس وللوزير خمسين فاستقلها وأشار على السلطان بحبسه فلم يقبل إشارته ورده بالخلع والتشريف وأسقط عنه من الحمل عشرين ألفا فبقي ثلاثون قال النسائي الكاتب وأعطاني في التوقيع ألف دينار والله تعالى أعلم.
مسير السلطان الى بلاد الكرج وحصاره قلاع بهرام
لما كان السلطان مقيما بموقان منصرفه من آذربيجان بعث عساكره مع ايلك خان فأغار على بلاد الكرج واكتسحها ومر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج وأوقعوا به وفقد اريطاني وامتعض السلطان لما وقع بعسكره وارتحل لوقته وقد جمع له الكرج فهزمت مقدّمته مقدّمتهم وجيء بالأسرى منهم فقتلهم وسار في اتباعهم ونازل كوري وطالبهم بإطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم وأخبر أنّ اريطاني خلص تلك الليلة الى آذربيجان ثم وجده السلطان في نقجوان ثم سار الى بهران الكرجي وقد كان أغار على نواحي كنجة فعاث في أعماله وحاصر قلعة سكان ففتحها عنوة وكذلك قلعة عليا ثم حاصر قلعة كاك وبعث الوزير لحصار كوزاني فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال حملوه فرحل عنهم الى خلاط والله أعلم.
مسير السلطان الى خلاط وحصارها
ولما فرغ السلطان من شأن الكرج قدّم أثقاله الى خلاط على طريق قاقروان وسار هو الى نقجوان وصبح الكرج واستاق مواشيهم ثم أقام أياما وقضى أشغال أهل خراسان والعراق ليفرغ لحصار خلاط قال النسائي الكاتب وحصل لي منهم تلك الأيام ألف دينار ثم ارتحل الى خلاط ولحق بعساكره ولقيه رسول من عز الدين أيبك نائب الأشرف بخلاط وقد كان الأشرف بعثه وأمره بالقبض على نائبها حسام الدين علي بن حماد فقبض عليه ثم قتله غيلة وبعث الى السلطان يستخدم اليه بذلك وانّ سلطانه الأشرف أمره بطاعة السلطان جلال الدين وبالغ في الملاطفة فأبي السلطان الا إمضاء ما عزم عليه وقال ان كان هذا حقا فابعث اليّ بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله وسار السلطان الى خلاط ونزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست وعشرين وجاءه ركن الدين جهان بن طغرل صاحب ارزن الروم فكان معه وحاصرها ونصب عليها المجانيق وأخذ بمخنقها حتى فرّ أهلها عنها من الجوع وتفرقوا في البلاد(5/159)
ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها على أن يؤمنوه ويقطعوه في آذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع هنالك وأصعد الرجال ليلا الى الأسوار فقاتلوا الجند بالمدينة وهزموهم وملكوها وأسروا من كان بها وأسروا النصارى وأسد بن عبد الله وتحصن النائب عز الدين أيبك بالقلعة فآمنه وحبسه بقلعة درقان فلما وقعت المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط وقال ابن الأثير إن مولى من موالي حسام الدين كان هرب الى السلطان فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه فدفعه اليه وقتله ونهب البلد ثلاثا وسرّح السلطان صاحب ارزن وهرب القمهري من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهراني بجزيرته وأقطع السلطان خلاط للامراء وعاد والله تعالى ولىّ التوفيق.
واقعة السلطان جلال الدين مع الأشرف وكيقباد وانهزامه أمامهما
ولما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الأشرف من دمشق وقد كان ملكها وسار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة والشام وذلك في سنة تسع وعشرين ولقيه علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم على سيراس وكان كيقباد قد خشي من اتصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب ارزن الروم بالسلطان جلال الدين لما بينهما من العداوة فسار الأشرف وكيقباد من سيراس وفي مقدّمة الأشرف عز الدين عمر بن علي من أمراء حلب من الأكراد الهكارية وله صيت في الشجاعة وجاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدّمة عليهم فهزمهم وعاد السلطان الى خلاط وكان الوزير على ملازكرد يحاصرها فلحق به وارتحلوا جميعا الى آذربيجان وأسر ركن الدين جهان شاه بن طغرل وجيء به الى ابن عمه علاء الدين كيقباد فجاء به الى ارزن فسلمها وسائر أعمالها ووصل الأشرف الى خلاط فوجدها خاوية ولما رجع السلطان الى آذربيجان ترك العساكر مع الوزير سكمان وأقام بخوي وخلص الترك في الهزيمة الى موقان وتردّد شمس الدين التكريتي رسول الأشرف بينه وبين السلطان جلال الدين في الصلح بينهم ودخل فيه علاء الدين صاحب الروم وانعقد بينهم جميعا وسلم لهم السلطان سرمن رأى مع خلاط والله تعالى أعلم
.(5/160)
الحوادث أيام حصار خلاط
منها وفادة نصر الدين اصبهبد صاحب الجبل مع ارخا من أمراء السلطان يصهره على أخيه فقبض السلطان عليه الى أن عاد من بلاد الروم منهزما فأقطعه وأعاده الى بلاده ومنها رسالة أخت السلطان وكانت عند دوشي خان أخذها من العيال الذين جاءوا معه وتركمان خاتون من خوارزم وأولدها وكانت تكاتب أخاها بالاخبار فبعثت اليه الآن في الصلح مع خاقان والمصاهرة وأن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها ومنها وفادة ركن الدين شاه بن طغرل صاحب ارزن الروم وكان في طاعة الأشرف ومظاهرا للحاجب نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيقباد بن كنخسرو صاحب الروم وكان قتل رسول السلطان منقلبا من الروم ومنع الميرة عن العسكر فلما طال حصار السلطان بخلاط استأمن وقدم عليه السلطان فاحتفل لقدومه واركب الوزير للقائه ثم خلع عليه وردّه الى بلاده واستدعى منه آلات الحصار فبعث بها ثم حضر بعد ذلك واقعة الأشرف مع السلطان كما مرّ ومنها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة الى السلطان بالخطبة في أعمالها وان لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب اربل ولا للمولد صاحب الموصل ولا لشهاب الدين سليمان شاه ملك [1] ولا لعماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال ويعدهم في أولياء الديوان فامتثل مراسله وبعث نائب العراق شرف الدين على بأنّ ملك العراق لا يتمّ إلا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان وملك [1] سليمان شاه فبعث اليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختيارا منهما وبعث السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن ابنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته وجاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان إحداهما جبة وعمامة وسيف هندي مرصع الحلية والأخرى قنع وكمة وفرجية وسيف محلى بالذهب وقلادة مرصعة ثمينة وفرسان رائعان بعدّتين كاملتين ونعال لكلّ واحدة من أربعمائة دينار وترس ذهب مرصع بالجوهر وفيه أحد وأربعون فصا من الياقوت وبندخستاني في وسطه فيروزجة كبيرة وثلاثون فرسا عربية مجللة بالاطلس الرومي المبطن بالاطلس البغدادي بمقاود الحرير ونعال الذهب لكلّ واحدة منها ستون دينارا وعشرون مملوكا بالعدة والمركوب وعشرة فهود بجلال الأطلس وقلائد الذهب وعشرة صقور بالأكمام
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 267 يظهر بوضوح ان سليمان شاه كان ملك همذان وانه قتل بها سنة ست وخمسين وخمسمائة.(5/161)
الملكة ومائة وخمسون بقجة في كلّ واحدة عشرة ثياب وخمس أكر من العنبر مضلعة بالذهب وشجرة من العود الهندي طولها خمسة أذرع وأربع عشرة خلعة نسوانية للخانات من خوالص الذهب وكنائس للخيل تفليسية وللامراء ثلاثمائة خلعة لكلّ أمير خلعة قباء وكمة وللوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيف هندي واكرتان من العنبر وخمسون ثوبا وبغلة ولأصحاب الديوان عشرون خلعة في كلّ خلعة جبة وعمامة وعشرون ثوبا أكثرها اطلس رومي وبغدادي وعشرون بغلة شهباء ورفعت للسلطان خباء فدخلها ولبس الخلعتين وشفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان ومنها وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجللة بثياب الأطلس الخطائي وفرو القندسي والسمور وثلاثون مملوكا بالخيل والعدة ومائة فرس وخمسون بغلا ولما مروا بآذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب ارزن وكان في طاعة الأشرف فأمسك الهدية عنده الى أن وفد على السلطان بطاعته فأحضرها ومنها اسار وزير المورخا جاء الى الجبل المطلّ على قزوين لحصاد الحشيش على عادته وكان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب أخيه غياث الدين ولحاقه بهم في الموت فسار مقطع ساوة الى ذلك الجبل وأكمن لهم وأسر الوزير وبعث به الى السلطان وهو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة رزمان وهلك لاشهر قلائل ثم بعث السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي الى علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج وطلب الخطبة فامتنع منها أوّلا واحتج عليه بأنّ أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر والتزم أن يبعث الى الديوان مائة ألف في كل سنة.
وصول جهان بهلوان ازبك من الهند
كان السلطان لما فصل من الهند بقصد العراق واستخلف على البلاد التي ملكها هنالك جهان بهلوان ازبك فأقام هنالك الى أن قصده عسكر شمس الدين ايتماش صاحب لهاوون ففارق مكانه وسار الى بلاد قشمير فزاحموه وطردوه عن البلاد فقصد العراق وتخلف عنه أصحابه وعادوا الى ايتماش وفيهم الحسن برلق الملقب رجا ملك وكاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة فارس فأجاب الحسن رأي السلطان فيه وبعث اليه بعشرة آلاف دينار للنفقة ووصل توقيع السلطان بأن تحمل اليه عشرون ألفا وأن يشتى بالعراق يستريح بها من التعب فصادف عود السلطان من بلاد الروم وزحف السلطان الى آذربيجان فحال قدر الله بينه وبين مرامه وقتل هناك سنة ثمان وعشرين
.(5/162)
وصول التتر الى آذربيجان
كان التتر عند ما ملكوا ما وراء النهر وزحفوا الى خراسان فضعضعوا ملك بني خوارزم شاه وانتهوا الى قاصية البلاد وخربوا ما مرّوا عليه واكتسحوا ونهبوا وقتلوا ثم استقر ملكهم بما وراء النهر وعمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوّض منها وبقيت خراسان خالية واستبدّ بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين لما جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وآذربيجان وارّان وما وراء ذلك وبقيت خراسان مجالات لغارات التتر وحروبهم ثم سارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين فكان بينهم وبين جلال الدين لما جاء من الهند المواقعة على أصبهان كما مرّ ثم كان بين جلال الدين وبين الأشرف صاحب الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب الروم المواقعة سنة سبع وعشرين كما مرّ وأوهنت من جلال الدين وحلت عرى ملكه وكان علاء الدين مقدّم الإسماعيلية في قلعة الموت فعادى جلال الدين لما أثخن في بلاده وقرر عليه وظائف الأموال فبعث الى التتر يخبرهم بالهزيمة الكائنة عليه وانها أوهنته ويحثهم على قصده فساروا الى أذربيجان أوّل سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر الى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة لاستكشاف خبرهم فلقي مقدّمتهم فانهزم ولم ينج من أصحابه غيره وجاء بالخبر فرحل من تبريز الى موقان وخلف عياله بتبريز لنظر الوزير وأعجله الحال عن أن يبعثهم الى بعض الحصون ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن المقدّمة التي لقيها بوغر باهر أقاموا بمرج الخان وانهم سبعمائة فارس فظنّ السلطان أنهم لا يجاوزونهما فسرى عنه ورحل الى موقان فأقام بها وبعث في احشاد العساكر الأميرين بغان شحنة خراسان وأوسمان بهلوان شحنة مازندان وشغل بالصيد وبينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه ونهبوا معسكره وخلص الى نهر أوس ثم وري بقصد كنجة وعطف الى أذربيجان فتنكر لماهان وكان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضبا منذ سنين لاغارة الوزير على بلده فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة وباخبار التتر ثم أنذره آخر الشتاء بمسير التتر اليه من أرجان وأشار عليه بالعود الى ارّان لكثرة ما فيها من العساكر وأجناد التركمان متحصنين بها فلما فارقها وكان الوزير فوق بيوت السلطان وخزائنه في قلاع حسام الدين منهم ارسلان كبير أمراء التركمان بارّان وكان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع فأنزل عياله بها وكان مستوحشا من السلطان فجاهر بالعصيان وكانت وحشته من السلطان لأمور منها تبذير أمواله في العطاء والنفقة ومنها أنه ظنّ(5/163)
أنّ السلطان مجفل الى الهند فكاتب الأشرف صاحب الشام وكيقباد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة وهما عدوّا السلطان ومنها أنه كاتب قلج ارسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان وخزائنه ولا يسلمها اليه وبعث في الكتاب له والكباس قبله ليغزو الروم فلما مرّ السلطان بقلعته بعث اليه يستدعيه فوصل وحمل كفنه في يده فلاطفه السلطان وكايده فظنها مخالصة فاطمأنّ والله تعالى ولىّ التوفيق.
استيلاء التتر على تبريز وكنجة
ولما اجفل السلطان بعد الكبسة من موقان الى ارّان بلغ الخبر الى أهل تبريز فثاروا بالخوارزمية وأرادوا قتلهم ووافقهم بهاء الدين محمد بن بشير فاربك الوزير بعد الطغرياني وكان الطغرياني رئيس البلد كما مرّ فمنعهم من ذلك وعدوا على واحد من الخوارزمية وقتلوه فقتل به اثنين من العامة واجتهد في تحصين تبريز وحراستها وشحنها بالرجال ولم تنقطع كتبه عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام الى التتر ثم ثار أهل كنجة وسلموا بلدهم للتتر وكذا أهل ببلغازة والله أعلم.
نكبة الوزير ومقتله
لما وصل السلطان الى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير وخشي أن يفرّ الى بعض الجهات فركب الى القلعة موريا بالنظر في أحوالها والوزير معه وأسرّ الى والي القلعة أن يمسك الوزير ويقيده هنالك ففعل ونزل السلطان فجمع مماليك الوزير وكبيرهم الناصر قشتمر وضمهم الى أوترخان ثم نمي الى والي القلعة أنّ السلطان مستبدل منه فاستوحش وبعث بخاتم الوزير الى قشتمر كبير المماليك يقول نحن وصاحبكم متوازرون فمن أحب خدمته فليأت القلعة فسقط في يد السلطان وكان ابن الوالي في جملته وحاشيته فأمره السلطان أن يكاتب أباه ويعاتبه ففعل وأجابه بالتنصل من ذلك فقال له السلطان فليبعث اليّ برأس الوزير فبعث به وكان الوزير مكرما للعلماء والأدباء مواصلا لهم كثير الخشية والبكاء متواضعا منبسطا في العطاء حتى استغرق أموال الديوان لولا أنّ السلطان جذب من عنانه وكان فصيحا في لغة الترك وكانت عمالته على التواقيع السلطانية الحمد للَّه العظيم وعلى التواقيع الديوانية يعتمد ذلك وعلى تواقيعه الى بلاده أبو المكارم على بن أبي القاسم خالصة أمير المؤمنين
.(5/164)
ارتجاع السلطان كنجة
لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار وبعث السلطان اليهم رسوله يدعوهم الى الطاعة فوصلوا قريبا منه وأقاموا وخرج اليهم الرئيس جمال الدين القمي بأولاده وامتنع الباقون ثم وصل السلطان وردّد اليهم فلم تغن وبرزوا بعض الأيام للقتال ورموا على خيمته فركب وحمل عليهم فانهزموا وازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من اغلاقه فاقتحم السلطان المدينة وقبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم وجيء ببندار وكان بالغا في الفساد وكسر سرير الملك الّذي نصبه بها محمد بن ملك شاه فمثل به وفصل أعضاءه بين يديه وأقام السلطان بكنجة نحوا من شهر ثم سار الى خلاط مستمدا للأشرف فارتحل الأشرف الى مصر وعلل بالمواعيد ووصل السلطان في وجهته الى قلعة شمس وبها أراك بن ايوان الكرجي فخرج وقبل الأرض على البعد ثم بعث الى السلطان ما أمري وبعث السلطان الى جيرانه من الملوك مثل صاحب حلب وآمد وماردين يستنجدهم بعد يأسه من الأشرف وجرّد عسكرا الى خرت برت وملطية وآذربيجان فأغاروا في تلك النواحي واستاقوا نعمها لما بين ملكها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميعهم من ذلك وقعدوا عن نصرته والله تعالى ولىّ التوفيق.
واقعة التتر على السلطان بآمد ومهلكه
كان السلطان بلغه وهو بخلاط أن التتر ساروا اليه فبعث السلطان الأمير أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبر أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد وكان الأمراء أشاروا على السلطان [1] الانتقال بديار بكر وينجرون الى أصبهان ثم جاءه رسول صاحب آمد وزين له له قصد بلاد الروم وأطعمه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر وأنه يمدّه بنفسه في أربعة آلاف فارس وكان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان الى كلامه وعدل عن أصبهان الى آمد
__________
[1] كذا بياض بالأصل ويذكر ابن الأثير هذه الواقعة باختلاف كثير عما هي هنا في حوادث 628 في ج 12 ص 498: وما بعدها وتصويب العبارة: وكان الأمراء أشاروا على السلطان بترك خلاط والانتقال بديار بكر، الى ان يصل الى أصفهان.(5/165)
فنزل بها وبعث اليه التركمان بالنذير وانهم رأوا نيران التتر بالمنزل الّذي كانوا به أمس فاتهم خبرهم وصبحه التتر على آمد وأحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم اوترخان حتى كشفهم عن الحركات وركب السلطان وركض وأسلم زوجته بنت الاتابك سعد الى أميرين يحملانها الى حيث تنتهي الجفلة ثم ردّ أو ترخان العساكر عنه ليتوارى بانفراده عن عين العدوّ وسار أو ترخان في أربعة آلاف فارس فخلص الى أصبهان واستولى عليها الى أن ملكها التتر عليه سنة تسع وثلاثين وذهب السلطان مستخفيا الى باشورة آمد والناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا يردّونهم فذهب الى حدود الدربندات وقد ملئت المضايق بالمفسدين فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع وانتهى الى قرية من قرى ميافارقين فنزل في بيدرها وفارقه أوترخان الى شهاب الدين غازي صاحب حلب لمكاتبات كانت بينهما فحبسه ثم طلبه الكامل فبعث به اليه محبوسا ثم سقط من سطح فمات وهجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب وقتل الذين كانوا معه وأخبر التتر أنه السلطان فاتبعوه وأدركه اثنان منهم فقتلهما ويئس منه الباقون فرجعوا عنه وصعد جبل الأكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله وأسرّ الى بعضهم أنه السلطان فمضى به الى بيته ليخلصه الى بعض النواحي ودخل البيت في غيبه بعض سفلتهم وبيده حربة وهو يطلب الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله ولم يغن عنه البيت وكانت الوقعة منتصف شوّال سنة ثمان وعشرين هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب السلطان جلال الدين وأمّا ابن الأثير فذكر الواقعة وأنه فقد فيها وبقوا أياما في انتظار خبره ولم يذكر مقتله وانتهى به التأليف ولم يزد على ذلك قال النسائي وكان السلطان جلال الدين أسمر قصيرا تركيا شجاعا حليما وقورا لا يضحك الا تبسما ولا يكثر الكلام مؤثرا للعدل الا أنه مغلوب من أجل الفتنة وكان يكتب للخليفة والوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب خادمه المطواع فلان فلما بعث اليه بالخلع عن خلاط كما مر كتب اليه عبده فلان والخطاب بعد ذلك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وأمام المسلمين وخليفة رب العالمين قدوة المشارق والمغارب المنيف على الذروة العليا ابن لؤيّ بن غالب ويكتب لملوك الروم ومصر والشام السلطان فلان بن فلان ليس معها أخوه ولا محبه وعلامته على تواقيعه النصرة من الله وحده وعلامته لصاحب الموصل بأحسن خط وشق القلم شقين ليغلظ ولما وصل من الهند كاتبه الخليفة الجناب الرفيع الخاقاني فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه لم تجر به عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك حين حملت له الخلع فخوطب بالجناب العالي الشاهستاني ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين(5/166)
وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها وملكوا مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام ومروا بماردين فامتنعت ثم وصلوا الى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم الى سنجار وجبالها والخابور ثم ساروا الى تدليس فأحرقوها ثم الى أعمال خلاط فاستباحوا أباكري وارتجيس وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان الى أعمال اربل ومروا في طريقهم بالتركمان الاموامية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج مظفر الدين صاحب اربل بعد ان استمدّ صاحب الموصل فلم يدركهم وعادوا وبقيت البلاد قاعا صفصفا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وافترق عسكر جلال الدين منكبرس وساروا الى كيقباد ملك الروم(5/167)
فأثبتهم في ديوانه واستخدمهم ثم هلك سنة أربع وثلاثين وولى ابنه غياث الدين كنخسرو فارتاب بهم وقبض على كبيرهم وفر الباقون واكتسحوا ما مروا به وأقاموا مستبدين بأطراف البلاد ثم استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وكان نائبا لأبيه بالبلاد الشرقية حران وكيفا وآمد واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له كما يأتي في أخباره والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وفضله.
الخبر عن دولة بني تتش بن البارسلان ببلاد الشام دمشق وحلب وأعمالهما وكيف تناوبوا فيها القيام بالدعوة العباسية والدعوة العلوية الى حين انقراض أمرهم
قد تقدّم لنا استيلاء السلجوقية على الشام لأوّل دولتهم وكيف سار أتسز بن ارتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه الى فلسطين ففتح الرملة وبيت المقدس وأقام فيهما الدعوة العباسية ومحا الدعوة العلوية ثم حاصر دمشق وذلك سنة ثلاث وستين وأربعمائة ثم أقام يردّد الحصار على دمشق حتى ملكها سنة ثمان وستين وسار الى مصر سنة تسع وستين وحاصرها وعاد منها وولى السلطان ملك شاه بعد أبيه البارسلان سنة خمس وستين فأقطع أخاه تتش بلاد الشام وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فسار الى حلب وحاصرها وكان أمير الجيوش بدر الجمالي قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها أتسز فبعث بالصريخ الى تاج الدولة تتش فسار لنصرته وأجفلت عساكر مصر وخرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه وقتله واستولى على دمشق وقد تقدّم ذلك كله ثم استولى سليمان بن قطلمش على انطاكية وقتل مسلم بن قريش وسار الى حلب فملكها وسمع بذلك تتش فسار اليها واقتتلا سنة تسع وسبعين وقتل سليمان بن قطلمش في الحرب وسار السلطان ملك شاه الى حلب فملكها وولى عليها قسيم الدولة آقسنقر جدّ نور الدين العادل ثم جاء السلطان الى بغداد سنة أربع وثمانين وسار اليه أخوه تاج الدين تتش من دمشق وقسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب وبوزان صاحب الرها وحضروا معه صنيع المولد النبوي ببغداد فلما وعدوه العود الى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان بأن يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشام وفتح مصر من يد المستنصر العلويّ ومحو الدولة العلوية منها فساروا لذلك وملك تتش حمص من يد ابن ملاعب وغزة عنوة وأماسية من يد خادم العلويّ بالأمان وحاصر طرابلس وبها جلال الدين بن عمار فداخل قسيم الدولة آقسنقر وصانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم(5/168)
يشفعه فرحل مغاضبا وأجفلوا الى جبلة وانتقض أمرهم وهلك السلطان ملك شاه سنة خمس وثمانين ببغداد وقد كان سار الى بغداد وسار تتش أخوه من دمشق للقائه وبلغه في طريقه خبر وفاته وتنازع ولده محمود وبركيارق الملك فاعتزم على طلب الأمر لنفسه ورجع الى دمشق فجمع العساكر وقسم العطاء وسار الى حلب فأعطاه آقسنقر الطاعة لصغر أولاد ملك شاه والتنازع الّذي بينهم وحمل صاحب انطاكية وبوزان صاحب الرها وحران على طاعته وساروا جميعا في محرّم سنة ست وثمانين فحاصروا الرحبة وملكوها وخطب فيها تتش لنفسه ثم ملك نصيبين عنوة واستباحها وأقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش ثم سار الى الموصل وبها إبراهيم بن قريش بن بدران وبعث اليه في الخطبة على منابرة فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين ألفا وكان تتش في عشرة آلاف والتقوا بالمضيع من نواحي الموصل فانهزم إبراهيم وقتل واستبيحت أحياء العرب وقتل أمراؤهم وأرسل الى بغداد في طلب الخطبة فلم يسعف الا بالوعد ثم سار الى ديار بكر فملكها في ربيع الآخر وسار منها الى أذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الريّ وهمذان وكثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته فلما تقاربا نزع آقسنقر وبوزان الى بركيارق وعاد تتش منهزما الى الشام وجمع العساكر واستوعب في الحشد وسارا الى آقسنقر في حلب فبرز اليه ومعه بوزان صاحب الرها وكربوقا الّذي ملك الموصل فيما بعد ولقيهم تتش على ستة فراسخ من حلب فانهزموا وجيء بأقسنقر أسيرا فقتله صبرا ولحق كربوقا وبوزان بحلب فحاصرها تتش وملكها وأخذهما أسيرين وبعث الى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فقتل بوزان وملكهما وحبس كربوقا بحمص ثم سار الى الجزيرة فملكها جميعا ثم الى ديار بكر وخلاط ثم آذربيجان ثم همذان وبعث الى بغداد في الخطبة وكان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة الى اربل ثم منها الى بلد سرحاب بن بدر وسار الأمير يعقوب بن ارتق من عسكر تتش فكبسه وهزمه ونجا الى أصبهان فكان من خبره ما تقدّم وبعث تتش يوسف ابن ارتق التركماني شحنة الى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها ثم بلغه مهلك تتش فعاد الى حلب وهذه الاخبار كلها قد تقدّمت في أوّل دولة السلجوقية وانما ذكرناها هنا توطئة لدولة بني تتش بدمشق وحلب والله أعلم.
مقتل تتش
ولما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق بأصبهان وبها محمود وأهل دولته فأدخلوه وتشاوروا في قتله ثم أبقوه الى إبلال محمود من مرضه فقدر هلاك محمود وبايعوا لبركيارق فبادر الى(5/169)
أصبهان وقدم أميرا آخر بين يديه لاعداد الزاد والعلوفة وسار هو الى أصبهان ورجع تتش الى الريّ وأرسل الى الأمراء بأصبهان يدعوهم ويرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق ثم إبل بركيارق من مرضه وسار في العساكر الى الريّ فانهزم تتش وانهزم عسكره وثبت هو فقتله بعض أصحاب آقسنقر بثأر صاحبه واستقام الأمر لبركيارق والله تعالى أعلم.
استيلاء رضوان بن تتش على حلب
كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن علي الخوارزمي وأمكنه من القلعة ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه رضوان وكتب اليه بالمسير الى بغداد ونزول دار السلطنة فسار لذلك وسار معه أبو الغازي بن ارتق وكان أبوه تتش تركه عنده وسار معه و [1] معه محمد بن صالح بن مرداس وغيرهما وبلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد الى حلب ومعه الأميران الصغيران أبو طالب وبهرام وأمّه وزوجها جناح الدولة الحسن بن افتكين لحق بهم من المعركة فلما انتهوا الى حلب امتنع أبو القاسم بالقلعة ومعه جماعة من المغاربة وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح الدولة فثاروا بالقلعة من الليل ونادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبي القاسم فبعث اليه رضوان بالأمان وخطب له على منابر حلب وأعمالها وأقام بتدبير دولته جناح الدولة وأحسن السيرة وخالف عليهم الأمير باغيسيان بن محمد بن ابه التركماني صاحب انطاكية ثم أطاع وأشار على رضوان بقصد ديار بكر وسار معه لذلك وجاءهم أمراء الاطراف الذين كان تتش رأسهم فيها وقصدوا سروح فسبقهم اليها سلمان بن ارتق وملكها فساروا الى الرها وبها الفارقليط من الروم كان يضمن البلاد من بوزان فتحصن بالقلعة ودافعهم ثم غلبوه عليها وملكها رضوان وطلبها منه باغيسيان وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان فأقطعها له ثم سار الى حران وأميرها قراجا فدسّ اليهم بعض أهلها بالطاعة واتهم قراجا بذلك ابن المعني من أعيانها كان تتش يعتمد عليه في حفظ البلد فقتله وقتل بني أخيه ثم فسد ما بين جناح الدولة وباغيسيان وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان الى بلده انطاكية وسار معه أبو القاسم الخوارزمي ودخل رضوان الى حلب دار ملكه وكان من أهل دولته
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 115: الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس.(5/170)
يوسف ابن ارتق الخوارزمي الّذي بعثه تتش الى بغداد شحنة وكان [1] من الفتيان بحلب وكان قنوعا وكان يعادي يوسف بن اتق فجاء الى جناح الدولة القائم بأمر من رضوان ورمى يوسف بن ارتق عنده بأنه يكاتب باغيسيان ويداخله في الثورة واستأذنه في قتله فأذن له وأمدّه بجماعة من الجند وكبس يوسف في داره فقتله ونهب فيها واستطال على الدولة وطمع في الاستبداد على رضوان ودس لجناح الدولة أنّ رضوان أمره بقتله فهرب الى حمص وكانت اقطاعا له واستبدّ على رضوان ثم تنكر له رضوان سنة تسع وثماني وأمر بالقبض عليه فاختفى ونهبت دوره وأمواله ودوابه ثم قبض عليه فامتحن وقتل هو وأولاده.
استيلاء دقاق بن تتش على دمشق
كان تتش قد بعث ابنه دقاقا الى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فأقام هنالك الى أن توفي ملك شاه فسار معه ابنه محمود وأمه خاتون الجلالية الى أصبهان ثم ذهب عنهم سرّا الى بركيارق ثم لحق بأبيه وحضر معه الواقعة التي قتل فيها ولما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكين الى حلب فأقام عند أخيه رضوان وكان بقلعة من قلاعها ساوتكين الخادم من موالي تتش ولاه عليها قبل موته فبعث الى دقاق يستدعيه للملك فسار اليه وبعث رضوان في طلبه فلم يدركه ووصل دمشق وكتب اليه باغيسيان صاحب انطاكية يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان ووصل معتمد الدولة طغتكين مع جماعة من خواص تتش وكان قد حضر المعركة وأسر فخلص الآن من الاسار وجاء الى دمشق فلقيه دقاق ومال اليه وحكمه في أمره وداخله في مثل ساوتكين الخادم فقتلوه ووفد عليهم باغيسيان من انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي فأكرمهما واستوزر الخوارزمي وحكمه في دولته.
الفتنة بين دقاق وأخيه رضوان
ثم سار رضوان الى دمشق سنة تسعين وأربعمائة قاصدا انتزاعها من يد دقاق فامتنعت عليه فعاد الى مالس وقصد الورس فامتنعت عليه فعاد الى حلب وفارقه باغيسيان صاحب انطاكية الى أخيه دقاق وحض على المسير الى أخيه بحلب فسار لذلك واستنجد رضوان
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 255: وكان بحلب إنسان يقال له: «المجن» وهو رئيس الاحداث بها، وله اتباع كثر.(5/171)
سكمان من سروج في أمم من التركمان ثم كان اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق ونهب سوادهم وعاد رضوان الى حلب ثم سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق وانطاكية قبل دقاق فانعقد ذلك بينهما ثم لحق جناح الدولة بحمص عند ما عظمت فيه سعاية المجن كما ذكرناه وكان باغيسيان منافرا له فلما فصل من حلب جاء باغيسيان الى رضوان وصالحه ثم بعث الى رضوان المستعلي خليفة العلويين بمصر يعده بالامداد على أخيه على أن يخطب له على منابره وزين له بعض أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى انطاكية والمعرّة وقلعة حلب ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطبة سكمان بن ارتق صاحب سروج وباغيسيان صاحب انطاكية فلم يقم بها غير ثلاث حتى وصل الفرنج فحاصروه وغلبوه على انطاكية وقتلوه كما مرّ في خبره.
استيلاء دقاق على الرحبة
كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مرّ في خبره استولى عليها قانمار من موالي السلطان البارسلان فسار دقاق بن تتش ملك دمشق وأتابكه طغركين اليها سنة خمس وتسعين وحاصروها فامتنعت عليهم فعادوا عنها وتوفى قانمار صاحبها في صفر سنة ست وتسعين وقام بأمرها حسن من موالي الأتراك فطمع في الاستبداد وقتل جماعة من أعيان البلد وحبس آخرين واستخدم جماعة من الجند وطرد آخرين وخطب لنفسه فسار دقاق اليه وحاصره في القلعة حتى استأمن وخرج اليه وأقطعه بالشام اقطاعات كثيرة وملك الرحبة وأحسن الى أهلها وولى عليهم ورجع الى دمشق والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق لا ربّ غيره.
وفاة دقاق وولاية أخيه تلتاش ثم خلعه
ثم توفي دقاق صاحب دمشق سنة سبع وتسعين واستقلّ أتابكه طغركين بالملك وخطب لنفسه سنة ثم قطع خطبته وخطب لتلتاش أخي دقاق صبيا مراهقا وخوّفته أمه من طغركين بزواجه أم دقاق وأنه يميل الى ابن دقاق من أجل جدّته فاستوحش وفارق دمشق الى بعلبكّ في صفر سنة ثمان وتسعين ولحقه ايتكين الحلبي صاحب بصرى وكان ممن حسن له لذلك فعاث في نواحي خوارزم ولحق به أهل الفساد وراسلا هدويل ملك الفرنج فأجابهما بالوعد ولم يوف لهما فسار الى الرحبة واستولى عليها تلتاش وقيل انّ تلتاش لما استوحش منه طغركين(5/172)
من دخول البلد مضى الى حصون له وأقام بها ونصب طغركين الطفل ابن دقاق وخطب له واستبدّ عليه وأحسن الى الناس واستقام أمره والله تعالى وليّ التوفيق وهو نعم الرفيق.
الحرب بين طغركين والفرنج أشهرا
كان قمص من قمامصة الفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق فجمع طغركين العساكر وسار اليه وجاء معرون ملك القدس وعكا من الفرنج بانجاد القمص فأظهر الغنية [1] عليه وعاد الى عكا وقاتل طغركين [2] القمص فهزمه وأحجزه بحصنه ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة وقتل أهله وأسر جماعته وعاد الى دمشق ظافرا غانما ثم سار الى حصن رمسة من حصون الشام وقد ملكه الفرنج وبه ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر طغركين حصن رمسة حتى ملكه وقتل أهله من الفرنج وخرّبه والله أعلم.
مسير رضوان صاحب حلب لحصار نصيبين
ثم ان رضوان صاحب حلب اعتزم غزو الفرنج واستدعى الأمراء من النواحي لذلك فجاءه أبو الغازي بن ارتق الّذي كان شحنة ببغداد وأصبهان وصباوو والبي بن ارسلان ماش صاحب سنجار وهو صهر جكرمش صاحب الموصل وأشار أبو الغازي بالمسير الى بلاد جكرمش للاستكثار بعسكرها وأموالها ووافقه البي وساروا الى نصيبين في رمضان سنة تسع وتسعين وأربعمائة فحاصروها وفيها أميران من قبل جكرمش واشتدّ الحصار وجرح البي بن ارسلان بسهم أصابه فعاد الى سنجار وأجفل أهل السواد الى الموصل وعسكر جكرمش بظاهرها معتزما على الحرب ثم كاتب أعيان العسكر وحثهم على رضوان وأمر أصحابه بنصيبين بإظهار طاعته وطلب الصلح معه وبعث الى رضوان بذلك والامداد بما يشاؤه على أن يقبض على أبي الغازي فمال الى ذلك واستدعى أبا الغازي فخبره أنّ المصلحة في صلح
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 399: فسار بغدوين ملك القدس وعكا وغيرها الى هذا القمص ليعاضده ويساعده على المسلمين، فعرّفه القمص غناه عنه وانه قادر على مقارعة المسلمين ان قاتلوه فعاد بغدوين الى عكا.
[2] كذا وفي الكامل: طغتكين بدلا من طغركين. ج 10 ص 399.(5/173)
جكرمش ليستعينوا به في غزو الفرنج وجمع شمل المسلمين فجاوبه أبو الغازي بالمنع من ذلك ثم قبض عليه وقيده فانتقض التركمان ولجئوا الى سور المدينة وقاتلوا رضوان وبعث رضوان بأبي الغازي الى نصيبين فخرجت منها العساكر لإمداده فافترق منها التركمان ونهبوا ما قدروا عليه ورحل رضوان من وقته الى حلب وانتهى الخبر الى جكرمش بتلّ أعفر وهو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك الى سنجار وبعث اليه رضوان في الوفاء بما وعده من النجدة فلم يف له ونازل صهره البي بن ارسلان بسنجار وهو جريح من السهم الّذي أصابه على نصيبين فخرج اليه البي محمولا واعتذر اليه فأعتبه وأعاده الى بلده فمات وامتنع أصحابه بسنجار رمضان وشوّالا ثم خرج اليه [1] عمّ البي وصالح جكرمش وعاد الى الموصل والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه.
استيلاء الفرنج على افامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص وملكها منه تاج الدولة تتش فسار الى مصر وأقام بها ثم بعث صاحب افامية من جهة رضوان بن تتش بطاعته الى صاحب مصر العلويّ فبعث اليها ابن ملاعب وملكها وخلع طاعة العلوية وأقام يخيف السبيل كما كان في حمص فلما ملك الافرنج سرمين لحق به قاضيها وكان على مذهب الرافضة فكتب الى ابن الطاهر الصانع من أكابر الغلاة ومن أصحاب رضوان وداخلهم في الفتك بابن ملاعب ونمى الخبر إليه من أولاده فحلف له القاضي بما اطمأن اليه وتحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون الى ابن ملاعب ويعطونه خيلهم وسلاحهم ويقيمون للجهاد معه ففعلوا وأنزلهم بربض افامية ثم بيته القاضي ليلا بمن معه من أهل سرمين ورفع أولئك الجند من الربض بالحبال وقتلوا ابن ملاعب في بيته وقتلوا معه ابنه وفرّ الآخر الى أبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وجاء الصانع من حلب الى القاضي فطرده واستبدّ بأفامية وكان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين وولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره فطلب طغركين فهرب الى الافرنج وأغراهم بأفامية ودلهم على عورتها وعدم الأقوات فيها فحاصروها شهرا وملكوها عنوة وقتلوا القاضي والصانع وذلك سنة تسع وتسعين وقد ذكرنا قبل أنّ الصانع قتله ابن بديع أيام تتش صاحب حلب إثر مهلك رضوان فاللَّه أعلم أيهما الصحيح ثم ملك صاحب
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 407: فجاء تميرك أخو ارسلان تاش عم البي فأصلح حاله مع جكرمش.(5/174)
انطاكية من الافرنج حصن الامارة بعد حصار طويل فملكه عنوة واستلحم أهله وفعل في ذرّيته مثل ذلك ورحل أهل منبج وبالس وتركوهما خاويين وملكوا حيد بالأمان وطلب الفرنج من أهل الحصون الإسلامية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فرضوها عليهم فكان على رضوان في حلب وأعمالها ثلاثون ألف دينار وعلى صور سبعة آلاف وعلى ابن منقذ في شيزر أربعة آلاف وعلى حماة ألفا دينار وذلك سنة خمس وخمسمائة.
استيلاء طغركين على بصرى
قد تقدّم لنا سنة سبع وتسعين حال تلتاش بن تتش والخطبة له بعد أخيه دقاق وخروجه من دمشق واستنجاده الفرنج وانّ الّذي تولى كبر ذلك كله اسكين الحملي صاحب بصرى فسار طغركين سنة المائة الخامسة الى بصرى وحاصرها حتى أذعنوا وضربوا له أجلا للفرنج فعاد الى دمشق حتى انقضى الأجل فآتوه طاعتهم وملك البلد وأحسن اليهم والله تعالى وليّ التوفيق لا ربّ غيره.
غزو طغركين وهزيمته
ثم سار طغركين سنة اثنتين وخمسمائة الى طبرية ووصل اليها ابن أخت بغدوين ملك القدس [1] من الفرنج فاقتتلوا فانهزم المسلمون أوّلا فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكرّوا وانهزم الفرنج وأسر ابن أخت بغدوين وعرض طغركين عليه الإسلام فامتنع فقتله بيده وبعث بالأسرى الى بغداد ثم انعقد الصلح بين طغركين [2] وبغدوين بعد أربع سنين وسار بعدها طغركين الى حصن غزة في شعبان من السنة وكان ليد مولى القاضي فخر الملك بن علي ابن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه وحاصره الافرنج وانقطعت عنه الميرة فأرسل طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن فأرسل اليه إسرائيل من أصحابه فملك الحصن وقتل صاحبه مولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه فانتظر طغركين دخول الشتاء وسار الى الحصن لينظر في أمره وكان السرداني من الافرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الاكمة أغذ السير اليه فهزمه وغنم سواده ولحق طغركين بحمص ونازل السرداني غرّة فاستأمنوا اليه وملكها وقبض على إسرائيل فادى به أسيرا كان لهم بدمشق منذ سبع سنين ووصل طغركين
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وهو بغدوين الأول، امبراطور اللاتين على القسطنطينية قائد الحملة الصليبية الرابعة.
[2] وفي نسخة ثانية: نيدغ.(5/175)
الى دمشق ثم قصد ملك الافرنج رمسة من أعماله دمشق فملكها وشحنها بالأقوات والحامية فقصدها طغركين بعد أن نمى اليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة وأسر الافرنج الذين بها والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتقاض طغركين على السلطان محمد
كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل بالمسير لغزو الافرنج لأن ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست وخمسمائة واستصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر وسار سنة تسع ولقيه طغركين بسهلة وقصدوا القدس وانتهوا الى الانحوانة على الأردن وجاء بغدوين فنزل قبالتهما على النهر ومعه جوسكين صاحب جيشه واقتتلوا منتصف محرّم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الافرنج وقتل منهم كثير وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن ولقيتهم عساكر طرابلس وانطاكية فاشتدّوا وأقاموا بجبل قرب طبرية وحاصرهم المسلمون فيه ثم يئسوا من الظفر به فساحوا في بلادهم واكتسحوها وخربوها ونزلوا مرج الصفر وأذن مودود للعساكر في العود والراحة ليتهيأوا للغزو. وسلخ الشتاء ودخل دمشق آخر ربيع من سنة [1] ليقيم عند طغركين تلك المدّة وصلى معه أوّل جمعة ووثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه ومات آخر يومه واتهم طغركين بقتله وولى السلطان مكانه على الموصل آقسنقر البرسقي فقبض على أياز بن أبي الغازي وأبيه صاحب حصن كيفا فسار بنو أرتق الى البرسقي وهزموه وتخلص أياز من أسره فلحق أبو الغازي أبوه بطغركين صاحب دمشق وأقام عنده وكان مستوحشا من السلطان محمد لاتهامه بقتل مودود فبعث الى صاحب انطاكية من الفرنج وتحالفوا على المظاهرة وقصد أبو الغازي ديار بكر فظفر به قيرجان بن قراجا صاحب حمص وأسره وجاء طغركين لاستنفاذه فحلف قيرجان ليقتلنه ان لم يرجع طغركين الى بلاده وانتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت فأجاب طغركين الى إطلاقه ثم بعث السلطان محمد العساكر لجهاد الافرنج والبداءة بقتال طغركين وأبي الغازي فساروا في رمضان سنة ثمان وخمسمائة ومقدّمهم برسق بن برسق صاحب همذان وانتهوا الى حلب وبعثوا الى متوليها لؤلؤ الخادم ومقدّم عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد واستحثا طغركين
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة سبع وخمسمائة، وحادث الاقتتال على بحيرة طبرية المذكور هنا في منتصف محرم سنة عشر، ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ست وخمسمائة.(5/176)
وابا الغازي في الوصول فوصلا في العساكر وامتنعت حلب على العساكر وأظهروا العصيان فسار برسق الى حماة وهي لطغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسألهما الأمير قيرجان صاحب حمص وكان جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الأمراء من ذلك وكسلوا عن الغزو وسار أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص الى انطاكية يستنجدون صاحبها دجيل من الافرنج ثم توادعوا الى انصرام الشتاء ورجع أبو الغازي الى ماردين وطغركين الى دمشق ثم كان في اثر ذلك هزيمة المسلمين واستشهد برسق وأخوه زنكي وقد تقدّم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقي ثم قدم السلطان محمد بغداد فوفد عليه أتابك طغركين صاحب دمشق في ذي القعدة من سنة تسع مستعينا فأعانه وأعاده الى بلده والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة رضوان بن تتش صاحب حلب وولاية ابنه البارسلان
ثم توفي رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسع وخمسمائة وقد كان قتل أخويه أبا طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في أموره ويداخلهم ولما توفي بايع مولاه لؤلؤ الخادم لابنه البارسلان صبيا مغتلما وكانت في لسانه حبسة فكان يلقب الأخرس وكان لؤلؤ مستبدّا عليه لأوّل ملكه قتل أخويه وكل ملك شاه منهما شقيقه وكانت الباطنية كثيرا في حلب في أيام رضوان حتى خافهم ابن بديع وأعيانها فلما توفي أذن لهم البارسلان في الإيقاع بهم فقبضوا على مقدّمهم ابن طاهر الصابغ وجماعة من أصحابهم فقتلوهم وافترق الباقون.
مهلك لؤلؤ الخادم واستيلاء أبي الغازي ثم مقتل البارسلان وولاية أخيه السلطان شاه
كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب وولىّ أتابكية البارسلان ابن مولاه رضوان ثم تنكر له فقتله لؤلؤ ونصب في الملك أخاه سلطان شاه واستبدّ عليه فلما كان سنة احدى عشرة سار الى قلعة جعفر للاجتماع بصاحبها سالم بن مالك فغدر به مماليكه الأتراك وقتلوه عند خرتبرت وأخذوا خزائنه واعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخذوه وولىّ أتابكية سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص بارقياس وعزل لشهر وولىّ بعده أبو المعالي بن(5/177)
الملحي الدمشقيّ ثم عزل وصدور واضطربت الدولة وخاف أهل حلب من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق وحكموه على أنفسهم ولم يجد فيها مالا فصادر جماعة الخدم وصانع بمالهم الافرنج حتى صار الى ماردين بنية العود الى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش وانقرض ملك رضوان بن تتش من حلب والله سبحانه وتعالى أعلم.
هزيمة طغركين أمام الافرنج
كان ملك الافرنج بغدوين صاحب القدس قد توفي سنة اثنتي عشرة وقام بملكهم بعده القمص صاحب الرها الّذي كان أسره جكرمس وأطلقه جاولى كما تقدّم في أخبارهم وبعث الى طغركين في المهادنة وكان قد سار من دمشق لغزوهم فأبى من اجابته وسار الى طبرية فنهبها واجتمع بقواد المصريين في عسقلان وقد أمرهم صاحبهم بالرجوع الى رأي طغركين ثم عاد الى دمشق وقصد الافرنج حصنا من أعماله فاستأمن اليهم أهله وملكوه ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين ابنه بوري لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات الى جبل هناك وحاصرهم بوري وجاء اليه أبو طغركين فراسلوه ليفرج عنهم فأبى طمعا في أخذهم فاستماتوا وحملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم ونالوا منهم ورجع الفل الى دمشق وسار طغركين الى أبي الغازي بحلب يستنجده فوعده بالنجدة وسار الى ماردين للحشد ورجع طغركين الى دمشق كذلك وتواعدوا للجبال وسبق الافرنج الى حلب وكان بينه وبين أبي الغازي ما نذكره في موضعه من دولة بني ارتق والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق لا ربّ غيره.
منازلة الافرنج دمشق
ثم اجتمع الافرنج سنة عشرين وخمسمائة ملوكهم وقمامصتهم وساروا الى دمشق ونزلوا مرج الصفر وبعث أتابك طغركين بالصريخ الى تركمان بديار بكر وغيرها وخيم قبالة الافرنج واستخلف ابنه بوري على دمشق ثم ناجزهم الحرب آخر السنة فاشتدّ القتال وصرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون وركب طغركين واتبعهم ومضت خيالة الافرنج في اتباعهم وبقي رجالة التركمان في المعركة فلما خلص اليهم رجالة الافرنج اجتمعوا واستماتوا وحملوا على رجالة الافرنج فقتلوهم ونهبوا معسكرهم وعادوا غانمين ظافرين الى دمشق ورجعت خيالة الافرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوبا ورجالتهم قتلى وكان ذلك من الصنع الغريب
.(5/178)
وفاة طغركين وولاية ابنه بوري
ثم توفي أتابك طغركين صاحب دمشق في صفر سنة اثنتين وعشرين وكان من موالي تاج الدولة تتش وكان حسن السيرة مؤثرا للعدل محبا في الجهاد ولقبه ظهير الدين ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الدولة بوري أكبر أولاده بعهده اليه بذلك وأقر وزير أبيه أبي علي طاهر بن سعد المزدغاني على وزارته وكان المزدغاني يرى رأي الرافضية الإسماعيلية وكان بهرام ابن أخي إبراهيم الأستراباذيّ لما قتل عمه إبراهيم ببغداد على هذا المذهب لحق بالشام وملك قلعة بانياس ثم سار الى دمشق وأقام بها خليفة يدعو الى مذهبه ثم فارقها وملك القدموس وغيره من حصون الجبال وقابل البصرية والدرزة بوادي اليتيم [1] من أعمال بعلبكّ سنة اثنتين وعشرين وغلبهم الضحاك وقتل بهرام وكان المزدغاني قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا الوفاء فكثر اتباعه وتحكم في البلد وجاء الخبر الى بوري بأنّ وزيره المزدغاني والإسماعيلية قد راسلوا الافرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء اليها وقتل المزدغاني ونادى بقتل الإسماعيلية وبلغ الخبر الى الافرنج فاجتمع صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب طرابلس وسائر ملوك الافرنج وساروا لحصار دمشق واستصرخ تاج الملك بالعرب والتركمان وجاء الافرنج في ذي الحجة من السنة وبثوا سراياهم للنهب والاغارة ومضت منها سرية الى خوارزم فبعث تاج الدولة بوري سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه لمدافعتهم فلقوهم وظفروا بهم واستلحموهم وبلغ الخبر الى الافرنج فأجفلوا منهزمين وأحرقوا مخلفه واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون والله تعالى ولىّ التوفيق.
أسر تاج الملك لدبيس بن صدقة وتمكين عماد الدين زنكي منه
كان بصرخد من أرض الشام [2] أميرا عليها فتوفي سنة خمس وعشرين وخلف سريته واستولت على القلعة وعملت أنه لا يتمّ لها استيلاؤها الا بتزويج رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت اليه تستدعيه وهو على البصرة منابذا للسلطان عند ما
__________
[1] كذا بالأصل والصحيح: وقابل النصيرية والدروز بوادي التيم
[2] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا الأمير(5/179)
رجع من عند سنجر فاتخذ الأدلاء وسار الى صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق ونزل على قوم من بني كلاب شرقي الغوطة فحملوه الى تاج الملك فحبسه وبعث به الى عماد الدين زنكي يستدعيه ويتهدّده على منعه وأطلق سريج بن تاج الملك الملوك والأمراء الذين كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس اليه وأشفق على نفسه فلما وصل الى زنكي خالف ظنه وأحسن اليه وسدّ خلته وبسط أمله وبعث فيه المسترشد أيضا يطلبه وجاء فيه الانباري وسمع في طريقه بإحسان زنكي اليه فرجع ثم أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق.
وفاة تاج الملوك بوري صاحب دمشق وولاية ابنه شمس الملوك إسماعيل
كان تاج الملوك بوري قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس وعشرين وطعنوه فأصابته جراحة واندملت ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست وعشرين لأربع سنين ونصف من إمارته وولىّ بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل بعهده اليه بذلك وكان عهد بمدينة بعلبكّ وأعمالها لابنه الآخر شمس الدولة وقام بتدبير أمره الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق وأحسن الى الرعية وبسط العدل فيهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء شمس الملوك على الحصون
ولما تولّى شمس الملوك إسماعيل وسار أخوه محمد الى بعلبكّ خرج اليها وحاصر أخاه محمدا بها وملك البلد واعتصم محمد بالحصن وسأل الإبقاء فأبقى عليه ورجع الى دمشق ثم سار الى باشاش وقد كان الافرنج الذين بها نقضوا الصلح وأخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار اليها طاويا وجه مذهبه حتى وصلها في صفر سنة سبع وعشرين وقاتلها ونقب أسوارها وملكها عنوة ومثل بالافرنج الذين بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا وملكها ورجع الى دمشق ثم بلغه انّ المسترشد زحف الى الموصل فطمع هو في حماة وسار آخر رمضان وملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا اليه وملكها واستولى على ما فيها ثم سار الى قلعة شيرز وبها صاحبها من بني منقذ فحاصرها وصانعه صاحبها بمال حمله اليه فأفرج عنه وسار الى دمشق في ذي القعدة من السنة ثم سار في محرّم سنة ثمان وعشرين الى حصن شقيق [1] في
__________
[1] هي قلعة الشقيف(5/180)
الجبل المطل على بيروت وصيدا وبه الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به وتحاماه المسلمون والافرنج يحتمي من كل طائفة بالأخرى فسار اليه وملكه من وقته وعظم ذلك على الافرنج فساروا الى جوران وعاثوا في نواحيها فاحتشد هو واستنجد بالتركمان وسار حتى نزل قبالتهم وجهز العسكر هنالك وخرج في البرّ وأناخ على طبرية وعكا فاكتسح نواحيها وامتلأت أيدي عسكره بالغنائم والسبي وانتهى الخبر الى الافرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا الى بلادهم وعاد هو الى دمشق وراسله الافرنج في تجديد الهدنة فهادنهم.
مقتل شمس الملوك وولاية أخيه شهاب الدين محمود
كان شمس الملوك سيّئ السيرة كثير الظلم والعدوان على رعيته مرهف الحدّ لأهله وأصحابه حتى انه وثب عليه بعض مماليك جدّه سنة سبع وعشرين وعلاه بالسيف ليقتله فأخذ وضرب فأقرّ على جماعة داخلوه فقتلهم وقتل معهم أخاه سونج فتنكر الناس له وأشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكي ليملكه دمشق واستحثه في الوصول لئلا يسلم البلد الى الافرنج فسار زنكي فصدق الناس الاشاعة وانتقض أصحاب أبيه لذلك وشكو الأمّة فأشفقت ثم تقدّمت الى غلمانه بقتله فقتلوه في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وقيل انه اتهم أمّه بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف وقتلته أمّه ولما قتل ولىّ أخوه شهاب الدين محمود من بعده ووصل أتابك زنكي بعد مقتله فحاصر دمشق من ميدان الحصار وجدّوا في مدافعته والامتناع عليه وقام في ذلك معين الدين أنز مملوك جدّه طغراكين مقاما محمودا وجلا في المدافعة والحصار ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزري الى أتابك زنكي يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك البارسلان شهاب الدين محمود وصلحه معه فرحل عن دمشق منتصف السنة.
استيلاء شهاب الدين محمود على حمص
كانت حمص لقيرجان بن قراجا ولولده من بعده والموالي بها من قبلهما وطالبهم عماد الدين زنكي في تسليمها وضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب الدين صاحب دمشق في أن يملكها ويعوّضهم عنها بتدمر فأجاب واستولى على حمص وسار اليها سنة ثلاثين وأقطعها لمملوك جدّه معين الدين أنز وأنزل معه حامية من عسكره ورجع الى دمشق واستأذنه الحاجب يوسف بن(5/181)
فيروز في العود من تدمر الى دمشق وقد كان هرب اليها كما قدّمناه وكان جماعة من الموالي منحرفين عنه بسبب ما تقدّم في مقتل سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز واسترضاهم وحلف لهم انه لا يتولى شيئا من الأمور ولما دخل رجع الى حاله فوثبوا عليه وقتلوه وخيموا بظاهر دمشق واشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبكّ وبثوا السرايا الى دمشق فعاثت في نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا الى ظاهر دمشق وخرج لهم شهاب الدين وتحالفوا ودخلوا الى البلد وولىّ مرواش كبيرهم على العساكر وجعل اليه الحلّ والعقد في دولته والله أعلم.
استيلاء عماد الدين زنكي على حمص وغيرها من أعمال دمشق
ثم سار أتابك زنكي إلى حمص في شعبان سنة إحدى وثلاثين وقدم إليه حاجبه صلاح الدين الباغيسياني وهو أكبر أمرائه مخاطبا واليها معين الدين انز في تسليمها فلم يفعل وحاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوّال من السنة ثم سار سنة اثنتين وثلاثين إلى نواحي بعلبكّ فملك حصن المحولي على الأمان وهو لصاحب دمشق ثم سار إلى حمص وحاصرها وعاد ملك الروم إلى حلب فاستدعى الفرنج وملك كثيرا من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون وحصر أنطاكية ثم رجع وأفرج أتابك زنكي خلال ذلك عن حمص ثم عاود منازلتها بعد مسير الروم وبعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمّه مرد خاتون ابنة جاولي طمعا في الاستيلاء على دمشق فزوّجها له ولم يظفر بما أمله من دمشق وسلموا له حمص وقلعتها وحملت إليه خاتون في رمضان من السنة والله أعلم.
مقتل شهاب الدين محمود وولاية أخيه محمد
لما قتل شهاب الدين محمود في شوّال سنة ثلاث وثلاثين اغتاله ثلاثة من مواليه في مضجعه بخلوته وهربوا فنجا واحد منهم وأصيب الآخران كتب معين الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بوري صاحب بعلبكّ بالخبر فسارع ودخل دمشق وتبعه الجند والأعيان وفوّض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جدّه وأقطعه بعلبكّ واستقامت أموره
.(5/182)
استيلاء زنكي على بعلبكّ وحصاره دمشق
ولما قتل شهاب الدين محمود وبلغ خبره إلى أمّه خاتون زوجة أتابك زنكي بحلب عظم جزعها عليه وأرسلت إلى زنكي بالخبر وكان بالجزيرة وسألت منه الطلب بثأر ابنها فسار الى دمشق واستعدّوا للحصار فعدل الى بعلبكّ وكانت لمعين الدين أنز كما قلناه وكان أتابك زنكي دسّ إليه الأموال ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار الى بلده بعلبكّ وجدّ في حربها ونصب عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه وملكها في ذي الحجة آخر سنة ثلاث وثلاثين واعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم وأرهب الناس بهم ثم سار إلى دمشق وبعث إلى صاحبها في تسليمها والنزول عنها على أن يعوّضه عنها فلم يجب إلى ذلك فزحف إليها ونزل دار يا منتصف ربيع الأول سنة اربع وثلاثين وبرزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم وهزمهم ونزل المصلي وقاتلهم فهزمهم ثانيا ثم أمسك عن قتالهم عشرة أيام وتابع الرسل إليه بأن يعوّضه عن دمشق ببعلبكّ أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه فعاد زنكي الى القتال واشتدّ في الحصار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
وفاة جمال الدين محمد بن بوري وولاية ابنه مجير الدين أنز
ثم توفي جمال الدين محمد بن بوري صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع وثلاثين وزنكي محاصر به وهو معه في مراوضة الصلح وجمع زنكي فيما عساه أن يقع بين الأمراء من الخلاف فاشتدّ في الزحف فما وهنوا لذلك وولوا من بعد جمال الدين محمدا ابنه مجير الدين أنز وقام بتربيته وتدبير دولته معين الدين أنز مدبر دولته وأرسل إلى الإفرنج يستنجدهم على مدافعة زنكي على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها فأجابوا إلى ذلك حذرا من استطالة زنكي بملك دمشق فسار زنكي للقائهم قبل اتصالهم بعسكر دمشق ونزل حوران في رمضان من السنة فخام الإفرنج عن لقائه وأقاموا ببلادهم فعاد زنكي إلى حصار دمشق في شوّال من السنة ثم أحرق قرى المرج والغوطة ورحل عائدا إلى بلده ثم وصل الإفرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكي ليفتحها ويعطيها للافرنج كما عاهدهم عليه وقد كان واليها أغار على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب(5/183)
أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق لإنجاد صاحبها علي زنكي فقتل الوالي ومن معه من العسكر ولجأ الباقون إلى قاشاش وجاء معين الدين أنز أثر ذلك في العساكر فملكها وسلمها للافرنج وبلغ الخبر إلى أتابك زنكي فسار إلى دمشق بعد أن فرّق سراياه وبعوثه على حوران وأعمال دمشق وسار هو متجرّدا إليها فصبحها وخرج العسكر لقتاله فقاتلهم عامّة يومه ثم تأخر إلى مرج راهط وانتظر بعثوه حتى وصلوا إليه وقد امتلأت أيديهم بالغنائم ورحل عائدا إلى بلده.
مسير الإفرنج لحصار دمشق
كان الإفرنج منذ ملكوا سواحل الشام ومدنه تسير إليهم أمم الإفرنج من كل ناحية من بلادهم مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرّد هؤلاء بالشام بين عدوّهم وسار في سنة ثلاث وأربعين ملك الالمان من أمراء الإفرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصدا بلاد الإسلام لا يشك في الغلب والاستيلاء لكثرة عساكره وتوفر عدده وأمواله فلما وصل الشام اجتمع عليه عساكر الإفرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق فساروا لذلك سنة ثلاث وأربعين وحاصروها فقام معين الدين أنز في مدافعتهم المقام المحمود ثم قاتلهم الإفرنج سادس ربيع الأوّل من السنة فنالوا من المسلمين بعد الشدّة والمصابرة واستشهد ذلك اليوم الفقيه حجة الدين يوسف العندلاوي المغربي وكان عالما زاهدا وسأله معين الدين يومئذ في الرجوع لضعفه وسنه فقال له قد بعت واشترى مني فلا أقيل ولا أستقيل يشير إلى آية الجهاد وتقدّم حتى استشهد عند أسرت على نصف فرسخ من دمشق واستشهد معه خلق وقوي الإفرنج ونزل ملك الألمان الميدان الأخضر وكان عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة إحدى وأربعين وولي ابنه سيف الدين غازي الموصل وابنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجاء لإنجاده ومعه أخوه نور الدين وانتهوا إلى مدينة حمص وبعث إلى الإفرنج يتهدّدهم فاضطرّوا إلى قتاله وانقسمت مؤنتهم بين الفريقين وأرسل معين الدين إلى الألمان يتهدّدهم بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعني صاحب الموصل وأرسل إلى فرنج الشام يحذرهم من استيلاء ملك الألمان على دمشق فإنه لا يبقى لكم معه مقام في الشام ووعدهم يحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الألمان وخوفوه من صاحب الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد وأعطاهم معين الدين قلعة قاشاش وعاد ملك الألمان إلى بلاده على البحر المحيط في(5/184)
أقصى الشمال والمغرب ثم توفي معين الدين أنز مدبر دولة أرتق والمتغلب عليه سنة أربع وأربعين لسنة من حصار ملك الألمان والله أعلم.
استيلاء نور الدين محمود العادل على دمشق وانقراض دولة بني تتش من الشام
كان سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة أربع وأربعين وملك أخوه قطب الدين وانفرد أخوه الآخر نور الدين محمود بحلب وما يليها وتجرّد لطلب دمشق ولجهاد الإفرنج واتفق أنّ الإفرنج سنة ثمان وأربعين ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مرّ في أخبار دولتهم ولم يجد نور الدين سبيلا إلى ارتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه وبينهم ثم طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان وكان أهل دمشق يؤدّون إليهم الضريبة فيدخلون لقبضها ويتحكمون فيهم ويطلقون من أسرى الإفرنج الذين بها كل من أراد الرجوع إلى أهله فخشي نور الدين عليها من الافرنج ورأى أنه أن قصدها استنصر صاحبها عليه بالإفرنج فراسل صاحبها مجير الدين واستماله بالهدايا حتى وثق به فكان يغريه بأمرائه الذين يجد بهم القوّة على المدافعة واحدا واحدا ويقول له أنّ فلانا كاتبني بتسليم دمشق فيقتله مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمي الخادم وكان شديدا في مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه وقتله فسار حينئذ نور الدين الى دمشق بعد أن كاتب الأحداث الذين بها واستمالهم فوعدوه وأرسل مجير الدين الى الإفرنج يستنجده من نور الدين على أن يعطيهم بعلبكّ فأجابوه وشرعوا في الحشد وسبقهم نور الدين الى دمشق فثار الأحداث الذين كاتبهم وفتحوا له الباب الشرقي فدخل منه وملكها واعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها وعوّضه مدينة حمص فسار إليها ثم عوّضه عن حمص بالس فلم يرضها وسار إلى بغداد واختط بها دارا قرب النظامية وتوفي بها واستولى نور الدين على دمشق وأعمالها واستضافها إلى ملكه فجلب وانقرض ملك بني تتش من الشام والبلاد الفارسية أجمع والبقاء للَّه وحده والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه وتعالى
.(5/185)
الخبر عن دولة قطلمش وبنيه ملوك قونية وبلاد الروم من السلجوقية ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم
كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت ونسبه فيهم مختلف فقيل قطلمش بن بيقو وابن الأثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك وتارة يقول قطلمش بن إسرائيل من سلجوق ولعله بيان ذلك الاجمال ولما انتشر السلجوقية في البلاد طالبين للملك دخل قطلمش هذا إلى بلاد الروم وملك قونية وأقصرا ونواحيها وبعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن(5/186)
بدران صاحب الموصل في طلب دبيس بن مزيد عند ما أظهر الدولة العلوية في الحلة وأعمالها فهزمهم دبيس والبساسيري كما تقدّم في أخبارهم ثم عصى على السلطان البارسلان بعد طغرلبك وقصد الريّ ليملكه وقاتله البارسلان سنة ست وخمسين فانهزم عسكر قطلمش ووجد بين القتلى فتجمع له البارسلان وقعد للعزاء فيه كما تقدّم في أخبارهم وقام بأمره ابنه سليمان وملك قونية وأقصرا وغيرهما من الولاية التي كانت بيد أبيه وافتتح أنطاكية من يد الروم سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقد كانوا ملكوها منذ خمس وخمسين وأربعمائة فأخذها منهم وأضافها إلى ملكه وقد تقدّم خبر ملكه إياها في دولتهم وكان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة على الروم بأنطاكية فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك وأنف منه فجمع مسلم العرب والتركمان لحصار أنطاكية ومعه جق أمير التركمان والتقيا سنة ثمان وسبعين وانحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب وسار سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه وسألوه الإمهال حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ السير واعترضه سليمان بن قطلمش على تعبية فانهزم وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره وملك بعده ابنه قلج أرسلان وأقام في سلطانه ولما زحف الإفرنج إلى سواحل الشام سنة تسعين وأربعمائة جعلوا طريقهم على القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرط عليهم أن يعطوه أنطاكية إذا ملكوها فأجابوا لذلك وعبروا خليج القسطنطينية ومروا ببلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قطلمش فلقيهم في جموعه قريبا من قونية فهزموه وانتهوا الى بلاد ابن ليون الارمني فمروا منها الى أنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعدّ للحصار وأمر بحفر الخندق فعمل فيه المسلمون يوما ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد فلما جاءوا للدخول منعهم وقال أنا لكم في مخلفكم حتى ينصرف هؤلاء الإفرنج وزحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم فادخلوهم من بعض مسارب الوادي وأصبحوا في البلد فاستباحوه وركب بغيسيان للصلح فهرب ولقيه حطاب من الأرمن فجاء برأسه إلى الإفرنج وولي عليها بمشد من زعماء الإفرنج وكان صاحب حلب وصاحب دمشق قد عزما على النفير إلى أنطاكية لمدافعتهم فكاتبهم بالمسالمة وأنهم لا يعرضون لغير أنطاكية فأوهن ذلك من عزائمهم وأقصروا عن انجاد باغيسيان وكان التركمان قد انتشروا في نواحي العراق وكان كمشتكين بن طبلق المعروف أبوه بالدانشمند ومعناه المعلم عندهم قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلي أنطاكية وكان بملطية مما يجاورها متغلب آخر من التركمان وبينه وبين الوانشمند حروب(5/187)
فاستنجد صاحب ملطية عليه الإفرنج وجاء بيضل من أنطاكية سنة ثلاث وتسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند وهزمه وأخذه أسيرا وجاء الإفرنج لتخليصه فنازلوا قلعة أنكوريّة وهي أنقرة فأخذوها عنوة ثم ساروا إلى أخرى فيها إسماعيل بن الوانشمند وحاصروها فجمع ابن الوانشمند وقاتلهم وأكمن لهم وكانوا في عدد كثير فلما قاتلهم استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين وكرّ عليهم فلم يفلت منهم أحد وسار إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها وجاءه الإفرنج من أنطاكية فهزمهم.
استيلاء قليج أرسلان على الموصل
كانت الموصل وديار بكر والجزيرة بيد جكرمش من قواد السلجوقية فمنع الحمل وهم بالانتقاض فأقطع السلطان الموصل وما معها لجاولي سقاوو والكل من قوادهم وأمرهم بالمسير لقتال الإفرنج فسار جاولي وبلغ الخبر لجكرمش فسار من الموصل إلى أربل وتعاقد مع أبي الهيجاء بن موشك الكردي الهدباي صاحب أربل وانتهى إلى البوازيج فعبر إليه جكرمش دجلة وقاتله فانهزمت عساكر جكرمش وبقي جكرمش واقفا لفالج كان به فأسره جاولي ولحق الفل بالموصل فنصبوا مكانه ابنه زنكي صبيا صغيرا وأقام بأمره غزغلي مولى أبيه وكانت القلعة بيده وفرّق الأموال والخيول واستعدّ لمدافعة جاولي وكاتب صدقة بن مزيد والبرسقي شحنة بغداد وقلج أرسلان صاحب بلاد الروم يستنجدهم ويعد كلا منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولي فأعرض صدقة عنه ولم يحتفل بذلك ثم سار جاولي إلى الموصل وحاصرها وعرض جكرمش للقتل أو يسلموا إليه البلد فامتنعوا وأصبح جكرمش في بعض أيام حصارها [1] وسمع جاولي بأن قلج أرسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل وسار إلى سنجار وسبق البرسقي إليها بعد رحيل جاولي وأرسل إلى أهلها فلم يجيبوه بشيء وعاد إلى بغداد واستدعى رضوان صاحب دمشق جاولي سقاوو لمدافعة الإفرنج عنه فساروا إليه وخرج من الموصل عسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين فتحالفوا معه وجاءوا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من سنة خمسمائة وخرج إليه ابن جكرمش وأصحابه وملك القلعة من غزغلي وجلس على التخت وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن الى العسكر وسار في الناس بالعدل وكان في جملته إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 458: فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه، وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان فيه.(5/188)
ومحمد بن جق التركماني صاحب حصن زياد وهو خرت برت وكان إبراهيم بن نيال قد ولى تتش على آمد حين ولي ديار بكر وكانت بيده وأمّا خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم والرها وأنطاكية من أعماله فملك سليمان بن قطلمش أنطاكية وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر فضعف القلادروس وملك جق خرت برت من يده وأسلم القلادروس على يد السلطان ملك شاه وأمره على الرها فأقام بها حتى مات وملكها جق هي وما جاورها من الحصون وأورثها ابنه محمدا بعد موته والله تعالى وليّ التوفيق.
الحرب بين قليج أرسلان وبين الإفرنج
كان سمند صاحب أنطاكية من الإفرنج قد وقعت بينه وبين ملك الروم بالقسطنطينية وحشة واستحكمت وسار سمند فنهب بلاد الروم وعزم على قصد أنطاكية فاستنجد ملك الروم بقليج أرسلان فأمدّه بعساكره وسار مع ذلك الروم فهزموا الإفرنج وأسروهم ورجع الفلّ إلى بلادهم بالشام فاعتزموا على قصد قليج أرسلان بالجزيرة فأتاهم خبر مقتله فاقصروا والله تعالى ولي التوفيق.
مقتل قليج أرسلان وولاية ابنه مسعود
قد تقدم لنا استيلاء قليج أرسلان على الموصل وديار بكر وأعمالها وجلوسه على التخت وإن جاولي سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة وكان قلج أرسلان خطب له بها صاحبها محمد بن السباق من بني شيبان بعد مهلك دقاق وانتفاضة على أبيه فلما حاصرها جاولي بعث إليه رضوان بن تتش صاحب حلب في النجدة على الإفرنج لما ساروا إلى بلاده فوعده لانقضاء الحصار وجاء رضوان فحضر عنده واشتدّ الحصار على أهل الرحبة وغدر بعضهم فأدخل أصحاب جاولي ليلا ونهبوها إلى الظهر وخرج إليه صاحبها محمد الشيبانيّ فأطاعه ورجع عنه وبلغ الخبر إلى قلج أرسلان فسار من الموصل لحرب جاولي واستخلف عليها ابنه ملك شاه صبيا صغيرا مع أمير يدبره فلما انتهى إلى الخابور هرب عنه إبراهيم بن نيال صاحب آمد ولحق ببلده واعتزم قلج أرسلان على المطاولة واستدعى عسكره الذين أنجدهم ملك الروم على الإفرنج فجاءوا إليه واغتنم جاولي قلة عسكره فلقيه آخر ذي القعدة من السنة واشتدّت الحرب وحمل قليج أرسلان على جاولي بنفسه وصرع صاحب الراية وضرب جاولي بسيفه ثم حمل أصحاب جاولي عليه فهزموه وألقى نفسه في الخابور فغرق(5/189)
وسار جاولي إلى الموصل فملكها وأعاد خطبة السلطان محمد وبعث إليه ملك شاه بن قلج [1] أرسلان وولي مكان قليج أرسلان في قونية وأقصرا وسائر بلاد الروم ابنه مسعود واستقام له ملكها.
استيلاء مسعود بن قليج أرسلان على ملطية وأعمالها
كانت ملطية وأعمالها وسيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مرّ وكانت بينه وبينهم حروب وهلك كمستكين بن الوانشمند وولي مكانه ابنه محمد واتصلت حروبه مع الإفرنج كما كان أبوه معهم ثم هلك سنة سبع وثلاثين فاستولى مسعود بن قليج أرسلان على الكثير منها وبقي الباقي بيد أخيه باغي أرسلان بن محمد.
وفاة مسعود بن قليج وولاية ابنه قليج أرسلان
ثم توفي مسعود بن قليج أرسلان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملك مكانه ابنه قليج أرسلان فكانت بينه وبين باغي أرسلان ابن الوانشمند وصاحب ملطية وما جاورها من ملك الروم وحروب بسبب أنّ قليج تزوّج بنت الملك طليق بن علي بن أبي القاسم فزوّجها إليه بجهاز عظيم وأغار عليه باغي أرسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها وزوّجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن الوانشمند بعد أن أشار عليها بالردّة لينفسخ النكاح ثم عادت إلى الإسلام وزوّجها بابن أخيه فجمع قليج أرسلان عساكره وسار إلى باغي أرسلان بن الوانشمند فهزمه باغي أرسلان واستنجد ملك الروم فأمده بعسكر وسار باغي أرسلان خلال ذلك وولي إبراهيم ابن أخيه محمد وملك قليج أرسلان بعض بلاده واستولى أخوه ذو النون بن محمد الوانشمند على قيسارية وانفرد شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان بمدينة أنكوريّة وهي انقرة واستقرت الحال على ذلك ثم وقعت الفتنة بين قليج أرسلان وبين نور الدين محمود بن زنكي وتراجعوا للحرب وكتب الصالح بن زربك المتغلب على العلويّ بمصر إلى قليج أرسلان ينهاه عن ذلك ثم هلك إبراهيم بن محمد بن الوانشمند وملك مكانه أخوه ذو النون وانتقض قليج أرسلان عليه وملك ملطية من يده والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج أرسلان
ثم سار نور الدين محمود بن زنكي سنة ثمان وستين إلى ولاية أرسلان بن قليج أرسلان بن مسعود
__________
[1] هكذا في الأصل في هذه النسخة وهو قلج أرسلان كما في الكامل لابن الأثير.(5/190)
ببلاد الروم وهي ملطية وسيواس وأقصرا فجاءه قليج أرسلان متنصلا معتذرا فأكرمه وثني عزمه عن قصد بلاده ثم أرسل إليه شفيعا في ذي النون بن الوانشمند [1] يرد عليه بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك مرعش ونهسنا [2] وما بينهما في ذي القعدة من السنة وبعث عسكرا إلى سيواس فملكوها فمال قليج أرسلان إلى الصلح وبعث إلى نور الدين يستعطفه وقد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمدّه بالعساكر للغزو وعلى أن يبقى سيواس بيد نواب نور الدين وهي لذي النون بن الوانشمند ثم جاءه كتاب الخليفة باقطاع البلاد ومن جملتها بلاد قليج أرسلان وخلاط وديار بكر ولما مات نور الدين عادت سيواس لقليج أرسلان وطرد عنها نواب ذي النون.
مسير صلاح الدين لحرب قليج أرسلان
كان قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم قد زوّج بنته من نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر وأعطاه عدّة حصون فلم يحسن عشرتها وتزوّج عليها وهجر مضجعها وامتعض أبوها قليج أرسلان لذلك واعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر وأخذ بلاده فاستجار نور الدين بصلاح الدين بن أيوب واستشفع به فلم يشفعه وتعلل بطلب البلاد التي أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك وكان يحارب الإفرنج بالشام فصالحهم وسار في عساكره إلى بلاد الروم وكان الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالشام فعدل عنه ومرّ على تل ناشر إلى زغبان ولقي بها نور الدين محمود صاحب كيفا وبعث إليه قليج أرسلان رسولا يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول وتوعده بأخذ بلادهم فتلطف له الرسول وخلص معه نجيا فقبح له ما ارتكبه من أجل هذه المرأة من ترك الغزو ومصالحة العدوّ وجمع العساكر وخسارة وأن بنت قليج أرسلان لو بعث إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها وبين زوجها لكان أحق ما تقصده فامتنعت وعلم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم ويكون هو عونا له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه المرأة بعد سنة ويعقد بينهم ذلك ورجع كل الى بلده ووفى نور الدين بما عقد على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] في الكامل ج 11 ص 391: ذي النون ابن دانشمند صاحب ملطية وسيواس.
[2] في الكامل: فسار نور الدين إليه فابتدأ بكيّسون وبهنسى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها. ج 11 ص 391.(5/191)
قسمة قليج أرسلان أعماله بين ولده وتغلبهم عليه
ثم قسم قليج أرسلان سنة سبع وثمانين أعماله بين ولده فأعطى قونية بأعمالها لغياث الدين كسنجر وأقصرا وسيواس لقطب الدين ودوقاط لركن الدين سليمان وأنقرة وهي أنكوريّة لمحيي الدين وملطية لعز الدين قيصر شاه و [1] لغيث الدين وقيسارية لنور الدين محمود وأعطى تكسار وأماسا لابني أخيه وتغلب عليه ابنه قطب الدين وحمله على انتزاع ملطية من يد قيصر شاه فانتزعها ولحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعا به فأكرمه وزوّجه ابنة أخيه العادل وشفع له عند أبيه وأخيه فشفعوه وردوا عليه ملطية ثم زاد تغلب ركن الدين وحجر عليه وقتل دائبة في مدينته [2] وهو اختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته وأخذ قطب الدين أباه وسار به إلى قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج أرسلان ودخل قيسارية وعاد قطب الدين إلى قونية وأقصرا فملكها وبقي أرسلان ينتقل بين ولده من واحد إلى آخر وهم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب [3] منهم فأنجده وسار معه إلى قونية فملكها ثم سار إلى أقصرا وحاصرها ثم مرض قليج أرسلان وعاد إلى قونية فتوفي فيها وقبل إنما اختلف ولده عليه لأنه ندم على قسمة أعماله بينهم وأراد إيثار ابنه قطب الدين بجميعها وانتقضوا عليه لذلك وخرجوا عن طاعته وبقي يتردّد بينهم وقصد كسنجر وصاحب قونية فأطاعه وخرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية وتوفي قليج أرسلان وهو محاصر لقيسارية ورجع غياث الدين إلى قونية.
وفاة قليج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين
ثم توفي قليج أرسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مرّ من الخلاف منتصف ثمان وثمانين لسبع وعشرين سنة من ملكه وكان مهيبا عادلا حسن السياسة كثير الجهاد ولما توفي واستقلّ ابنه غياث الدين كسنجر بقونية وما إليها وكان قطب الدين أخوه صاحب أقصرا وسيواس وكان كلما سار من إحداهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 88. وسلم أبلستين إلى ولده مغيث الدين.
[2] كذا بالأصل وهي عبارة محرفة، وفي الكامل: وحجر عليه قطب الدين وكان قليج أرسلان قد استناب في مدينة ملكه رجلا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسنا.
[3] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ولم يذل قليج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كسنجر وصاحب مدينة برغلوا فلما رآه خرج به وخدمه. ج 12 ج 89.(5/192)
يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدّة فغدر به وقتله وامتنع أصحابه بقيسارية كبيرهم حسن فقتله مع أخيه ثم أطاعوه وأمكنوه من البلد ومات قطب الدين أثر ذلك.
استيلاء ركن الدين سليمان على قونية وأكثر بلاد الروم وفرار غياث الدين
ولما توفي قليج أرسلان وولي بعده في قونية ابنه غياث الدين كسنجر وبنوه يومئذ على حالتهم في ولايتهم التي قسمها بينهم أبوهم وملك قطب الدين منهم قيسارية بعد أن غدر بأخيه محمود صاحبها ومات قطب الدين أثر ذلك فسار ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد الروم فسار إلى سيواس وأقصرا وقيسارية أعمال قطب الدين فملكها ثم سار إلى قونية فحاصر بها غياث الدين وملكها ولحق غياث الدين بالشام كما يأتي خبره ثم سار إلى نكسار وأماسا فملكهما وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه ولحق معز الدين بالعادل أبي بكر بن أيوب ثم سار إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن حليق من بيت قديم وخرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحا فقبض عليه وملك البلد فاجتمع لركن الدين سائر أعمال إخوته ما عدا أنقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب وحاصرها ثلاثا ثم دس من قتل أخاه وملك البلد سنة إحدى وستمائة وتوفي هو عقب ذلك والله تعالى أعلم.
وفاة ركن الدين وولاية ابنه قليج أرسلان
ثم توفي ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان أوائل ذي القعدة من تمام سنة إحدى وستمائة وولي بعده ابنه قليج أرسلان فلم تطل مدّته وكان ركن الدين ملكا حازما شديدا على الأعداء إلا أنه ينسب إلى التزين بالفلسفة والله تعالى أعلم.
استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم من أخيه ركن الدين
كان غياث الدين كسنجر بن قليج أرسلان لما ملك أخوه ركن الدين قونية من يده لحق بحلب وفيها الظاهر غازي بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولا فسار إلى القسطنطينية وأكرمه(5/193)
ملك الروم وأصهر إليه بعض البطارقة في ابنته وكانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الإفرنج على القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق وبلغ إليه خبر أخيه تلك السنة وبعث بعض الأمراء من قونيّة يستدعيه فسار إليه واجتمعوا على حصار قونية وخرجت إليهم العساكر منها فهزموه ولحق ببعض البلاد فتحصن بها ثم قام أهل اقصرا بدعوته وطردوا واليهم وبلغ الخبر إلى أهل قونية فثاروا بقليج أرسلان بن ركن الدين وقبضوا عليه واستدعوا غياث الدين فملكوه وأمكنوه من ابن أخيه وكان أخوه قيصر شاه قد لحق بصهره العادل أبي بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عند ما ملك ملطية من يده فأمر له بالرها واستفحل ملك غياث الدين وقصده عليّ بن يوسف صاحب شميشاط ونظام الدين بن أرسلان صاحب خرت برت وغيرهما وعظم شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع وستمائة والله تعالى وليّ التوفيق.
مقتل غياث الدين كسنجر وولاية ابنه كيكاوس
ولما قتل غياث الدين كسنجر وولي بعده ابنه كيكاوس ولقبوه الغالب باللَّه وكان عمه طغرك شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم طلب الأمر لنفسه وسار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه وحاصره في سيواس وقصد أخوه كيغباد بن كسنجر بلد انكوريه من اعماله فاستولى عليها وبعث كيكاوس صريخه إلى الملك العادل صاحب دمشق فأنفذ إليه العساكر وأفرج طغرك عن سيواس قبل وصولهم فسار كيكاوس إلى أنكوريّة وملكها من يد أخيه كيغباد وحبسه وقتل أمراءه وسار إلى عمه طغرك في أرزن الروم فظفر به سنة عشر وقتله وملك بلاده.
مسير كيكاوس إلى حلب واستيلاؤه على بعض أعمالها ثم هزيمته وارتجاع البلد من يده
كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفي وملك بعده ابنه طفلا صغيرا وكان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فرارا من الظاهر وأغراه بملك حلب وهوّن عليه أمرها وملك ما بعدها ولما مات الظاهر قوي عزمه وطمعه في ذلك واستدعى الأفضل بن صلاح الدين بن شميشاط للمسير معه على أن تكون الخطبة لكيكاوس والولاية للأفضل في جميع ما يفتحونه من حلب وأعمالها فإذا افتحوا بلاد الجزيرة مثل حران والرها من يد الأشرف تكون ولايتها لكيكاوس وتعاقدوا على ذلك وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة(5/194)
رغبان وتسلمها الأفضل على الشرط ثم ملكوا قلعة تل ناشر فاستأثر بها كيكاوس وارتاب الأفضل ثم بعث ابن الظاهر صاحب حلب إلى الأشرف بن العادل صاحب الجزيرة وخلاط يستنجده على أن يخطب له بحلب وينقش اسمه على السكة فسار لإنجاده ومعه أحياء طيِّئ من العرب فنزل بظاهر حلب وسار كيكاوس والأفضل إلى منبج ولقيت طليعتهم طليعة الظاهر فاقتتلوا وعاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل وسار الأشرف إلى رغبان وتل ناشر وبهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما وأطلقهم إلى صاحبهم فأحرقهم بالنار وسلم الأشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب وبلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم.
وفاة كيكاوس وملك أخيه كيغباد
كان كيكاوس بعد الواقعة بينه وبين الأشرف قد اعتزم على قصد بلاد الأشرف بالجزيرة واتفق مع صاحب آمد وصاحب أربل على ذلك وكانا يخطبان له ثم سار إلى ملطية يشغل الأشرف عن الموصل حتى ينال منها صاحب أربل ومرض في طريقه فعاد ومات سنة ست عشرة وخلف بنيه صغارا وكان أخوه كيغباد محبوسا منذ أخذه من أنكوريّة فأخرجه الجند من محبسه وملكوه وقيل بل أخرجه هو من محبسه وعهد إليه ولما ملك خالف عليه عمه صاحب أرزن الروم فوصل يده بالأشرف وعقد معه صلحا.
الفتنة بين كيغباد وصاحب آمد من بني أرتق وفتح عدة من حصونه
كانت الفتنة قد حدثت بين الأشرف صاحب الجزيرة والمعظم صاحب دمشق وجاء جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث وعشرين بعد هروبه أمام التتر فملك أذربيجان واعتضد به المعظم صاحب دمشق على الأشرف وظاهرهما الملك مسعود صاحب آمد من بني أرتق فأرسل الأشرف إلى كيغباد ملك الروم يستنجده على صاحب آمد والأشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيغباد وأقام على ملطية وجهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصونا عدّة وعاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف فكتب إلى كيغباد أن يرد عليه ما أخذه فامتنع فبعث عساكره إلى صاحب آمد مددا على كيغباد وكان محاصرا لقلعة الكحنا فلقيهم وهزمهم وأثخن فيهم وعاد ففتح القلعة والله أعلم
.(5/195)
استيلاء كيغباد على مدينة أرزنكان
كان صاحب ارزنكان هذه بهرام شاه من بني الأحدب بيت قديم في الملك وملكها ستين سنة ولم يزل في طاعة قليج أرسلان وولده وتوفي بعده ابنه علاء الدين داود شاه وأرسل عنه كيغباد سنة خمس وعشرين ليعسكر معه إليه وقبض عليه وملك مدينة ارزنكان وكان من حصونه كماح فامتنع نائبة فيه وتهدّد داود شاه فبعث إلى نائبة فسلم له الحصن ثم قصد ارزن الروم وبها ابن عمر طغرك شاه بن قليج أرسلان فبعث ابن طغرك شاه بطاعته إلى الأشرف واستنجد نائبة بخلاط حسام الدين علي فسار إليه فخام كيغباد عن لقائه وعاد من ارزنكان إلى بلاده فوجد العدوّ من الإفرنج قد ملك قلعة منها تسمى صنوبا مطلة على بحر الخزر فحاصرها برا وبحرا وارتجعها المسلمون والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق.
فتنة كيغباد مع جلال الدين
كان صاحب أرزن الروم وهو ابن عمّ كيغباد صار إلى طاعة جلال الدين خوارزم شاه وحاصر معه خلاط وفيها أيبك مولى فملكها جلال الدين وقتل أيبك كما يأتي في أخباره فخافهما كيغباد صاحب الروم فاستنجد الملك الكامل وهو بحران فأمدّه بأخيه الأشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى كيغباد فلقيه بسيواس واجتمعوا في خمسة وعشرين ألفا وساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحي ارزنكان فهاله منظرهم ومضى منهزما إلى خلاط ثم سار منها إلى أذربيجان فنزلوا عند خوي وسار الأشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم وتردّدت الرسل إلى الصلح فاصطلحوا.
مسير بني أيوب إلى كيغباد وهزيمتهم
كان علاء الدين كيغباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم ومد يده إلى ما يجاوره من البلاد فملك خلاط بعد أن دافع عنها مع الأشرف بن العادل جلال الدين خوارزم شاه فنازعه الأشرف في ذلك واستصرخ بأخيه الكامل فسار في العساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم وبعث في مقدّمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيغباد وهزمه وحصره في خرت برت وكانت لبني أرتق ورجع(5/196)
الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيغباد في أتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكهما من يد نواب الكامل وولى عليهما من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين فارتجعهما.
وفاة كيغباد وملك ابنه كنجسرو [1]
ثم توفي علاء الدين كيغباد سنة أربع وثلاثين وستمائة وملك بعده ابنه غياث الدين كنجسرو وقارن ذلك انقراض الدولة السلجوقية من ممالك الإسلام واختلال دولة بني خوارزم شاه وخروج التتر من مفازة الترك وراء النهر واستيلاء جنكزخان سلطانهم على الممالك وانتزاعها من يد بني خوارزم شاه وفر جلال الدين آخرهم إلى الهند ثم رجع واستولى على أذربيجان وعراق العجم وكان بنو أيوب يومئذ بممالك الشام وأرمينية كما نذكر ذلك كله في أماكنه إن شاء الله تعالى وانتشر التتر في سائر النواحي وعاثوا فيها وتغلبوا عليها واستفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة إحدى وأربعين فبعث غياث الدين كنجسرو بالصريخ إلى بني أيوب وغيرهم من الترك في جواره وجاء المدد من كلّ جانب فسار للقائهم ولقيتهم المقدّمة على قشمير زنجان فانهزمت المقدّمة ووصلوا إليه فانهزم ونجا بعياله وذخيرته الى مدينة على مسيرة شهر من المعترك ونهبوا سواده ومخلفه وانتشروا في نواحي بلاد الروم وعاثوا فيها وتحصن غياث الدين بهذه المدينة واستولى التتر على خلاط وآمد ثم استأمن لهم غياث الدين ودخل في طاعتهم واستقامت أموره معهم إلى أن مات قريبا من رجوعه وملك التتر قيسارية والله أعلم.
وفاة غياث الدين وولاية ابنه كيغباد
ثم توفي غياث الدين كنجسرو سنة أربع وخمسين وترك ثلاثا من الولد أكبرهم علاء الدين كيغباد وعز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وولى علاء الدين كيغباد بعهده إليه وكان يخطب لهم جميعا وأمرهم واحد وكان جنكزخان ملك التتر قد ملك وكان كرسي سلطانهم بقراقرم وولي مكانه ابنه طلو خان وجلس على كرسيه وهو الخان الأعظم عندهم وحكمه ماض في ملوك الشمال والعراق من أهل بيته وسائر عشيرته ثم هلك طلو خان وولي مكانه في كرسيه ابنه منكوفان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق وبلاد الإسماعيلية سنة
__________
[1] وفي بعض النسخ: كنخسرو وفي الكامل كنجسرو.(5/197)
خمسين وستمائة فسار لذلك وملك العراقين وبغداد ثم جرد الخان الأعظم منكوفان إلى بلاد الروم سنة أربع وخمسين أميرا من أمراء المغل اسمه بيكوفي العساكر فسار الى أرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت موسى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين ونصب عليها المجانيق ثم ملكها عنوة وأسر ياقوت واستلحم الجند بأسرهم واستبقى الباعة والصناع ثم سار الى بلاد الروم فملك قيسارية ومسيرة شهر معها ورجع ثم عاد سنة خمس وخمسين وعاث في البلاد واستولى على أكثر من الأولى والله تعالى أعلم.
وفاة كيغباد وملك أخيه كيكاوس
ولما كثر عيث التتر الذين مع بيكوفي مملكة علاء الدين كيغباد واعتزم على المسير إلى الخان الأعظم منكوفان يؤكد الدخول في طاعته ويقتضي مراسمه الى بيكو ومن معه من المغل بالكف عن البلاد سار من قونية سنة خمس وخمسين ومعه سيف الدين طرنطاي من موالي أبيه واحتمل معه الأموال والهدايا وسار ووثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الآخر قليج أرسلان فاعتقله بقونية واستولى على الملك وكتب في أثر أخيه إلى سيف الدين طرنطاي مع بعض الأكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التي معهم يتوجه بها إلى الخان ويردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان ونزل على بعض أمرائه فسعى ذلك الرسول في علاء الدين وطرنطاي بأنّ معهم سما فكبسهم الأمير فوجد شيئا من المحمودة فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل تحقيق السعاية فسألوه احضار الأطباء فأزالوا عنه الشك وبعث بهم إلى الخان ومات علاء الدين أثناء طريقه ولما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على ولاية عز الدين كيكاوس وأنه أكبر وعقدوا له الصلح مع الخان فكتب له وخلع عليهم ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه ومنعوه العبور فأحضر الرسل وعرّفهم الخبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان أذعنوا فكتب الخان بتشريك الأميرين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج أرسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما فمن سيواس إلى القسطنطينية غربا لعز الدين ومن سيواس إلى أرزن الروم شرقا المتصلة ببلاد التتر ركن الدين وعلى الطاعة وحمل الإتاوة لمنكو خان ملكهم صاحب الكرسي بقراقرم ورجعوا إلى بلاد الروم وحملوا معه شاه وكيغباد إلى أن دفنوه
.(5/198)
استيلاء التتر على قونية
ثم سار في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس العساكر للقائه مع أرسلان آيدغمش من أمرائه فهزمه بيكو وجاء في إتباعه إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على قونية وحاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم ولما حضر إليه أكرمه ورفع منزلته وأسلمت امرأته على يده وأمّن أهل البلد ثم سار هلاكو إلى بغداد سنة خمس وستين وبعث عن بيكو وعساكره من بلاد الروم بالحضور معه فاعتذر بالأكراد الذين في طريقه من الفراسلية والياروقية فبعث إليهم هلاكو العساكر فأجفلوا وانتهت العساكر إلى أذربيجان وقد أجفل أهلها أمام الأكراد فاستولوا عليها ورجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر معه فتح بغداد وقد مرّ خبرها في أخبار الخلفاء ويأتي في أخبار هلاكو ونيال أن بيكو لما بعث عنه هلاكو لم يحضر معه فتح بغداد واستمرّ على غدره فلما انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السمّ فمات لأنه اتهمه بالاستبداد ثم سار هلاكو بعد فتح بغداد إلى الشام سنة ثمان وخمسين وحاصر حلب وبعث عن عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعن معين الدين سليمان البر نواه صاحب دولتهم وكان من خبره أنّ أباه مهذب الدين علي كان من الديلم وطلب العلم ونبغ فيه ثم تعرّض للوزير سعد الدين المستوفي أيام علاء الدين كيغباد يسأله إجراء رزقه وكان وصافا فاستحسنه وزوجه ابنته فولدت سليمان ونشأ في الدولة ومات سعد الدين المستوفي فرقي السلطان مهذب الدين إلى الوزارة وألقى إليه بالمقاليد وتوفي مهذب الدين وترقي ابنه سليمان مهذب الدولة وكان يلقب معين الدين وترقي في الرتب إلى أن ولي الحجابة وكان يدعي البرنواه ومعناه الحاجب بلغتهم وكان مختصا بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه وقال لركن الدين لا يأتني في أموركم إلا هذا فرقت حاله الى أن ملك بلاد الروم أجمع.
الفتنة بين عز الدين كيكاوس وأخيه قليج أرسلان واستيلاء قليج أرسلان على الملك
ثم وقعت الفتنة سنة تسع وخمسين بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج أرسلان وسار ركن الدين ومعه البرنواه إلى هلاكو يستمدّه على أخيه فأمدّه بالعساكر وحارب أخاه فهزمه عز الدين أوّلا ثم أمدّه هلاكو فانهزم عز الدين ولحق بالقسطنطينية واستولى ركن الدين(5/199)
على سائر الأعمال وهرب التركمان إلى أطراف الجبال والثغور والسواحل وبعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على أحيائهم فولاهم وأذن لهم في اتخاذ الآلة فصاروا ملوكا من حينئذ وكان محمد بك أميرهم وأخوه علي بك رديفه فاستدعى علي هلاكو محمدا بك فلم يأته فأمر قليج أرسلان وعساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا وقاتلوه فانهزم ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه وجاء به إلى قونية فقتله واستقرّ علي بك أميرا على التركمان وأورثها بنيه واستولى التتر على البلاد إلى.
خبر عز الدين كيكاوس
ولما انهزم عز الدين كيكاوس ولحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكري صاحب قسطنطينية وأجرى عليه الرزق وكان معه جماعة من الروم أخواله فحدّثتهم أنفسهم بالثورة وتملك القسطنطينية ونمى ذلك عنهم فقبض الشكري عليه وعلى من معه واعتقله ببعض القلاع ثم وقعت بين الشكري وبين منكوتمر بن طغان ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان فتنة وغزا منكوتمر القسطنطينية وعاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى كرسيه بصراي فمات هنالك سنة سبع وسبعين وخلف ابنه مسعودا وخطب منكوتمر ملك صراي أمّه فمنعها وهرب عنه ولحق بابق بن هلاكو ملك العراق فأحسن إليه وأقطعه سيواس وارزن الروم وارزنكان فاستقرّ بها.
مقتل ركن الدين قليج أرسلان وولاية ابنه كنجسرو
كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبدّ على ركن الدين قليج أرسلان ثم تنكر له ركن الدين فخاف سليمان البرنواه على مكان أخيه عز الدين كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمرا فلما بلغه خبر كيكاوس واعتقاله بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة ونصب للملك ابنه غياث الدين في كفالته وتحت حجره واستقلّ بملك بلاد الروم واستقامت أموره والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء الظاهر ملك مصر على قيسارية ومقتل البرنواه
كان هلاكو قد زحف إلى الشام سنة ثمان وخمسين مرارا وزحف ابنه إبقا كذلك وقاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر والشام وكان كثيرا ما يخالفهم إلى بلادهم فدخل سنة خمس(5/200)
وسبعين إلى بلاد الروم وأميرها يومئذ من التتر طغا وأمده إبقا بأميرين من التتر وهما كداون وترقو لحماية بلاد الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشام وسار إليهم الظاهر من مصر في مقدّمته سقر الأسقر فلقيت مقدّمته مقدّمتهم على كوكصو فانهزم التتر وتبعهم الظاهر والتقى الجمعان على إبليش فانهزموا ثانية وأثخن فيهم الظاهر بالقتل والأسر إلى قيسارية فملكها وكان البرنواه قد دس إليه واستحثه للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره وبلغ ملك التتر إبقا خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى بلاده فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه وصدقت عنه السعاية فيه وأنه الّذي استحث الظاهر لأنه لم ير في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم ورجع إلى معسكره ومعه سليمان البرنواه واستبدّ بملكه والله تعالى وليّ التوفيق وهو نعم الرفيق لا ربّ سواه ولا معبود إلا إياه سبحانه.
خلع كنجسرو ثم مقتله وولاية مسعود ابن عمه كيكاوس
كان قنطغرطاي بن هلاكو مقيما ببلاد الروم مع غياث الدين كنجسرو ملك بلاد الروم وصار أمير المغل بها منذ عهد أبقا ولما ولي أحمد تكرار بن هلاكو بعد أخيه أبقا بعث عن أخيه قنطغرطاي فامتنع من الوصول إليه خشية على نفسه ثم حمله غياث الدين على إجابة أخيه وسار معه فقتل تكرار أخاه قنطغرطاي واتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأي تكرار فيه واعتمد فلما ولي أرغون بن إبقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم وحبسه بارزنكاي وولي مكانه على المغل ببلاد الروم أولاكو وذلك سنة اثنتين وثمانين وأقام مسعود ملكا ببلاد الروم سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأصابه الفقر وانحل أمره وبقي الملك بها للتتر ثم فشل أمرهم واضمحلت دولتهم لا بقايا بسيواس من بني أرثا مملوك دمرداش بن جومان واستولى التركمان على تلك البلاد أجمع وأصبح ملكها لهم والله غالب على أمره يؤتي الملك من يشاء وهو العزيز الحكيم
.(5/201)
ملوك قونية من بلاد الروم وملكها من أيديهم التتر(5/202)
الخبر عن بني سكمان موالي السلجوقية ملوك خلاط وبلاد أرمينية ومصير الملك الى مواليهم من بعدهم ومبادي أمرهم وتصاريف أحوالهم
كان صاحب مزيد من أذربيجان إسماعيل بن ياقوتي بن داود أخو البارسلان وداود أخو طغرلبك كما مرّ ولقب إسماعيل قطب الدولة وكان له مولى تركي اسمه سكمان بالكاف والقاف وكان ينسب اليه فيقال سكمان القطبي وكان شهما عادلا في أحكامه وكانت خلاط وارمينية لبني مروان ملوك ديار بكر وكانوا في آخر دولتهم قد اشتدّ عسفهم وظلمهم وساء حال أهل البلد معهم فاجتمع أهل خلاط وكاتبوا سكمان واستدعوه ليملكوه عليهم فسار اليهم سنة اثنتين وخمسمائة الى ميافارقين من ديار، بكر فحاصرها حتى استأمنوا اليه وملكها ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الأمير مودود بن زيد بن صدقة صاحب الموصل بغزو الافرنج وانتزاع البلاد من أيديهم وأمر أمراء الثغور بالمسير معه فسار معه برسق صاحب همذان وأحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل وأبو الغازي صاحب ماردين وسقمان القطبي صاحب ديار بكر فساروا لذلك وفتحوا عدّة حصون وحاصروا الرها فامتنعت عليهم ثم تل ناشر كذلك واستدعاهم رضوان بن تتش صاحب حلب [1] فلما ساروا اليه امتنع من لقائهم ومرض سكمان القطبي هنالك فرجع عنهم وتوفي في طريقه ببالس وافترقت العساكر وملك خلاط وبلاد ارمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين إبراهيم وسار فيهم بسيرة أبيه الى أن هلك سنة احدى وعشرين وملك بعده أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر ثم توفي فنصب أصحابه للملك بارمينية وخلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه إبراهيم بن سكمان صبيا دارجا واستبدّت عليه جدّته أم إبراهيم ثم أزمعت قتله فقتلها أهل الدولة وعمد سنة ثمان وعشرين واستبدّ شاه أرمن وكانت بينه وبين الكرج وقائع وساروا سنة ست وخمسمائة الى مدينة اني من اعمال ارّان فاستباحوها وسار اليهم في العساكر فهزموه ونالوا منه وكانت عنده أخت طليق بن علي صاحب ارزن الروم ووقعت بينه وبين الكرج حرب فانهزم طليق وأسر وبعث شاه ارمن الى ملك الكرج وفادى طليقا ورده الى ملكه
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 486: «ووصلوا الى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم من هنا يظهر انه لا شيء وكان البياض في الأصل، ان العبارة هنا مستقيمة.(5/203)
بارزن ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على مصر والشام واستفحل ملكه وكاتبه مظفر الدين كوكبري وأغراه بملك الجزيرة ووعده بخمسين ألف دينار وسار صلاح الدين الى سنجار فحاصرها وهو مجمع المسير الى الموصل وبها يومئذ عز الدين مودود بن زنكي فاستنجد بشاه ارمن صاحب خلاط فبعث شاه ارمن مولاه مكتمر [1] الى صلاح الدين شفيعا في صاحب الموصل ووفد عليه وهو محاصر لسنجار ولم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه مغاضبا وسار شاه ارمن لقتاله واستدعى قطب الدين نجم الدين الى صاحب ماردين وهو ابن أخيه وابن خال عز الدين وحضر معه دولة شاه بن طغرك شاه بن قليج ارسلان صاحب [2] وسار سنة ثمان وسبعين وقد ملك صلاح الدين سنجار وافترقت العساكر فلما بلغه مسيرهم بعث عن تقي الدين ابن أخيه شاه من حماة فوافاه سريعا ورحل الى رأس عين وافترقت جموعهم وسار صلاح الدين الى ماردين فعاث في نواحيها ورجع ثم سار الى الموصل آخر احدى وثلاثين وعبر الى الجزيرة وانتهى الى حران ولقيه مظفر الدين كوكبري بن زين الدين ولم يف له بالخمسين ألفا التي وعده بها وأخذ منه حران والرها ثم أطلقه بما نفذه من مكاتبته وأعاد عليه بلدته وسار من حران فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ولقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخي عز الدين مودود مفارقا لطاعة عمه وسار معه الى الموصل ولما انتهى الى مدينة بله بعث اليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة راغبين في الصلح فأكرمهم واستشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار علي بن أحمد المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردّهم صلاح الدين واعتذر وسار فنزل على فرسخين من الموصل واشتدّوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على عدم الصلح ورجع على علي المشطوب ومن وافقه باللائمة وخاطبه القاضي الفاضل البيساني من مصر وعزله في ذلك وجاء زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فتلقاهما بالتكرمة وأنزلهما مع الحشود الوافدة بالجانب الشرقي وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري الى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فحاصرها واجتمع عليه الأكراد ولم يزل محاصرا لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل وأقام صلاح الدين على حصارها مدّة وبلغ عز الدين أن نائبة بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود اليها وكان يقتدى برأي مجاهد الدين وبعثه في الصلح فسعى فيه الى أن تحمله ووصل صلاح الدين الى ميافارقين.
__________
[1] وقد وردت في الكامل بكتمر.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 489: دولة شاه صاحب بدليس وأرزن.(5/204)
وفاة شاه ارمن سكمان وولاية مكتمر مولى أبيه
ثم توفي شاه أرمن سقمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك واستولى على كرسي بني سكمان وولى على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالي شاه ارمن وكان البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان مرّ بقائد ملوك السلجوقية وقد زوّج ابنته من شاه ارمن طمعا في ملك خلاط فلما توفي شاه ارمن سار اليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب ودافعوا كلا منهما بالآخر وسار صلاح الدين في مقدّمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما ونزلوا قريبا من خلاط فتردّد الرسل من صلاح الدين ومن شمس الدين البهلوان الى أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين وكان قد بلغه صاحبها قطب الدين وان برتقش نصب ابنه طفلا صغيرا واستبدّ عليه فسار صلاح الدين اليها وحاصرها حتى تسلمها على الأمان وأقام مكتمر أميرا بخلاط وطالت مدّته وجرت بينه وبين صلاح الدين فتن وحروب الى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فأظهر الشماتة به وتسمى عبد العزيز وتلقب سيف الدين وتوفى أثر ذلك والله تعالى أعلم.
وفاة مكتمر وولاية آقسنقر
كان مكتمر لأوّل ولايته قد اختص آقسنقر من موالي شاه ارمن وتلقب هزار ديناري وزوّجه بنته وجعله اتابكه فأقام على ذلك مدّة ثم استوحش من مكتمر وتربص به حتى إذا توفى صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فأمكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته وذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين واستبدّ بملك خلاط وارمينية واعتقل ابن مكتمر وأمه في بعض القلاع والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة آقسنقر وولاية محمد بن مكتمر
ثم هلك آقسنقر صاحب خلاط وارمينية سنة أربع وتسعين لخمس سنين من ملكه وقام بملك خلاط بعده حجر اشتدّ قطلغ الارمني ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه وملكوه ولقبوه الملك المنصور وقام بدولته(5/205)
شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه ارمن وأقام تحت استبداده الى سنة ثلاث وستمائة ثم دبر الدوادار وقبض عليه وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامّة وعكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند وكبيرهم بلبان مملوك شاه ارمن وكتبوا الى ارتق بن أبي الغازي بن البي صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان ابن أخت شاه ارمن وجاهر بلبان بالعصيان الى ملازكرد واجتمع الجند عليه.
نكبة ابن مكتمر واستيلاء بلبان على خلاط وأعمالها
ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها واجتمع عليه الجند وسار يريد خلاط ووصل ارتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم ونزل قريبا من خلاط فبعث اليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع وإذا ملكت البلد سلمته إليك فتنحى قليلا فبعث اليه يتوعده على مقالته وبطئه فعاد الى ماردين وكان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع بمسير ارتق الى خلاط طمع فيها لنفسه وخشي أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه الى ماردين وأقام بتدليس وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد الى حران ثم جمع بلبان العساكر وسار الى خلاط فحاصرها وبرز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان وعاد الى ولايته بملازكرد وارجيش وغيرها ثم جمع ورجع الى خلاط فحاصرها وضيق عليها وابن مكتمر عاكف على لذاته فلما جهدهم الحصار ثاروا به وقبضوه ومكنوا بلبان منه ودخل الى خلاط واستولى عليها وعلى سائر أعمالها وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبدّ بملكها وكان الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولى على ميافارقين من قبل أبيه الى خلاط سنة أربع وستمائة وقصد مدينة سيواس وحاصرها وملك ما يجاورها وعجز بلبان عنه ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد الى ميافارقين وجمع واستمدّ أباه العادل فأمدّه بالعساكر ونهض الى خلاط فبرز له بلبان ثانية وهزمه الأوحد وحاصره في خلاط فبعث بلبان الى طغرك يستنجده فانهزم الأوحد امامهما وسار بلبان مع طغرك الى مراش فحاصراها وغدر به طغرك هناك وقتله وسار الى خلاط فمنعه أهلها فسار الى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد الى ارزن وأرسل أهل خلاط بطاعتهم الى الأوحد نجم الدين فجاء وملك خلاط واستولى على أعمالها وزحف الكرج فأغاروا على خلاط وعاثوا في نواحيها والأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها وانتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام وساروا الى مدينة ارجيش فملكوها واجتمع اليهم المفسدون وبعث نجم الدين الى أبيه العادل يستنجده(5/206)
فأمّده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حصن رام حتى استأمن اليه من كان به من الجند ورجع الأشرف الى عمله بحران والرها واستقرّ نجم الدين بخلاط ثم سار الى ملازكرد ليطالع أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم وحصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة ونادوا بشعار شاه ارمن وقومه فرجع الأوحد ولاقاه عسكر الجزيرة وحاصر خلاط ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها ونقل جماعة من أعيانها الى ميافارقين وقتل كثيرا منهم هنالك واستكان أهل خلاط بعدها وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها ويخلعونهم وانقرضت دولة بني سكمان من خلاط وصارت لبني أيوب والبقاء للَّه وحده والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين واليه المرجع.(5/207)
آخر دولة السلجوقية بخلاط وأرمينية وملكها منهم بنو أيوب(5/208)
أخبار الإفرنج فيما ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصايره
قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم وأنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث إخوة الصقالبة والخزر والترك وقال هروشيوش أنهم من عصرما بن غومر وأمّا مواطنهم من بلاد المعمور فإنّهم في شمال البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غربا وشمالا وكانوا أوّلا يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم فلما انقرضت دولة أولئك استقلّ هؤلاء الإفرنج بملكهم وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانيين بالتفخيم من جزيرة إنكلطرة بالبحر المحيط الغربي الشمالي وما يحاذيه ويقابله من المعمور ومثل ملوك إفرنسة وهو عندهم اسم إفرنجة بعينه والجيم ينطقون بها سينا وهم ما وراء خليج رومة غربا إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط بها من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت وكانت دولة هؤلاء الإفرنس منهم من أعظم دولهم واستفحل أمرهم بعد الروم وصدرا من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلّيّة وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من إفريقية وبلاد الشام والاستيلاء على بيت المقدس وطال تردّدهم في ذلك ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال أنّ المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك وجعلوا طريقهم في البرّ على القسطنطينية ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له أنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدّة وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان وجمع للقائهم فهزموه وفرّ [1] بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا أنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصوا غير أنطاكية
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 274: فلما وصلوا إليها لقيهم قليج أرسلان في جموعه ومنعهم مقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني مملكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها.(5/209)
فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص وإسمند وهو مقدم العساكر فردّوا إليه أمر أنطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقا وغربا وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر الشام وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان [1] صاحب سنجار وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء وزحفوا إلى أنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوما ووهن الإفرنج واشتدّ عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من استكثاره عليهم [2] فخرج الإفرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون وانهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن إتباعهم واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم.
استيلاء الإفرنج على معرّة النعمان ثم على بيت المقدس
ولما حصلت الإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلدا وساروا الى معرّة النعمان وحاصروها واشتدّ القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثا وأقاموا بها أربعين يوما ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان فلما كانت واقعة الإفرنج بأنطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار الأفضل بن بدر الجمال المستولى على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها سكمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفا وأربعين يوما ونصبوا عليه نيفا وأربعين منجنيقا وملكوه بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات وأقام سكمان بالرها وسار أبو الغازي إلى العراق واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الّذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا وامتنعت عليهم
__________
[1] كذا بياض بالأصل واسمه أرسلان تاش.
[2] كذا بياض بالأصل: عبارة مضطربة وفي الكامل: فاغضبهم ذلك وأضمروا له أنفسهم العذر إذا كان قتال.(5/210)
فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعا واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثا حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفا ويزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهما من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي ومائة وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والأسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء فيهم القاضي أبو محمد الدامغانيّ وأبو بكر الشاشي وأبو ألوفا بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة السلجوقية وقتل محمد الملك البارسلان المتحكم في الدولة واختلاف السلاطين فعادوا وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم.
عساكر مصر وحرب الإفرنج مسبر العساكر من مصر لحرب الإفرنج
لما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار إلى عسقلان وأرسل إلى الإفرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب ورحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم ودخل الأفضل عسقلان وافترق المنهزمون واستبدّوا بخر الحمير [1] ووصل الأفضل من عسقلان إلى مصر ونازلها الإفرنج حتى صانع أهلها الإفرنج بعشرين ألف دينار وعادوا إلى القدس.
إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج
كان كمستكين بن الدانشمند من التركمان ويعرف بطابوا ومعنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس وغيرها وكان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه إسمند صاحب أنطاكية فجاءه في خمسة آلاف وسار إليه ابن الدانشمند وأسره ثم جاء الإفرنج الى قلعة أنكوريّة فملكوها وقتلوا من بها من المسلمين ثم حاصروا إسماعيل بن
__________
[1] كذا بالأصل ولا معنى لها، وفي الكامل ج 10 ص 286: ومضى جماعة من المنهزمين فاستثروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيرا فأحرق الفرنج بعض الشجر حتى هلك من فيه وقتلوا من خرج منه.(5/211)
الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم وكانوا ثلاثمائة ألف ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها وزحف إليه إسمند من أنطاكية في الإفرنج فهمّ بهم ابن الدانشمند فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة حتى خلص إسمند من الأسر وجاء إلى أنطاكية والإفرنج بها وبعث إلى قيس العواصم وما جاورها يطلب الإمارة فامتعض المسلمون لذلك وقلدوه بعد العهد الّذي التزمه.
حصار الإفرنج قلعة جبلة
كانت جبلة من أعمال طرابلس وكان الروم قد ملكوها وولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبدّ بطرابلس وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار وأراد القبض عليه فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العباسية واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا ثم جاء الإفرنج فحاصروها فامتنعت عليهم أيضا وشاع أنّ بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا ثم عادوا وأظهروا أنّ المصريين جاءوا لإنجاده فرحلوا ثم عادوا فتقدّم للنصارى الذين عنده أن يدخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلاثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحدا بعد واحد وهو قاعد على السور حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر ملكهم كبرانيطل وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم [1] ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحلة من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كله ولما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن عمار صاحب طرابلس واستدعوه لملكها فبعث إليهم عسكرا وقاتلوا تاج الملك ومن معه فهزموه وأخذوه أسيرا
__________
[1] كذا بياض بالأصل وهي عبارة مضطربة والأسماء محرفة. وفي الكامل 810 ص 311: وأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين واسر مقدمهم المعروف بكذا اصطبل فافتدى نفسه بمال جزيل، ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه وليس له ما يمنعهم عنه فأرسل إلى طغمكين أتابك يلتمس منه إنقاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبله، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بما له وأهله.(5/212)
وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف على جبلة من الإفرنج.
استيلاء الإفرنج على سروج وقيسارية وغيرهما
ثم سار كبر يرى ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها فأصابه منهم سهم فقتله فسار أخوه بغدوين في خمسمائة فارس إلى القدس ونهض دقاق صاحب دمشق ومعه جناح الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا الإفرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل مدينة الإفرنج وكان أكبرهم ودخل في طاعتهم وكان سقمان بن أرتو صاحب سروج جمع جموعه من التركمان وسار إلى الرها فلقيه الإفرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين وساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة وملكوا أرسوف بالأمان ثم ساروا في رحب إلى قيسارية فملكوها عنوة واستباحوها والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
حصار الإفرنج طرابلس وغيرها
كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به وعاد صنجيل مهزوما فأرسل الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مددا من عند دقائق واجتمعوا على طرابلس وفرّق صنجيل الفلّ الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشدّ حصارها وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها ثم صالحوه على مال وخيل ورحل عنهم إلى طرسوس من أعمال طرابلس فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدّمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيما من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد وحاصره [1] جناح الدولة لغزوه فوثب عليه
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 345: وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحاصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه فقتله باطني بالمسجد الجامع.(5/213)
باطني بالمسجد وقتله ويقال أنّ رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها ثم نزل القمص على عكا في جمادى الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب ثم سار القمص صاحب الرها الى السروج وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا إلى الرملة وهم في أتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشا القتل والأسر في الإفرنج والله تعالى وليّ التوفيق.
حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر
لما طمع الإفرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه وزحف بغدوين [1] ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم ومات سعد الدولة متردّيا عن فرسه واستولى الإفرنج على سواده وبعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم في العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر ونجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيارة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا وبعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البرّ مع تاج العجم مولى أبيه والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض عليه وولي العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرمت السنة وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضا من الشام يافا وأرسوف وقيسارية وصيفا وطبرية والأردن واللاذبية وانطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل أسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعفر واكتسحوا نواحيها وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع وسبعين كما مرّ والله أعلم.
__________
[1] هكذا ورد في بعض الأماكن من هذه النسخة والصحيح بغدوين.(5/214)
استيلاء الإفرنج على جبيل وعكا
وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقا كثيرا من التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصرها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها برّا وبحرا وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها والله تعالى أعلم.
غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الفرنج
كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن بها الإفرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه قراجا والموصل لجكرمش وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حران وحاصروها وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والأكراد وسار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا واستطرد لهم [1] المسلمون بعيدا ثم كرّوا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم وكان إسمند صاحب انطاكية وشكري [2] صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم وأقاموا هنالك إلى الليل ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم وحسنوا له أخذ القمص من [3] سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذرا من اختلاف المسلمين وسار مفارقا لهم وكان يمرّ
__________
[1] استطرد له: أظهر له الانهزام مكيدة.
[2] كذا بالأصل وفي الكامل: بيمند صاحب أنطاكية وطنكري صاحب الساحل.
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 375: وحسنوا له أخذ القمص، فأنفذ أخذ القمص من خيم سقمان فلما عاد سقمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم.(5/215)
بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظنا بنصر أصحابهم فملكها عليهم وسار جكرمش إلى حران فملكها وولي عليها من قبله ثم سار إلى الرها وحاصرها أياما وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردوبل بخمسة وثلاثين ألف دينار ومائة وستين أسيرا والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب
ثم سار شكري صاحب أنطاكية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج الإفرنج للقائه ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز ولقيهم الإفرنج فانهزموا أوّلا ثم استماتوا وكرّوا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق.
حرب الإفرنج مع عساكر مصر
كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها وقهر الإفرنج ثم اختلف العسكر في ادعاء الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسينا مكانه في العساكر وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان واستمدّوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية وقصدهم بقدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكباش بن تتش ذهب مغاضبا عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق وأقام عند الإفرنج والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه.
حرب الإفرنج مع طغركين
كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق وكان كثيرا ما يغير عليها ويحارب عساكرها(5/216)
فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بقدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فردّه ذلك القمص ثقة بكفائه فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظافرا ثم سار بعد أسبوع إلى [1] وبه ابن أخت صنجيل فملكه وقتل حاميته.
استيلاء الإفرنج على حصن أفامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلبا على حمص وملكها منه تتش كما مرّ وانتقلت الأحوال إلى مصر ثم أنّ رضوان صاحب حلب انتفض عليه وإليه بحصن أفامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم واليا فبعثوا خلف بن ملاعب لايثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى [2] في افامية واستبدّ بها واجتمع عليه المفسدون ثم ملك الإفرنج [3] من أعمال حلب وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية ثم اعمل التدبير عليه وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان وشعر بذلك ابنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه وجاء القاضي فحلف له على كذبه وصدّقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تمّ التدبير وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيرز وقتل الآخر وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد ان الحصن له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضبا لأبيه فولاه حصنا من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 400: وعاد طغتكين إلى دمشق منصورا فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية وهو من حصون الشام وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس فحصره طغتكين وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
[2] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 408: وأقام بأفامية يخيف السبيل ويقطع الطريق، فاجتمع عنده كثير من المفسدين.
[3] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ثم أن الفرنج ملك أسرمين، وهي من أعمال حلب (ج 10 ص 408) .(5/217)
خبر الإفرنج في حصار طرابلس
كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازما لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن أبي صليحة وبنى على طرابلس حصنا وأقام عليها ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمرّ الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات واستنفد أهل الثروة مكسوبهم في الإنفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم ثم بلغ ابن عمار انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخا واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والاحتفال لقدومه ووعده بالإنجاد ولما رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وأن يستصحب العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مرّ في أخبارهم ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودّعه ابن عمار بعد أن خلع عليه وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل [1] مودود والانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرّم سنة اثنتين وخمسمائة وسار منها إلى [1] فملكها وبعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدّونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدّة الحصار واستولى على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى مصر.
خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب أنطاكية
كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الّذي كان
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 464: فقفل حسين ذلك، وسار معه صاحب جاولي، فلما وصل إلى العسكر الّذي على الموصل وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل فكلّهم أجاب إلّا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلّا بأمر السلطان وقبض على صاحب جاولي وأقام على الموصل حتى فتحها كما ذكرناه وعاد حسين بن قطلغتكين إلى السلطان فأحسن النيابة عن جاولي عنده. وسار جاولي إلى مدينة بالس.(5/218)
أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه وترك الموصل ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرّره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمدّه بنفسه وعساكره وماله متى أحتاج إلى ذلك ولما انبرم العقد بينهما بعث يوالي سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل ناشر [1] فأقام رهينة مكانه ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب جاولي الى الغدر فاعتذر بأنّ هذه البلاد ليست لكم ولما أطلق القمص سار إلى أنطاكية ليستردّ الرها من يد شكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردّها وأعطاه ثلاثين ألف دينار ثم سار القمص إلى تل ناشر وقدم عليه أخوه جوسكين الّذي وضعه رهينة عند جاولي وسار شكري صاحب أنطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى أنطاكية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون أنطاكية وأمدّهم صاحب زغبان وكيسوم [2] وغيرهما من القلاع شمال حلب وهو من الأرمن بألف فارس وألقى راجل وخرج إليهم شكري وتراجعوا للحرب ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على شكري بردّ الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأنّ اسمند خال شكري لما انصرف إلى بلاده أوصاه بردّ الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردّها شكري على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لجاولي بما كان بينهما ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مرّ في أخباره وكتب رضوان صاحب حلب إلى شكري صاحب أنطاكية يحذره من جاولي ويستنجده عليه فأجابه وبرز من أنطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر واستنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن آق سنقر فنزل جاولي تل ناشر وتزاحف مع شكري [3] هنالك
__________
[1] وفي بعض النسخ جوسكين تل باشر. وهنا عبارة مشوشة وفي الكامل 8 ص 253 فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيرها.
[2] ورد في معجم البلدان: كيسوم: الكثير من الحشيش. وهي قرية مستطيلة من أعمال سميساط، وفيها حصن كبير على تلعه كانت لنصر بن شيث تحصن فيه من المأمون حتى ظفر به عبد الله بن ظاهر فأخرجه، ثم أحدث بعد فيها مياها وبساتين.
[3] وفي الكامل ج 12/ 192 لشكري وهو الصحيح.(5/219)
واشتدّ القتال واستمرّ أصحاب أنطاكية فتخاذل أصحاب جاولي وانهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل ناشر والله تعالى أعلم.
حروب الإفرنج مع طغركين
كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة ثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بقدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون ثم استماتوا وهزموا الإفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل ثم اصطلح طغركين وبقدوين لمدّة أربع سنين وكان حصن غزيّة من أعمال طرابلس بيد مولى ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن ونزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذرا أن يطلع الأتابك على مخلفه وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصونا للإفرنج منها حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السرداني حصن غزية بالأمان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بقدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة اثنتين.
استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وبانياس
ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبة والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الأوّل وإنما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السرداني فتنة واقتتلوا وجاء شكري صاحب أنطاكية مددا للسرداني ثم جاء بقدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الأبراج فاشتدّ بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها وكان النائب(5/220)
بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال وملكها بالأمان ونزل على مدينة جبيل وبها فخر الملك بن عمار فاستأمنوا إلى شكري وملكها ولحق ابن عمار بشيرز فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني من أعمال دمشق في محرّم سنة أربع ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة وذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركبا مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد الحج والغزو فاجتمع مع بقدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا برّا وبحرا وأسطول مصر يعجز عن انجادهم ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادى الأولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوما من الحصار وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وعاد بقدوين إلى القدس.
استيلاء أهل مصر على عسقلان
كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مرّ آنفا وولي عليها شمس الخلافة فراسل بقدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر وبعث الأفضل ابن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم موريا بالغزو وأسرّ إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله وأقرّه على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله واستقامت أمورهم.
استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره
ثم جمع شكري صاحب أنطاكية واحتشد وسار إلى حصن الأقارب [1] على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي ثم سار إلى حصن وزدناد [2]
__________
[1] هو حصن (الأثارب) كما في الكامل ج 10 ص 481.
[2] هو حصن (زردنا) كما في الكامل ج 10 ص 481.(5/221)
ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على بلديهما [1] ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا الا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وعدّة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن منقذ صاحب شيرز [2] على أربعة آلاف دينار وعلي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار ومدّة الهدنة إلى حصاد الشعير ثم اعترضت مراكب الإفرنج مراكب التجار من مصر فأخذوها وأسروهم وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد وبعث من دار الخلافة منبرا للجامع ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعا إلى قتال الإفرنج.
مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج
ولما سار مسعود ابن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وابنا برسق إبلتكي وزنكي أصحاب همذان والأمير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب أربل وأياز بن أبي الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين وساروا جميعا إلى سنجار وفتحوا عدّة حصون للإفرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروا واجتمعوا مع الإفرنج على الفرات وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها وشحنوها أقواتا وعدّة وأخرجوا الضعفاء منها ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها وجاءت عساكر السلطان إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل
__________
[1] هنا عبارة سقطت أثناء النسخ أو الطبع. وفي الكامل: فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفا من الفرنج وكذلك أهل بالس. وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنها.
[2] شيزر. قلعة تشمل على كورة بالشام قرب المعرة، بينها وبين حماة يوم. وهي قديمة ذكرها امرؤ القيس في قوله:
تقطع أسباب اللبانة والهوى عشبة جاوزنا حماة وشيزرا.(5/222)
ناشر شهرا ونصفا فامتنعت فرحلوا الى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك سقمان القطبي ورجعوا فتوفي في بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرّة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى مودود ونزل عليه ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدسّ للإفرنج بالمهادنة ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي وطمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى افامية وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيرز إلى مودود طغركين فرحل بهم إلى شيرز وهون عليهم أمر الإفرنج وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا وأتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم أبعدوا والله تعالى أعلم.
حصار الإفرنج مدينة صور
ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بقدوين ملك القدس وجمع الافرنج ونزلوا على مدينة صور في جمادى الاولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل صاحب مصر ونائبة بها عز الملك الاغرّ ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم واشتدّ القتال بينهم وبعث أهل صور الى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء الى بانياس وبعث اليهم بمائتي فرس واشتدّ القتال وبعث نائب البلد الى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد وكان طغركين يغير على أعمال الافرنج في نواحيها وملك لهم حصنا من أعمال دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر ثم سار الى صيدا وأغار عليها ونال منها ثم أزهت الثمرة وخشي الافرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور الى عكا وجاء طغركين الى صور فأعطى [1] الأموال واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم.
أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب انطاكية
ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست الى سروج وعاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل ناشر وأغار على دوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيرا من العسكر
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 490: وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة فدام القتال الى أوان ادراك الفلات فخاف الفرنج ان طغتكين يستولي على غلات بلادهم فساروا عن البلد عاشر شوّال الى عكا، وعاد عسكر طغتكين اليه، وأعطاهم أهلها الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعّث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طمّوه.(5/223)
ورجع ثم توفي الأمير الارمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار شكري صاحب انطاكية من الافرنج الى بلاده ليملكها فمرض وعاد الى انطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه تميرك صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق ودخلوا في محرّم سنة سبع الى بلاد الافرنج وخرج بقدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا على الأردن والافرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف المحرّم فانهزم الافرنج وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن وغنم المسلمون سوادهم وساروا منهزمين فلقيهم عسكر طرابلس وانطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية وحاصرهم المسلمون نحوا من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا [1] في بلاد الافرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا الى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق ودخل مودود الى دمشق يقيم بها الى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأوّل من السنة ومات من يومه وأتهم طغركين بقتله والله تعالى أعلم.
أخبار البرسقي مع الافرنج
ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه آقسنقر البرسقي ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الافرنج وبعث الى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وتميرك صاحب سنجار وسار الى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود ثم سار الى ماردين فحاصرها الى أن أذعن أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه ايازا في العساكر فساروا الى الرها وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدّة سبعين يوما فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا الى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحي وهلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش وكيسوم وزغبان من الافرنج وملكت زوجته بعده وامتنعت من الافرنج وأرسلت الى البرسقي على الرها بطاعته فبعث اليها صاحب الخابور فردّته بالأموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من الافرنج الى انطاكية والله أعلم.
__________
[1] انساحوا: اندفعوا.(5/224)
الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج
كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه إياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقي فاهتمّ السلطان شأنهما وشأن الافرنج وقوّتهم وجهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسقري وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الافرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرميلة وجاءوا الى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازي وطغركين فوصلا اليهما في ألفي فارس وامتعا بها على العسكر فسار الأمير برسق الى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسلمها للأمير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك وفسدت ضمائرهم وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا الى انطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها ووصل اليهم بأنطاكية بقدوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الافرنج واجتمعوا على افامية واتفقوا على مطاولة المسلمين الى فصل الشتاء ليتفرّقوا فلما أظلّ الشتاء والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي الى ماردين وطغركين الى دمشق والافرنج الى بلادهم وقصد المسلمون كفرطاب وكانت هي وافامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالافرنج فيها وأسروا صاحبها ثم ساروا الى قلعة افامية فاستعصت عليهم فعادوا الى المعرة وهي للافرنج وفارقهم الأمير حيوس بك الى وادي مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرّة الى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم متلاصقون فوصلت مقدمتهم الى الشام وخربوا الابنية وكان روميل صاحب انطاكية قد سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمدافعة عن كفر طاب وأظلّ على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الافرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك وأحاط الفلّ من المسلمين به وعزم برسق على الاستماتة ثم غلبه اخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الافرنج فرسخا ورجعوا عنه وافترقت العساكر الإسلامية منهزمة الى بلادها وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشام من الافرنج بعد هذه الواقعة وسار الافرنج الى رميلة من أعمال دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الافرنج ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من(5/225)
الحامية فبادر اليها سنة تسع وملكها عنوة وقاتل وأسر وغنم وعاد الى دمشق ولم تزل رميلة بين المسلمين الى أن حاصرها الافرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم.
وفاة ملك الافرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين
ثم توفى بقدوين ملك الافرنج بالقدس آخر سنة احدى عشرة وخمسمائة وكان قد زحف الى ديار بكر طامعا في ملكها فانتهى الى تنيس وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد الى القدس فمات وعاد القمص صاحب الرها الّذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي وكان حاضرا عنده لزيارة قمامة وكان أتابك طغركين قد سار لقتال الافرنج ونزل اليرموك فبعث اليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة الى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين الى طبرية ونهب نواحيها وسار منها الى عسقلان ولقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاءوا في أثر بقدوين عند ما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أنّ صاحبهم تقدّم اليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد الى دمشق وأتاه الخبر بأنّ الافرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد ان ملكوا حصنا من أعماله فأرسل اليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد الفلّ الى دمشق وسار طغركين الى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأنّ الافرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين الى دمشق وأبو الغازي الى ماردين الى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الافرنج ثم سار الافرنج سنة ثلاثة عشر الى نواحي حلب فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفا من العساكر والمتطوعة ومعه أسامة بن مالك بن شيرز الكاني والأمير طغان ارسلان بن افتكين ابن جناح صاحب ارزن وسار الافرنج الى صنبيل عرمس [1] قرب الاثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي وسار اليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشدّ القتال فلم يقاوموه وفتك فيهم فتكة شنعاء وقتل فيهم سرحان صاحب انطاكية وأسر سبعون من زعمائهم وذلك منتصف ربيع من السنة ثم اجتمع فلّ [2] الأفرنج
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 554: فنزلوا قريبا من الأثارب بموضع يقال له تل يمغرين بين جبال ليس.
[2] فل: جمعها افلال وفلول: منهزم ومنهزمون.(5/226)
وعادوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم حصن آلات ربّ وزدناد [1] وجاء الى حلب فأصلح أحوالها وعاد الى ماردين ثم سار جوسكين صاحب تل ناشر في مائتين من الافرنج ليكبس حلة من احياء طيِّئ يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه اليهم وسار هو من طريق آخر فضلّ عن الطريق ووصل أصحابه اليهم وأميرهم مر من ربيعة فقاتلهم وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثني عشر ففاداهم بمال جزيل وأصناف عدّتهم من الأسرى وبلغ الى جوسكين في طريقه فعاد الى طرابلس وجمع جمعا وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولا والله أعلم.
ارتجاع الرها من الافرنج
ثم سار بهرام أخو أبي الغازي الى مدينة الرها وحاصرها مدّة فلم يظفر بها فرحل عنها ولقيه النذير بأنّ جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار لاعتراضه وقد تفرّق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل اليه الافرنج ودفعهم لأرض سنجة فوصلت فيها خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته الا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
استيلاء الافرنج على خرت برت وارتجاعها منهم
كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الافرنج في قلعة كركر فحاصرهم بها وسار بقدوين اليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الافرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه وسار مالك الى حران في ربيع الأول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الافرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند وسار بقدوين الى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد مالك اليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حصن الاثارب ورزدنا.(5/227)
استيلاء الإفرنج على مدينة صور
كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على الأمر بمصر وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدّوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة وكتب إلى الأفضل بذلك وسأله تردّد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره ثم قتل الأفضل وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدّمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق وأقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر ولما بلغ الإفرنج انصراف مسعود عن صور قوى طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريبا من صريخها [1] وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد وخروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح البرسقي كفرطاب وانهزامه من الإفرنج
ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفرطاب [2] وحاصرها فملكها من الإفرنج ثم سار إلى قلعة أعزاز شمالي حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديدا فحص الله المسلمين وانهزموا وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقي بحلب بها ابنه مسعودا وعبر الفرات إلى الموصل ليستمدّ العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله وولى ابنه عز الدين بعده قليلا ثم مات سنة إحدى وعشرين وولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن آقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مرّ في أخبار دولة السلجوقية ثم استولى منها على الشام وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه
__________
[1] صريخ: استغاثة.
[2] كفرطاب: بلدة بين معرة النعمان ومدينة حلب في برية معطشة.(5/228)
الأعمال نذكرها أن شاء الله تعالى ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرّعت منها كما نذكره ونحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرّر الأخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعة المتأمل علم كيف يردّ كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه.
الحرب بين طغركين والإفرنج
ثم اجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاءوا إليه وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في المعترك فظنّ أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزما والإفرنج في إتباعهم وقد أثخنوا في رجاله التركمان فلما أتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق ورجع الإفرنج عن المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والإسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله وسار صاحب القدس وصاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في ألفي فارس ومن الرجال ما لا يحصى وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس وجاء الإفرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية الإفرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاءوا إلى دمشق وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثم أنّ إسمند صاحب أنطاكية سار إلى حصن القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من يشاء.
هزيمة صاحب طرابلس
ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له ثم كرّوا عليه فهزموه ونالوا منه ونجا إلى(5/229)
قلعة بقوين [1] فتحصن بها وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس واستصرخ الإفرنج من كل ناحية وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة ثم تحيزوا إلى أرمينية وتعذر على التركمان أتباعهم فرجعوا عنهم انتهى.
فتح صاحب دمشق بانياس
كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة وولي مكانه ابنه شمس الملوك إسماعيل فاستضعفه الإفرنج وتعرّضوا لنقض الهدنة ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم وراسلهم شمس الملوك في ردّها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين فنازلها وشدّد حصارها ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا [2] الإفرنج بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين وكان الإفرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا.
استيلاء شمس الملوك على الشقيف
ثم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل المطلّ على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم وهو ممتنع به وقد تحاماه المسلمون والإفرنج وهو يحتمي من كل منهما بالآخر فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرّم سنة ثمان وعشرين وعظم ذلك على الإفرنج وخافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران وعاثوا في جهاتها ونهض شمس الملوك ببعض عساكره وجمر الباقي قبالة الإفرنج وقصد طبرية والناصرة وعكا فاكتسح نواحيها وجاء الخبر إلى الإفرنج فاجفلوا إلى بلادهم وعظم عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجدّدها لهم انتهى والله أعلم.
استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من إفريقية
كانت جزيرة جربة من أعمال إفريقية ما بين طرابلس وقابس وكان أهلها من قبائل البربر قد
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 7 ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا عن التركمان.
[2] استلحم الرجل: نشب في الحرب فلم يجد مخلصا.(5/230)
استبدّوا بجزيرتهم عند ما دخل العرب الهلاليون إفريقية ومزقوا ملك صنهاجة بها وقارن ذلك استفحال ملك الإفرنج برومة وما اليها من البلاد الشمالية وتطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشام فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفا وكان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر بن خميرة وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلّيّة ولما ضعف أمر المسلمين بها وانقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الأسطول في سبيل التضريب بينهم ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن كان آخرها فتخاطر إبنّة وما زرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة وانقطعت كلمة الإسلام بها ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولي ابنه رجار مكانه وطالت أيامه واستفحل ملكه وذلك عند ما هبت ريح الإفرنج بالشام وجاسوا خلالها وصاروا يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين وكان رجار يتعاهد سواحل إفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين أسطول صقلّيّة إلى جزيرة جربة وقد تقلص عنها ظلّ الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها واشتدّ القتال ثم اقتحموا الجزيرة عليهم عنوة وغنموا وسبوا واستأمن الباقون وأقرّهم الإفرنج في جزيرتهم على جزية وملكوا عليهم أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج
ثم بعث شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى وثلاثين إلى طرابلس الشام ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة وسار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره وأحجزه بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة واستباحوه واستلحموا من فيه من الإفرنج ثم سار الإفرنج سنة خمس وثلاثين الى عسقلان [1] وأغاروا في نواحيها وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الإفرنج وظفروا بهم وعادوا منهزمين وكفى الله شرهم بمنه وكرمه.
__________
[1] عسقلان: مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين ويقال لها عروس الشام. وقد نزلها جماعة من الصحابة والتابعين وحدث بها خلق كثير. ولم تزل عامرة إلى أن استولى عليها الإفرنج. (معجم البلدان) .(5/231)
استيلاء الإفرنج على طرابلس الغرب
كان أهل طرابلس الغرب لما انحلّ نظام الدولة الصنهاجية بإفريقية وتقلص ظلها عنهم قد استبدّوا بأنفسهم وكان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس وهو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبدّ لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح ورفضوا دعوة الحسن وقومه وذلك عند ما تكالب الإفرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها وبعث أسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها واستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم وخرجوا إلى الإفرنج فهزموهم وغنموا أسلحتهم ودوابهم ورجع الإفرنج إلى صقلّيّة فتجهزوا إلى المغرب وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية وهرب أهلها الى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الّذي بناه يحيى بن العزيز بن حماد ويسمى النزهة ورجعوا إلى بلادهم ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس سنة إحدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها برا وبحرا وقاتلوها ثلاثا وكان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الإفرنج وأخرجوا بني مطروح وولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجا في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج اجتمعت شيعة بني مطروح وأدخلوهم للبلد ووقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى الأسوار فنصبوا عليها السلالم وتسنموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا في القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها ثم رفعوا السيف ونادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد وأقروهم على الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها وولوا عليها ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة ونادوا في صقلّيّة بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها.
استيلاء الإفرنج على المهدية
كانت قابس عند ما اختلّ نظام الدولة الصنهاجية واستبدّ بها [1] ابن كامل بن جامع من قبائل رياح إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجرائي وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة وأفسدوا نظامها وملكوا بعض أعمالها واستبدّ آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء وكان لهذا العهد
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر على اسمه في المراجع التي بين أيدينا.(5/232)
رشيد أميرا بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدولة الصنهاجية من أخبار البربر وتوفي رشيد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ونصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد وأخرج ابنه الكبير معمرا واستبد على محمد وتعرض لحرمة سرّا وكان فيهن امرأة رشيد وساروا إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه وتهدّده بإدخال الإفرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر وبعث يوسف إلى رجار صاحب طرابلس بطاعته وأن يوليه على قابس كما ولي ابن مطروح على طرابلس وشعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة وأخذ يوسف أسيرا وملك معمر قابس مكان أخيه محمد وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك وأخذ بنو قرة أختهم ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلّيّة واستجاروا به وكان الغلاء قد اشتدّ بإفريقية سنة سبع وثلاثين ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل بعضهم بعضا وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الّذي كان بينه وبين الحسن بن علي صاحب المهدية [1] لسنين وجهز أسطوله مائتين وخمسين من الشواني وشحنها بالمقاتلة والسلاح ومقدّم الأسطول جرجي بن ميخاييل أصله من المنتصرة وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة وصادف بها مركبا من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية ثم أقلع فأصبح قريبا من المرسي في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وقد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسي ففاته غرضه وكتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح وإنما جاء طالبا بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع الحسن الناس واستشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه واعتذر بقلة الأقوات وارتحل من البلد وقد حمل ما خف حمله وخرج الناس بأهاليهم وما خف من أموالهم واختفى كثير من المسلمين في الكنائس ثم ساعد الريح أسطول الإفرنج ووصلوا إلى المرسي ونزلوا إلى البلد من غير مدافع ودخل جرجي القصر فوجده على حاله مملوءا بالذخائر النفسية التي يعز وجود مثلها وبعث بالأمان إلى كلّ من شرد من أهلها فرجعوا وأقرّهم على الجزية وسار الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين ولقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال انكسر له في ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبرّ مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهرا ثم عزم على المسير إلى مصر وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر
__________
[1] المهدية: مدينة بإفريقية منسوبة إلى المهدي، وبينها وبين القيروان مرحلتان والقيروان في جنوبيها.(5/233)
فرجع عن ذلك واعتزم على قصد عبد المؤمن من ملوك الموحدين بالمغرب وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميما وعليا يستأذنه في الوصول فأذن له وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة ووكل به وبولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وخبرهم مشروع هنالك ثم جهز جرجي أسطولا آخر إلى صفاقس وجاء العرب لإنجادهم فلما توافوا للقتال استطرد لهم الإفرنج غير بعيد فهزموهم ومضى العرب عنهم وملك الإفرنج المدينة عنوة ثالث عشري صفر وفتكوا فيها ثم أمنوهم وفادوا وأسراهم وأقروهم على الجزية وكذا أهل سوسة [1] وكتب رجار صاحب صقلّيّة إلى أهل سواحل إفريقية بالأمان والمواعد ثم سار جرجي إلى إقليبية من سواحل تونس واجتمع إليها العرب فقاتلوا الإفرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلّيّة وبين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن إفريقة وكان متولي كبرها جرجي بن ميخاييل صاحب المهدية ثم مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة ولم يقم لرجار بعده أحد مقامه والله تعالى أعلم [2] .
__________
[1] سوسة بلد بالمغرب، وهي مدينة عظيمة بها قوم لونهم لون الحنطة يضرب إلى الصفرة.
[2] تلاحظ ولا شك عدم الانسجام في سرد الحوادث، لذلك نقلنا ما كتبه ابن الأثير عن هذه الحادثة بالنص الكامل ليتمكن القارئ أن يتوصل إلى الحقائق التاريخية بعد المقارنة. عن كتاب الكامل ج 11 ص 125: (ذكر ملك الإفرنج مدينة المهدية بإفريقية) قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف صاحب قابس إلى رجار ملك صقلّيّة واستغاثتهم به فغضب لذلك، وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم ابن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية صلح وعهود إلى مدة سنتين، وعلم أنه فاته فتح البلاد في هذه الشدة التي أصابتهم، وكانت الشدة ودوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة. وكان أشد ذلك منه سنة اثنتين وأربعين، فإن الناس فارقوا البلاد والقرى، ودخل أكثرهم إلى مدينة صقلّيّة وأكل الناس بعضهم بعضا وكثر الموت في الناس فاغتنم رجار هذه السنة فعمر الأسطول وأكثر منه فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيا مملوءة رجالا وسلاحا وقوتا. وسار الأسطول عن صقلّيّة ووصل إلى جزيرة قوصرة وهي ما بين المهدية وصقلّيّة فصدفوا بها مركبا ووصل من المهدية فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدّم الأسطول فسألهم عن حال إفريقيا. ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها فحلفوا باللَّه أنهم لم يرسلوا شيئا فأمر الرجل الّذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه أننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلّيّة فسألناهم عن الأسطول المخذول فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية. وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير الحسن والناس، وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة. ثم سار وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل ان يخرج أهلها، فلو تم له ذلك لم يسلم منهم أحد، فقدر الله تعالى ان أرسل عليهم ريحا هائلا فلم يقدروا على السير إلا بالمقاذيف، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم فرآهم الناس. فلما رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته أرسل إلى الأمير الحسن يقول إنما جئت بهذا الأسطول طالبا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها. أما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة ونريد منك عسكرا يكون معنا فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم فقالوا نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا وبحرا ويحول بيننا وبين الميرة وليس عندنا ما يقوتنا شهرا فتؤخذ قهرا. وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل(5/234)
استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلّيّة وملك ابنه غليالم
ثم سار أسطول رجار من صقلّيّة سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها وأغضى عن جماعة من أهل
__________
[ () ] خيرا من الملك وقد طلب مني عسكرا إلى قابس فإن فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين، وإن امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح وليس الا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس بقتاله لنا طاقة والرأي أن نخرج بالأهل والولد وننزل عن البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا. وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلد بغير مانع ولا دافع، ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب يقل وجوده مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن من قصره.
وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائة وثمانين سنة من إحدى وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا فلم يخرج معهم. ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ونودي بالأمان فخرج من كان مستخفيا وأصبح جرجي من الغد فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخلفوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك والجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم يمض غير جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد. وأما الحسن فأنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدا ذكرا غير الإناث وخواص خدمه قاصرا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب، فطلب منه مالا انكسر له في ديوانه فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحيى رهينة، وسار فوصل في اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلا وتوجع لما حل به فأقام عنده شهورا، والحسن كاره للإقامة فأراد المسير الى ديار مصر الى الخليفة الحافظ العلويّ واشترى مركبا السفرة فسمع جرجي الفرنجي فجهز شواني ليأخذه فعاد عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب فأرسل كبار أولاد يحيى وتميما وعليا إلى يحيى بن عبد العزيز وهو من بني حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغنان هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين فحضر عنده، وقد ذكرنا حاله هناك.
ولما استقر جرجي بالمهدية سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير أسطولا آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فان أهلها لما سمعوا خبر المهدية وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه فدخلها الفرنج بلا قتال في 12 صفر. أما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى(5/235)
العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى وأقام بها عشرا ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلّيّة فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه ثم اتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس وأحرقوه ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولى ابنه غليالم مكانه وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير واختلف عليه حصون من صقلّيّة وبلاد قلورية [1] وتعدّى الأمراء على إفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم [2] .
__________
[ () ] البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبى الحريم وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها وأفتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة. ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان والله أعلم.
[1] قلوّرية: جزيرة في شرقي صقلّيّة وأهلها إفرنج، ولها مدن كثيرة وبلاد واسعة (معجم البلدان) .
[2] ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية، وفي الكامل ج 11 ص 203 (ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم) قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجّار ملك صقلّيّة وملك ولده غليالم وأنه كان فاسد التدبير فخرج عن حكمه عدة من حصون صقلّيّة، فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنّة وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفريابي بمدينة سفاقس. وكان رجار قد استعمل عليها لما فتحها أباه أبا الحسين وكان من العلماء الصالحين فأظهر العجز والضعف وقال استعمل ولدي فاستعمله وأخذ أباه رهينة إلى صقلّيّة. فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر إنني كبير السن وقد قارب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فأفعل ولا تراقبهم ولا تنظر في أنني أقتل وأحسب أني قدمت، فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم ويقتلونهم كلهم فقالوا له: إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه، قال هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات، فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ثم أتبعه يحيى بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونه فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة. وأرسل عمر بن أبي الحسين إلى زويلة وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان يحرضهم على الوثوب على من معهم من النصارى، ففعلوا ذلك وقدم عرب البلاد إلى زويلة فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج وقطعوا الميرة عن المهدية، فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلّيّة أحضر أبا الحسين وعرفه ما عمل ابنه فأمره أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك ويأمره بالعود إلى طاعته ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم على هذا يرجع بكتاب. فأرسل إليه ملك صقلّيّة رسولا يتهدده ويأمره بترك ما ارتكبه فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج إلى الرسول يقول له هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما أردتم، فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين فأخذ أباه وصلبه فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات. وأما زويلة فأنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم فحصروا المهدية وضيقوا عليها وكانت الأقوات بالمهدية قليلة فسير إليهم صاحب صقلّيّة عشرين شينيا فيها الرجال والطعام(5/236)
استيلاء الإفرنج على عسقلان
كانت عسقلان في طاعة الظافر العلويّ ومن جملة ممالكه وكان الإفرنج يتعاهدونها بالحصار مرّة بعد مرّة وكان الوزراء يمدّونها بالأموال والرجال والأسلحة وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين اضطرب الحال بمصر حتى ولي عباس الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهم بالشام وحاصروا عسقلان وامتنعت عليهم ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج الفرصة وملكوا البلد وعاثوا فيها والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده [1] .
ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها
قد تقدّم لنا وفاة رجار وملك ابنه غليالم وإنه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بإفريقية وكان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس
__________
[ () ] والسلاح فدخلوا البلد وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالا لينهزموا، وخرجوا من الغد فاقتتلوا هم وأهل زويلة فانهزمت العرب وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس وركبوا في البحر فخرجوا. وبقي أهل زويلة فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا. ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن. فلما قتلوا هرب من سلم من الحرم والصبيان والشيوخ في البر ولم يعرّجوا على شيء من أموالهم. ودخل الفرنج زويلة فقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال ونهبوا الأموال واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها منهم عبد المؤمن.
[1] كذلك ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية وفي الكامل ج 11 ص 188: (ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلان) في هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان، وكانت من جملة مملكة الظافر باللَّه العلويّ المصري وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها فلا يحدون إلى ملكها سبيلا. وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد، والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته. وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها من الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها. فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار على ما ذكرناه واختلفت الأهواء في مصر وولي عباس الوزارة وإلى أن استقرت قاعدة اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان فاجتمعوا وحصورها فصبر أهلها وقاتلوهم قتالا شديدا، حتى أنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين. وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ من ملكه فبينا هم على عزم الرحيل إذ قد أتاهم الخبر أن البلد قد وقع بين أهله خلاف، وقتل منهم قتلى فصبروا. وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين ادعى كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت وأنهم الذين ردوا الفرنج خاسرين فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب وعظم حينئذ وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى فطمع الفرنج وزحفوا إليه وقاتلوا عليه فلم يحدوا من يمنعهم فملكوه.(5/237)
لما تغلب عليها أبو الحسين الفرياني منهم وكان من أهل العلم والدين ثم عجز عن ذلك وطلب ولاية ابنه عمر فولاه رجار وحمل أبا الحسين إلى صقلّيّة رهينة وأوصى ابنه عمرو قال يا بني أنا كبير السنّ وقد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من ملكة العدوّ فأفعل ولا تخش عليّ وأحسبني قدمت فلما اختلّ أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم وقتلوهم سنة إحدى وخمسين وأتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس ومحمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وذهب حكم الإفرنج عن إفريقية ما عدا المهدية وسوسة وأرسل عمر الفرياني إلى زويلة [1] قريبا من المهدية يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا وأعانهم أهل ضاحيتهم وقاتلوا الإفرنج بالمهدية وقطعوا الميرة عنهم وبلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة ودفنها وقال هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين ومات شهيدا رحمه الله تعالى وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع أهلها على حصار المهدية وأمدّهم غليالم بالأقوات والأسلحة وصانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضا وأتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة وقتلوهم ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها واستباحوهم.
ارتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج
ولما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير وتقدّم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار ثم سار في صفر سنة اربع وخمسين في مائة ألف مقاتل وفي مقدّمته الحسن بن عليّ صاحب المهدية ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد ولأنفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتمّ ذلك كله وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذية في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة وبها أولاد الملوك والزعماء من الإفرنج وقد أخلوا
__________
[1] زويلة: ورد في معجم البلدان: بهذا الاسم بلدان أحدها زويلة السودان مقابل أجدابية في البر بين بلاد السودان وإفريقية، والأخرى زويلة المهدية وهي مدينة بإفريقية بناها المهدي عبيد الله، وهي المذكورة هنا.(5/238)
زويلة وهي على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها وامتلأ فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها أياما وضاق موضع القتال من البرّ لاستدارة البحر عليها لأنها صورة يد في البحر وذراعها في البرّ وآحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن البحر في الشواني [1] ومعه الحسن بن عليّ فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة وجمع الأقوات حتى كانت في ساحة معسكره كالتلال وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة بطاعتهم وبعث عسكر إلى قابس فملكها عنوة وبعث ابنه عبد الله ففتح كثيرا من البلاد ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة [2] في جماعة من أعيانها فبذل طاعته ووصله عبد المؤمن بألف دينار ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلّيّة في مائة وخمسين من الشواني غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها وبعث إليه صاحب صقلّيّة بقصد المهدية فلما أشرفوا على المرسي قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن ووقف عسكره على جانب البرّ وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد اسطول المسلمين ظافرا وأيس أهل المهدية من الأنجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا ولم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها وكان فصل شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم إلى الأقل ودخل عبد المؤمن المهدية في محرّم سنة خمس وخمسين لثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج وأقام بها عشرين يوما فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والأقوات واستعمل عليها بعض أصحابه وأنزل معه الحسن بن علي وأقطعه بأرضها له ولأولاده وأمر الوالي أن يقتدي برأيه ورجع إلى المغرب والله أعلم.
حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس
كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع وخمسمائة منجدا لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعة الضرغام كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وسار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين
__________
[1] الشواني: جمع شونة وهو المركب المعد للقتال في البحر.
[2] قفصة: اسم عجمي، وهو اسم بلدة صغيرة في طرف إفريقيا من ناحية المغرب، مختطة في أرض سبخة لا تنبت إلّا الأشنان والشيح (معجم البلدان) .(5/239)
على تنيس [1] وأتبعه إلى القاهرة ونزلها منتصف السنة وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر إلى تنيس وخشي منه ودس إلى الإفرنج يغريهم به وبذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية وسار ملك القدس في عساكر الإفرنج واجتمعت معه عساكر المسلمين وساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس [2] ثلاثة ولم يظفروا منه بشيء ثم جاءهم الخبر بأنّ نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد وفتحها ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك وخرج من بلبيس سائرا إلى الشام ثم عاد إلى مصر سنة ثنتين وستين وعبر النيل من أطفج ونزل الجزيرة واستمدّ شاور الإفرنج فساروا إليه بجموعهم وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد وانتهى إلى [3] فسار الإفرنج والعساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة واستشار أصحابه فاتفقوا على القتال وأدركته عساكر الإفرنج ومصر وهو على تعبيته وقد أقام مقامه في القلب راشد حذرا من حملة الإفرنج وانحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم وأتبعوهم وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم وأثخن فيهم ورجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا وانهزم أصحابهم ولحقوا بمصر ولحق أسد الدين بالإسكندرية فملكها صلحا وأنزل بها صلاح الدين ابن أخيه وحاصرته عساكر الإفرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها إياه ولا يقيم في البلد أحد من الإفرنج ولا يملكون منها شيئا فقبلوا ذلك وعادوا إلى الشام وملك أهل مصر الإسكندرية واستقر بينهم وبين الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وأن يكون أبوابها في غلقها وفتحها بأيديهم وأن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم [4] ذلك منه وعاد الإفرنج إلى بلادهم بالسواحل الشامية والله تعالى أعلم [5] .
__________
[1] تنيس: جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ ما بين الفرما ودمياط والفرما في شرقيها (معجم البلدان) .
[2] بلبيس: مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام (معجم البلدان) .
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 325: وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين.
[4] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: هذا كله استقر مع شاور، فإن العاضد لم يكن معه حكم، لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها.
[5] عبارات غير مرتبطة مع بعضها البعض وقد وردت هذه الحادثة في الكامل ج 11 ص 298 بعنوان: (ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر وعودهم عنها) في هذه السنة في جمادى الأول سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرا كثيرا إلى مصر وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وهو مقدم عسكره وأكبر(5/240)
حصار الإفرنج القاهرة
ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين وأرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة
__________
[ () ] أمراء دولته وأشجعهم. وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلويّ صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به فأكرم مثواه وأحسن إليه وأنعم عليه. وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون شيركوه مقيما بعساكر في مصر ويتصرف هو بأمر نور الدين، يقدم إلى هذا الفرض رجلا ويؤخر أخرى، فتارة يحمله رعاية قصد شاور بابه وطلب الزيادة في الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق وان الفرنج فيه، وتخوف إن شاور أن استقرت قاعدته ربما لا يفي، ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة. فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم في جمادى الأول من سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم ممن نازعه فيه وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعريض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين.
ووصل أسد الدين والعساكر معه إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم، وعاد الى القاهرة، ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين. ثم حمل ودفن في القرافة وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع على شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضا، وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل إلى نوابه فتسلموا مدينة بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الإفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين ان ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته، وطمعوا في تلك الديار المصرية.
وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه وتجهزوا وساروا. فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن السير فلم يمنعهم ذلك لعلهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد، فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر.
وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم، فسار بعضهم معهم وأقام بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهرا يتحصن فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه بها ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدا وليس لها خندق ولا فصل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا ولا نالوا منه شيئا فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم. حينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعود إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليه. وخرج من بلبيس في ذي الحجة فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال: أخرج أصحابه بين يديه وبقي في(5/241)
يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم وملك الإفرنج يومئذ بالشام مري ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأيا فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وأن ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا [1] فأبوا عليه وقالوا إنما نزداد بها قوّة فرجع إلى رأيهم وساروا جميعا إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدّة شهرين وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتدّ عليه الحصار وبعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف دينار مصرية ويهدّده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريبا حتى يصل إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شير كوه في عسكر يقيمون عندهم على أنّ لنور الدين ثلث بلاد مصر ولأسد الدين إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت إقطاعه وأمره بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده وأعانهم أسد الدين بعشرين دينارا لكل فارس وبعث معه جماعة من الأمراء منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب وسار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها منتصف السنة وخلع عليه العاضد [2] وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين
__________
[ () ] آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية، فقال شيركوه يا ليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما افعله، كنت والله أضع السيف فلا يقتل منها رجل حتى يقتل منهم رجال، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ونهلك من بقي. والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا، فصلب على وجهه وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم، ثم رجع عنه وسار شيركوه إلى الشام فوصل سالما وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدا ليأخذوه أو ينالوا منه ظفرا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة:
أخذتم عن الإفرنج كل ثنية ... وقلت لأيدي الخيل مرّي على (مري)
لئن نصبوا في البر جسر فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر.
وكلمة (مري) اسم ملك الفرنج.
[1] صانعه: داهنه، وأراه، رشاه. ومنه المثل: من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة.
[2] خلع عليه ثوبا: ألبسه إياه منحة.(5/242)
بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدّث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتمّ له ذلك وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقتلاه وفوّض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته والله أعلم [1] .
__________
[1] ذكرت هذه الحادثة في الكامل ج 11 ص 335 بعنوان.
(ذكر ملك أسد الدين مصر ومقتل شاور) في هذه السنة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى مصر فملكها ومعه العساكر النورية وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج من البلاد المصرية وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم. فلما رأوا ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم أرسلوا إلى ملك الفرنج بالشام وهو (مري) ولم يكن للفرنج من ظهر بالشام مثله شجاعة ومكر أو دهاء يستدعونه ليملكها وأعلموه خلّوها من موانع وهونوا أمرها عليه فلم يجبهم فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذو الرأي منهم فأشاروا عليه بقصدها وتملكها فقال لهم:
الرأي عندي أننا لا نقصدها ولا طمعة لنا فيها وأموالها تساق إلينا نتقوى بها على نور الدين، وان نحن قصدناها لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامه بلاده وفلاحيها لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين، ولئن صار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من ارض الشام فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: إنها لا مانع فيها ولا حامي وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص. فلما سمع نور الدين شرع أيضا بجمع عساكره وأمرهم بالقدوم عليه، وجدّ الفرنج في السير إلى مصر فقدموها ونازلوا مدينة بلبيس وملكوها قهرا مستهل صفر ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور بن الخياط وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس ملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ذلك أي ما فعلوا (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم خوفا أن يملكها الفرنج فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج فشرع في تسيير الجيوش. وأما الفرنج فإنّهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال فضاق به الأمر وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحليلة فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودة ومحبة له قديما، وإن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه ويشير بالصلح وأخذ مالا لئلا يتسلم البلاد نور الدين فأجابه الى ذلك على ان يعطوه ألف ألف دينار مصرية يعمل البعض ويمهل بالبعض فاستقرت القاعدة على ذلك، ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليه وربما سلمت إلى نور الدين فأجابوا كارهين وقالوا نأخذ المال فنتقوى به وتعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) فعجل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا، وجعل شاور يجمع المال من أهل القاهرة ومصر فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما فيها وما سلم نهب وهم لا(5/243)
حصار الافرنج دمياط
ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشيه الافرنج على ما بأيديهم من مدن الشام وسواحله وكاتبوا أهل ملتهم ونسبهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها وبعثوا الأقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعا في أن يملكوها ويتخذوها ركابا للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لأوّل أيام صلاح الدين وأمدّهم صلاح الدين بالعساكر والأموال وجاء بنفسه وبعث الى نور الدين يستنجده ويخوفه على مصر فتابع اليه الامداد وسار بنفسه الى بلاد الافرنج بالشام واكتسحها وخربها
__________
[ () ] يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط، أما أهل القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم فلهذا تعذرت عليهم الأموال وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث مصر وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثلث الّذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه فخرج العاضد في طلبه فلقيه على باب حلب وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه. وكان سبب وصوله أن كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى فسار أيضا إلى نور الدين واجتمع به وعجب نور الدين من حضوره في الحال وسره ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهيز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الشباب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى باب دمشق فوصلها سلخ صفر ورحل إلى رأس الماء وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم مملوكه عز الدين جرديك وغرس الدين قليج شرف الدين برغش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي وصلاح الدين يوسف بن أيوب أخي شيركوه على كره منه (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.) أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه.، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا. وسمع نور الدين بعودهم فسره ذلك وأمر بضرب البشائر في البلاد وبث رسله في الافاق مبشرين بذلك فإنه كان فتحا جديدا لمصر وحفظا لبلاد الشام وغيرها. فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة ودخل إليها واجتمع بالعاضد لدين الله وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وفرح به أهل مصر وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والإنعامات الوافرة ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال وإقطاع الجند وإفراد ثلث البلاد لنور الدين وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً 4: 120 ثم أنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم يستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن عزوت على هذا الأمر لا عرفن شيركوه، فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا. فقال صدقت ولأن نقتل ونحن مسلحون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارسا واحدا ويملكون البلاد فترك ما كان عزم عليه. ولما رأى العسكر النوري تطل شاور خافوا شره فاتفق(5/244)
فعاد الفرنج الى دمياط بعد حصار خمسين يوما نفس الله عليهم [1] ومن هذه القصة بقية أخبار الافرنج متعلقة بالدولتين دولة بني زنكي بالشام ودولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم الى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه ولم يبق الا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه هاهنا.
استيلاء الافرنج على القسطنطينية
كان هؤلاء الافرنج بعد ما ملكوه من بلاد الشام اختلف أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرّات ثم غلبوا عليهم آخرا وملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدّة ثم ارتجعها الروم على يد شكري من بطارقتهم وكيفية الخبر عن ذلك أنّ ملوك الروم أصهروا الى ملوك الافرنج وتزوّجوا منهم بنتا لملك الروم فولدت ذكرا خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه ولحق الولد بملك الافرنج خاله مستصرخا به فوصل اليه وقد تجهز الافرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين وكان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره ان شاء الله تعالى وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة وهو صاحب الاسطول الّذي ركبوا فيه وكان
__________
[ () ] صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جرديك وغيرهم على قتل شاور فنهاهم أسد الدين فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته فلم يجده في الخيام وكان قد مضى يزور قبر الشافعيّ رضي الله تعالى عنه فلقيه صلاح الدين وجرديك في جمع من العسكر، وخدموه وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعيّ فقال: نمضي إليه فساروا جميعا، فسايره صلاح الدين وجرديك والقوه إلى الأرض عن فرسه فهرب أصحابه عند فأخذه أسيرا فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فتوكلوا بحفظه وسيروا وأعلموا أسد الدين فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه. وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور وتابع الرسل بذلك فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخرة، ودخل أسد الدين القاهرة فرأى من اجتماع الخلق ما خافهم على نفسه فقال لهم أمير المؤمنين يعني العاضد يأمركم بنهب دار شاور، فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها وقصد هو قصر العاضد فخلع عليه خلع الوزارة ولقب الملك المنصور أمير الجيوش. وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور فلم ير فيها ما يقعد عليه واستقر في الأمر وغلب عليه ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق إليه من أصحابه واقطع البلاد لعساكره. أما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو إخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.
[1] يقال: نفّس فلانا: اي أمهله أو أزال كربه وغمه(5/245)
شيخا أعمى لا يركب ولا يمشي الا بقائد ومقدّم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كبد إقليد [1] وهو أكثرهم عددا فجعل الملك ابن أخته معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية ووصلوا اليه في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فخرج عمّ الصبي وقاتلهم واضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضطرب العسكر ورجعوا وفتح شيعة الصبيّ باب المدينة وأدخلوا الافرنج وخرج عمه هاربا ونصب الافرنج الصبيّ في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدّوا بالحكم وصادروا الناس وأخذوا مال البيع وما على الصلبان من الذهب وما على تماثيل المسيح والحواريين وما على الإنجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا بالصبيّ فقتلوه وأخرجوا الافرنج من البلد وذلك منتصف سنة ستمائة وأقام الافرنج بظاهرها محاصرين لهم وبعث الروم صريخا الى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان فلم ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من الافرنج يناهزون ثلاثين ألفا فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم وأضرموا النار ثانيا فاقتحم الافرنج وأفحشوا في النهب والقتل ونجا كثير من الروم الى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم وخرج القسيسون والأساقفة في أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج ولم يحصل أحد منهم شيئا الا ملك القسطنطينية كبداقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه شكري فلم يزل بيده الى أن مات ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية وملكها من يد الافرنج والله غالب على أمره [2] .
الخبر عن دولة بني ارتق وملكهم لماردين وديار بكر ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
كان ارتق بن اكسك ويقال اكست والأوّل أصح كلمة أوّلها همزة ثم كافان الاولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن البارسلان ملك السلجوقية وله مقام محمود في
__________
[1] كذا بالأصل، وهنا أسماء افرنجية محرفة كما هي كذلك محرفة في كتب التاريخ القديمة. وفي الكامل ج 12 ص 191 وكانوا ثلاثة ملوك: دوقس البنادقة وهو صاحب المراكب البحرية، وفي مراكبه ركبوا الى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب تقاد فرسه، والآخر يقال له المركيس وهو مقدم الافرنسيس. والآخر يقال له كند افلنر وهو أكثرهم عددا.
[2] وهنا أيضا عدم انسجام في العبارات وتحريف في الأسماء، راجع الكامل ج 12 ص 190- 193.(5/246)
دولتهم وكان على حلوان وما اليها من أعمال العراق ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره الى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفه بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد ثم داخلة في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه ونجا الى الرقة ثم خشي ارتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار الى حلب طامعا في ملكها فلقيه تتش وهزمه وكان لارتق في تلك الواقعة المقام المحمود ثم سار تتش الى حلب وملكها واستجار مقدمها ابن الحسين بأرتق فأجاره من السلطان تتش ثم هلك ارتق سنة ثلاث وثمانين بالقدس وملكه من بعد ارتق ابناه أبو الغازي وسقمان وكان لهما معه الرها [1] وسروج [2] ولما ملك الافرنج انطاكية سنة احدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الأمراء بالشام والجزيرة وديار بكر [3] وحاصروها وكان لسقمان في ذلك المقام المحمود ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم وسار اليها الملك الأفضل المستولى على دولتهم فحاصرها أربعين يوما وملكها بالأمان وخرج سقمان وأبو الغازي ابنا ارتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج وأحسن اليهم الأفضل وولىّ على بيت المقدس ورجع الى مصر وجاء الافرنج فملكوها كما تقدّم في أخبار الدولة السلجوقية ولحق أبو الغازي بالعراق فولّى شحنة بغداد وسار سقمان الى الرها فأقام بها وكان بينه وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه ثم توفي كربوقا سنة خمس وتسعين وولىّ الموصل بعده موسى التركماني وكان نائبا بحصن كيفا فزحف اليه جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وحاصره بالموصل واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا [4] فأنجده وسار اليه وأفرج عنه جكرمس وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدرا ورجع سقمان الى حصن كيفا فملكه ثم كانت الفتنة بين أبي الغازي وكمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء اليه
__________
[1] الرها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما اربع فراسخ، سميت باسم الّذي استحدثها وهو الرهاء اليلندي بن مالك بن دعر.
[2] سروج: بلدة قريبة من حران من ديار مصر، غلب عياض بن غنم على أرضها ما فتحها صلحا على مثل صلح الرها في سنة 17 في أيام عمر رضي الله عنه.
ديار بكر: هي بلاد كبيرة واسعة تنسب الى بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن افصى بن دعمي بن جديله بن
[3] أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وحدها ما غرّب من دجلة الى بلاد الجبل المطل على نصيبين الى دجلة وفيه حصن كيفا وآمد وميافارقين.
[4] حصن كيفا: ويقال كيبا، وأظنها ارمينية وهي بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر.(5/247)
من حصن كيفا في عساكره ونهب تكريت [1] وخرج اليه أبو الغازي واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الحلة وعاثوا في نواحي بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد وبعث اليهم الخليفة في الصلح على أن يسير القيصري الى واسط [2] فسار اليها ودخل أبو الغازي بغداد ورجع سقمان الى بلده وقد مرّ ذلك في أخبارهم ثم استولى مالك بن بهرام أخى سقمان على عامّة الخرمية سنة سبع وتسعين وكان له مدينة سروج فملكها منه الافرنج وسار الى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط واستصرخوا بصدقة بن مزيد وارتجعها لهم منه وعاد الى الحلة فعاد مالك فملكها واستقرّت في ملكه ثم اجتمع سقمان وجكرمس صاحب الموصل على جهاد الافرنج سنة سبع وتسعين وهم محاصرون حران [3] فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الافرنج وأسروا القمص بردويل صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمس وأخذوه وافترقوا بسبب ذلك وعادوا الى ما كان بينهم من الفتن والله أعلم.
استيلاء سقمان بن ارتق على ماردين
كان هذا الحصن ماردين [4] من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجرّ اليه خلق كثير من الأكراد يفسدون السابلة واتفق ان كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد [5] وهي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لانجاده وقاتل كربوقا قتالا شديدا ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق وحبسه بقلعة
__________
[1] تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة وهي غربي دجلة.
[2] واسط: واسط في عدة مواضع والمذكورة هنا هي واسط الحجاج وهو الّذي بناها وسميت واسطا لتوسطها بين البصرة والكوفة لان منها والى كل منهما خمسين فرسخا. والحجاج هو الّذي بناها.
[3] حرّان: مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة اقور، وهي قصبة ديار مضر، بينها وبين الرها يوم واحد وبين الرقة يومان وهي على طريق الموصل والشام والروم وقيل سميت بهارات اخي إبراهيم عليه السلام، لانه أول من بناها فعرّبت مقيل حرّان، وذكر انها أول مدينة بنيت على الأرض بعد الطوفان.
[4] ماردين: قلعة مشهورة على قنّة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين، وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخان قاهاث ودورهم فيها كالدرج. ومما لا شك فيه انه ليس في الأرض كلها أحسن من قلعتها ولا أحصن ولا احكم (معجم البلدان) .
[5] آمد أعظم مدن ديار بكر وأجلها قدرا واشهرها ذكرا. بلد قديم حصين ركين مبني بالحجارة السود على نشز دجلة محيطة بأكثره مستديرة به كالهلال، وفي وسطه عيون وآبار.(5/248)
ماردين عند المغنى فبقي محبوسا مدّة طويلة وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي الى المغنى صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي الى خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة معه فلا يهيجهم ثم حدّثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الاغارة ودنا من القلعة وعرضهم على القتل ان لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها وجمع الجموع وسار الى نصيبين [1] وأغار على جزيرة ابن عمر وهي لجكرمس فكبسه جكرمس وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمس وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت الى أبيها وجمعت التركمان وجاء سقمان بهم الى نصيبين فترك طلب الثار فبعث اليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمس وخرج منها لبعض المذاهب وكتب نائبة بها الى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمس فسار اليها سقمان وعوض عليا ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف اليهما نصيبين والله أعلم.
وفاة سقمان بن ارتق وولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين
ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن ارتق على الافرنج وكان استبدّ بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازلة الافرنج عند ما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ الى سقمان بن ارتق سنة ثمان وتسعين وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبدّ بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الافرنج فأسرع المسير اليه معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى الى القريتين [2] وندم طغركين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عند ما أشفي على الموت أشاروا عليه بالرجوع الى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت كان لي ثواب شهيد فلما مات حمله ابنه إبراهيم الى
__________
[1] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل الى الشام وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان (معجم البلدان) .
[2] القريتين: قرية كبيرة من اعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة وأرك وقال ابو حذيفة في فتوح الشام:
وسار خالد بن الوليد من تدمر الى القريتين وهي التي تدعى حوّارين. (معجم البلدان)(5/249)
حصن كيفا فدفنه بها وكان أبو الغازي بن ارتق شحنة بغداد كما قدّمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان وهي أقطاع أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء الى بغداد ليزعج [1] أبا الغازي عنها ففارقها الى يعقوب وبعث الى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق ويحكم الصلح في اقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك ومات بركيارق على اثر ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الأمر عز له عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمس فحاصروها وبعث جكرمس الى رضوان وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين وسار أبو الغازي الى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم.
اضطراب أبي الغازي في طاعته وأسره ثم خلاصه
لما ولى السلطان محمد على الموصل والجزيرة وديار بكر سنة اثنتين وخمسمائة مودود بن افتكين مكان جاولي سكاوو الّذي ملكها من يد جكرمس كما مرّ في أخبارهم فوصل مودود الى الموصل وسار جاولي الى نصيبين وهي يومئذ لابي الغازي وراسله في المظاهرة والانجاد فوصل اليه بماردين على حين غفلة مستنجدا به فلم يسعه الا اسعافه وسار معه الى سنجار والرحبة وحاصرهما وشق عليهما فلما نزل الخابور هرب أبو الغازي راجعا الى نصيبين ثم الى بلده وبقي مضطربا ثم بعث السلطان محمد سنة خمس وخمسمائة الى الأمير مودود بالمسير الى قتال الافرنج وأن يسير الأمراء معه من كل جهة مثل سقمان القطبي صاحب ديار بكر وأحمد بك صاحب مراغة وأبي الهيجاء صاحب اربل وأبي الغازي صاحب ماردين فحضروا كلهم الا أبا الغازي فإنه بعث ولده أياز في عسكر فسارت العساكر الى الرها وحاصروها وامتنعت عليهم ثم ساروا سنة ست وخمسمائة الى سروج كذلك ثم ساروا سنة سبع الى بلاد الافرنج فهزموهم على طبرية ودوّخوا بلادهم وعاد مودود الى دمشق وافترقت العساكر ودخل دمشق ليشتي بها عند طغركين صاحبها فقتل غيلة بها واتهم طغركين في أمره وبعث السلطان مكانه
__________
[1] زعجه وأزعجه: اقلعه وقلعه من مكانه، طرده. أزعجه الى المعصية.(5/250)
على العساكر والموصل آقسنقر البرسقي وأمره بقصد الافرنج وقتالهم وكتب الى الأمراء بطاعته وبعث ابنه الملك مسعودا في عسكر كثيف ليكونوا معه فسار آقسنقر سنة ثمان وخمسمائة وفرّ أبو الغازي وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه أياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على أياز بن أبي الغازي ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته الى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كيفا مستنجدا به فأنجده وساروا الى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من الأسر وأرسل السلطان الى أبي الغازي يتهدّده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخا وكان طغركين مستوحشا لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك الى صاحب انطاكية فجاء اليهما قرب حمص وتحالفا وعاد الى انطاكية وسار أبو الغازي الى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث الى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه فيه وجاء طغركين الى حمص فدخل على قيرجان وألحّ عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه قيرجان وأخذ عليه وسار أبو الغازي الى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي وقتال الافرنج بعده فساروا الى حلب وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه البارسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان اليهما في ذلك وبادر أبو الغازي وطغركين فدخلا اليهما فامتنعت عليهما فساروا الى حماة من أعمال طغركين وبها ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها الى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم أياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا الى روجيل صاحب انطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بقدوين صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرّقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة افامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين الى دمشق وأبو الغازي الى ماردين والافرنج الى بلادهم ثم كان اثر ذلك فتح كفرطاب على المسلمين واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب انطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مددا للافرنج في كفرطاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين الى بلادهم وكان أياز بن أبي الغازي أسيرا عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم.(5/251)
استيلاء أبي الغازي على حلب
كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم ونصب ابنه البارسلان في ملكه ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبدّ عليه ثم سار لؤلؤ الخادم الى قلعة جعفر سنة احدى عشرة [1] بينه وبين مالك ابن سالم بن مالك بن بدران فغدر به مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولى شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ ثم عزل لشهر وولى أبو المعالي بن الملحي الدمشقيّ ثم عزل وصودر واضطربت الدولة وخشي أهل حلب على بلدهم من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق من ماردين وسلموا له البلد وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم ولما ملكها لم يجد فيها مالا فصادر جماعة من الخدم وصانع الافرنج بما لهم ثم سار الى ماردين بنية العود الى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش.
واقعة أبي الغازي مع الافرنج
ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع فيها الافرنج وساروا اليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لأهلها بدّ من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة وبعثوا الى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا وجمع أبو الغازي من العساكر والمتطوعة نحوا من عشرين ألفا وسار بهم الى الشام سنة ثلاث عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني وطغان ارسلان بن اسكين بن جناح صاحب ارزن الروم ونزل الافرنج قريبا من حصون الاماري في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة الا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي ودخل عليهم من تلك المسارب وهم غارّون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت الا القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار وقتل سرجان صاحب انطاكية ونجافلهم من المعركة فاجتمع جماعة من الافرنج وعاودوا اللقاء
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 109: سار منها الى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك العقيلي صاحبها.(5/252)
فهزمهم أبو الغازي وفتح حصن الاربات ورزدنا وعاد الى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات الى ماردين وولى على حلب ابنه سليمان ثم وصل دبيس بن صدقة الى أبي الغازي مستجيرا به فكتب اليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي [1] بابعاد دبيس ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع وسار أبو الغازي الى الافرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الافرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لأنّ أكثر الغزاة معه التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاه فيستعجل العودان فنيت ازوادهم والله أعلم.
انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب
كان أبو الغازي قد ولى على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف على أبيه وسار اليه أبوه [2] تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك وكان متولي كبرها أمير كان لقيطا لأبيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه وكان منهم آخر من أهل حماه قدّمه أبو الغازي على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه ثم ثنته الشفقة عليه وهرب الى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة وعاد الى ماردين وذلك سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي الحسن الشهرزوريّ شافعا في دبيس وضامنا في طاعته فلم يتمّ ذلك فلما انصرف تمرتاش الى أبيه أقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين وكانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي ولم تزل في يده الى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة والله تعالى أعلم.
واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها
قد تقدّم لنا أنّ جوسكين من الافرنج كان صاحب الرها وسروج وأنّ مالك بن بهرام كان قد
__________
[1] كذا بياض بالأصل. وفي الكامل ج 10 ص 568: أرسل المسترشد باللَّه خلعا مع سديد الدولة ابن الأنباري نجم الدين ايلغازي وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج ويأمره بابعاد دبيس.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 591 فسمع والده الخبر فسار مجدا لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج اليه معتذرا فأمسك عنه. وقبض على من أشار عليه بذلك.(5/253)
ملك مدينة غانة فسار سنة خمس عشرة الى الرها وحاصرها أياما فامتنعت عليه وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الافرنج وقد تفرّق عن مالك أصحابه ولم يبق معه الا اربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في إهاب جمل وخيط عليه وطلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالا فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
وفاة أبي الغازي [1] وملك بنيه من بعده
ثم توفي أبو الغازي بن ارتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة فولى بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش وملك سليمان ميافارقين وكان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها ثم سار مالك بن بهرام بن ارتق الى مدينة حران فحاصرها وملكها وبلغه انّ سليمان ابن عمه بعد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الافرنج وأعطاهم حصن الاماري فطمع في ملك بلاده وسار اليها في ربيع سنة ست عشرة وملكها من يده على الأمان ثم سار سنة ثمان عشرة الى منبج وحاصرها وملك المدينة وحبس صاحبها حسان التغلبي وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها وسمع الافرنج بذلك فساروا اليه فترك على القلعة من يحاصرها ونهض اليهم فهزمهم وأثخن فيهم وعاد الى منبج فحاصرها وأصابه بعض الأيام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر وافترقوا وخلص حسان من محبسه وكان تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين معه على منبج فلما قتل حمل شلوه الى حلب ودفنه بها واستولى عليها ثم استخلف عليها وعاد الى ماردين وجاء الافرنج الى مدينة صور فملكوها وطمعوا في غيرها من بلاد المسلمين ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجيا من واقعته مع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن وطال الحصار وقلت الأقوات واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم ولم يكن في الوقت أظهر من البرسقي صاحب الموصل ولا أكثر قوّة وجمعا منه فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل وصوله ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الافرنج ارتحلوا عائدين الى بلادهم وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل واستولى على حلب وأعمالها ولم تزل بيده الى ان هلك وملكها ابنه عز الدين ثم هلك فولى السلطان محمود عليها أتابك زنكي حسبما يأتي
__________
[1] وفي الكامل ايلغازي. ج 10 ص 604(5/254)
في أخبار دولته ورجع تمرتاش الى ماردين واستمرّ ملكه بها وكان مستوليا على كثير من قلاع ديار بكر ثم استولى سنة اثنتين وثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر وكانت بيد بعض بني مروان من بقايا ملوك الأوّلين وكان هذا آخرهم بهذه القلعة وكان ملك ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش وملكها من يد أخيه سليمان ولم يزل تمرتاش ملكا بماردين الى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وثلاثين سنة من ملكه والله تعالى ولىّ التوفيق.
وفاة تمرتاش وولاية ابنه البي بعده
ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع وأربعين وخمسمائة كما قلناه فملك بعده ابنه بماردين البي بن تمرتاش وبقي ملكا عليها الى أن مات وولى بعده ابنه أبو الغازي بن البي الى أن مات ولم يذكر ابن الأثير تاريخ وفاتهما وقال مؤرّخ حماة لم يقع اليّ تاريخ وفاتهما.
ولاية حسام الدين بولق ارسلان بن أبي الغازي بن البي
ولما توفي أبو الغازي بن البي قام بأمر ملكه نظام الملك النقش ونصب للملك مكانه ابنه بولق ارسلان طفلا واستبدّ عليه وكان النقش غالبا على هواه حيث صار أمر الطفل في يده ولم تزل حالهم على ذلك الى أن هلك حسام الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الأثير حسام الدين ناصر الملك قصد العادل أبو بكر ابن أيوب ماردين وخشيت ملوك الجزيرة ولم يقدروا على منعه ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر وولى أخوه الأفضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار وبعثهم مع ابنه الكامل وحاصروا ماردين فبعث اليه النقش المستولي على بولق بالطاعة وتسليم القلعة لأجل معلوم على أن يدخل اليهم الأقوات ووضع العادل ابنه على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال وشحنوها بالأقوات وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لانجادهم وقاتلهم فانهزمت عساكر العادل وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعا منهزمين ونزل حسام الدين بولق الى نور الدين ولقيه وشكر وعاد ونزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصدا حوران كما نذكره في أخبار دولته ان شاء الله تعالى والله أعلم
.(5/255)
وفاة بولق [1] وولاية أخيه ارتق
ولما هلك بولق ارسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر الدين ارتق ارسلان بن قطب الدين أبي الغازي ولم يذكر ابن الأثير خبر وفاته أيضا وبقي مملكا في كفالة النقش الى سنة احدى وستمائة والله أعلم.
مقتل النقش [2] واستبداد ارتق المنصور واتصال الملك في عقبه
ثم استنكف ارتق من المحر ومرض النقش سنة احدى وستمائة فجاء ارتق لعيادته وقتل لؤلؤا خادمه في بعض زوايا بيته ورجع الى النقش فقتله في فراشه واستقلّ بملك ماردين وتلقب المنصور وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة [3] وملك بعده ابنه السعيد نجم الدين غازي بن ارتق وتوفي سنة ثمان أو ثلاث وخمسين وملك بعده أخوه المظفر قرا ارسلان بن ارتق فأقام سنة أو بعضها ثم هلك سنة ثلاث وتسعين وستمائة وملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازي بن قرا ارسلان الى أن توفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لأربع وخمسين سنة من ولايته وملك بعده ابنه المنصور أحمد الى أن توفي سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود اربعة أشهر وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود بن المنصور أحمد الى أن توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو السلطان بماردين لهذا العهد والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده (ولما) ملك هلاكو بن طلو خان بن جنكزخان مدينة بغداد واعمالها أعطاه المظفر قرا ارسلان طاعته وخطب له في أعماله ولم يزالوا يدينون بطاعة بنيه الى أن هلك أبو سعيد بن خربهرا آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم واستبدّ أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر من لدن أبي الغازي جدّهم الأوّل (وأمّا) داود بن سقمان فإنه ملك حصن كيفا من بعد سقمان أبيه وإبراهيم أخيه ولم أقف على خبر وفاته (وملك بعده) ابنه فخر الدين قرا ارسلان بن داود وملك أكثر ديار بكر مع حصن كيفا وتوفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة (وملك بعده) ابنه نور الدين محمد بعهده
__________
[1] وفي بعض النسخ بولق ارسلان.
[2] وفي بعض النسخ البقش.
[3] كذا بالأصل ويقتضي ان تكون وستمائة حسب سير الحوادث.(5/256)
اليه بذلك وكانت بينه وبين صلاح الدين مواصلة ومظاهرة ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين وحاصرها من صاحبها ابن سان سنة تسع وستين وصارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين ثم توفي نور الدين محمد سنة احدى وثمانين وخلف ولدين (فملك الأكبر) منهما قطب الدين سقمان وقام بتدبير دولته العوّام بن سماق الأسعد وزير أبيه وكان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للامارة الا أنه سار في العساكر مددا لصلاح الدين على حصار الموصل فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها وأورثها بنيه فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان وأقره على ملك أبيه بكيفا وأبقى بيده آمد التي كان ملكها لأبيه وشرط عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره وأقام أميرا من أصحاب ابنه قرا ارسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته واستقرّ ملكه بكيفا وآمد وما اليهما الى أن توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة تردّى من جوسق له بحصن كيفا فمات وكان أخوه محمود مرشحا لمكانه الا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له وأشخصه الى حصن منصور من آخر عملهم واصطفي مملوكه اياسا وزوّجه بأخته وجعله ولى عهده (ولما توفي) ملك بعده مملوكه وشخص أهل الدولة فدسوا الى محمود فسار الى آمد وسبقه اياس اليها ليدافعه فلم يطق وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس اياسا الى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في أمرائه واستقلّ محمود بملك كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالما قبيح السيرة وكان ينتحل العلوم الفلسفية وتوفي سنة تسعة عشر وستمائة وولىّ مكانه المسعود وحدثت بينه وبين الأفضل بن العادل فتنة واستنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر ومعه داود صاحب الكرك والمظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد الى أن نزل عنها وجاء الى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيسا الى أن مات الكامل فذهب الى التتر فمات عندهم (وأمّا) عماد الدين بن قرا ارسلان الّذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده الى أن توفي سنة احدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه إياها (وملكها بعده) ابنه نظام الدين أبو بكر وكانت بينه وبين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة ودخل محمود في طاعة العادل بن أيوب وحضر مع ابنه الأشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها الى خرت برت فيملكها له وكان نظام الدين مستنجدا به [1]
__________
[1] كذا بياض بالأصل، والواضح من العبارة التالية انه غياث الدين.(5/257)
الدين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فمات وسار الأشرف مع محمود بعساكره وحاضروا خرت برت في شعبان سنة احدى وستين وملكوا ربضها وبعثوا غياث الدين صاحب الروم الى نظام الدين المدد بالعساكر مع الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا الى ملطية أفرج الأشرف ومحمود عن خرت برت الى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين وفتحت في ذي الحجة سنة احدى وستين فلما وصل الأفضل بعساكر غياث الدين ووصل الأشرف عن البحيرة راجعا جاء نظام الدين بالعساكر الى الحصن فامتنع عليه وبقي لصاحب آمد ثم ملك كيقباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة احدى وثلاثين وانقرض منها ملك بني سقمان والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون
.(5/258)
دولة بني زنكي بن آقسنقر الخبر عن دولة بني زنكي بن آقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة والشام ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا ذكر آقسنقر مولى السلطان ملك شاه وأنه كان يلقب قسيم الدولة وأن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد ابن مروان واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل وهزمته العساكر وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة الى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده الى بلده الموصل واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مرّ في موضعه من دولة بني مروان ثم كان بعد ذلك شان حلب واستبدّ بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم وتتش ابن السلطان البارسلان وقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء الى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة فحاصرها وقد كانوا بعثوا الى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل اليهم سنة تسع وسبعين ورحل تتش عن القلعة ودخل البرية واستولى السلطان على حلب وولىّ عليها قسيم الدولة آقسنقر وعاد الى العراق فعمرها آقسنقر وأحسن السيرة فيها وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها وهو معه كما مرّ وزحف قبل ذلك سنة ثمانين الى بني منقذ بشيرز فحاصره وضيق عليه ثم رجع عنه عن صلح وأقام بحلب ولم يزل واليا عليها الى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين واختلف ولده من بعده وكان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة احدى وسبعين فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة آقسنقر وحمل باغيسيان صاحب انطاكية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم ملك شاه وساروا مع تتش الى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها ثم الى نصيبين ففتحها عنوة ثم الى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران وتولى كبر هزيمته آقسنقر وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من يده وولىّ تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش وسار الى ديار بكر فملكها ثم الى أذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد(5/260)
استولى على الريّ وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته وجنح قسيم الدولة آقسنقر وبوزان صاحب الرها الى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائدا الى الشام ساخطا على آقسنقر وبوزان ما فعلوه فجمع العساكر وسار الى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة وأمدّه بركيارق بالأمير كربوقا في العساكر فبرزوا الى لقائهم والتقوا على ست فراسخ من حلب ونزع بعض عساكر آقسنقر الى تتش فاختل مصافه وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيرا الى تتش فقتله صبرا ولحق كربوقا وبوزان بحلب وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مرّ في أخبار الدولة وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل وكانت بلاده آمنة ولما مات نشأ ولده في ظلّ الدولة السلجوقية وكان أكبرهم زنكي فنشأ مرموقا بعين التحلة ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد كان زنكي في جملته لانه كان صاحب أبيه وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان وأنجده سقمان بن ارتق وكان زنكي بن آقسنقر يومئذ صبيا وهو في جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب وانهزم سقمان وظهر كربوقا وفي هذه الحرب أسر ابن ياقوتي بن ارتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سببا لملك بني ارتق فيها كما مرّ في أخبار دولتهم ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا وبعده جاولى سكاوو وبعده مودود بن ايتكين وبعده آقسنقر البرسقي كما تقدّم في أخبار السلجوقية وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين وبعث معه ابنه مسعودا وكتب الى سائر الأمراء هناك بطاعته ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن آقسنقر فاختص به ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة احدى عشرة كان أخوه مسعود بالموصل كما تقدّم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل الى شحنة بغداد وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل وأغراهما بالمسير الى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس وزنكي بن قسيم الدولة آقسنقر وجماعة من أمراء الجزيرة ووصلوا الى بغداد وصالحهم البرسقي وسار معهم ودخل مسعود الى بغداد وجاء منكبرس الى بغداد ونزع اليه دبيس بن صدقة ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدّم في أخبار الدولة وأقام منكبرس ببغداد ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخيه مسعود مقامات جليلة وغلب السلطان أخاه مسعودا وأخذه عنده واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل وأعاد اليها البرسقي سنة خمسة عشر(5/261)
فعاد زنكي الى الاختصاص به كما مرّ ثم أضاف اليه السلطان محمود شحنة بغداد وولاية واسط مضافة الى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولّى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد وبرز المسترشد لقتاله من بغداد وحضر البرسقي من الموصل وعماد الدين زنكي فانهزم دبيس [1] عماد الدين في ذلك المقام ثم ذهب دبيس الى البصرة وجمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها وبعث المسترشد الى البرسقي فعذله في إهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر الى قصره وهرب دبيس واستولى [2] على البصرة وولىّ عليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها وكبس العرب في حللهم بضواحيها وأجفلوا ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد وعاد الى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك وقال كلّ يوم للموصل جديد يستنجدنا وسار الى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصبهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة وكان ابنه عز الدين مسعود بحلب فبادر الى الموصل وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود وبعث الخليفة عفيفا الخادم الى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار اليه عماد الدين زنكي من البصرة وقاتله فهزمه ونمي عفيف الى المسترشد [3] وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح وأصعد في البرّ وقدم على السلطان وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم ووهن المسترشد لما رأى فأجابه الى الصلح.
__________
[1] كذا بياض بالأصل: ويتضح من وقائع هذه المعركة كما ذكرها ابن الأثير في الكامل ج 10 ص 609 ان تصويب العبارة ينبغي ان يكون: فانهزم دبيس وابلى عماد الدين في ذلك المقام.
[2] اي واستولى المسترشد على البصرة كما يتضح من العبارة التي بعدها.
[3] كذا بالأصل، ويظهر ان هنا عبارة سقطت أثناء النسخ أو الطبع، وفي الكامل ج 10 ص 636: وأقام الخليفة بالجانب الغربي فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس وصلى بهم، فبكى الناس لخطبته وأرسل عفيفا الخادم وهو من خواصه في عسكر الى واسط ليمنع عنها نواب السلطان فأرسل السلطان اليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وكان له حينئذ البصرة وقد فارق البرسقي واتصل بالسلطان فاقطعه البصرة. فلما وصل عفيف الى واسط سار اليه عماد الدين فنزل بالجانب الشرقي، وكان عفيف بالجانب الغربي فأرسل اليه عماد الدين يحذره القتال ويأمره بالانتزاح عنها فأبى ولم يفعل. فعبر اليه عماد الدين واقتتلوا فانهزم عسكر عفيف وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر مثلهم وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.(5/262)
ولاية زنكي شحنة بغداد والعراق
ولما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مرّ ولاه شحنة بغداد والعراق لما رأى انه يستقيم اليه في أمور الخليفة بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة احدى وعشرين وسار عن بغداد بعد أن ولاه على كرسي ملكه بأصبهان والله تعالى أعلم.
ولاية عماد الدين زنكي على الموصل واعمالها
قد قدّمنا أن عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل وكان نائبة بحلب فبادر الى الموصل وضبط أمورها وخاطب السلطان محمودا فولاه مكان أبيه وكان شجاعا قرما فطمع في ملك الشام فسار وبدأ بالرحبة فحاصرها حتى استأمن اليه أهل القلعة وطرقه مرض فمات وتفرّقت عساكره ونهب بعضهم بعضا حتى شغلوا عن دفنه وكان جاولى مولى أبيه مقدّم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر وكاتب السلطان في تقرير ولايته وأرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني والقاضي أبا الحسن علي بن القاسم الشهرزوريّ فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه وكان شيعة لعماد الدين زنكي فخوّف الحاجب وحذره مغبة حاله معه وأشار عليه وعلى القاضي بطلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنده الولايات والاقطاع وركب القاضي مع الحاجب الى الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد وذكر له حال الجزيرة والشام واستيلاء الافرنج على أكثرها من ماردين الى العريش وأنها تحتاج الى من يكف طغيانهم وابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم وحماية البلاد منهم ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما الى السلطان فشكرهما واستدعاهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة وأدرجا فيهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه مالا جزيلا لخزانة السلطان فأجابهما اليه لما يعلم من كيفياته وولاه البلاد كلها وكتب منشورة بها وشافهه بالولاية وسار الى ولايته فبدأ بالفوارع وملكها ثم سار الى الموصل وخرج جاولى والعساكر للقائه ودخل الموصل في رمضان سنة احدى وعشرين وبعث جاولى واليا على الرحبة وولى على القلعة نصير الدين جقري وولىّ على حجابته صلاح الدين الباغيسياني وعلى القضاء ببلاده جميعا بهاء الدين الشهرزوريّ وزاد في اقطاعه وكان لا يصدر الا عن رأيه ثم خرج الى جزيرة ابن عمر وبه موالي البرسقي(5/263)
فامتنعوا عليه وحاصرهم وكان بينه وبين البلد دجلة فعبرها وبين دجلة والبلد فسيح من الأرض فعبر دجلة وقاتلهم في ذلك الفسيح وهزمهم فتحصنوا بالاسوار ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه وسار لنصيبين وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك الى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين يوما الى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك واستأمنوا لعماد الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أوّلا ثم استأمنوا وملكها وبعث منها الى الخابور فملك جميعه ثم سار الى حران وكانت الرها وسروج البيرة في جوارها للافرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران الى طاعته وأرسل الى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقرّ بينهما لصلح والله تعالى أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حلب
كان البرسقي قد ملك حلب وقلعتها سنة ثمانية عشر واستخلف عليها ابنه مسعودا ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود الى الموصل واستخلف على حلب الأمير قزمان ثم عزله وبعث بولايتها الى الأمير قطلغ آية فمنعه قزمان وقال بيني وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع الى مسعود فوجده قد [1] الرحبة فعاد الى حلب مسرعا ومال اليه أهل البلد ورئيسها مضايل بن ربيع وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قزمان من القلعة وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف احدى وعشرين ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه واشتمل عليه الأشرار فاستوحش الناس منه وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه وولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق الّذي كان ملكها من قبل وحاصروا قطلغ بالقلعة ووصل حسان صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح الأمر فلم يتمّ وزحف جوسكين صاحب الرها من الافرنج الى حلب فصانعوه بالمال ورجع فزحف صاحب انطاكية وحاصر البلد وهم يحاصرون القلعة الى منتصف ذي القعدة من آخر السنة وانتهى عماد الدين زنكي الى صاحب حران كما ذكرناه فبعث الى أهل حلب أميرين من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة والشام فبادروا الى الطاعة وسار اليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ آية وأقام أحد الأميرين بحلب ولما وصلا الى عماد الدين أصلح بينهما
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 649: فعاد قتلغ أبه الى مسعود وهو يحاصر الرّحبة فوجده قد مات فعاد الى حلب مسرعا.(5/264)
وأقاما عنده وبعث الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني في عسكر اليهما فملك القلعة ورتب الأمور وولى ثم وصل عماد الدين بعده في محرّم سنة اثنتين وعشرين وملك في طريقه منبج من يد حسان ومراغة من يد حسن وتلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للامراء والأجناد ثم قبض على قطلغ آية وأسلمه الى ابن بديع فكحله ومات واستوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعفر مستنجدا بصاحبها وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب علي بن عبد الرزاق وعاد الى الموصل والله أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حماة
ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الافرنج وعبر الفرات الى الشام واستنجد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه وبعث عسكره من دمشق الى ابنه سونج وأمره بالمسير الى زنكي فلما وصلوا اليه أكرمهم ثم غدر بهم بعد أيام وقبض على سونج والأمراء الذين معه فاعتقلهم بحلب ونهب خيامهم وبادر الى حماة وهي خلو من الحامية فملكها وسار عنها الى حمص وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره وهو الّذي أشار بحبس سونج وأصحابه فقبض عليه يظنّ أهل حمص يسلمون بلادهم اليه فامتنعوا وبعث اليهم قيرجان بذلك فلحق اليها فحاصرها مدّة وامتنعت عليه فعاد الى الموصل ومعه سونج بن بوري والله أعلم.
فتح عماد الدين حصن الاثارب وهزيمة الافرنج [1]
ولما عاد عماد الدين الى الموصل أراح عساكره أياما ثم تجهز سنة أربع وعشرين الى الغزو وعاد الى الشام فقصد حلب واعتزم على قصد حصن الاثارب وهو على ثلاثة فراسخ من حلب وكان الافرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار اليه وحاصره وجاء الافرنج من انطاكية لدفاعه فاستغرغوا فتبعهم وترك الحصن وسار اليهم واستماتت المسلمون فانهزم الافرنج وأسر كثير من زعمائهم وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة ثم عاد الى حصن الاثارب فملكه عنوة وخرّبه وتقسم جميع من فيه بين القتل والأسر وسار الى
__________
[1] قال ابو الفداء ومن الأماكن المشهورة بالشام: الاثارب بالهمزة المفتوحة والثاء المثلثة وألف وراء مهمل ة وباء موحدة.(5/265)
قلعة حارم [1] قرب انطاكية وهي للافرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها ومليء الافرنج رعبا منه ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع.
واقعة عماد الدين مع بني ارتق
ولما فرغ عماد الدين من غزو الافرنج وفتح الاثارب وقلعة حارم عاد الى الجزيرة وحاصر مدينة سرخس وهي لصاحب ماردين بينها وبين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد وهما لابي الغازي صاحب ماردين ابن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي وصاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان وتمرتاش بن ارتق وجمعوا من التركمان نحوا من عشرين ألفا وساروا لمدافعة زنكي فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة الى جزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع الى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه وملك من قلاعه همرد ورجع الى الموصل الى آخره.
حصول دبيس بن صدقة في أسر الاتابك زنكي
قد تقدّم لنا أنّ دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار الى سرخد من قلاع الشام سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوّج بها وأنه مرّ في الغوطة يجيّ من أحياء كلب فأسروه وحملوه الى تاج الملوك صاحب دمشق وبلغ الخبر الى الاتابك زنكي وكان عدوّا له فبعث فيه الى تاج الملوك بوري وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده فأطلقهم وبعث بوري اليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن اليه وأزاح علله وبعث المسترشد فيه الى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه الى زنكي فذمّ الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا اليه وهم سديد الدولة بن الانباري وأبو بكر بن نشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه الى العراق.
__________
[1] حارم: من اعمال حلب، وهي بلدة صغيرة ذات قلعة وأشجار وأعين ونهر صغير. قال ابن سعيد: هو حصن كثير الأرزاق. وقد خص بالرمان الّذي يظهر باطنه مع عدم العجم وكثرة المياه (أبي الفداء) .(5/266)
مسير الاتابك زنكي الى العراق لمظاهرة السلطان مسعود وانهزامه
ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين واختلف ولده داود وأخوه مسعود وسار داود الى مسعود وحاصره بتبريز في محرّم سنة ست وعشرين ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار الى همذان وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الاتابك عماد الدين زنكي يستنجده وسار الى بغداد فحاصرها وكان قد سبق اليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير وأنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم وأنه وصل الى المعشوب فرجع قراجا الشامي الى محاربته وسار سلجوق شاه بالعساكر الى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه وأسر كثيرا من أصحابه وسار زنكي منهزما الى [1] والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح فتأخر ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود وولاية العهد لسلجوق شاه وذلك منتصف سنة ست وعشرين.
مسير الاتابك عماد الدين الى بغداد بابنه وانهزامه
قد قدّمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه ثم استقرّ مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق على أن يكون وليّ عهده ثم أنّ السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيما فبلغ همذان وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد الى [2] فجاءته الاخبار بوصول الاتابك زنكي ودبيس بن صدقة الى بغداد فذكر دبيس أنّ السلطان سنجر
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 675: وسار زنكي منهزما الى تكريت فعبر فيها دجلة وكان الدوادار بها حينئذ نجم الدين أيوب.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود اليها وعبر الى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل والتقيا بحصن البرامكة سابع عشر رجب.(5/267)
أقطعه الحلة وبعث يسترضي فلم يشفعه وذكر الاتابك زنكي ان السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد واستمرّ السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مرّ فعاد المسترشد الى بغداد ونزل العباسيّة من الجانب الغربي ولقي الاتابك زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الاتابك بالموصل.
واقعة الافرنج على أهل حلب
وفي غيبة الاتابك زنكي سار ملك الافرنج من القدس الى حلب فخرج نائبها عن الاتابك زنكي وهو الأمير أسوار وجمع التركمان مع عساكره وقاتل الافرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا الى حلب وسار ملك الافرنج في أعمال حلب ظافرا ثم سار بعض الافرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج اليهم الأمير أسوار ومعه حسان التغلبي الّذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين.
حصار المسترشد الموصل
ولما وقع ما قدّمناه من وصول زنكي الى بغداد وانهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية واعتزلهم جماعة من أمرائهم فرارا من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الاتابك زنكي فقدّم اليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسقر ابن الواعظ وحمله عتابا أغلظ فيه وزاده الواعظ غلظة حفظا على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الاتابك لما شافهه به وأهانه وحبسه وأرسل المسترشد الى السلطان مسعود [1] على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين الى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها الاتابك زنكي الى سنجار وترك نائبة بها نصر الدين جقري وجاء المسترشد فحاصرها والاتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات وضاقت عليهم الأحوال وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها وسعي بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرج عنها وعاد الى بغداد وقيل انّ مطر الخادم جاءه من بغداد وأخبره أنّ السلطان مسعودا عازم على قصد العراق فعاد مسرعا.
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 5: فأرسل المسترشد باللَّه الى السلطان مسعود يعرفه الحال الّذي جرى من زنكي ويعرفه انه على قصد الموصل وحصرها.(5/268)
ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة
قد كنا قدّمنا أنّ الاتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين وتوفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين وولىّ بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل وملك بانياس من الافرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أنّ المسترشد باللَّه حاصر الموصل فسار هو الى حماة وحاصرها وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم ثم حصر الوالي ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضا واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار منها الى قلعة شيرز فحاصرها ابن منقذ فحمل اليه مالا صانعه به وعاد الى دمشق في ذي الحجة من السنة.
حصار الاتابك زنكي قلعة آمد واستيلاؤه على قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية
وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الاتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار اليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها وسار زنكي الى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثيّ فاستوزره الاتابك وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محببا في الجند وتوفي سنة ست وثلاثين بعدها ثم استولى الاتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية مثل قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام وجمع له الأكراد فلما عاد المسترشد الى بغداد من قتال الاتابك زنكي فحاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالا شديدا حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرّهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى أعلم.(5/269)
استيلاء الاتابك على قلاع الهكارية وقلعة كواشي
حدّث ابن الأثير عن الجنيبي أنّ الاتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء من عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشي فاستأمن الاتابك واستحلفه وحمل له مالا ثم وفد عليه بالموصل بعد أن اخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشي وولى على أشب رجلا من الكرد واسمه باد الأرمني وابنه أحمد هذا هو أبو علي بن احمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى وسار أحمد الى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلىّ الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الاتابك زنكي في عساكره ونزل على أشب وبرز أهلها لقتاله واستجرّهم حتى أبعدوا ثم كرّ عليهم فأفناهم قتلا وأسرا وملك القلعة في الحال وسيق اليه باد في جماعة من مقدّمي الأكراد وقتلهم وعاد الى الموصل ثم سار غازيا في بعض مذاهبه فبعث نائبة نصر الدين جقري عسكرا وخلى كنجاورسى وقلعة العماديّة وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشي والزعفرانيّ والغيّ وسرف وسفروه وهي حصون الهكارية فحصرها وملكها جميعا واستقام أمر الجبل والزوزن وأمنت الرعية من الأكراد وأمّا باقي قلاع الهكارية وهي حل وصورا وهزور والملايسي ويامرما ومانرحا وباكرا ونسر فإنّ قراجا صاحب العماديّة فتحها بعد قتل زنكي بمدّة طويلة كان أميرا على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال ابن الأثير ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هنا قال وحدّثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد أنّ أبا بكر زنكي لما فتح قلعة اسب وحرساني وقلعة العماديّة ولم يبق في الهكارية الا صاحب جبل صورا وصاحب هزور لم يكن لهما شوكة يخشى منهما ثم عاد الى الموصل وخافه أهل القلاع الجليلة ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي وفرح وملكها بعده ابنه علي وكانت أمّه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي الى أخويها المذكورين وهما خالاه ليستأمنا له من الاتابك فاستحلفاه وقدم عليه فأقرّه على قلاعه واستقلّ بفتح قلاع الهكارية وكان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخرّبه لكبره وقلة أعماله وكان نصر الدين جقري يكره عليا صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند الاتابك في حبسه فأمره بحبسه ثم ندم وكتب اليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين بقتله ثم بعث العساكر الى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد علي واخوته ونجت أمّه خديجة لمغيبها(5/270)
وجاء البشير الى الاتابك بفتح الريبة فسره ذلك وبعث العساكر الى ما بقي من قلاع علي فأبي الا أن يزيدوه قلعة كواشي فمضت خديجة أمّ علي الى صاحب كواشي من المهرانية واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشي لإطلاق اسراهم ففعل ذلك وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى واستقامت له جبال الأكراد والله تعالى أعلم.
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق
كان شمس الملوك إسماعيل بن بوري قد انحلّ أمره وضعفت دولته واستطال عليه الافرنج وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الاتابك زنكي سرّا ليملكه دمشق ويريح نفسه وشعر بذلك أهل دولته فشكوا الى أمّه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته وجاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات وولي مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر الى الاتابك فلم يحفل به وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتدّ أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري الى الاتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره الى الموصل وخلعه
كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الأمراء وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب أصبهان وصاحب الأهواز وصاحب الجبلة وصاحب الموصل الاتابك زنكي وخرجت اليهم العساكر من بغداد وولى داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الاتابك ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود والاتابك زنكي وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد الى الاتابك بمائتي ألف دينار ووصل سلجوق شاه الى واسط وقبض على الأمير بك آبه ونهب ماله فانحدر الاتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا وعاد زنكي الى بغداد ومرّ على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعودا سار الى بغداد(5/271)
فعاد اليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفا وخمسين يوما وارتحل الى النهروان ثم قدم عليه طرنطاي صاحب واسط بالسفن فرجع الى بغداد وعبر الى الجانب الغربي ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود الى ولايته بأذربيجان وافترق الأمراء الذين معه ولحق الراشد بالاتابك زنكي في نفر من أصحابه وهو بالجانب الغربي وسار معه الى الموصل ودخل السلطان مسعود الى بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين واستقرّ بها وسكن الناس وجمع القضاة والفقهاء وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم الى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد ونصب للخلافة [1] ابن المستظهر وجاء رسول الاتابك زنكي الى بغداد وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ وبايع [2] بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف الى الاتابك باقطاع من خاص الخليفة ولم يكن ذلك لأحد قبله وعاد كمال الدين الى الاتابك وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل وانصرف الراشد عن الموصل الى أذربيجان كما مرّ في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولىّ التوفيق.
غزاة العساكر حلب الى الافرنج
ثم اجتمعت عساكر حلب [3] مع الأمير أسوار نائب الاتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين الى بلاد الافرنج وقصدوا اللاذقية على غرّة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلأت أيديهم من الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيرز وملئوا الشام بالاتراك والظهر ووهن الافرنج لذلك والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
__________
[1] كذا بياض بالأصل وهو الأمير أبو عبد الله بن المستظهر (قبل الخلافة) ولقب بعد الخلافة المقتفي لأمر الله (الكامل ج 11 ص 42- 45) .
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 43: وبلغني ان السلطان مسعود أرسل الى الخليفة المقتفي لأمر الله في تقرير اقطاع يكون لخاصته فكان صوابه: ان في الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة فلينظر السلطان ما يحتاج اليه من يشرب هذا الماء ويقوم به فتقرّرت القاعدة على ان يجعل له ما كان للمستظهر باللَّه، فأجابه الى ذلك. وقال السلطان لما بلغه قوله لقد جعلنا في الخلافة رجلا عظيما.
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: في هذه السنة في شعبان اجتمعت عساكر أتابك زنكي صاحب حلب وحماة مع الأمير أسوار نائبة بحلب وقصدوا بلاد الفرنج على حين غفلة.(5/272)
حصار الاتابك زنكي مدينة حمص واستيلاؤه على بعدوين وهزيمة الافرنج واستيلاؤه على حمص
ثم سار الاتابك في العساكر في شعبان سنة احدى وثلاثين الى مدينة حمص وبها يومئذ معين الدين ابن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم اليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأنّ ذلك ليس من الاصابة فحاصرها والرسل تردّد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها الى بغدوين من حصون الافرنج في شوّال من السنة فجمع الافرنج وأوعبوا وزحفوا اليه واشتدّ القتال بينهم ثم هزم الله العدوّ ونجا المسلمين منهم ودخل ملوكهم الى حصن بغدوين فامتنعوا به وشدّ الاتابك حصاره وذهب القسوس والرهبان الى بلاد النصرانية من الروم والافرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوّفونهم استيلاء الاتابك على قلعة بغدوين وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس وجدّ الاتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع عنهم الاخبار ثم استأمنوا على أن يحملوا اليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة ثم سمعوا بمسير الروم والافرنج لانجادهم وكان الاتابك خلال الحصار قد فتح المعرّة وكفرطاب [1] في الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الافرنج ثم سار الاتابك زنكي في محرّم سنة اثنين وثلاثين الى بعلبكّ وملك حصن الممدل من أعمال صاحب دمشق وبعث اليه نائب باساس بالطاعة كذلك ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره فسار الى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمّه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها وحملت الخاتون إليه في رمضان وظنّ أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
مسير الروم الى الشام وملكهم مراغة [2]
ولما استنجد الافرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مرّ جمع ملك الروم بالقسطنطينية وركب البحر سنة احدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار الى مدينة قيقية فحاصرها وصالحوه
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على التصويب.
[2] وفي الكامل: بزاعة ج 11 ص 56.(5/273)
بالمال وسار عنها الى ادنة والمصيصة وهما لابن ليون الارمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما وسار الى عين زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله الى جزيرة قبرص ثم ملك مدينة انطاكية في ذي القعدة من السنة وبها رغيد من ملوك الافرنج فصالحه ورجع الى بفراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته ثم خرج الى الشام أوّل سنة اثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب وبعثوا بالصريخ الى الاتابك زنكي فبعث بالعساكر الى حلب لحمايتها وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة ثم غدر بهم واستباحهم ورحل الى حلب فنزل بدابق ومعه الافرنج [1] ورجعوا من الغد الى حلب وحاصروها ثلاثا فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم ورحل عنها الى قلعة الاتاود في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم بها الأسرى والسبي وأنزلوا بها حامية وبعث اليهم أسوار نائب حلب عسكرا فقتلوا الحامية وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الاتابك من حصن الاثارب بعد فتحه الى سلمية وقطع الفرات الى الرقة واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها واستصرخ صاحبها بالاتابك زنكي فسار اليه ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم وبعث الى الروم يدعوهم الى المناجزة والنزول الى البسيط فخافوا عن ذلك فرجع الى التضريب بين الروم والإفرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوما وأتبعه الاتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم ثم أرسل القاضي كما الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ الى السلطان مسعود يستنجده على العدوّ ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من الفرات الى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جماع القصر من ينادي بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء وتسايلت العوام من كلّ جانب وجاءوا الى دار السلطان في تلك الحالة وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكرا عظيما وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك و [2] من مسير
__________
[1] كذا بالأصل: عبارة مرتبكة وفي الكامل ج 11 ص 56: ثم رحلوا الى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم فخرج اليهم احداث حلب فقاتلوهم قتالا شديدا.
[2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وإذا قد وصلني كتاب أتابك زنكي في الشام بخبر رحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا استصحب من العسكر أحدا. فعرّفت السلطان ذلك فقال العسكر قد تجهّز ولا بدّ من الغزاة الى الشام، فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه حتى أعاد العسكر. ج 11 ص 58.(5/274)
العساكر والله تعالى أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على بعلبكّ
ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوّال كما مرّ في أخبار دولتهم وكانت أمّه زمرد خان متزوّجة بالاتابك كما مرّ فبعثت اليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب منه أن يسير الى دمشق ويثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك واستعدّ أهل دمشق للحصار ثم قصد الاتابك مدينة بعلبكّ ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق وتزوّج أمّه وبعث بجاريته الى بعلبكّ فلما سار الاتابك الى دمشق قدم رسله الى انز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبي من ذلك وسار الاتابك الى بعلبكّ فنازلها آخر ذي الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق وشد حصارها حتى استأمنوا فملكها واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا الى الاتابك فلما ملكها قبض عليهم وصلهم وتزوّج جارية انز ونقلها الى حلب الى أن بعثها ابنه نور الدين محمود الى صاحبها بعد موت الاتابك والله تعالى أعلم.
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق
ثم سار الاتابك زنكي الى حصار دمشق في ربيع الأوّل من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبكّ فنزل بالبقاع وأرسل الى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها اليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب الى ذلك فزحف اليه ونزل داريا والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الاتابك ثم تقدم الى المصلي فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم ثم أمسك عن القتال عشرا يراود فيها صاحب دمشق وبذل له بعلبكّ وحمص وما يختاره من البلاد فجنح الى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين انز مكانه ابنه محيي الدين أمو وقام بأمره وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه وبعث معز الدين انز الى الافرنج يستدعيهم الى النصر على الاتابك ويبذل لهم ويخوّفهم غائلته ويشترط لهم اعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الافرنج لذلك وأجفل زنكي الى حوران خامس رمضان من السنة معتزما على لقائهم فلم يصلوا فعاد الى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل الى بلاده ثم وصل الافرنج وارتحل معين الدين انز في عساكر دمشق الى بانياس وهي للاتابك زنكي ليوفي(5/275)
للافرنج بشرطه لهم فيها وقد كان نائبها سار للاغارة على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب انطاكية ذاهبا الى دمشق منجدا فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق فلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم معين الدين انز والافرنج وملكها عنوة وسلمها للافرنج وأحفظه ذلك وفرّق العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصابح دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا اليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة ثم احجم عنهم لقلة من معه وارتحل الى مرج راهط في انتظار عساكره فلما توافوا عنده عاد الى بلاده.
استيلاء الاتابك على شهرزور وأعمالها
كان شهرزور بيد قفجاق بن ارسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه التركمان وسار اليه الاتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الاتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها واستأمن اليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده الى آخر المائة ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الاتابك زنكي وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب وانهزم داود وملك الاتابك من بلاده قلعة همرد وأدركه [1] فعاد الى الموصل ثم سار الاتابك الى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها الى الموصل ورتب أصحابه مكانهم ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه ثم بعث الاتابك لسنة سبع وثلاثين عسكرا الى قلعة أشهب وهي أعظم من حصون الأكراد الهكارية وأمنعها وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره الاتابك بتخريبها وبنى قلعة العماديّة عوضا عنها وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم.
صلح الاتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر
كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الاتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الاطراف وينسب ذلك اليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه فلما فرغ
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على اسم المكان الّذي أدركه به.(5/276)
السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة سار الى بغداد عازما على قصد الاتابك وحصار الموصل فأرسل الاتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع اليه مائة ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفا ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج الى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث ان ابنه غازي كان عند السلطان فهرب الى الموصل فبعث الى نائبها نصير الدين جقري يمنعه من دخولها وبعث الى ابنه بالرجوع الى خدمة السلطان وكتب الى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغيير السلطان عليه وقد أعدته الى الخدمة ولم ألفه وأنا مملوك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع ثم سار الاتابك الى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه وملك أيضا من بلاد ماردين [1] الافرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحصرها وسير عسكرا الى مدينة غانة من أعمال الفرات فملكها وللَّه تعالى أعلم.
فتح الرها وغيرها من أعمال الافرنج
كان الافرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد ونصيبين ورأس عين والرقة وكان زعيمهم ومقدّمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الاتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه و [2] جوسكين وعبر الفرات من الرها الى غزنة وجاء الخبر بذلك الى الاتابك فارتحل منتصف جمادى الاخيرة سنة تسع وثلاثين وحرّض المسلمين وحثهم على عدوّهم ووصل الى الرها وجوسكين غائب عنها فانحجز الإفرنج بالبلد وحاصرهم شهرا وشدّ في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك قبل اجتماع الافرنج ومسيرهم اليه ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك البلد عنوة ثم حاصر القلعة وملكها كذلك ثم ردّ على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية وسار الى سروج وجميع البلاد التي بيد الافرنج شرقيا فملكها جميعا الا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] هنا بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على التصويب.
[2] كذا بياض بالأصل، في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب العبارة ومقتضى السياق.
فوري بغزو ديار بكر كما قلناه، وخدع جوسكين وعبر الفرات.(5/277)
مقتل نصير الدين جقري نائب الموصل وولاية زين الدين على كجك مكانه بالقلعة
كان استقرّ عند الاتابك زنكي بالموصل الملك البارسلان ابن السلطان محمد ويلقب الخمفاجي وكان شبيها به وتوهم [1] السلطان ان البلاد له وأنه نائبة وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه وكان يتردّد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الاتابك وزين له قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل فلما دخل اليه أغرى به أجناد الاتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ثم ألقوا برأسه الى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوصبوا واقتحموا عليه الدار ودخل عليه القاضي تاج الدين يحي ابن الشهرزوريّ فأوهمه بطاعته وأشار عليه بالصعود الى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه وتقدّم الى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة وعاد القاضي الى البلد وطار الخبر الى الاتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد وعاد الى الموصل وقدم زين الدين على ابن كجك وولاه القلعة مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر وخاف الافرنج الذين بالبيرة من عودته اليهم فبعثوا الى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون.
حصار زنكي حصن جعبر وفنك
ثم سار الاتابك زنكي سنة احدى وأربعين في المحرّم الى حصن جعبر ويسمى دوس وهو مطل على الفرات وكان لسالم بن مالك العقيلي أقطعه السلطان ملك شاه لأبيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشا الى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروها وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنبجي ورغبه ورهبه وقال في كلامه من يمنعك منه فقال الّذي منعك أنت من مالك بن بهرام وقد حاصر حسان منبج فأصابه في بعض الأيام سهم فقتله وأفرج عن حسان وقدر قتل الاتابك كذلك والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل، ومقتضى السياق: وتوهم ان يخدع السلطان ان البلاد له.(5/278)
مقتل الاتابك عماد الدين زنكي
كان الاتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام محاصرا لقلعة جعبر كما ذكرنا واجتمع جماعة من مواليه اغتالوه ليلا وقتلوه على فراشه ولحقوا بجعبر وأخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله فدخل أصحابه اليه وألفوه بجود بنفسه وكان قتل لخمس من ربيع الآخر سنة احدى وأربعين عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين ولما قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيبا عند جنده عمر البلاد وأمنها وأنصف المظلوم من الظالم وكان شجاعا شديد الغيرة كثير الجهاد ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك وصاحبها غفار قال ابن الأثير سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلاثمائة سنة وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من يلجأ اليهم والله أعلم.
استيلاء ابنه غازي على الموصل وابنه الآخر محمود على حلب
ولما قتل الاتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده وسار به الى حلب فاستولى عليها وخرج الملك البارسلان ابن السلطان محمود واجتمعت عليه العساكر وطمع في الاستقلال بملك الموصل وحضر ابنه جمال الدين محمد بن علي ابن متولي الديوان وصلاح الدين محمد بن الباغيسياني الحاجب وقد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لأصحابهما وحسنا لألب أرسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته وأدخلاه الرقة فانغمس بها وهما يأخذان العهود على الأمراء لسيف الدين غازي ويبعثانهم الى الموصل وكان سيف الدين غازي في مدينة شهرزور وهي أقطاعه وبعث اليه زين الدين على كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده وسار البارسلان الى سنجار والحاجب وصاحبه معه ودسوا الى نائبها بأن يعتذر للملك البارسلان بتأخره حتى يملك الموصل فساروا الى الموصل ومرّوا بمدينة [1] وقد وقف العسكر فأشاروا على البارسلان بعبور دجلة الى الشرق وبعثوا الى سيف الدين غازي بخبره وقلة عسكره فأرسل اليه عسكرا فقبضوه وجاءوا به فحسب بقلعة الموصل واستولى سيف الدين غازي على الموصل والجزيرة وأخوه نور الدين محمود على حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
__________
[1] بياض بالأصل في هذه النسخة وفي نسخة ثانية: مدينة سنجار.(5/279)
عصيان الرها
ولما قتل الاتابك زنكي ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيما في ولايته بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وعامّتهم من الأرمن وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وواعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره وملك البلد وامتنعت القلعة وبلغ الخبر الى نور الدين محمود وهو بحلب فأغذ السير اليها وأجفل جوسكين الى بلده ونهب نور الدين المدينة وسبى أهلها وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازي العساكر اليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا وذلك سنة احدى وأربعين ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الاتابك حصن بعلبكّ وبه نجم الدين أيوب بن شادي نائب الاتابك فأبطأ عليه انجاد بنيه فصالح صاحب دمشق وسلم له بعلبكّ على اقطاع ومال أعطاه إياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين وأربعين من حلب الى الافرنج ففتح مدينة ارتاج عنوة وحاصر حصونا أخرى وكان الافرنج بعد قتل الاتابك يظنون أنهم يستردّون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ولما قتل الاتابك زنكي طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردّوا ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر فملك دارا وغيرها وتقدم الى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الاتابك مع عداوته ثم أرسل الى سيف الدين غازي وصالحه وزوّجه بنته فعاد الى الموصل وزفت اليه وهو مريض فهلك قبل زفافها وتزوّجها أخوه قطب الدين من بعده والله أعلم.
مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق وهزيمة نور الدين محمود للافرنج
كان تقدّم لنا في دولة بني طغركين موالي دقاق بن تتش أنّ ملك اللمان من الافرنج سار سنة ثلاث وأربعين وحاصر دمشق بجموع الافرنج وبها محيي الدين ارتق بن بوري بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنز مولى [1] فبعث معين الدين الى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه الى نصرة المسلمين فجمع عساكره وسار الى الشام
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 38: مملوك جده طغركين، وهو الّذي اقام مجير الدين.(5/280)
واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على حمص فأخذوا بحجزة الافرنج عن الحصار وقوي المسلمون بدمشق عليهم وبعث معين الدين الى طائفتي الافرنج من سكان الشام واللمان الواردين فلم يزل يضرب بينهم وجعل لافرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين ففتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع الى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال وحسن أمر سيف الدين غازي وأخيه في الدفاع عن المسلمين وكان مع ملك اللمان حين خرج الى الشام ابن ادفونش ملك الجلالقة بالأندلس وكان جدّه هو الّذي ملك طرابلس الشام من المسلمين حين خروج الافرنج الى الشأم فلما جاء الآن مع ملك اللمان ملك حصن العريمة وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص الى نور الدين محمود ومعين الدين أنز وهما مجتمعان ببعلبكّ بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وبعث الى سيف الدين وهو بحمص فأمدّهما بعسكر مع الأمير عز الدين أبي بكر الديسي صاحب جزيرة ابن عمر وحاصروا حصن العريمة أياما ثم نقضوا سوره وملكوه على الافرنج وأسروا من كان به من الافرنج ومعهم ابن ادفونش وعاد الى سيف الدين عسكره ثم بلغ نور الدين ان الافرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام للاغارة على أعمال حلب فسار اليهم وقتلهم وهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا وبعث من غنائمهم وأسراهم الى أخيه سيف الدين غازي والى المقتفي الخليفة انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة سيف الدين غازي وملك أخيه قطب الدين مودود
ثم توفي سيف الدين غازي بن الاتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع وأربعين وخمسمائة لثلاث سنين وشهرين من ولايته وخلف ولدا صغيرا ربي عند عمه نور الدين محمود وهلك صغيرا فانقرض عقبه وكان كريما شجاعا متسع المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة وهو أوّل من حمل الصنجق [1] على رأسه وأمر بتعليق السيوف بالمناطق وترك التوشح بها وحمل الدبوس في حلقة السرج وبني المدارس للفقهاء والربط للفقراء ولما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه
__________
[1] كلمة تركية تعني العلم.(5/281)
الام يراك المجد في زي شاعر ... وقد نحلت شوقا إليك المنابر
فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها ولما توفي سيف الدين غازي انتقض الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين علي وجاءوا بقطب الدين مودود وبادروا الى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له وركب الى دار السلطنة وزين الدين في ركابه فبايعوا له وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل والجزيرة وتزوّج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء السلطان محمود على سنجار
ولما ملك قطب الدين مودود الموصل وكان أخوه نور الدين محمود بالشام وكان أكبر منه وله حلب وحماة كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدّم عبد الملك فبادر اليه في سبعين فارشا من أمرائه وسبق أصحابه في يوم مطير الى مساكن ودخل البلد ولم يعرفوا منه الا أنه أمير من جند التركمان ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده وأطاعه ولحق به أصحابه وساروا جميعا الى سنجار وأغذ السير فقطع عنه أصحابه وتوصل الى سنجار في فارسين ونزل بظاهر البلد وبعث الى المقدم فوصله وكان قد سار الى الموصل وترك ابنه شمس الدين محمد بالقلعة فبعث في أثر أبيه وعاد من طريقه وسلم سنجار الى نور الدين محمود فملكها واستدعى فخر الدين قرى ارسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره وبلغ الخبر الى قطب الدين صاحب الموصل ووزيره جمال الدين وأمير جيشه زين الدين فساروا الى سنجار للقاء نور الدين محمود وانتهوا الى تل اعفر ثم خاموا عن لقائه وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار اليه بنفسه فعقد معه الصلح وأعاد سنجار على أخيه قطب الدين وسلم له أخوه مدينة حمص والرحبة والشام فانفرد بملك الشام وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة واتفقا وعاد نور الدين الى حلب وحمل ما كان لأبيهم الاتابك زنكي من الذخيرة واتفقا وعاد نور الدين الى حلب وحمل ما كان لأبيهم الاتابك زنكي من الذخيرة لسنجار وكانت لا يعبر عنها والله تعالى أعلم.
غزو نور الدين الى انطاكية وقتل صاحبها وفتح افاميا
ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين الى انطاكية فعاث فيها وخرّب كثيرا من حصونها وبينما(5/282)
هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الافرنج وزحفوا اليه فلقيهم وحاربهم وأبلى في ذلك الموقف فهزم الافرنج وقتل البرنس صاحب انطاكية وكان من عتاة الافرنج وملك بعده ابنه سمند طفلا وتزوّجت أمّه برنس آخر يكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين ولقوة فهزمهم وأسر ذلك البرنس الثاني وتمكن الطفل سمند من ملكه بأنطاكية ثم سار نور الدين سنة خمس وأربعين الى حصن افاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن القلاع فحاصروه وملكه وشحنه حامية وسلاحا واقواتا ولم يفرغ من أمره الا والإفرنج الّذي بالشام جمعوا وزحفوا اليه وبلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء وصالحوه في للهادنة فعقد لهم انتهى.
هزيمة نور الدين جوسكين وأسر جوسكين
ثم جمع نور الدين بعد ذلك وسار غازيا إلى بلاد زعيم الإفرنج وهي تل باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين واستشهد كثير منهم وأسر آخرون وفيهم صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج أرسلان يعيره به لمكان صهره نور الدين على ابنته فعظم ذلك عليه وأعمل الحيلة في جوسكين وبذل المال لأحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا وظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال وبعث من يأتي به وشعر بذلك وإلى حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكرا ليسوا من ذلك الحيّ جاءوا بجوسكين أسيرا إلى حلب وثار نور الدين إلى القلاع فملكها وهي تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن النادة وكفرشود وكفرلات ودلوكا ومرعش ونهر الجود وشحنها بالأقوات وزحف إليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك وانهزم الإفرنج وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والأسر ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها وتأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق واستأمنوا إليه وبعث إليهم حسان المنبجي فتسلمها منهم وحصنها وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على دمشق
كان الإفرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلا إلى المدافعة عنها واستطال الإفرنج على دمشق(5/283)
بعد ملكهم عسقلان ووضعوا عليها الجزية واشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم وكان بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الأتابك واهن القوى مستضعف القوّة فخشي نور الدين عليها من الإفرنج وربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الإفرنج فيغلبون عليه وأمعن النظر في ذلك وبدأ أمره بمواصلة مجير الدين وملاطفته حتى استحكمت المودّة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته ويرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته ولم يبق من أمرائه إلا الخادم عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فعصى به نور الدين وحال بينه وبين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله وخلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهرا بعداوة مجير الدولة ومتجنيا عليه واستنجد بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبكّ فجمعوا واحتشدوا وفي خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين وكاتب جماعة من أحداثها ووعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة وملك نور الدين المدينة وحاصره بالقلعة وبذل له إقطاعا منها مدينة حمص فسار إليها مجير الدين وملك نور الدين القلعة ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها ولحق ببغداد وابتنى بها دارا وأقام بها إلى أن توفي والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة حارم
ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في شمالي حلب واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين ثم سار سنة إحدى وخمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من أنطاكية وهي لسمند أمير أنطاكية من الإفرنج فحاصرها واجتمع الإفرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
استيلاء نور الدين على شيزر
شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلّا من طريق واحدة وكانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن(5/284)
نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي فلما حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد وكان عالما بالقراءات والأدب وولي مرشد أخاه الأصغر سلطان بن علي وكان بينهما من الاتفاق والملاءمة ما لم يكن بين اثنين ونشأ لمرشد بنون كثيرون و [1] في السود منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وولده علي وتعدّد ولده ونافسوا بني عمهم وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد والتئامه بأخيه فلما مات مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة تنكر أخوه سلطان لولده وأخرجهم من شيزر فتفرّقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم وكان مشتغلا عنهم بالإفرنج ثم توفي سلطان وقام بأمر شيزر أولاده وراسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك ثم وقعت الزلازل بالشام وخرب أكثر مدنه مثل حماة وحمص وكفر طاب والمعرّة وأفامية وحصن الأكراد وعرقة ولاذقية وطرابلس وأنطاكية هذه سقطت جميعها وتهدّمت سنة اثنتين وخمسين وما سقط بعضه وتهدّمت أسواره فأكثر بلاد الشام وخشي نور الدين عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد وكان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها وملكها منه نور الدين ورم ما تثلم من أسوارها وجدّد بناءها فعادت كما كانت هكذا قال ابن الأثير وقال ابن خلكان وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم والّذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر بن سعد وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي من حصن شيزر حماه الله وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمّة وسليمان الجنّ والمردة وأنا أفرّق بين المرء وزوجه واستنزل القمر من محله أنا أبو النجم وشعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمرا يذهل الألباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل والمال وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصنا وجمعت فيه أهلي وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بصوت الأذان ورأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي ووصل إليّ منهم قريب من نصفهم فبالغت في إكرامهم ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 219: فأولد مرشد عدة أولاد ذكور وكبروا وسادوا.(5/285)
من أهل شيزر نحو عشرين رجلا فلما انصرف مسلم عنهم سلموا إليّ الحصن انتهى كتاب علي بن منقذ وبين هذا الّذي ذكره ابن خلكان والّذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة وما ذكره ابن الأثير أولى لأنّ الإفرنج لم يملكوا من الشام شيئا في أوائل المائة الخامسة والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على بعلبكّ
كانت بعلبكّ في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة [1] والآن عليها صاحب دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبكّ وشغل نور الدين عنه بالإفرنج فلما كانت سنة اثنتين وخمسين استنزله نور الدين عنها وملكها والله أعلم.
استيلاء أخي نور الدين على حران ثم ارتجاعها
كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب ومعه أخوه الأصغر أمير أميران فمرض نور الدين بالقلعة واشتدّ مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب وكان شيركوه بن شادي أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه لأزحاف [2] سار إلى دمشق ليملكها وعليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه وأمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته فأغذ السير إلى حلب وصعد القلعة وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب أخيه قطب الدين بالموصل وسار إلى الرقة فحاصرها والله تعالى وليّ التوفيق.
خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان
كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر بخراسان وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مرّ في أخبار دولتهم واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا وقدموه
__________
[1] وهي البقاع وفي الكامل بقاع بعلبكّ.
[2] كذا بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على التصويب والأصح: الزحف.(5/286)
فلم يطق مقاومة العدوّ فمضى إلى خوارزم شاه وزوّجه ابنة أخيه ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم وقصد أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف ونزل [1] وأرسل للخليفة المستنصر وبعث أهله وولده رهنا بالطاعة واستأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة [2] وأذن له وخرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب وفيه قاضي القضاة والتقيا ودخل بغداد وخلع عليه آخر سنة خمسين وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضي القضاة والأعيان وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمر بثلاثة آلاف فارس وسار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى وخمسين ونزل الخليفة حلوان واستنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفي فارس وجعله سليمان شاه وليّ عهده وأمدّهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ايلدكز صاحب الريّ فكثرت جموعهم وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل وزين الدين كجك علي نائبة في المظاهرة والأنجاد وسار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم وتمزق عسكره وفارقه أيلدكز فذهب إلى بغداد على طريق بشهرزور وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل وقعد له بشهرزور ومعه الأمير إيراق حتى مرّ بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرما وطير إلى السلطان محمود بالخبر فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك وزيره وزيرا له وتعاهدوا على ذلك وجهزه قطب الدين جهاز الملك وسار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل إلى همذان فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والإمداد للقائهم إرسالا واجتمعوا على سليمان شاه وجروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين الدين على نفسه وفارقهم إلى الموصل وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدّم في أخبار الدولة السلجوقية.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 206: ونزل البندنجين، وأرسل رسولا إلى الخليفة المقتفي يعلمه بوصوله.
[2] كذا بياض بالأصل عبارة مرتبكة. وفي الكامل فأكرم الخليفة زوجته ومن معها، وأذن له في القدوم فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل: ج 11 ص 206.(5/287)
حصار قلعة حارم وانهزام نور الدين إمام الإفرنج ثم هزيمتهم وفتحها
ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب وحاصر الإفرنج بقلعة حارم وجمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه وطال عليه أمرها فعاد عنها ثم جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزما على غزو طرابلس وانتهى إلى البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك وأثخنوا فيهم ونجا نور الدين في الفلّ إلى بحيرة مرس قريبا من حمص ولحق به المنهزمون وبعث إلى دمشق وحلب في الأموال والخيام والظهر وأزاح علل العسكر وعلم الإفرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الأكراد ورجعوا وفي هذه الغزاة عزل نور الدين رجلا يعرف بابن نصري تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء والصوفية والقرّاء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال والله لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنّهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل وكيف أصرفها عنهم وهي من حقوقهم في بيت المال ذلك شيء لا يحل لي ثم أخذ في الاستعداد للأخذ بثأره من الإفرنج وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب كيفا وإلى نجم الدين وإلى صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه قطب الدين وفي مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا وبعث نجم الدين عسكره فلما توافت الإمداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق واجتمع من بقي بالساحل من ملوك الإفرنج ومقدمهم البرنس سمند صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وابن جوسكين واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى إرتاج ثم خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم وسار في إتباعهم وناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومرّوا في أتباعهم وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم واستلحمهم وعاد الإفرنج من أتباع الميمنة فسقط في أيديهم ودارت رحى الحرب على الإفرنج فانهزموا ورجع المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا منهم أمما فيهم سمند صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وبعث السرايا في تلك الأعمال بقصد أنطاكية لخلوها من الحامية فأبى وقال أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإنّ سمند ابن أخته(5/288)
ومحاورته أحق إليّ من مجاورة ملك الروم ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفرا والله يؤيد بنصره من يشاء عباده.
فتح نور الدين قلعة بانياس
ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالانطلاق إلى بلادهم وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى حمايتها وخالف هو إلى بانياس لقلة حاميتها فحاصرها وضيق عليها في ذي الحجة من سنة تسع وخمسين وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فأصيب بسهم في إحدى عينيه وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح وخافه الإفرنج فشاطروه في أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق ثم سار سنة إحدى وستين متجرّدا إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرّة وملكه عنوة ولم يجتمع الإفرنج إلا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من ارتجاعه والله تعالى أعلم.
وفادة شاور وزير العاضد بمصر على نور الدين العادل صريخا وإنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه
كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدي استعمله الصالح بن زربك على قوص وندم فلما هلك الصالح بن زربك [1] وكان مستبدّا على الدولة قام ابنه زربك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله وجمع وزحف إلى القاهرة فملكها وقتل زربك واستبدّ على العاضد ولقيه أمير الجيوش وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ثم نازعه الضرغام وكان صاحب الباب ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام وقصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجدا به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر ويقيم عسكر نور الدين بها مددا له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي
__________
[1] وفي الكامل ج 11 ص 290 الصالح بن رزّيك.(5/289)
وكان بحمص وجهزه بالعساكر فسار لذلك في جمادى سنة تسع وخمسين وأتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلها عن التعرّض للعساكر وسار أسد الدين مع شاور وسار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة وأتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلجّ في طلب ضريبته ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها واستمدّ شاور عليه بالإفرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوّف غائلته وطمعوا في ملك مصر وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجرتهم على المسير فلم يثنهم ذلك وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين واجتمع الإفرنج وعساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال ويراوحهم وجاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم وما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق بالشام ووضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة اثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع ونزل اطفيح وعبر النيل وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل وحاصرها خمسين يوما واستمدّ شاور بالإفرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد ولقيهم منتصف السنة فهزمهم وسار إلى ثغر الإسكندرية فملكها وولي عليها صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوّخ بلاد الصعيد وسارت عساكره مصر والإفرنج إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه بطلب الصلح فتمّ ذلك بينهم وعاد إلى الشام وترك لهم الإسكندرية وكاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الأمراء ثم استطال الإفرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشام إلى الاستيلاء عليها فبادر نور الدين وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها وقتل شاور وطرد الإفرنج عنها وقدّمه العاضد لوزارته والاستبداد عليه كما كان من قبله ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه وهو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر والخطبة للمستضيء ويقال أنه كتب له بذلك في حياة العاضد وبين يدي وفاته وهلك لخمسين يوما أو نحوها فخطب للمستضيء العباسي وانقرضت الدولة العلوية بمصر وذلك سنة سبع وستين كما نأتي على شرحه وتفصيله(5/290)
في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى ووقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان سنة ستين وخمسمائة وكتب الصالح ابن زربك إلى قليج أرسلان ينهاه عن الفتنة والله تعالى وليّ التوفيق.
فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر
ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص ودخلوا جميعا بلاد الإفرنج ومرّوا بحصن الأكراد واكتسحوا نواحيه ثم حاصروا عرقة وخرجوا جكة [1] وفتحوا العريمة وصافيتا وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص [2] فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور الدين من عمله الرقة على الفرات ثم انتقض بمدينة منبج غازي بن حسان وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب الدين نيال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجدّه عند ما ملك حلب كما مرّ في أخباره ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرما وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى [3] وبعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفرانيّ وحاصرها مدّة فامتنعت فبعث عسكرا آخر وقدّم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب وعوّضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب ومراغة وعشرين ألف دينار وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي الكامل: ج 11 ص 327 وحصروا حلبة وأخذوها وخربوها.
[2] وفي الكامل: (ج 11 ص 328) وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضا من أمنع حصونهم ومعاقلهم.
[3] كذا بالأصل والعبارة مرتكبة والأسماء محرفة، وفي الكامل: فاعتقله وأحسن لمواليه ورغبة في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده فلم يفعل فسير إليها نور الدين عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفرانيّ، فحصرها مدة فلم يظفر منها بشيء.(5/291)
رحلة زين الدين نائب الموصل إلى أربل واستبداد قطب الدين بملكه
قد كان تقدّم لنا أنّ نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل وقتل البارسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعا في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين عليّ بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك وأيام ابنه غازي وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصبهاني فاعتقله وهلك لسنة من الاعتقال وحمل إلى المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم فدفن بها في رباط هناك أعدّه لذلك وكانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولي مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه وكان زين الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبدّ في دولة قطب الدين واستغل بحكم الدولة وصارت بيده أكثر البلاد اقطاعا مثل أربل وشهرزور والقلاع التي في تلك البلاد الهكارية منها العماديّة وغيرها والحميدية وتكريت وسنجار وقد كان نقل أهله وولده وذخائر إلى أربل وأقام بمحلها نيابته من قلعة الموصل فأصابه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بأربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا أربل وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصيا من موالي جدّه الأتابك زنكي وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى أعلم.
حصار نور الدين قلعة الكرك
ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الإفرنج البرنس إرقاط واختط له قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم وسار في بلادهم فاكتسحها وخرب ما مرّ به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب وبعث(5/292)
نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين وركب العاضد للقائه ولما كان نور الدين بعشيرا سار للقاء شهاب الدين محمد بن الياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره فلما انتهى إلى نواحي بعلبكّ لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم وجاء بالأسرى ورءوس القتلى إلى نور الدين وعرف الرءوس مقدم الإستبان [1] صاحب حصن الأكراد وكان شجّى في قلوب المسلمين وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق وخرجت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضا خوفا من غائلته والله تعالى أعلم.
وفاة قطب الدين صاحب الموصل وملك ابنه سيف الدين غازي
ثم توفي قطب الدين مودود بن الأتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الأكبر عماد الدين بالملك وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي بن مودود بموافقة أمّه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصرا به وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبدّ بها والله تعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن أخيه سيف الدين عليها
ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبدّ عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدّم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك وسار في خف من العسكر وعبر الفرات عند جعبر أوّل سنة ست وستين وقصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 352: فرأى نور الدين في الرءوس رأس مقدم الإسبتار صاحب حصن الأكراد.(5/293)
نصيبين وكلها من أعمال الموصل وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب كيفا مددا ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل وسقطت ذلك اليوم ثلمة كبيرة من سور الموصل وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل وأذربيجان وأصبهان والريّ يستنجده على عمه نور الدين فأرسل أيلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل ثم اجتمع أمراؤها على طاعة نور الدين ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقى سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشام وتمّ ذلك بينهما وملك نور الدين منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصيا اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين فأقرّ سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضيء وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع بالموصل فبني وشهر باسمه وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشام والله تعالى أعلم.
الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين
ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازيا ونازل حصن الشويك من أعمال [1] واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام فأجابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازيا أيضا بلاد الإفرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك ان ظاهرته على الإفرنج اضمحلّ أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع منه فترك الشويك وكرّ راجعا إلى مصر وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر فاستشار صلاح الدين أباه وخاله شهاب الدين
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 371: ونازل حصن الشوبك وبينه وبين الكرك يوم، وحصره وضيق على من به من الفرنج.(5/294)
الحارمي وقرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر بن أخيه بالامتناع والعصيان ففكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال مالك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في استطالتهم عليك ولو فعلتم ما فعلتم كنت أوّل الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه من الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم ثم توفي واشتغل صلاح الدين بملك البلاد ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم نحو أنطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن عرقة وخرب ربضه وأرسل عسكرا إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح كل ما مرّ عليه حتى رجع الإفرنج إلى الإنصاف من أنفسهم وردّوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام [1] بالشام تطير إلى أوعارها من [1] لاتساع بلاده ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبة وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين بمنزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم ونزل نور الدين على عشيرا وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها وأتبعهم الإفرنج فعبروا النهر وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشدّ قتال إلى أن استنقذت وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه.
واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم
كان مليح بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نور الدين محمود بن زنكي وأمره على الحمالة
__________
[1] هنا بياضان بالأصل في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة ويدل سياق العبارة بحسب رأينا أن المقصود: ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام الزاجل بالشام لإرسال الأخبار بسرعة ضمن بلاده الواسعة.(5/295)
وأقطعه ببلاد الشام وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته وكان الأرمني أيضا يستظهر به على أعدائه وكانت أذنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشا كثيفا مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم فهزمهم وبعث بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك البلاد والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين إلى بلاد الروم
كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغي أرسلان وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها ولحق ذو النون بنور الدين صريخا وأرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في ردّ بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان وستين ثم بعث عسكرا إلى سيواس فملكوها ثم أرسل قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الافرنج ويبقى سيواس بيد ذي النون وعسكر نور الدين الّذي معه فيها ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين وعاد قليج أرسلان ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوريّ ومعه منشور من الخليفة المستضيء لنور الدين بالموصل والجزيرة وأربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه
ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدّمناه واعتزم نور الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرّر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك وأيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح الدين من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه وخشي أن يعزله عند لقائه(5/296)
وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذر لنور الدين وكرّ راجعا إلى مصر وبعث الفقيه عيسى بذلك العذر وان حفظه مصر أهمّ عليه فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة سقطها عن مركوبة هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته وقيذا ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجّة من السنة ورجع نور الدين إلى دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوريّ القاضي ببلاده وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام والجزيرة والموصل والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم وأن يعادله ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي صريفين ودرب هارون وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فاسعف بذلك كله.
وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه إسماعيل الصالح
ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوّال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر موريا بغزو الإفرنج وكان قد اتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب وكان معتنيا بمصالح المسلمين مواظبا على الصلاة والجهاد وكان عارفا بمذهب أبي حنيفة ومتحرّيا للعدل ومتجافيا عن أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الّذي حصن قلاع الشام وبني الأسوار على مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيرز وبعلبكّ وحلب وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات في الطريق والخوانق للصوفية في البلاد واستكثر من الأوقاف عليها يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائما ويؤنسهم في المجالسة ولا يردّ لهم قولا وكان متواضعا مهيبا وقورا ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدّمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدّم وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوريّ بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله تعالى وليّ التوفيق.(5/297)
استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة
قد كنا قدّمنا أنّ نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقرّ سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الّذي ولّى سيف الدين واستبدّ عليه بأمره وولّى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته وكان كمستكين في المقدّمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الدين على مخلفه وسواده وعاد إلى نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها ثم سار إلى حران وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياما ثم استنزله على أن يقطعه حران فلما نزل قبض عليه وملكها ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين استسلمها وعوّضه عنها قلعة الزعفرانيّ من جزيرة ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خاله وكان شمس الدين علي ابن الداية بحلب وهو من أكبر أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي وهو الّذي كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدّد ابن المقدّم وأهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي ثم أرسل شمس الدين ابن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
حصار الإفرنج بانياس
ولما مات نور الدين اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق وجمع شمس الدين بن المقدّم العساكر وسار عن دمشق وراسل الإفرنج وتهدّدهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم واشترى من الإفرنج(5/298)
وأطلعهم وتقررت الهدنة وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته يقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الإفرنج وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد وإنما صالح ابن المقدّم الإفرنج خوفا منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على دمشق
ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدّم إليه عسكرا فنهبوه وعاد إلى حلب ثم رأى ابن المقدّم وأهل الدولة بدمشق أنّ مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك الصالح فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية وإخوته وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم الأحداث بها واستبدّ بأمر الصالح وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وظنها مكيدة وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب فطار إليهم ونكب عن الإفرنج في طريقه وقصد بصرى وأطاعه صاحبها ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وهو الّذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مرّ ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوريّ بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في بلاده وانه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبكّ
ولما ملك صلاح الدين دمشق من إيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الإسلام طغركين بن أيوب وكانت حمص وحماة وقلعة مرعش وسليمية وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة(5/299)
في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفرانيّ من أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها ولما مات نور الدين أجفل الزعفرانيّ عنها لسوء سيرته ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد وامتنعت القلعة بالوالي الّذي بها فجهز عسكرا لحصارها وسار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان وبقلعتها الأمير خرديك فبعث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك صالح وإنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه وارتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل واستخلفه على ذلك عز الدين ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الاتفاق وإطلاق شمس الدين علي حسن وعثمان تقي الدين من الاعتقال فسار عز الدين لذلك واستخلف بالقلعة أخاه ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها ثم سار صلاح الدين من وقته الى حلب وحاصرها وركب الملك الصالح وهو صبي مناهز فسار في البلد واستعان بالناس وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه وخرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين ودس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه وقتلوا عن آخرهم وأقام صلاح الدين محاصرا لحلب وبعث كمستكين إلى الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم وكان القمص سمند السنجيلي صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين وبقي معتقلا بحلب فأطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير وكان متغلبا على ابن مري ملك الإفرنج لكونه محذوفا لا يصدر إلا عن رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا وحاصر هو القلعة وملكها آخر شعبان واستولى على أكثر الشام ثم سار إلى بعلبكّ وبها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد ابن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق وتسليمها له والله تعالى أعلم.
حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل وغلبه إياه واستيلاؤه على بغدوين وغيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب
لما ملك صلاح الدين حمص وحماة وحاصر حلب كاتب الملك الصالح إسماعيل من حلب(5/300)
إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره واستنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه وبين صلاح الدين وأنه ولاه سنجار ويطمعه في الملك فبعث سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة سبعين وخمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القندار وجعل التدبير إليه وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين وامتنع عليه وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأنّ صلاح الدين هزم أخاه عز الدين وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار وعاد إلى الموصل ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية ومعه القندار وساروا إلى حلب فانضمت إليهم عساكره وساروا جميعا إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة ويسوغه الصالح دمشق فأبى إلا ارتجاع جميع بلاد الشام واقتصاره على مصر سار صلاح الدين إلى عساكرهم ولقيها قريبا من حماة فانهزمت وثبت عز الدين ليلا ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم وأتبع عساكر حلب حتى أخرجهم منها وحاصرها وقطع خطبة الملك الصالح وبعث بالخطبة للسلطان في جميع بلاده ولما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما ملك من الشام رحل عن حلب عاشر شوّال من السنة وعاد إلى حماة ثم سار منها إلى بغدوين وكانت لفخر الدين مسعود بن الزعفرانيّ من أمراء نور الدين وكان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين وبها نائب الزعفرانيّ فحاصرها حتى استأمنوا إليه وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص ناصر الدين ابن عمه شيركوه وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين وكان سيف الدين غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل فجمع العساكر وفرّق الأموال واستنجد صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى وسبعين فأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب وبعث صلاح الدين عن عساكره من مصر وقد كان أذن لهم في الانطلاق فجاءوا إليه وسار من دمشق إلى سيف الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر وعبر الفرات إلى الموصل يظنّ أنّ صلاح الدين في اتباعه وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية(5/301)
فعارضاه في ذلك ثم عزل القندار عن إمارة الجيوش لأنه كان جرّ الهزيمة برأيه ومفارقته وولى مكانه مجاهد الدين قايماز ولما انهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة وملكها وولى عليها ثم سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة وحاصره بالقلعة وضيق مخنقة ثم نقب أسوارها وملكها عليه عنوة وأسره ثم أطلقه سليبا فلحق بالموصل وأقطعه سيف الدين الرقة ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة عزاز [1] وهي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوما حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الأضحى ثم رحل إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واشتدّ أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة ثم سعى بينهما في الصلح وعلى أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقرّ الأمر على ذلك وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها وأفاض عليها العطاء وطلبت منه قلعة عزاز فأعطاها إياها ورحل إلى بلاد الإسماعيلية والله سبحانه وتعالى أعلم.
عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين صاحب الموصل ورجوعه
كان مجاهد الدين قايماز متولى مدينة اربل وكان بينه وبين شهاب الدين محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة فلما ولىّ سيف الدين مجاهد الدين قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل وأظهر الامتناع وذلك سنة اثنتين وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر الى الحضور بالموصل والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
نكبة كمستكين الخادم ومقتله
كان سعد الدين كمستكين الخادم قائما بدولة الملك الصالح في حلب وكان يناهضه فيها أبو صالح العجميّ فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك الصالح وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله وخلا الجوّ لكمشتكين وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه وكان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه وأرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا وهلك
__________
[1] كذا في الكامل ج 10/ 115 وفي نسخة أخرى: إعزاز.(5/302)
كمستكين في المحنة وطمع فيها وساروا اليها وحاصروها وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها وبعث هو عساكره اليها وقد جهدهم الحصار فسلموها له وولىّ عليها والله تعالى أعلم.
وفاة الصالح إسماعيل واستيلاء ابن عمه عز الدين مسعود على حلب
ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته وعهد بملكه لابن عمه عز الدين صاحب الموصل واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد الدين صاحب سنجار أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح وأن أباه نور الدين كان يميل اليه فأبي وقال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب الى عز الدين مسعود يستدعونه [1] هو ومجاهد الدين قايماز الى الفرات ولقي هنالك أمراء حلب وجاءوا معه فدخلها آخر شعبان من السنة وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيدا عنهم وتقي الدين عمر ابن أخيه في منبج فلما أحس بهم فارقها الى حماة وثار به أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشام وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الّذي بينه وبين صلاح الدين ثم أقام بحلب شهورا وسار عنها الى الرقة والله تعالى أعلم.
استيلاء عماد الدين على حلب ونزوله عن سنجار لأخيه عز الدين
ولما انتهى عز الدين الى الرقة منقلبا من حلب وافقه هنالك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يملكه مدينة سنجار وينزل هو له عن حلب فلم يجبه الى ذلك فبعث عماد الدين اليه بأنه يسلم سنجار الى صلاح الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار وتحمّسهم له ولم يكن لعز الدين مخالفا لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين وأعطاه حلب وسار اليها عماد الدين وملكها وسهل أمره على صلاح الدين بعد ان كان متخوّفا من عز الدين على دمشق والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 473: الى أتابك عز الدين يستدعونه الى حلب فسار هو ومجاهد الدين قايماز الى الفرات.(5/303)
مسير صلاح الدين الى بلاد الجزيرة وحصاره الموصل واستيلاؤه على كثير من بلادها ثم على سنجار
كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك مدينة حرّان وقلعتها ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح اليه مظفر الدين ووعده النصر واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار الى الفرات موريا بقصد [1] وعبر اليه مظفر الدين فلقيه وجاء معه الى البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة وكان صاحبها من بني ارتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار ومعه مجاهد الدين الى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب فلما بلغهما عبوره الفرات عادا الى الموصل وبعثا حامية الى الرها وكاتب صلاح الدين ملوك النواحي بالنجدة والوعد على ذلك وكان تقدّم العهد بينه وبين نور الدين محمد بن قرا ارسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد ويسلمها اليه فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أوّل مجيب وسار صلاح الدين الى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين وبها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفرانيّ فلما اشتدّ به الحصار استأمن الى صلاح الدين وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه وأقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبري صاحب حرّان وسار عنها الى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنجي فاجفل عنها الى الموصل وملكها صلاح الدين وسار الى الخابور وهو قرقيسيا وماكسين وعرمان فاستولى على جميعها وسار الى نصيبين فملكها لوقتها وحاصر القلعة أياما وملكها وأقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه وسار عنها وملكها ومعه صاحب كيفا وجاءه الخبر بأن الافرنج أغاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم واستمرّ على شأنه وأغراه مظفر الدين كوكبري وناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين وصاحبها عز الدين ونائبة مجاهد الدين وقد جمعوا العساكر وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التي بأيديهم كالجزيرة وسنجار والموصل واربل وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في أعيان دولته الى السور فرآه مخايل الامتناع وقال لمظفر الدين ولناصر الدين ابن عمه قد
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 483: فجد صلاح الدين في السير مظهرا انه يريد حصر حلب سترا للحال.(5/304)
أغررتماني ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه في المقاعد للقتال ونصب منجنيقا فلم يغن ونصب اليه من البلد تسعة ثم خرج اليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلا من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة فخشي صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد وكان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصه في الصلح بين الفريقين على اعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على اعادة الآخرين حلب فامتنعوا ثم رجع عن شرط حلب الى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك ووصلت رسل صاحب أذربيجان قرا ارسلان وأرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر ورحل صلاح الدين عن الموصل الى سنجار فحاصرها وبها أمير أميران [1] وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فحال بينهم وبينها وداخله بعض أمراء الأكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين من ناحيته واستأمن شرف الدين لوقته فأمنه صلاح الدين ولحق بالموصل وملك صلاح الدين سنجار وصارت سياجا على جميع ما ملكه بالجزيرة وولى عليها سعد الدين بن معين الدين أنز الّذي كان متغلبا بدمشق على آخر [2] طغركين وعاد فمرّ بنصيبين وشكا اليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله وسار الى حران بلد مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين فأراح بها وأذن لعساكره في الانطلاق وكان عز الدين قد بعث الى شاهرين صاحب خلاط يستنجده وأرسل شاهرين الى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلا عديدة آخرهم مولاه سكر جاه وهو على سنجار فلم يشفعه [3] أخاه من ذلك وفارقه مغاضبا وسار شاهرين [4] الى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته وابن حال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده وسار معه وجاءهم عز الدين من الموصل في عساكره واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة وارتحل للقائهم ونزل رأس عين فخاموا عن لقائه ولحق كل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 487: وبها أمير أميران هندو أخو عز الدين صاحب الموصل.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل: واستناب بها سعد الدين بن معين الدين انز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى.
[3] بياض بالأصل، وفي الكامل: فأرسل اليه أخيرا مملوكه سيف الدين بكتمر الّذي ملك خلاط بعد شاه ارمن فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب اليه ان يتركها ويرحل عنها. وقال له. ان رحل عنها والا فتهدده بقصده ومحاربته فأبلغه بكتمر الشفاعة فسوفه في الجواب رجاء ان يفتحها فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة بالتهديد وفارق غضبان.
[4] واسمه في الكامل شاه ارمن.(5/305)
ببلده وسار صلاح الدين الى ماردين فأقام عليها أياما ورجع والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها
ولما ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا ارسلان كما كان العهد بينهما وقد أشرنا اليه ثم سار الى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا اليه وملكها في محرّم سنة تسع وسبعين وسار منها الى عينتاب وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل خازن نور الدين محمود وصاحبه ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن الى صلاح الدين على أن يقرّه على الحصن ويكون في خدمته فأقرّه وأطاعه ورحل صلاح الدين الى حلب وبها عماد الدين زنكي بن مودود ونزل عليها بالميلان الأخضر أياما ثم انتقل الى جبل جوشن أياما أخرى وأظهر أنه أبنى عليها وعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوّضه عنها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فأجاب الى ذلك وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها وكان في شرط صلاح الدين عليه انه يبادر الى الخدمة متى دعاه اليها وسار عماد الدين الى بلاده تلك ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين ومات عليها أخوه الأصغر تاج الملوك بوري بضربة في ركبته تصدّعت لها ومات بعد فتح حلب ثم ارتحل صلاح الدين الى قلعة حارم وبها سرجك من موالي نور الدين ولاه عليها عماد الدين فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح الدين وتردّدت الرسل بينهما وقد دس الى الافرنج ودعاهم وخشي الجند الذين معه أن يسلمها اليهم فحبسوه واستأمنوا الى صلاح الدين فملكها وولى عليها بعض خواصه وعلى تل خالد الأمير داروم الياروقي صاحب تل باشر وأقطع قلعة إعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد ان كان عماد الدين خربها وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لأمرائه وعساكره والله تعالى أعلم.
نكبة مجاهد الدين قايمان [1]
كان مجاهد الدين قايمان قائما بدولة الموصل ومتحكما فيها كما قلناه وكان عز الدين محمود الملقب القندار صاحب الجيش وشرف الدين أحمد بن أبي الخير الّذي كان صاحب
__________
[1] وفي بعض النسخ قايماز.(5/306)
العراق كان من أكابر الأمراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران السعاية عنده فيه حتى اعتزم على نكبته ولم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين وقوّة شوكته فانقطع في بيته لعارض مرض وكان مجاهد الدين خصيا لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده فقبض عليه وركب الى القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره وولى بها زلقندار [1] نائبا وجعل ابن صاحب العراق أمير حاجبا وحكمهما في دولته وكان في يد مجاهد الدين اربل وأعمالها فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي كجك صبيا صغيرا تحت استبداده وبيده أيضا جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي وهو صبيّ تحت استبداده وبيده أيضا شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة عقر الحميدية ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين وهو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب اربل واستبدّ بنفسه وكان صاحب جزيرة ابن عمر وبعث بطاعته الى صلاح الدين وبعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن تكون الجزيرة واربل من أعماله وامتنع عز الدين وقال هما من أعمالي وطمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقندار ولابن صاحب العراق لما حملاه عليه من الفساد لنكبة مجاهد الدين فبدأ أوّلا بعزل صاحب أذربيجان فقال له أنا أكفيكه وجهز له عسكرا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو اربل فاكتسحوا البلد وخربوها وسار اليهم زين الدين يوسف بإربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم وما كان معهم وعاد مظفرا ولحق العجم ببلادهم وعاد مجاهد الدين الى الموصل والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق.
حصار صلاح الدين الموصل وصلحه مع عز الدين صاحبها
ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة احدى وثمانين فلما انتهى الى حران قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لانه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها وسار عن حران وجاء معه عساكر كيفا وداري وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز.
الدين سنجر شاه ابن أخي عز الدين صاحب الموصل وقد كان استبدّ بأمره وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلناه فساروا مع صلاح الدين الى الموصل ولما انتهوا الى مدينة
__________
[1] وفي نسخة ثانية القندار وكذا في هذه النسخة في مكان آخر.(5/307)
بله وفدت عليه أم عز الدين وابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظنا بانه لا يردهم وأشار عليه الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهم ورحل الى الموصل فقاتلها وامتنعت عليه وندم على ردّ الوفد وجاءه كتاب القاضي الفاضل بالأئمة ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب اربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري وغيره من الأمراء ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب الى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية وأقام يحاصرها وكاتب نائب القلعة زلقندار ونمي خبر مكاتبته الى عز الدين فمنعه واطرحه من المشورة وعدل الى مجاهد الدين قايمان وكان يقتدي برأيه فضبط الأمور وأصلحها ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنتين وثمانين وقد ضجر من حصار الموصل ان شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع واستولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته ولما فرغ منها عاد الى الموصل ومرّ بنصيبين ونزل الموصل في رمضان سنة اثنتين وثمانين وتردّدت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم اليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الفرائلي وما وراء الزاب ويخطب له على منابرها وينقش اسمه على سكته ومرض صلاح الدين أثناء ذلك ووصل الى حران ولحقته الرسل بالإجابة الى الصلح وتحالفا عليه وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضا بحران وعنده العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه وأمنت بلاد الموصل ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والأكراد بالجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها ما لا يحصى من الأمم واتصلت أعواما وسببها أن عروسا من التركمان أهديت الى زوجها ومرّوا بقلعة الزوزان والأكراد وطلبوا منهم الوليمة على الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج وثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم ثم أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا الى الوفاق وذهبت بينهم الفتنة والله تعالى أعلم.
وفاة زين الدين يوسف صاحب اربل وولاية أخيه مظفر الدين اقتهى
كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه قبل واربل من أعماله ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب الموصل سنة ست وثمانين [1]
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 210 كان زين الدين يوسف صاحب اربل قد حضر عند صلاح الدين بعساكره فمرض ومات.(5/308)
للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على موجودة وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحي صاحب قلعة حقبيركان وغيره وطلب من صلاح الدين أن يقطعه اربل مكان أخيه وينزل عن حران والرها فأقطعه اربل وأضاف اليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلي وبني قفجاق وراسل أهل اربل مجاهد الدين قايمان واستدعوه ليملكوه وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفا من صلاح الدين ولان عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد ان أطلقه من الاعتقال لم يمكنه كما كان أوّل مرّة وجعل معه رديفا في الحكم كان من بعض غلمانه فكان أسفا لذلك فلما راسله أهل اربل قال والله لا أفعل لئلا يحكم معي فيها فلان وسار مظفر الدين اليها وملكها.
حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر
كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه وصار عينا على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة بينهما ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين واستنفر لها أصحاب الاطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل وأخيه عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين وسنجر شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم واجتمعوا عنده على عكا وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف واستأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر فألح عليه في ذلك وغدا عليه يوم الفطر مسلما فوعده وانصرف وكان تقي الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلا من حماة في عسكر فأرسل اليه صلاح الدين باعتراضه ورده طوعا أو كرها فلقيه بقلعة فنك ورده كرها وكتب صلاح الدين الى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة وطلب اقطاع الجزيرة فأسعفه وسار اليها وحاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه ثم صالحه على نصف أعماله ورجع الموصل والله تعالى أعلم.
مسير عز الدين صاحب الموصل الى بلاد العادل بالجزيرة ورجوعه عنها
كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين وكانت بيد(5/309)
ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاه ثم توفي تقيّ الدين فاقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب ثم توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها واستشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعاجلتها وأن تستنفر أصحاب الاطراف لها مثل صاحب اربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب سنجار ونصيبين ومن امتنع يعاجله حربا ويعاجل البلد قبل أن يستعدّ أهله للمدافعة وأشار مجاهد الدين قايمان بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل بإشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين وأن البلد في طاعته وأنه القائم بدولته وأنه بلغه أنّ صاحب ماردين تعرّض لبعض بلاده فجهز جيشا كثيفا لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه ولما وقع الاتفاق مع صاحب سنجار جاءت عساكر الشام الى العادل من الأفضل فامتنع وسار عز الدين في عساكره من الموصل الى نصيبين واجتمع بأخيه عماد الدين وساروا الى الرها وقد عسكر العادل قريبا منهم بمرج الريحان وخافهم فأقاموا أياما كذلك ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وسار الى الموصل والله تعالى أعلم.
وفاة عز الدين صاحب الموصل وولاية ابنه نور الدين
ولما رجع عز الدين الى الموصل أقام بها مدّة شهرين واشتدّ مرضه فتوفي آخر شعبان سنة تسع وثمانين وولى ابنه نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايمان مدبر دولة أبيه والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة عماد الدين صاحب سنجار وولاية ابنه قطب الدين
ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار والخابور ونصيبين والرقة وسروج وهي التي عوّضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه توفي في محرّم سنة أربع وتسعين وملك بعده ابنه قطب الدين وتولى تدبير دولته مجاهد الدين برتقش مولى أبيه وكان دينا خيرا عادلا متواضعا محبا لأهل العلم والدين معظما لهم وكان متعصبا على الشافعية حتى انه بني مدرسة للحنفية بسنجار وكان حسن السيرة والله تعالى أعلم
.(5/310)
استيلاء نور الدين صاحب الموصل على نصيبين
كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين قد امتدّت أيدي نوابه بنصيبين الى قرى من أعمال الموصل تجاورهم وبعث اليه في ذلك مجاهد الدين قايمان صاحب دولة الموصل يشكو اليه نوابه سرّا من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين في ادعاء انها من أعماله وأساء الردّ فأعاد نور الدين الرسالة اليه مع بعض مشايخ دولته وقد طرقه المرض فأجاب مثل الأوّل فنصح الرسول وكان من بقية الاتابك زنكي وعاد الى [1] فأغلظ له في القول واعتزم نور الدين على المسير الى نصيبين ووصل الخبر اثر ذلك بوفاة عماد الدين وولاية ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين وتجهز لها في جمادى سنة أربع وتسعين وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين الى نصيبين فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين ودخل الى قلعة نصيبين مهزوما ثم أسرى منها الى حران ومعه نائبة مجاهد الدين برتقش وكاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل الى الجزيرة ففارقها الى الموصل في رمضان من السنة وعاد قطب الدين اليها وكان الموتان قد وقع عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل ومات مجاهد الدين قايمان القائم بالدولة ولما عاد نور الدين الى الموصل وعاد قطب الدين الى نصيبين سار العادل الى ماردين فحاصرها أياما وضيق عليها ثم انصرف والله تعالى أعلم.
هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام نور الدين صاحب الموصل وبني عمه ملوك الجزيرة
لما رحل العادل عن ماردين كما قدّمناه جر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل وعظم ذلك على ملوك الجزيرة وديار بكر وخافوا أن ملكها يغلبهم على أمرهم ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين إلّا تقية لكثرة عساكره فلما رجع إلى دمشق وبقي الكامل على ماردين استهانوا بأمره وطمعوا في مدافعة وأغراهم بذلك الظاهر والأفضل ابنا
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 133: فلما سمع الرسالة لم يلتفت وقال: لا أعيد ملكي، فاشار الرسول من عنده حيث هو من مشايخ دولتهم بترك اللجاج وتسليم ما اخذه، وحذّره عاقبة ذلك فأغلظ عليه عماد الدين القول وعرض بذم نور الدين واحتقاره فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال، فغضب نور الدين وعزم على المسير الى نصيبين.(5/311)
صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل فتجهز نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل وسار أوّل شعبان سنة خمس وتسعين وانتهى إلى دبيس فأقام بها ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر حتى إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدّموا الى مزاحمة الكامل على ماردين وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام المستولى على دولة صاحبها الى الكامل يراوده في الصلح وتسليم القلعة له الى أجل سماه على أن يبيح لهم ما يقوّتهم من الميرة فأسعفهم بذلك وبينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا وزحف الكامل مهزوما الى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة اليهم وقاتلوهم الى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوّال وعاد الى بلاده ونهبت أهل القلعة مخلفه وخرج صاحب ماردين وهو بولو ارسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين وشكره وعاد الى حصنه ورجع نور الدين وأصحابه الى تستر ثم سار منها الى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة والخطبة فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم ثم طرقه المرض فبعث اليهم بالعذر وعاد الى الموصل في ذي الحجة آخر السنة والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين صاحب الموصل الى بلاد العادل بالجزيرة
ثم انّ الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الأفضل ابن أخيه فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق وأن يسير الى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها والرقة وسنجار فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع وتسعين وسار معه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وحسام الدين صاحب ماردين وانتهوا الى رأس عين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل الى نور الدين في الصلح فبادر الى الاجابة لما وقع في عسكره من الموتان واستحلفهم وحلف لهم وبعثوا الى العادل فحلف وعاد نور الدين الى الموصل في ذي القعدة من السنة والله تعالى أعلم.
هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام عسكر العادل
لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار ويستميله الى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل الى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها(5/312)
وملك المدينة وأقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبة بالموصل بأنّ مظفر الدين كوكبري صاحب اربل [1] من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزما على قصد اربل فلم يجد كل الخبر صحيحا فسار الى تل اعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها وكان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران الى رأس عين نجدة لصاحب سنجار وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب اربل وصاحب كيفا وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وتراسلوا وتواعدوا للاجتماع فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها وجاءهم أخو الأشرف نجم الدين صاحب ميافارقين وساروا الى البقعاء من تل اعفر الى كفررقان وقصده المطاولة حتى [2] جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم وكان من مواليه فوثق بقوله ورحل الى نوشرى قريبا منهم وتراءى الجمعان فالتقوا وانهزم نور الدين ونجا في فل قليل ونزلت العساكر كفررقان ونهبوا مدينة فيد وما اليها وأقاموا هنالك وتردّدت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل اعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها واصطلحوا سنة احدى وستمائة ورجع كل الى بلده والله تعالى ولىّ التوفيق.
مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمرو ولاية ابنه محمود بعده
كان سنجر شاه بن غازي بن مودود ابن الاتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مرّ وكان سيّئ السيرة غشوما ظلوما مرهف الحدّ على رعيته وجنده وحرمه وولده كثير القهر لهم والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محمودا ومودودا الى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما وأخرج ابنه غازي الى دار بالمدينة ووكل به فساءت حاله وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله وتناول حية وبعثها الى أبيه فلم يعطف عليه فتسلل من الدار واستخفى في المدينة وبعث الى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله اليه فبعث اليه بنفقة وردّه خوفا من أبيه وترك أبوه طلبه لما
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 193: «ان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب اربل قد قصد اعمال الموصل فنهب تينوي وأحرق غلالها.» وترى ان اسم صاحب اربل هنا كوكبري وعند ابن الأثير بوكبري وكثيرا ما تختلف هذه الأسماء الاعجمية بين كتاب وآخر.
[2] بياض بالأصل مع اختلاف في الأسماء وفي الكامل: وسار نور الدين من تل اعفر الى كفر زمّار وعزم على المطاولة ليتفرقوا فأتاه كتاب من بعض مماليكه يسمي جرديك وقد أرسله يتجسس اخبارهم فيقلّلهم في عينه ويطمعه فيهم ويقول: ان أذنت لي لقيتهم بمفردي ج 12 ص 193.(5/313)
شاع انه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض حظاياه وطرق عليه الخلاء في بعض الليالي وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة ثم ذبحه وأقام مع الحرم وعلم أستاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة وأغلق أبواب القصر وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودودا من قلعة فرح ثم دخلوا الى غازي وقتلوه ووصل محمود فملكوه ولقبوه معز الدين لقب أبيه وعمد الى الجواري التي واطأت على قتل أبيه فغرّقهنّ في الدجلة والله تعالى أعلم.
استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من أعمال صاحب سنجار وحصاره إياه
كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود وبين ابن عمه نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مرّ كثير من أخبارها ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر والشام الى نور الدين في ابنته فزوّجها نور الدين من ابنه واستكثر به وطمح الى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر وتكون ولاية قطب الدين وهي سنجار ونصيبين والخابور للعادل وتكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب الى ذلك العادل وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الّذي هو صهره على ابنته وتحالفا على ذلك وسار العادل سنة ست وستمائة من دمشق لملك الخابور وراجع نور الدين رأيه فإذا هو قد تورّط وانه يملك البلاد كما يحب دونه ان وفي له وسار نور الدين الى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل وان انتقض نور الدين عليه سار اليه فاضطرب في أمره وملك العادل الخابور ونصيبين واعتزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه وجهز نور الدين عسكرا مع ابنه القاهر مددا للعادل كما اتفقا عليه وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه الى مظفر الدين صاحب اربل يستنجده فأرسل الى العادل شافعا في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين إياه فغضب مظفر الدين وأرسل الى نور الدين في المساعدة على دفاع العدوّ فأجاب نور الدين الى ذلك ورجع عن مظاهرة العادل وأرسل هو ومظفر الدين الى الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب والى كسنجر بن قليج ارسلان صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما وتداعوا الى قصد بلاد العادل ان لم يرحل عن سنجار وبعث الخليفة(5/314)
الناصر أستاذا لدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير اقناش من خواص مواليه في الإفراج عن سنجار وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة فإنه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على أن تكون نصيبين والخابور اللذان ملكهما له وتبقى سنجار لقطب الدين وتحالفوا على ذلك ورجع العادل الى حرّان ومظفر الدين الى اربل والله تعالى أعلم.
وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية ابنه القاهر
ثم توفي نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي منتصف سنة سبع وستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته وكان شهما شجاعا مهيبا عند أصحابه حسن السياسة لرعيته وجدّد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب ولما احتضر عهد بالملك لابنه عز الدين مسعود وهو ابن عشرين سنة وأوصاه أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة وكان قائما بأمره منذ توفي مجاهد الدين قايمان وأوصى ولده الأصغر عماد الدين بقلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتها ولفته الى العقر فلما توفي نور الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعودا ولقبوه القاهر واستقرّ ملك الموصل أعمالها له وقام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته والبقاء للَّه وحده.
وفاة القاهر وولاية ابنه نور الدين ارسلان شاه في كفالة بدر الدين لؤلؤ
لما توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب الموصل آخر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وخمسمائة [1] لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الأكبر نور الدين ارسلان شاه وعمره عشرون سنة وجعل الوصيّ عليه والمدبر لدولته لؤلؤا كما كان في دولة القاهر وابنه نور الدين فبايع له وقام بملكه وأرسل الى الخليفة في التقليد والخلع على العادة فوصلت وبعث الى الملوك في الأطراف في تجديد العهد كما كان بينهم وبين سلفه وضبط أموره وكان عمه نور الدين زنكي ارسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان له فدفعه عن ذلك واستقامت أموره وأحسن السيرة
__________
[1] تاريخ وفاته في (الكامل ج 12 ص 333) هو سنه خمس عشرة وستمائة.(5/315)
وسمع شكوى المتظلمين وأنصفهم ووصل في تقليد الخليفة لنور الدين اسناد التتر في أموره لبدر الدين لؤلؤ [1] والله أعلم.
استيلاء عماد الدين صاحب عقر على قلاع الهكارية والزوزان
كان عماد الدين زنكي قد ولاه أبوه قلعتي العقر والشوش قريبا من الموصل وأوصى له بهما وعهد بالملك لابنه الأكبر القاهر فلما توفي القاهر كما ذكرنا طمح زنكي الى الملك وكان يحدّث به نفسه فلم يحصل له وكان بالعمادية نائب من موالي جدّه مسعود فداخله في الطاعة له وشعر بذلك بدر الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب وبعث اليها أميرا أنزله بها وجعل فيها نائبا من قبله واستبدّ بالنّواب في غيرها وكان نور الدين بن القاهر لا يزال عليلا لضعف مزاجه وتوالي الأمراض عليه فبقي محتجبا طول المدّة فأرسل زنكي الى نور الدين بالعمادية يشيع موته ويقول أنا أحق بملك سلفي فتوهموا صدقة وقبضوا على نائب لؤلؤ ومن معه وسلموا البلد لعماد الدين زنكي منتصف رمضان سنة خمس عشرة وجهز لؤلؤ العساكر وحاصروه بالعمادية في فصل الشتاء وكلب البرد وتراكم الثلج ولم يتمكنوا من قتاله وظاهره مظفر الدين صاحب اربل على شأنه وذكر لؤلؤا بالعهد الّذي بينهما أن لا يتعرّض لاعمال الموصل والنص فيها على قلاع الهكارية والزوزان وانه مظاهر لهم على من يتعرّض لها فلج في مظاهرته واعتمد نقض العهد وأقام العسكر محاصرا لزنكي بالعمادية وتقدموا بعض الليالي وركبوا الاوعار اليه فبرز اليهم أهل العماديّة وهزموهم في المضايق والشعاب فعادوا الى الموصل وراسل عماد الدين قلاع الهكارية والزوزان في الطاعة له فأجابوه وملكها وولىّ عليها والله أعلم.
مظاهرة الأشرف بن العادل للؤلؤ صاحب الموصل
ولما استولى عماد الدين زنكي على قلاع الهكارية والزوزان وظاهره مظفر الدين صاحب اربل خاف لؤلؤ غائلته فبعث بطاعته الى الأشرف موسى بن العادل وقد ملك أكثر بلاد الجزيرة وخلاط وأعمالها ويسأله المعاضدة فأجابه وكان يومئذ بحلب في مدافعة كيكاوس صاحب
__________
[1] هنا عبارة ساقطة وفي الكامل: وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في امر دولته والتشريفات لهما أيضا. وأتتهم رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود واستقرت القواعد لهما.(5/316)
بلاد الروم عن أعمالها فأرسل الى مظفر الدين بالنكير عليه فيما فعل من نقضه العهد الّذي كان بينهم جميعا كما مرّ ويعزم عليه في اعادة ما أخذ من بلاد الموصل ويتوعده ان أصرّ على مظاهرة زنكي بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين الى ذلك واستألف على أمره صاحب ماردين وناصر الدين محمودا صاحب كيفا وآمد فوافقوه وفارقوا طاعة الأشرف في ذلك فبعث الأشرف عساكره الى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج اليه والله تعالى أعلم.
واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين
ولما عاد عسكر الموصل عن حصار العماديّة خرج زنكي الى قلعة العقر ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية وأمده مظفر الدين صاحب اربل بالعساكر وعسكر جند الموصل على أربع فراسخ من البلد من ناحية العقر ثم اتفقوا على المسير الى زنكي وصبحوه آخر المحرّم سنة ست عشرة وستمائة وهزموه فلحق بإربل وعاد العسكر الى مكانهم ووصل رسل الخليفة الناصر والأشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا وتحالفوا والله تعالى أعلم.
وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية أخيه ناصر الدين
لما توفي نور الدين ارسلان شاه ابن الملك القاهر كما قدّمناه من سوء مزاجه واختلاف الأسقام عليه فتوفي قبل كمال الحول ونصب لؤلؤ مكانه أخاه ناصر الدين محمد بن القاهر في سنّ الثلاث واستحلف له الجند وأركبه في الموكب فرضي به الناس لما بلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه والله تعالى ولىّ التوفيق.
هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب اربل
ولما توفي نور الدين ونصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمدا على صغر سنه تجدّد الطمع لعماد الدين عمه ولمظفر الدين صاحب اربل في الاستيلاء على الموصل وتجهزوا لذلك وعاثت سراياه في نواحي الموصل وكذا لؤلؤ قد بعث ابنه الأكبر في العساكر نجده للملك الأشرف وهو يقصد بلاد الافرنج بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن امداد إخوانهم بدمياط عن أبيه(5/317)
الكامل بمصر فبادر لؤلؤ الى عسكر الأشرف الذين بنصيبين واستدعاهم فجاءوا الى الموصل منتصف سنة عشر وستمائة وعليهم ايبك مولى الأشرف فاستقلهم لؤلؤ ورآهم مثل عسكره الذين بالشام أو دونهم وألحّ ايبك على عبور دجلة الى اربل فمنعه أياما فلما أصرّ عبر لؤلؤ معه ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة وجمع مظفر الدين زنكي وعبروا [1] الزاب وتقدّم اليهم ايبك في عسكره وأصحاب لؤلؤ وسار منتصف الليل من رجب وأشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل ولقيهم بالليل وحمل ايبك على زنكي في المسيرة فهزمه وانهزمت ميسرة لؤلؤ فبقي في نفر قليل فتقدّم اليه مظفر الدين فهزمه وعبر دجلة الى الموصل وظهر مظفر الدين على تبريز ثلاثا ثم بلغه أنّ لؤلؤا يريد تبييته فأجفل راجعا وتردّدت الرسل بينهما فاصطلحا على كل ما بيده والله أعلم.
وفاة صاحب سنجار وولاية ابنه ثم مقتله وولاية أخيه
ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار في ثامن صفر سنة ست عشرة وستمائة وكان حسن السيرة مسلما الى نوّابه وملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه واشتمل الناس عليه فملك شهورا ثم سار الى تل اعفر فاغتاله أخوه عمر ودخل اليه في جمعة فقتلوه وملك بعده وبقي مدّة الى أن تسلم منها الأشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة والله اعلم.
استيلاء عماد الدين على قلعة كواشي ولؤلؤ على تل أعفر والأشرف على سنجار
كانت كواشي من أحسن قلاع الموصل وأمنعه وأعلاه ولما رأى الجند الذين بها بعد أهل العماديّة واستبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك وأخرجوا نواب لؤلؤ عنهم وتمسكوا بإظهار الطاعة على البعد خوفا على رهائنهم بالموصل ثم استدعوا عماد الدين زنكي وسلموا له القلعة وأقام عندهم وبعث لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكره العهود التي لم يجز ثلمها بعد فأعرض وأرسل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 345: فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار اليهم ومعه زنكي فعبر الزاب، وسبق خبره فسمع بدر الدين فعبى أصحابه.(5/318)
إلى الأشرف بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران وكان مظفر الدين صاحب أربل يراسل الملوك بالأطراف ويغريهم بالأشرف ويخوّفهم غائلته ولما كان بين كيكاوس بن كنجسرو صاحب الروم من الفتنة ما نذكره في أخباره وسار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك بناحيته إلى وفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا وآمد وصاحب ماردين فأطاعوه وخطبوا له في أعمالهم ومات كيكاوس وفي نفس الأشرف منه ومن مظفر الدين ما في نفسه ولما سار الأشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ راسل مظفر الدين جماعة من أمرائه مثل أحمد بن علي المشطوب وعز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما واستمالهم ففارقوا الأشرف ونازلوا دبيس تحت ماردين ليجتمعوا مع ملوك الأطراف لمدافعة الأشرف واستمال الأشرف صاحب آمد وأعطاه مدينة حالي وجبل حودي ووعده بدارا إذا ملكها فأجاب وفارقهم إليه واضطرّ آخرون منهم إلى طاعة الأشرف فانحلّ أمرهم وانفرد ابن المشطوب بمشاقة الأشرف فقصد أربل ومرّ بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار فأسره صاحبها وكان هواه مع الأشرف ولؤلؤ فصده ابن المشطوب عن رأيه فيهم حتى أجمع خلافه وأطلقه فجمع المفسدين وقصد البقعاء من أعمال الموصل فاكتسح نواحيها وعاد ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل وأرصد له لؤلؤ عسكرا فاعترضوه فهزمه واجتاز بتل أعفر من أعمال صاحب سنجار فأقاموا عليها وبعثوا إلى لؤلؤ فسار وحاصرها وملكها في ربيع سنة سبع عشرة وستمائة وأسر ابن المشطوب وجاء به إلى الموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران سنين وهلك في محبسه ولما أطاع صاحب آمد الأشرف رحل من حران إلى ماردين ونزل دبيس وحاصر ماردين ومعه صاحب آمد وتردّدت الرسل بينه وبين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس عين وكان الأشرف قد أقطعها له على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار وأن يعطي لصاحب آمد الورزني بلد [1] وانعقد الصلح بينهما وارتحل الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوّضه الأشرف منها بالرقة بما أدركه من الخوف عند استيلاء لؤلؤ على تل أعفر ونفرة أهل دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه فأجابه الأشرف وأعطاه الرقة وملك سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة ورحل عنها بأهله وعشيرته وانقرض أمر بني زنكي منها بعد أربع وتسعين سنة والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] بياض بالأصل وأخطاء بالأسماء، وفي الكامل ج 12 ص 343: ويأخذ منه صاحب آمد الموزر من بلد شبختان، فلم تم الصلح سار الأشرف من دنس إلى نصيبين يريد الموصل.(5/319)
صلح الأشرف مع مظفر الدين
ولما ملك الأشرف سنجار سار إلى الموصل ووافاه بها رسل الخليفة الناصر ومظفر الدين صاحب أربل في الصلح وردّ القلاع المأخوذة من إيالة الموصل على صاحبها لؤلؤ ما عدي العماديّة فتبقى بيد زنكي وتردّد الحديث في ذلك شهرين ولم يتمّ فرحل الأشرف بقصد إربل حتى قارب نهر الزاب وكان العسكر قد ضجروا سوء صاحب آمد مع مظفر الدين فأشار بإجابته إلى ما سأل ووافق على ذلك أصحاب الأشرف فانعقد الصلح وساق زنكي إلى الأشرف رهينة على ذلك وسلمت قلعة العقروشوش لنوّاب الأشرف وهما لزنكي رهنا أيضا وعاد الأشرف إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة وبعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها وامتنعوا بها واستجار عماد الدين زنكي بشهاب بن العادل فاستعطف له أخاه الأشرف فأطلقه وردّ عليه قلعتي العقروشوش وصرف نوّابه عنهما وسمع لؤلؤ الأشرف يميل إلى قلعة تل أعفر وأنها لم تزل لسنجار قديما فبعث إليه بتسليمها والله تعالى أعلم.
رجوع قلاع الهكارية والزوزان إلى طاعة صاحب الموصل
لما رأى زنكي أنه ملك قلاع الهكارية والزوزان وساوة فلم يروا عنده ما ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ مع جنده ورعاياه اعتزموا على مراجعة طاعة لؤلؤ وطلبوه في الإقطاع فأجابهم واستأذن الأشرف فلم يأذن له وجاء زنكي من عند الأشرف فحاصر العماديّة ولم يبلغ منها غرضا فأعادوا مراسلة لؤلؤ فاستأذن الأشرف وأعطاه قلعة جديدة ونصيبين وولاية بين النهرين وأذن له في تملك القلاع وأرسل نوّابه إليها ووفى لهم بما عاهدهم عليه وتبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ وانتظم له ملكها والله تعالى أعلم.
استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس
كانت قلعة شوش وقلعة العقر متجاورتين على اثني عشر فرسخا من الموصل وكانتا لعماد الدين زنكي بن نور الدين أرسلان شاه بوصية أبيه كما مرّ وملك معها قلاع الهكارية والزوزان ورجعت إلى الموصل وسار هو سنة تسعة عشر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه وأقطع له الإقطاعات وأقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة(5/320)
شوش فحاصرها وضيق عليها وامتنعت عليه فجمر العساكر لحصارها وعاد إلى الموصل ثم اشتدّ الحصار بأهلها وانقطعت عنهم الأسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ ونزلوا له عنها على شروط اشترطوها وقبلها وبعث نوابه عليها والله تعالى أعلم.
حصار مظفر الدين الموصل
كان الأشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل ودخل لؤلؤ في طاعته واستولى على خلاط وسائر أرمينية وأقطعها أخاه شهاب الدين غازي ثم جعله وليّ عهده في سائر أعماله ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازي بأخيه المعظم صاحب دمشق وبمظفّر الدين كوكبري وتداعوا لحصار الموصل فجمع أخوهما الكامل عساكره وسار إلى خلاط فحاصرها بعد أن بعث إلى المعظم صاحب دمشق وتهدّده فأقصر عن مظاهرة أخيه واستنجد غازي مظفر الدين كوكبري صاحب أربل فسار إلى الموصل وحاصرها ليأخذ بحجزة الأشرف عن خلاط ونهض المعظم صاحب دمشق لإنجاد أخيه غازي وكان لؤلؤ صاحب الموصل قد استعدّ للحصار فأقام عليها مظفر الدين عشرا ثم رحل منتصف إحدى وعشرين لامتناعها عليه ولقيه الخبر بأنّ الأشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم على ما كان منه.
انتقاض أهل العماديّة على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها
قد تقدّم لنا انتقاض أهل قلعة العماديّة من أعمال الموصل سنة خمس عشرة ورجوعه إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا على ذلك مدّة ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة وتجنوا على لؤلؤ بعزل نوابه فعزلهم مرّة بعد أخرى ثم استبدّ بها أولاد خواجا إبراهيم وأخوه فيمن تبعهم وأخرجوا من خالفهم وأظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة اثنتين وعشرين وحاصرهم وقطع الميرة عنهم وبعث عسكر الى قلعة هزوران وقد كانوا تبعوا أهل العماديّة في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا وملكها ثم جهز العساكر الى العماديّة مع نائبة أمين الدين وعاد إلى الموصل واستمر الحصار إلى ذي القعدة من السنة ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال وأقطاع وعوض عن القلعة وأجاب لؤلؤ إلى ذلك وكان أمين الدين قد وليها قبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدّون على عهده ومكاتبته وسخط كثير من أهل البلد فعل أولاد خواجا إبراهيم واستئثارهم بالصلح دونهم فوجد(5/321)
أولئك البطانة سبيلا إلى التسلط عليهم ودسوا لأمين الدين أن يبيت البلد ويصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا ونادوا بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة وملكها أمين الدين وبعث بالخبر الى لؤلؤ قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق.
مسير مظفر الدين صاحب أربل إلى أعمال الموصل وعوده عنها
كان جلال الدين شكري بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أوّل خروجهم سنة سبع عشرة وستمائة على خوارزم وخراسان وغزنة وفرّ أمامهم إلى الهند ثم رجع عنها لسنة اثنتين وعشرين واستولى على العراق ثم على أذربيجان وجاور الأشرف بن العادل في ولايته بخلاط والجزيرة وحدثت بينهما الفتنة وراسله أعيان الأشرف في الإغراء به مثل مظفر الدين صاحب أربل ومسعود صاحب آمد وأخيه المعظم صاحب دمشق واتفقوا على ذلك وسار جلال الدين إلى خلاط وسار مظفر الدين إلى الموصل وانتهى إلى الزاب ينتظر الخبر عن جلال الدين وسار المعظم صاحب دمشق إلى حمص وحماة وبعث لؤلؤ من الموصل يستنجد الأشرف فسار إلى حران ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال ماردين وكان جلال الدين قد بلغه انتقاض نائبة بكرمان فاغذ السير إليه وترك خلاط بعد أن عاث في أعمالها وفت ذلك في أعضاد الآخرين وعظمت سطوة الأشرف بهم وبعث إليه أخوه المعظم وقد نازل حمص وحماة يتوعده بمحاصرتهما ومحاصرة مظفر الدين الموصل فرجع عن ماردين ورجع الآخران عن حمص وحماة والموصل ولحق كل ببلده والله تعالى أعلم.
مسير التتر في بلاد الموصل وأربل
ولما أوقع التتر بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان وعشرين وقتلوه ولم يبق لهم مدافع من الملوك ولا ممانع انساحوا في البلاد طولا وعرضا ودخلوا ديار بكر واكتسحوا سواد آمد وارزن وميافارقين وحاصروا [1] وملكوها بالأمان ثم استباحوها وساروا إلى
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على اسم المكان الّذي حاصروه وملكوه.(5/322)
ماردين فعاثوا في نواحيها ثم دخلوا الجزيرة واكتسحوا أعمال نصيبين ثم مرّوا إلى سنجار فنهبوها ودخلوا الخابور واستباحوه وسارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا أعمالها ثم أعمال أربل وأفحشوا فيها وبرز مظفر الدين في عساكره واستمدّ عساكر الموصل فبعث بها لؤلؤ إليه ثم عاد التتر عنهم إلى أذربيجان فعاد كل إلى بلاده والله أعلم.
وفاة مظفر الدين صاحب أربل وعودها إلى الخليفة
ثم توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك صاحب أربل سنة تسع وعشرين لأربع وأربعين سنة من ولايته عليها أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف ولم يكن له ولد فأوصى بأربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه واستولى عليها وصارت من أعماله والله تعالى أعلم.
بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل
كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان وعشرين على آمد لحقوا بصاحب الروم كيقباد فاستنجدهم وهلك سنة أربع وثلاثين وستمائة وولي ابنه كنجسرو فقبض على أميرهم ومرّ الباقون وانتبذوا بأطراف البلاد وكان الصالح نجم الدين أيوب في حران وكيفا وآمد نائبا عن أبيه الملك العادل فرأى المصلحة في استضافتهم إليه فاستمالهم واستخدمهم بعد أن أذن أبوه له في ذلك فلما مات أبوه سنة خمس انتقضوا ولحقوا بالموصل واشتمل عليهم لؤلؤ وسار معهم فحاصر الصالح بسنجار ثم بعث الصالح إلى الخوارزمية واستمالهم فرجعوا إلى طاعته على أن يعطيهم حران والرها ينزلون بها فأعطاهما إياهم وملكوهما ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ وبنو أيوب يومئذ متفرقون على كراسي الشام وبينهم من الأنفة والفرقة ما نتلو عليك قصصه في دولتهم ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم وهو ابن مودود بن العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضا عن دمشق واستولى لؤلؤ على سنجار من يده سنة سبع وثلاثين ثم حدثت بين صاحب حلب وبين الخوارزمية فتنة ولجئوا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره وأسروا ابن أخيه الأفضل ودخلوا حلب واستباحوها فتحوا منبج وعاثوا فيها وقطعوا الفرات من الرقة وهم يذهبون وتبعهم عسكر دمشق وحمص فهزموهم وأثخنوا فيهم ولحقوا ببلدهم حران فسارت إليهم عساكر حلب واستولوا على حران ولحق الخوارزمية بغانة وبادر لؤلؤ(5/323)
صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب وكانت ولايتها بعد وفاة أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فولي بعدها ابنه الناصر يوسف ابن العزيز في كفالة مولاه إحيال الخاتوني فلما كانت سنة ثمان وأربعين وستمائة وقع بين عسكره وبين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل حرب انهزم فيها لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا ولحق لؤلؤ بحلب ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى بغداد سنة [1] وملكها وقتل الخليفة المستعصم واستلحم العلية من بغداد كما مرّ في أخبار الخلفاء ويأتي في أخبار التتر وتخطي منها إلى أذربيجان فبادر لؤلؤ ووصل إليه بأذربيجان وآتاه طاعته وعاد إلى الموصل والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
وفاة صاحب الموصل وولاية ابنه الصالح
ثم توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين وستمائة وكان يلقب الملك الرحيم وملك بعده على الموصل ابنه الصالح إسماعيل وعلى سنجار ابنه المظفر علاء الدين علي وعلى جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد إسحاق وأبقاهم هلاكو عليها مدّة ثم أخذها منهم ولحقوا بمصر فنزلوا على الملك الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره وسار هلاكو إلى الشام فملكها وانقرضت دولة الأتابك زنكي وبينه ومواليه من الشام والجزيرة أجمع كان لم تكن والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء للَّه تعالى وحده والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل وقد ذكر أبو الفداء في أخبار البشر هذا الحدث في العشرين من محرم سنة ست وخمسين وستمائة.(5/324)
دولة بني أيوب
الخبر عن دولة بني أيوب القائمين بالدولة العباسية وما كان لهم من الملك بمصر والشام واليمن والمغرب وأولية ذلك ومصايره هذه الدولة من فروع دولة بني زنكي كما تراه وجدهم هو أيوب بن شادي بن مروان بن علي ابن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحرث بن سنان بن عمر بن مرّة بن عوف الحميري الدوسيّ هكذا نسبه بعض المؤرخين لدولتهم قال ابن الأثير أنهم من الأكراد الرواية وقال ابن خلكان شادي أبوهم من أعيان درين وكان صاحبه بها بهروز فأصابه خصي من بعض أمرائه وفرّ حياء من المثلة فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه وتعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه مقامه فظهرت كفايته وعلا في الدولة محله فبعث عن شادي بن مروان صاحبه لما بينهما من الألفة وأكيد الصحبة فقدم عليه ثم ولى السلطان بهروز شحنة بغداد فسار إليها واستصحب شادي معه ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت فولى عليها شادي فهلك وهو وال عليها وولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين أيوب وهو أكبر من أسد الدين شيركوه فلم يزل واليا عليها ولما زحف عماد الدين زنكي صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين وخمسمائة وانهزم الأتابك وانكفأ راجعا إلى الموصل ومرّ بتكريت قام نجم الدين بعلوفته وازواده وعقد له الجسور على دجلة وسهل له عبورها ثم أن شيركوه أصاب دما في تكريت ولم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز وأخرجهما من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن إليهما وأقطعهما ثم ملك بعلبكّ سنة اثنتين وثلاثين جعله نائبا ولم يزل بها أيوب ولما مات عماد الدين زنكي سنة إحدى وأربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى بعلبكّ وحاصرها واستنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الإقطاع وأقام معه بدمشق وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكي وأقطعه حمص والرحبة لاستطاعته وكفايته وجعله مقدّم عساكره ولما صرف نظره إلى الاستيلاء على دمشق واعتزم على مداخلة أهلها كان ذلك على يد شيركوه وبمكاتبته لأخيه أيوب وهو بدمشق فتم ذلك على أيديهما وبمحاولتهما وملكها سنة تسع وأربعين وخمسمائة وكانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدّتها وذهب استفحالها واستبدّ وزراؤها على خلفائها فلم يكن الخلفاء يملكون معهم وطمع الإفرنج في سواحلهم وأمصارهم لما نالهم من الهرم والوهن فمالوا عليهم وانتزعوا البلاد من(5/326)
أيديهم وكانوا يردون عليهم كرسي خلافتهم بالقاهرة ووضعوا عليهم الجزية وهم يتجرّعون المصاب من ذلك ويتحملونه مع بقاء أمرهم كاد الأتابك زنكي وقومه السلجوقية من قبله أن يمحو دعوتهم ويذهبوا بدولتهم وأقاموا من ذلك على مضض وقلق وجاء الله بدعوة العاضد آخرهم وتغلب عليه بعد الصالح بن رزيك شاور السعدي وقتل رزيك بن صالح سنة ثمان وخمسين واستبدّ على العاضد ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من ولايته وغلبه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام ولحق بنور الدين صريخا سنة تسع وخمسين وشرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر على أن يبعث معه عسكرا يقيمون بها فأجابه إلى ذلك وبعث أسد الدين شيركوه في العساكر فقتل الضرغام ورد شاور إلى رتبته وآل أمرهم إلى محو الدولة العلوية وانتظام مصر وأعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكي ويخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمود واستبدّ صلاح الدين بأمره في مصر ثم غلب على بني نور الدين محمود وملك الشام من أيديهم وكثر عيث ابن عمهم مودود واستفحل ملكه وعظمت دولة بنيه من بعده إلى أن انقرضوا والبقاء للَّه وحده.
مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر وإعادة شاور إلى وزارته
لما اعتزم نور الدين محمود صاحب الشام على صريخ شاور وإرسال العساكر معه واختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي وكان من أكبر أمرائه فاستدعاه من حمص وكان أميرا عليها وهي أقطاعه وجمع له العساكر وأزاح عللهم وفصل بهم شيركوه من دمشق في جمادى سنة تسع وخمسين وسار نور الدين بالعساكر إلى بلاد الإفرنج ليأخذ بحجزتهم عن اعتراضه أو صدّه لما كان بينهم وبين صاحب مصر من الألفة والتظاهر ولما وصل أسد الدين بلبيس لقيه هنالك ناصر الدين أخو الضرغام وقاتله فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوما وخرج الضرغام منسلخ جمادى الأخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها وقتل أخوه وأعاد شاور إلى وزارته وتمكن فيها وصرف أسد الدين إلى بلده وأعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء فلم يجب إليه فتغلب أسد الدين على بلبيس والبلاد الشرقية وبعث شاور إلى الإفرنج يستنجدهم ويعدهم فبادروا إلى إجابته وسار بهم ملكهم مري لخوفهم أن يملك أسد الدين مصر واستعانوا بجمع من الإفرنج جاءوا الزيارة القدس وسار نور الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك وطمعوا لعزمهم وزرأ أسد الدين إلى بلبيس واجتمعت العساكر المصرية والإفرنج عليه وحاصروه ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم وامتنع عليهم وقصاراهم(5/327)
منع الأخبار عنه واستنفر نور الدين ملوك الجزيرة وديار بكر وقصر حارم وسار الإفرنج لمدافعته فهزمهم وأثخن فيهم وأسر صاحب أنطاكية وطرابلس وفتح حارم قريبا من حلب ثم سار إلى بانياس قريبا من دمشق ففتحها كما مرّ في أخبار نور الدين وبلغ الخبر بذلك إلى الإفرنج وهم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم وطووا الخبر عنه وراسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشام فصالحهم وعاد إلى الشام في ذي الحجة من السنة والله تعالى أعلم.
مسير أسد الدين ثانيا إلى مصر وملكه لإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده
ولما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه مما كان من غدر شاور وبقي يشحن لغزوهم إلى سنة اثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين جماعة من الأمراء واكثف له العسكر خوفا على حامية الإسلام وسار أسد الدين إلى مصر وانتهى إلى أطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية ونزل الجيزة وأقام نحوا من خمسين يوما وبعث شاور إلى الإفرنج يستمدّهم على العادة وعلى مالهم من التخوّف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه فسارعوا إلى مصر وعبروا مع عساكرها إلى الجيزة وقد ارتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد وانتهى منها إلى [1] وأتبعوه وأدركوه بها منتصف اثنتين وستين ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى الشام وأبى زعماؤهم إلا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين وتقدّم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في القلب وأوصاه أن يندفع أمامهم ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلا وأسرا ورجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم واستباحة فانهزموا إلى مصر وسار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه وفرّق العمال على جباية أمواله ووصلت عساكر مصر والإفرنج إلى القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية فحاصروا
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الكامل ج 11 ص 345: وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين.(5/328)
بها صلاح الدين وجهده الحصار وسار أسد الدين من الصعيد لإمداده وقد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الاسكندرية ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم ولا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوّال وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشام منتصف ذي القعدة ثم شرط الإفرنج على شاور أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة ألف دينار في كلّ سنة جزية فقبل ذلك وعاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين بطاعته وان يبث بمصر دعوته وقرر على نفسه ما لا يحمل كلّ سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقي شيعة له بمصر والله تعالى أعلم.
استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور
ولما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة ومصر وأنزلوا بها الشحنة وملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا وأطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا بذلك ملكهم بالشام واسمه مري ولم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم واستحثه أصحابه لملكها وما زالوا يفتلون له في الذروة والغارب ويوهمونه القوّة بتملكها على نور الدين ويريهم هو أن ذلك يؤل إلى خروج أصحابها عنها النور الدين فبقي بها إلى أن غلبوا عليه فرجع إلى رأيهم وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره واستنفر من في ثغوره وسار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبتهم وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة وأمر شاور بإحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحصار فانتقلوا وأخذهم الحريق وامتدّت الأيدي وانتهبت أموالهم واتصل الحريق فيها شهرين وبعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتدّ الحصار على القاهرة وضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه وأنّ هواه معه دون العاضد ونور الدين ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الإفرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع القاهرة وبعث إليهم شاور بمائة ألف منها وسألهم في الإفراج فارتحلوا وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل(5/329)
العاضد خلال ذلك تردّد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه وثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن ونقد العسكر عشرين دينارا لكل فارس وبعث معه من أمرائه مولاه عز الدين خردك وعز الدين قليج وشرف الدين ترعش [1] وعز الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وأمدّ صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه واعتزم عليه فأجاب وسار أسد الدين منتصف ربيع فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسرّ بذلك نور الدين وأقام عليه البشائر في الشام ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الأخيرة ونزل بظاهرها ولقي العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات والاتاوات وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم وشاور يماطله ويعلله بالمواعيد ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور وتفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين مع ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل شاور وأسد الدين ينهاهم وغدا شاور يوما على أسد الدين في خيامه فألقاه قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه فتلقاه صلاح الدين وخردك وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم وطيروا بالخبر إلى أسد الدين وبعث العاضد لوقته يحرّضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه وأمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامّة وجاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وخرج له من القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني وعليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه:
«هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحملة وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة وأسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا» . ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان فيها شاور وجلس مجلس الأمر والنهي وولى على الأعمال وأقطع البلاد للعساكر وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمّها وعمارتها وكاتب نور الدين بالواقع مفصلا وانتصب للأمور ثم دخل للعاضد وخطب الأستاذ جوهر الخصي عنه وهو يومئذ أكبر الأساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أوّل قدومك وأنت تعلم الواقع من ذلك وقد تيقنا أن الله عز وجل أدّخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة وإظهار الدولة فقال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مرعش.(5/330)
الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا وأكثر ثم جدّدت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوي وكان قاضي القضاة وداعي الدعاة واستحسنه واختصه وأمّا الكامل بن شاور فدخل القصر مع إخوته معتصمين به وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه في ردّ أبيه وذهب كل بما كسب والله تعالى أعلم.
وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين
ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادى الأخيرة من سنة أربع وستين لشهرين من وزارته ولما احتضر أوصى حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد للَّه الّذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا وصار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة ولا تفرّطوا في الأسطول ولما توفي تشوّف الأمراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي وشرف الدين المشطوب الهكاري وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وشهاب الدين الحارمي وهو خال صلاح الدين وجمع كل لمغالبة صاحبه وكان أهل القصر وخواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة واصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر الغز يقودهم قراقوش ويعطي لهم الشرقية إقطاعا ينزلون بها حشدا دون الإفرنج [1] من يستبدّ على الخليفة بل يقيم واسطة بينه وبين الناس على العادة وأشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له ومال القاضي لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحا إلى صغر سنه وأنه لا يتوهم فيه من الاستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه وأنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه وخلع عليه ولقبه الملك الناصر واختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه وكان عيسى الهكاري شيعة له واستمالهم إليه إلا الباروقي فإنه امتنع وعاد إلى نور الدين بالشام وثبتت قدم صلاح الدين في مصر وكان نائبا عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسار ويجمعه في الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية وما زال صلاح الدين يحسن المباشرة ويستميل الناس ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس وضعف أمر العاضد ثم أرسل يطلب إخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام واستقامت أموره وأطردت سعادته والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة.(5/331)
واقعة السودان بمصر
كان بقصر العاضد خصىّ حاكم على أهل القصر يدعي مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم وكاتب الإفرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه ثم يتبعونه وقد ناشب الإفرنج فيأتون عليه وبعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في [1] نعاله فاعترضه بعض التركمان واستلبه ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاءوا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر فطوي ذلك وانتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزها وبعث من جاء برأسه ومنع الخصيين بالقصر عن ولاية أموره وقدّم عليهم بهاء الدين قراقوش خصيا أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الأمور بالقصر وامتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة واجتمعوا لحرب صلاح الدين وبلغوا خمسة آلاف وناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة وبعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم فلما سمعوا بذلك انهزموا وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله أعلم.
منازلة الإفرنج دمياط وفتح ايلة
ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الإفرنج أسفوا على ما فاتهم من صدّه وصدّ عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والأقسة إلى بلاد القرانية يدعونهم الى المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الإفرنج بصقلية والأندلس يستنجدونهم فنفروا واستعدّوا لإمدادهم واجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس وستين وثلاثمائة وركبوا في ألف من الأساطيل وأرسلوا لدمياط ليملكوها ويقربوا من مصر وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز في البرّ متتابعين وواصل المراكب بالأسلحة والإتاوات وخاطب نور الدين يستمدّه لدمياط لأنه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين إليها العساكر أرسالا ثم سار
__________
[1] بياض بالأصل: في الكامل ج 11 ص 345 وسيروا الكتب مع إنسان يثقون إليه وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد الى البئر البيضاء فلقيه إنسان تركمانيّ فرأى معه نعلين جديدين فأخذهما منه، وارتاب به وبهما فأتى به صلاح الدين ففتقهما فرأى الكتاب فيهما فقرأه وسكت عليه.(5/332)
بنفسه وخالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام فاستباحها وخربها وبلغهم الخبر بذلك على دمياط وقد امتنعت عليهم ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوما من حصارها ورجع أهل سواحل الشام لبلادهم فوجدوها خرابا وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب والأسلحة وغيرها ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر واجتمع معهم من التجار جماعة وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك وحاصرهم بها وجمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار في وسط بلادهم وسار إلى عشيرا ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر وركب العاضد لتلقيه ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الإفرنج وأغار على أعمال عسقلان والرملة ونهب ربط غزة ولقي ملك الإفرنج فهزمه وعاد إلى مصر ثم أنشأ مراكب وحملها مفصلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في البحر وحاصر أيلة برّا وبحرا وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا فيها وولّى في جميع البلاد كذلك ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه الى الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاثوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله تعالى أعلم.
إقامة الخطبة العباسية بمصر
ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيء العباسي وترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويّين وفي باطن الأمر خشي من نور الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك ولم تسعه مخالفته وأحجم عن القيام بذلك وورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني ويلقب بالأمير العالم فلما رآهم محجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب ودعي للمستضيء فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضيء فتراسلوا بذلك ثاني جمعة من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة وكان المستضيء قد ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها ولما خطب له بمصر كان العاضد مريضا فلم يشعروه بذلك وتوفي يوم عاشوراء من السنة ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره ووكل به بهاء الدين قراقوش وكان فيه من الذخائر ما يعز وجوده مثل حبل الياقوت الّذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالا ومصاف الزمرد الّذي طوله أربعة أصابع طولا(5/333)
في عرض ومثل طبل القولنج الّذي يضربه ضاربه فيعافى بذلك من داء القولنج وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعدّ ونقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر ووكل بهم وإخراج الإماء والعبيد وقسمهم بين البيع والهبة والعتق وكان العاضد لما اشتدّ مرضه استدعاه فلم يجب داعيه وظنها خديعة فلما توفي ندم وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه والانقياد ولما وصل الخبر إلى بغداد بالخطبة للمستضيء ضربت البشائر وزينت بغداد أياما وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفي فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع الخطباء بمصر والأعلام السود والله تعالى أعلم.
الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين
قد كان تقدّم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة وأنّ صلاح الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع وستين وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين وإظهار طاعته وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر واعتذر لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتزله نور الدين وأخذ في الاستعداد لعزله وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين وعادت المخالطة بينهما كما كانت واتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين وخرج نور الدين من دمشق بعد أن تجهز فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك وبلغ صلاح الدين خبره ارتاب به ثانيا وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكرّ راجعا وأرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه وأنه رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول وعاد إلى دمشق والله تعالى أعلم.
وفاة نجم الدين أيوب
كان نجم الدين أيوب بعد انصراف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين(5/334)
ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عند ما استوثق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره وسار لحصار الكرك ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مرّ ذكره ووصل إلى مصر وخرج العاضد لتلقيه وأقام مكرما ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرّة الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر وركب يوما في مركب وسار ظاهر البلد والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه وحمل وقيذا إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة وكان خيرا جواد محسنا للعلماء والفقراء وقد تقدّم ذكر أوليته والله وليّ التوفيق.
استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب
كان قراقوش من موالي تقيّ الدين عمر بن شاه نجم الدين أيوب وهو ابن أخي صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات وذهب مغاضبا إلى المغرب ولحق بجبل نفوسه من ضواحي طرابلس الغرب وأقام هنالك دعوة مواليه وكان في بسائط تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من عرب هلال بن عامر كان منحرفا عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وإفريقية إلى تلك القاصية فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه ونزل معه بأحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها ثم استولى على قابس من ورائها وعلى توزر ونفطة وبلاد نفراوة من إفريقية وجمع أموالا جمة وجعل ذخيرته بمدينة قابس وخربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها ولم يكن لهم قدرة على منعهم ثم طمع في الاستيلاء على جميع إفريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتوني الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة من بقية الأمراء في دولتهم فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد وقتله كما هو مذكور في أخبارهم والله أعلم.
استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن
كان صلاح الدين وقومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين وظنهم به الظنون يحاولون ملك(5/335)
القاصية عن مصر ليمتنعوا بها أن طرقهم منه حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن وتجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب وهو أخو صلاح الدين الأكبر إلى ملك النوبة وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجا ولا في البلاد بأسرها جباية وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن فاقتصر على ما فتحه من ثغورهم وعاد في غنيته بالعبدى والجواري فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلا وبعثه صلاح الدين إلى اليمن وقد كان غلب عليه علي بن مهدي الخارجي سنة أربع وخمسين وصار أمره إلى ابنه عبد النبي وكرسي ملكه زبيد منها وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع وكان عمارة اليمنى شاعر العبيدي وصاحب بني رزيك من أمرائهم وكان أصله من اليمن وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد أن تجهز وأزاح العلل واستعدّ للمال والعيال وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين ومرّ بمكة وانتهى إلى زبيد وبها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد وزحفت عساكر شمس الدولة فتسنموا أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها وأسروا عبد النبي وزوجته وولّى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزركان في جملته ودفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قرابته دفائن كانت فيها أموال جليلة ودلتهم زوجته الحرّة على ودائع استولوا منها على أموال جمة وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد وسار شمس الدولة توران شاه الى عدن وبها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبدّا بها على مواليه بني الزريع وورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة وسارت عساكره الى البلد فملكوها وجاءوا بياسر أسيرا إلى شمس الدولة فدخل عدن وعبد النبي معه في الاعتقال واستولى على نواحيها وعاد الى زبيد ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز وهي من أحصن القلاع وحصن التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون وولّى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي واتخذ زبيد سببا لملكه ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء للسكنى فوقع اختيارهم على تعز فاختط هنالك مدينة واتخذها كرسيا لملكه وبقيت لبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكره في أخبارهم والله تعالى وليّ التوفيق.
واقعة عمارة ومقتله
كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر وعبد الصمد(5/336)
الكاتب والقاضي العويدس وابن كامل وداعي الدعاة وجماعة من الجند وحاشية القصر اتفقوا على استدعاء الإفرنج من صقلّيّة وسواحل الشام وبذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصرفان خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة وأعادوا الدولة العبيدية وإلا فلا بدّ له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج فينفردون به ويقبضون عليه وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن وثقوا بأنفسهم وصدقوا توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها وتنازع في الوزارة بنو رزيك وبنو شاور وكان على بن نجيّ الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم ونمى الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج فوضع على الرسول عنده عيونا جاءوه بحلية خبره فقبض حينئذ عليهم وقيل إنّ علي بن نجيّ أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين ولما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم ومرّ عمارة ببيت القاضي وطلب لقاءه فلم يسعفه وأنشد البيت المشهور
عبد الرحيم قد احتجب ... أنّ الخلاص هو العجب
ثم صلبوا جميعا ونودي في شيعة العلويين بالخروج من ديار مصر إلى الصعيد واحتيط على سلالة العاضد بالقصر وجاء الافرنج على ذلك من صقلّيّة إلى الإسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
وصول الإفرنج من صقلّيّة إلى الإسكندرية
لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا وبعثوا مراكبهم مائتي أسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل وألفان وخمسمائة فارس وثلاثون مركبا للخيول وستة مراكب لآلة الحرب وأربعون للازواد وتقدّم عليهم ابن عمّ الملك صاحب صقلّيّة ووصلوا إلى ساحل الإسكندرية سنة سبعين وركب أهل البلد الأسوار وقاتلهم الإفرنج ونصبوا الآلات عليها وطار الخبر إلى صلاح الدين بمصر ووصلت الأمراء إلى الإسكندرية من كل جانب من نواحيها وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم ثم جاءهم البشير آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل والغرق ولم ينج إلا القليل واعتصم منهم نحو من ثلاثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون وأقلعوا بأساطيلهم راجعين والله تعالى أعلم
.(5/337)
واقعة كنز الدولة بالصعيد
كان أمير العرب بنواحي أسوان يلقب كنز الدولة وكان شيعة للعلوية بمصر وطالت أيامه واشتهر ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد اقطاعا بين أمرائه وكان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز الدولة سنة سبعين واجتمع اليه العرب والسودان وهجم على أخي أبي الهيجاء السمين في اقطاعه فقتله وكان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز وبعث معه جماعة من الأمراء والتف له الجند فساروا الى أسوان ومرّوا بصدد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم ثم ساروا الى الكنز فقاتلوه وهزموه وقتل واستلحم جميع أصحابه وأمنت بلاد أسوان والصعيد والله تعالى ولىّ التوفيق.
استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد وفاة العادل نور الدين
كان صلاح الدين كما قدّمناه قائما في مصر بطاعة العادل نور الدين محمود بن زنكي ولما توفي سنة تسع وستين ونصب ابنه الصالح إسماعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدّم وبعث اليه صلاح الدين بطاعته ونقم عليهم انهم لم يردوا الأمر اليه وسار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكي الى بلاد نور الدين التي بالجزيرة وهي نصيبين والخابور وحران والرها والرقة فملكها ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى يدافعه عن بلادهم وكان الخادم سعد الدين كمستكين الّذي ولاه نور الدين قلعة الموصل وأمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب وأقام بها عند شمس الدين علي ابن الداية المستبدّ بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية الى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح الى حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أوّلا وطردوه ثم رجعوا الى هذا الرأي وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح الى حلب ولحين دخوله قبض على ابن الداية وعلى مقدمي حلب واستبدّ بكفالة الصالح وخاف الأمراء بدمشق وبعثوا الى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه وامتنع عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق الى صلاح الدين وتولى كبر ذلك ابن المقدّم فبادر الى الشام وملك بصرى ثم سار الى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة ونزل دار أبيه المعروفة بالعفيفي وبعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوريّ الى ريحان الخادم بالقلعة انه(5/338)
على طاعة الملك الصالح وفي خدمته وما جاء الا لنصرته فسلم اليه القلعة وملكها واستخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام طغركين وسار الى حمص وبها وال من قبل الأمير مسعود الزعفرانيّ وكانت من أعماله فقاتلها وملكها وجمر عسكرا لقتال قلعتها وسار الى حماة مظهرا لطاعة الملك لصالح وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة وبعث بذلك الى صاحب قلعتها خرديك واستخلفه وسار الى الملك الصالح ليجمع الكلمة ويطلق أولاد الداية واستخلف على قلعة حماة أخاه ولما وصل الى حلب حبسه كمستكين الخادم ووصل الخبر الى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين وسار الى حلب فحاصرها ثالث جمادى الاخيرة واستمات أهلها في المدافعة عن الصالح وكان بحلب سمند صاحب طرابلس من الافرنج محبوسا منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده وتوفي نور الدين أوّل السنة وخلف ابنا مجذوما فكفله سمند واستولى على ملكهم فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين الى سمند يستنجده فسار الى حمص ونزلها فسار اليه صلاح الدين وترك حلب وسمع الافرنج بمسيره فرحلوا عن خمص ووصل هو اليها عاشر رجب فحاصر قلعتها وملكها آخر شعبان من السنة ثم سار الى بعلبكّ وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن اليه وملكها رابع رمضان من السنة وصار بيده من الشام دمشق وحماة وبعلبكّ ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح كتب الصالح الى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود وصاحب جيشه عز الدين زلقندار وسارت معهم عساكر حلب وساروا جميعا لمحاربة صلاح الدين وبعث صلاح الدين الى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص وحماة ويبقى بدمشق نائبا عن الصالح فأبي الا رد جميعها فسار صلاح الدين الى العساكر ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم واتبعهم الى حلب وحاصرها وقطع خطبة الصالح ثم صالحوه على ما بيده من الشام فأجابهم ورحل عن حلب لعشرين من شوّال وعاد الى حماة وكان فخر الدين مسعود بن الزعفرانيّ من الأمراء النورية وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد والرها فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب الى حماة سار الى بعلبكّ واستأمن اليه واليها فملكها وعاد الى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود وأقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه وأقطع بعلبكّ شمس الدين ابن المقدّم ودمشق الى عماد والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وكرمه
.(5/339)
واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشام بعد انهزامهما
ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة احدى وسبعين بعد انهزام أخيه وعساكره واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى الى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام وسار الى حلب فخرجت اليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم وسار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم الى حلب وعبر سيف الدين الفرات منهزما الى الموصل وترك أخاه عز الدين بحلب واستولى صلاح الدين على مخلفهم وسار الى مراغة فملكها وولىّ عليها ثم الى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنجبي وكان حنقا عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل وولاه غازي مدينة الرقة ثم سار صلاح الدين الى قلعة إعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوما وشدّ حصارها فاستأمنوا اليه فملكها ثاني الأضحى من السنة وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه وكان مسلحا فأمسك يد الفداوي حتى قتل وقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة إعزاز الى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واعصوصب عليه أهل البلد واستماتوا في المدافعة عنه ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد بينهم في محرم سنة اثنتين وتسعين وعاد صلاح الدين الى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز الى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة خرجت الى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز فوهبها لها والله تعالى أعلم.
مسير صلاح الدين الى بلاد الإسماعيلية
ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصرها قلعة باميان ونصب عليها المجانيق وبعث سنان مقدّم الإسماعيلية بالشام الى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وامصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق وسار الى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد ولما وصل(5/340)
اليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة والقلعة التي بالجبل دوره تسعة وعشرون ألف ذراع ثلاثمائة ذراع بالهاشميّ واتصل العمل فيه الى أن مات صلاح الدين وكان متولي النظر فيه مولاه قراقوش والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه.
غزوات بين المسلمين والافرنج
كان شمس الدين محمد ابن المقدم صاحب بعلبكّ وأغار جمع من الافرنج على البقاع من أعمال حلب فسار اليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك فيهم وبعث الى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أنّ جمعا من الافرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار اليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلار من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الافرنج على تلك الولاية ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الافرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم اليها وعقد لهم والله تعالى ولىّ التوفيق.
هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الافرنج
ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين الى ساحل الشام لغزو بلاد الافرنج وانتهى الى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للافرنج خبرا فانساحوا في البلاد وانقلبوا الى الرملة فما راعهم الا الافرنج مقبلين في جموعهم وإبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتدّ القتال وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطرّ شاربه فابلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة على المسلمين وكان بعض الافرنج تخلصوا الى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزما واسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديدا وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل ثم دخل البرية في فلّ قليل الى مصر ولحقهم الجهد والعطش ودخل الى القاهرة منتصف جمادى الاخيرة قال ابن الأثير ورأيت كتابه الى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة
ذكرتك والخطيّ يخطر بيننا ... وقد فتكت فينا المثقفة السمر
ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرّة وما نجانا الله سبحانه منه الا لأمر يريده وما ثبتت الا وفي نفسها أمر انتهى وأما السرايا التي دخلت بلاد الافرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما(5/341)
الفقيه عيسى الهكاري فلما ولىّ منهزما ومعه أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم.
حصار الافرنج مدينة حماة
ثم وصل في جمادى الاولى الى ساحل الشام زعيم من طواغيت الافرنج وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين وعاد الى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر وهو مع ذلك منهمك في لذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين مريضا وشدّ حصارها وقتالها حتى أشرف على أخذها وهجموا يوما على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا الى حارم فحاصروها ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي ولم يزل الافرنج على حارم يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمشتكين الخادم كافل دولته ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها ثم عاد الافرنج الى مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها وخرج العسكر حامية البلد اليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من السواد وبعثوا بالرءوس والأسرى الى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلبا من الشام فأمر بقتل الأسرى والله تعالى ولي التوفيق.
انتقاض ابن المقدم ببعلبكّ وفتحها
كان صلاح الدين لما ملك بعلبكّ استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئا في ظل أخيه وكفالته فكان يميل اليه وطلب منه أقطاع بعلبكّ فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم الى بعلبكّ وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى بعث الى صلاح الدين يطلب العوض فعوّضه عنها وسار أخوه شمس الدين اليها فملكها والله تعالى ولىّ التوفيق
.(5/342)
وقائع مع الافرنج
وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الافرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلا وسبيا وأرسل صلاح الدين فرخ شاه ابن أخيه في العسكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الافرنج منهم هنغري وكان يضرب به المثل ثم أغار البرنس صاحب انطاكية واللاذقية على صرح المسلمين بشيرز وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الافرنج بمخاضة الإضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد الى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره ان شاء الله تعالى.
تخريب حصن الافرنج
كان الافرنج قد اتخذوا حصنا منيعا بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام ويسمي مكانه مخاضة الإضرار فسار صلاح الدين من دمشق الى بانياس سنة خمس وسبعين وأقام بها وبعث فيها الغارات على بلادهم ثم سار الى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه الى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الافرنج للغارة وجاء ملك الافرنج للغارة على سريته ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الافرنج وأثخن فيهم ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف ملكهم وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاساتارية وغيرهم من طواغيتهم وفادى صاحب الرملة نفسه وهو ارتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخ شاه ابن أخي صلاح الدين بلاء حسنا ثم عاد صلاح الدين الى بانياس وبث السرايا في بلاد الافرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالا شديدا وتسنم المسلمون سوره حتى ملكوا برجا منه وكان مدد الافرنج بطبرية والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه النار فسقط وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا كل من فيه وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فالحق بالأرض وبلغ الخبر الى الإفرنج وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم
.(5/343)
الفتنة بين صلاح الدين وقليج ارسلان صاحب الروم
كان حصن رعبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج ارسلان صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم فلما انقطع حصن رعبان عن ايالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج ارسلان في استرجاعه فبعث اليه عسكرا يحاصرونه وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم وعاد الى عمه صلاح الدين ولم يحضر معه تخريب حصن الإضرار وكان نور الدين محمود بن قليج ارسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم بسبب اضراره ببنته وزواجه عليها واعتزم قليج ارسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث الى قليج ارسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة ولج في ذلك صلاح الدين على قليج وسار الى رعبان ومرّ بحلب فتركها ذات الشمال وسلك على تل باشر ولما انتهى الى رعبان جاءه نور الدين محمود وأقام عنده وأرسل اليه قليج ارسلان يصف فعل نور الدين واضراره ببنته فلما أدّى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير الى بلده فتركه الرسول حتى سكن وغدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير وان بنت قليج ارسلان يجب على مثلك من الملوك الامتعاض لها ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله وقال للرسول إنّ نور الدين استند الى فعلك فأصلح الأمر بينهما وأنا معين على ما تحبونه جميعا ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما وعاد صلاح الدين الى الشام ونور الدين محمود الى ديار بكر وطلق ضرة بنت قليج ارسلان للأجل الّذي أجله للرسول والله تعالى أعلم.
مسير صلاح الدين الى بلاد ابن اليون
كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام وكان يعسكر معه وكان جريئا على صاحب القسطنطينية وملك وادقة والمصيصة وطرسوس من يد الروم وكانت بينهما من أجل ذلك حروب ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون الى رعي مواشيهم.
بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها وكان يأذن لهم فيدخلونها وغدر بهم في بعض السنين(5/344)
واستباحهم واستاق مواشيهم وبلغ الخبر الى صلاح الدين منصرفه من رعيان فقصد بلده ونزل النهر الأسود وبث الغارات في بلادهم واكتسحها وكان لابن اليون حصن وفيه ذخيرته فخشي عليه فقصد تخريبه وسابقه اليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث اليه ابن اليون بردّ ما أخذ من التركمان واطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه فأجابه الى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
غزوة صلاح الدين الى الكرك
كان البرنس ارناط صاحب الكرك من مردة الافرنج وشياطينهم وهو الّذي اختط مدينة الكرك وقلعتها ولم تكن هنالك واعتزم على غزو المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وسمع عز الدين فرخ شاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار الى الكرك سنة سبع وسبعين واكتسح نواحيه وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد الى الكرك فعاد فرخ شاه الى دمشق والله تعالى أعلم بغيبه.
مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب الى اليمن واليا عليها
قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين وأنه ولىّ على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها كرسيا لملكه ثم عاد الى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفا من حصار حلب فولاه على دمشق وسار الى مصر ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الاسكندرية وأقطعه إياها مضافة الى أعمال اليمن وكانت الأموال تحمل اليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين ولما بلغه خبر وفاته سار الى مصر واستخلف على دمشق عز الدين فرخ شاه ابن شاهنشاه وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبة بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع الى وطنه واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين وكان محشدا فسعى فيه عنده أنه احتجر(5/345)
أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في نعض الأيام صنيعا دعي اليه أعيان الدولة واختلف مواليه وخدامه الى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين انه هارب الى اليمن فتمت حيلتهم فقبض عليه ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعطى لأهل الدولة فأطلقه وأعاده الى منزلته فلما بلغ شمس الدين الى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلي وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه الى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ ثم مات قريبا فعاد حطان الى زبيد وأطاعه الناس وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان الى صلاح الدين أن يبعث بعض قرابته فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار الى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد وبعث الى حطان بالأمان فنزل اليه وأولاه الإحسان ثم طلب اللحاق بالشام فمنعه ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودّعه قبض عليه واستولى على ما معه ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به ويقال كان فيما أخذه سبعون حملا من الذهب ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها ولم يخلص الا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الإسلام والله تعالى أعلم.
دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين وغزوة الافرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر وبيروت
كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن ارتق وهو ابن عمّ قطب الدين أبي الغازي بن ارتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام ثم مات وملك البيرة بعده ابنه ومات نور الدين فصار الى طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره الى قلعة شميشاط وأقام بها وبعث العسكر الى البيرة وحاصروها وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين الى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه(5/346)
وشغل عنه بأمر الافرنج ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها الى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في ايالته ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرّم سنة ثمان وسبعين قاصدا الشام ومرّ بايلة وجمع الافرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك الى دمشق ومال على بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشويك وعاد الى دمشق منتصف صفر وكان الافرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخ شاه نائب دمشق اليها واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث الى صلاح الدين بفتحه فسرّ بذلك ثم أراح صلاح الدين بدمشق أياما وسار في ربيع الأوّل من السنة وقصد طبرية وخيم بالأردن واجتمعت الافرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخ شاه ابن أخيه الى بيسان فملكها عنوة واستباحها وأغار على الغور فأثخن فيها قتلا وسبيا وسار الافرنج من طبرية الى جبل كوكب وتقدّم صلاح الدين اليهم بعساكره فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقيّ الدين عمر وعز الدين فرخ شاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الافرنج قتالا شديدا ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين الى دمشق ثم سار الى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الاسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أيام ثم بلغه أنّ البحر قد قذف بدمياط مركبا للافرنج فيه جماعة منهم جاءوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت الى الجزيرة كما نذكره أن شاء الله تعالى.
مسير صلاح الدين الى الجزيرة واستيلاؤه على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل
كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الّذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستوليا في دولة مودود وبنيه وانتقل آخر الى اربل ومات بها وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين ويؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا الى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين الى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته فلما عبر الفرات عادوا الى الموصل وبعثوا حامية الى الرها وكاتب صلاح الدين(5/347)
ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها بالوعد والمغاربة ووعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد ووصل اليه فساروا الى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفرانيّ واشتدّ عليه القتال فاستأمن الى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الّذي بها على مال شرطه فأضافها صلاح الدين الى مظفر الدين مع حران وساروا الى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها الى الموصل وملكها صلاح الدين ثم سار الى قرقيسيا وماسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها وسار الى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياما ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزما على قصد الموصل وجاءه الخبر أنّ الافرنج أغاروا على نواحي دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعدّ للحصار وخلى نائبة في الاستعداد وبعث الى سنجار واربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال والسلاح والأموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدّم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد صاحب البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أوّل رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر وخرج بعض الرجال فنالوا منه ونصب منجنيقا فنصبوا عليه من البلد تسعة ثم خرجوا اليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لانه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم قد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح وتردّدت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين ردّ ما أخذه من بلادهم فأجاب على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع الى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضا ثم وصلت أيضا رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل وسار اليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر وبعث اليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مددا وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الّذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج(5/348)
وعسكره معه الى الموصل وملك صلاح الدين سنجار وولّى عليها سعد الدين بن معين الدين الّذي كان أبوه كامل بن طغركين بدمشق وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة وسار صلاح الدين الى نصيبين فشكا اليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار الى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم.
مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل
كان عز الدين قد أرسل الى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث اليه عدّة رسل شافعا في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث اليه مولاه آخرا سيف الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه الى ذلك وسوّفه رجاء أن يفتحها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضبا ولم يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط الى ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو قطب الدين ابن نجم الدين وسار اليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقيّ الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل الى رأس عين فافترق القوم وعاد كل الى بلده وقصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام ورجع والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
واقعة الافرنج في بحر السويس
كان البرنس ارناط صاحب الكرك قد أنشأ اسطولا مفصلا وحمل أجزاءه الى صاحب ايلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه بالمقاتلة وأقلعوا في البحر ففرقة أقاموا على حصن ايلة يحاصرونه وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار وطرق الناس منهم بلية لم يعرفوها لانه لم يعهد ببحر السويس افرنجيّ محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائبا عن أخيه صلاح الدين فعمر اسطولا وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الاساطيل بديار مصر فبدأ بأسطول الافرنج الّذي يحاصر ايلة فمزقهم كل ممزّق وبعد الظفر بهم اقلع في طلب الآخرين وانتهى الى عيذاب فلم يجدهم فرجع الى رابغ وأدركهم بساحل(5/349)
الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والاغارة على الحاج فلما أطلّ عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسنموا اليها واعتصموا بشعابها ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم الى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين الى مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.
وفاة فرخ شاه
ثم توفي عز الدين فرخ شاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه وخرج من دمشق غازيا الافرنج وطرقه المرض وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات الى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد ابن المقدم الى دمشق وجعله نائبا فيها واستمرّ لشأنه والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده.
استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا
قد تقدّم لنا مسير صلاح الدين الى ماردين وإقامته عليها أياما [1] من نواحيها ثم ارتحل عنها الى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكابسهم وكتب اليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل اليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرّحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل اليها ذخيرته فلم يلتفت الناس اليه وتعذر عليه أمره فبعث الى صلاح الدين يسأله الاعانة فأمر له بالدواب والرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيرا من موجودة ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها النفسه فأبى وقال ما
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 493: قد ذكرنا نزول صلاح الدين بجوزم تحت ماردين، فلم ير لطمعه وجها، وسار عنها الى آمد عن طريق البارعية.(5/350)
كنت لاعطي الأصل وأبخل بالفرع ودخل نور الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه الى صنيع صنعه لهم وقدّم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب
ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار الى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرّم سنة تسع وسبعين ثم سار الى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الّذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه وهو الّذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرّها بيده ويكون في طاعته فأجابه الى ذلك وحلف له وسار في خدمته وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار اسطول مصر فلقي في البحر مركبا فيها نحو ستمائة من الافرنج بالسلاح والأموال قاصدون الافرنج بالشام فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا الى مصر سالمين ومنها في البرّ أغابر الدارون جماعة من الافرنج ولحقهم المسلمون بايلة واتبعوهم الى العسيلة وعطش المسلمون فانزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا وقاتلوا الافرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا سالمين الى مصر والله أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم
كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من الشام غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبة مجاهد الدين قايمان اليها فملكها ثم طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار فأجابه الى ذلك وأخذ عز الدين سنجار وعاد الى الموصل وسار عماد الدين الى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح الدين وخشي أن يسير منها الى دمشق وكان بمصر فسار الى الشام وسار منها الى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها ثم سار الى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب ثم سار الى حلب وحاصرها في محرّم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الأخضر أياما ثم انتقل الى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال(5/351)
ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين وأرسل اليه في ذلك الأمر طومان الباروقي وكان يميل الى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور وينزل له عن حلب وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة الى هذه البلاد ودخل صلاح الدين حلب بعد ان شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد ولما خرج عماد الدين الى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد ولما ملك صلاح الدين حلب سار الى قلعة حارم وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وتردّدت الرسل بينهم وهو يمتنع وقد أرسل الى الافرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه واستأمنوا الى صلاح الدين فملك الحصن وولىّ عليه بعض خواصه وقطع تل خالد [1] الباروقي صاحب تل باشر وأمّا قلعة إعزاز فإنّ عماد الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار [2] وأقام بحلب الى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار الى دمشق والله تعالى أعلم.
غزوة بيسان
ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولىّ عليها ابنه الظاهر غازي ومعه الأمير سيف الدين تاوكج كافلا له لصغره وهو أكبر الأمراء الاسدية وسار الى دمشق فتجهز للغزو وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد الافرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الافرنج له فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا الى جبل وخندقوا عليهم وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا الى بلادهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 495: واقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي وهو صاحب تل باشر.
[2] واسمه في الكامل: سليمان بن جندر.(5/352)
غزو الكرك وولاية العادل على حلب
ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه الى ذلك وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصروه أياما وملكوا أرباضه ونصبوا عليها المجانيق ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أنّ الافرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقيّ الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل منعه الى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما اليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب الى دمشق ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد ان جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعا وراموا طمه فنضحوهم بالسهام ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها الى الخندق وأرسل أهل الحصن الى ملكهم يستمدّونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الافرنج وأوعبوا وساروا اليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى الى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم الى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ ومرّوا الى الكرك وعلم صلاح الدين أنّ الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار الى نابلس فخربها وحرقها وسار الى سنطية [1] وبها مشهد زكريا عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل الى جينين [2] فنهبها وخربها وسار الى دمشق بعد ان بث السرايا في كل ناحية ونهب كل ما مرّ به وامتلأت الايدي من الغنائم وعاد الى دمشق مظفرا والله تعالى أعلم.
حصار صلاح الدين الموصل
ثم سار صلاح الدين من دمشق الى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان وعبر الفرات وكان مظفر الدين كوكبري على كجك يستحثه للمسير الى الموصل في كل وقت وربما وعده
__________
[1] وهي سبسطية
[2] وهي جنين(5/353)
بخمسين ألف دينار إذا وصل فلما وصل الى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشي معيرة [1] أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها وسار في ربيع الأوّل ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبة وساروا كلهم مع صلاح الدين الى الموصل وانتهوا الى مدينة بلد فلقيه هنالك أمّ عز الدين وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظنا بأنه لا يردهنّ وسيما بنت نور الدين واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردّهنّ وساروا الى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا لردّ النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في اشارتهم وجاء زين الدين يوسف صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فانزلهما بالجانب الشرقي وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري الى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية الى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين أنّ نائبة بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه الى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وانه يستعين بها على أموره ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل اليها وكان أهل خلاط انما كاتبوه مكرا لأنّ شمس الدين البهلوان ابن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم بعد ان كان زوّج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة الى ملك خلاط فلما سار اليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب اربل وغيرهما وتقدّموا الى خلاط وتقدّم صاحب أذربيجان فنزل قريبا من خلاط وتردّدت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
استيلاء صلاح الدين على ميافارقين
ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي وملك ابنه طفلا صغيرا بعده وردّ أمرها الى شاهرين صاحب خلاط وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين وحاصرها من أوّل جمادى سنة احدى
__________
[1] وهي تصحيف عن معرة: بمعنى الأذى، الغرم، الجنابة. ومعرة الجيش: ان ينزلوا بقوم فيأكلوا من زرعهم شيئا بغير علم «قاموس»(5/354)
وثمانين وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأنّ برنيقش قد مال اليها في تسليم البلد ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوّج بناتك من أبنائي وتكون البلد لنا ووضع على برنيقش من أخبره بأنّ الخاتون مالت الى صلاح الدين وأنّ أهل خلاط كاتبوه وكان خبر أهل خلاط صحيحا فسقط في يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من اقطاع ومال وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد الى الموصل ومرّ بنصيبين وانتهى الى كفر أرمان واعتزم على أن يشتوا به ويقطع جميع ضياع الموصل ويحيى أعمالها ويكتسح غلاتها وجنح مجاهد الدين الى مصالحته وتردّدت الرسل في ذلك على أن يسلم اليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي وما وراء الزاب من الأعمال ثم طرقه المرض فعاد الى حران وأدركه الرسل بالإجابة الى ما طلب فانعقد هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين واشتدّ به المرض فقسم البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع وعاد الى دمشق في محرّم سنة اثنتين وثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله الى حمص ومرّ بحلب وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته أن حدث بصلاح الدين أمر وبلغ الى حمص فبعث الى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات ناصر الدين ليلة الأضحى ويقال دسّ عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه وهو ابن اثنتي عشرة سنة والله تعالى أعلم.
قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه
كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه اليها عند ما استدعى العادل منها كما مرّ فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا من ولده استقلالا وسعى اليه بذلك بعض بطانته فبعث ابنه عثمان العزيز الى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب ثم اقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر ثم بعث عن ابنه الأفضل وتقيّ الدين ابن أخيه فامتنع تقيّ الدين من الحضور واعتزم على المسير الى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه ولما وصل(5/355)
اقطعه حماة ومنبج والمعرّة وكفر طاب وجبل جوز وسائر أعمالها وقيل ان تقيّ الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرّك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعا فيهم وأمره بإخراج تقيّ الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة وأمر تقيّ الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين الى آخر الخبر والله تعالى أعلم.
اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره إياه والاغارة على عكا
كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوّج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل اليها فأقام عندها ومات ملك الافرنج بالشام وكان مجذوما كما مرّ وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص وقام بتدبيره لملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة الى الملك ثم مات الصغير فانتقل الملك الى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدّث به نفسه ثم أنّ الملكة تزوّجت ابن غتم من الافرنج القادمين من المغرب وتوّجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والدواوية واليارونة وأشهدتهم خروجها له عن الملك ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبيّ فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم وراسل صلاح الدين وسار الى ولايته وخلف له على مصره من أهل ملته وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الافرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين وثمانين وكان البرنس ارناط صاحب الكرك من أعظم الافرنج مكرا وأشدّهم ضررا وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الآمّين ثم مرّت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصرّ على غدرته فنذر أنه يقتله ان ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة واربل ومصر والشام وخرج من دمشق في محرّم سنة ثلاث وثمانين وانتهى الى رأس الماء وبلغه أنّ البرنس ارناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل عليّ وسار الى بصرى(5/356)
وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين وسار صلاح الدين الى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشويك فاكتسحوهما والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الافرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين ثم بعث صلاح الدين الى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث الى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الباروقي وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا اليهم وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الافرنج وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين ومرّوا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدّم بينه وبين صلاح الدين من الولاية وعظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم.
هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا
ولما انهزم الفداوية والإستبارية بصفورية ومرّ المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الّذي مع ابنه ومرّ بالكرك واعتزم على غزو بلاد الافرنج فاعترض عساكره وبلغه ان القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه وأنّ البطرك والقسس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوية والإستبارية أعيان الملة وتهدّدوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر إليهم فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجدّدوا الحلف والاجتماع وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم ثم رحل من الأقحوانة أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدّم إلى معسكر الإفرنج فلم يفارقوا خيامهم فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص وعمد إلى الصلح وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم واشتدّت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين ثم حمل القمص على(5/357)
ناحية تقيّ الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته واختلّ مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم نارا فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى فني أكثرهم ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم والمسلمون يكرّون عليهم مرّة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والإستبارية ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرّع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصا على الوفاء بنذره بعد أن عرّفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين وأمّا القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفا ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها وجمع أسرى الفداوية والاستبارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين دينارا مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الوقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أحجفتها السيول ومزقتها السباع ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرّة جمادى سنة ثلاث وثمانين وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخولهم فكانت أوّل جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيرا مما عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين ثم أقام صلاح الدين أياما حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم.
فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا
لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات(5/358)
الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيسارية وحيفا وسطورية وبعليا وشقيف [1] وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرّهم على أموالهم وبعث تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها وحاصرها وضيق عليها حتى استأمنوا فأمنهم وملكها ومرّ إلى صيدا ومرّ في طريقه بصرخد فملكها بعد قتال وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولى من السنة ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أنّ المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقرّوا ولا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها وكان صاحب جبيل أسير بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم.
وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها
كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة [2] لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس وبقيت صيدا وصور بدون حامية وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوّة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها وأنّ صور وعسقلان باقية لإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسي ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور
__________
[1] وفي الكامل 11 ص 540: في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا.
[2] كذا بياض بالأصل. وفي الكامل ج 11 ص 543 ولما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور فأقام بها، وهي أعظم بلاد الشام حصانة، وأشد امتناعا على من رامها.(5/359)
وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطا كثيرة من فلّ الحصون المفتتحة فجاءوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الإنفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره واستحلفهم على ذلك ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورمّ الأسوار واستبدّ بها والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح عسقلان وما جاورها
ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف همته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولأنّ عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر ونازلها أوائل جمادى الأخيرة واستدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما وأمرهما بالاذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك وأساءوا الردّ عليهما فاشتدّ في قتالهم ونصب المجانيق عليهم يردّد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق ويأخذ بالثار من المسلمين فلم يجيبوه ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة لما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوما من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم البطرون وكل ما كان للفداوية وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره.
فتح القدس
لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران [1] صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين وبعد لصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدّم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا
__________
[1] وفي الكامل ورد اسمه باليان بن بيرزان. (ج 11 ص 546) .(5/360)
به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوّأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحوّل إليه ونصب المجانيق عليها واشتدّ القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب لمعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم البلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين أبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أوّل الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة واستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان واستعطفه فأصرّ على الامتناع فتهدّده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره فحينئذ استشار صلاح الدين صحبه فجنحوا الى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين يوما فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوما مشهودا ورتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإنّ الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أنّ بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفا وعجز منهم ستة عشر ألفا وأخرج جميع الأمراء خلقا لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة واستوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوسا بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له وجاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الّذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيرا فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب وتسلق جماعة من(5/361)
المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض بالتكبير والعويل ولما خلا القدس من العدوّ أمر صلاح الدين بردّ مشاعره إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأوّل وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظة الإسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالا ثم أقام صلاح الدين بالمسجد للصلوات الخمس إماما وخطيبا وأمر بعمل المنبر له فتحدّثوا عنده بأنّ نور الدين محمودا اتخذ له منبرا منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى ثم أمر بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الّذي فوق الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتا ويبيعونها بالذهب وزنا بوزن فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه [1] ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القرّاء ووفر لهم الجرايات وتقدّم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكازمه رحمه الله تعالى وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم.
حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك
لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياما فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت كالجزيرة وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوبا بين ابنه الأفضل وابنه الظاهر وأخيه
__________
[1] كذا بالأصل والعبارة مرتبكة، وفي الكامل ج 11 ص 552: وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة فغيّبوها فأمر بكشفها وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة. ويجعل في مذبحها. فخاف بعض ملوكهم أن تغني فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها.(5/362)
العادل وابن أخيه تقيّ الدين ونصب عليها المجانيق والعرادات وكان الإفرنج يركبون في الشواني والحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنوّ إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع الإفرنج وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها برّا وبحرا ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم وردّ صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب ألقوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها واستدعوا الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم ولما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فتردّدوا وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوّال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع وعادت عساكر الشرق والشام ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه وردّ أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين وكان صلاح الدين عند ما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكرا لحصار صور فشدّدوا حصارها وقطعوا عنها الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها وكان أيضا صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكرا لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها وهي مطلة على الأردن وهي للإستبارية وجهز عسكرا لحصار صفد وهي للفداوية مطلة على طبرية ولجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وارتفع منها الفساد فلما كان آخر ليلة من شوّال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم وبلغ ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته ثم جهز عسكرا على صور مع الأمير قايماز النجمي وارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرّم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وغير صفد والكرك فلما امتنعت عليه جهز العسكر لحصارها مع قايماز النجمي ورحل عنها في ربيع الأوّل إلى دمشق ووافته رسل أرسلان [1] وفرح الناس بقدومه والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 6: وأتاه رسل الملك قليج أرسلان ونزل ارسلان وغيرها يهنونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب الى دمشق ففرح الناس بقدومه وكتب الى البلاد جميعا باجتماع العساكر بها.
وأقام بها الى أن سار الى الساحل بالبلاد الشامية.(5/363)
غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام وما فتحه من حصونها وصلحه آخرا مع صاحب انطاكية
لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال انطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف فاجتمعوا إليه وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجردا إلى القلاع بنواحي انطاكية فنقص طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفي نفسه من ارتيادها وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة وكان من يوم استيلاء الافرنج على جبلة عند صاحب انطاكية حاكما على جميع المسلمين فيها ومتوليا أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار أوّل جمادى ونزل بطرسوس وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا المدينة فخربوها واستباحوها وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدّمهم الّذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين وألقى حجارته في البحر وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للإستبارية ولا يرام لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمرّ به الواحد فالواحد.
فتح جبلة
وكان وصل أسطول من صاحب صقلّيّة مددا للإفرنج في تلك السواحل في ستين قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب ووقفوا قبالتها ينضحون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سورا من جهة البحر من المتارس ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضي وملكها صلاح الدين لحينه ورفع أعلام الإسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضي على الأمان واستمرّ منهم جماعة في رهن القاضي والمسلمين عند صاحب أنطاكية حتى أطلقهم وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين وهو بجبل ما(5/364)
بين جبلة وحماة وكان الطريق عليه بينهما صعبا ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت واستناب بجبلة سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز وسار عنها للاذقية والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.
فتح اللاذقية
ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقية فوصلها آخر جمادى الاولى وامتنع حاميتها بحصنين لها في أعلى الجبل وملك المسلمون المدينة وحصروا الإفرنج في القلعتين وحفروا تحت الأسوار وأيقن الإفرنج بالهلكة ودخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه وأمنهم صلاح الدين ورفعوا أعلام الإسلام في الحصنين وخرب المسلمون المدينة وكانت مبانيها في غاية الوثاقة والضخامة وأقطعها لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة والتحصين وكان عظيم الهمة في ذلك وكان أسطول صقلّيّة في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها وجاء مقدّمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية وعرّض في كلامه بالتهديد بامداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين باستهانة أمر الإفرنج وهدّده فانصرف إلى أصحابه ورحل صلاح الدين إلى صهيون والله تعالى أعلم.
فتح صهيون
ولما فرغ صلاح الدين من فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهي على جبل صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق ويتصل بالجبل من جهة الشمال وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها وقدّم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي ونصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسيّ وصابروا قليلا ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحد أسوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين وغنموا جميع ما كان في البلد من الدواب والبقر والذخائر ولجأ الحامية إلى القلعة وقاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس وملك المسلمون الحصن وولي عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه وافترق المسلمون في تلك النواحي(5/365)
فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعا وهيئوا اليها طريقا على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج والإسماعيلية والله تعالى أعلم.
فتح بكاس والشغر
ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس وقد فارقها الإفرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس وحاصر قلعة الشغر والطريق منها مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم ونصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب انطاكية وكان الحصن من إيالته فاستمدّوه وإلا أعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب فلما قعد عن نصرهم فاستأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم وأخذ رهنهم ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف جمادى من السنة والله تعالى أعلم.
فتح سرمينية
كان صلاح الدين عند اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازيا صاحب حلب إلى سرمينية وحاصرها واستنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة أعطوها وهدم الحصن وكان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من الأسارى كانوا بهذا الحصن وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر وجميعها من أعمال انطاكية والله تعالى أعلم.
فتح برزية
ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية قبالة افامية وتقاسمها في أعمالها وبينهما بحيرة من ماء العاصي والعيون التي تجري وكانوا أشدّ شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من جمادى الأخيرة وهي متعذرة المصعد من الشمال والجنوب وصعبته من الشرق وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين ونصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة وعلوّها فرجع إلى المزاحفة وقسم عساكره على أمرائها وجعل القتال بينهم نوبا فقاتلهم أوّلا عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار وأصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن وكانوا(5/366)
يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شيء فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالا شديدا وصلاح الدين وتقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم وجاء أهل نوبة عماد الدين على أثرهم وحمي الوطيس وردّوا الإفرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوا ودخل المسلمون معهم وكان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن وقد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء الإفرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود فلما سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج وظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد وأسرهم المسلمون واستباحوهم وأحرقوا البلد وأسروا صاحبها وأهله وولده وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب انطاكية بعثهم إليها لأن زوجة صاحب أنطاكية كانت تراسل صلاح الدين بالأخبار وتهاديه فرعي لها ذلك والله تعالى ولي التوفيق.
فتح دربساك
ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر العاصي قرب انطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهي معاقل الفداوية التي يلجئون إلى الاعتصام بها ونصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها ثم هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجا من أسفله فسقط ثم باكروا الزحف من الغد وصابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب انطاكية فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط وخرجوا إلى انطاكية وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة والله تعالى أعلم.
فتح بغراس
ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعدّدها وقربها من انطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين انطاكية فحاصرها ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوّها وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل وبينما هم في ذلك إذ جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل دربساك وتسلم القلعة بما فيها وخربها فجددها ابن اليون صاحب الأرمن وحصنها وصارت في إيالته والله أعلم.(5/367)
صلح انطاكية
ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب انطاكية وأرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده وتحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس ويستعدّوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة وبعث إليه من استخلفه وأطلق الأسرى وكان سمند في هذا الوقت عظيم الإفرنج متسع المملكة وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص واستخلف فيها ابنه الأكبر وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة وانطلق ملوك الأطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم ثم رحل إلى دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم قد عسكر معه وشهد فتوجه وكان يتيمن بصحبته ويتبرك برؤيته ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته ودخل دمشق أوّل رمضان من السنة وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال هذه الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بدّ من البدار إلى فتحها والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح الكرك
كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشدّ العادل حصارها حتى جهدوا وفنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم وسلموا المعلقة فملكها وملك الحصون التي حواليها وأعظمها الشويك وأمنت تلك الناحية واتصلت إيالة المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم.
فتح صفد
لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد فنزل عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأوّل فخافوا من نفادها فاستأمنوا فأمنهم وملكها ولحقوا بمدينة صور والله تعالى أعلم
.(5/368)
فتح كوكب
لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة وكان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم مختفون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد وكان فيهم مقدّمان من الإستبارية فحملهما إلى صلاح الدين على صفد فأحضرهما للقتل على عادته في الفداوية والإستبارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما ولما فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وأرسل إليهم بالأمان فاصرّوا على الامتناع عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة ثم عافه المطر عن القتال وطال مقامه فلما انقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجا فسقط فارتاعوا واستأمنوا وملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة ولحق الإفرنج بصور واجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد واتصل المسلمون في الساحل من أيلة إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور ولما فرغ صلاح الدين من صفد وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى ثم سار إلى عكا فأقام بها إلى انسلاخ الشتاء والله تعالى أعلم.
فتح الشقيف
ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصره الشقيف وكان لأرناط صاحب صيدا وهو من أعظم الناس مكرا ودهاء فلما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل وطلب المهلة إلى جمادى الأخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور ويسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده وانقضت مدّة الهدنة بينه وبين سمند صاحب أنطاكية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب انطاكية ثم بلغه اجتماع الإفرنج بصور عند المركيش وان الإمداد وأفتهم من أهل ملتهم وراء البحر وان ملك الإفرنج بالشام الّذي أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش ووصل يده به واجتمعوا في أمم لا تحصى وخشي أن يتقدّم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة فأقام بمكانه فلما انقضى الأجل تقدّم إلى الشقيف واستدعى أرناط فجاء واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الإمهال مرّة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس(5/369)
بها وتقدّم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فغلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم وقتلوا آخرين وقتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس وردّوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور وجاء صلاح الدين بعد انقضاء الوقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحدا من الإفرنج فينتقم منهم وركب في بعض الأيام ليشارف معسكر الإفرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى العدوّ وبعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا ورآهم الإفرنج فظنوا أنّ وراءهم كمينا فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم وأناموهم جميعا وذلك تاسع جمادى الاولى من السنة ثم انحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل وعزم السلطان على حصارهم واجتمع إليه الناس ثم عاد الإفرنج إلى صور وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا ويرجع إلى مخيمه ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدّون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا ووعدهم ثامن جمادى الأخيرة يوافونه من ناحيتهم للإغارة عليهم وأكمن لهم في الأودية والشعاب من سائر النواحي واختار جماعة من فرسان عسكره وتقدّم إليهم بأن يتعرّضوا للإفرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا الإفرنج وأنفوا من الاستطراد وطال على الكمناء الانتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدّة الحرب فانهزم المسلمون ووقع التمحيص وكان أربعة في الكمين من أمراء طيِّئ فعدلوا عن طريق أصحابهم وسلكوا الوادي وتبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين ورآهم الإفرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم والله تعالى أعلم.
محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا والحروب عليها
كانت صور كما قدّمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصنا على الأمان لحق أهلها بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج وأموال جمة ولما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزنا على البيت المقدّس وارتحل بطرك من القدس وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتي يجدن القوّة على الحرب ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه وبذلوا الأموال لهم وجاء الإفرنج من كل(5/370)
مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والأقوات والأسلحة متداركة لهم في كل وقت واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم تحاذيهم في البحر ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب وكان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقا آخر ووافاهم على عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق ونزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر بلاد الجزيرة وجاء تقي الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوكبري من حران والرها وكان أمداد المسلمين تصل في البرّ وإمداد الإفرنج في البحر وهم محصورون في صور محاصرين وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة واقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوما بكاملة وبات الناس على تعبية ثم صبحهم بالقتال ونزل الصبر وحمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم واتصل بالبلد فدخلها المسلمون وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء وبعث إليهم الأمير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر أمرائه من الأكراد الخطية من أربل ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقا يمتنعون به ومنعوهم القتال يومهم وأقاموا كذلك ومع السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاءوا برءوسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم والله تعالى أعلم.
الواقعة على عكا
كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر وبلغ الخبر الإفرنج فأرادوا معاجلته قبل وصولهم وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل انطاكية وسمند من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة تقابل صور ومسلحة بدمياط والإسكندرية واعتزم الإفرنج على مهاجمتهم بالقتال ولم يشعروا بهم وصحبوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبأ عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع واستشهد جماعة منهم الأمير علي بن مردان والظهير أخو الفقيه عيسى والي(5/371)
القدس والحاجب خليل الهكاري وغيرهم وقصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وانهزم الذين كانوا حوالي الخيمة ولم تسقط وانقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم وحملت ميسرة المسلمين عليهم فاحجمتهم وراء الخنادق وعادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج وصلاح الدين قد عاد من إتباع أصحابه يردّهم للقتال وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا مقدّم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى وبلغت عدّة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر واما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الأردنّ ورجع ومنهم من بلغ دمشق واتصل قتال المسلمين للإفرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم ثم جاءهم الصريخ بنهب أموالهم وكان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها أيدي الأوباش ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج وأقاموا في ذلك يوما وليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين ونفس بذلك عن الإفرنج بعض الشيء والله تعالى أعلم.
رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا
ولما انقضت هذه الواقعة وامتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء وأنتن وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالانتقال عسى الإفرنج ينتقلون وان أقاموا عدنا إليهم وحمله الأطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة وتقدّم إلى أهل عكا بحياطتها وأعلمهم سبب رحيله فلما ارتحل اشتدّ الإفرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع اسطولهم في البحر وحفروا خندقا على معسكرهم وأداروا عليهم سورا من ترابه حصنا من صلاح الدين أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك لمرضه فتمّ للإفرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون إليهم في كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم.
معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا
ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوّال في عساكر مصر ومعه الجم الغفير من(5/372)
المقاتلة والأصناف الكثيرة من آلات الحصار ووصل على أثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ وكبس مركبا فغنم ما فيه ودخل به إلى عكا وبريء صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلى انسلاخ الشتاء وسمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون وقتل بين الفريقين خلق وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماة فتقدّم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الإفرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين وكان الإفرنج مدّة مقامهم على عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب ارتفاع كل برج ستون ذراعا وفيه خمس طبقات وغشوها بالجلود وطلوها بالأدوية التي لا تعلق النار بها وشحنوها بالمقاتلة ودنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأوّل سنة ست وثمانين وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه المقاتلة وشرع الإفرنج في طم الخندق وبعث أهل عكا سابحا في البحر يصف لهم حالهم فركب في عساكره واشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الأبراج ورموها بالنفط فلم يؤثر فيها وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال أرم بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فحرد عليه ثم وافق ورمى به في قدر ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوءة نارا فاضطرمت النار واحترق البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني والثالث كذلك وفرح أهل البلد وتخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالإحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل وقال إنما فعلته للَّه ولا أريد الجزاء الا منه ثم بعث صلاح الدين الى ملوك الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب أربل وكان كلّ واحد منهم إذا وصل يتقدّم بعسكر فيقاتلون الإفرنج ثم يضربون أبنيتهم وجاء الخبر بوصول الأسطول من مصر فجهز الإفرنج أسطولا لقتاله وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين برا وبحرا ودخل الأسطول إلى مرسى عكا سالما والله تعالى أعلم يغيبه.
وصول ملك الألمان إلى الشام ومهلكه
هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدّة وهم موطنون(5/373)
بجزيرة إنكلطيرة [1] في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط وهم حديثو عهد بالنصرانية ولما سار القسس والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق وقصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه وكتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الأقوات وعبروا خليج القسطنطينية ومرّوا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد والجوع ومرّوا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان قد غلب عليه أولاده وافترقوا في النواحي فخرج ليصدّهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن لهم واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الأمراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الأرمن وصاحبها كاقولي بن حطفاي بن اليون [2] فأمدهم بالأزواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى أنطاكية ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق وملك بعده ابنه ولما بلغوا انطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه وبعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفا وأصابهم الموتان وحسن إليهم صاحب انطاكية المسير إلى الإفرنج على عكا فساروا على جبلة واللاذقية ومرّوا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقا وبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد وكان الملك قليج ارسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم وافتراق أولاده واستبدادهم عليه وأمّا صلاح الدين فإنه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا ومال صلاح الدين إلى هذا الرأي وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم والله تعالى وليّ التوفيق.
واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا
ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست وثمانين وخرجوا من
__________
[1] هي انكلترا.
[2] وفي الكامل ج 12 ص 490: وصاحبها لافون بن إصطفانة بن ليون.(5/374)
خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كشفهم الإفرنج عن الخيام وملكوها ثم كرّ عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفا وكانت عساكر الموصل قريبا من عسكر مصر ومقدّمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت ميرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال وبلغه الخبر بموت الألمان وما أصاب قومه من الشتاب فسر المسلمون بذلك وظنوا وهن الإفرنج به ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكندهري ابن أخي الاقرسيس [1] لأبيه وابن أخي ملك انكلطيرة لأمّه ففرّق في الإفرنج أموالا وجند لهم أجنادا ووعدهم بوصول الإمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال ونتن المكان من جيف القتلى ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق وذبابات فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعا من الإفرنج فلم يتمكن من ذلك ولا من الستائر عليها لأنّ أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلا عاليا من التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الأحوال وقلت الميرة وأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا وبعث إلى بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركبا ونصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى دخلوا إلى المرسي وجاءت بعد الميرة من الإسكندرية ثم جاءت ملكة من الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر الإسكندرية هي وجميع ما معها ثم كتب البابا كبير الملّة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد ويخبرهم بوصول الإمداد وأنه راسل ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فأزدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة المسلمين وجمروا عسكرا لحصار عكا وارتحلوا حادي عشر شوّال من السنة فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى [2] على ثلاثة فراسخ من عكا ولقي الإفرنج على التعبية وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر خضر في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر ومن انضمّ إليهم وعماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 52: أتت الفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود البحرية يقال له الكندهري ابن أخي ملك افرنسيس لأبيه وابن أخي ملك انكلتار لأمه.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 52: فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ من عكا.(5/375)
صاحب جزيرة ابن عمر في المسيرة وصلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه فلما وصل الإفرنج وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم وباتوا ليلتهم وعادوا من الغد إلى معسكرهم فاتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كلّ ناحية وأحجروهم وراء خنادقهم ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوّال بعد أن أكمنوا لهم عسكرا فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد واشتدّ الغلاء على الإفرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة ومن صيدا على يد نائبها سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها ثم اشتدّ الحال عليهم عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء ثم هجم الشتاء وأرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفا عليها على عادتهم في صور في فصل الشتاء ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون ما نزل بهم وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فشكى من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها بدلا منهم وأمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وبعث العساكر إليها شيئا فشيئا كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميرا بدلا من ستين كانوا وأهملوا أهل الرجل وتعينت دواوين صاحب صلاح الدين وكانوا نصارى على الجند في إثباتهم وإطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الإفرنج بعد انحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسلان مقدّم الأسدية وابن جاولي وغيرهم وكان دخولهم عكا أوّل سنة سبع وثمانين والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة زين الدين صاحب إربل وولاية أخيه كوكبري
كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له إربل كما مرّ لأبيه وحران والرها لأخيه مظفر الدين كوكبري وكان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض وتوفي في ثامن عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير من أمرائه وبعث إلى صلاح الدين يطلب إربل وينزل عن حران والرها فأجابه وأقطعه إياهما وأضاف إليهما شهرزور وأعمالها ودار بند العرابلي(5/376)
وهي قفجاق وكاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفا من صلاح الدين مع أنّ مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مرّ ثم أطلقه وولاه نائبة وجعل بعض غلمانه عينا عليه فكان يناقضه في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها ولما نزل مظفر الدين عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافارقين بديار بكر وحماة وأعمالها بالشام وتقدّم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوّى بهم على الإفرنج فسار تقيّ الدين إليها وقرّر أمورها ثم انتهى إلى ميافارقين وتجدّد له طمع فيما يحاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر وسار إليه سيف الدين بكتمر صاحب خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقيّ الدين ووطئ بلاده وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك فلما انهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقيّ الدين محاصر له فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه فعاد عنها إلى ملازكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له وضرب لهم أجلا في تسليم البلد ثم مرض ومات قبل ذلك الأجل بيومين وحمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها واستفحلت دولة بكتمر في خلاط والله تعالى أعلم.
وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا
ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا وأوّل من وصل منهم الملك ملك إفرنسة وهو ذو نصب فيهم وملكه ليس بالقوى هكذا قال ابن الأثير وعنى أنه كان مستفحلا في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك الإفرنج وهو في ذلك العصر أشدّ من كانوا قوّة واستفحالا فوصل ثاني عشر ربيع الأوّل سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة والسلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه وولي حرب المسلمين فيها وكان صلاح الدين على معمر عمر قريبا من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد وتقدّم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب والشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضا فبعثها ولقيت خمسة مراكب في البحر وكان ملك الإنكلطيرة أقدمها وأقام على جزيرة قبرص طامعا في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها ونفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني وملئوا بها مرسى عكا وواصل الإفرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى وتحوّل صلاح(5/377)
الدين لمعسكره قريبا منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد ثم فرغ ملك إنكلطيرة من جزيرة قبرص وملكها وعزل صاحبها وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركبا مشحونة بالرجال والأموال ووصل منتصف رجب ولقي في طريقه مركبا جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة مقاتل فقاتله فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدّمهم وهو يعقوب الحلي غلام ابن شفنين [1] فحرق المركب خوفا من أن يظفر الإفرنج برجاله وذخائره فغرق ثم عمل الإفرنج ذبابات وكباشا وزحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة فيها وضاق حال أهل عكا.
استيلاء الإفرنج على عكا
ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم يجبه وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا ثم هرب من الأمراء عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الأرجاني في جماعة منهم ولحقوا بالعساكر فازداد أهل عكا وهنا وبعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد ويعطيهم الصليب الّذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدوّ حملة مستميتين ويجيء المسلمون من وراء العدوّ فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد ورفع المسلمون أعلامهم وأرسل المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب ويعطي للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدّة للمال والأسرى شهرين وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهنا بزعمهم في المال والأسرى والصليب ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار وبعث نائبا يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفا من غدر أصحابه وقال ملوكهم إذا سلمتم المال والأسرى والصليب تعطونا رهنا في بقية المال ونطلق أصحابكم وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن ويحلفوا فامتنعوا أيضا وقالوا
__________
[1] هو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شفتين.(5/378)
ترسلون المائة ألف دينار والأسرى والصليب فنطلق من نراه ونبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم وأنهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الأمراء والأعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شيء ولما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد في احتفال وركب المسلمون فشدّوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم وتمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين وتمسك بالمال الّذي جمعه لغيرها من المصالح والله تعالى أعلم.
تخريب صلاح الدين عسقلان
ولما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك إنكلطيرة وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور ثم سار الإفرنج مستهل شعبان لقصد عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه ونادى صلاح الدين باتباعهم مع ابنه الأفضل وسيف الدين أبي زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم ويتخطفونهم من كلّ ناحية ففتكوا فيهم بالقتل والأسر وبعث الأفضل إلى أبيه يستمدّه فلم يحد العساكر مستعدّة وسار ملك إنكلطيرة في ساقة الإفرنج فحملهم وانتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم ويقتلون من ظفروا به منهم وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم وباتوا بها مثاورين وأختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا وساروا من الغد إلى أرسوف وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر فحينئذ استمات الإفرنج وحملوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم وانفرج ما كانوا فيه من الضيق المذكور وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها وكان صلاح الدين قد سار من مكان الهزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله واعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا نخشى أن تزاحمنا الافرنج عليها ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا ويملكوها آخرا ويقووا بما فيها من الذخائر والأسلحة فندبهم إلى المسير إليها وحمايتها من الإفرنج فلجوا في الامتناع من ذلك فسار وترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الإفرنج ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وبقي أثرها وهلك فيها من الأموال والذخائر ما لا يحصى فلما بلغ الإفرنج ذلك أقاموا بيافا وبعث المركيش إلى ملك إنكلطيرة يعذله حيث لم يناجز(5/379)
صلاح الدين على عسقلان ويمنعه من تخريبها فما خربها حتى عجز عن حمايتها ثم رحل صلاح الدين من عسقلان ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها ثم سار إلى القدس من شدّة البرد والمطر لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الاستعداد للحصار وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم للإراحة وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان وأقام الإفرنج بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون وخيم به منتصف رمضان وتردّد الرسل بين ملك إنكلطيرة وبين العادل على أن يزوّجه ملك إنكلطيرة أخته ويكون القدس وبلاد المسلمين بالساحل للعادل وعكا وبلاد الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية وأجاب صلاح الدين إلى ذلك ومنع الأقسة والرهبان أخت ملك إنكلطيرة من ذلك ونكروا عليها فلم يتم وإنما كان ملك إنكلطيرة يخادع بذلك ثم اعتزم الإفرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة وسار صلاح الدين إلى القدس وقدّم عليه عسكر مصر مع أبي الهيجاء السمين فقويت به نفوس المسلمين وسار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة والمسلمون يحاذونهم وكانت بينهم وقعات أسروا في واحد منها نيفا وخمسين من مقاتلة الإفرنج واهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس ورمّ ما ثلم منها وضبط المكان الّذي ملك القدس منه وسدّ فروجه وأمر بحفر الخندق خارج الفصيل وقسم ولاية هذه الأعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة للبنيان وكان صلاح الدين يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على مركوبة فيقتدي به العسكر ثم إنّ الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهده بالرملة وسأل ملك انكلطيرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له ورأى الوادي محيطا بها إلا قليلا من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها لأنا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى وأن افترقنا على جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين ولم تصل الأخرى لإنجادهم خوفا من المسلمين على معسكرهم وإن تركوا من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة هذا إلى ما يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه وارتحلوا عائدين إلى الرملة ثم ارتحلوا في محرّم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها وسار ملك إنكلطيرة إلى مسلح المسلمين فواقعوهم وجرت بينهم حروب شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة وقطع الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم.(5/380)
مقتل المركيش وملك الكندهري مكانه
ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدّم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك إنكلطيرة والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك إنكلطيرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرّغ لهم صلاح الدين وبعث رجلين لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وابن بازران صاحب [1] وأقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى أنس بهما المركيش ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجأ أحدهما إلى كنيسة واختفى فيها وحمل إليها المركيش لشدّة جراحة فأجهز عليه ذلك الباطني وقتله ونسب ذلك إلى ملك إنكلطيرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج بالشام ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك إفرنسة وابن أخي ملك إنكلطيرة من أبيه وتزوّج بالملكة في ليلته وبنى بها وملك عكا وسائر البلاد بعد عود ملك إنكلطيرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح ولما رحل ملك إنكلطيرة إلى بلاده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين واستماله للصلح والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم.
مسير الإفرنج إلى القدس
ولما قدم صلاح الدين القدس وكان قد بلغه مهلك تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وأن ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهي حران والرها وسميساط وميافارقين وجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين لصغره وطلب منه ابنه الأفضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فأجابه الى ذلك وأمره أن يسير إليها وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار والجزيرة واربل وسار لإنجاده بالعساكر وعلم ناصر الدين أنه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده ما كان لأبيه بالشام فقط وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد ابنه الأفضل فلحق
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 79: وأتصل بصاحب صيدا وابن بارزان صاحب رملة وكانا مع المركيس بصور.(5/381)
بالأفضل بحلب وأعاده وعبر الفرات وتسلم البلاد من ناصر الدين بن تقيّ الدين وأنزل بها عماله واستصحبه وساير العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس ولما بلغ الإفرنج أنّ صلاح الدين بعث ابنه الأفضل وأخاه العادل وفرّق العساكر عليهما ولم يبق معه بالقدس إلا بعض الخاصة فطمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إليه ومقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذوه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا ونجا فلهم الى جبل الخليل وساروا الى الداروم فخربوه ثم ساروا إلى القدس وانتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادى الاولى من سنة ثمان وثمانين واستعدّ صلاح الدين للحصار وفرّق أبراج السور على أمرائه وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن منازلتهم بيافا وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين وبلغهم أنّ العساكر الشرقية التي مع العادل والأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون فلم يبرح الافرنج من عكا واجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى يافا فحاصرها وملكها عنوة في عشري رجب من السنة ثم حاصر القلعة بقية يومه وأشرفوا على فتحها وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه وجاءهم ملك انكلطيرة ليلا وتبعه مدد عكا وبرز من الغد فلم يتقدّم إليه أحد من المسلمين ثم نزل بين السماطين وجلس للأكل وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدّم أخ المشطوب وكان يلقب بالجناح وقال لصلاح الدين نحن نتقدّم للقتال ومماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه الأفضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر مآل أمره مع الإفرنج وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم.
الصلح بين صلاح الدين والإفرنج ومسير ملك إنكلطيرة إلى بلاده
كان ملك انكلطيرة إلى هذه المدّة قد طال مغيبه عن بلاده ويئس من بلاد الساحل لأنّ المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح وظن صلاح الدين أنّ ذلك مكر فلم يجبه وطلب الحرب فألح ملك إنكلطيرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان وغزة والداروم والرملة وبعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في(5/382)
ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو وسائر الأمراء لما حدث عند العسكر من الضجر ونفاد النفقات وهلاك الدواب والأسلحة وما بلغهم أنّ ملك إنكلطيرة عائد إلى بلاده وان لم تقع الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل فلما وعي ذلك صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الإفرنج في عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدّة أربعة وأربعين شهرا فتحالفوا على ذلك وأذن صلاح الدين للإفرنج في زيارة القدس وارتحل ملك انكلطيرة في البحر عائدا إلى بلده وأقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكا على الإفرنج بسواحل الشام وتزوّج الملكة التي كانت تملكهم قبله وقبل صلاح الدين كما مرّ وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره وأدخل كنيسة صهيون في البلد وكانت خارج السور واختط المدارس والربط والمارستان ووقف عليها الأوقاف واعتزم على الإحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوّال واستخلف عليه الأمير جرديك من موالي نور الدين ومرّ بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت ولما انتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب انطاكية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوّال وسرّ الناس بقدومه ووهن العدوّ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده
ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق وقد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم وما عقد من الهدنة فأراح قليلا ثم اعتزم على احداث الغزو فاستشار ابنه الأفضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه إياها إذا ملكها وأشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان لسهولة أمرها واعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم فقال لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي وبعض العسكر وأذهب أنا إلى بلاد الروم فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان ثم إلى بلاد العجم وأمره بالمسير إلى الكرك وهي من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه فسار إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى وكان معه بدمشق ابنه الأفضل نور الدين والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبكّ وصرخد وبصرى وبانياس وشوش وجميع الأعمال إلى الداروم وكان بمصر ابنه العزيز عثمان فاستولى عليها وكان بحلب ابنه الظاهر غازي فاستولى عليها وعلى أعمالها مثل حارم وتل باشر وإعزاز(5/383)
وبرزية ودربساك وغيرها وأطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شيركوه وله مع حماة سلمية والمعرة ومنبج وابن محمد بن شيركوه وله مع الرحبة حمص وتدمر وببعلبكّ بهرام شاه بن فرخ شاه بن شاهنشاه ولقبه الأمجد وببصرى الظافر بن صلاح الدين ولقبه الأمجد مع أخيه الأفضل وشيرز سابق الدين عثمان ابن الداية وبالكرك والشويك الملك العادل وبلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك واستدعاه الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوّفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه وأوهمه الرسول إن لم يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه فحينئذ ارتاب العادل وسار إلى الأفضل بدمشق فتلقاه بالميرة وجهز له العساكر لمدافعة عز الدين صاحب الموصل عن بلاد الجزيرة وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه وعبر بها الفرات وأقام بنواحي الرها وكان عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها وسائرها ليرتجعها من يده ومجاهد الدين قايماز أتابك دولته يثنيه عن ذلك ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه وبينما هو في ذلك إذ جاءت الأخبار بأنّ العادل بحران ثم وافاهم كتابه بأنّ الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين وأطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم وجاء إليه أخوه على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل فمات أوّل رجب من السنة واستقرّت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق وما استقرّ بينهم في الولايات
كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقرّ بمصر كما ذكرناه وكان موالي أبيه منحرفين عن الأفضل ورؤساؤهم يومئذ جهاركس وقراجا وقد استقرّ بهم عدوّ الأفضل والأكراد وموالي شيركوه شيعة له فكان العدوّ يعدون العزيز بهؤلاء الشيع ويخوّفونه من أخيه الأفضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الأفضل وهو بأعماله بالجزيرة وسار لعمه العادل بنفسه وسار معه الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة وشيركوه(5/384)
ابن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعساكر الموصل من قبل عز الدين مسعود بن مودود وساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده فامتنع على العزيز مرامه وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال فلسطين للعزيز وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وتبقى دمشق وطبرية والغور للأفضل وأن يستقر العادل بمصر مدبرا دولة العزيز على إقطاعه الأوّل وانعقد الصلح على ذلك ورجع العزيز إلى مصر وعاد كل إلى بلده والله تعالى أعلم.
حصار العزيز ثانيا دمشق وهزيمته
ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى أغرائه بأخيه الأفضل فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى وتسعين وسار الأفضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجدا لهما وعاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها واتفقا على أن تكون مصر للأفضل ودمشق للعادل ووصل العزيز إلى قرب دمشق وكان الأكراد وموالي شيركوه منحرفين عنه كما قدّمناه وشيعة للأفضل ومقدّمها سيف الدين أبو ركوش من الموالي وأبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز وواعداه الهزيمة عنه فخرجا في العساكر وانحاز إليهما الموالي والأكراد وانهزم العزيز إلى مصر وبعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز وساروا في إتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الأفضل فارتاب العادل وخشي أن لا يفي له الأفضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبات وأن ينزل حامية ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالي أبيه وأراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضا وقال له إن أخذت مصر عنوة انخرقت الهيبة وطمع فيها الأعداء والمطاولة أولى ودس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل وكان مطاعا فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما وعقد الصلح بينهم على أن يكون للأفضل القدس وفلسطين وطبرية والأردن مضافة إلى دمشق ويكون للعادل كما كان القديم ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره وتحالفوا على ذلك وعاد الأفضل إلى دمشق وأقام العادل عند العزيز بمصر انتهى والله أعلم.
استيلاء العادل على دمشق
ثم أنّ العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها إليه وكان الظاهر(5/385)
صاحب حلب يعذل الأفضل في موالاة عمه العادل ويحرضه على أبعاده فيلج في ذلك ثم أنّ العادل والعزيز ساروا من مصر وحاصروا دمشق واستمالوا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق الأفضل به وإحسانه إليه ففتح لهم الباب الشرقي عشيّ السابع والعشرين من رجب سنة اثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق ووقف العزيز بالميدان الأخضر وخرج إليه أخوه الأفضل ثم دخل الأفضل دار شيركوه وأظهروا مصالحة الأفضل خشية من جموعه وأعادوه إلى القلعة وأقاموا بظاهر البلد والأفضل يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق وتسليم أعمالها وأعطوه قلعة صرخد وملك العزيز القلعة ونقل للعادل أنّ العزيز يريد أن يتردّد إلى دمشق فجاء إليه وحمله على تسليم القلعة فسلمها وخرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به وسار منه إلى صرخد وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.
فتح العادل يافا من الإفرنج واستيلاء الإفرنج على بيروت وحصارهم تبنين
ولما توفي صلاح الدين وملك أولاده بعده جدّد العزيز الهدنة مع الكندهري ملك الإفرنج كما عقد أبوه معه وكان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشواني للإغارة على الإفرنج وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق والعزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأمدّوهم بالعساكر وأكثرهم من الألمان ونزلوا بعكا واستنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر وجاءته عساكر الجزيرة والموصل واجتمعوا بعين جالوت وأقاموا رمضان وبعض شوّال من سنة اثنتين وتسعين ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أوّلا وخربوها وامتنع الحامية بالقلعة فحاصروها وفتحوها عنوة واستباحوها وجاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم وانتهوا إلى قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم وخبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذرا عليها من الإفرنج فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها وعاد ووصل إليها الإفرنج يوم عرفة من السنة وهرب منها أسامة وملكوها وفرّق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي من صيدا بعد تخريب صلاح الدين وعاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى صور ونزل المسلمون على قلعة هونين ثم نازل الإفرنج حصن تبنين في صفر سنة أربع وتسعين وبعث العادل عسكرا لحمايته فلم يغنوا عنه ونقب الإفرنج أسواره(5/386)
فبعث العادل بالصريخ إلى العزيز صاحب مصر فأغذ السير بعساكره وانتهى إلى عسقلان في ربيع من السنة وكان المسلمون في تبنين قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم ويسلمون لهم فأنذرهم بعض الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم وأصرّوا على الامتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله ولم يكن لهم ملك وإنما كان معهم الجنصكير القسيس [1] من أصحاب ملك الألمان والمرأة زوجة الكندهري فاستدعوا ملك قبرص واسمه هبري وهو أخ الملك الّذي أسر بحطين فجاءهم وزوّجوه بملكتهم فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل وأطلّ على الإفرنج وناوشهم القتال رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز واجتمع جماعة منهم وهم ميمون القصري وقراسنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز ومدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذا السير إلى مصر وتراسل العادل والإفرنج في الصلح وانعقد بينهم في شعبان من السنة ورجع العادل إلى دمشق وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره والله تعالى أعلم.
وفاة طغتكين بن أيوب باليمن وملك ابنه إسماعيل ثم سليمان بن تقيّ الدين شاهنشاه
قد كان تقدّم لنا أنّ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار الى المدينة سنة ثمان وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه واختلاف نوّابه باليمن واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفي في شوّال سنة ثلاث وتسعين وكان سيّئ السيرة كثير الظلم للرعية جماعا للأموال ولما استفحل بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه ولما توفي ملك مكانه ابنه إسماعيل وبلغ المعز وكان أهوج فانتسب في بني أمية وادّعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل وأساء السيرة في رعيته وأهل دولته فوثبوا وقتلوه وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره ثم هلك سنقر لأربع سنين من دولته وقام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم وتزوّج أمّ الناصر ثم قتل الناصر مسموما وثأر العرب منه بغازي المذكور وبقي أهل اليمن فوضى واستولى على طغان وبلاد حضر موت محمد بن محمد الحميري واستبدّت أمّ الناصر وملكت زبيد وبعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على
__________
[1] وفي الكامل: وكان المرجع إلى القسيس الخنصكير من أصحاب ملك الألمان.(5/387)
اليمن وكان للمظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه وقيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب ولبس المسوح ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوّجته وملكته اليمن والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين
كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي صاحب نصيبين والخابور والرقة وبين أبيه عماد الدين قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم فسار نور الدين إليه في عساكره وملك منه نصيبين ولحق قطب الدين بحران والرها إيالة العادل بن أيوب وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق وبذل له الأموال في إنجاده فسار العادل إلى حران وارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل وسار قطب الدين إليها فملكها وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها وكان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبا بن تمرتاش أبي الغازي بن أرتق وهو صبيّ وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه والحكم له ودام حصاره عليها وملك الربض وقطع الميرة عنها ثم رحل عنها في العام القابل كما تقدّم في أخبار دولة زنكي والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الأفضل
ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرّم سنة خمس وتسعين وكان فخر الدين إياس جهاركس مولى أبيه مستبدا عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك وكان جهاركس هذا مقدّم موالي صلاح الدين وكانوا منحرفين عن الأفضل وكان موالي صلاح الدين شيركوه والأكراد شيعة وجمعهم جهاركس لينظر في الولاية وأشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين أيازكوش مقدّم موالي شيركوه لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين لأن رياسة العساكر صنعه واتفقوا على الأفضل ثم مضوا إلى القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضا وأرسل أياز كوش يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له وخرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود وفخر الدين جهاركس ودولة العزيز فقدّم أخاه وارتاب جهاركس واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى(5/388)
القدس وتملكه ولحقه جماعة من موالي صلاح الدين منهم قراجا الدكرمس وقراسنقر وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به واتفقوا على عصيان الأفضل وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين وارتاب الأفضل بموالي صلاح الدين وهم شقيرة وأنبك مطيش وألبكي ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس وأرسل الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا وأقام هو بالقاهرة وقرّر دولته وقدّم فيها سيف الدين أياز كوش والملك لابن أخيه العزيز عثمان وهو كافل له لصغره وانتظمت أمورهم على ذلك انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصار الأفضل دمشق وعوده عنها
ولما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب وابن عمه شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة ووصل إلى دمشق منتصف شعبان وسبقه العادل إليها وترك العساكر مع ابنه الكامل على ماردين ولما نزل الأفضل على دمشق وكان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى الهكاري فداخل قوما من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة ودخل منه هو والأفضل سرّا وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم وانقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم ونزل الأفضل بميدان الحصار وضعف أمره واعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون وانحازوا عنهم في المعسكر ووصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان وأوّل رمضان لمظاهرة الأفضل وأرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا إليه وقوي بهم ويئس الأفضل وأصحابه وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا وجاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين فعند ذلك رحلت العساكر عن دمشق وعاد كلّ منهم إلى بلاده انتهى والله أعلم.
إفراج الكامل عن ماردين
قد كان تقدّم لنا مسير العادل إلى ماردين وسار معه صاحب الموصل وغيره من ملوك الجزيرة وديار بكر وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين وغلبهم فلما عاد العادل إلى(5/389)
دمشق لمدافعة الأفضل وترك ابنه الكامل على حصار ماردين واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها وسار نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر وارتحلوا سادس شوّال وقاربوا جبل ماردين وكان أهل ماردين قد اشتدّ عليهم الحصار وبعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه وأذن لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدّة ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم وترك عسكرا بالربض وبعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل ووعده بالانهزام فلم يغن ولما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتا فانهزم الكامل وصعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الّذي هنالك ونهبوا مخلفهم فارتحل الكامل منتصف شوّال مجفلا ولحق بميافارقين وانتهب أهل ماردين مخلفه ونزل صاحبها فلقي صاحب الموصل وعاد إلى قلعته وارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة والخطبة فارتاب لذلك وكان عازما على نصرتهم فقعد عنهم وعاد إلى الموصل وأرسل إلى الأفضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهم يومئذ على دمشق ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل والظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء العادل على مصر
ولما رحل الأفضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر وأغراه موالي صلاح الدين بذلك واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكا وهو كافله وبلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل وهو في بلبيس فسار منها ولقيهم فانهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وتسعين ودخل القاهرة ليلا وحضر الصلاة على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني توفي تلك الليلة وسار العادل لحصار القاهرة وتخاذل أصحاب الأفضل عنه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم الديار المصرية على أن يعوّضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهي حران والرها وسروج فلم يجبه وعوّضه ميافارقين وجبال نور وتحالفوا على ذلك وخرج الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل وسار إلى بلده صرخد ودخل العادل القاهرة من يومه ولما(5/390)
وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي عوّضه العادل وكان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها وردّد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أنّ ابنه عصاه فعلم الأفضل أنه أمره واستفحل العادل في مصر وقطع خطبة المنصور بن العزيز وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والإثبات فاستوحشوا لذلك وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدّم موالي صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي الصلاحية وكان بها الأمير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس والله تعالى أعلم.
مسير الظاهر والأفضل إلى حصار دمشق
ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك ولما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والأفضل بصرخد أن يحاصرا دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر ويقومون بدعوتهما ونمي الخبر إلى العادل وكتب به إليه الأمير عز الدين اسامة جاء من الحج ومرّ بصرخد فلقيه الأفضل ودعاه الى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل وأرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الأفضل بصرخد وكتب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس وإلى ميمون القصري صاحب نابلس بالمسير معه إلى صرخد ففرّ منها الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب فوجده يتجهز لأنه بعث أميرا من أمرائه إلى العادل فردّه من طريقه فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك وذلك سلخ رجب من سنة سبع وتسعين وسار المعظم بقصد صرخد وانتهى إلى بصرى وبعث عن جهاركس والذين معه على بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق وبعث إليهم الأمير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول وتناوله البكاء منهم وثاروا به جميعا فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه وعاد إلى دمشق ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين وأنزله من صرخد واستحثوا الظاهر والأفضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص ومعه أخوه الأفضل ومنها إلى بعلبكّ إلى دمشق ووافاه هنالك الموالي الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها وبقيت للظاهر وأقطع الأفضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا وأخرج أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد بن شيركوه وكان العادل قد(5/391)
سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس وبعث عسكرا إلى دمشق ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوما وثانيه منتصف ذي القعدة وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل بأنّ دمشق تكون له فاعتذر بأنّ أهله في غير مستقرّ ولعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر فلجّ الظاهر في ذلك وكان الموالي الصلاحية مشتملين على الأفضل وشيعة له فخيرهم بين المقام والانصراف ولحق فخر الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم وعادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وبعض قرى المعرّة والأفضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتمّ ذلك بينهم ورحلوا عن دمشق في محرّم سنة ثمان وتسعين وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى حمص فأقام بها عند أهله ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء وجاء الأفضل فلقيه بظاهر دمشق وعاد إلى بلاده فتسلمها وكان الظاهر والأفضل لما فعلا من منبج الى دمشق بعثا الى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل بالجزيرة وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين واتفاق على العادل منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين ونزلوا رأس عين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح ووصل الخبر بصلح العادل مع الظاهر والأفضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح واستحلفوا وبعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه أيضا وصحت الحال والله تعالى وليّ التوفيق.
حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والأشرف
ثم بعث الملك العادل ابنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار ونزلوا بالحريم تحت ماردين وسار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف فلقيهم جماعة من عسكر الأشرف وهزموهم وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحي وامتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار والدينار أحد عشر قيراطا من الأميري ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه وتعسكر طائفة من جنده معه متى دعاهم لذلك فأجاب العادل وتمّ الصلح بينهما ورحل الأشرف عن ماردين والله أعلم
.(5/392)
أخذ البلاد من يد الأفضل
قد كان تقدّم أنّ الظاهر والأفضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ الأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين وكانت بيده معها قلعة نجم التي ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استردّ العادل البلاد من يد الأفضل سنة تسع وتسعين وأبقى له سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في ردّ ما أخذ منه فلم يجب فتهدّده ولم تزل الرسل تتردّد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة وبعث الأفضل أمّه إلى العادل في ردّ سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب له فبعث إليه بالخلعة وخطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة وسار من جملة نوابه في أعماله وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين خاف على مصر من شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق ثم نقله في هذه السنة إلى الرها ومعه أخواته وأمه وأهله فأقاموا بها والله أعلم.
واقعة الأشرف مع صاحب الموصل
كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة وبعث قطب الدين يستمدّ الأشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار إلى رأس عين لإمداده ومدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع مظفر الدين صاحب أربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد ففارق نور الدين نصيبين وسار إليها الأشرف وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة وساروا جميعا إلى بلد البقعاء ونور الدين صاحب الموصل قد انصرف من تل أعفر وقد ملكها إلى كفر زمان معتزما على مطاولتهم إلى أن يفترقوا ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عينا عليهم فقللهم في عينه وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريبا منهم ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل الأشرف وأصحابه كفر زمان وعاثوا في البلاد واكتسحوها وتردّدت الرسل بينهم في الصلح على أن(5/393)
يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر التي أخذها له فتمّ ذلك سنة إحدى وستمائة وعاد إلى بلده والله تعالى أعلم.
وصول الإفرنج إلى الشام والصلح معهم
ولما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى وستمائة تكالبوا على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسوا بعكا عازمين على ارتجاع القدس من المسلمين ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر وسار فنزل بالطور قريبا من عكا لمدافعتهم وهم قبالته بمرج عكا وساروا إلى كفركنا فاستباحوه ثم انقضت سنة إحدى وستمائة وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرها ويعطيهم [1] وغيرها وتمّ ذلك بينهم وسار العادل إلى مصر فقصد الإفرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه وأقاموا أياما عليها ثم رجعوا والله تعالى أعلم.
غارة ابن ليون على أعمال حلب
قد تقدّم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن وصاحب الدروب فأغار سنة اثنتين وستمائة على أعمال حلب واكتسحها واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب حلب ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه منسوبا إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه وكان الطريق إلى بلاد الأرمن متعذرا من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلي حلب ومن ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر عليها منه وبعث اليها مددا وأمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل وبقي في خف الجند ووصل خبره الى ابن ليون فكبس القصري ونال منه ومن المسلمين وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم ورجع فلقي في طريقه المدد الّذي بعث الى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم وعاد الأرمن الى بلادهم فاعتصموا بحصونهم والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 321: وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر فسار منها إلى الشام فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه. (ويذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 614) .(5/394)
استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط
كان العادل قد استولى على ميافارقين وأنزل بها ابنه الأوحد نجم الدين ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط وزحف إليها سنة ثلاث وستمائة وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتله وهزمه وعاد إلى ميافارقين فهزمهم ثم دخلت سنة أربع وستمائة وملك مدينة سوس وغيرها وأمدّه أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم الدين وحاصره بخلاط وبعث بليان إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره واجتمع مع بليان وانهزم نجم الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصرها ثم غدر طغرل شاه ببليان وقتله وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد إلى بلاده وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها وخافه الملوك المجاورون له وملك الكرك وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وان من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة أرجيش واستمدّ نجم الدين على خلاط وأعمالها وعاد أخوه الأشرف إلى أعماله بحران والرها ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة ونادوا بشعار بني شاهرين وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحاصر خلاط واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها وحبس كثيرا من أعيانها كانوا فارّين وذلّ أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة والله تعالى أعلم.
غارات الإفرنج بالشام
كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحشد [1] ثان ما ملكوا القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس وحصن الأكراد منهم على حمص وأعمالها وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه عن دفاعهم واستنجد عليهم فأنجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه وأغار أهل قبرص في البحر على أسطول مصر فظفروا
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 273: في هذه السنة (6044) كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها ونازلوا مدينة حمص. وكان جمعهم كثيرا.(5/395)
منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها وبعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأنّ أهل قبرص في طاعة الإفرنج الذين بالقسطنطينية وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين ثم سار إلى حمص ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه [1] وأطلق صاحبه وغنم ما فيه وخربه وتقدّم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثني عشر يوما وعاد إلى بحيرة قدس وراسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكرا أنجده بهم وعاد إلى دمشق فشتى بها والله أعلم.
غارات الكرج على خلاط وأعمالها وملكهم أرجيش
ولما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مرّ ردّد الكرج الغارات على أعمالها وعاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة أرجيش فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخرّبوها وخام نجم الدين عن لقائهم ومدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ووقع بينه وبينهم ما مرّ ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها وحاربهم الأوحد وهزمهم وأسر ملكهم ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير وعلى الهدنة مع المسلمين وأن يزوّج بنته من الأوحد فانعقد ذلك والله تعالى أعلم بغيبة.
استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل سنجار وحصارها
قد تقدّم لنا أنّ قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار والخابور ونصيبين وما إليها كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة وزوّج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة واتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر وأعمالها التي لابن عمه سنجر شاه بن غازي بن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل وملك العادل سنجار وما إليها وهي ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك ورآه ذريعة إلى ملك الموصل وأطمع نور الدين في إيالة
__________
[1] القلعتين: اسم حصن ولذلك تصبح العبارة: ونازل حصن القلعتين ففتحه.(5/396)
قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الّذي هو صهره على ابنته وتكون عنده بالموصل وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع منه وندم على ما فرط في رأيه من وفادته ورجع إلى الاستعداد للحصار وخوّفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به وسار العادل من الخابور إلى نصيبين فملكها وقام بمدافعته عن قطب الدين وحماية البلد من الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه وشرع نور الدين في تجهيز العساكر مع ابنه القاهر مددا للعادل وبعث قطب الدين صاحب سنجار ابنه مظفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه وأثره في موالاته فشفع ولم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه وسار بعساكره من الموصل واجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب الظاهر وصاحب بلاد الروم كنجسرو [1] وتداعوا على الحركة إلى بلاد العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار وبعثوا إلى الخليفة الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير اقباش من خواص مواليه فأجاب إلى ذلك ثم غالطهم وذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا على ذلك وعاد كل إلى بلده ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على الأمير أسامة بأمر أبيه العادل وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من أعماله فخر بهما وحصن أردن بالكوكب وبني مكانه حصنا قرب عكا على جبل الطور وشحنه بالرجال والأقوات والله تعالى أعلم.
وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية ابنه العزيز
لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة وكان مرهف الحدّ ضابطا جماعة للأموال شديد الانتقام محسنا للقضاة وعهد بالملك لابنه الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين وعدل عن الكبير لأنّ أمّه بنت عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين وجعل أتابكه وكافله وخادمه طغرلبك ولقبه شهاب الدين وكان خيرا صاحب إحسان ومعروف فأحسن كفالة الولد وعدل في سيرته وضبط الإيالة بجميل نظره والله أعلم.
ولاية مسعود بن الكامل على اليمن
ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى زوجته أمّ الناصر
__________
[1] وفي نسخة اخرى: كنخسرو.(5/397)
التي ملكته وضارّها وأعرض عنها واستبدّ بملكه وملأ الدنيا ظلما وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة ثم انتقض على العادل وأساء معاملته وكتب إليه بعض الأحيان أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف واسمه بالتركي أقسنس في العساكر سنة اثنتي عشرة وستمائة فملك اليمن وقبض على سليمان شاه وبعث به معتقلا إلى مصر فلم يزل بها إلى أن استشهد في حروب دمياط مع الإفرنج أعوام تسع وأربعين وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه فاستعتب إلى أبيه وأعتبه ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني إدريس بن مطاعن من بني حسن وولّى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة وغلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره ونصب للملك ابنه الأشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبدّ ابن رسول باليمن وأورثه بنيه فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها أن شاء الله تعالى.
وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل الشام ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها
كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي وكانوا كلهم يدينون بطاعته وبلغه اختلاف أموال الإفرنج بساحل الشام وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من إيالته وتقدّم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا أمره وتوافت الإمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع عشرة وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الإفرنج من عكا ليصدّوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد ويدافعهم عنها فسبقوه ونزل هو على بيسان من الأردن وزحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفر واستدعى العساكر ليجمعها وانتهب الفرنج مخلفه في بيسان واكتسحوا ما بينها وبين بانياس ونازلوا بانياس ثلاثا ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال وامتلأت أيديهم من نهبها وسباياها ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا والشقيف على فرسخين من بانياس وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر ثم حاصروا حصن الطور على جبل(5/398)
قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها سبعة عشر يوما وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها وبعث العادل ابنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج ثم سار الإفرنج من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها في صفر والنيل بينهم وبينها وكان على النيل برج حصين تمرّ منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر فلما نزل الإفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سورا بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار وبعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريبا من دمياط بالعادلية وألحّ الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط فبنى الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى قطعوه فأمر الكامل بمراكب مملوءة بالحجارة وخرقوها وغرّقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل الإفرنج إلى خليج الأزرق وكان النيل يجري فيه قديما فحفروه فوق الجسر وأجروا فيه الماء إلى البحر وأصعدوا مراكبهم إلى [1] قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لأنّ دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم وهم في مراكبهم فلم يظفروا والميرة والإمداد متصلة إلى دمياط والنيل حاجز بينهم وبين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر وسعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل وولاية أخيه الأصغر الفائز ونمى الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح وتفقده المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل وخلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الإفرنج وعبروا النيل إلى البرّ المتصل بدمياط وجالوا بينها وبين أرض مصر وفسدت السابلة بالأعراب وانقطعت الميرة عن دمياط واشتدّ الإفرنج في قتالها وهي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها بغتة ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروه ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها وأقام الكامل قريبا منهم لحماية البلاد وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 324: واصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة على أرض الجيزة أيضا مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك.(5/399)
وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه
قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاءوا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وأنه عاد إلى مرج الصفر قريبا من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو إلى خانقين فأقام بها ثم مرض وتوفي سابع جمادى الأخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره وكان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح وكان لا يعبر عنه يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار وكان ملكا حليما صبورا مسدّدا صاحب إفادة وخديعة منجمة في أحواله وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب الدين غازي وقلعة جعبر للخضر أرسلان شاه فلما توفي استقل كل منهم بعمله وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عسكره وسعى المشطوب كما تقدّم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك إلى أخيه المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر وأخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف وصار في جملته واستقام للكامل ملكه بمصر ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة وخرب أسواره حذرا عليه من الإفرنج وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه وأقام الكامل قبالتهم والله تعالى ينصر من يشا من عباده.
وفاة المنصوب صاحب حماة وولاية ابنه الناصر
قد تقدّم لنا أنّ صلاح الدين كان قد أقطع تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها صلاح الدين ثم سار إلى بلاد أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها ثم انتقل إلى حصار ملازكرد وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين محمد ويلقب المنصور على أعماله ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عمّ أبيه صلاح الدين والعادل(5/400)
وكان ابنه وليّ عهده المظفر عند العادل بمصر وابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره لملازكرد فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه ما لا يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر وجاءه أخوه وليّ العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم.
مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه ودخولها في طاعة الأشرف
قد كنا قدّمنا وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر وأنّ شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل وعف عن أموال الرعية وردّ السعاية فيهم بعضهم على بعض وكان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقي الناس منهما شدّة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشرّ وردّ عليهما السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها ثم رأى أنّ ذلك لا يتمّ إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه وكان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضبا من أخيه الظاهر وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس ثم يقصدون بلاد الأشرف بالجزيرة حران والرها وما إليهما على هذا الحكم وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل ثم قلعة تل باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضل وأهل البلدان بفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيما بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه [1] وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب ونزل بظاهر حلب
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 349: وسار إليهم في عساكره التي عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم، وأحضر إليه العرب من طيِّئ وغيرهم ونزل بظاهر حلب.(5/401)
وتوّجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده وسار الأشرف فملك رعبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقهم عليهم فهلكوا وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على إتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه الخبر بوقاة أبيه العادل فرجع انتهى والله تعالى أعلم.
دخول الموصل في طاعة الأشرف وملكه سنجار
قد ذكرنا في دولة بني زنكي أنّ القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولي ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته وكان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وأنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العماديّة وظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته فأرسل إليه بالطاعة وكان على حلب مدافعا لكيكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمين التي كانت بينهم جميعا ويأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل والا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى الأشرف عسكرا إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر وجاءت الرسل من الخليفة الناصر والملك الأشرف فأصلحوا بينهما وتحالفا ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشى فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف وهو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف وحملهم على طاعة كيكاوس والخطبة له وكان عدوّ الأشرف ومنازعا له في منبج كما نذكره وبعث أيضا إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب الفعلة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدي وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل ثم استمال الأشرف(5/402)
صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين [1] وجبل الجودي ووعده بدارا إذا ملكها ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع وسار كل ملك إلى عمله وسار ابن المشطوب إلى إربل ومرّ بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزما واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكرا فجاءوا به أسيرا وكان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار ثم سار ثانيا للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكرا بتل أعفر من أعمال سنجار فلما مرّ بهم قاتلوه وصعد إلى تل أعفر منهزما وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهرا أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة وحبس ابن المشطوب بالموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبعة عشر ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصرا لماردين ثم صالحه على أن يردّ عليه رأس عين وكان الأشرف أقطعه له وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد قلعة المور من بلده ورجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشرف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة وسلم سنجار في مستهلّ جمادى الاولى سنة سبعة عشر وفارقها عمر فروخ شاه وإخوته بأهليهم وأموالهم وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وردّ ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العماديّة وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدّة ضربوها وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتمّ تسليم الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الأجل واستمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه وردّ عليه قلعة العقروسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى أعلم.
__________
[1] هي جنين.(5/403)
ارتجاع دمياط من يد الإفرنج
ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم وبنى المنصورة بعد المنزلة وأقام كذلك سنين وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها واستيلاء إخوانهم عليها فلهجوا بذلك وتوالت امدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه وتواترت الأخبار بظهور التتر ووصولهم إلى أذربيجان وأران وأصبح المسلمون بمصر والشام على تخوّف من سائر جهاتهم واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة ثم تقدّم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبكّ فوجدوا الكامل على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر وجاء المعظم بعد الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها ثم تردّدت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة الكرك والشويك وزيادة ثلاثمائة ألف دينار لرمّ أسوار القدس التي خرّبها المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظنا بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء ولم يبق لهم الا مسلك ضيق ونصب الكامل الجسور عند اشمون فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها واشتدّ الحال عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الاستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والأشرف(5/404)
على تسليم دمياط من غير عوض وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مرّ فازدادوا وهنا وخذلانا وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكا منهم رهنا عليها وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوما مشهودا ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام والله تعالى أعلم.
وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازي عليها
قد تقدّم لنا أنّ الأوحد نجم الدين بن العادل ملك ميافارقين وبعدها خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل واستقلّ ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه غازي على خلاط وميافارقين مضافا إلى ولايته من أبيه العادل وهو سروج والرها وجعله وليّ عهده لأنه كان عاقرا لا يولد له وأقام على ذلك إلى أن انتقض على الأشرف عند ما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
فتنة المعظم مع أخويه الكامل والأشرف وما دعت إليه من الأحوال
كان بنو العادل الكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته ثم تغلب المعظم عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرّة من أعمالها فملكها وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والإفراج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلميّة لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة وكشف المعظم قناعة في فتنة أخويه الكامل والأشرف وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما وكان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة(5/405)
وعراق العجم وجاز إلى الهند ثم رجع سنة إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان ونزل توريز وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية وأظهر عصيانه في ولايته التي بيده فسار إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولّى عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل واستخدم للأشرف وترقى في خدمته الى أن ولاه خلاط وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي وأقرّه على ميافارقين وسار المظفر صاحب إربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت عليه ورجع إلى دمشق ثم سار الأشرف إلى المعظم طالبا للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل وانطلق إلى بلده فاستمرّ على شأنه ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحاصرها مرّة بعد مرّة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين وملك حصونها واضطرب الحال بينهم وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بمالأته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج وكات بالامبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه والله تعالى أعلم.
وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك
ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولي مكانه ابنه داود ولقب بالناصر وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه وجرى على سنن المعظم أوّلا في طاعة الكامل والخطبة له ثم انتقض سنة خمس وعشرين عند ما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشويك فامتنع وانتقض وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم وولّى عليها من قبله واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق وخرج منها إلى نابلس ثم تقدّم منها إلى الكامل ليصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه إياها فلم يجب الناصر الى ذلك وعاد الى دمشق فحاصره(5/406)
الأشرف ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل الى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقلّ بالكرك والشويك والبلقاء [1] فسلموا له في ذلك وسار إليها واستولى الأشرف على دمشق ونزل للكامل عن أعماله وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مرّ خبره والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر
ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر وسار إليها فحاصرها ودسّ لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلا فطرقها وتسوّرها وملكها وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي عليّ الهدباني فقام بها ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنة ثلاثين فهمّ الناصر بأن يملكها للإفرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين انتهى والله أعلم.
استيلاء الأشرف على بعلبكّ من يد الأمجد وإقطاعها لأخيه إسماعيل بن العادل
كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخ شاه أخي تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبكّ وكانت بصرى لخضر ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبكّ وحاصرها بها
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الكامل 12 ص 483: وبذل له تسليم دمشق على أن يبقى عليه الكرك وقلعة الشويك والغور ونابلس وملك الأعمال.(5/407)
الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتلته مواليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف واستيلاؤه على خلاط
قد كنا قدّمنا أنّ جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان وجاور أعمال بني أيوب وكان الأشرف قد ولّى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة اثنتين وعشرين حسام الدين أبا علي الموصلي ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدّمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرّتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التي كانت زوجة أزبك بن البهلوان وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد فسار وملك خوي وما فيها من الحصون ومدينة قرند وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك ثم ارتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أبيك فقبض على حسام الدين وكان عدوّا له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوّال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق وقطع عنها الميرة مدّة ثمانية أشهر ثم ألحّ عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الاولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم.
مسير الكامل في إنجاد الأشرف وهزيمة جلال الدين أمام الأشرف
ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه وولّى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن(5/408)
المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر بني أيوب وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد بن الصالح بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق وكان صلاح الدين أقطعه إياها عند ما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه اعتقله وملك آمد ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضا عن دمشق وهي حران والرها وما إليهما ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتمّ لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب أرزن من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران يستنجدهما ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدّم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين وانهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان ووقف الأشرف على خلاط وهي خاوية وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيرا إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع ثم تردّدت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا وعاد الأشرف إلى سنجار وسار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر وكان حاضرا مع الأشرف في هذه الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي وحاصره وملك منه أرزن صلحا وأعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم.
استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته وولاية ابنه الناصر بعده
كان سابق الدين عثمان ابن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرّت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين(5/409)
وستمائة وملكها من يده ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدّته لأبيه صفية خاتون بنت العادل واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين المجلي وإقبال الخاتوني وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط
كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومدّيده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدّمناه ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت وكان لبني أرتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في أتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولّى عليها من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم.
وفاة الأشرف بن العادل واستيلاء الكامل على ممالكه
كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته ومالأه على ذلك أهل حلب وكنجسرو صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرّة والتكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها وملكها وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحا من الصالح وعوّضه عنها بعلبكّ واستولى على سائر أعمال الأشرف ودخل سائر بني أيوب في طاعته والله أعلم
.(5/410)
وفاة الكامل وولاية ابنه العادل بمصر واستيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق
ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده المظفر إلى حماة والناصر إلى الكرك وبويع بمصر ابنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائبا عنه وسار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه وتمكن في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل وراسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق وسار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها ولم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه عليها واستقرّت دمشق في يد الصالح ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل إلى الإفرنج بعكا وباعوه من الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله انتهى والله أعلم.
أخبار الخوارزمية
ثم زحف التتر إلى أذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان وعشرين وإنفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات وملك ابنه كنجسرو ارتاب بهم وقبض على أمرائهم وانفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الأرزاق ولما توفي الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا النواحي وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقي بهم لؤلؤا فهزمه وغنم معسكره والله تعالى أعلم.
مسير الصالح إلى مصر واعتقال الناصر له بالكرك
لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء أخيه الصالح على(5/411)
دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح إسماعيل من بعلبكّ ليسير معه فاعتذر عن الوصول وسار الصالح أيوب وولى على دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح إسماعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص وقبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانقضت عنه العساكر ودخل نابلس وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله وبعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج وخرّب القلعة والله تعالى وليّ التوفيق.
وفاة شيركوه صاحب مصر وولاية ابنه إبراهيم المنصور
ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين وكانت ولايته أوّل المائة السابعة وولي من بعده ابنه إبراهيم ويلقب بالمنصور والله أعلم.
خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر
ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الاعتقال فاجتمعت إليه مواليه واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود وانتهى إلى غزة وبرز العادل إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدّمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في ملكه وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك واستوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم أيبك الأسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين ثم اختط قلعة بين سعي النيل إزاء المقياس واتخذها مسكنا وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى والله أعلم.
فتنة الخوارزمية
ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية وعبروا الفرات وقصدوا حلب فبرزت إليهم(5/412)
عساكرها مع المعظم توران شاه بن صلاح الدين فهزموه وأسروه وقتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط وكان في جملته وملكوا منبج عنوة ورجعوا ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة وعاثوا في البلاد وجمع أهل حلب العساكر وأمدّهم الصالح إسماعيل من دمشق بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا واستولى عسكر حلب على حران والرها وسروج والرقة ورأس عين وما إليها وخلص المعظم توران شاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم توران شاه وغلبوه على آمد وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر واستدعى هو لملكها فسار لذلك وولي ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشام ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازي صاحب ميافارقين من أقتال صاحب حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
أخبار حلب
قد كان تقدّم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه ثم توفي سنة أربع وثلاثين ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدّته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل ولؤلؤ الأرمني وإقبال الخاتوني وعز الدين بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها وما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين واستقل الناصر بتدبير ملكه وصرف النظر في أموره لجمال الدين إقبال الخاتوني والله أعلم.
فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح إسماعيل على دمشق واستيلاء أيوب آخرا عليها
قد كان تقدّم لنا أنّ الصالح إسماعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر فملك دمشق سنة ست وثلاثين وكان بعد ذلك اعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين وبقيت الفتنة متصلة بينهما وطلب الصالح إسماعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء بعصره وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام(5/413)
الشافعيّ ولحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها ثم خرج بعده جمال الدين ابن الحاجب المالكي إلى الكرك ولحق بالإسكندرية فمات بها ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب واتفق عليها إسماعيل الصالح صاحب دمشق والناصر يوسف صاحب حلب وجدّته صفية خاتون وإبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص وخالفهم المظفر صاحب حماة وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب وأقام حالهم في الفتنة على ذلك ثم جنحوا إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الّذي اعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك واستجدّت الفتنة وسار الناصر داود صاحب الكرك مع إسماعيل الصالح صاحب دمشق واستظهروا بالإفرنج وأعطاهم إسماعيل القدس على ذلك واستنجد بالخوارزمية أيضا فأجابوه واجتمعوا بغزة وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمّة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية وجاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه ولاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى دمشق وحاصروا بها الصالح إسماعيل إلى أن جهده الحصار وسأل في الصلح على أن يعوّض عن دمشق ببعلبكّ وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك وخرج إسماعيل من دمشق إلى بعلبكّ سنة ثمان وأربعين وبعث نجم الدين إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني وكان معتقلا عند إسماعيل بدمشق فشرط نجم الدين إطلاقه في الصلح الأوّل فأطلقه وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها وانصرف إبراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة منه سلمية فملكها واشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات والإقطاعات وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسماعيل إلى دمشق موصلا الكرة ومعه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام وبعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع وأربعين وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان وذهب بقيتهم مع مقدّمهم الآخر كشلوخان فلحقوا بالتتر واندرجوا في جملتهم وذهب أثرهم من الشام واستجار إسماعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب وسار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق الى بعلبكّ وتسلمها بالأمان وبعث بأولاد إسماعيل ووزيره ناصر الدين يغمور الى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب الى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا وعاد عسكره إلى حلب والله تعالى أعلم.(5/414)
مسير الصالح أيوب إلى دمشق أوّلا وثانيا وحصار حمص وما كان مع ذلك من الأحداث
ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدباني من دمشق وولى مكانه عليها جمال الدين بن مطروح ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدباني على مصر ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان وطبرية فحاصرهما مدّة وفتحها من يد الإفرنج ووفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة وكان أبوه المظفر توفي سنة ثلاث وأربعين وولّى المنصور ابنه هذا واسمه محمد ووفد أيضا الأشرف موسى صاحب حمص وقد كان أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى مصر وافدا على الصالح أيوب وأقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب الأشرف وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الأرمني وحصروا مصر شهرين وملكوها من يد موسى الأشرف وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة وتدمر وكانتا بيده مع حمص وغضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدباني وفخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدّة وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعا فأفرج العساكر عنها وولّى على دمشق جمال الدين يغمور وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم.
استيلاء الإفرنج على دمياط
كانت إفرنسة أمّة عظيمة من الإفرنج والظاهر أنهم أصل الإفرنج وأنّ إفرنسة هي إفرنجة انقلبت السيز بها جميعا عند ما عربتها العرب وكان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر ويسمونه ريّ الإفرنس [1] ومعنى ريّ لغتهم ملك إفرنس فاعتزم هذا الملك على سواحل الشام وسار لذلك كما سار من قبله من ملوكهم وكان ملكه قد استفحل فركب البحر إلى قبرس في خمسين ألف مقاتل وشتى بها ثم عبر سنة سبع وأربعين إلى دمياط وبها بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها فملكها ريّ إفرنس وبلغ الخبر إلى الصالح وهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص فكرّ راجعا إلى مصر وقدّم فخر الدين بن
__________
[1] كذا بالأصل: وأظنه يقصد بذلك ملك الفرنسيس واسمه بالفرنسية روادي فرانس.(5/415)
الشيخ أتابك عساكره ووصل بعده فنزل المنصورة وقد أصابه بالطريق وعك واشتدّ عليه والله تعالى أعلم.
استيلاء الصالح على الكرك
كان بين الصالح أيوب وبين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدّم وقد ذكرنا اعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع أتابكه فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك وكان أخوه العادل اعتقله وأطلقه الصالح وألزمه بيته ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع وأربعين وحاصرها وملك سائر أعمالها وخرّب نواحيها وسار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب حلب مستجيرا به بعد أن بعث بذخيرته إلى المستعصم وكتب له خطه بوصولها وكان قد استخلف على الكرك عند ما سار إلى حلب ابنه الأصغر عيسى ولقبه المعظم فغضب أخواه الأكبران الأمجد حسن والظاهر شادي فقبضا على أخيهما عيسى ووفدا على الصالح سنة ست وأربعين وهو بالمنصورة قبالة الإفرنج فملك الكرك والشويك منهما وولى عليهما بدرا الصواي وأقطعهما بالديار المصرية والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة الصالح أيوب صاحب مصر والشام وسيد ملوك الترك بمصر وولاية ابنه توران شاه وهزيمة الإفرنج وأسر ملكهم
ثم توفي الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع وأربعين بمكانه من المنصورة قبالة الإفرنج وخشي أهل الدولة من الإفرنج فكتموا موته وقامت أمّ ولده شجرة الدرّ بالأمر وجمعت الأمراء وسيروا بالخبر إلى حسام الدين الهدباني بمصر فجمع الأمراء وقوّى جاشهم واستحلفهم وأرسل الأتابك فخر الدين بن الشيخ بالخبر إلى المعظم توران شاه بن الصالح واستدعاه من مكان إمارته بحصن كيفا ثم انتشر خبر الوفاة وبلغ الإفرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين ودلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون وقتلوا الاتابك فخر الدين ثم أتاح الله الكرّة للمسلمين وانهزم الإفرنج ووصل المعظم توران شاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون واجتمعوا عليه واشتدّوا في قتال الإفرنج وغلبت أساطيلهم أساطيل العدوّ وسأل الإفرنج في الإفراج عن دمياط على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك(5/416)
وسارت سرايا المسلمين من حولهم وفيما بين معسكرهم وبين دمياط فرحلوا راجعين إليها وأتبعهم المسلمون فأدركهم الدهش وانهزموا وأسر ملكهم ريّ إفرنس وهو المعروف بالفرنسيس وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفا واعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفخر الدين بن لقمان ووكل بها الخادم صبيح المعظمي ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعا إلى مصر والله تعالى أعلم.
مقتل المعظم توران شاه وولاية شجرة الدرّ وفداء الفرنسيس بدمياط
ولما بويع المعظم توران شاه وكانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالي أبيه وتقسموهم بين النكبة والإهمال وكان للصالح جماعة من الموالي وهم البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التي بناها إزاء المقياس وكانوا بطانته وخالصته وكان كبيرهم بيبرس وهو الّذي كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عند ما زحفوا مع عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق وقد مرّ ذكر ذلك فصارت طاغيته معهم استمالهم الصالح فصاروا معه وزحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق والإفرنج فهزموهم وحاصروا دمشق وملكوها بدعوة الصالح كما مرّ واستوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالأمان سنة أربع وأربعين ولحقه بمصر فحبسه على ما كان منه ثم أطلقه وكان من خواص الصالح أيضا قلاون الصالحي كان من موالي علاء الدين قراسنقر مملوك العادل وتوفي سنة خمس وأربعين وورثه الصالح بحكم الولاء ومنهم أقطاي الجامدار وأيبك التركماني وغيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم توران شاه عليهم وتحكمهم فيهم فاعصوصبوا واعتزموا على الفتك بالمعظم ورحل من المنصورة بعد هزيمة الإفرنج راجعا إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه وتناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فاضرموه نارا فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء وهلك بين السيف والماء لشهرين من وصوله وملكه ثم اجتمع هؤلاء الأمراء المتولون قتل توران شاه ونصبوا للملك أم خليل شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولده خليل المتوفى في حياته وبه كانت تلقب وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها ووضعت علامتها على المراسم وكان نص علامتها أمّ خليل وقدّم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكير أيبك التركماني فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان وأربعين وركب الفرنسيس البحر إلى عكا وعظم(5/417)
الفتح وأنشد الشعراء في ذلك وتساجلوا ولجمال الدين بن مطروح نائب دمشق أبيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر والله تعالى ولي التوفيق وهي.
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح
أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب أنّ الزمر بالطبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق بهم في ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها ... لعلنا من شركم نستريح
إن كان باباكم بذا راضيا ... فرب غش قد أتى من نصيح
أوصيكم خيرا به أنه ... لطف من الله إليكم أتيح
لو كان ذا رشد على زعمكم ... ما كان يستحسن هذا القبيح
فقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد قبيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
والطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصي ويسمونه الخادم أيضا والله أعلم.
استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق وبيعة الترك بمصر لموسى الأشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن وتراجعهما ثم صلحهما
ولما قتل المعظم توران شاه ونصب الأمراء بعده شجرة الدر زوجة الصالح امتعض لذلك أمراء بني أيوب بالشام وكان بدر الصوابي بالكرك والشويك ولاه الصالح عليهما وحبس عنده فتح الدين عمر بن أخيه العادل فاطلقه من محبسه وبايع له وقام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق واجتمع مع الأمراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب وتمليكه فسار وملك دمشق واعتقل جماعة من موالي الصالح وبلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجرة الدر ونصبوا موسى الأشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل وهو الّذي ملك أخوه أطسز واسمه يوسف باليمن بعد أبيهما مسعود وبايعوا له وأجلسوه على التخت وجعلوا أيبك أتابكه ثم(5/418)
انتقض الترك بغزة ونادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم وجدّدوا البيعة للأشرف وأتابكه ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الأمراء العساكر إلى الشام مع أقطاي الجامدار كبير البحرية ويلقب فارس الدين فاجفلت عساكر الشام بين يديه ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشيء بلغه عنه وحبسه بحمص وبعث عن ملوك بني أيوب فجاءه موسى الأشرف صاحب حمص والرحبة وتدمر والصالح إسماعيل بن العادل من بعلبكّ والمعظم توران شاه وأخوه نصر الدين ابنا صلاح الدين والأمجد حسام الدين والظاهر شادي ابنا الناصر وداود صاحب الكرك وتقي الدين عباس بن العادل واجتمعوا بدمشق وبعث في مقدّمته مولاه لؤلؤ الأرمني وخرج أيبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم وأفرج عن ولدي الصالح إسماعيل المعتقلين منذ أخذهم الهذباني من بعلبكّ ليتهم الناس أباهم ويستريبوا به والتقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر وسارت عساكر الشام في أتباعهم وثبت أيبك وهرب إليه جماعة من عساكر الناصر ثم صدق أيبك الحملة على الناصر فتفرقت عساكره وسار منهزما وجيء لأيبك بلؤلؤ الأرمني أسيرا فقتله وأسر إسماعيل الصالح وموسى الأشرف وتوران شاه المعظم وأخوه ولحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد وشعر المتبعون لهم من عساكر الشام بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة ثم قتل يغمور وزير الصالح إسماعيل المعتقل ببعلبكّ مع بنيه وقتل الصالح إسماعيل في محبسه ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة فتواقعوا مع فارس الدين أقطاي مقدّم عساكر مصر فهزموهم واستولوا عليها [1] وتردّدت الرسل بين الناصر وبين الأمراء بمصر واصطلحوا سنة خمسين وجعلوا التخم بينهم نهر الأردن ثم أطلق أيبك حسام الدين الهذباني فسار إلى دمشق وسار في خدمة الناصر وجاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الّذي حبسه بحمص فأفرج عنه ولحق ببغداد ومعه ابناه الأمجد والظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها وأقام في أحياء عرية ثم رجع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر وسكن عنده والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
__________
[1] أي على غزة كما في تاريخ أخبار البشر لأبي الفداء ج 3 ص 185: في هذه السنة (حوادث سنة 648) بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام سار فارس الدين اقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة فاستولى عليها. ثم عاد إلى الديار المصرية.(5/419)
خلع الأشرف بن أطسز واستبداد أيبك وأمراء الترك بمصر
قد تقدّم لنا آنفا بيعة أمراء التركمان بمصر للأشرف موسى بن يوسف أطسز بن الكامل وأنهم خطبوا له وأجلسوه على التخت بعد أن نصبوا للملك أيبك وكان طموحا إلى الاستبداد وكان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك ويغض من عنانه منافسة وغيره فأرصد له أيبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر وقتلوه سنة اثنتين وخمسين وكانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا ولحقوا بالناصر في دمشق واستبد أيبك بمصر.
وخلع الأشرف وقطع الخطبة له فكان آخر أمراء بني أيوب بمصر وخطب أيبك لنفسه ثم تزوّج شجرة الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر واستحثوه فتجهز وسار إلى غزة وبرز أيبك بعساكره إلى العباسية فنزل بها وانتقض عليه [1] فتوهموا بالثورة به فارتاب بهم ولحقوا بالناصر ثم تردّدت الرسل بين الناصر وأيبك فاصطلحوا على أن يكون التخم بينهم العريش وبعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين بن العديم في طلب الخلعة وكان أيبك قد بعث بالهدية والطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس وخمسين ثم قتل المعز أيبك قتلته شجرة الدرّ غيلة في الحمام سنة خمس وخمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه عليا ولقبوه المنصور وثاروا به من شجرة الدرّ كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر وانهزامهم
كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل أقطاي الجامدار مقيمين عنده ثم ارتاب بهم وطردهم آخر سنة خمس وخمسين فلحقوا بغزة وكاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك وقد كنا ذكرنا أن بدر الصوافي أخرجه من محبسه بالكرك بعده مقتل توران شاه بمصر وولاه الملك وقام بتدبير دولته وبعث إليه الآن بيبرس البند قداري مقدّم البحرية من غزة
__________
[1] بياض بالأصل وفي تاريخ أبي الفداء ج 3 ص 190 وفيها (حوادث سنة 653) عزمت العزيزية المقيمون مع المعز أيبك على القبض عليه وعلم بذلك، واستعد لهم فهربوا من مخيمهم على العباسية.(5/420)
يدعوه إلى الملك وبلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم وانهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث وقسم فيهم الأموال واستحثوه لملك مصر فسار معهم وبرزت عساكر مصر لقتالهم مع قطز مولى أيبك المعز ومواليه فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث والبحرية إلى الكرك ورجعت العساكر إلى مصر وفي خلال ذلك أخرج الناصر داود بن المعظم من دمشق حاجا ونادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته وانصرف مع الحاج إلى العراق فأكرهه المستعصم على براءته من وديعته فكتب وأشهد ولحق بالبرية وبعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له وسكن دمشق ثم رجع مع رسول المستعصم الّذي جاء معه إلى الناصر بالخلعة والتقليد فأقام بقرقيسياء حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عند أحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك فقبض عليه المغيث صاحب الكرك وحبسه حتى إذا زحف التتر لبغداد بحث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم وقد استولى التتر على بغداد فرجع ومات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست وخمسين انتهى والله تعالى أعلم.
زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك وحصارها والقبض على البحرية
ولما كان من المغيث والبحرية ما قدّمناه ورجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوا بغزة وانهزمت عساكر الناصر وظفرت البحرية بهم واستفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع وخمسين وسار معه صاحب حماه المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك وحاصروها وأرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجاب ونمي الخبر إلى بيبرس أميرهم البندقداري فهرب في جماعة منهم ولحق بالناصر وقبض المغيث على الباقين وبعث بهم إلى الناصر في القيود ورجع [1] الكرك ثم بعث إلى الأمراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الاتفاق إلى مدافعة التتر وفي أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الأمراء على ابن المعز أيبك وقبض عليه أتابك عسكره وموالي أبيه وجلس على التخت وخطب لنفسه
__________
[1] بياض بالأصل وفي تاريخ أبي الفداء ج 3 ص 198: وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية ومن جملتهم سنقر الأشقر وسكر وبرامق. وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك.(5/421)
وقبض على الأمراء الذين يرتاب منازعتهم كما نذكره في أخبارهم وأعاد ابن العديم إلى مرسلة صاحب دمشق بالإجابة والوعد بالمظاهرة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
استيلاء التتر على الشام وانقراض ملك بني أيوب وهلاك من هلك منهم
ثم زحف التتر وسلطانهم هلاكو إلى بغداد واستولى على كرسي الخلافة وقتلوا المستعصم وطمسوا معالم الملة وكادت تكون من أشراط الساعة وقد شرحناها في أخبار الخلفاء ونذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته وبعث ابنه العزيز محمدا إلى السلطان هلاكو بالهدايا والالطاف فلم يغن وردّه بالوعد ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازي بن العادل الكبير فحاصروها سنتين ثم ملكوها عنوة سنة ثمان وخمسين وقتلوه وبعث العساكر إلى إربل فحاصروها ستة أشهر وفتحوها وسار ملوك بلاد الروم كيكاوس وقليج أرسلان ابنا كنجسرو إلى هلاكو أثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته ورجعوا إلى بلادهم وسار هلاكو إلى بلاد أذربيجان ووفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين ودخل في طاعته وردّه إلى بلده وهلك أثر ذلك وملك الموصل مكانه ابنه الصالح وسنجار ابنه علاء الدين ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة واعتذر عن لقائه بالتخوّف على سواحل الشام من الإفرنج فتلقى ولده بالقبول وعذره وأرجعه إلى بلده بالمهادنة والمواعدة الجميلة ثم سار هلاكو إلى حران وبعث ابنه في العساكر إلى حلب وبها المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائبا عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر وأكمن له التتر واستجروهم ثم كرّوا عليهم فاثخنوا فيهم ورحلوا إلى إعزاز فملكوها صلحا وبلغ الخبر إلى الناصر وهو بدمشق معسكر من ثورة سنة ثمان وخمسين وجاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم ثم بلغه أن جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكرّ راجعا إلى دمشق ولحق أولئك الموالي بغزة ثم أطلع على خبثهم وأن قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم ولحق الظاهر بهم فنصبوه للأمر واعصوصبوا عليه وكان معهم بيبرس البندقداري وشعر بتلاشي أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر واستأمن إليه فأمنه وسار إلى مصر فتلقى بالكرامة وأنزل بدار الوزارة وأقطعه السلطان قطز قليوب بأعماله ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك [1] وكان بها
__________
[1] بياض بالأصل: وفي أخبار البشر ج 3 ص 200: إن هولاكو عبر الفرات بمجموعة ونازل حلب.(5/422)
إسماعيل أخو الناصر معتقلا فأطلقه وسرحه إلى عمله بالصبينة وبانياس وولاه عليهما وقدم صاحب أرزن إلى توران شاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليها وملكها عنوة وأمنها واعتصم توران شاه والحامية بالقلعة وبعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو وأن يبعث عليهم نائبا من قبله ويسمى برطانتهم الشحنة فأرسل إليهم قائدا يسمى خسروشاه وينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وبلغ الناصر أخذ حلب فأجفل عن دمشق واستخلف عليها وسار إلى غزة واجتمع عليه مواليه وأخوه وسار التتر إلى نابلس فملكوها وقتلوا من كان بها من العسكر وسار الناصر من غزة إلى العريش وقدم رسله إلى قطز تسأله النصر من عدوّهم واجتماع الأيدي على المدافعة ثم تقدّموا إلى [1] واستراب الناصر بأهل مصر فسار هو وأخوه الظاهر ومعهما الصالح بن الأشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه وفارقهم المنصور صاحب حماة والعساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطز بالصالحية وآنسهم ورجع بهم إلى مصر واستولى التتر على دمشق وسائر بلاد الشام إلى غزة وولوا على جميعها أمراءهم ثم افتتحت قلعة حلب وكان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الأشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه وولى على حلب عماد الدين القزويني ووفد عليه بحلب الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص وكان الناصر قد أخذها منه كما قدّمناه فأعادها عليه هلاكو وردّ جميع ولايته بالشام إلى رأيه وسار إلى قلعة حارم فملكها واستباحها وأمر بتخريب أسوار حلب وقلعتها وكذلك حماة وحمص وحاصروا قلعة دمشق طويلا ثم تسلموها بالأمان ثم ملكوا بعلبكّ وهدموا قلعتها وساروا إلى الصبينة وبها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الأمان وسار معهم ووفد على هلاكو فخر الدين بن الزكي من أهل دمشق فولاه القضاء بها ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات وولى على الشام أجمع أميرا اسمه كتبغا من أكابر أمرائه واحتمل عماد الدين القزويني من حلب وولى مكانه آخر وأما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره وحسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كتبغا نائب الشام يستأذنه ثم وصل فقبض عليه وسار به إلى [2] حتى سلمها إليه أهلها وبعث به إلى هلاكو فمرّ
__________
[1] بياض بالأصل: وفي أخبار البشر ج 3 ص 202: ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة والعسكر ووصلوا إلى قطينة فجرى بها فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزورية.
[2] بياض بالأصل ويذكر أبي الفداء ج 3 ص 204: وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الملك الناصر فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه وأحضره إلى عجلون وكانت بعد عاصية فأمرهم الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها.(5/423)
بدمشق ثم بحماة وبها الأشرف صاحب حمص وخسروشاه نائبها فخرجها لتلقيه ثم مرّ بحلب ووصل إلى هلاكو فأقبل عليه ووعده برده إلى ملكه ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة وخربوا كنيسة مريم من كنائسهم وكانت من أعظم الكنائس في الجانب الّذي فتحه خالد بن الوليد رحمه الله وكانت لهم أخرى في الجانب الّذي فتحه أبو عبيدة بالأمان ولما ولي الوليد طالبهم في هذه الكنيسة ليدخلها في جامع البلد وأعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها وزادها في الجامع لأنها كانت لصقه فلما ولي عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التي ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله وقد تقدّم ذكر هذه القصة فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه ولم يبقوا لها أثرا ثم إنّ العساكر الإسلامية اجتمعت بمصر وساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة السلطان قطز صاحب [1] ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل فسار إليه كتبغا نائب الشام ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الصبينة ابن العزيز بن العادل والتقوا على عين جالوت بالغور فانهزم التتر وقتل أميرهم النائب كتبغا وأسر السعيد صاحب الصبينة فقتله قطر واستولى على الشام أجمع وأقر المنصور صاحب حماة على بلده ورجع إلى مصر فهلك في طريقه قتله بيبرس البندقداري وجلس على التخت مكانه وتلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك ثم جاءت عساكر التتر إلى الشام وشغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه وأسف على قتل كتبغا نائبة وهزيمة عساكره فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام وتجنى عليه أنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه ثم أتبعه بأخيه الظاهر وبالصالح بن الأشرف موسى صاحب حمص وشفعت زوجة هلاكو في العزيز بن الناصر وكان مع ذلك يحبه فاستبقاه وانقرض ملك بني أيوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك ولم يبق لبني أيوب بهما ملك إلّا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فإن قطزا أقره عليها والظاهر بيبرس من بعده وبقي في إمارته هو وبنوه مدّة من دولة الترك وطاعتهم حتى أذن الله بانقراضهم وولي عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم والله وارث الأرض ومن عليها والعاقبة للمتقين.
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 3 ص 204: لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر.(5/424)
دولة الترك الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا ذكر الترك وأنسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم ثم في أخبار الأمم السلجوقية وأنهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليفة فعند نسابة العرب أنهم من عامور بن سويل بن يافث وعند نسابة الروم انهم من طيراش بن يافث هكذا وقع في التوراة والظاهر أن ما وقع لنسابة العرب غلط وأن عامور هو مصحف كومر لأنّ كافه تنقلب عند التعريب غينا معجمة فربما صحف عينا مهملة أو بقيت بحالها وأمّا سويل فغلط بالزيادة وأمّا ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الإسرائيليات وهو رأي مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة وأما شعوبهم وأجناسهم فكثيرة وقد عددنا منهم أوّل الكتاب التغزغز وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طمغاج وهي بلاد ملوكهم في الإسلام تركستان وكاشغر وعددنا منهم أيضا الخزلخية والغز الذين كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم الخلج وبلادهم الصغد قريبا من سمرقند ويسمون بها أيضا وعددنا منهم أيضا الغور والخزر والقفجاق ويقال الخفشاخ ويمك والعلان ويقال اللان وشركس وأركش وقال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا أجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم وهي العسية والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلخية والخزر والحاسان وتركش وأركش وخفشاخ والخلخ والغزية وبلغار وخجاكت ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر وذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك وأنهم في بلاد البنادقة من أرض الروم وأما مواطنهم فإنّهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند والعراق في ثلاثة أقاليم هي السادس والسابع والخامس كما ملك العرب الجانب الجنوبي من المعمور أيضا في جزيرة العرب وما إليها من أطراف الشام والعراق وهم رحالة مثلهم وأهل حرب وافتراس ومعاش من التغلب والنهب إلا في الأقل وقد ذكرنا أنهم عند الفتح لم يذعنوا إلا بعد طول حرب وممارسة أيام سائر دولة بني أمية وصدرا من صولة بني العباس وامتلأت أيدي العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولا في المهن والصنائع ونسائهم فرشا للولادة كما فعلوه في سبي الفرس والروم وسائر الأمم الذين قاتلوهم على الدين وكان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شيء مما يعانونه من الغزو والفتوح ومحاربة الأمم ومن أسلم منهم تركوه لسبيله التي هو(5/426)
عليها من أمر معاشه على طاغية هواه لأنّ عصبية العرب كانت مستفحلة يومئذ وشوكتهم قائمة مرهفة ويدهم ويد سلطانهم في الأمر جميعا ومرماهم إلى العز والمجد واحد وكانوا كأسنان المشط لتزاحم الأنساب وغضاضة الدين حتى إذا أرهف الملك حدّه ونهج إلى الاستبداد طريقه واحتاج السلطان في القيام بأمره إلى الاستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه والشوكة المعترض شباها في أذياله حتى تجدع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته وتغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدي والرشيد بطانة اصطنعوهم من موالي الترك والروم والبربر ملئوا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد والحروب والصوائف والحراسة على السلطان وزينة في أيام السلم واكثافا لعصابة الملك حتى لقد اتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجا من أضرار الرعية باصطدام مراكبهم وتراكم القتام بجوهم وضيق السكك على المارين بزحامهم وكان اسم الترك غالبا على جميعهم فكانوا تبعا لهم ومندرجين فيهم وكانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاصية وخصوصا مع الترك متصلة والفتوح فيهم متعاقبة وأمواج السبي من كل وجه متداركة وربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم واستجماع عصابتهم اصطفاء علية منهم للمخالصة وقواد العساكر ورؤساء المراكب فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبي الغلمان كالدنانير والجوار كاللآلئ ويسلمونهم إلى قهارمة القصور وقرمة الدواوين يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة وآداب الملك والسياسة ومراس الثقافة في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح والبصر بأمور الحرب والفروسية ومعاناة الخيول والسلاح والوقوف على معاني السياسة حتى إذا تنازعوا في الترشيح وانسلخوا من جلدة الخشونة إلى رقة الحاشية وملكة التهذيب اصطنعوا منهم للمخالصة ورقوهم في المراتب واختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب ورياسة المواكب أيام الزينة ورتق الفتوق الحادثة وسدّ الثغور القاصية كل على شاكلة غنائه وسابق اصطناعه فلم يزل هذا دأب الخلفاء في اصطناعهم ودعامة سرير الملك بعمدهم وتمهيد الخلافة بمقاماتهم حتى سموا في درج الملك وامتلأت جوانحهم من الغزو وطمحت أبصارهم إلى الاستبداد فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء وقعدوا بدست الملك ومدرج النهي والأمر وقادوا الدولة بزمامهم وأضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم وكان مبدأ ذلك واقعة المتوكل وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان ونهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف واقتدى الآخر بالأوّل فكانت لهم دول في الإسلام متعدّدة تعقب غالبا دولة أهل العصبية وشوكة النسب كمثل دولة بني(5/427)
سامان وراء النهر وبني سبكتكين بعدهم وبني طولون بمصر وبني طغج وما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل بني خوارزم شاه بما وراء النهر وبني طغرلتكين بدمشق وبني أرتق بماردين وبني زنكي بالموصل والشام وغير ذلك من دولهم التي قصصناها عليك في تصانيف الكتاب حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبست أثواب البلاء والعجز ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد وأدالوا بالكفر من الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم والقعود عن المناصرة والانسلاخ من جلدة الرأس وشعار الرجولية فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بأحياء رمقه وتلافى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها الغزيرة المتوافرة أمراء حامية وأنصارا متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مقادة الرق الّذي كمن اللطف في طيه وتعرفوا العز والخير في مغبته وتعرضوا للعناية الربانية بتلافيه يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة ولا كسر من سورتها غزارة الترف ثم يخرج بهم التجار إلى مصر أرسالا كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم ويتنافسون في أثمانهم بما يخرج عن القيمة لا لقصد الاستعباد إنما هو إكثاف للعصبية وتغليظ للشوكة ونزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم وعشائرهم ثم ينزلونهم في غرف الملك ويأخذونهم بالمخالصة ومعاهده التربية ومدارسة القرآن وممارسة التعليم حتى يشتدوا في ذلك ثم يعرضونهم على الرمي والثقافة وركض الخيل في الميادين والمطاعنة بالرماح والمماصعة بالسيوف حتى تشتدّ منهم السواعد وتستحكم الملكات ويستيقنوا منهم المدافعة عنهم والاستماتة دونهم فإذا بلغوا إلى هذا الحدّ ضاعفوا أرزاقهم ووفروا من أقطاهم وفرضوا عليهم استجادة السلاح وارتباط الخيول والاستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد وربما عمروا بهم خطط الملك ودرجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسي السلطان والقيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية فلا يزال نشو منهم يردف نشوا وجيل يعقب جيلا والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء والدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام وأخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك بما فوق الغاية واختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك والإمعان فيه فكان عامة عسكره منهم فلما إنفض عشيرة وخذله(5/428)
أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده لم يدع سببا في استجلابهم إلا أتاه من استجادة المتردّدين إلى ناحيتهم ومراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم وكان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر قد دوّخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال وأوقعوا بسكانه من الترك وهم شعوب القفجاق والروس والعلان والمولات وما جاورهم من قبائل جركس وكان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشي خان بن جنكزخان قد أصابهم بالقتل والسبي فامتلأت أيدي أهل تلك النواحي برقيقهم وصاروا عند التجار من أنفس بضائعهم والله تعالى أعلم.
ذكر بيبرس البندقداري
في تاريخه حكاية غريبة عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد أن عد شعوبهم فقال ومن قبائلهم يعني القفجاق قبيلة طغصبا وستا وبرج أغلا والبولى وقنعرا على وأوغلي ودورت وقلابا أعلى وجرثان وقدكابركلي وكنن هذه إحدى عشرة قبيلة وليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التي عدّدها النسابة كما قدّمناه أوّل الترجمة وهذه والله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط وهي التي في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية فإنّ سياق كلامه إنما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم ولا ما وراء النهر قال بيبرس ولما استولى التتر على بلادهم سنة ست وعشرين والملك يومئذ بكرسي جنكزخان لولده دوشي خان واتفق أنّ شخصا من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيدا فلقيه آخر من قبيلة طغصبا اسمه آقا كبك وبين القبيلتين عداوة مستحكمة فقتله وأبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لاستكشاف أمره اسمه جلنقر فرجع إليهم وأخبرهم وأنه قتل وسمى لهم قاتله فجمعوا للحرب وتزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا وخرج آقا كبك القاتل وتفرق جمعه فأرسل أخاه أقصر إلى ملكهم دوشي يستعلم ما على ذوي قبيلة دورت القفجاقية وذكره ما فعل كتمر وقومه بأخيه وأغراه بهم وسهل له الشأن فيهم وبعث دوشي خان جاسوسه لاستكشاف حالهم واختيار مراسهم وشكيمتهم فعاد إليه بتسهيل المرام فيهم وقال إن رأيت كلابا مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فأطمعه ذلك في بلاد القفجاق واستحثه أقصر الّذي جاء صريخا وقال له ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنبا واحدا وأنتم رأس واحد تجر ألف ذنب فزاده ذلك أغراء ونهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق وأثخن فيهم قتلا وسبيا وأسرا وفرّقهم في البقاع وامتلأت أيدي التجار وجلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول(5/429)
في الإيمان والاستيلاء على الملك والسلطان انتهى كلام بيبرس ومساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من القفجاق وأنّ قبيلة طغصبا من التتر فيقتضي ذلك أنّ هذه البطون التي عددت ليست من بطن واحد وكذلك يدل مساقها على أنّ أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق والله تعالى أعلم.
الخبر عن استبداد الترك بمصر وانفرادهم بها عن بني أيوب ودولة المعز أيبك أوّل ملوكهم
قد تقدّم لنا أنّ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك ومن في معناهم من التركمان والأرمن والروم وجركس وغيرهم إلا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم ومزيتهم وكانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين ومنهم الصالحية نسبة إلى هذا الصالح أيوب ومنهم البحرية نسبة إلى القلعة التي بناها الصالح بين شعبتي النيل إزاء المقياس بما كانوا حاميتها وكان هؤلاء البحرية شوكة دولته وعصابة سلطانه وخواص داره وكان من كبرائهم عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني ورديفه فارس الدين أقطاي الجامدار وركن الدين بيبرس البندقداري ولما كان ما قدّمناه ووفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الإفرنج بدمياط في سنة سبع وأربعين وكتمانهم موته ورجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجرة الدرّ زوجة الصالح وأم ولده خليل وبعثهم إلى ابنه المعظم توران شاه وانتظاره وأن الإفرنج شعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر وقتل فخر الدين الأتابك ثم أفرغ الله الصبر وثبت أقدامهم وأبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاء حسنا ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوّهون بمكانها فكانت لهم الكرّة وهزم الله العدوّ وثم وصل المعظم توران شاه من كيفا فبايعوا له وأعطوه الصفقة وانتظم الحال واستطال المسلمون على الافرنج برا وبحرا فكان ما قدّمناه من هزيمتهم والفتك بهم وأسر ملكهم الفرنسيس ثم رحل المعظم أثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من وصوله ونزل بفارس كور يريد مصر وكانت بطانته قد استطالوا على موالي أبيه وتقسموهم بين النكبة والإهمال فاتفق كبراء البحرية على قتله وهم أيبك وأقطاي وبيبرس فقتلوه كما مرّ ونصبوا للملك شجرة الدر أم خليل وخطب لها على المنابر ونقش اسمها على السكة ووضعت علامتها على المراسم ونصها أم خليل وقام أيبك التركماني بأتابكية العسكر ثم فودي الفرنسيس بالنزول عن دمياط وملكها المسلمون سنة ثمان وأربعين وسرحوه في البحر إلى بلاده بعد أن توثقوا منه باليمين أن لا(5/430)
يتعرّض لبلاد المسلمين ما بقي واستقلت الدولة بمصر للترك وانقرضت منها دولة بني أيوب بقتل المعظم وولاية المرأة وما اكتنف ذلك فامتعضوا له وكان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابي خادمه الّذي ولاه على الكرك والشويك لما ملكهما كما مرّ فأطلق بدر الدين من محبسه وبايع له وقام بأمره ولقبه المغيث واتصل الخبر بمصر وعلموا أنّ الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيبك لتقدّمه عند الصالح وأخيه العادل قبله فبايعوا له وخلعوا أمّ خليل ولقبوه بالمعز فقام بالأمر وانفرد بملك مصر وولى مولاه سيف الدين قطز نائبا وعمر المراتب والوظائف بأمراء الترك والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
نهوض الناصر صاحب دمشق من بني أيوب إلى مصر وولاية الأشرف موسى مكان أيبك
كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح وأمراء الدولة الأيوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بمصر وولاية أيبك وبيعه المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافي أمورهم وكبراء بني أيوب يومئذ بالشام الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين حلب وحمص وما إليها فاستدعوه وبايعوا له بدمشق وأغروه بطلب مصر واتصل الخبر للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بني أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم فبايعوا لموسى الّذي كان أبوه يوسف صاحب اليمن وهو يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل وهو يومئذ ابن ست سنين ولقبوه الأشرف وتزحزح له أيبك عن كرسي السلطان إلى رتبة الأتابكية واستمرّ الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر واستدعى ملوك الشام من بني أيوب فأقبل إليه موسى الأشرف الّذي كان صاحب حمص وإسماعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبكّ والمعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخوه نصر الدين وابنا داود الناصر صاحب الكرك وهما الأمجد حسن والظاهر شادي وارتحل من دمشق سنة ثمان وأربعين وفي مقدّمته أتابكه لؤلؤ الأرمني وبلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الأمر ونادوا بشعار الخلافة والدعاء للمستعصم وجدّدوا البيعة على ذلك للأشرف وجهزوا العساكر وخرجوا للقائهم وسار في المقدّمة أقطاي الجامدار وجمهور البحرية وتبعهم أيبك ساقة في العساكر والتقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا وتبعهم أهل الشام وثبت المعز في القلب ودارت عليه رحى الحرب وهرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية(5/431)
مثل جمال الدين لا يدعون وشمس الدين أتسز اليرلي وشمس الدين أتسز الحسامي غضبوا من رياسة لؤلؤ عليهم فهربوا وبقي لؤلؤ في المعركة صامدا ثم حمل المعز على الناصر وأصحابه فانهزموا وإنفض عسكرهم وجيء بلؤلؤ الأتابكي أسيرا فقتله صبرا وبأمراء بني أيوب فحبسهم ورجع أيبك من الوقعة فوجد عساكر الناصر مجتمعين بالعباسية يظنون الغلب لهم فعدل إلى بلبيس ثم إلى القلعة ورجعت عساكر الشام من أتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة ثم قتل منهم إسماعيل الصالح ووزيره ابن يغمور الّذي كان معتقلا من قبل ولما وصل الناصر إلى دمشق أزاح علل عساكره وعجل الكرّة إلى مصر ونزل غزة سنة خمسين وبرزت عساكر مصر للقائه فتواقفوا مليا ثم وصل نجم الدين البادر إلى رسول المستعصم فأصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس والساحل إلى نابلس للمعز والتخم بين المملكتين نهر الأردنّ وانعقد الأمر على ذلك ورجع كل إلى بلده وأخرج المعز عن أمراء بني أيوب الذين حبسهم يوم الوقعة والله سبحانه وتعالى أعلم.
واقعة العرب بالصعيد مع أقطاي
لما شغل الصالح بالإفرنج وما بعدهم عظم فساد العرب بالصعيد واجتمعوا على الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسماعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري من ولد جعفر بن أبي طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي المدينة في الحروب التي كانت بينهم وأطاعه أعراب الصعيد كافة ولم يقدر على كفهم عن الراية واتصل ذلك وهلك الصالح واستبدّ الترك بمصر وشغلوا عنهم بما كان من مطالبة بني أيوب لهم فلما فرغ المعز أيبك من أمر الناصر وعقد الصلح معه بعث لحربهم فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك الأفرم أمير البحرية فساروا إليهم ولقوهم بنواحي أخميم فهزموهم وفرّ الشريف ناجيا بنفسه ثم قبض عليه بعد ذلك وقتل ورجعت العساكر الى القاهرة والله تعالى أعلم.
مقتل اقطاي الجامدار وفرار البحرية إلى الناصر ورجوع أيبك إلى كرسيه
كان اقطاي الجامدار من أمراء البحرية وعظمائهم ويلقب فارس الدين وكان رديفا للمعز أيبك في سلطانه وأتابكه وكان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي وكان يخفض من(5/432)
جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن أيبك فاعتز في الدولة واستفحل أمره وأخذ من المعز الإسكندرية اقطاعا وتصرف في بيت المال وبعث فخر الدين محمد بن الناصر بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة ابنته فتزوّجها وأطلق يده في العطاء والإقطاع فعم الناس وكثر تابعه وغص به المعز أيبك وأجمع قتله فاستدعاه بعض الأيام للقصر للشورى سنة اثنتين وخمسين وقد اكمن له ثلاثة من مواليه في ممرّه بقاعة الأعمدة وهم قطز وبهادل وسنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم وبادروه بالسيوف وقتلوه لحينه واتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا وطافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا واستراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقداري وسيف الدين قلاون الصالحي وسيف الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بنسر الشمسي وسيف الدين بلبان الرشيديّ وسيف الدين تنكر وأخوه سيف الدين موافق ولحقوا بالشام فيمن انضم إليهم من البحرية واختفى من تخلف منهم واستصفيت أموالهم وذخائرهم وارتجع ما أخذه اقطاي من بيت المال ورد ثغر الإسكندرية إلى أعمال السلطان وانفرد المعز أيبك بتدبير الدولة وخلع موسى الأشرف وقطع خطبته وخطب لنفسه وتزوّج شجرة الدر زوجة الصالح التي كانوا ملكوها من قبل واستخلص علاء الدين آيدغدي العزيزي وجماعة العزيزية وأقطعه دمياط ولما وصل البحرية وأمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يستأذنونه في القدوم وساروا إليه فاحتفل في مبرتهم وأغروه بملك مصر فأجابهم وجهز العساكر وكتب المعز فيهم إلى الناصر وطلبوا منه القدس والبلاد الساحلية فاقطعها لهم ثم سار الناصر إلى الغور وبرز إلى القاهرة في العزيزية ومن إليهم ونزل العباسية وتوافق الفريقان مدّة ثم اصطلحوا ورجع كل إلى بلده سنة أربع وخمسين وبعث أيبك رسوله إلى المستعصم بطاعته وطلب الألوية والتقليد ولما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين آيدغدي لاسترابته به وأعاد دمياط إلى أعمال السلطان واتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة والله تعالى أعلم.
فرار الافرم إلى الناصر بدمشق
كان عز الدين أيبك الأفرم الصالحي واليا على قوص واخميم وأعمالها فقوي أمره وهمّ بالاستبداد وأراد المعز عزله فامتنع عليه فبعث بعض الخوارزمية مددا له ودس إليهم الفتك به فلما وصلوا إليه استخدمهم وخلطهم بنفسه فاغتالوه وقبضوا عليه وتراموا إليه للحين فبطشوا بهم وقتلوهم وخلعوه ثم عزله بعد ذلك عز الدين الصميري في خدمته واستدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع أقطاي إلى الصعيد وحضر ومعه الشريف أبو ثعلب والعرب كما مرّ(5/433)
وعاد أقطاي إلى مكانه من الدولة وأوعز المعز أيبك إلى الأفرم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد وأن يكون الصميري في خدمته وبلغه وهو هناك أنّ المعز عدا على أقطاي وقتله وأنّ أصحابه البحرية فرّوا إلى الشام فاستوحش وأظهر العصيان واستدعى الشريف أبا ثعلب وتظاهر معه على الفساد وجمعوا الأعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث وخمسين شمس الدين اليرلي في العساكر فهزمهم واعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر ونجا الأفرم في فل من مواليه إلى الواحات ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من أعراب جذام مروا به على السويس والطور ورجع عنه مواليه إلى مصر ولما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق وركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة وأعطاه خمسة آلاف دينار ولم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكرك إلى مصر كما يذكر فخشي أن يأخذه الناصر وكاتب الأتابك قطز بمصر وسار إليه فقبله أوّلا ثم قبض عليه بعد ذلك واعتقله بالإسكندرية وكان الصميري قد بقي بعد الافرم في ولاية الصعيد واستفحل فيه فسوّلت له نفسه الاستبداد ولم يتمّ له فهرب إلى الناصر سنة أربع وخمسين انتهى والله تعالى أعلم.
مقتل المعز أيبك وولاية ابنه علي المنصور
كان المعز أيبك عند ما استفحل أمره ومهد سلطانه ودفع الأعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة ولؤلؤ صاحب الموصل ليصل يده بهما وأرسل إليهما في الخطبة وأثار ذلك غيرة من زوجته شجرة الدرّ وأغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزري وخصى العزيزي ويقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام بقصره وقتلوه سنة خمس وخمسين لثلاث سنين من ولايته وسمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاءوا مع سيف الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر فدخلوا القصر وقبضوا على الجوجريّ فقتلوه وفرّ سنجر العزيزي إلى الشام وهموا بقتل شجرة الدرّ وقام الموالي الصالحية دونها فاعتقلوها ونصبوا للملك علي بن المعز أيبك ولقبوه المنصور وكان أتابكه علم الدين سنجر الحلي واشتمل موالي المعز على ابنه المنصور فكبسوا علم الدين سنجر واعتقلوه وولوا مكانه أقطاي المعزي الصالحي مولى العزيز على الدولة في نقضها وإبرامها سنة ست وخمسين وأغرته أمّ المنصور بالصاحب شرف الدين الغازي لأنّ المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه وقتله وفي هذه السنة توفي زهير بن(5/434)
علي المهلي وكان يكتب عن الصالح ويلازمه في سجنه بالكرك ثم صحبه إلى مصر والله تعالى أعلم.
نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك وانهزامهم
قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر ونهوضهم به إلى مصر وخروج أيبك إلى العباسية وما كان بينهما من الصلح فلما انعقد الصلح ورجع الناصر إلى دمشق ورجعوا عنه إلى قلعة [1] ولم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر وصرفهم عنه فلحقوا بغزة ونابلس وبعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للإيقاع بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء ولحقوا بالكرك وأطمعوا المغيث في مصر واستمدّوه لها فأمدّهم بعسكره وقصدوا مصر وكبراؤهم بيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي وبليان الرشيديّ وبرز الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم وقتل بلغار الأشرفي وأسر قلاوون الصالحي وبليان الرشيديّ وأطلق قلاوون بعد أيام في كفالة أستاذ الدار فاختفى ثم لحق بأصحابه واستحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست وخمسين ونزل الصالحية وقدم إليه عز الدين الرومي والكافوري والهواشر ممن كان يكاتبه من أمراء مصر وبرز سيف الدين قطز في عساكر مصر والتقى الجمعان فانهزم المغيث ولحق في الفل بالكرك وفرّت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك أحياء من الأكراد فرّوا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم والتحموا بالصهر معهم وخشي الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم والتقوا بالغور فانهزمت عساكره فتجهز ثانيا بنفسه وسار إليهم فخاموا عن لقائه وافترقوا فلحق الأكراد بمصر واعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم وخلصوا إلى مصر ولحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث ووعدهم بالنصر وأرسل إليه من دمشق في إسلامهم إليه وتوعده [2] أنفسهم واضطربوا ففرّ بيبرس وقلاوون إلى الصحراء وأقاموا بها ثم لحقوا بمصر وأكرمهم الأتابك قطز وأقطعهم وأقاموا عنده ولما فرّ بيبرس وقلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الأشقر وشكر وبرابق وبعث بهم إلى
__________
[1] بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه القلعة.
[2] بياض بالأصل: ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة ومقتضى السياق: ونوعده بقتلهم هم أنفسهم.(5/435)
الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها ونقلهم هلاكو إلى بلاده والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع المنصور علي بن أيبك واستبداد قطز بالملك
ثم كان ما ذكرناه ونذكره من زحف هلاكو إلى بغداد واستيلائه عليها وما بعدها إلى الفرات وفتحه ميافارقين وإربل ومسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه ودخوله في طاعته ووفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولا عن أبيه بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة والعذر عن الوصول بنفسه خوفا على سواحل الشام من الإفرنج فارتاب الأمراء بشأنهم واستصغروا سلطانهم المنصور علي بن المعز أيبك عن مدافعة هذا العدوّ لعدم ممارسته للحروب وقلة دربته بالوقاع واتفقوا على البيعة لسيف الدين قطر المعزي وكان معروفا بالصرامة والإقدام فبايعوا له وأجلسوه على الكرسي سنة ست وخمسين ولقبوه المظفر وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط ثم غربهما ولقبوه المظفر وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية وكان المتولون لذلك الصالحية والعزيزية ومن يرجع إلى قطز من المعزية وكان بهادر وسنجر الغتمي غائبين فلما قدما استراب بهما قطز وخشي من نكيرهما ومزاحمتهما فقبض عليهما وحبسهما وأخذ في تمهيد الدولة فاستوثقت له وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال أنه ابن أخت خوارزم شاه واسمه محمود بن مودود أسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم حكاه النوويّ عن جماعة من المؤرخين والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
استيلاء التتر على الشام وانقراض أمر بني أيوب ثم مسير قطز بالعساكر وارتجاعه الشام من أيدي التتر وهزيمتهم وحصول الشام في ملك الترك
ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان وخمسين وفرّ الناصر وأخوه الظاهر إلى التيه ولحق بمصر المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر وملك هلاكو بلاد الشام واحدة واحدة وهدم أسوارها وولى عليها وأطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل سنقر الأشقر وشكر وبرابق واستخدمهم ثم قفل إلى العراق لاختلاف بين إخوته واستخلف على(5/436)
الشام كتبغا من أكبر أمرائه في اثني عشر ألفا من العساكر وتقدّم إليه بمطالعة الأشرف إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشام واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها فهوّن عليه الأمر وقللهم في عينه فجهز كتبغا ومن معه ولما فصل سار كتبغا إلى قلعة دمشق وهي ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة وقتل نائبها بدر الدين بربدك وخيم بمرج دمشق وجاءه من ملوك الإفرنج بالساحل ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فردّه إلى عمله وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله وردّه إلى أبيه واجتمعت عساكر مصر واحتشد المظفر العرب والتركمان وبعث إليهم بالعطايا وأزاح العلل وبعث كتبغا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل ونهض إلى الشام مصمما للقاء العدوّ ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل وزحف كتبغا وعساكر التتر ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل وبعث إليهما قطز يستميلهما فوعده الأشرف بالانهزام يوم اللقاء وأساء العزيز الردّ على رسوله وأوقع به والتقى الفريقان بالغور على عين جالوت وتحيز الأشرف عند ما تناشبوا فانهزم التتر وقتل أميرهم كتبغا في المعركة وجيء بالسعيد صاحب الضبينة أسيرا فوبخه ثم قتله وجيء بالعزيز بن المغيث وأسر يومئذ [1] الّذي ملك مصر بعد ذلك ولقي العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم وانتهى إلى حمص فلقي مددا من التتر جاء لكتبغا فاستأصلهم ورجع إليه الأشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقرّه على بلده وبعث المنصور على بلده حماة وأقرّه عليها وردّ إليه المعرّة وانتزع منه سليمة فأقطعها لأمير العرب مهنا بن مانع بن جديلة وسار إلى دمشق فهرب من كان بها من التتر وقتل من وجد بها من بقاياهم ورتب العساكر في البلاد وولى على دمشق علم الدين سنجر الحلي الصالحي وهو الّذي كان أتابك علي بن أيبك ونجم الدين أبا الهيجاء ابن خشترين الكردي وولى على حلب السعيد ويقال المظفر علاء الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل وكان وصل إلى الناصر بمصر هاربا أمام التتر وسار معه فلما دخل الناصر منها لحق هو بمصر وأحسن إليه قطز ثم ولاه الناصر على حلب الآن ليتوصل إلى أخبار التتر من أخيه الصالح بالموصل وولى على نابلس وغزة والسواحل شمس الدين دانشير اليرلي من أمراء العزيز محمد وهو أبو الناصر وكان هرب منه عند نهوضه إلى مصر في جماعة من العزيزية ولحق بأتابك ثم ارتاب بهم وقبض على بعضهم ورجع اليرلي في الباقين
__________
[1] بياض بالأصل: ويظهر من الفصول اللاحقة أنه الظاهر بيبرس لأنه هو الّذي ملك مصر بعد ذلك.(5/437)
إلى الناصر فاعتقله بقلعة حلب حتى سار إلى التتر فلما دخل إليها سار اليرلي مع العساكر إلى مصر فأكرمه المظفر وولاه الآن على السواحل وغزة وأقام المظفر بدمشق عشرين ليلة وأقبل إلى مصر ولما بلغ إلى هلاكو ما وقع بقومه في الشام واستيلاء الترك عليه اتهم صاحب دمشق بأنه خدعه في إشارته وقتله كما مرّ وانقرض ملك بني أيوب من الشام أجمع وصار لملوك مصر من الترك والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
مقتل المظفر وولاية الظاهر بيبرس
كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثاره وكان قطز هو الّذي تولى قتله فكان مستريبا بهم ولما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه وجاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام وأهله فأمنهم واشتمل عليهم وشهدوا معه واقعة التتر على عين جالوت وأبلغوا فيها والمقدّمون فيهم يومئذ بيبرس البندقداري وأنز الأصبهاني وبليان الرشيديّ وبكتون الجوكنداري وبند وغار التركي فلما انهزم التتر من الشام واستولوا عليه وحسر ذلك المد وأفرج عن الخائفين الروع عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثار أقطاي فلما قفل قطز من دمشق سنة ثمان وخمسين أجمعوا أن يبرزوا به في طريقهم فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيد وسارت الرواحل على الطريق فاتبعوه وتقدّم إليه أنز شفيعا في بعض أصحابه فشفعه فأهوى يقبل يده فأمسكها وعلاه بيبرس بالسيف فخرّ صريعا لليدين والفم ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه وتبادروا إلى المخيم وقام دون فارس الدين اقطاي على ابن المعز أيبك وسأل من تولى قتله منكم فقالوا بيبرس فبايع له وأتبعه أهل المعسكر ولقبوه الظاهر وبعثوا أيدمر الحلي بالخبر إلى القلعة بمصر فأخذ له البيعة على من هناك ووصل الظاهر منتصف ذي القعدة من السنة فجلس على كرسيه واستخلف الناس على طبقاتهم وكتب إلى الأقطار بذلك ورتب الوظائف وولى الأمراء وولى تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الوزارة مع القضاء واقتدى بآثار أستاذه الصالح نجم الدين ومبدأ أمر هذا الظاهر بيبرس أنه كان من موالي علاء الدين أيدكين البندقداري مولى الصالح فسخط عليه واعتقله وانتزع ماله ومواليه وكان منهم بيبرس فصيره مع الجامدارية وما زال يترقى في المراتب إلى أن تقدّم في الحروب ورياسة المراكب ثم كان خبره بعد الصالح ما قصصناه انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم
.(5/438)
انتقاض سنجر الحلي بدمشق ثم آقوش البرلي بحلب
ولما بلغ علم الدين سنجر بدمشق مقتل قطز وولاية الظاهر بيبرس انتقض ودعا لنفسه وجلس على التخت بدمشق وتلقب المجاهد وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه وتمسك المنصور صاحب حماة بدعوة الظاهر وجاءت عساكر التتر إلى الشام فلما شارفوا البيرة جرد إليهم السعيد بن لؤلؤ من حلب عسكرا فهزمهم التتر وقتلوهم واتهم الأمراء العزيزية والناصرية ابن لؤلؤ في ذلك فاعتقلوه وقدموا عليهم حسام الدين الجوكنداري وأقرّه الظاهر وزحف التتر إلى حلب فملكوها وهرب حسام الدين إلى حماة ثم زحف إليها التتر فلحق صاحبها المنصور وأخوه علي الأفضل إلى حمص وبها الأشرف بن شيركوه واجتمعت إليه العزيزة والناصرية وقصدوا التتر سنة تسع وخمسين فهزموهم بعد هزيمتهم ونازلوا حماة وسار المنصور والأشرف صاحب حمص إلى سنجر الحلي بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه وسار التتر من حماة إلى أفامية فحاصروها يوما وعبروا الفرات إلى بلادهم وبعث بيبرس الظاهر صاحب مصر أستاذه علاء الدين البند قداري في العساكر لقتال سنجر الحلي بدمشق وقاتلهم فهزموه ولجأ إلى القلعة ثم خرج منها ليلا إلى بعلبكّ وأتبعوه فقبضوا عليه وبعثوه إلى الظاهر فاعتقله واستقرّ أيدكين بدمشق ورجع صاحب حمص وحماة إلى بلديهما وبعث الظاهر إلى أيدكين بالقبض على بهاء الدين بقري وشمس الدين أقوش اليرلي [1] وغيرهما من العزيزية فقبض على بقري وفرّ العزيزية والناصرية مع أقوش اليرلي وطالبوا صاحب حمص وصاحب حماة في الانتقاض فلم يجيباهم إلى ذلك فقال لفخر الدين [2] أطلب لي الظاهر المقدّم معك في خدمتك وبينما هو يسير لذلك خالفه اليرلي إلى حلب وثار بها وجمع العرب والتركمان ونصب للحرب فجاءت العساكر من مصر فقاتلوه وغلبوه عليها ولحق بالبيرة فملكها واستقرّ بها حتى إذا جهر الظاهر عساكره سنة ستين إلى حلب مع سنقر الرومي سار معه صاحب حماة وصاحب حمص للإغارة على أنطاكية ولقيهم اليرلي وأعطاهم طاعته وأقرّه الظاهر على البيرة ثم ارتاب به بعد ذلك واعتقله ثم علاء الدين أيدكين البند قداري مولى السلطان بدمشق وولى عليها بيبرس الوزير ورجع والله ينصر من يشاء من عباده انتهى.
__________
[1] واسمه في أخبار البشر ج 3 ص 210: أقوش البرلي.
[2] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 3 ص 211: فلما قدم البرلي إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصي المذكور، فقال له البرلي: نحن في طاعة الملك الظاهر.(5/439)
البيعة للخليفة بمصر ثم مقتله بالحديثة وغانة على يد التتر والبيعة للآخر الّذي استقرّت الخلافة في عقبه بمصر
لما قتل الخليفة عبد الله المستعصم ببغداد بقي رسم الخلافة الإسلامية عطلا بأقطار الأرض والظاهر متشوّف إلى تجديده وعمارة دسته ووصل إلى مصر سنة تسع وخمسين عمّ المستعصم وهو أبو العباس أحمد بن الظاهر كان بقصورهم ببغداد وخلص يوم البيعة وأقام يتردّد في الأحياء إلى أن لحق بمصر فسرّ الظاهر بقدومه وركب للقائه ودعا الناس على طبقاتهم إلى أبواب السلطان بالقلعة وأفرد بالمجلس أدبا معه وحضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز فحكم باتصال نسبه بالشجرة الكريمة بشهادة العرب الواصلين به والخدم الناجعين من قصورهم ثم بايع له الظاهر والناس على طبقاتهم وكتب إلى النواحي بأخذ البيعة له والخطبة على المنابر ونقش اسمه في السكة ولقب المستنصر وأشهد هو حينئذ الملأ بتفويض الأمر للظاهر والخروج له عن العهد وكتب بذلك سجله وأنشأه فخر الدين بن لقمان كاتب الترسيل ثم ركب السلطان والناس كافة إلى خيمة بنيت خارج المدينة فقرئ التقليد على الناس وخلع على أهل المراتب والخواص ونادى السلطان بمظاهرته وإعادته إلى دار خلافته ثم خطب هذا الخليفة يوم الجمعة وخشع في منبره فأبكى الناس وصلى وانصرفوا إلى منازلهم ووصل على أثره الصالح إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل وأخوه إسحاق صاحب الجزيرة وقد كان أبوهما لؤلؤ استخدم لهلاكو كما مرّ وأقره على الموصل وما إليها وتوفي سنة سبع وخمسين وقد ولي ابنه إسماعيل على الموصل وابنه إسماعيل المجاهد على جزيرة ابن عمر وابنه السعيد على سنجار وأقرّهم هلاكو على أعمالهم ولحق السعيد بالناصر صاحب دمشق وسار معه إلى مصر وصار مع قطز وولاه حلب كما مرّ ثم اعتقل ثم ارتاب هلاكو بالأخوين فأجفلا ولحقا بمصر وبالغ الظاهر في إكرامهم وسألوه في إطلاق أخيهم المعتقل فأطلقه وكتب لهم بالولاية على أعمالهم وأعطاهم الألوية وشرع في تجهيز الخليفة إلى كرسيه ببغداد فاستخدم له العساكر وأقام له الفساطيط والخيام ورتب له الوظائف وأزاح علل الجميع يقال أنفق في تلك النوبة نحوا من ألف ألف دينار ثم سار من مصر في شوّال من السنة إلى دمشق ليبعث من هناك الخليفة وابني لؤلؤ إلى ممالكهم ووصل إلى دمشق ونزل بالقلعة وبعث بليان الرشيديّ وشمس الدين سنقر إلى الفرات وصمم الخليفة لقصده وفارقهم وسار الصالح إسماعيل وأخواه إلى الموصل وبلغ الخبر إلى هلاكو فجرد العساكر إلى الخليفة وكبسوه بغانة والحديثة فصابرهم قليلا ثم(5/440)
استشهد وبعث العساكر إلى الموصل فحاصروها تسعة أشهر حتى جهدهم الحصار واستسلموا فملكها التتر وقتلوا الصالح إسماعيل والظاهر خلال ذلك مقيم بدمشق وقد وفد عليه بنو أيوب من نواحي الشام وأعطوه طاعتهم المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص فأكرم وصلهما وولاهما على أعمالها وأذن لهما في اتخاذ الآلة وبسط حكمهما على بلاد الإسماعيلية وإلى المنصور تل باشر الّذي اعتاضه عن حمص لما آخذها منه الناصر صاحب حلب ووفد على الظاهر أيضا بدمشق الزاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وصاحب بعلبكّ والمنصور والسعيد ابنا الصالح إسماعيل بن العادل والأمجد بن الناصر داود والأشرف بن مسعود والظاهر بن المعظم فأكرم وفادتهم وقابل بالإحسان والقبول طاعتهم وفرض لهم الأرزاق وقرّر الجرايات ثم قفل إلى مصر وأفرج عن العزيز بن المغيث الّذي كان اعتقله قطز وأطلقه يوم الموقعة بالكرك وولى على أحياء العرب بالشام عيسى بن مهنا بن مانع بن جريلة من رجالاتهم ووفر لهم الإقطاع على حفظ السابلة إلى حدود العراق ورجع إلى مصر فقدم عليه رجل من عقب المسترشد من خلفاء بني العباس ببغداد اسمه أحمد فأثبت نسبه ابن بنت الأعز كالأوّل وجمع الظاهر الناس على مراتبهم وبايع له وفوض إليه هو الأمور وخرج إليه عن التدبير وكانت هذه البيعة سنة ستين ونسبه عند العباسيين في أدراج نسبهم الثابت أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن الإمام المسترشد وعند نسابة مصر أحمد بن حسن بن أبي بكر بن الأمير أبي علي القتبي بن الأمير حسن بن الإمام الراشد بن الإمام المسترشد هكذا قال صاحب حماة في تاريخه وهو الّذي استقرّت الخلافة في عقبه بمصر لهذا العهد انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
فرار التركمان من الشام إلى بلاد الروم
كان التركمان عند دخول التتر إلى بلاد الشام كلهم قد أجفلوا إلى الساحل واجتمعت أحياؤهم بالجوكان قريبا من صفد وكان الظاهر لما نهض إلى الشام اعترضه رسل الإفرنج من يافا وبيروت وصفد يسألونه في الصلح على ما كان لعهد صلاح الدين فأجابهم وكتب به إلى الانبردور [1] ملكهم ببلاد إفرنسة وراء البحر فكانوا في ذمة من الظاهر وعهد ووقعت بين الإفرنج بصفد وبين أحياء التركمان واقعة يقال أغار فيها أهل صفد عليهم فأوقع بهم التركمان وأسروا عدّة من رؤسائهم وفادوهم بالمال ثم خشوا عاقبة ذلك من الظاهر فارتحلوا إلى بلاد الروم وأقفر الشام منهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
__________
[1] أي الامبراطور(5/441)
انتقاض الأشرفية والعزيزية واستيلاء اليرلي على البيرة
كان هؤلاء العزيزية والأشرفية من أعظم جموع هؤلاء الموالي وكان مقدم الأشرفية بهاء الدين بقري ومقدم العزيزية شمس الدين أقوش وكان المظفر قطز قد أقطعه نابلس وغزة وسواحل الشام ولما ولي الظاهر انتقض عليه سنجر الحلي بدمشق وجهز أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتاله وكان الأشرفية والعزيزية بحلب وقد انتقضوا على نائبها السعيد بن لؤلؤ كما مرّ فتقدّم البندقداري باستدعائهم معه إلى دمشق ثم أضاف الظاهر بيسان لليرلي زيادة على ما بيده فسار وملك دمشق ثم أوعز الظاهر إلى البندقداري بالقبض على العزيزية والأشرفية فلم يتمكن الأمن بقرى مقدم الأشرفية وفارقه الباقون وانتقضوا واستولى شرف الدين اليرلي على البيرة وأقام بها وشنّ الغارات على التتر شرقي الفرات فنال منهم ثم جهز عساكره إليه مع جمال الدين بامو الحموي فهزمهم وأطلقهم وأقام الظاهر على استمالته بالترغيب والترهيب حتى جنح إلى الطاعة واستأذن في القدوم وسار بكباس الفخري للقائه فلقيه بدمشق سنة إحدى وستين ثم وصل فأوسعه السلطان يدا وعطاء والواصلين معه على مراتبهم واختصه بمراكبته ومشورته وسأله النزول عن البيرة فنزل عنها فقبلها الظاهر وأعاضه عنها والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء الظاهر على الكرك من يد المغيث وعلى حمص بعد وفاة صاحبها
لما قفل السلطان من الشام سنة ستين كما قدّمناه جرّد عسكرا إلى الشويك مع بدر الدين أيدمري فملكها وولى عليها بدر الدين بليان الخصي ورجع إلى مصر وكان عند المغيث بالكرك جماعة من الأكراد الذين اجفلوا من شهرزور أمام التتر إلى الشام وكان قد اتخذهم جندا لعسكرته فسرّحهم للإغارة على الشويك ونواحيه فاعتزم السلطان على الحركة إلى الكرك مخافة المغيث وبعث بالطاعة واستأمن الأكراد فقبلهم الظاهر وأمن الأكراد فوصلوا إليه ثم سار سنة إحدى وستين إلى الكرك واستخلف على مصر سنجر الحلي واستخلف على غزة فلقي هنالك أمّ المغيث تستعطفه وتستأمن منه لحضور ابنها فأجابها وسار إلى بيسان فسار المغيث للقائه فلما وصل قبض عليه وبعثه من حينه إلى القاهرة مع آق سنقر الفارقاني وقتل بعد ذلك بمصر وولي على الكرك عز الدين أيدمر وأرسل نور الدين بيسري الشمسي ليؤمن أهل الكرك(5/442)
ويرتب الأمور بها وأقام بالطور في انتظاره فأبلغ بيسري القصد من ذلك ورجع إليه فارتحل إلى القدس وأمر بعمارة مسجده ورجع إلى مصر وبلغه وفاة صاحب حمص موسى الأشرف ابن إبراهيم المنصور شيركوه المجاهد بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه وكانت وراثة له من آبائه أقطعه نور الدين العادل لجدّه أسد الدين ولم تزل في أيديهم وأخذها الناصر يوسف صاحب حلب سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر وأعادها عليه هلاكو وأقرّه الظاهر توفي سنة إحدى وستين وصارت للظاهر وانقرض منها ملك بني أيوب والله سبحانه وتعالى أعلم.
هزيمة التتر على البيرة وفتح قيسارية وارسوف بعدها
ثم رجعت عساكر التتر الى البيرة مع ردمانة من أمراء المغل سنة ثلاث وستين فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق فجهز السلطان العساكر مع لوغان من أمراء الترك فساروا في ربيع من السنة وسار السلطان في أثرهم وانتهى الى غزة ولما وصلت العساكر الى البيرة وأشرفوا عليها والعدوّ يحاصرها أجفلت عساكر التتر وساروا منهزمين وخلفوا سوادهم وأثقالهم فنهبتها العساكر وارتحل السلطان من غزة وقصد قيسارية وهي للافرنج فنزل عليها عاشر جمادى من السنة فنصب المجانيق ودعا أهلها للحرب واقتحمها عليهم فهربوا الى القلعة فحاصرها خمسا وملكها عنوة وفرّ الافرنج منها ثم رحل في خف من العساكر الى عملها فشنّ عليها الغارة وسرّح عسكرا الى حيفا فملكها عنوة وخرّبوها وقلعتها في يوم أو بعض يوم ثم ارتحل الى ارسوف فنازلها مستهل جمادى الأخيرة فحاصرها وفتحها عنوة وأسر الافرنج الذين بها وبعث بهم الى الكرك وقسم أسوارها على الأمراء فرموها وعمد الى ما ملك في هذه الغزاة من القرى والضياع والأرضين فقسمها على الأمراء الذين كانوا معه وكانوا اثنين وخمسين وكتب لهم بذلك وقفل الى مصر وبلغه الخبر بوفاة هلاكو ملك التتر في ربيع من السنة وولاية ابنه ابغا مكانه وما وقع بينه وبين بركة صاحب الشمال من الفتنة ولأوّل دخوله لمصر قبض على شمس الدين سنقر الرومي وحبسه وكانت الفتنة قبل غزاته بين عيسى بن مهنا ولحق زامل بعد ذلك بهلاكو ثم استأمن الى الظاهر فآمنه وعاد الى احيائه والله تعالى أعلم.
غزو طرابلس وفتح صفد
كانت طرابلس للافرنج وبها سمند بن البرنس الأشتر وله معها انطاكية وبلغ السلطان انه قد(5/443)
تجهز للقتال فلقيه النائب بها علم الدين سنجر الباشقر وانهزم المسلمون واستشهد كثير منهم فتجهز السلطان للغزو وسار من مصر في شعبان سنة أربع وستين وترك ابنه السعيد عليا بالقلعة في كفالة عز الدين ايدمر الحلي وقد كان عهد لابنه السعيد بالملك سنة اثنتين وستين ولما انتهى الى غزة بعث العساكر صحبة سيف الدين قلاون آيدغدي العزيزي فنازل القليعات وحلب وعرقا من حصون طرابلس فاستأمنوا اليه وزحفت العساكر وسار السلطان الى صفد فحاصرها عشرا ثم اقتحمها عليهم في عشرين من رمضان السنة وجمع الافرنج الذين بها فاستلحمهم أجمعين وأنزل بها الحامية وفرض أرزاقهم في ديوان العطاء ورجع الى دمشق والله تعالى أعلم.
مسير العساكر لغزو الأرمن
هؤلاء الأرمن من ولد أخي إبراهيم عليه السلام من بني قوميل بن ناحور وناحور بن تارح وعبر عنه في التنزيل بآزر وناحور أخو إبراهيم عليه السلام ويقال أنّ الكرج اخوة الأرمن وارمينية منسوبة اليهم وآخر مواطنهم الدروب المجاورة لحلب وقاعدتها سيس ويلقب ملكهم التكفور وكان ملكهم صاحب هذه الدروب لعهد الملك الكامل وصلاح الدين من بعده اسمه قليج بن اليون واستنجد به العادل وأقطع له وكان يعسكر معه وصالحه صلاح الدين على بلاده ثم كان ملكهم لعهد هلاكو والتتر هيثوم بن قسطنطين ولعله من أعقاب قليج أو قرابته ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته فأقرّه على سلطانه ثم أمره بالاغارة على بلاد الشام وأمده صاحب بلاد الروم من التتر وسار سنة اثنتين وستين ومعه بنو كلاب من أعراب حلب وانتهوا الى سيس وجهز الظاهر عساكر حماة وحمص فساروا اليهم وهزموهم ورجعوا الى بلادهم فلما رجع السلطان من غزاة طرابلس سنة أربع وستين سرّح العساكر لغزو سيس وبلاد الأرمن وعليهم سيف الدين قلاون والمنصور صاحب حماة فساروا لذلك وكان هيثوم ملكهم قد ترهب ونصب للملك ابنه كيقومن فجمع كيقومن الأرمن وسار للقائهم ومعه أخوه وعمه وأوقع بهم المسلمون قتلا وأسرا وقتل أخوه وعمه في جماعة من الأرمن واكتسحت عساكر المسلمين بلادهم واقتحموا مدينة سيس وخربوها ورجعوا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والسبي وتلقاهم الظاهر من دمشق عند قارا فلما رآهم ازداد سرورا بما حصل لهم وشكا اليه هنالك الرعية ما لحقهم من عدوان الأحياء الرحالة وانهم ينهبون موجودهم ويبيعون ما يتخطفونه منهم من الافرنج بعكا فأمر باستباحتهم(5/444)
وأصبحوا نهبا في أيدي العساكر بين القتل والأسر والسبي ثم سار الى مصر وأطلق كيقومن من ملك الأرمن وصالحه على بلده ولم يزل مقيما الى أن بعث أبوه في فدائه وبذل فيه الأموال والقلاع فأبى الظاهر من ذلك وشرط عليه خلاص الأمراء الذين أخذهم هلاكو من سجن حلب وهم سنقر الأشقر وأصحابه فبعث فيهم تكفر الى هلاكو فبعث بهم اليه وبعث الظاهر بابنه منتصف شوّال وتسلم القلاع التي بذلت في فدائه وكانت من أعظم القلاع وأحصنها منها مرزبان ورعبان وقدم سنقر الأشقر على الظاهر بدمشق وأصبح معه في الموكب ولم يكن أحد علم بأمره وأعظم اليه السلطان النعمة ورفع الرتبة ورعى له السابقة والصحبة وتوفي هيثوم سنة ستين بعدها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مسير الظاهر لغزو حصون الافرنج بالشام وفتح يافا والشقيف ثم انطاكية
كان الظاهر عند ما رجع من غزاة طرابلس الى مصر أمر بتجديد الجامع الأزهر واقامة الخطبة به وكان معطلا منها منذ مائة سنة وهو أوّل مسجد أسسه الشيعة بالقاهرة حين اختطوها ثم خرج الى دمشق لخبر بلغه عن التتر ولم يثبت فسار من هنالك الى صفد وكان أمر عند مسيره بعمارتها وبلغه اغارة أهل الشقيف على الثغور فقصدها وشنّ الغارة على عكا واكتسح بسائطها حتى سأل الأفرنج منه الصلح على ما يرضيه فشرط المقاسمة في صيدا وهدم الشقيف واطلاق تجار من المسلمين كانوا أسروهم ودية بعض القتلى الّذي أصابوا دمه وعقد الصلح لعشر سنين ولم يوفوا بما شرط عليهم فنهض لغزوهم ونزل فلسطين في جمادى سنة ست وستين وسرّح العساكر لحصار الشقيف ثم بلغه مهلك صاحب يافا من الافرنج وملك ابنه مكانه وجاءت رسله اليه في طلب الموادعة فحبسهم وصبح البلد فاقتحمها ولجأ أهلها الى القلعة فاستنزلهم بالأمان وهدمها وكان أوّل من اختط مدينة يافا هذه صنكل من ملوك الافرنج عند ما ملكوا سواحل الشام سنة ثلاث وتسعين واربعمائة ثم مدنها وأتم عمارتها ريد افرنس المأسور على دمياط عند ما خلص من محبسه بدار بن لقمان ثم رجع الى حصن الشقيف فحاصره وافتتحه بالأمان وبث العساكر في نواحي طرابلس فاكتسحوها وخربوا عمرانها وكنائسها وبادر صاحب طرطوس بطاعة السلطان وبعث الى العساكر بالميرة وأطلق الأسرى الذين عنده ثلاثمائة أو يزيدون ثم ارتحل السلطان الى حمص وحماة يريد انطاكية(5/445)
وقدّم سيف الدين قلاون في العساكر فنازل انطاكية في شعبان فسار [1] المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر وكان صاحب انطاكية سمند بن تيمند وكانت قاعدة ملك الروم قبل الإسلام اختطها انطيخس من ملوك اليونانيين واليه تنسب ثم صارت للروم وملكها المسلمون عند الفتح ثم ملكها الافرنج عند ما ساروا الى ساحل الشام أعوام التسعين والأربعمائة ثم استطردها صلاح الدين من البرنس ارناط الّذي قتله في واقعة حطين كما مرّ ثم ارتجعها الافرنج بعد ذلك على يد البرنس الأشتر وأظنه صنكل ثم صارت لابنه تيمند ثم لابنه سمند وكان عند ما حاصرها الظاهر بطرابلس وكان بها كند اصطبل عم يغمور ملك الأرمن أفلت من الواقعة عليه بالذرابند واستقرّ بأنطاكية عند سمند فخرج في جموعه لقتال الظاهر فانهزم أصحابه وأسر كند اصطبل على أن يحمل أهل انطاكية على الطاعة فلم يوافقوه ثم جهدهم الحصار واقتحمها المسلمون عنوة وأثخنوا فيهم ونجا فلهم الى القلعة فاستنزلوا على الأمان وكتب الظاهر الى ملكهم سمند وهو بطرابلس وأطلق كند اصطبل وأقاربه الى ملكهم هيثوم بسيس ثم جمع الغنائم وقسمها وخرب قلعة انطاكية وأضرمها نارا واستأمن صاحب بغراس فبعث اليه سنقر الفارقيّ استاذ داره فملكها وأرسل صاحب عكا الى الظاهر في الصلح وهو ابن أخت صاحب قبرس فعقد له السلطان الصلح لعشر سنين ثم عاد الى مصر فدخلها ثالث أيام التشريق من السنة والله تعالى أعلم.
الصلح مع التتر
ثم نهض السلطان من مصر سنة سبع وستين لغزو الافرنج بسواحل الشام وخلف على مصر عز الدين ايدمر الحلي مع ابنه السعيد ولي عهده وانتهى الى ارسوف فبلغه أنّ رسلا جاءوا من عند ابغا بن هلاكو ومرّوا نقفور ملك الروم فبعث بهم الى [2] فبعث أميرا من حلب لإحضارهم وقرأ كتاب ابغا نقفور تكفر في الصلح ويحتال فيما أذاعه من رسالته فأعاد رسله بجوابهم وأذن للامراء في الانطلاق الى مصر ورجع الى دمشق ثم سار منها في خف من العسكر الى القلاع وبلغه وفاة ايدمر الحلي بمصر فخيم بخربة اللصوص وأغذ السير الى مصر متنكرا منتصف شعبان في خف من التركمان وقد طوى خبره عن معسكره وأوهمهم القعود في
__________
[1] بياض بالأصل وفي اخبار البشر ج 4 ص 23: ولما فرغ السلطان من فتح طرابلس وهدمها عاد الى الديار المصرية واعطى صاحب حماة الدستور فعاد الى بلده.
[2] بياض بالأصل ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على اسم البلد الّذي أرسلهم اليها.(5/446)
خيمته عليلا ووصل الى القلعة ليلة الثلاثاء رابعة سفره فتنكر له الحراس وطولع مقدّم الطواشية فطلب منهم امارة على صدقهم فأعطوها ثم دخل فعرفوه وباكر الميدان يوم الخميس فسرّ به الناس ثم قضى حاجة نفسه وخرج ليلة الإثنين عائدا الى الشام كما جاء فوصل الى مخيمه ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان وفرح الأمراء بقدومه ثم فرق البعوث في الجهات وأغاروا على صور وملكوا احدى الضياع وساحوا في بسيط كركو فاكتسحوها وامتلأت أيديهم بالغنائم ورجعوا والله تعالى أعلم.
استيلاء الظاهر على صهيون
كان صلاح الدين بن أيوب قد أقطعها يوم فتحها وهي سنة أربع وثمانين وخمسمائة لناصر الدين منكبرس فلم تزل بيده الى أن هلك وولي فيها بعده ابنه مظفر الدين عثمان وبعده ابنه سيف الدين بن عثمان واستبدّ الترك بمصر وبعث سيف الدين أخاه عماد الدين سنة ستين بالهدايا الى الملك الظاهر بيبرس فقبلها وأحسن اليه ثم مات سيف الدين سنة تسع وستين وكان أوصى أولاده بالنزول للظاهر عن صهيون فوفد ابناه سابق الدين وفخر الدين على السلطان بمصر فأكرمهما وأقطعهما وولى سابق الدين منهما أميرا وولى على صهيون من قبله ولم يزل كذلك الى أن غلب عليها سنقر الأشقر عند ما انتقض بدمشق أيام المنصور والله تعالى أعلم.
نهوض الظاهر الى الحج
ثم بلغ الظاهر أنّ أبا نمي بن أبي سعد بن قتادة غلب عمه إدريس بن قتادة على مكة واستبدّ بها وخطب للظاهر فكتب له بالامارة على مكة واعتزم على النهوض الى الحج وتجهز لذلك سنة سبع وستين وأزاح علل أصحابه وشيع العساكر مع آقسنقر الفارقاني استاذ داره الى دمشق وسار الى الكرك موريا بالصيد وانتهى الى الشويك ورحل منه لإحدى عشرة ليلة من ذي القعدة ومرّ بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فأحرم من ميقاتها وقدم مكة لخمس من ذي الحجة وغسل الكعبة بيده وحمل لها الماء على كتفه وأباح للمسلمين دخولها وأقام على بابها يأخذ بأيديهم ثم قضى حجه ومناسكه وولى نائبا على مكة شمس الدين مروان وأحسن الى الأمير أبي نمي والى صاحب ينبع وخليص وسائر شرفاء الحجاز وكتب الى صاحب اليمن: اني بمكة وقد وصلتها في سبع عشرة خطوة ثم فصل من(5/447)
مكة ثالث عشر ذي الحجة فوصل المدينة على سبعة أيام ووصل الى الكرك منسلخ السنة ثم وصل دمشق غرة ثمان وستين وسار الى زيارة القدس وقدّم العساكر مع الأمير آقسنقر الى مصر وعاد من الزيارة فأدركهم بتل العجول ووصل القلعة ثالث صفر من السنة والله تعالى أعلم.
اغارة الافرنج والتتر على حلب ونهوض السلطان اليهم
كان صمغان من أمراء التتر مقيما ببلاد الروم وأميرا عليها فوقعت المراسلة بينه وبين الافرنج في الاغارة على بلاد الشام وجاء صمغان في عسكره لموعدهم فأغار على أحياء العرب بنواحي حلب وبلغ الخبر الى الظاهر سنة ثمان وستين وهو يتصيد بنواحي الاسكندرية فنهض من وقته الى غزة ثم الى دمشق ورجع التتر على أعقابهم ثم سار الى عكا فاكتسح نواحيها وأثخن فيها وفعل كذلك بحصن الأكراد ورجع الى دمشق آخر رجب ثم الى مصر ومرّ بعسقلان فخرّبها وطمس آثارها وجاءه الخبر بمصر بأنّ الفرنسيس لويس بن لويس وملك انكلترة وملك اسكوسنا [1] وملك نودل وملك برشلونة وهو ريدراكون وجماعة من ملوك الافرنج جاءوا في الاساطيل الى صقلّيّة وشرعوا في الاستكثار من الشواني وآلة الحرب ولم يعرف وجه مذهبهم فاهتم الظاهر بحفظ الثغور والسواحل واستكثر من الشواني والمراكب ثم جاء الخبر الصحيح بأنهم قاصدون تونس فكان من خبرهم ما نذكره في دولة السلطان بها من بني أبي حفص والله تعالى أعلم.
فتح حصن الأكراد وعكا وحصون صور
ثم سار السلطان سنة تسع وستين لغزو بلاد الافرنج وسرّح ابنه السعيد في العساكر الى المرقب لنظر الأمير قلاون وببعلبكّ الخزندار وسار هو الى طرابلس فاكتسحوا سائر تلك النواحي لحصن الأكراد عاشر شعبان من السنة فحاصره السلطان عشرا ثم اقتحمت أرباضه وانحجر الافرنج في قلعته واستأمنوا وخرجوا الى بلادهم وملك الظاهر الحصون وكتب الى صاحب الأستبار بالفتح وهو بطرسوس وأجاب بطلب الصلح فعقد له على طرسوس
__________
[1] هي اسكوتلندا(5/448)
والمرقب وارتحل السلطان عن حصن الأكراد بعد أن شحنه بالأقوات والحامية ونازل حصن عكا [1] واشتدّ في حصاره واستأمن أهله اليه وملكه ثم ارتحل بعد الفطر الى طرابلس واشتدّ في قتالها وسأل صاحبها البرنس الصلح فعقد له على ذلك لعشر سنين ورجع الى دمشق ثم خرج آخر شوّال الى العليقة وملك قلعته بالأمان على أن يتركوا الأموال والسلاح واستولى عليه وهدمه وسار الى اللجون وبعث اليه صاحب صور في الصلح على أن ينزل له عن خمس من قلاعه فعقد له الصلح لعشر سنين وملكها ثم كتب الى نائبة بمصر أن يجهز عشرة من الشواني الى قبرس فجهزها ووصلت ليلا الى قبرس والله أعلم.
استيلاء الظاهر على حصون الإسماعيلية بالشام
كان الإسماعيلية في حصون من الشام قد ملكوها وهي مصياف والعليقة والكهف والمنيفة والقدموس وكان كبيرهم لعهد الظاهر نجم الدين الشعراني وكان قد جعل له الظاهر ولايتها ثم تأخر عن لقائه في بعض الأوقات فعزله وولى عليها خادم الدين بن الرضا على أن ينزل له عن حصن مصياف وأرسل معه العساكر فتسلموه منه ثم قدم عليه سنة ثمان وستين وهو على حصن الأكراد وكان نجم الدين الشعراني قد أسنّ وهرم فاستعتب وأعتبه الظاهر وعطف عليه وقسم الولاية بينه وبين ابن الرضا وفرض عليهما مائة وعشرين ألف درهم يحملانها في كل سنة ولما رجع سنة تسع وستين وفتح حصن الأكراد مرّ بحصن العليقة من حصونهم فملكه من يد ابن الرضى منتصف شوّال من السنة وأنزل به حامية ثم سار لقتال التتر على البيرة كما يذكر ورجع الى مصر فوجد الإسماعيلية قد نزلوا على الحصون التي بقيت بأيديهم وسلموها لنواب الظاهر فملكوها وانتظمت قلاع الإسماعيلية في ملكة الظاهر وانقرضت منها دعوتهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصار التتر البيرة وهزيمتهم عليها
ثم بعث ابغا بن هلاكو العساكر الى البيرة سنة احدى وسبعين مع درباري من مقدّمي أمرائه فحاصرها ونصب عليها المجانيق وكان السلطان بدمشق فجمع العساكر من مصر والشام وزحف الى الفرات وقد جهز العساكر على قاصيته فتقدّم الأمير قلاون وخالط التتر عليها في
__________
[1] وفي اخبار البشر حصن عكار (ج 4 ص 6)(5/449)
مخيمهم فجالوا معه ثم انهزموا وقتل مقدّمهم وخاض السلطان بعساكره بحر الفرات اليهم فأجفلوا وتركوا خيامهم بما فيها وخرج أهل البيرة فنهبوا سوادهم وأحرقوا آلات الحصار ووقف السلطان بساحتها قليلا وخلع على النائب بها [1] لحق درباري بسلطانه ابغا مفلولا فسخطه ولم يعتبه والله تعالى ولىّ التوفيق.
غزوة سيس وتخريبها
ثم نهض الظاهر من مصر لغزو سيس في شعبان سنة ثلاث وسبعين وانتهى الى دمشق في رمضان وسار منها وعلى مقدمته الأمير قلاون وبدر الدين ببليك الخازندار فوصلوا الى المصيصة وافتتحوها عنوة وجاء السلطان على أثرهم وسار بجميع العساكر الى سيس بعد أن كنف الحامية بالبيرة خوفا عليها من التتر وبعث حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى أمير العرب بالشام للاغارة على بلاد التتر من ناحيتها وسار إلى سيس فخربها وبث السرايا في نواحيها فانتهوا الى بانياس وأذنة واكتسحوا سائر الجهات ووصل الى دربند الروم وعاد الى المصيصة في التعبية فأحرقها ثم انتهى الى انطاكية فأقام عليها حتى قسم الغنائم ثم رحل الى القصر وكان للافرنج خالصا لتبركهم برومة الّذي يسمونه البابا فافتتحه ولقيه هنالك حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى راجعين من اغارتهم وراء الفرات ثم بلغه مهلك البرنس سمند بن تيمند صاحب طرابلس فبعث الظاهر بليان الدوادار ليقرّر الصلح مع بنيه فقرّره على عشرين ألف دينار وعشرين أسيرا كل سنة وحضر لذلك صاحب قبرس وكان جاء معزيا لبني البرنس ورجع الدوادار الى الظاهر فقفل الى دمشق منتصف ذي الحجة والله تعالى ينصر من شاء من عباده.
إيقاع الظاهر بالتتر في بلاد الروم ومقتل البرواناة بمداخلته في ذلك
كان علاء الدين البرواناة متغلبا على غياث الدين كنجسرو صاحب بلاد الروم من بني قليج ارسلان وقد غلب التتر على جميع ممالك بلاد الروم وأبقوا على كنجسرو اسم الملك في كفالة البرواناة [2] وأقاموا أميرا من أمرائهم ومعه عسكر التتر حامية بالبلاد ويسمونه بالشحنة وكان أوّل
__________
[1] بياض بالأصل وفي اخبار البشر ج 4 ص 7: ثم عاد الملك الظاهر فوصل الى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة.
[2] وفي اخبار البشر ج 4 ص 10: واسم البرواناة المذكور سليمان، والبرواناة لقب وهو «الحاجب» بالعجمي.(5/450)
أمير من التتر ببلاد الروم بيكو وهو الّذي افتتحها وبعده صمغان وبعده توقوو وتدوان شريكين في أمرهما لعهد الملك الظاهر وكان البرواناة يتأفف من التتر لاستطالتهم عليه وسوء ملكهم ولما استفحل أمر الظاهر بمصر والشام أمّل البرواناة الظهور على التتر والكرة لبني قليج ارسلان بممالأة الظاهر فداخله في ذلك وكاتبه وزحف ابغا ملك التتر الى البيرة سنة أربع وسبعين وخرج الظاهر بالعساكر من دمشق وكاتبه البرواناة يستدعيه وأقام الظاهر على حمص وأرسل اليه البرواناة يستحثه للقاء التتر وعزم ابغا على البرواناة في الوصول فاعتذر ثم رحل متثاقلا وكتب اليه الأمراء بعده بأنّ الظاهر قد نهض الى بلاد الروم بوصيته اليه بذلك فبعث ابغا واستمدّه فأمده بعساكر المغل وأمره بالرجوع لمدافعة الظاهر فرجع ووجد جماعة من الأمراء قد كاتبوا الظاهر واستحثوه للقدوم فسقط في أيديهم وحيل بينهم وبين مرامهم ورجع الى مصر في رجب من السنة وأقام بها حولا. ثم لحق توقوو وتدوان أمير التتر ببلاد الروم وسار الى الثغور بالشام وبلغ السلطان خبرهما فسار من مصر في رمضان سنة خمس وسبعين وقصد بلاد الروم وانتهى الى النهر الأزرق فبعث شمس الدين سنقر الأشقر فلقي مقدّمة التتر فهزمهم ورجع الى السلطان وساروا جميعا فلقوا التتر على البلنشين ومعهم علاء الدين البرواناة في عساكره فهزمهم وقتل الأمير توقوو وتدوان وفر البرواناة وسلطانه كنجسرو لما كان منفردا عنهم وأسر كثير من المغل منهم سلار بن طغرل ومنهم قفجاق وجاروصي وأسر علاء الدين بن معين الدين البرواناة وقتل كثير منهم ثم رحل السلطان الى قيسارية فملكها وأقام عليها ينتظر البرواناة لموعد كان بينهما وأبطأ عليه وقفل راجعا ورجع خبر الهزيمة الى ابغا ملك التتر واطلع من بعض عيونه على ما كان بين البرواناة والظاهر من المداخلة فتنكر للبرواناة وجاء لوقته حتى وقف على موضع المعركة وارتاب لكثرة القتلى من المغل وأنّ عسكر الروم لم يصب منهم أحد فرجع على بلادهم بالقتل والتخريب والاكتساح وامتنع كثير من القلاع ثم أمنهم ورجع وسار معه البرواناة وهمّ بقتله أوّلا ثم رجع لتخليته لحفظ البلاد فأعول نساء القتلى من المغل عند بابه فرحم لبكائهن وبعث أميرا من المغل فقتله في بعض الطريق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.
وفاة الظاهر وولاية ابنه السعيد
ولما رجع السلطان من واقعته بالتتر على البلستين وقيسارية طرقه المرض في محرّم سنة ست وسبعين وهلك من آخره وكان ببليك الخزندار مستوليا على دولته فكتم موته ودفنه ورجع(5/451)
بالعساكر الى مصر فلما وصل القلعة جمع الناس وبايع لبركة بن الملك الظاهر ولقبه السعيد وهلك ببليك اثر ذلك فقام بتدبير الدولة استاذ داره شمس الدين الفارقاني وكان نائب مصر أيام مغيب الظاهر بالشام واستقامت أموره ثم قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري من أمراء الظاهر بسعاية بطانته الذين جمعهم عليه لأوّل ولايته وكانوا من أوغاد الموالي وكان يرجع اليهم لمساعدتهم له على هواه وصارت شبيبته ولما قبض على هذين الأميرين نكر ذلك عليه خاله محمد بن بركة خان فاعتقله معهما فاستوحشت أمّه لذلك فأطلق الجميع فارتاب الأمراء وأجمعوا على معاتبته فاستعتب واستحلفوه ثم أغراه بطانته بشمس الدين الفارقاني مدبر دولته فقبض عليه واعتقله وهلك لايام من اعتقاله وولى مكانه شمس الدين سنقر الالفي ثم سعى أولئك البطانة به فعزله وولى مكانه سيف الدولة كونك الساقي صهر الأمير سيف الدين قلاون على أخت زوجته بنت كرمون كان أبوها من أمراء التتر قد خرج الى الظاهر واستقرّ عنده وزوّج بنته من الأمير قلاون وبنته الأخرى من كوزبك ثم حضر عند السعيد لاشين الربعي من حاشيته وغلب على هراة واستمال أهل الدولة بقضاء حاجاتهم واستمرّ معروفه لهم واستمرّ الحال على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع السعيد وولاية أخيه شلامش
ولما استقرّ السعيد بملكه في مصر أجمع المسير إلى الشام للنظر في مصالحه فسار لذلك سنة سبع وسبعين فاستقرّ بدمشق وبعث العساكر الى الجهات وسار قلاون الصالحي وبدر الدين بيسري الى سيس زين له ذلك لاشين الربعي والبطانة الذين معه وأغروه بالقبض عليهم عند مرجعهم ثم حدث بين هؤلاء البطانة وبين النائب سيف الدين كونك وحشة وآسفوه بما يلقون فيه عند السلطان فغضب لذلك وسارت العساكر فأغاروا على سيس واكتسحوا نواحيها ورجعوا فلقيهم النائب كونك وأسرّ اليهم ما أضمر لهم السلطان فخيموا بالمرج وقعدوا عن لقاء السلطان وبعثوا اليه بالعذل في بطانته وأن ينصف نائبة منهم فأعرض عنهم ودس لموالي أبيه أن يعاودوهم اليه فأطلعوهم على كتابه فزادهم ضغنا وصرحوا بالانتقاض فبعث اليهم سنقر الأشقر وسنقر التركيتي استاذ داره بالاستعطاف فردّوهما فبعث أمه بنت بركة خان فلم يقبلوها وارتحلوا الى القاهرة فوصلوها في محرّم سنة ثمان وسبعين وبالقلعة عز الدين ايبك الافرم الصالحي أمير جندار وعلاء الدين اقطوان الساقي وسيف الدين بليان أستاذ داره فضبطوا أبواب القاهرة ومنعوهم من الدخول وتردّدت المراسلة بينهم وخرج ايبك الافرام(5/452)
واقطوان ولاشين التركماني للحديث فتقبضوا عليهم ودخلوا الى بيوتهم ثم باكروا القلعة بالحصار ومنعوا عنها الماء وكان السعيد بعد منصرفهم من دمشق سار في بقية العساكر واستنفر الاعراب وبث العطاء وانتهى الى غزة فتفرّقت عنه الاعراب واتبعهم الناس ثم انتهى الى بلبيس ورأى قلة العساكر فردّ عن الشام مع عز الدين ايدمر الظاهري الى دمشق والنائب بها يومئذ اقوش فقبض عليه وبعث به الى الأمراء بمصر ولما رحل السعيد من بلبيس الى القلعة اعتزل عنه سنقر الأشقر وسار الأمراء في العساكر لاعتراضه دون القلعة وألقى الله عليه حجابا من الغيوم المتراكمة فلم يهتدوا الى طريقه وخلص الى القلعة وأطلق علم الدين سنجر الحنفي من محبسه ليستعين به ثم اختلف عليه بطانته وفارقه بعضهم فرجع الى مصانعة الأمراء بأن يترك لهم الشام أجمع فأبوا إلا حبسه فسألهم أن يعطوه الكرك فأجابوه وحلفهم على الأمان وحلف لهم أن لا ينتقض عليهم ولا يداخل أحدا من العساكر ولا يستميله فبعثوه من حينه الى الكرك وكتبوا الى النائب بها علاء الدين ايدكز الفخري أن يمكنه منها ففعل واستمرّ السعيد بالكرك وقام بدولته ايدكز الفخري واجتمع الأمراء بمصر وعرضوا الملك على الأمير قلاون وكان أحق به فلم يقبل وأشار الى شلامش بن الظاهر وهو ابن ثمان سنين فنصبوه للملك في ربيع سنة ثمان وسبعين ولقبوه بدر الدين وولى الأمير قلاون أتابك الجيوش وبعث مكان جمال الدين اقوش نائب دمشق بتسلمها منه وسار اقوش الى حلب نائبا وولى قلاون في الوزارة برهان الحصري السنحاوي وجمع المماليك الصالحية ووفر اقطاعاتهم وعمر بهم مراتب الدولة وأبعد الظاهرية وأودعهم السجون ومنع الفساد ولم يقطع عنهم رزقا الى أن بلغ العقاب فيهم أجله فأطلقهم تباعا واستقام أمره والله تعالى أعلم.
خلع شلامش وولاية المنصور قلاون
أصل هذا السلطان قلاون من القفجاق ثم من قبيلة منهم يعرفون برج أعلى وقد مرّ ذكرهم وكان مولى لعلاء الدين آقسنقر الكابلي مولى الصالح نجم الدين أيوب فلما مات علاء الدين صار من موالي الصالح وكان من نفرتهم واستقامتهم ما قدّمناه ثم قدم الى مصر في دولة المظفر قطز مع الظاهر بيبرس ولما ملك الظاهر قرّبه واختصه وأصهر اليه ثم بايع لابنه السعيد من بعده ولما استوحش الأمراء من السعيد وخلعوه رغبوا من الأمير قلاون في الولاية عليهم كما قدّمناه ونصب أخاه شلامش بن الظاهر فوافقه الأمراء على ذلك طواعية له واتصلت رغبتهم في ولايته مدّة شهرين حتى أجابهم الى ذلك فبايعوه في جمادى سنة ثمان وسبعين(5/453)
فقام بالأمر ورفع كثيرا من المكوس والظلامات وقسم الوظائف بين الأمراء وولى جماعة من مماليكه إمرة الألوف وزادهم في الأقطاعات وأفرج لوقته عن عز الدين ايبك الافرم الصالحي وولاه نائبا بمصر ثم استبقاه فأعفاه وولى مملوكه حسام الدين طرنطاي مكانه ومملوكه علم الدين سنجر الشجاعي رئاسة الدواوين وأقرّ الصاحب برهان الدين السنجاري في الوزارة ثم عزله بفخر الدين إبراهيم بن لقمان وبعث عز الدين ايدمر الظاهري الّذي كان اعتقله جمال الدين اقوش حين رجع بعساكر الشام عن السعيد بن الظاهر من بلبيس فجيء به مقيدا واعتقله والله تعالى ولىّ التوفيق.
انتقاض السعيد بن الظاهر بالكرك ووفاته وولاية أخيه خسرو مكانه
ولما ملك السلطان قلاون شرع السعيد بالكرك وكاتب الأمراء بمصر والشام في الانتقاض وخاطبه السلطان بالعتاب على نقض العهد فلم يستعتب وبعث عساكره مع حسام الدين لاشين الجامدار الى الشويك فاستولى عليها فبعث السلطان نور الدين ببليك الايدمري في العساكر فارتدّها في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وقارن ذلك وفاة السعيد بالكرك واجتمع الأمراء الذين بها ومقدّمهم نائبة ايدكين الفخري وقال ايدكين أنّ نائبة كان ايدغري الحراني فنصبوا أخاه خسرو ولقبوه المسعود نجم الدين واستولى الموالي على رأيه وأفاضوا المال من غير تقدير ولا حساب حتى أنفقوا ما كان بالكرك من الذخيرة التي ادّخرها الملك الظاهر وبعض أمراء الشام في الخلاف وبعثوا العساكر فاستولوا على الصليب وحاصروا صرخد فامتنعت وكاتبوا سنقر الأشقر المتظاهر على الخلاف فبعث السلطان ايبك الافرم في العساكر لحصار الكرك فحاصرها وضيق عليها ثم سأل المسعود في الصلح على ما كان الناصر داود بن المعظم فأجابه السلطان قلاون وعقد له ذلك ثم انتقض ثانية ونزع عنه نائبة علاء الدين ايدغري الحراني ونزع عنه الى السلطان فصدق ما نقل عنه من ذلك ثم بعث السلطان سنة خمس وثمانين نائبة حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك فحاصروها واستنزل المسعود وأخاه شلامش منها على الأمان وملكها وجاء بهما الى السلطان قلاون فأكرمهما وخلطهما بولده الى أن توفي فغرّبهما الأشرف الى القسطنطينية.(5/454)
انتقاض سنقر الأشقر بدمشق وهزيمته ثم امتناعه بصهيون
كان شمس الدين سنقر الأشقر لما استقرّ في نيابة دمشق أجمع الانتقاض والاستبداد وتسلم القلاع من الظاهرية وولى فيها وطالب المنصور قلاون دخول الشام بأسرها من العريش الى الفرات في ولايته وزعم أنه عاهده على ذلك وولى السلطان على قلعة دمشق مولاه حسام الدين لاشين الصغير سلحدارا في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين فنكر ذلك سنقر وانتقض ودعا لنفسه ثم بلغه خبر قلاون وجلوسه على التخت فدعا الأمراء وأشاع أنّ قلاون قتل واستحلفهم على منعته وحبس من امتنع من اليمين وتلقب الكامل وذلك في ذي الحجة من السنة وقبض على لاشين نائب القلعة وجهز سيف الدين الى الممالك الشامية والقلاع للاستحلاف وولى في وزارة الشام مجد الدين إسماعيل بن كسيرات وسكن سنقر بالقلعة ثم بعث السلطان ايبك الأفرم بالعساكر الى الكرك لما توفي السعيد صاحبها وانتهى الى غزة واجتمع اليه ببليك الايدمري منقلبا من الشويك بعد فتحه فحذرهم سنقر الأشقر وخاطب الأفرم يتجنى على السلطان بأنه لم يفرده بولاية الشام وولى في قلعة دمشق وفي حلب وبعث الأفرم بالكتاب الى السلطان قلاون فأجابه وتقدّم الى الأفرم أن يكاتبه بالعزل فيما فعله وارتكبه فلم يرجع عن شأنه وجمع العساكر من عمالات الشام واحتشد العربان وبعثهم مع قراسنقر المعري الى غزة فلقيهم الأفرم وأصحابه وهزموهم وأسروا جماعة من أمرائهم وبعثوا بهم الى السلطان قلاون فأطلقهم وخلع عليهم ولما وصلت العساكر مفلولة الى دمشق عسكر سنقر الأشقر بالمرج وكاتب الأمراء بغزة يستميلهم وبعث السلطان العساكر بمصر مع علم الدين سنجر لاشين المنصوري وبدر الدين بكتاش الفخري السلحدار فساروا الى دمشق فلقيهم الأشقر على الجسر بالكسرة فهزموه في صفر سنة تسع وسبعين وتقدّموا الى دمشق فملكوها وأطلق علم الدين سنجر لاشين المنصوري من الاعتقال وولاه نيابة دمشق وولى على القلعة سيف الدين سنجار المنصوري وكتب الى السلطان بالفتح وسار سنقر الى الرحبة فامتنع عليه نائبها فسار الى عيسى بن مهنا ورجع عنه الى الفل وكاتبوا ابغا ملك التتر واستحثوا ملك الشام يستميلونه فلم يجب وبعث اليه العساكر فأجفلوا الى صهيون وملكها سنقر وملك معها شيزر وبعث السلطان العساكر لحصار شيزر مع عز الدين الأفرم فحاصرها وجاءت الأخبار بزحف ابغا ملك التتر الى الشام في مواعدة سنقر وابن مهنا واستدعى صغار صاحب(5/455)
بلاد الروم فيمن معه من المغل وانه بعث بيدو ابن أخيه طرخان صاحب ماردين وصاحب سيس من ناحية أذربيجان وجاء هو على طريق الشام وفي مقدّمته أخوه منكوتمر فلما تواترت الأخبار بذلك أفرج الأفرم عن حصار شيزر ودعا الأشقر الى مدافعة عدو المسلمين فأجابه ورفع عن موالاة ابغا وسار من صهيون للاجتماع بعساكر المسلمين وجمع السلطان العساكر بمصر وسار الى الشام واستخلف على مصر ابنه أبا الفتح عليا بعد أن ولاه عهده وقرأ كتابه بذلك على الناس وخرج لجمع العساكر في جمادى سنة تسع وسبعين وانتهى الى غزة ووصل التتر الى حلب وقد أجفل عنها أهلها وأقفرت منازلها فأضرموا النار في بيوتها ومساجدها وتولى كبر ذلك صاحب سيس والأرمن وبلغهم وصول السلطان الى غزة فأجفلوا راجعين الى بلادهم وعاد السلطان الى مصر بعد انّ جرّد العساكر الى حمص وبلاد السواحل بحمايتها من الأفرنج ورجع سنقر الأشقر الى صهيون وفارقه كثير من عسكره فلحقوا بالشام وأقام معه سنجر الدوادار وعز الدين اردين والأمراء الذين مكنوه من قلاع الشام عند انتقاضه والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير السلطان لحصار المرقب ثم الصلح معهم ومع سنقر الأشقر بصهيون ومع بني الظاهر بالكرك
كان الافرنج الذين بحصن المرقب عند ما بلغهم هجوم التتر على الشام شنوا الغارات في بلاد المسلمين من سائر النواحي فلما رجع التتر عن الشام استأذن بليان الطباخي صاحب حصن الأكراد في غزوهم وسار اليهم في حامية الحصون بنواحيه وجمع التركمان وبلغ حصن المرقب ووقف أسفله واستطرد له أهل الحصن حتى تورّط في أوعار الجبل ثم هجموا عليه دفعة فانهزم ونالوا من المسلمين وبلغ الخبر الى السلطان فخرج من مصر لغزوهم آخر سنة تسع وسبعين واستخلف ابنه مكانه وانتهى الى الروحاء فوصله هنالك رسل الافرنج في تقرير الهدنة مع أهل المرقب على أن يطلقوا من أسروه من المسلمين في واقعة بليان فعقد لهم في المحرّم سنة ثمانين وعقد لصاحب بيت الاستبار وابنه ولصاحب طرابلس سمند بن تيمند ولصاحب عكا على بلادهم وعلى قلاع الإسماعيلية وعلى جميع البلاد المستجدّة الفتح وما سيفتحه على أن يسكن عمال المسلمين باللاذقية وأن لا يستنجدوا أسير قلعة ولا غيرها ولا يداخلوا التتر في فتنة ولا يمرّوا عليهم الى بلاد المسلمين إن أطاقوا ذلك وعقد معهم ذلك لإحدى عشرة سنة وبعث السلطان من أمرائه من يستحلف الافرنج على ذلك وبلغه الخبر(5/456)
بأنّ جماعة من أمرائه أجمعوا الفتك به وداخلوا الافرنج في ذلك وكان كبيرهم كوندك فلما وصل الى بيسان قبض عليه وعليهم وقتلهم واستراب من داخلهم في ذلك ولحقوا بسنقر في صهيون ودخل السلطان دمشق وبعث العساكر لحصار شيزر ثم تردّدت الرسل بينه وبين الأشقر في الصلح على أن ينزل عن شيزر [1] ويتعوّض عنها بالشقر وبكاس وعلى أن يقتصر في حامية الحصون التي لقطره على ستمائة من الفرسان فقط ويطرد عنه الأمراء الذين لحقوا به فتمّ الصلح على ذلك وكتب له التقليد بتلك الأعمال ورجع من عنده سنجر الدوادار فأحسن اليه السلطان وولى على نيابة شيزر بليان الطباخي وكان بنو الظاهر بالكرك يسألون السلطان في الصلح بالزيادة على الكرك كما كان السلطان داود فلما تمّ الصلح مع سنقر رجعوا الى القنوع بالكرك وبعث اليهم السلطان بأقاربهم من القاهرة وأتمّ لهم العقد على ذلك وبعث الأمير سلحدار والقاضي تاج الدين بن الأثير لاستحلافهم والله تعالى أعلم.
واقعة التتر بحمص ومهلك ابغا سلطانهم بإثرها
ثم زحف التتر سنة ثمانين الى الشام من كان ناحية متظاهرين فسار ابغا في عساكر المغل وجموع التتر وانتهى الى الرحبة فحاصرها ومعه صاحب ماردين وقدم أخوه منكوتمر في العساكر الى الشام وجاء صاحب الشمال منكوتمر من بني دوشي خان من كرسيهم بصراي مظاهرا لابغا بن هلاكو على الشام فمرّ بالقسطنطينية ثم نزل بين قيسارية وتفليس ثم سار الى منكوتمر بن هلاكو وتقدّم معه الى الشام وخرج السلطان من دمشق في عساكر المسلمين وسابقهم الى حمص ولقيه هناك سنقر الأشقر فيمن معه من أمراء الظاهرية وزحف التتر ومن معهم من عساكر الروم والافرنج والأرمن والكرج ثمانون ألفا أو يزيدون والتقى الفريقان على حمص وجعل السلطان في ميمنته صاحب حماة محمد بن المظفر ونائب دمشق لاشين السلحدار وعيسى بن مهنا فيمن اليه من العرب وفي الميسرة سنقر الأشقر في الظاهرية مع جموع التركمان ومن اليهم جماعة من أمراءه وفي القلب نائبة حسام الدين طرنطاي والحاجب ركن الدين اياحي وجمهور العساكر المماليك ووقف السلطان تحت الرايات في مواليه وحاشيته ووقفت عساكر التتر كراديس وذلك منتصف رجب سنة ثمانين واقتتلوا ونزل الصبر
__________
[1] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 14: ووقع بينهم الصلح على ان يسلم شيزر الى السلطان ويتسلم سنقر الأشقر: الشفر وبكاس وكانتا قد ارتجعتا منه.(5/457)
ثم انفضت ميسرة المسلمين واتبعهم التتر وانفضت ميسرة التتر ورجعوا على ملكهم منكوتمر في القلب فانهزم ورجع التتر من اتباع ميسرة المسلمين فمرّوا بالسلطان وهو ثابت في مقامه لم يبرح ورجع أهل الميرة ونزل السلطان في خيامه ورحل من الغد في اتباع العدوّ وأوعز الى الحصون التي في ناحية الفرات باعتراضهم على المقابر فعدلوا عنها وخاضوا الفرات في المجاهل فغرقوا ومرّ بعضهم بردّ سلميّة فهلكوا وانتهى الخبر الى ابغا وهو على الرحبة فأجفل الى بغداد وصرف السلطان العساكر الى أماكنهم وسار سنقر الأشقر الى مكانه بصهيون وتخلف عنه كثير من الظاهرية عند السلطان وعاد السلطان الى دمشق ثم الى مصر آخر شعبان من السنة فبلغه الخبر بمهلك منكوتمر بن هلاكو بهمذان ومنكوتمر صاحب الشمال بصراي فكان ذلك تماما للفتح ثم هلك ابغا بن هلاكو سنة احدى وثمانين وكان سبب مهلكه فيما يقال انه اتهم شمس الدين الجريض وزيره باغتيال أخيه منكوتمر منصرفه من واقعة حمص فقبض عليه وامتحنه واستصفاه فدس له الجويني من سمه ومات وكان ابغا اتهم بأخيه أيضا أميرا من المغل كان شحنة بالجزيرة ففرّ منها وأقام مشركا وبعث السلطان قلاون بعثا الى ناحية الموصل للاغارة عليها وانتهوا الى سنجر فصادفوا هذا الأمير وجاءوا به الى السلطان فحبسه ثم أطلقه وأثبت اسمه في الديوان وكان يحدث بكثير من أخبار التتر وكتب بعضها عنه وبعث السلطان في هذه السنة بعوثا أخرى الى نواحي سيس من بلاد الروم جزاء بما كان من الأرمن في حلب ومساجدها فاكتسحوا تلك النواحي ولقيهم بعض أمراء التتر بمكان هنالك فهزموه ووصلوا الى جبال بلغار ورجعوا غانمين وبعث السلطان شمس الدين قراسنقر المنصوري الى حلب لإصلاح ما خرب التتر من قلعتها وجامعها فأعاد ذلك الى أحسن ما كان عليه ثم أسلم ملوك التتر فبعث أوّلا بكدار بن هلاكو صاحب العراق بإسلامه وأنّه تسمى أحمد وجاءت رسله بذلك الى السلطان وهم شمس الدين أتابك ومسعود بن كيكاوس صاحب بلاد الروم وقطب الدين محمود الشيرازي قاضي شيواس وشمس الدين محمد بن الصاحب من حاشية صاحب ماردين وكان كتابه مؤرخا بجمادى سنة احدى وثمانين وحملوا على الكرامة وأجيب سلطانهم بما يناسبه ثم وصل رسول قودان بن طقان المتولي بكرسي الشمال بعد أخيه منكوتمر سنة اثنتين وثمانين بخبر ولايته ودخوله في دين الإسلام وبطلب تقليد الخليفة واللقب منه والراية للجهاد فيمن يليه من الكفار فأسعف بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
.(5/458)
استيلاء السلطان قلاون على الكرك وعلى صهيون ووفاة صاحب حماة
ثم توفي المنصور محمد بن المظفر صاحب حماة في شوّال سنة اثنتين وثمانين وولي السلطان ابنه المظفر وبعث بالخلع له ولا قاربه وسار السلطان قلاون الى الشام في ربيع سنة ثلاث وثمانين لمحاصرة المرقب بما فعلوه من ممالأة العدوّ فحاصره حتى استأمنوا اليه وملك الحصن من أيديهم وانتظر وصول سنقر الأشقر من صهيون فلم يصل فرجع الى مصر وجهز النائب حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك بما وقع من شلامش وخسرو من الانتقاض فسار سنة خمس وثمانين وحاصرهم حتى استأمنوا وجاء بهم الى السلطان فركب للقائهم وبالغ في إكرامهم ثم ساءت سيرتهم فاستراب بهم واعتقلهم وغربهم الى القسطنطينية وولى على الكرك عز الدين المنصوري وبعده بيبرس الدويدار مؤلف أخبار الترك ثم جهز السلطان ثانيا النائب طرنطاي بالعساكر لحصار سنقر الأشقر بصهيون لانتقاضه وإغارته على بلاد السلطان فسار لذلك سنة ست وثمانين وحاصره حتى استأمن هو ومن معه وجاء به السلطان وأنزله بالقلعة ولم يزل عنده الى أن هلك السلطان فقبض عليه وتولى ابنه الأشرف من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفاة ميخاييل ملك القسطنطينية
قد تقدّم لنا كيف تغلب الافرنج على القسطنطينية من يد الروم سنة ستمائة وكان ميخاييل هذا من بطارقتهم أقام في بعض الحصون بنواحيها فلما أمكنته الفرصة بيتها وقتل من كان بها من الافرنج وفرّ الباقون في مراكبهم واجتمع الروم الى ميخاييل هذا وملكوه عليهم وقتل الملك الّذي قبله وكان بينه وبين صاحب مصر والناصر قلاون من بعده اتصال ومهاداة ونزل بنو الظاهر عليه عند ما غربوا من مصر ثم مات ميخاييل سنة احدى وثمانين وولى ابنه ماندر ويلقب الراونس وميخاييل هذا يعرف بالأشكري وبنوه من بعده بنو الاشكري وهم ملوك القسطنطينية الى هذا العهد والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
أخبار النوبة
كان الملك الظاهر وفد عليه أعوام سنة خمس وسبعين ملك النوبة من تشكيل مستنجدا به(5/459)
على ابن أخيه داود لما كان تغلب عليه وانتزع الملك من يده فوعده السلطان وأقام ينتظر واستفحل ملك داود وتجاوز حدود مملكته الى قرب أسوان من آخر الصعيد فجهز السلطان العساكر اليه مع آقسنقر الفارقاني وايبك الأفرم أستاذ داره وأطلق معهم مرتشكين ملك النوبة فساروا لذلك واستنفروا العرب وانتهوا الى رأس الجنادل واستولوا على تلك البلاد وأمنوا أهلها وساروا في البلاد فلقيهم داود الملك فهزموه وأثخنوا في عساكره وأسروا أخاه وأخته وأمّه وسار الى مملكة السودان بالأبواب ورآه فقاتله ملكها وهزمه وأسره وبعث به مقيدا الى السلطان فاعتقل بالقلعة الى أن مات واستقرّ مرتشكين في سلطان النوبة على جراية مفروضة وهدايا معلومة في كل سنة وعلى أن تكون الحصون المجاورة لاسوان خالصة للسلطان وعلى أن يمكن ابن أخيه داود وجميع أصحابه من كل مالهم في بلادهم فوفى بذلك ثم مات الظاهر وانقرضت دولته ودولة بنيه وانتقل الملك الى المنصور قلاون فبعث سنة ست وثمانين العساكر الى النوبة مع علم الدين سنجر الخياط وعز الدين الكوراني وسار معهم نائب قوص عز الدين ايدمر السيفي بعد ان استنفر العربان أولاد أبي بكر وأولاد عمر وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد كنز الدولة وجماعة من الغرب وبني هلال وساروا على العدوة الغربية والشرقية في دنقلة وملكهم بيتمامون هكذا اسماه النووي وأظنه أخا مرتشكين وبرزوا للعساكر فهزمتهم واتبعتهم خمسة عشر يوما وراء دنقلة ورتب ابن أخت بيتمامون في الملك ورجعت العساكر الى مصر فجاء بيتمامون الى دنقلة فاستولى على البلاد ولحق ابن أخته بمصر صريخا بالسلطان فبعث معه عز الدين أيبك الافرم في العساكر ومعه ثلاثة من الأمراء وعز الدين نائب قوص وذلك سنة ثمان وثمانين وبعثوا المراكب في البحر بالازودة والسلاح ومات ملك النوبة باسوان ودفن بها وجاء نائبة صريخا الى السلطان فبعث معه داود ابن أخي مرتشكين الّذي كان أسيرا بالقلعة وتقدّم جريس بين يدي العساكر فهرب بيتمامون وامتنع بجزيرة وسط النيل على خمس عشرة مرحلة وراء دنقلة ووقفت العساكر على ساحل البحر وتعذر وصول المراكب الى الجزيرة من كثرة الحجر وخرج بيتمامون منها فلحق بالأبواب ورجع عنه أصحابه ورجعت العساكر الى دنقلة فملكوا داود ورجعوا الى مصر سنة تسع وثمانين لتسعة أشهر من مسيرهم بعد أن تركوا أميرا منهم مع الملك داود ورجعوا الى مصر ورجع بيتمامون الى دنقلة وقتل داود وبعث الأمير الّذي كان معهم الى السلطان وحمله رغبة في الصلح على أن يؤدّي الضريبة المعلومة فأسعف لذلك واستقرّ في ملكه انتهى والله تعالى أعلم
.(5/460)
فتح طرابلس
كان الافرنج الذين بها قد نقضوا الصلح وأغاروا على الجهات فاستنفر السلطان العساكر من مصر والشام وأزاح عللهم وجهز آلات الحصار وسار اليها في محرم سنة ثمان وثمانين فحاصرها ونصب عليها المجانيق وفتحها عنوة لأربعة وثلاثين يوما من حصارها واستباحها وركب بعضهم الشواني للنجاة فردتهم الريح الى السواحل فقتلوا وأسروا وأمر السلطان بتخريبها فخربت وأحرقت وفتح السلطان ما اليها من الحصون والمعاقل وأنزل حاميتها وعاملها بحصن الأكراد ثم اتخذ حصنا آخر لترك النائب والحامية في العمل وسمي باسم المدينة وهو الموجود لهذا العهد وكان من خبر هذه المدينة من لدن الفتح أنّ معاوية أيام ولايته الشام لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعث اليها سفيان بن مخنف الأزدي فحاصرها وبنى عليها حصنا حتى جهد أهلها الحصار وهربوا منها في البحر وكتب سفيان الى معاوية بالفتح وكان يبعث العساكر كل سنة للمرابطة بها ثم جاء الى عبد الملك بن مروان بطريق من الروم وسأله في عمارتها والنزول بها مجمعا على أن يعطيه الخراج فأجابه وأقام قليلا ثم غدر بمن عنده من المسلمين وذهب الى بلاد الروم فتخطفته شواني المسلمين في البحر وقتله عبد الملك ويقال الوليد وملكها المسلمون وبقي الولاة يملكونها من دمشق الى أن جاءت دولة العبيديين فأفردوها بالولاية ووليّها رمّان الخادم ثم سرّ الدولة ثم أبو السعادة علي بن عبد الرحمن بن جبارة ثم نزال ثم مختار الدولة بن نزال وهؤلاء كلهم من أهل دولته ثم تغلب قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار وتوفى سنة أربع وستين واربعمائة وكان من فقهاء الشيعة وهو الّذي صنف الكتاب الملقب بخراب الدولة ابن منقذ بن كمود فقام بولاية أخيه أبي الحسن ابن محمد بن عمار ولقبه جلال الدين وتوفى سنة اثنتين وتسعين صنجيل من ملوكهم واسمه ميمنت ومعناه ميمون وصنجيل اسم مدينة عرف بها وأقام صنجيل يحاصرها طويلا وعجز ابن عمار عن دفاعه ثم قصد سلطان السلجوقية بالعراق محمد بن ملك شاه مستنجدا به واستخلف بالمناقب ابن عمه على طرابلس ومعه سعد الدولة فتيان بن الأغر فقتله أبو المناقب ودعا للأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على خلفاء العبيديين بمصر لذلك العهد ثم هلك صنجيل وهو محاصر لها وولي مكانه السرداني من زعمائهم وبعث الأفضل قائدا الى طرابلس فأقام بها وشغل عن مدافعة العدوّ وبجمع الأموال ونمي عنه الى الأفضل أنه يروم الاستبداد فبعث آخر مكانه ونافر أهل البلد لسوء سيرته فتبين وصول المراكب من مصر بالمدد وقبض(5/461)
على أعيانهم وعلى مخلف فخر الملك بن عمار من أهله وولده وبعث بهم الى مصر وجاء فخر الملك بن عمار بعد أن قطع حبل الرجاء في يده من أنجاد السلجوقية لما كانوا فيه من الشغل بالفتنة وربما علله بعضهم بولاية الوزارة له ثم رجع الى دمشق سنة اثنتين وخمسمائة ونزل على طغتكين الاتابك ثم ملكها السرداني سنة ثلاث وخمسمائة بعد حصارها سبع سنين وجاء ابن صنحبيل من بلاد الافرنج فملكها منه وأقامت في مملكته نحوا من ثلاثين سنة ثم ثار عليه بعض الزعماء وقتله بطرس الأعور واستخلف في طرابلس القوش بطرار ثم كانت الواقعة بين صاحب القدس ملك الافرنج وبين زنكي الاتابك صاحب الموصل وانهزم الافرنج وأسر القوش في تلك الوقعة ونجا ملك الافرنج الى تغريب فتحصن بها وحضره زنكي حتى اصطلحا على أن يعطي تغريب ويطلق زنكي الأسرى في الواقعة فانطلق القوش إلى طرابلس فأقام بها مدّة ووثب الإسماعيلية به فقتلوه وولي بعده رهند صبيا وحضر مع الافرنج سنة سبع وخمسين وقعة حارم التي هزمهم فيها العادل وأسر رهند يومئذ وبقي في اعتقاله الى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب فاطلقه سنة سبعين وخمسمائة ولحق بطرابلس ولم تزل في ملكه وملك ولده الى أن فتحها المنصور سنة ثمان وثمانين كما مرّ والله تعالى أعلم.
إنشاء المدرسة والمارستان بمصر
كان المنصور قلاون قد اعتزم على إنشاء المارستان بالقاهرة ونظر له الأماكن حتى وقف نظره على الدار القطبية من قصور العبيديين وما يجاورها من القصرين واعتمد إنشاءه هنالك وجعل الدار أصل المارستان وبنى بإزائه مدرسة لتدريس العلم وقبة لدفنه وجعل النظر في ذلك لعلم الدين الشجاعي فقام بإنشاء ذلك لأقرب وقت وكملت العمارة سنة اثنتين وثمانين وستمائة ووقف عليها املاكا وضياعا بمصر والشام وجلس بالمارستان في يوم مشهود تناول قدحا من الأشربة الطبية وقال وقفت هذا المارستان على مثلي فمن دوني من أصناف الخلق فكان ذلك من صالح آثاره والله أعلم.
وفاة المنصور قلاون وولاية ابنه خليل الأشرف
كان المنصور قلاون قد عهد لابنه علاء الدين ولقبه الصالح وتوفي سنة سبع وثمانين فولى العهد مكانه ابنه الآخر خليل ثم انتقض الافرنج بعكا وأغاروا على النواحي ومرّت بهم رفقة من التجار برقيق من الروم والترك جلبوهم للسلطان فنهبوهم وأسروهم فأجمع السلطان(5/462)
غزوهم وخرج في العساكر بعد الفطر من سنة تسع وثمانين واستخلف ابنه خليلا على القاهرة ومعه زين الدين سيف وعلم الدين الشجاعي الوزير وعسكر بظاهر البلد فطرقه المرض ورجع الى قصره فمرض وتوفي في ذي القعدة من السنة فبويع ابنه خليل ولقب الأشرف وكان حسام الدين طرنطاي نائب المنصور اليه فأقره وأشرك معه زين الدين سيف في نيابة العتبة وأقرّ علم الدين الشجاعي على الوزارة وبدر الدين بيدو استاذ داره وعز الدين أيبك خزندار وكان حسام الدين لاشين السلجدار نائبا بدمشق وشمس الدين قراسنقر الجوكندار نائبا بحلب فأقرهما وجمع ما كان بالشام من ولاة أبيه ثم قبض على النائب حسام الدين طرنطاي لأيام قلائل وقتله واستولى على مخلفه وكان لا يعبر عنه كان الناض منها ستمائة ألف دينار وحملت كلها لخزانته واستقل بدر الدين بالنيابة وبعث الى محمد بن عثمان بن السلعوس من الحجاز فولاه الوزارة وكان تاجرا من تجار الشام وتقرب له أيام أبيه واستخدم له فاستعمله في بعض اقطاعه بالشام ووفر جبايتها فولاه ديوانه بمصر فأسرف في الظلم وأنهى أمره الى طرنطاي النائب فصادره المنصور وامتحنه ونفاه عن الشام وحج في هذه السنة وولى الأشرف فكان أوّل أعماله البعث عنه وولاه الوزارة فبلغ المبالغ في الظهور وعلوّ الكلمة واستخدم الخواص له وترفع عن الناس واستقل الرتب وقبض الأشرف على شمس الدين سنقر وحبسه وكان قد قبض مع طرنطاي النائب على عز الدين سيف لما بلغه أنه يدبر عليه مع طرنطاي ثم ثبتت عنده براءته فاطلقه والله تعالى أعلم.
فتح عكا وتخريبها
ثم سار الأشرف أوّل سنة تسعين وستمائة لحصار عكا متمما عزم أبيه فيها فجهز العساكر واستنفر أهل الشام وخرج من القاهرة فاغذ السير الى عكا ووافاه بها أمراء الشام والمظفر بن المنصور صاحب حماة فحاصرها ورماها بالمجانيق فهدم كثير من أبراجها وتلاها المقاتلة لاقتحامها فرشقوهم بالسهام فا [1] من اللبود وزحفوا في كنها وردموا الخندق بالتراب فحمل كل واحد منهم ما قدر عليه حتى طموه وانتهوا الى الأبراج المتهدّمة فألصقوها بالأرض واقتحموا البلد من ناحيتها واستلحموا من كان فيها وأكثروا القتل والنهب ونجا الفل من العدوّ الى ابراجها الكبار التي بقيت ماثلة فحاصرها عشرا آخر ثم اقتحمها عليهم
__________
[1] بياض بالأصل وفي اخبار البشر ج 4 ص 25: وكانوا يرمونها بالنشاب والجوارح وكان القتال من قدامنا من جهة المدينة.(5/463)
فاستوعبهم السيف وكان الفتح منتصف جمادى سنة سبعين لمائة وثلاث سنين من ارتجاع الكفار لها من يد صلاح الدين سنة سبع وثمانين وخمسمائة وأمر الأشرف بتخريبها فخربت وبلغ الخبر الى الافرنج بصور وصيدا وعتلية وحيفا فأجفلوا عنها وتركوها خاوية ومرّ السلطان بها وأمر بهدمها فهدمت جميعا وانكف راجعا الى دمشق وتقبض في طريقه على لاشين نائب دمشق لأنّ بعض الشياطين أوحى اليه أن السلطان يروم الفتك به فركب للفرار وأتبعه علم الدين سنجر الشجاعي وسار الى بيروت ففتحها ومرّ السلطان بالكرك فاستعفى نائبها ركن الدين بيبرس الدوادار وهو المؤرخ فولى مكانه جمال الدين اتسز الاشرفي ورجع السلطان الى القاهرة فبعث شلامش وخسرو ابني الظاهر من محبسهما بالإسكندرية الى القسطنطينية ومات شلامش هنالك وأفرج عن شمس الدين سنقر الأشقر وحسام الدين لاشين المنصوري اللذين اعتقلهما كما قدّمناه وقبض على علم الدين سنجر نائب دمشق وسيق الى مصر معتقلا وأمر السلطان ببناء الرفوف بالقلعة على أوسع ما يكون وارفعه وبنى القبة بإزائه لجلوس السلطان أيام الزينة والفرح فبنيت مشرفة على سوق الخيل والميدان والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح قلعة الروم
ثم سار السلطان سنة احدى وتسعين في عساكره الى الشام بعد أن أفرج عن حسام الدين لاشين وردّه الى إمارته وانتهى الى دمشق ثم سار الى حلب ثم دخل منها الى قلعة الروم فحاصرها في جمادى من السنة وملكها عنوة بعد ثلاثين يوما من الحصار وقاتل المقاتلة الذريعة وخرب القلعة وأخذ فيها بترك الأرمن أسيرا وانكف السلطان راجعا الى حلب فأقام بها شعبان وولى عليها سيف الدين الطباقي نائبا مكان قراسنقر الظاهري لأنه ولاه مقدّم المماليك ورحل الى دمشق فقضى بها عيد الفطر واستراب لاشين النائب فهرب ليلة الفطر وأركب السلطان في طلبه وتقبض عليه بعض العرب في حية وجاء به الى السلطان فبعثه مقيدا الى القاهرة وولى على نيابة دمشق عز الدين أيبك الحميدي عوضا عن علم الدين سنجر الشجاعي ورجع الى مصر فافرج عن علم الدين سنجر الشجاعي وتوفي لسنة بعد إطلاقه ثم قبض على سنقر الأشقر وقتله وسمع نائبة بيدو ببراءة لاشين فأطلقه وتوفي ابن الأثير بعد شهر فولى مكانه ابنه عماد الدين أيوب وكان أيوب قد اعتقله المنصور لأول ولايته فأطلقه الأشرف هذه السنة لثلاث عشرة سنة من اعتقاله واستخلصه للمجالسة والشورى وتوفي(5/464)
القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر كاتب السرّ وصاحب ديوان الإنشاء وله التقدّم عنده وعند أبيه فولى مكانه فتح الدين أحمد بن الأثير الحلي وترك ابن عبد الظاهر ابنه علاء الدين عليا فالقى عليه النعمة منتظما في جملة الكتاب ثم سار السلطان الى الصعيد يتصيد واستخلف بيدو النائب على دار ملكه وانتهى الى قوص وكان ابن السلعوس قد دس اليه بأنّ بيدو احتجن بالصعيد من الزرع ما لا يحصى فوقف هنالك على مخازنها واستكثرها وارتاب بيدو لذلك ولما رجع الأشرف الى مصر ارتجع منه بعض اقطاعه وبقي بيدو مرتابا من ذلك وأتحف السلطان بالهدايا من الخيام والهجن وغيرهما والله تعالى أعلم.
مسير السلطان الى الشام وصلح الأرمن ومكثه في مصيا وهدم الشويك
ثم تجهز السلطان سنة اثنتين وتسعين الى الشام وقدم بيدو النائب بالعساكر وعاج على الكرك على الهجن فوقف عليها وأصلح من أمورها ورجع ووصل الى الشام فوافاه رسول صاحب سيس ملك الأرمن راغبا في الصلح على أن يعطى تهسنا ومرعش وتل حمدون فعقد لهم على ذلك وملك هذه القلاع وهي في غم الدرب من ضياع حلب وكانت تهسنا للمسلمين ولما ملك هلاكو حلب باعها النائب من ملك الأرمن سيس ثم سار السلطان الى حمص ووصل اليها في رجب من السنة ومعه المظفر صاحب حماة ونزل سلميّة ولقيه مهنا بن عيسى أمير العرب فقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل وابنه موسى وبعثهم معتقلين مع لاشين الى دمشق ومن هناك الى مصر فحبسوا بها وولى على الغرب مكانهم محمد بن أبي بكر بن علي ابن جديلة وأوعز وهو بحمص الى نائب الكرك بهدم قلعة الشويك فهدمت وانكف راجعا الى مصر وقدم العساكر مع بيدو وجاء في الساقة على الهجن مع خواصه ولما دخل على مصر أفرج عن لاشين المنصوري والله تعالى أعلم.
مقتل الأشرف وولاية أخيه محمد الناصر في كفالة كيبغا
كان النائب بيدو مستوليا على الأشرف والأشرف مستريب به حتى كأنه مستبدّ وكان مستوحشا من الأشرف واعتزم الأشرف سنة ثلاث وتسعين على الصيد في البحيرة فخرج(5/465)
اليها وبعث وزيره ابن السلعوس للاسكندرية لتحصيل الأموال والاقمشة فوجد [1] بيدو قد سبقوا اليها واستصفوا ما هنالك فكاتب السلطان بذلك فغضب واستدعى بيدو فوبخه وتوعده ولم يزل هو يلاطفه حتى كسر من سورة غضبه ثم خلص الى أصحابه وداخلهم في التوثب به وتولى كبر ذلك منهم لاشين المنصوري نائب دمشق وقراسنقر المنصوري نائب حلب وكان الأمراء كلهم حاقدين على الأشرف لتقديمه حاشيته عليهم ولما كتب اليه السلعوس بقلة المال صرف مواليه الى القلعة تخفيفا من النفقة وبقي في القليل وركب بعض أيامه يتصيد وهو مقيم على فرجة فاتبعوه وأدركوه في صيده فأوجس في نفسه الشرّ منهم فعاجلوه وعلوه بالسيوف ضربه أوّلا بيدو وثنى عليه لاشين وتركوه مجندلا بمصرعه منتصف محرّم من السنة ورجعوا الى المخيم وقد أبرموا أن يولوا بيدو فولوه ولقبوه القاهر وتقبض على بيسري الشمسى وسيف الدين بكتمر السلحدار واحتملوهما وساروا الى قلعة الملك وكان زين الدين سيف قد ركب للصيد فبلغه الخبر في صيده فسار في اتباعهم ومعه سوس الجاشنكير وحسام الدين أستاذ دار وركن الدين سوس وطقجي في طائفة من الجاشنكيرية وأدركوا القوم على الطرّانة ولما عاينهم بيدو وبيسري وبكتمر المعتقلين في المخيم رجعوا الى كيبغا [2] وأصحابه وفرّ عن بيدو من كان معه من العربان والجند وقاتل قليلا ثم قتل ورجع برأسه على القناة وافترق أصحابه قراسنقر ولاشين بالقاهرة ويقال أن لاشين كان مختفيا في مئذنة جامع ابن طولون ووصل كيبغا وأصحابه الى القلعة وبها علم الدين الشجاعي واستدعوا محمد بن قلاون أخا الأشرف وبايعوه ولقبوه الناصر وقام بالنيابة كيبغا وبالاتابكية حسام الدين وبالوزارة علم الدين سنجر وبالاستاذ دراية ركن الدين سوس الجاشنكير واستبدّوا بالدولة فلم يكن الناصر يملك معهم شيئا من أمره وجدّوا في طلب الأمراء الذين داخلوا بيدو في قتل الأشرف فاستوعبوهم بالقتل والصلب والقطع وكان بهادر رأس نوبة وأقوش الموصلي فقتلا وأحرقت أشلاؤهما وشفع كيبغا في لاشين وقراسنقر المتوليين كبر ذلك فظهرا من الاختفاء وعادا الى محلهما من الدولة ثم تقبض على الوزير محمد بن السلعوس عند وصوله من الاسكندرية وصادره الوزير الشجاعي وامتحنه فمات تحت الامتحان وأفرج عن
__________
[1] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 30: وركب في نفر قليل من خواصه للصيد، فقصده مماليك والده وهم: بيدرا نائب السلطنة، ولاجين الّذي كان عزله السلطان عن نيابة السلطنة بدمشق واعتقله مرة بعد اخرى، وفرّاسنقر الّذي عزله عن نيابة السلطنة بحلب، وانضم اليهم بادر رأس النوبة وجماعة من الأمراء.
[2] ورد هذا الاسم في في الأحيان «كسبفا» ومرة اخرى «كتبفا» وأحيانا «كيبفا» وقد ورد في تاريخ أخبار البشر «كتبغا» بمواضيع مختلفة.(5/466)
عز الدين ايبك الافرم الصالحي وكان الأشرف اعتقله سنة اثنتين وتسعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
وحشة كيبغا ومقتل الشجاعي
ثم انّ الشجاعي لطف محله من الناصر واختصه بالمداخلة وأشار عليه بالقبض على جماعة من الأمراء فاعتقلهم وفيهم سيف الدين كرجي وسيف الدين طونجي وطوى ذلك عن كيبغا وبلغه الخبر وهو في موكب بساحة القلعة وكان الأمراء يركبون في خدمته فاستوحش وارتاب بالشجاعي وبالناصر ثم جاء بعض مماليك الشجاعي الى كيبغا في الموكب وجرد سيفه لقتله فقتله مماليكه وتأخر هو ومن كان معه من الأمراء عن دخول القلعة وتقبضوا على سوس الجاشنكير استاذ دار وبعثوا به الى الاسكندرية ونادوا في العسكر فاجتمعوا وحاصروا القلعة وبعث اليهم السلطان أميرا فشرطوا عليه أن يمكنهم من الشجاعي فامتنع وحاصروه سبعا واشتدّ القتال وفرّ من كان بقي في القلعة من العسكر الى كيبغا وخرج الشجاعي لمدافعتهم فلم يغن شيئا ورجع الى السلطان وقد خامرة الرعب فطلب أن بحبس نفسه فمضى به المماليك الى السجن وقتلوه في طريقهم وبلغ الخبر الى كيبغا ومن كان معه فذهبت عنهم الهواجس واستأمنوا للسلطان فأمنهم واستحلفوه فحلف لهم ودخلوا الى القلعة وأفاض كيبغا العطاء في الناس وأخرج من كان في الطباق من المماليك بمداخلة الشجاعي فأنزلهم الى البلد بمقاصر الكسرو دار الوزارة والجوار وكانوا نحوا من تسعة آلاف فأقاموا بها ولما كان المحرّم فاتح سنة أربع وتسعين استعدوا ليلة وركبوا فيها جميعا وأخرجوا من كان في السجون ونهبوا بيوت الأمراء واعجلهم الصبح عن تمام قصدهم وباكرهم الحاجب بهادر ببعض العساكر فهزمهم وافترقوا وتقبض على كثير منهم فأخذ منهم العقاب مأخذه قتلا وضربا وعزلا وأفرج عن عز الدين ايبك الأفرم وأعيد الى وظيفته أمير جندار ثم هلك قريبا واستحكم أمر السلطان ونائبة كيبغا وهو مستبدّ عليه واستمرّ الحال على ذلك الى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى والله تعالى ولىّ التوفيق.
خلع الناصر وولاية كيبغا العادل
ولما وقعت الوحشة بين كيبغا والشجاعي وتلتها هذه الفتنة استوحش كيبغا في ظاهر أمره وانقطع عن دار النيابة متمارضا وتردّد السلطان لعيادته ثم حمل بطانته على الاستبداد بالملك(5/467)
والجلوس على التخت وكان طموحا لذلك من أوّل أمره فجمع الأمراء ودعاهم الى بيعته فبايعوه وخلع الناصر وركب الى دار السلطان فجلس على التخت وتلقب بالعادل وأخرج السلطان من قصور الملك وكان مع أمّه ببعض الحجر وولى حسام الدين لاشين نائبا والصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي الدار وزيرا نقله اليها من النظر في الديوان لعلاء الدين ولى العهد ابن قلاون وعز الدين ايبك الأفرم الصالحي أمير جندار وبهادر الحلبي أمير حاجب وسيف الدين منماص أستاذ دار وقسم امارة الدولة بين مماليكه وكتب الى نواب الشام بأخذ البيعة فأجابوا بالسمع والطاعة وقبض على عز الدين ايبك الخازندار نائب طرابلس وولى مكانه فخر الدين ايبك الموصلي وكان الخازندار ينزل حصن الأكراد ونزل الموصلي بطرابلس وعادت دار امارة ثم وفد سنة خمس وتسعين على العادل كيبغا طائفة من التتر يعرفون بالاربدانية ومقدّمهم طرنطاي كان مداخلا لبدولي كنجاب ابن عمه ملك التتر فلما سار الملك الى غازان خافه طرنطاي وكانت احياؤه بين غازان والموصل وأوعز غازان الى التتر الذين من مارتكن فأخذ الطرق عليهم وبعث قط قرا من أمرائه للقبض على طرنطاي ومن معه من أكابر قبيله فسار لذلك في ثمانين فارسا فقتله طرنطاي وأصحابه وعبروا الفرات الى الشام واتبعهم التتر من ديار بكر فكرّوا عليهم فهزموهم وأمر العادل سنجر الدوادار أن يتلقاهم بالرحب واحتفل نائب دمشق لقدومهم ثم ساروا الى مصر فتلقاهم شمس الدين قراسنقر وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلعة فأنفوا لذلك وكان سببا لخلع العادل كما نذكر ووصل على أثرهم بقية قومهم بعد أن مات منهم كثير ثم رسخوا في الدولة وخلطهم الترك بأنفسهم وأسلموا واستخدموا أولادهم وخلطوهم بالصهر والولاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع العادل كيبغا وولاية لاشين المنصور
كان أهل الدولة نقموا على السلطان كيبغا العادل تقديم مماليكه عليهم ومساواة الاربدانية من التتر بهم فتفاوضوا على خلعه وسار الى الشام في شوّال سنة خمس وتسعين فعزل عز الدين ايبك الحموي نائب دمشق واستصفاه وولى مكانه سيف الدين عزلو من مواليه ثم سار الى حمص متصيدا ولقيه المظفر صاحب حماة فأكرمه ورده الى بلده وسار الى مصر والأمراء مجمعون خلعه والفتك بمماليكه وانتهى الى العوجاء من أرض فلسطين وبلغه عن بيسري الشمسي انه كاتب التتر فنكر عليه واغلظ له في الوعيد وارتاب الأمراء من ذلك وتمشت(5/468)
رجالاتهم واتفقوا وركب حسام الدين لاشين وبدر الدين بيسري وشمس الدين قراسنقر وسيف الدين قفجاق وبهادر الحلبي الحاجب وبكتاش الفخري وببليك الخازندار واقوش الموصلي وبكتمر السلحدار وسلار وطغجي وكرجي ومعطاي ومن انضاف اليهم بعد أن بايعوا لاشين وقصدوا مخيم بكتوت الأزرق فقتلوه وجاءهم ميحاص فقتلوه أيضا وركب السلطان كيبغا في لفيفه فحملوا عليه فانهزم الى دمشق وبايع القوم لاشين ولقبوه المنصور وشرطوا عليه أن لا ينفر عنهم برأي فقبل وسار الى مصر ودخل القلعة ولما وصل كيبغا الى دمشق لقيه نائبة سيف الدين عزلو وأدخله القلعة واحتاط على حواصل لاشين والأمراء الذين معه وأمّن جماعة من مواليه ووصلت العساكر التي كانت مجرّدة بالرحبة ومقدّمهم جاغان وكانوا قد داخلوا لاشين في شأنه ونزلوا ظاهر دمشق واتفقوا على بيعة لاشين وأعلنوا بدعوته وانحلّ أمر العادل وسأل ولاية صرخد وألقي بيده فحبس بالقلعة لسنتين من ولايته وبعث الأمراء ببيعتهم للاشين ودخل سيف الدين جاغان الى القلعة ثم وصل كتاب لاشين ببعثه الى مصر وبعث الى كيبغا بولاية صرخد كما سأل ووصل قفجق المنصوري نائبا عن دمشق وأفرج لاشين بمصر عن ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من المماليك وولى قراسنقر نائبا وسيف الدين سلار أستاذ دار وسيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار وبهادر الحلبي صاحب [1] وأقر فخر الدين الخليلي على وزارته ثم عزله وولى مكانه شمس الدين سنقر الأشقر وقبض على قراسنقر النائب وسيف الدين سلار استاذ دار آخر سنة ست وتسعين وولى مكانه سيف الدين منكوتمر الحسامي مولاه واستعمل سيف الدين قفجق المنصوري نائبا ثم أمر بتجديد عمارة جامع ابن طولون وندب لذلك علم الدين سنجر الدوادار وأخرج للنفقة فيه من خالص ماله عشرين ألف دينار ووقف عليه املاكا وضياعا ثم بعث سنة تسع وسبعين بالناصر محمد بن قلاون الى الكرك مع سيف الدين سلار أستاذ دار وقال لزين الدين بن مخلوف فقيه بيته هو ابن استاذي وأنا نائبة في الأمر ولو علمت أنه يقوم بالأمر لأقمته وقد خشيت عليه في الوقت فبعثته الى الكرك فوصلها في ربيع وقال النووي انه بعث معه جمال الدين بن أقوش ثم قبض السلطان في هذه السنة على بدر الدين بيسري الشمسي بسعاية منكوتمر نائبة لان لاشين أراد أن يعهد اليه بالأمر فردّه بيسري عن ذلك وقبحه عليه فدس منكوتمر بعض مماليك بيسري وانهوا الى السلطان أنه يريد الثورة فقبض عليه آخر ربيع الثاني من السنة وأودعه السجن فمات في محبسه وقبض في هذه السنة على
__________
[1] بياض في الأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه القاطعة أو البلدة.(5/469)
بهادر الحلبي وعلى عز الدين ايبك الحموي ثم أمر في هذه السنة بردّ الأقطاعات في النواحي وبعث الأمراء والكتاب لذلك وتولّى ذلك عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وقال مؤرّخ حماة المؤيد كانت مصر منقسمة على أربعة وعشرين قيراطا أربعة منها للسلطان والكلف والرواتب وعشرة للامراء والإطلاقات والزيادات وعشرة للاجناد الجلقة فصيروها عشرة للامراء والإطلاقات والزيادات والأجناد وأربعة عشر للسلطان فضعف الجيش وقال النووي قرّر للخاص في الروك الجيزة واطفج ودمياط ومنفلوط والكوم الأحمر وحولت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين وهذا في العدد انما هو بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين سنة واحدة وهي تفاوت ما بين السنين الشمسية والقمرية وهو حجة ديوان الجيش في انقضاء التفاوت الجيشي وهو تحويل بالأقلام فقط وليس فيه نقص شيء ثم أقطعت البلاد بعد الروك واستثنيت المراتب الجسرية والرزق الأحباسية انتهى كلام النووي رحمه الله والله تعالى أعلم.
فتح حصون سيس
ولما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة وكانت مختصا بالسلطان استولى على الدولة وطلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء وثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر وأكثر السعاية فيهم حتى قبض على بعضهم وتفرق الآخرون في النواحي وبعث السلطان جماعة منهم سنة سبع وتسعين لغزو سيس وبلاد الأرمن كان منهم بكتاش أمير سلاح وقراسنقر وبكتمر السلحدار وتدلار وتمراز ومعهم الالفي نائب صفد في العساكر ونائب طرابلس ونائب حماة ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار وجاءت رسل صاحب سيس وأغاروا عليها ثلاثة أيام واكتسحوها ثم مرّوا ببغراس ثم بمرج انطاكية وأقاموا بها ثلاثا ومرّوا بجسر الحديد ببلاد الروم ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية وقد انتقل الأرمن الذين بها الى قلعة النجيمة وفتحوا قلعة مرعش وحاصروا قلعة النجيمة أربعين يوما وافتتحوها صلحا وأخذوا أحد عشر حصنا منها المصيصة وحموم وغيرهما واضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم ورجع العساكر الى حلب وبلغ السلطان لاشين أنّ التتر قاصدون الشام فجهز العساكر الى دمشق مع جمال الدين أقوش الأفرم وأمره أن يخرج العساكر من دمشق الى حلب مع قفجق النائب فسار الى حمص وأقام بها ثم بلغهم الخبر برجوع التتر ووصل أمر السلطان الى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار والالفي نائب صفد وجماعة(5/470)
من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر وحاول الطباخي ذلك فتعذر عليه وبرز تدلار الى بسار فتوفي بها وأقام الآخرون وشعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فآمنهم وكتب الى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه وعزله سيف الدين كرجي وعلاء الدين ايدغري من اجارتهم فاستراب وولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب الى قفجق بطلبهم فنفروا وافترق عسكره وعبر الفرات الى العراق ومعه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص واحتملوه ولحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين وقد تورطوا في بلاد العدوّ فلم يمكنهم الرجوع ووفدوا على غازان بنواحي واسط وكان قفجق من جند التتر وأبوه من جند غازان خصوصا ولما وقعت الفتنة بين لاشين وغازان وكان فيروز أتابك غازان مستوحشا من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به واطلع سلطانه على كتبه فأرسل الى قطلو شاه نائب حران فقبض على فيروز وقتله وقتل غازان أخويه في بغداد والله تعالى أعلم.
مقتل لاشين وعود الناصر محمد بن قلاون الى ملكه
كان السلطان لاشين قد فوض امر دولته الى مولاه منكوتمر فاستطال وطمع في الاستبداد ونكره الأمراء كما قدّمناه فأغرى السلطان بهم وشردهم كلّ مشرد بالنكبة والبعاد وكان سيف الدين كرجي من الجاشنكير ومقدّما عليهم كما كان قراسنقر مع الأشرف وكان جماعة المماليك معصوصبين عليه وسعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك وأسرّها في نفسه وأخذ في السعاية على منكوتمر وظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية وكان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلظ له منكوتمر يوما في المخاطبة فامتعض وفزع الى كرجي وطقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان وقصدوه ليلا وهو يلعب بالشطرنج وعنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره ولم يزل يتصرّف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه وعلاه بالسيف وافتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه وهموا بقتل القاضي ثم تركوه وخرج كرجي الى طقجي بمكان انتظاره وقصدوا منكوتمر وهو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره وحبسه بالجبّ ثم راجعوا رأيهم واتفقوا على قتله فقتلوه وكان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان وتسعين وكان من موالي علي بن المعز ايبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة واشتراه المنصور قلاون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم وكان يعرف بلاشين الصغير لانه كان هناك لاشين آخر أكبر منه وكان نائبا(5/471)
بحمص ولما قتل اجتمع الأمراء وفيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار أستاذ دار وحسام الدين لاشين الرومي وقد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم وقد عاد من دمشق بعد ان أخرج النائب والعساكر الى حمص وعز الدين ايبك الخزندار وبدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة وبعثوا الى الناصر محمد بن قلاون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت واتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس وفيهم سيف الدين كرجي وشمس الدين سرقنشاه ومقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولا ثم ركب ولقيهم وسألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه وكان كرجي عند القلعة فركب هاربا وأدرك عند القرافة وقتل ودخل بكتاش والأمراء للقلعة لحول من غزاة سيس ثم اجتمعوا بمصر وكان الأمر دائرا بين سلار وبيبرس وايبك الجامدار وأقوش الأفرم وبكتمر أمير جندار وكرت الحاجب وهم ينتظرون وصول الناصر من الكرك وكتبوا الى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي وتولى ذلك بهاء الدين قرا ارسلان السيفي فاعتقل ومات لايام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلوبك المنصوري ثم وصل الناصر محمد بن قلاون الى مصر في جمادى سنة ثمان وتسعين فبايعوا له وولى سلار نائبا وبيبرس أستاذ دار وبكتمر الجوكندار أمير جندار وشمس الدين الأعسر وزيرا وعزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقرّه وبعث على دمشق جمال الدين أقوش الافرم عوضا عن سيف الدين قطلوبك واستدعاه الى مصر فولاه حاجبا وبعث على طرابلس سيف الدين كرت وعلى الحصون سيف الدين كراي وأقرّ بليان الطباخي على حلب وأفرج عن قراسنقر المنصوري وبعثه على الضبينة ثم نقله الى حماة عند ما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة وخلع على الأمراء وبث العطايا والأرزاق واستقرّ في ملكه وبيبرس وسلار مستوليان عليه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
الفتنة مع التتر
قد كنا قدّمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق الى غازان وحدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر الى الشام وبعث شلامش بن امال بن بكو في خمسة وعشرين ألفا في عساكر المغل ومعه أخوه قطقطو وأمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك ثم حدّثته نفسه بالملك فخاضع وطلب الملك لنفسه وكاتب ابن قزمان أمير التركمان فسار اليه في(5/472)
عشرة آلاف فارس وسار في ستين ألف فارس وسار الى سيواس فامتنعت عليه وكتب الى صاحب مصر مع مخلص الرومي يستنجده فبعث الى نائب دمشق بانجاده وبلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة وثلاثين ألف فارس ولحقه الى سيواس فانتقض عليه العسكر ورجع التتر الى مولاي ولحق التركمان بالجبال ولحق هو بسيس في فل من العسكر وسار الى دمشق ثم الى مصر وسأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله الى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكرا عليهم بكتمر الحلبي وساروا الى سيواس فاعترضهم التتر وهزموهم وقتل الحلبي ونجا شلامش الى بعض القلاع فاستنزله غازان وقتله واستقرّ أخوه قطقطو ومخلص وأقطع لهما وانتظما في عسكر مصر والله تعالى أعلم.
واقعة التتر على الناصر واستيلاء غازان على الشام ثم ارتجاعه منه
قد كنا قدّمنا ما حدث من الوحشة بين التتر وبين الترك بمصر وقدّمنا من أسبابها ما قدّمناه فلما بويع الناصر بلغه أنّ غازان زاحف الى الشام فتجهز وقدّم العساكر مع قطلبك الكبير وسيف الدين غزّار، وسار على أثرهم آخر سنة ثمان وسبعين وانتهى الى غزة فنمي اليه أنّ بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه وأنّ الاربدانية الذين وفدوا من التتر على كيبغا داخلوهم في ذلك وبينهما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه واخترق صفوف العساكر وهم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه وتتبع أمرهم من هذه البادرة حتى ظهرت حليتها فسبق الاربدانية ومقدّمهم طرنطاي وقتل بعض المماليك وحبس الباقون بالكرك ورحل السلطان الى عسقلان ثم الى دمشق ثم سار ولقي غازان ما بين سلمية وحمص بمجمع المروج ومعه الكرج والأرمن في مقدّمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام وهم قفجق المنصوري وبكتمر السلحدار وفارس الدين البكي وسيف الدين غزار فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر وثبت غازان ثم حمل على القلب فانهزم الناصر واستشهد كثير من الأمراء وفقد حسام الدين قاضي الحنفية وعماد الدين إسماعيل ابن الأمير وسار غازان الى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية وطار الخبر الى دمشق فاضطرب العامّة وثار الغوغاء وخرج المشيخة الى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة وتقيّ الدين بن تيمية وجلال الدين القزويني وبقي البلد فوضى وخاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم الى بلدكم(5/473)
كتاب الأمان ووصل جماعة من أمرائه فيهم إسماعيل ابن الأمير والشريف الرضي وقرأ كتاب الأمان ويسمونه بلغاتهم الفرمان وترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد وامتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث اليه إسماعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث اليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعا ودس اليه الناصر بالتحفظ وأنّ المدد على غزة ووصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان وبعثوا الى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم وقال لهم أنّ السلطان وصل وهزم عساكر التتر التي اتبعته ودخل قفجق الى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق والشام جميعا وجعل اليه ولاية القضاء وخطب لغازان في الجامع وانطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث وكذا في الصالحية والقرى التي بها والمزّة وداريا وركب ابن تيمية الى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيبانيّ وكان نزل بالعادلية فأركبه معه الى الصالحية وطردوا منها أهل العيث وركب المشيخة الى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذرا من سطوته بالتتر فيقع الخلاف ويقع وبال ذلك على أهل البلد فرجعوا الى الوزير سعد الدين ورشد الدين فأطلقوا لهم الأسرى والسبي وشاع في الناس أنّ غازان أذن للمغل في البلد وما فيه ففزع الناس الى شيخ الشيوخ وفرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك وأكرهوا على غرمها بالضرب والحبس حتى كلت ونزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها ارجواش نائب القلعة ونصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله وكان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكلّ محرّم من غير استثناء وهجم أهل القلعة فقتلوا النجار الّذي كان يصنع المنجنيق وهدم نائب القلعة ارجواش ما كان حولها من المساكن والمدارس والابنية ودار السعادة وطلبوا ما لا يقدرون عليه وأمتهن القضاة والخطباء وعطلت الجماعات والجمعة وفحش القتل والسبي وهدمت دار الحديث وكثير من المدارس ثم قفل الى بلده بعد ان ولى على دمشق والشام قفجق وعلى حماة وحمص بكتمر السلحدار وعلى صفد وطرابلس والساحل فارس الدين البكي وخلف نائبة قطلو شاه في ستين ألف حامية للشام واستصحب وزيره بدر الدين بن فضل الله وشرف الدين ابن الأمير وعلاء الدين بن القلانسي وحاصر قطلو شاه القلعة فامتنعت عليه فاعتزم على الرحيل وجمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة وبقي قفجق منفردا بأمره فأمن الناس بعض الشيء وأمر مماليكه ورجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد ان وصلوا الى القدس وغزة والرملة واستباحوا ونهبوا وقائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج اليه ابن تيمية واستوهبه بعض الأسرى فأطلقهم وكان الملك الناصر لما وصل الى القلعة ووصل معه كيبغا العادل وكان حضر(5/474)
معه المعركة من محلّ نيابته بصرخد فلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان الى مصر وبقي في خدمة النائب سلار وجرّد السلطان العساكر وبث النفقات وسار الى الصالحية وبلغه رحيل غازان من الشام ووصل اليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس وجمال الدين الافرم نائب دمشق وسيف الدين كراي نائب طرابلس واتفق السلطان في عساكرهم وبلغه أنّ قطلو شاه نائب غازان رحل من الشام على أثر غازان فتقدّم بيبرس وسار في العساكر ووقعت المراسلة بينه وبين قفجق وبكتمر والبكي فأذعنوا للطاعة ووصلوا الى بيبرس وسلار فبعثوا بهم الى السلطان وهو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم وبالغ في تكرمتهم والاتطاع لهم وولى قفجق على الشوبك ورحل عائدا الى مصر ودخل بيبرس وسلار الى مصر وقرّروا وفي ولايتها جمال الدين أقوش الافرم بدمشق وفي نيابة حلب قراسنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها وفي طرابلس سيف الدين قطلبك وفي حماة كيبغا العادل وفي قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة امام الدين بن سعد الدين القزويني وعاد بيبرس وسلار الى مصر منتصف شوّال وعاقب الافرم كلّ من استخدم للتتر من أهل دمشق وأغزى عساكره جبل كسروان والدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة وألزم أهل دمشق بالرماية وحمل السلاح وفرضت على أهل دمشق ومصر الأموال عن بعث الخيالة والمساكن لاربعة أشهر وضمان للقرى وكثر الإرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان الى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالا واستخرجها لتقوية عساكره وأقام بظاهر غزة أياما يؤلف فيها الأمصار ثم بعث ألفي فارس الى دمشق وعاد الى مصر منسلخ ربيع الآخر وجاء غازان بعساكره وأجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل والجهات فنزل ما بين حلب ومرس ونازلها واكتسح البلاد الى انطاكية وجبل السمر وأصابهم هجوم البرد وكثرة الامطار والوحل وانقطعت الميرة عنهم وعدمت الأقوات وصوعت المراعي من كثرة الثلج وارتحلوا الى بلادهم وكان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا الى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد وولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر وبين غازان وجاءت كتبه وبعث الناصر كتبه ورسله وولى السلطان على حمص فارس الدين البكي والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/475)
وفاة الخليفة الحاكم وولاية ابنه المستكفي والغزاة الى العرب بالصعيد
ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وهو الّذي ولاه الظاهر وبايع له سنة ستين فتوفي سنة احدى وسبعمائة لإحدى وأربعين سنة من خلافته وقد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر ولقبه المستكفي وارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الاعراب وكثر عيثهم فجهز السلطان العساكر مع شمس الدين قراسنقر فاكتسحهم وراجعوا الطاعة وقرّر عليهم مالا حملوه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم وألف فرس واحدا وألفي جمل اثنين وعشرة آلاف ألف رأس من الغنم وأظهروا الاستكانة ثم أظهروا النفاق فسار اليهم كافل المملكة سلار وبيبرس في العساكر فاستلحموهم وأبادوهم وأصابوا أموالهم ونعمهم ورجعوا واستأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجا وكان أبو نمى أمير مكة قد توفي وقام بأمره في مكة ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث فنقبا السجن وجاءا الى بيبرس مستعديين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس وجاء بهما الى القاهرة وفي سنة ستين وسبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة الى جزيرة أرواد في بحر طرطوس وبها جماعة من الافرنج قد حصنوها وسكنوها فملكوها وأسروا أهلها وخربوها وأذهبوا آثارها والله تعالى ولىّ التوفيق.
تقرير العهد لأهل الذمة
حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة وترفهم وتصرفهم في أهل الدولة فنكره وقبح ذلك واتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمّة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح وأجمع الملاء فيهم على ما نذكر وهو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم فالنصارى بالعمائم السود واليهود بالصفر والنساء منهن بعلامات تناسبهن وأن لا يركبوا فرسا ولا يحملوا سلاحا وإذا ركبوا الحمير يركبونها عرضا ويتنحون وسط الطريق ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين ولا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين ولا يظهروا شعائرهم ولا يضربوا بالنواقيس ولا ينصروا مسلما ولا يهودوه ولا يشتروا من الرقيق مسلما ولا من سباه مسلم ولا من جرت عليه سهام المسلمين ومن دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرسا يتميز به ولا ينقشوا فص الخاتم(5/476)
بالعربي ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يخدّموا في أعمالهم الشاقة مسلما ولا يرفعوا النيران ومن زنا منهم بمسلمة قتل وقال البترك بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي وأصحابي مخالفة ذلك والعدول عنه وقال رئيس اليهود أوقعت الكلمة على أهل ملتي وطائفتي وكتب بذلك إلى الأعمال (ولنذكر) في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمّة بعد كتاب نصارى الشام ومصر اليه ونصه هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام ومضر لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا على أنفسنا أن لا تحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا علية ولا صومعة راهب ولا نجدّد ما خرب منها ولا ما كان في خطط وأن نوسع أبوابنا للمارّة ولبني السبيل وأن ننزل من مرّ بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتم عيبا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو اليه أحدا ولا نمنع أحد من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتسمى بأسمائهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية وأن نجز مقدّم رءوسنا ونكرم نزيلنا حيث كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا ولا نفتح كنفنا في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا طواغيتنا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نوقد النيران في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ولا نطلع في منازلهم ولا نعلي منازلنا فلما أتى عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خلفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا وضمناه على أنفسنا وأهل ملتنا فلا ذمّة لنا عليكم وقد حلّ بنا ما حلّ بغيرنا من أهل المعاندة والشقاق فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه وألحق فيه حرفا اشترطه عليهم مع ما اشترطوه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمّة نصا وقياسا وأمّا كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة ولم يبق الا ما كان قبل الإسلام وسير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء وصالح القبط على كنائسهم وهدم بعضها ولم يبق من الكنائس الا ما كان قبل الهجرة وفي اباحة رمّها وإصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء والله تعالى ولىّ التوفيق
.(5/477)
إيقاع الناصر بالتتر على شقحب
ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين وسبعمائة بحركة التتر وأنّ قطلو شاه وصل الى جهة الفرات وأنه قدم كتابه الى نائب حلب بأنّ بلادهم محلة وأنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده ويوهم الرعية أن يحفلوا من البسائط ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية ونزل التتر مرعش وبعث العساكر من مصر مددا لأهل الشام فوصلوا الى دمشق وبلغهم هنالك أنّ السلطان قازان وصل في جيوش التتر الى مدينة الرحبة ونازلها فقدّم نائبها قرى وعلوفة واعتذر له بأنه في طاعته الى أن يرد الشام فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء وأعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه ولم يلبث أن عبر الفرات راجعا إلى بلاده وكتب إلى أهل الشام كتابا مطوّلا ينذرهم فيه أن يستمدّوا عسكر السلطان أو يستجيشوه ويخادعهم بلين القول وملاطفته وتقدّم قطلو شاه وجوبان الى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفا أو يزيدون وبلغ الخبر الى السلطان فقدم العساكر من مصر وتقدّم بيبرس كافل المملكة الى الشأم والسلطان وسلار على اثره ومعهم الخليفة أبو الربيع وساروا في التعبية ودخل بيبرس دمشق وكان النائب بحلب قراسنقر المنصوري وقد اجتمع اليه كيبغا العادل نائب حماة وأسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القرينين وبها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها واتبعهم العساكر من حلب فأوقعوا بهم واستخلصوا أحياء التركمان من أيديهم وزحف قطلو شاه وجوبان بجموعهما الى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر والعساكر والمسلمون مقيمون بمرج الصفر وهو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس ونائب دمشق أقوش الافرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر وتأخروا عن مراكزهم قليلا وارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا الى نواحي مصر وبينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره وجموعه غرّة رمضان من السنة فرتب مصافه وخرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر وحمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم وصابروهم الى أن غشيهم الليل واستشهد جماعة في الجولة ثم انهزم التتر ولجئوا الى الجبل يعتصمون به واتبعهم السلطان فأحاط بالجبل الى أن أظلّ الصباح وشعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب وتسلل معظمهم مع قطلو شاه وجوبان وحملت العساكر الشامية على من بقي منهم(5/478)
فاستلحموهم وأبادوهم واتبعت الخيول آثار المنهزمين وقد اعترضتهم الا وحال بما كان السلطان قدّم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها ووحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلا وأسرا وكتب السلطان الى قازان بما يجدّد عليه الحسرة ويملأ قلبه رعبا وبعث البشائر الى مصر ثم دخل الى دمشق وأقام بها عيد الفطر وخرج لثالثه منها الى مصر فدخلها آخر شوّال في موكب حفل ومشهد عظيم وقر الإسلام بنصره وتيمن بنقيب نوّابه وأنشده الشعراء في ذلك وفي هذه السنة توفي كيبغا العادل نائب حماة وهو الّذي كان ولىّ الملك بمصر كما تقدّم ذكره فدفن بدمشق وتوفي أيضا بليان الجوكندار نائب حمص وتوفي أيضا القاضي تقيّ الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها وولى مكانه بدر الدين بن جماعة وهلك قازان ملك التتر يقال أصابته حمى حادّة للهزيمة التي بلغته فهلك وولىّ أخوه خربندا وفيها أفرج السلطان عن رميثة وحميصة ولدى الشريف أبي نمى وولاهما بدلا من أخويهما عطيفة وأبي الغيث والله تعالى أعلم.(5/479)
أخبار الأرمن أخبار الأرمن وغزو بلادهم وادعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس على يد التتر
قد كان تقدّم لنا ذكر هؤلاء الأرمن وأنهم وإخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آزر وناحور أخوا إبراهيم عليه السّلام وكانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة وكانت مواطنهم أرمينية وهي منسوبة إليهم وقاعدتها خلاط وهي كرسيّ ملكهم ويسمى ملكهم النكفور ثم ملك المسلمون بلادهم وضربوا الجزية على من بقي منهم واختلف عليهم الولاة ونزلت بهم الفتن وخرجت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب وانزووا إليها وكانوا يؤدّون الضريبة للمسلمين وكان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون وهو صاحب ملك الدروب واستخدم للعادل وأقطع له ملك المصيصة وأردن وطرسوس من يد الروم وأبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة وغدر في بعض السنين بالتركمان فعزاهم صلاح الدين وأخنى عليهم حتى أذعنوا ورجع إلى حاله من أداء الجزية والطاعة وحسن الجوار بثغور حلب ثم ملكهم لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين ابن يأنس ويظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته وأقرّه على سلطانه وأجلب مع التتر في غزواتهم على الشام وغزا سنة اثنتين وستين صاحب بلاد الروم من التتر واستنفر معه بني كلاب من أعراب حلب وعاثوا في نواحي عنتاب ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين ونصب ابنه للملك وبعث الظاهر العساكر سنة أربع وستين ومعه قلاون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم وأسروا خرّب العساكر مدينة سيس وبذل هيثوم الأموال والقلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر وأصحابه من أبغا بن هلاكو وكان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم وبعث بهم وأعطى خمسا من القلاع منها رغبان ومرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع وستين وملك بعده ابنه ليون وبقي الملك في عقبه وكان بينهم وبين الترك نفرة واستقامة لقرب جوارهم من حلب والترك يردّدون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة والجزية وشحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم ولما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم ووثب عليه أخوه سنباط فخلعه وحبسه بعد أن سمل عينه الواحدة وقتل أخاهما الأصغر يروس ونازلت عساكر الترك لعهده(5/480)
قلعة حموض من قبل العادل كيبغا فاستضعف الأرمن سنباط وهموا به فلحق بالقسطنطينية وقدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين وأعطاهم مرعش وجميع القلاع على جيحان وجعلوهم تخما ورجعت العساكر عنهم ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع وستين فأقام معه قليلا ثم وثب برندين ففرّ إلى القسطنطينية وأقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن وقدم ابن أخيه تروس معسول أتابكا واستقامت دولته فيهم وسار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد واستردّوا بعض قلاعهم وخربوا تل حمدون فلما هزم الناصر التتر سنة اثنتين وسبعمائة بعث العساكر إلى بلادهم فاسترجعوا القلاع وملكوا حمص واكتسحوا بسائط سيس وما إليها ومنع الضريبة المقرّرة عليهم فأنفذ نائب حلب قراسنقر المنصوري سنة سبع وستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم واعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم وقتل أميرهم وأسر الباقون وجهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية وانتهوا إلى غزة وخشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب حلب بالجزية التي عليهم لسنة خمس وقبلها وتوسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه وأمنه وكان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي وكان قد أسلم لما أسلم ابغا وبنى مدرسة بأذنة وشيد فيها مئذنة ثم حدث بينه وبين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام وقد واطأهم على ملك سيس وما إليها واستشهد له بالمدرسة والمئذنة وكتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرّها في نفسه واغتاله في صنيع دعاه إليه وقبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزيرة المقررة عليه وهو آيدغدي الشهرزوريّ ولم يزل في سجن التتر الى أن فرّ من محبسه بتوريز سنة عشر وسبعمائة ونصب لملك سيس أوشني بن ليون وسار ارفلي إلى خربندا فسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه وولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي وقتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر وتقرير الجزية عليه كما كانت وما زال يبعثها مع الأحيان والله تعالى أعلم.
مراسلة ملك المغرب ومهاداته
كان ملك المغرب الأقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين وهو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث الى السلطان الناصر سنة أربع وسبعمائة رسوله علاء الدين آيدغدي الشهرزوريّ من الشهرزورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس ومعه هدية حافلة من الخيل(5/481)
والبغال والإبل وكثير من ماعون المغرب وسائر طرفه جملة من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه التكرمة وبعث معهم أميرا لإكرامهم وقراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم وعاد الرسول آيدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة وعين لذلك أميرين من بابه آيدغدي البابلي وآيدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست قابلهم بما يجب لهم ولمرسلهم وأوسع لهم في الكرامة والحباء وبعثهم إلى ممالكه بفاس ومراكش ليتطوّفا بها ويعاينا مسرّتها وهلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان وانطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج ولقوا السلطان أبا ثابت البزولي [1] من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة والإحسان إليهم وبعث إلى مرسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل والبغال والإبل ثم مرّوا بتلمسان وبها أبو زيان وأبو حمو ابنا عثمان بن يغمراس فلم يصرفا إليهما وجها من القبول وطلبا منهما خفير يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب وما كان من شأنه فبعث معهما بعض العرب فلم يغن عنهم واعترضهم في طريقهم أشرار حصن من زغبة بنواحي المرية فبالغوا في الدفاع فلم يغن عنهم واستولى الأشرار على الركب بما فيه ونهبوا جميع الحجاج ورسل الملك الناصر معهم وخلصوا برءوسهم إلى الشيخ بكر بن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية فأوصلهم إلى السلطان بجباية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص ملوك إفريقية فكساهم وحملهم إلى حضرة تونس وبها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم وسافر معهم إبراهيم ابن عيسى من بني وسنار أحد أمراء بني مرين كان أميرا على الغزاة بالأندلس وخرج لقضاء فرضه فمرّ بتونس واستنهضه سلطانها على الإفرنج بجزيرة جربة فسار اليها بقومه ومعه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدّة ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس وساروا جميعا إلى مصر وتقدّم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم وعادوا إلى المغرب واستمدّ أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمدّه بالأموال والمماليك وكان سببا لاستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره أن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية الجزولي.(5/482)
وحشة الناصر من كافلية بيبرس وسلار ولحاقه بالكرك وخلعه والبيعة لبيبرس
ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر وبين كافليه بيبرس وسلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم وتردّدت بينه وبينهم السعاة بالعتاب وركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل ودافعهم الحامية في جوف الليل وافترقوا وامتعض السلطان لذلك وازداد وحشة ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال وحمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس وكان بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة ونشأتها من أجلهم ففرّ بهم السلطان وأعتب الأميرين ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم واتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه وأبعده وبعثه نائبا عن صفد ثم غص بما هو فيه من الحجر والاستبداد وطلب الحج فهجره بيبرس وسلار وسار على الكرك سنة ثمان وودعه الأمراء واستصحب بعضا منهم فلما مرّ بالكرك دخل القلعة وأخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر وبعث عن أهله وولده كانوا مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة وصرف الأمراء الذين توجهوا معه وأظهر الانقطاع بالكرك للعبادة وأذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة وتشاوروا واتفقوا على أن يكون بيبرس سلطانا عليهم وسلار على نيابته وبايعوا بيبرس في شوّال سنة ثمان ولقبوه المظفر وقلده الخليفة أبو الربيع وكتب للناصر بنيابة الكرك وعينت له إقطاع يختص بها وقام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله وأقرّ أهل الوظائف والرتب على مراتبهم وبعث أهل الشام بطاعتهم واستقرّ بيبرس في سلطانه والله تعالى أعلم.
انتقاض الأمير بيبرس وعود الناصر إلى ملكه
ولما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك وقلق الظاهر بيبرس المظفر وبعث في أثرهم فلم يدركوهم واتهم آخرون فقبض عليهم ونشأت الوحشة لذلك واتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك وخرج من مكانه يريد النهوض إليهم ثم رجع ووصل كتاب نائب دمشق أقوش الافرم فسكن الحال وبعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيدغلي وقطلوبغا تتضمن الإرجاف فثارت لها حفائظه وعاقب الرسولين وكاتب أمراء الشام يتظلم من بيبرس وأصحابه بمصر ويقول(5/483)
سلمت لهم في الملك ورضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني وبعثوا إليّ بالوعيد وأنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك وبيبرس الظاهر ومثل ذلك من القول ويستنجدهم ويمتّ إليهم بوسائل التربية والعتق في دفاع هؤلاء عنه والا لحقت ببلاد التتر وبعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدما بالكرك من عهد أقوش الاشرفي وأقام هنالك وكان مولعا بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده وبث إليه ذات يوم شكواه فقال أنا أكون رسولك الى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا وأجابوه بالطاعة كما يجب منهم وسار السلطان الى البلقاء وأرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالحال واستمدّه بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء وأزاح عللهم وأنفق في سائر العساكر بمصر وكثر الإرجاف وشغبت العامّة وتعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي استرابة بمكانهم ووصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه واستراب لرجعته سائر أصحابه وحاشيته وخاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك ثم دسّ السلطان إلى مماليكه وشيع إليهم فأجابوه وأعاد الكتاب إلى نواب الشام مثل شمس الدين آقسنقر نائب حلب وسيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع والطاعة وبعث نائب حلب ولده إليه واستنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع ولحق به طائفة من أمراء دمشق وبعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان وكتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق والاجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا ولحقوا بالسلطان وسار أقوش إلى البقاع والشقيف واستأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه وسار إلى دمشق فدخلها وهي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمر أمير جامدار جاءه من صفد وهاجر إلى خدمته فتلقاه وجازاه أحسن الجزاء ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالميرة والتكرمة وأقرّه على نيابة دمشق واضطربت أمور الجاشنكير بمصر وخرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرّح في أثرهم العساكر فأدركوهم ونال الهاربون منهم قتلا وجراحة ورجعوا وتجمعت وثاب العامّة والغوغاء وأحاطوا بالقلعة وجاهروا بالخلعان وقبض على بعضهم وعوقب فلم يزدهم إلا عتوّا وتحاملا وارتاب الجاشنكير لحاله واجتمع الناس للحلف وحضر الخليفة وجدّد عليه وعليهم الحلف وبعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم وهموا أن يحصبوهم على المنبر فرجع إلى النفقة وبذل المال واعتزم على المسير إلى الشام وقدم(5/484)
أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان من دمشق منتصف رمضان وقدم بين يديه أميرين من أمراء غزة فوصلاها واجتمعت إليه العرب والتركمان وبلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار وبدر الدين بكتوت الجوكندار وسيف الدين السلحدار وفاوضهم في الأمر فرأوا أنّ الخرق قد اتسع ولم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون ويتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك وبعثوا بيبرس الدوادار وسيف الدين بهادر بعد أن أشهد الجاشنكير بالخلع وخرج من القلعة الى أطفيح بمماليكه فلم يستقرّ بها وتقدّم قاصدا أسوان واحتمل ما شاء من المال والذخيرة وخيول الإصطبل وقام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار وكاتب السلطان يطالعه بذلك وخطب للسلطان على المنابر ودعي باسمه على المآذن وهتف باسمه العامّة في الطرقات وجهز سلار سائر شعار السلطنة ووصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون وردّهم إليه بالأمان والولاية ووافى السلطان عيد الفطر بالبركة ولقيه هنالك سيف الدين سلار وأعطاه الطاعة ودخل السلطان إلى القلعة وجلس باقي العيد بالإيوان جلوسا فخما واستحلف الناس عامّة وسأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوّال وأقام ولده بباب السلطان ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال والذخيرة وأوصلوها إلى الخزائن ووصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء واختاروا الرجوع إلى السلطان وولى السلطان سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار نائبا بمصر وقراسنقر المنصوري نائبا بدمشق وبعث نائبها الأفرم نائبا بصرخد وسيف الدين قفجق نائبا بحلب وسيف الدين بهادر نائبا بطرابلس وخرجوا جميعا إلى الشام وقبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم وولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضا عن ضياء الدين أبي بكر ثم انصرف بيبرس الجاشنكير متوجها إلى صهيون وبها بهادر [1] بها الأشجعيّ موكل به إلى حيث قصد ورجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه واعتقل بعضهم ثم بدا للسلطان في أمره وبعث إلى قراسنقر وبهادر وهما مقيمان بغزة ولم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه وبعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل ومات هنالك والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 58: ثم أن بيبرس المذكور قصد الى صهيون حسبما كان قد سأله فبرز من أطفيح إلى السويس وسار إلى الصالحية، ثم سار منها حتى وصل إلى موضع بأطراف غزة يسمى العنصر قريب الداروم، وكان قراسنقر متوجها إلى دمشق نائبا بها على ما استقر عليه الحال فوصل إليه المرسوم بالقبض على بيبرس الجاشنكير.(5/485)
خبر سلار ومآل أمره
لما انتقل السلطان إلى ملكه بمصر وكان لسلار من السعي في أمره وتمكين سلطانه ما ذكرناه وكانت له سوء بال عند السلطان يعتني برعيها له وكانت الشويك من أقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها والتخلي فيها فأذن له وخلع عليه وزاده في أقطاعه وأقطاع مماليكه وأتبعه مائة من الطواشية بأقطاعهم وسار من مصر إلى الشويك في شوّال سنة ثمان وسبعمائة ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافا إلى الشويك وباللواء وبخلعة مذهبة ومركب ثقيل ومنطقة مجوهرة وأقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمى إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة وفيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعا وعلى شيع سلار وحاشيته الذين بمصر وبعث علم الدين الخوالي لاستقدامه من الكرك تأنيسا له وتسكينا فقدم في ربيع من السنة واعتقل إلى أن هلك في معتقله واستصفيت أمواله وذخائره بمصر والكرك وكانت شيئا لا يعبر عنه من الأموال والفصوص واللآلي والدروع والكراع والإبل ويقال أنه كان يغلّ كل يوم من أقطاعه وضياعه ألف دينار وأمّا أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاون ولما مات صار لأبيه قلاون ثم لابنه الأشرف ثم لأخيه محمد بن الناصر وظهر في دولهم كلها وكان بينه وبين لاشين مودّة فاستخدم له وعظم في دولته متقربا في المراكب متحرّيا لمحبة السلطان إلى أن انقرض أمره ويقال أنه لما احتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائما ومشى خطوات ثم مات والله أعلم.
انتقاض النواب بالشام ومسيرهم إلى التتر وولاية تنكز على الشام
كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب [1] الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه ونقل إليها قراسنقر المنصوري من نيابة دمشق وولى مكانه بدمشق سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة ثم سخطه واعتقله وولى مكانه بدمشق جمال الدين أقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 60: واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة أنعم السلطان بنيابة السلطنة بحلب على استدمر موضع سيف الدين قبجق.(5/486)
وتوفي بها محمد [1] نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد ثم قبض على بكتمر الجوكندار نائب مصر وحبسه بالكرك وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار ثم ارتاب قراسنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعا له عند السلطان فقبله وردّه إلى نيابة حلب ثم بلغ السلطان أنّ خربندار ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدّم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قراسنقر وخرج من حلب وعبر الفرات ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على ان يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشويك يقيم بها فلم يفعل وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحبها بالكرامة وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام وبلغ الخبر إلى السلطان فأتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قراسنقر وأصحابه فاستدعاهم وبعث على حلب سيف الدين [2] مكان قراسنقر وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعا وعلى أقوش الأشرفي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية وقبض على نائبة بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر بظاهر القلعة وارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها وانصرف عنها راجعا فانكفأ السلطان إلى دمشق وفرق العساكر بالشام ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجا من الكرك ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه ثم لحق سنة ست عشرة بخرابندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك فلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على الاسم الكامل لنائب طرابلس في تلك السنة.
[2] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 67: وفيها قرر السلطان سيف الدين سودي الجمدار (الأشرفي ثم الناصري) في نيابة السلطنة بحلب المحروسة موضع قراسنقر.(5/487)
رجوع حماة إلى بني المظفر شاهنشاه بن أيوب ثم لبني الأفضل منهم وانقراض أمرهم
قد كان تقدّم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمدا ولقبه المنصور وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان ويلقب الناصر سنة ست وعشرين وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزه بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولي ابنه محمد ويلقب المنصور ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هاربا إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو واستمرّ المنصور إلى مصر فأقام بها وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مرّ ثم سار قطز إلى الشام عند ما رجع هلاكو عنه عند ما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر وولى على قواعده وأمصاره وردّ المنصور إلى حماة فلم يزل واليا عليها وحضر واقعة على التتر بحمص سنة ثلاثين وكان يتردّد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك ثم توفي ثلاث وثمانين وأقرّ قلاون ابنه المظفر على ما كان أبوه وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عند ما بويع الناصر محمد بن قلاون بعد لاشين، وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قراسنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على أقطاعاتهم ثم كان استيلاء قازان على الشام ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار وانتزاع الشام من التتر وكان كيبغا العادل الّذي ملك مصر وخلعه لاشين نائبا بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة وغزا بالعساكر بلاد الأرمن وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من أقطاعه بالشويك وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور وخلف ولدا اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين ونشأ في دولتهم عاكفا على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه وله كتاب في التاريخ مشهور ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا(5/488)
وولاه على حماة مكان قومه ست عشرة وسبعمائة وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولّى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه وولى إسماعيل على حماة كما قلناه ولقبه المؤيد ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وقام بعده بالأمر مولاه قوص ونصب ابنه أبا بكر محمدا فكان أوّل شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سنة اثنتين وأربعين وانقرضت إيالة بني أيوب من حماة والبقاء للَّه وحده لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد
ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام موريا بالنزهة وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وإضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه وأخذ الهلاك منهم مأخذه الى ان تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم ثم سرّح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة. وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرّم سنة خمس عشرة وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد واقتحموها عنوة واستباحوها وجاءوا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالا جمة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
الولايات
وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين نمر نائب طرابلس الّذي وليها بعد أقوش الأفرم وأمدّه به وسيق معتقلا إلى مصر وولى مكانه سيف الدين كستاي ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية وصرف نائبا الى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلا وحبسه بالإسكندرية وبعث على صفد سيف(5/489)
الدين أقطاي نقله إليها من حمص وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم.
العمائر
ابتدأ السلطان سنة إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله ووقف عليه الأوقاف المغلة ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن وزيد فيه إلى الحدّ الّذي هو عليه بهذا العهد ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس وبنى بإزائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخم بالقلعة وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل والله تعالى أعلم.
حجات السلطان
وحج الملك الناصر محمد بن قلاون في أيام دولته ثلاث حجات أوّلا سنة ثلاث عشرة عند ما انقرض قراسنقر نائب حلب وأقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنا بن عيسى أمير العرب وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجا وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة ومعه المؤيد صاحب حماة والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى [1] ولما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى الهند على اليمن ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة من بني حسن وعن المعتقلين بمحبسه ووصله ووصلهم ثم حج الثالثة سنة اثنتين وثلاثين ومعه الأفضل بن المؤيد صاحب حماة على عادة أبيه في مراكبة السلطان وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصحفا بالفضة أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم وفي منصرفه من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه ويقال أنه سمه وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إمّا في بيت السلطان وإمّا في بيته وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
__________
[1] أظنها دلهي.(5/490)
أخبار النوبة وإسلامهم
قد تقدّم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقرّرها الملوك بعد ذلك وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عساكر المسلمين من مصر حتى يستقيموا وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاون إليها سنة ثمانين وستمائة واسمه سمامون ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقبا لسمامون أو توسط بينهما متوسط وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلى وأسلم فحسن إسلامه وأجرى له رزقا وأقام عنده فلما كانت سنة ست عشرة امتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر وبعث معها عبد الله نشلى المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم وفرّ إلى بلد الأبواب ورجعت العساكر إلى مصر واستقر نشلى في ملك النوبة على حاله من الإسلام وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان ثم أنّ أهل النوبة اجتمعوا على نشلى وقتلوه بمالأة جماعة من العرب سنة تسع وبحثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وانقطعت الجزية بإسلامهم ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملكوها وملئوها عيثا وفسادا وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمّهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والالتحام والله غالب على أمره والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
بقية أخبار الأرمن إلى فتح إياس ثم فتح سيس وانقراض أمرهم
قد كنا قدّمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد آيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم(5/491)
سنة سبع واستقرار الملك بسيس لأخيه أو سير بن ليون وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان ولم يزل أوسير بن ليون ملكا عليهم إلى سنة اثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيرا ابن اثنتي عشرة سنة وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها وهلك أوسير على أثر ذلك ثم أمر الناصر كيبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها وأسر من الأرمن عدّة يقال بلغوا ثلاثمائة وبلغ خبرهم الى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضبا للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرّفه بدخوله في الإسلام ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة إياس ففتحوها وخربوها ونجافلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرسوس والمصيصة ثم قلعتي كلال والجرائدة وسنباط كلا وتمرور وولى نائبين في أذنة وطرسوس وعاد إلى حلب وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره الى عشقيم فبعث بهم الى مصر واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها وانقرضت منها دولة الأرمن والبقاء للَّه وحده انتهى.
الصلح مع ملوك التتر وصهر الناصر مع ملوك الشمال منهم
كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما دولة بني هلاكو آخذ بغداد والمستولي على كرسي الإسلام بالعراق وأصارها هو وبنوه كرسيا لهم ولهم مع ذلك عراق العجم وفارس وخراسان وما وراء النهر ودولة بني دوشي خان بن جنكزخان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم وحدود القسطنطينية بالجنوب وإلى أرض بلغار بالمغرب وكان بين الدولتين فتن وحروب كما تحدث بين الدول المتجاورة وكانت دولة الترك بمصر والشام مجاورة لدولة بني هلاكو وكان يطمعون في ملك الشام ويردّدون الغزو إليه مرّة بعد اخرى ويستميلون أولياءهم وأشياعهم من العرب والتركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم وكانت(5/492)
بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعدّدة وحروبهم فيها سجال وربما غلبوا من الفتنة بين دولة بني دوشي وبين بني هلاكو ولبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم ومملكة مصر والشام فتقع لهم الصاغية إليهم وتتجدّد بينهم المراسلة والمهاداة في كل وقت ويستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو والأجلاب عليهم في خراسان وما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام ويأخذوا بحجزتهم عن النهوض إليه وما زال ذلك دأبهم من أوّل دولة الترك وكانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم يفتخرون به على بني هلاكو ولما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان سنة ثلاث عشرة وكان نائبا ببلاد الروم قطلغمير وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر والتمهل منهم في إمضاء ذلك وزعموا أنّ هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك وردّد الرسل والهدايا أعواما ستة الى أن استحكم ذلك بينهم وبعثوا اليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند وابن بكر بن دوشي سنة عشرين مع كبير المغل وكان مقلدا يحمل على الأعناق ومعهم جماعة من أمرائهم وبرهان الدين أمام أزبك ومرّوا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم يقال أنه أنفق عليهم ستين ألف دينار وركبوا البحر من هناك إلى الإسكندرية ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب والحرير يجرّها كديش يقود، اثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار والتجلة ولما قاربوا مصر ركب للقائهم النائبان أرغون وبكتمر الساقي في العساكر وكريم الدين وكيل السلطان وأدخلت الخاتون إلى القصر واستدعى ثالث وصولها القضاة والفقهاء وسائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة وحضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم وانعقد النكاح بين وكيل السلطان ووكيل أزبك وانفضّ ذلك المجمع وكان يوما مشهودا ووصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد والعراق سنة اثنتين وعشرين وفيهم قاضي توريز يسألون الصلح وانتظام الكلمة واجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج وإصلاح السابلة وجهاد العدوّ فأجاب السلطان إلى ذلك وبعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم وامتضاء إيمانهم فتوجهه لذلك بهدية سنية وعاد سنة ثلاث وعشرين ومعه رسل أبي سعيد ومعه جوبان لمثل ذلك فتمّ ذلك وانعقد بينهم وقد كانت قبل ذلك تجدّدت الفتنة بين أبي سعيد وصاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد وفتكه في المغل وكانت بين جوبان وبين سبول صاحب خوارزم وما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك(5/493)
وأمدّه بالعساكر فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان وطلب من الناصر بعد الالتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد وجوبان فأجابه إلى ذلك ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثره وعقد له وبلغ الخبر إلى أزبك ورسل الناصر عنده فأغلظ في القول وبعث بالعتاب واعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام ولا يسع التخلف عن ذلك فقبل ثم وقعت بينه وبين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استردّ جوبان ما ملكه أزبك من خراسان فتوادع كل هؤلاء الملوك واصطلحوا ووضعوا أوزار الحرب حينا من الدهر إلى أن تقلبت الأحوال وتبدّلت الأمور والله مقلب الليل والنهار.
مقتل أولاد بني نمى أمراء مكة من بني حسن
قد تقدّم لنا استيلاء قتادة على مكة والحجاز من يد الهواشم واستقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي وهو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة ثم توفي سنة اثنتين وسبعمائة وولي مكانه ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث ولما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس وسلار هربا إليهما من مكان اعتقالهما وشكيا ما نالهما من رميثة وخميصة فأشكاهما الأميران واعتقلا رميثة وخميصة وأوصلاهما إلى مصر ووليا عطيفة وأبا الغيث وبعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الّذي جاء بالعساكر معهما ثم رضي السلطان عنهما وولاهما مكان رميثة وخميصة وبعث معهما العساكر ثانيا سنة ثلاث عشرة وفرّ رميثة وخميصة عن البلاد ورجع العسكر وأقام أبو الغيث وعطيفة فرجع إليهما رميثة وخميصة وتلاقوا فانهزم أبو الغيث وعطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن حماد فأمدّهما ببني عقبة وبني مهدي ورجع إلى حرب رميثة وخميصة فاقتتلوا ثانيا ببطن مرو فانهزم أبو الغيث وقتل واستمرّ رميثة وخميصة ولحق بهما أخوهما عطيفة وسار معهما ثم تشاجروا سنة خمس عشر ولحق رميثة بالسلطان مستعديا على أخويه فبعث معه العساكر ففرّ خميصة بعد أن استصفى أهل مكة وهرب إلى السبعة مدن ولحقته العساكر فاستلحق أهل تلك المدن ولقيهم فانهزموا ونجا خميصة بنفسه ثم رجعت العساكر فرجع وبعث رميثة يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففرّ خميصة ثم رجع واتفق مع أخويه رميثة وعطيفة ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة وبعث معه العساكر فتقبضوا على رميثة وأوصلوه معتقلا فسجن بالقلعة واستقرّ عطيفة بمكة وبقي خميصة مشردا ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا واستنجده على ملك الحجاز فانجده بالعساكر وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في(5/494)
إخراج الشيخين من قبريهما وعظم ذلك على الناس ولقبه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة وامتعاضا للدين وكان عند خربندا فاتبعه واعترضه وهزمه ويقال أنه أخذ منه المعاول والفؤوس التي أعدوها لذلك وكان سببا لرضا السلطان عنه وجاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة وبعث الناصر العساكر اليه فهرب وتركها ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز ومعه وزيره علي بن هنجس فرد من طريقه واعتقل وأفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين وكان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه وحضروا وكان السلطان قد أطلق رميثة من الاعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه وعفا عن الباقين ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة وولاه مع أخيه عطيفة واستمرّت حالهما ووفد عطيفة سنة إحدى وعشرين على الأبواب ومعه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان وجهز العساكر لصريخه وقويل كل منهما بالأكراد وانصرفوا وفي سنة إحدى وثلاثين وقعت الفتنة بمكة وقتل العبيد جماعة من الأمراء والترك فبعث السلطان آيدغمش ومعه العساكر فهرب الشرفاء والعبيد وحضر رميثة وبذل الطاعة وحلف متبرئا مما وقع فقبل منه السلطان وعفا له عنها واستمرّت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة [1] وتداولت الإمارة بين ابنيه عجلان وبقية ثم استبدّ عجلان كما نذكره [2] في أخبارهم وورثتها بنوه لهذا العهد كما نذكره مرتبا في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
حج ملك التكرور
كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأوّل والثاني منقسما بين أمم من السودان أولهم مما يلي البحر المحيط أمّة صوصو وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح وذكر صاحب كتاب زجار في الجغرافيا أنّ بني صالح من بني عبد الله بن الحسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم ولم يقع لنا في تحقيق هذا الخبر أكثر من هذا وصالح من بني حسن مجهول وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرسي ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقا عنهم أمّة كوكو ثم التكرور بعدهم وفيما بينهم وبين النوبة أمّة كانم وغيرها وتحولت الأحوال باستمرار العصور
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر على سنة هلاكه في المراجع التي بين أيدينا.
[2] قوله كما نذكره هذا قد تقدم في المجلد الرابع مفصلا مع اختلاف يسير في بعض الأسماء.(5/495)
فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور واستفحل ملكهم إلى الغاية وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين وحج جماعة من ملوكهم وأوّل من حج منهم برمندار وسمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمند أنه وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده ثم حج منهم منسا ولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس وحج بعده منهم مولاهم صاكوره وكان تغلب على ملكهم وهو الّذي افتتح مدينة كوكو ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج سلك على طريق الصحراء وخرج عند الأهرام بمصر وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال أنّ فيها خمسين ألف دينار وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه وحدثه ووصله وزوّده وقرب إليه الخيل والهجن وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وانفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا ثم جدّد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء وكان أعدّ لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار وكان في صحبته منهم بنو الكويك فاقرضوه خمسين ألف دينار واتباع منهم القصر الّذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك وبعث سراج الدين بن الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك وأتبعه سراج الدين آخرا بابنه فمات هنالك وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
أنجاد المجاهد ملك اليمن
قد تقدّم لنا استبداد علي بن رسول فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب ويلقب المسعود وكان علي بن رسول أستاذ داره ومستوليا على دولته فلما هلك سنة ست وعشرين وستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه وكفله قريبا(5/496)
واستولى ابن رسول وأورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد وانتقل الأمر للمجاهد منهم علي بن داود والمؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى وعشرين وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد واعتقله ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث وعشرين وحبسه وأطلق من محبسه واعتقل عمه المنصور وكان عبد الله الظاهر بن المنصور قائما بأمر أبيه ومنازلة المجاهد سنة أربع وعشرين بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر وكان هو وقومه يعطونهم الطاعة ويبعثون إليهم الإتاوة من الأموال والهدايا وطرف اليمن وما عونه فجهز لهم الناصر صحبة بيبرس الحاجب وطبنال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن ولقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون [1] ويستقرّ المجاهد في سلطانه باليمن ومالوا على كل من كان سببا في الفتنة فقتلوهم ودوّخوا اليمن وحملوا أهله على طاعة المجاهد ورجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية والله تعالى ولي التوفيق.
ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك
ولما استفحل ملك السلطان الناصر واستمرّ وكثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقرّ عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست وعشرين ورتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك وأقام بها أربع سنين ممتعا بالملك والدولة وأبوه قرير العين بامارته في حياته ثم استقدمه سنة ثلاثين وأقام فيه سنة الختان واحتفل في الصنيع به وختن معه من أبناء الأمراء والخواص جماعة انتقاهم ووقع اختياره عليهم ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر وكان ما نذكره والله تعالى أعلم.
وفاة مرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم ومقتله
كان جوبان نائب مملكة التتر مستوليا على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره وكانت حاله مع أبيه خربندا قريبا من الاستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش ثم وقعت الفتنة بينهم وبين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان وسار جوبان من بغداد سنة تسع وعشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم وترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة.(5/497)
دمشق فسعى به أعداؤه وأنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به وقتله وبلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض وعاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرّقت عنه أصحابه وفرّ فأدرك بهراة وقتل وأذن السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي اختطها بالمدينة النبويّة لدفنه فاحتملوه ولم يتوقفوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة ودفنوه بالبقيع ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفسه فهرب إلى مصر وترك مولاه أرتق مقيما لأمر البلد وأنزله بسيواس ولما وصل إلى دمشق وركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة وكان معه سبعة من الأمراء ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق وأقاموا عنده وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطلبه بذمّة الصلح الّذي عقده مع الملك الناصر وأوضحوا لعلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان وسعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قراسنقر نائب حلب الّذي كان فرّ سنة اثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا وأغروه بملك الشام ولم يتم ذلك وأقاموا عند خربندا وولي أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولي صاحبه قراسنقر مكانه بهمذان فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى وقتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض والله متولي جزائهم ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد ومعه جماعة من قومه في تأكيد الصلح والإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم واتصلت المراسلة والمهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشأم وأخبار قومه
هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام والجزيرة وتربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين وينتسبون في طيِّئ ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج أحلاف لهم ويناهضهم في الغلب والعدد آل مراد يزعمون أنّ فضلا ومرادا أبناء ربيعة ويزعمون أيضا أنّ فضلا ينقسم ولده بين أل مهنا وآل علي وأنّ آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها قالوا ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية وولوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا(5/498)
برياستهم على آل مراد وغلبوهم على المشاتي فصار عامّة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل وكانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء وأوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيِّئ هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالتهم وبنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران ورياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا وينسبونه هكذا مهنا بن مانع ابن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن جصة بن بدر ابن سميع ويقفون عند سميع ويقول رعاؤهم أنّ سميعا هذا هو الّذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي وحاشى للَّه من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي انتساب كبراء العرب من طيِّئ إلى موالي العجم من برمك وأنسابهم ثم أنّ الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم وقد تقدّم مثل ذلك في مقدّمة الكتاب وكان مبدأ رياستهم من أوّل دولة بني أيوب قال العماد الأصبهاني في كتاب البرق السامي نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة انتهى وكانت الرئاسة قبلهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيِّئ وكان كبيرهم مفرج بن دغفل ابن جراح وكان من إقطاعه الرملة وهو الّذي قبض على افتكين مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق وجاء به إلى المعز فأكرمه ورقاه في دولته ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفى سنة أربع وأربعمائة وكان من ولده حسان ومحمود وعلى وجران وولي حسان بعده وعظم صيته وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين نفرة واستجاشة وهو الّذي هدم الرملة وهزم قائدهم هاروق التركي وقتله وسبى نساءه وهو الّذي مدحه التهامي وقد ذكر المسيحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح وأخاه بدر بن ربيعة ولعل فضلا هذا هو جدّ آل فضل وقال ابن الأثير وفضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدّس وكان فضل تارة مع الإفرنج وتارة مع خلفاء مصر ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش وطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد وحالفه ووصله حين قدم من دمشق بتسعة آلاف دينار فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها ووقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب وهربوا الى السلطان(5/499)
فأكرمهم وخلع عليهم وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار ولم يرجع للسلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير ويظهر من كلامه وكلام المسيحي أنّ فضلا هذا وبدرا من آل جراح من غير شك ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أنّ فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج وهو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الّذي هو كبير بني الجراح لطول العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل وأما نسبة هذا الحي في طيِّئ فبعضهم يقول أن الرئاسة في طيِّئ كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ وإياس هو الّذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عند ما قتل النعمان بن المنذر وهو الّذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة ولم تزل الرئاسة على طيِّئ في بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام فلعل آل فضل هؤلاء وآل الجراح من أعقابهم وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأنّ الرئاسة في الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مرّ أوّل الكتاب وقال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيِّئ أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجا وسلمى وأوطنوهما وما بينهما ونزل بنو أسد ما بينهما وبين العراق وفضل كثير منهم وهم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيِّئ ويقال هم جديلة نسبة إلى أمّهم بنت تيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيِّئ وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رمان ابن جندب بن خارجة بن سعد فإنّهم أقاموا بالجبلين فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة السهليون انتهى فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيِّئ لأنّ هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجا وسلمى الذين هما موطن الآخرين والله أعلم أيّ ذلك يصح من أنسابهم ولنرجع الآن إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب فنقول كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه ونقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل وتوفي سنة ثلاثين وستمائة وولي عليهم بعده ابنه مهنا ولما ارتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر وملك الشام من يد التتر وهزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلميّة لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن المظفر بن شاهنشاه صاحب حماة ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا ثم ولي(5/500)
الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل أمر الترك وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد فولى العرب عيسى بن مهنا بن مانع ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته وأعراضه ولم يزل أميرا على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدّة عليهم وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وتسعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاون بعده ابنه مهنا ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وأخويه محمد وفضل ابني عيسى بن مهنا وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كيبغا عند ما جلس على التخت سنة أربع وتسعين ورجع إلى إمارته ثم كان له في أيام الناصر نفرة واستجاشة وميل إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئا من وقائع غازان ولما انتقض سنقر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لحقوا به وساروا من عنده إلى خربندا واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشرّدا ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق وهلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه وأوفد ابنيه أحمد وموسى وأخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا ورده على إمارته وإقطاعه وذلك سنة سبع عشرة وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل اثنا عشر ألف راحلة ثم رجع مهنا إلى ديدنه في ممالأة التتر والإجلاب على الشام واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه وسخطه قومه أجمع وكتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم آل علي عديدة نسبهم وولي منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر وصرف إقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدّة ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحا على السلطان فأقبل عليه وردّ عليه إقطاعه وإمارته وذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدّث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق من النياق المحلوبة واستقاها وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سألهم شيئا من حاجته ثم رجع إلى أحيائه وتوفي سنة أربع وثلاثين فولي ابنه مظفر الدين موسى وتوفي سنة اثنتين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان ثم هلك سليمان(5/501)
سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقدس ودفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وولي مكانه اخوه سيف بن فضل. ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست وأربعين، وولي مكانه مهنا بن عيسى ثم جمع سيف بن مهنا ولقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف ثم ولي السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم ثم توفي سنة تسع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض وهلك سنة اثنتين وستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنين بالقفر ضاحيا إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى مخيمهم واستاق نعمهم وتخطي إلى الخيام فاستماتوا دونها وهزموا عساكره وقتل قشتمر وابنه في المعركة وتولى ذلك زامل بيده وذهب إلى القفر منتقضا فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان فأعاده إلى إمارته ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما ثم عزلا لسنة من ولايتهما وولي بصير بن جبار بن مهنا واسمه محمد وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيِّئ والله تعالى أعلم.
وفاة أبي سعيد ملك العراق وانقراض أمر بني هلاكو
ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن ابغو بن ابغا بن هلاكو بن طولى خان بن جنكزخان سنة ست وثلاثين وسبعمائة لعشرين سنة من ملكه ولم يعقب فانقرض بموته ملك بني هلاكو وصار الأمر بالعراق لسواهم وافترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم ولما استبدّ ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده على أن يسلم له بغداد ويعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك ثم توفي قريبا فلم يتم والأمر للَّه وحده
.(5/502)
وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله وكريمته صحبة الحاج
كان ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد استفحل لهذه العصور وصار للسلطان أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن يعقوب بن عبد الحق جدّ ملوكهم وأسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط وهو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زنانة وملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى ابن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمر أسن بن زيان جدّ ملوكهم أيضا وكرسيه تلمسان سبعة وعشرين سهرا ونصب عليها المجانيق وأدار بالأسوار سياجا لمنع وصول الميرة والأقوات إليها وتقرى أعمالها بلدا بلدا فملك جميعها ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع وثلاثين ففض جموعها وقتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها وزوال العائق عن وفادة الحاج وأنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم ويزيل عللهم وكانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد ومن أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عند ما ملك تلمسان فلما فتحها وأذهب عدوّه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه وجهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها وعدّة فرسانها من السروج واللجم والسيوف وظرف المغرب وما عونه من شتى أصنافه ومن ثياب الحرير والصوف والكتان وصنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف وأصناف الدرّ والياقوت وما يشبههما في سبيل التودّد وعرض أحوال المغرب على سلطان المشرق ولعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه ووزرائه وأهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان وثلاثين وأحلهم بأشرف محل من التكرمة وبعث من إصطبلاته ثلاثين خطلا من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي والجمال وجلس لهم في يوم مشهود ودخلوا عليه وعرضوا الهدية فعمّ بها أهل دولته إحسانا في ذلك المجلس واستأثر منها على ما زعموا بالدرّ والياقوت فقط ثم فرّقهم في منازله وأنزلهم دار كرامته وقد هيئت بالفرش والماعون ووفر لهم الجرايات واستكثر لهم من الأزودة وبعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة وانقلبوا إلى سلطانهم فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية وعين منها الجمل المتعارف في كل سنة الخزانة السلطان وقيمته لذلك(5/503)
العهد خمسون ألف دينار وعلى خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت والقباب والكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد والخشب كأنها قباب مائلة وعلى خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية وظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل والأوتاد أحسن ما يراه من البيوت وعلى صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس وعلى عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج ولجم ملوكية مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة باللآلئ والفصوص وبعث مع تلك الجياد خدم يقومون ببنائها المتعارف فيها ووصلت الهدية إلى سلطان المغرب فوقعت منه أحسن المواقع وأعاد الكتب والرسل بالشكر واستحكمت المودّة بين هذين السلطانين واتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما والله تعالى وليّ التوفيق.
وفاة الخليفة أبي الربيع وولاية ابنه
قد ذكرنا أيام الظاهر وأنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد وصل يومئذ من بغداد واسمه أحمد بن محمد وذكرنا نسبه هنالك إلى الراشد وأنه بويع له بالخلافة سنة ستين وستمائة ولقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى وسبعمائة وقد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها ولقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر ثم تنكر له السلطان سنة ست وثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة ومنعه من لقاء الناس فبقي حولا كذلك ثم ترك سبيله ونزل إلى بيته ثم كثرت السعاية في بنيه فغربه سنة ثمان وثلاثين إلى قوص هو وبنيه وسائر أقاربه وأقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر وقد عهد بالخلافة لابنه أحمد ولقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك لأنّ أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد ولقبه الواثق وهلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى وأربعين وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي وولي أخوه أبو بكر ولقب المعتضد ثم هلك سنة ثلاث وستين لعشرة أشهر من خلافته ونصب بعده ابنه محمد ولقب المتوكل ونورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
نكبة تنكز ومقتله
كان تنكز مولى من موالي لاشين اصطفاه الناصر وقرّبه وشهد معه وقائع التتر وسار معه إلى(5/504)
الكرك وأقام في خدمته مدّة خلعه ولما رجع إلى كرسيه ومهد أمور ملكه ورتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام وجعله نائبا بدمشق ومشارفا لسائر بلاد الروم ففتح ملطية ودوّخ بلاد الأرمن وكان يتردّد بالوفادة على السلطان يشاوره وربما استدعاه للمفاوضة في المهمات واستفحل في دفاع التتر وكيادهم ولما توفي أبو سعيد وانقرض ملك بني هلاكو وافترق أمر بغداد وتورين وكانا معا يحاورانه ويستنجدانه وسخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه وادّهانه في طاعته وممالأة أعدائه وشرع السلطان في استكشاف حاله وكان قد عقد له على بنته فبعث دواداره باجار يستقدمه للأعراس بها وكان عدوّا له للمنافسة والغيرة فأشار على تنكز بالمقام وتخلية عن السلطان وغشه في النصيحة وحذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طشتمر نائب صفد أن يتوجه إلى دمشق ويقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان وعشرين سنة لولايته بدمشق وبعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فاحتاط على موجودة وكان شيئا لا يعبر عنه من أصناف المتملكات وجاء به مقيدا فاعتقل بالإسكندرية ثم قتل في محبسه والله تعالى أعلم.
وفاة الملك الناصر وابنه أنوك قبله وولاية ابنه أبي بكر ثم كجك
ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاون أمجد ما كان ملكا وأعظم استبدادا توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى وأربعين وسبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه وكانت وفاته لثمان وأربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا ولاثنتين وثلاثين من حين استبداده يأمره بعد بيبرس وصفا الملك له وولي النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار ولم يول أحد النيابة بعده وبقيت الوظيفة عطلا آخر أيامه وأمّا دواداريّه فأيدمر ثم سلار ثم الحلي ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجار وكتب عنه شرف الدين بن فضل الله ثم علاء الدين بن الأمير ثم محيي الدين بن فضل الله ثم ابنه شهاب الدين ثم ابنه الآخر علاء الدين وولي القضاء في دولته تقي الدين بن دقيق العيد ثم بدر الدين بن جماعة وإنما ذكرت هذه الوظائف وإن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر وطول أمدها واستفحال دولة الترك عندها وقدّمت الكتاب على القضاة وإن كانوا أحق بالتقديم لأنّ الكتاب أمس بالدولة فإنّهم من أعوان الملك ولما اشتدّ المرض بالسلطان وكان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه(5/505)
متسلحين وكان بشتك يضاهيه فارتاب وسلح أصحابه وبدا بينهما التنافس ودس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما وأصلح بينهما وأراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر ومات فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك وأبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر ولقب المنصور وقام بأمر الدولة قوصون وردفه قطلوبغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقردمر وبعثوا على حلب طشتمر وعلى حمص أخضر عوضا عن طغراي وأقرّوا كيبغا الصالحي على دمشق ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون وقطلوبغا دونه فطلب نيابة دمشق وكان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على تنكز فاستعفوه فلما جاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري وبعث به إلى الإسكندرية فاعتقل بها ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته ونزع عن الملك وصار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكرا مخالطا للسوقة فنكر ذلك الأمراء وخلعه قوصون وقطلوبغا لسبعة وخمسين يوما من بيعته وبعثوا به إلى قوص فحبس بها وولوا أخاه كجك ولقبوه الأشرف وعزلوا طقردمر عن النيابة وقام بها قوصون وبعثوا طقردمر نائبا على حماة وأدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر وقبضوا على طاجار الدويدار وبعثوا به إلى الاسكندرية فغرق في البحر وبعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مقتل قوصون ودولة أحمد بن الملك الناصر
لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه واعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر وكان يومئذ بالكرك مقيما منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدّمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب واستدعاه إلى الملك وبلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلوبغا في العساكر لحصار الكرك وبعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص وأخضر وكان قطلوبغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون وغص باستبداده عليه فلما فصل بالجند من مصر بعث بيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك وسار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق ودعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه وقدم عليه وانتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق وهو يحاضر حلب فافرج عنها ودعاه قطلوبغا إلى بيعة أحمد فأبى فانتقض عليه أصحابه وسار إلى مصر واستولى قطلوبغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد وبعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها(5/506)
واجتمع آيدغمش وآق سنقر السلاري وغازي ومن تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد واستراب بهم قوصون كافل المملكة وهمّ بالقبض عليهم وشاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغشوه وخذلوه وركب القوم ليلا وكان آيدغمش عنده بالإصطبل وهو أمير الماصورية وهمّ قوصون بالركوب فخذله وثنى عزمه ثم ركب معهم واتصلت الهيعة ونادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها وخربوها وخربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة ونهب شيخها شمس الدين الأصبهاني فسلبوه ثيابه وانطلقت أيدي الغوغاء في البلد ولحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم واقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه وسبوا عياله وقادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرّة من ذلك ثم اقتحم آيدغمش وأصحابه القلعة وتقبضوا على قوصون وبعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه وكان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصالحي فسار قراسنقر السلاري في أثرهم وتقبض عليهم وعلى الصالحي وبعث بهم جميعا إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس وأربعين وبعث لأحمد بن الملك الناصر وطير إليه بالخبر وتقبض على جماعة من الأمراء واعتقلهم ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة اثنتين وأربعين ومعه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب وقطلوبغا الفخري فولى طشتمر نائبا بمصر وقطلوبغا الفخري بعثه إلى دمشق نائبا ثم قبض على أخضر لشهر أو نحوه وقبض على آيدغمش وآق سنقر السلاري ثم ولى آيدغمش على حلب وبلغ الخبر إلى قطلوبغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب وأتبعته العساكر فلم يدركوه وتقبض على آيدغمش بحلب وبعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر وارتاب الأمراء بأنفسهم واستوحش السلطان منهم انتهى والله أعلم.
مسير السلطان أحمد إلى الكرك واتفاق الأمراء على خلعه والبيعة لأخيه الصالح
ولما استوحش الأمراء من السلطان وارتاب بهم ارتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته واحتمل معه طشتمر وآيدغمش معتقلين واستصحب الخليفة الحاكم واستوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي وسار إلى دمشق وهي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر وأنزلوه وبعث السلطان في القبض عليه فأبى من إعطاء يده وقال إنما الطاعة لسلطان مصر وأمّا صاحب الكرك فلا وطالت غيبة السلطان أحمد بالكرك واضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في(5/507)
الرجوع إلى دار ملكه فامتنع وقال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت وعمد إلى طشتمر وآيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر وكبيرهم بيبرس العلاني وأرغون الكاملي وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل في محرّم سنة ثلاث وأربعين ولقبوه الصالح فولى آق سنقر السلاري ونقل آيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق وولى مكانه بحلب طقرمرد ثم عزل آيدغمش من دمشق ونقل إليها طقرمرد وولي بحلب طنبغا المارداني ثم هلك المارداني فولى مكانه طنبغا اليحياوي واستقامت أموره والله تعالى وليّ التوفيق.
ثورة رمضان بن الناصر ومقتله وحصار الكرك ومقتل السلطان أحمد
ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه وواعدوه قبة النصر فركب إليهم وأخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته ثم استمرّ هاربا إلى الكرك وأتبعه العسكر مجدّين السير في الطريق وجاءوا به فقتل بمصر وارتاب السلطان بالكثير من الأمراء وتقبض على نائبة آق سنقر السلاري وبعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك وولى مكانه إنجاح الملك ثم سرّح العساكر سنة أربع وأربعين لحصار الكرك مترادفة ونزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكرك فلحقوا بمصر وكان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري ومساري سنة خمس وأربعين فأخذوا بمخنقه ثم اقتحموا عليه وملكوه وقتلوه فكان لبثه بالملك في مصر ثلاثة أشهر وأياما وانتقل إلى الكرك في محرّم سنة ثلاث وأربعين إلى أن حوصر ومثل به وتوفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب فولي مكانه طنبغا اليحياوي وسيف الدين طراي الجاشنكير نائب طرابلس فولي مكانه آق سنقر الناصري والله تعالى أعلم.
وفاة الصالح بن الناصر وولاية أخيه الكامل
ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست وأربعين لثلاث سنسن وثلاثة أشهر من ولايته وبويع بعده أخوه زين الدين شعبان ولقب الكامل وقام بأمره أرغون العلاوي وولي نيابة مصر وعرض إنجاح الملك إلى صفد ثم ردّه من طريقه معتقلا إلى دمشق وبعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية واستدعى طقرمرد نائب دمشق وكجك الأشرف المخلوع بن الناصر الّذي ولاه قوصون وهلك إنجاح الملك الجوكندار في محبسه بدمشق انتهى والله أعلم
.(5/508)
مقتل الكامل وبيعة أخيه المظفر حاجي
كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الاستبداد على أهل دولته فرارا مما يتوهم فيهم من الحجر عليه فتراسل الأمراء بمصر والشام وأجمعوا الإدالة منهم وانتقض طنبغا اليحياوي ومن معه بدمشق سنة سبع وأربعين وبرز في العساكر يريد مصر وبعث الكامل منجو اليوسفي يستطلع أخبارهم فحبسه اليحياوي واتصل الخبر بالكامل فجرّد العساكر إلى الشام واعتقل حاجي وأمير حسين بالقلعة واجتمع الأمراء بمصر للثورة وركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي وآق سنقر الناصري وأرغون شاه فركب إليهم الكامل في مواليه ومعه أرغون العلاوي نائبة فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي ورجع الكامل إلى القلعة منهزما ودخل من باب السرّ مختفيا وقصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما وغلقوا الأبواب وجمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها ودخلوا القلعة وقصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله وجاءوا به فبايعوه ولقبوه المظفر وافتقدوا الكامل وتهدّدوا جواريه بالقتل فدلوا عليه واعتقل مكان حاجي بالدهشة وقتل في اليوم الثاني وأطلق حسين وقام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه والحجازي وولوا طقتمر الأحمدي نائبا بحلب والصلاحي نائبا بحمص وحبس جميع موالي الكامل وأخرج صندوق من بيت الكامل قيل أنّ فيه السحر فأحرق بمحضر الأمراء ونزع المظفر حاجي إلى الاستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي والناصري وقتلهما لأربعين يوما من ولايته وعلى أرغون شاه وبعثه نائبا إلى صفد وجعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري وولى على نيابة الحاج أرقطاي وأرهف حده في الاستبداد وارتاب الأمراء بمصر والشام وانتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان وأربعين وداخله نواب الشام في الخلاف ووصل الخبر إلى مصر فاجتمع الأمراء وتواعدوا للوثوب ونمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل وطافوا بالقلعة وتداعى الأمراء إلى الركوب واستدعاهم من الغد إلى القصر وقبض على كلّ من اتهمه منهم بالخلاف وهرب بعضهم فأدرك بساحة البلد واعتقلوا جميعا وقتلوا من تلك الليلة وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق وولى من الغد مكانهم خمسة عشر أميرا ووصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها وقبض على جماعة من الأمراء وكان السلطان المظفر قد بعث الأمير الجبقا من خاصته إلى الشام عند ما بلغه انتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره فحمل الناس على طاعة المظفر وأغراهم باليحياوي حتى قتلوه وبعثوا برأسه إلى مصر وسكنت الفتنة واستوسق الملك للمظفر والله سبحانه وتعالى أعلم
.(5/509)
مقتل المظفر حاجي بن الناصر وبيعة أخيه حسن الناصر ودولته الأولى
قد كنا قدّمنا أنّ السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده ومما أثر الخلاف منه ورجع إلى السلطان سنة ثمان وأربعين وقد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان ومنكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه فسخط ذلك منه وأمر بالحمام فذبحت كلها وقال لجبقا أنا أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا وغدا على الأمراء والنائب بيقاروس [1] وثاروا بالسلطان وخرجوا إلى قبة النصر وركب المظفر في مواليه والأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة ورأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخو يتلطف لهم فأبوا إلّا خلعه فجاءهم بالخبر ثم رجع إليهم وزحف معهم ولحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عند ما تورّط في اللقاء وحمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه وأمسكه باليد فذبحه في تربة أمّه خارج القلعة ودفن هناك ودخلوا القلعة في رمضان من السنة وأقاموا عامّة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى همّ أكثر الموالي بالثورة والركوب إلى قبة النصر فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر ولقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين ومواليه لنفسه ونقل المال الّذي بالحوش فوضعه بالخزانة وقام بالدولة ستة من الأمراء وهم شيخو وطاز والجبقا وأحمد شادي الشرنخاناه وأرغون الإسماعيلي والمستبدّ عليهم جميعا بيقاروس ويعرف بالقاسمي فقتل الحجازي وآق سنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسهما بالقلعة وولي بيقاروس نائبا بمصر فكان أرقطاي وأرغون شاه نائبا بحلب مكان تدمر البدري ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي وولى مكانه بحلب إياس الناصر ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه وغرّبه إلى صفد وأبعد الجبقا من رفقته وبعثه نائبا على طرابلس وبعث أرغون الإسماعيلي منهم نائبا على حلب وفي هذه السنة وقعت الفتنة بينه وبين مهنا بن عيسى ولقيه فهزمه ووفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب وهدأت الفتنة بينهم ثم هلك سنة تسع وأربعين بعدها وولى أخوه فياض كما مرّ في أخبارهم والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا للتصويب.(5/510)
مقتل أرغون شاه نائب دمشق
كان خبر هذه الواقعة الغريبة أنّ الجبقا بعثوه نائبا على طرابلس وسار صحبة إياس الحاجب نائبا على حلب سنة خمسين وانتهوا إلى دمشق ونمي إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمه بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلا وطرقه في بيته فلما خرج إليه قبض عليه وذبحه في ربيع وصنع مرسوما سلطانيا دافع به الناس والأمراء واستصفى أمواله ولحق بطرابلس وجاء الأمر من مصر باتباعه وإنكار المرسوم الّذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق وقبضوا على الجبقا وإياس الحاجب بطرابلس وجاءوا بهما إلى مصر فقتلا وولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه وصلب أرغون الكافلي وذلك في جمادى سنة خمسين وأصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان أبي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان وأهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده وقدّمه رأس نوبة وزوّجه بنت عبد الواحد ثم ولاه الكامل استاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر وجعل نائبا في صفد ثم في حلب. ولمّا حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مرّ ولّى أرغون شاه بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم.
نكبة بيقاروس
ثم إنّ السلطان حسن شرع في الاستبداد وقبض على منجك اليوسفي استاذ داره وعلى السلحدار واعتقلهما من غير مشورة بيقاروس وأصحابه وكان لمنجك اختصاص ببيقاروس وأخوه معه فارتاب واستأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما ودس إلى طاز بالقبض على بيقاروس وسار لشأنهما فلما نزلا بالينبع قبض طاز على بيقاروس فخرج ورغب إليه في أن يتركه يحج مقيدا فتركه فلما قضى نسكه ورجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان وأفرج عنه بعد ذلك وولي نيابة حلب وانتقض بها كما نذكر بعد أن شاء الله تعالى وبلغ خبر اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض وجهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه وجيء به إلى مصر فاعتقل بالإسكندرية وقام بالدولة مغلطاي من أمرائها والله تعالى أعلم.
واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة واعتقاله ثم إطلاقه
كان ملك اليمن وهو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجا سنة إحدى وخمسين(5/511)
وهي السنة التي حج فيها طاز وشاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا وانهزم المجاهد وكان بيقاروس مقيدا فأطلقه وأركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة وأعيد إلى اعتقاله ونهب حاج اليمن وقيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة اثنتين وخمسين وتوجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده فلما انتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه همّ بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري وحبسه بالكرك ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه والله أعلم.
خلع حسن الناصر وولاية أخيه الصالح
لما قبض السلطان حسن على بيقاروس وحبسه وتنكر لأهل دولته ورفع عليهم مغلطاي واختصه واستوحشوا لذلك وتفاوضوا وداخل طاز وهو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة وأجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين واجتمعوا لخلعة وركبوا في جمادى سنة اثنتين وخمسين فلم يمانعهم أحد وملكوا أمرهم ودخلوا القلعة وقبض طاز على حسن الناصر واعتقله وأخرج أخاه حسينا من اعتقاله فبايعه ولقبه الصالح وقام بحمل الدولة وأخرج بيقو الشمسي إلى دمشق وبيقر إلى حلب أسيرين وانفرد بالأمر ثم نافسه أهل الدولة واجتمعوا على الثورة وتولى كبر ذلك مغلطاي ومنكلي وبيبقا القمري وركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب فركب طاز وسلطانه الصالح في جموعه وحمل عليهم ففض جمعهم وأثخن فيهم وقبض على مغلطاي ومنكلي فحبسهما بالإسكندرية وأفرج عن منجك وعن شيخو وجعله أتابكه على العساكر وأشركه في سلطانه وولى سيف الدين ملاي نيابته واختص سرغتمش ورقاه في الدولة وقبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق ونقل إليها لمكانه أرغون الكاملي من حلب وأفرج عن بيقاروس بالكرك وبعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك واختفى بالقاهرة والله تعالى أعلم.
انتقاض بيقاروس واستيلاؤه على الشام ومسير السلطان إليه ومقتله
قد تقدّم لنا ذكر بيقاروس وقيامه بدولة حسن الأولى ونكبته في طريقه إلى الحج بالكرك ولما أطلقه طاز وولاه على حلب أدركته المنافسة والغيرة من طاز واستبداده بالدولة فحدّثته نفسه(5/512)
بالخلاف وداخل نواب الشام ووافقه في ذلك بلكمش نائب طرابلس وأحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق وتمسك بالطاعة وتعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو وسرغتمش في رجب سنة ثلاث وخمسين ثم دعا بيقاروس العرب والتركمان إلى الموافقة فأجابه جبار بن مهنا من العرب وقراجا بن العادل من التركمان في جموعهما وبرز من حلب بقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة واستخلف عليها الجبقا العادلي ووصل بيقاروس فملكها وامتنعت القلعة فحاصرها وكثر العيث من عساكره في القرى وسار السلطان الصالح وأمراء الدولة من مصر في العساكر في شعبان من السنة وأخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي وعثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية وبلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق وثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم ووصل السلطان إلى دمشق ونزل بالقلعة وجهز العساكر في إتباع بيقاروس فجاءوا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر وحبس الباقين وولى على دمشق الأمير عليا المارداني ونقل منها أرغون الكاملي إلى حلب وسرّح العساكر في طلب بيقاروس مع مغلطاي الدوادار وعاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة وسار مغلطاي في طلب بيقاروس وأصحابه فأوقع بهم وتقبض على بيقاروس وأحمد وقطلمش وقتلهم وبعث برءوسهم إلى مصر أوائل سنة أربع وخمسين وأوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة وقد أجفل عنها فهدمها أرغون وأتبعه إلى بلاد الروم فلما أحسّ بهم أجفل ولحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس ونهب العساكر أحياءه واستاقوا مواشيه ثم قبض عليه ابن ارشا قائد المغل وبعث به إلى مصر فقتل بها وسكنت الفتنة وأطلق المعتقلون بالإسكندرية وتأخر منهم مغلطاي ومنجك أياما ثم أطلقا وغربا إلى الشام والله تعالى أعلم.
واقعة العرب بالصعيد
وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعيثهم وانتهبوا الزروع والأموال وتولى كبر ذلك الأحدب وكثرت جموعه فخرج السلطان في العساكر سنة أربع وخمسين ومعه طاز وسار شيخو في المقدمة فهزم العرب واستلحم جموعهم وامتلأت أيدي العساكر بغنائمهم وخلص السلطان من الظهر والسلاح ما لا يعبر عنه وأسر جماعة منهم فقتلوا وهرب الأحدب(5/513)
حتى استأمن بعد رجوع السلطان فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح ويقبلوا على الفلاحة والله تعالى أعلم.
خلع الصالح وولاية حسن الناصر الثانية
كان شيخو أتابك العساكر قد ارتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيدا وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته وبايع لحسن الناصر أخيه وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائبا وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس وولى مكانه منجك واستبدّ شيخو بالدولة وتصرّف بالأمر والنهي وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها وكانت له الولاية والعزل والحلّى والعقد سائر أيامه وأعتمده الملوك من النواحي شرقا وغربا بالمخاطبات وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه.
مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره
لم يزل شيخو مستبدّا بالدولة وكافلا للسلطان حتى وثب عليه يوما بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين أعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثا أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخرّ لليدين ودخل السلطان بيته وانفضّ المجلس واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا واقتحم موالي شيخو القلعة الى الإيوان يتقدمهم خليل بن قوصون وكان ربيبه لأنّ شيخو تزوّج بأمه فاحتمل شيخو الى منزله وأمر الناصر بقتل المملوك الّذي ضربه فقتل ليومه وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره وأقام شيخو عليلا الى أن هلك في ذي القعدة من السنة وهو أوّل من سمي الأمير الكبير بمصر واستقلّ سرغتمش رديفه بحمل الدولة وبعث عن طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية وولى مكانه الأمير عليا المارداني نقله اليها من دمشق وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين وعلى جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار وطشتمر القاسمي الحاجب وطنبغا الماجاري وخليل(5/514)
بن قوصون ومحا السلحدار وغيرهم وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية وقتل بمحبسه لسبعين يوما من اعتقاله وتخطت النكبة إلى شيعته وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال وكان الّذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي ثم استبدّ السلطان بملكه واستولى على أمره وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي ثم بعثه الى دمشق نائبا واستقدم منجك نائب دمشق فلما وصل الى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير عليا المارداني نقله من حلب وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني ثم أدال من علي المارداني في دمشق باستدمر ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني وأمره السلطان سنة احدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر وولى على حلب أحمد بن القتمري ثم عثر بدمشق سنة احدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس فلما حضر عفا عنه السلطان وأمدّه وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام وأقام السلطان بقية دولته مستبدّا على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبذلا ويفاوضهم في مسائل العلم ويصلهم ويحسن اليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم الى أن انقرضت دولته والبقاء للَّه وحده.
ثورة بيبقا ومقتل السلطان حسن وولاية منصور بن المظفر حاجي في كفالة بيبقا
كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده وكان يعرف بالخاصكي نسبة الى خواص السلطان وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة ثم رفعه الى الأتابكية وكان لجنوحه إلى الاستبداد كثيرا ما يبوح بشكاية مثل ذلك فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش وخرج السلطان سنة اثنتين وستين إلى كوم برّى وضرب بها خيامه وأذن للخاصكي في مخيمه قريبا منه ثم نمي عنه خبر الانتقاض فأجمع القبض عليه واستدعاه فامتنع من الوصول وربما أشعره داعيه بالاسترابة فركب اليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة وبرز اليه بيبقا وقد أنذر به واعتدله فصدقه القتال في ساحة مخيمه(5/515)
وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى الى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من اخافة طارقة جوف الليل فتسرّب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغير هما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم وتنكر الناصر مع ايدمر الدوادار يحاولان النجاة الى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به ويقال انه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائر وذلك لست سنين ونصف من تملكه ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور وقام بكفالته وتدبير دولته وجعل طنبغا الطويل رديفه وولى قشتمر المنصوري نائبا وغشتمر أمير مجلس وموسى الأزكشي أستاذ دار وأفرج عن القاسمي وبعثه نائبا بالكرك وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه الى القدس بسؤاله ثم الى دمشق ومات بها في السنة بعدها وأقرّ عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم والله تعالى أعلم.
انتقاض استدمر بدمشق
ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا وأنه استبدّ بالدولة وكان استدمر نائبا بدمشق كما قدّمناه امتعض لذلك وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر والبري ومنجك اليوسفي واستولى على قلعة دمشق وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور ووصل الى دمشق واعتصم القوم بالقلعة وتردّدت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا فلما نزلوا اليه بعث بهم الى الإسكندرية فحبسوا بها وولى الأمير المارداني نائبا بدمشق وقطلوبغا الأحمدي نائبا بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفي وولاية ابنه المتوكل
قد تقدّم لنا أنّ الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم وأنّ الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عمّ المستكفي ولقبه الواثق فلما توفي الناصر آخر سنة احدى وأربعين أغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم ابن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأوّل دولة الصالح سبط(5/516)
تنكز وولي بعده أخوه أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته وعهد إلى ابنه أحمد فولى مكانه ولقب المستكفي والله تعالى أعلم.
خلع المنصور وولاية الأشرف
ثم بدا لبيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهرا من ولايته ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف وتولى كفالته وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب وولى مكانه قطلوبغا الاحمدي وتوفي قطلوبغا فولى مكانه غشقتمر المارداني ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي وأوعز اليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلا فسار اليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه وولاه ورجع إلى بلده وقومه والله تعالى أعلم.
واقعة الإسكندرية
كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم وانما ينتسبون لهذا العهد إلى الافرنج لظهور الافرنج على سائر أمم النصرانية والا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم اخوة كيتم ونسبهما معا إلى رومان وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدّونها لصاحب مصر وما زالت مقرّرة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية وتقدّم لنا آنفا في دولة الترك أنّ الظاهر بيبرس بعث اليها سنة تسع وستين وستمائة اسطولا من الشواني وطرقت مرساها ليلا فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الافرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنقها وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح وسلم وحرب آخر أيامهم وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام(5/517)
ومصر واطلعوا بعض الأيام على غرّة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنقر من سائر الافرنج ووافى مرساها سابع عشر من المحرّم سنة سبع وستين في اسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركبا مشحونة بالعدّة والعدد ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم فلما أرسى بها قدّمهم الى السواحل وعبّى صفوفه وزحف وقد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالا لما هو فيه ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو الا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القوم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض ثم أجفلوا إلى جهة البرّ بما أمكنهم من عيالهم وولدهم وما اقتدروا عليه من أموالهم وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم وتوسط الأفرنج المدينة ونهبوا ما مرّوا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار وملئوا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء ثم تسايل اليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الافرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفه من الحج وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلوبغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم باقلاع العدوّ فلم يثنه ذلك واستمرّ إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرّة الخراب وآثار الفساد فأمر بهدم ذلك وإصلاحه ورجع ادراجه إلى دار الملك وقد امتلأت جوانحه غيظا وحنقا على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائه اسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزما على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية واحتفل في الاستعداد لذلك واستكثر من السلاح وآلات الحصار وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم بقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه والله تعالى ولىّ التوفيق
.(5/518)
ثورة الطويل ونكبته
كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره وكان يؤمّل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عند ما استكمل أمره واستفحل سلطانه وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان ارغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي وبيناهم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به اليه وبالخلعة على العادة مع ارغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له ومعه ارغون الأرقي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردّهم الطويل وأساء عليهم وواعد بيبقا قبة النصر فهزمهم وقبض على الطويل والأشقري والمحمدي وحبسوا بالإسكندرية ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق الى مصر يطلبه فقدم نائبا بحلب مكان سيف الدين برجي وأذن له في الاستكثار من العساكر وجعلت رتبته فوق نائب دمشق وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى والله تعالى أعلم.
ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد استدمر
كان طنبقا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصا على مماليكه وكان قد استكثر من المماليك وأرهف حدّه لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الاحمدي ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له وارتاب وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الاذن وسرّح السلطان بيبقا إلى(5/519)
البحيرة في عام ثمان وسبعين وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرّانة وبيتوا له ونمي اليه خبرهم ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مكرا في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدّم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية ويمنعوا العبور كل من يرومه من العدوة الغريبة وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم وكان بها ايبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه وكان يقتمر النظامي وارغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا اليه فخلع الأشرف ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور وأحضر الخليفة فولاه واستعدّ للحرب وضرب مخيمة بالجزيرة الوسطى على البحر ولحق به من كانت له معه طاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري ووصل السلطان الأشرف من الطرّانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصدا دار ملكه وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك وأقام ثلاثا وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينفحونهم بالنبل ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنفاط وعوالم النظارة في السفن الى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف ناحية الى السلطان حتى كملت منها عدّة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل وسار على التعبية وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض وتراكم القتام بالجوّ وغشيت سحابه موكب بيبقا وأصحابه فتقدّموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزما ومرّ بالميدان فصلى ركعتين عند بابه واستمرّ إلى بيته والعوام ترجمه في طريقه وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاءوا إلى السلطان يطلبونه وقد أضمروا الفتك به وأحضره السلطان وبينما هو مقبل على التضرّع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بإزائه ثم دفن وفرغ من أمره وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الاحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا الصرغتمشي وتغري بدمشق المتولون كبر هذه الفعلة وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية وقد مرّ ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين(5/520)
وأهل وظائف من كانت له واستقرّ أمر الدولة على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
واقعة الاجلاب ثم نكبتهم ومهلك استدمر وذهاب دولته
ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم وامتعض له تغري بدمشق وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه ايبك البدري وجماعة معه وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية وعظم طغيان هؤلاء الاجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان اليهم العهد وجلس على كرسيه بالأساطيل وتقدّم الى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وسائر أمراء السلطان ومن استخدموه من مماليك بيبقا وتحيز اليهم ايبقا الجلب وبحماس الطازي عن صاحبهما استدمر وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الاجلاب وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء وفارقهم المستخدمون عندهم من مماليك بيبقا فانقض جمعهم وانهزموا وثبت الجائي اليوسفي وارغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلا ثم انهزموا إلى قبة النصر وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على ايبقا الجلب جريحا وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وارغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم واستولى استدمر وأصحابه الاجلاب على السلطان كما كانوا وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف وعاد خليل بن قوصون على أمرته وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية واستبدل بكثير من أمراء الشام واستمرّ الحال على ذلك بقية السنة والاجلاب على حالهم في الاستهتار بالسلطان والرعية فلما كان محرّم سنة تسع وستين عادوا إلى الاجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة وذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت عاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين والتف عليهم العوامّ وقد حنقوا على الاجلاب بشراشرهم فيهم وركب استدمر في الاجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاءوا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوامّ بالمقاليع وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على قرابقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة(5/521)
ثم جيء باستدمر أسيرا وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقيا على أتابكيته ونزل إلى بيته بقبض الكيس وكان خليل بن قوصون تولى آتابكا في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته وحمله على الانتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمّه فاجتمع منهم جماعة من الاجلاب وركبوا بالرميلة فركب اليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم وبعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة ثم تتبع بقية الاجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الّذي ولي الملك بعد ذلك بمصر وبركة الجولاني وطنبغا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره واستبدّ السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الاجلاب في الاتابكية شريكين ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة واطلاق المسجونين من الاجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب وأقامه في الاتابكية واستدعى أمير على المارداني من دمشق وولاه النيابة وولى في جميع الوظائف استبدالا وإنشاء بنظره واختياره وكان منهم مولاه ارغون الاشرفي وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرسوس وولى مكانه منجك اليوسفي نقله اليها من طرابلس وأعاد اليها غشقتمر المارداني كما كان قبله ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الانتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وفضله.
مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب
كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى واستمر جماز على خلافه ووطئ بلاد حلب أيام المصيف واجتمع اليه بنو كلاب وامتدّت أيديهم على السابلة فخرج اليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون(5/522)
احيائهم وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين ويقال قتلهما يعبر بن جماز ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب وذهب جماز إلى القفر ناجيا به وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته والله تعالى أعلم.
استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله
لما أذهب السلطان الأشرف أثر الاجلاب من دولته وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب وجعله أتابكا وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائبا وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح وولى اصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الاجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحد بعد واحد ثم سخطه وولى مكانه اقطمر الصباحي وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره ورقى مولاه ارغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الاتابكية كما يأتي وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردّد بينهما ثم استقرّ آخرا في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار وولى بيبقا الناصري الحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها وزوّج أمّه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوما في القول فنفي وولى مكانه منكوتمر عبد الغني ثم عزل سنة اثنتين وسبعين لسنة من ولايته وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الّذي كان دوادارا لبيبقا واستقرّت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبدّ فيها ووصل قود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه ثم وصل قود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك والله تعالى أعلم.
انتقاض الجائي اليوسفي ومهلكه واستبداد الأشرف بملكه من بعده
لم تزل الدولة مستقرّة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا الأتابك منتصف سنة أربع وسبعين واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشدّ من ذلك كله وهو القائم المستبدّ بها ثم توفيت أمّ السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثا دعاه لؤم(5/523)
الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك الا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجوّ بينه وبين السلطان وتمكنت فيه السعاية وذكرت هذه انتقاضه الأول وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فامر بالركوب إلى العامّة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته وعذلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب وركب إلى قبة النصر منتقضا وذهب السلطان في مداراة آمره إلى الملاطفة واللين وكان الأتابك منكلي بغا يوم ذاك حيا فأوعز السلطان اليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه وخرج هو منتقضا وركب في مماليكه بساحة القلعة وجلس السلطان وتردّدت الرسل بينهما بالملاطفة فأصرّ واستكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الاجلاب مماليك بيبقا وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولى عهده فقاتلوه في محرّم سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثا والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه ثم بعث اليه السلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام واستبدّ السلطان بأمره واستدعى ايدمر القرّي الدوادار وكان نائبا بطرابلس فولاه أتابكا مكان الجائي ورفع رتبته وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما وتصاريفها تجري بساستهما إلى أن كان ما نذكره والله تعالى ولىّ التوفيق.
استقدام منجك للنيابة
كان أمير علي المارداني قد توفي سنة اثنتين وسبعين وبقيت وظيفته خلوا لمكان الجائي اليوسفي وأحكامه ولما هلك سنة خمس وسبعين ولى السلطان اقطمر عبد الغني نائبا ثم بدا له أن يولي في النيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهلية لذلك والقيام به ولتقلبه في الامارة منذ عهد(5/524)
الناصر حسن وأنه كان من مواليه أخا لبيبقاروس وطاز وسرغتمش فهو بقية المناجب فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته وولى مكانه بندمر الخوارزمي وأعاد عشقتمر إلى حلب مكانه ووصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس وسبعين ومعه مماليكه وحاشيته وصهر روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته وأمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه فتلقاه الأمراء والعساكر وأرباب الوظائف من القضاة والفقهاء والدواوين وأذن له في الدخول من باب السرّ راكبا وخاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك ثم استدعى إلى السلطان فدخل وأقبل عليه السلطان وشافهه بالنيابة المطلقة وفوّض اليه الولاية والعزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء والخواص والقضاة والأوقاف وغيرها وخلع عليه وخرج ثم قرر تقليده بذلك في الإيوان ثاني يوم وصوله فكان يوما مشهودا وولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذين قدم به حاجبا ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست وسبعين بعدها بالعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها واستولى على ملكها النكفور بالأمان فوصل بأهله وولده إلى الأبواب السلطانية ورتب لهم الأرزاق وولى السلطان على سيس وانقرض منها ملك الأرمن وتوفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلى ثم عزله ورفع مجلسه وولى مكانه اقتمر الالقني ثم توفي جبار بن مهنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه واستقرّت الأمور على ذلك والله أعلم.
الخبر عن مماليك بيبقا وترشيحهم في الدولة
كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة وقسمهم بين القتل والنفي وأسكنهم السجون وأذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك وعاتبه منكلي ابغا في شأنهم وأنّ في اتلافهم قص جناح الدولة وانهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم وأطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين وسرّحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء وكان فيمن أطلق الجماعة بحبس الكرك وهم برقوق العثماني وبركة الجوباني وطنبقا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع فأطلقوا إلى الشام ودعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح وكانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدّة أخبرني بذلك الطنبقا الجوباني أيام اتصالي به قال وأقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف وكتب اليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها ثم أراد أن يخرج من العهدة فردّ الأمر إلينا فأبينا الا امتثال أمره فتحير ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى(5/525)
الجائي اليوسفي ودس إلى قرطاي كافل الأمير علي بن السلطان وكان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولىّ العهد وصانع الجهتين بذلك قال وصرنا إلى وليّ العهد فعرضنا على السلطان أبيه واختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي وهو جالس بالاصطبل فندبنا لحربه وذكرنا حقوقه وأزاح عللنا بالجياد والاسلحة فجلبنا في قتله إلى أن انهزم وما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك ويقدّمنا انتهى خبر الجوباني وكان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف وخلاله وجهه وكان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يؤمّله من الاستبداد على السلطان فكان يشير في كل وقت على الأشرف باستقدامهم من كل ناحية واجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده وكان محمد بن اسقلاص استاذ دار يساميه في الدولة ويزاحمه في مخالصة الأشرف ولطف المحل عنده ينهى السلطان عن ذلك ويحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك وكان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شبابا قد اصطفاهم وهذبهم وخالصهم بالمحبة والصهر ورشحهم للمراتب وولى بعضهم وكان الأكابر من أهل الدولة يفضون اليهم بحاجاتهم ويتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر اليهم وجه السعاية وغشي مجالسهم وأغراهم بابن اسقلاص وانه يصدّ السلطان أكثر الأوقات عن أغراضهم منه ويبعد أبواب الانعام والصلات منه وصدّق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في وظيفته وتقرّر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه وأغروا به السلطان باطباق إغراء طشتمر ظاهرا حتى تمت عليهم نكبته وجمعت الكلمة وقبض عليه منتصف جمادى سنة سبع وثمانين ونفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان وانفرد بالتدبير واجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة وعمروا مراتبها ووظائفها واحتازوها من جوانبها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
حج السلطان الأشرف وانتقاض المماليك عليه بالعقبة وما كان مع ذلك من ثورة قرطاي بالقاهرة وبيعة الأمير علي ولي العهد ومقتل السلطان اثر ذلك
لما استقرّ السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد والظهور وإذعان الناس لطاعته في كلّ ناحية وأكمل الله له الامتاع بملكه ودنياه سمت نفسه إلى قضاء فرضه فأجمع الحج سنة(5/526)
ثمان وسبعين وتجهز لذلك واستكثر من الرواحل المستجادة والزودة المثقلة من سائر الأصناف واستعدّ للسفر واحتفل في الابهة بما لم يعهد مثله واستخلف ابنه ولي العهد في ملكه وأوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه والانتهاء إلى مراسمه وأخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفه وتجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد والقضاة للحج معه وجهز جماعة من الأمراء أهل دولته وأزاح عللهم وملأ بمعروفه حقائبهم وخرج ثاني عشر شوّال في المراكب والقطارات يروق الناظرين كثرة ومخافة وزينة والخليفة والقضاة والأمراء حفا فيه وبرز النظارة حتى العواتق من خدورهنّ وتجللت بمركبهم البسيطة وماجت الأرض بهم موجا وخيم بالبركة منزل الحاج وأقام بها أياما حتى فرغ الناس من حاجاتهم وارتحل فما زال ينتقل في المنازل إلى العقبة ثم أقام فيها على عادة الحاج وكان في نفوس المماليك وخصوصا البيبقاوية وهم الأكثر شجى يتشوّقون به إلى الاستبداد من الدولة فتنكروا واشتطوا في اقتضاء أرزاقهم والمباشرون يعللونهم وانتهى أمرهم إلى الفساد ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الازلم فاعتذر المباشرون بأنّ الأقوات حملت إلى أمام فلم يقبلوا وكشفوا القناع في الانتقاض وباتوا ليلتهم على تعبية واستدعى الأشرف طشتمر الدوادار وكان كبيرهم ففاوضه في الأمر ليفك من عزمهم فأجمل العذر عنهم وخرج اليهم فخرجوا ثم ركبوا من الغد واصطفوا واركبوا طشتمر معهم ومنعوه من معاودة السلطان وتولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي وسراي تمر المحمدي وبطلقمر العلائي وركب السلطان في خاصته يظنّ أنهم يرعوون أو يحنح اليه بعضهم فأبوا الا الاحفاف على قتاله ونضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزما ثم ركب البحر في لفيف من خواصه ومعه ارغون شاه الاتابك وبيبقا الناصري ومحمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الاعراب أهل الضاحية وفي ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته ورشحهم للوظائف في دولته كما مرّ وخام الفل الى القاهرة وقد كان السلطان عند ما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء والمماليك مقيمين في وظائفهم كان منهم قرطاي الطازي كافل أمير علي ولى العهد واقتمر الخليلي وقشتمر واستدمر السرغتمشي وايبك البدري وكان شيطان من التمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر فكان يتشوّف لذلك ويترصد له وربما وقع بينه وبين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله وليّ(5/527)
العهد وعلوفاتهم أغلظ له فيها الوزير فوجم وأخذ في أسباب الانتقاض وداخل في ذلك بعض أصحابه وواعدهم ثالث ذي القعدة وتقدّم إلى داية وليّ العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه ويفرغ عليه ملابس السلطان ويهيئه لجلوس التخت وركب هو صبيحة ذلك اليوم ووقف بالرميلة عند مصلى العيد وتناول قطعة من ثوب فنصبها لواء وكان صبيان المدينة قد شرعوا في اتخاذ الدبادب والطبيلات للعيد فأمر بتناول بعضها منهم وقرعت بين يديه وتسايل الناس اليه من كل أوب ونزل من كان بطباق القصر وغرفه وبالقاهرة من المماليك واجتمعوا اليه حتى كظ ذلك الفضاء وجاءوا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله وليّ العهد أمير علي عند باب الستارة يطلبونه وقبضوا على زمام الذود وكانوا عدّة حتى أحضروا وليّ العهد وجاءوا به على الأكتاف إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وأحضروا ايدمر نائب القلعة فبايع له ثم أنزلوه إلى باب الاصطبل وأجلسوه هناك على الكرسي واستدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه وحبس بعضهم بالقلعة وبعث اكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله واختص منهم ايبك فجعله رديفا في دولته وباتوا كذلك وأصبحوا يسائلون الركبان ويستكشفون خبر السلطان وكان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين وجاء إلى البركة آخر الثانية وجاءه الخبر بواقعة القاهرة وما فعله قرطاي وتشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام وأشار آخرون بالوصول إلى القاهرة وسار السلطان اليها واستمرّوا إلى قبة النصر وتهافتوا عن رواحلهم بالطلاح وقد أنهكهم التعب وأضناهم السير فما هو الا أن وقعوا لمناكبهم وجنوبهم وغشيهم النعاس وجاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه ويتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه وانطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده واختفى فظن النجاة في ذلك وفارقه الناصري يطلب نفقا في الأرض وقد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الخبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة وتعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة وعرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان وأنه وأصحابه بقبة النصر مصر عين من غشي النوم فطار اليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي والجمهور في ساقتهم حتى وقفوا اليهم في مضاجعهم وافتقدوا السلطان من بينهم وقتلوهم جميعا وجاءوا برءوسهم ووجموا لافتقاد السلطان ونادوا بطلبه وعرضوا العذاب والقتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك فتبرّأ وحبس رهينة من ثقاته ثم جاءت امرأة إلى ايبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من(5/528)
ذلك البيت ودفعوه إلى ايبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة والأموال ثم قتلوه خنقا وجدّدوا البيعة لابنه الأمير عليّ ولقبوه المنصور واستقلّ بدولته كافله من قبل الأمير قرطاي ورديفه ايبك البدري واستقرّ الأمر على ذلك.
مجيء طشتمر من العقبة وانهزامه ثم مسيره إلى الشام وتجديد البيعة للمنصور بأذن الخليفة وتقديمه
لما انهزم السلطان من العقبة ومضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر وألقوا اليه القياد ودعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك ومضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة ورجع القضاة والفقهاء إلى القدس وتوجه طشتمر والأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكه بعجرود وما كان من بيعة ابنه واستقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة وساروا على التعبية وبعثوا في مقدّمتهم قطلقتمر ولقي طلائع مصر فهزمهم وسار في اتباعهم الى ساحة القلعة فلم يشعر الا وقد تورّط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه وكان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد ويرجع في العساكر لحرب قشتمر وأصحابه فبرز اليهم والتقوا في ساحة القلعة وانهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ثم استأمن فأمنوه واعتقلوه ثم جمع الناس ليوم مشهود وحضر الخليفة والأمراء والقضاة والعلماء وعقد الخليفة للمنصور بن الأشرف وفوّض اليه وقام قرطاي بالدولة وقسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف واستأمر السرغتمشي دوادار وايبك البدري أمير مجلس وقرطاي الطازي رأس نوبة واياس الصرغتمشي دوادار وايبك البدري أمير الماخورية وسردون جركس أستاذ دار واقتمر الحنبلي نائبا وجعل له الأقطاع للاجناد والأمراء والنواب وأفرج عن طشتمر العلائي الدوادار واقطعه الاسكندرية وأحضر بني الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني وولاه حاجبا وكذلك قلوط الصرغتمشي وأصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أوّل سنة تسع وسبعين فهلك طشتمر اللفاف الأتابك وولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته واستدعى بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة والمشاورة.
نكبة قرطاي واستقلال ايبك بالدولة ثم مهلكه
كان ايبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أوّل ثورتهم وقيامهم على(5/529)
السلطان فخالصه وخلطه بنفسه في الاصهار اليه وكان ايبك يروم الاستبداد بشأن أصحابه وكان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته وانقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع وسبعين ضيافة في بيته وجمع ندماءه مثل سودون جركس ومبارك الطازي وغيرهم واهدى له ايبك نبيذا أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم ولم يفيقوا فركب ايبك من ليلته وأركب السلطان المنصور معه واختار الأمر لنفسه واجتمع اليه الناس وأفاق قرطاي بعد ثلاث وقد انحلت عنه العقدة واجتمع الناس على ايبك فبعث اليه قرطاي يستأمن فأمنه ثم قبض عليه فسيره إلى صفد واستقل ايبك بالملك والدولة ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام وانتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا وسرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد وأخيه قطلوفجا وفيها من مماليكه ومماليك السلطان وجماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق وبركة المستبدان بعد ذلك ثم خرج ايبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان والأمراء والعساكر وانتهوا إلى بلبيس وثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدّمة ورجع اليه منهزما فأجفل راجعا إلى القلعة بالسلطان والعساكر وخرج عليه ساعة وصوله يوم الإثنين جماعة من الأمراء وهم قطلتمر العلائي الطويل والطنبقا السلطاني والنعناع وواعدوه قبة النصر فسرّح اليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به وتقبضوا عليه وبلغ الخبر إلى ايبك فسرّح من حضره من الأمراء للقائهم وهم أيدمر الشمسي واقطمر عبد الغني وبهادر الجمالي ومبارك الطازي في آخرين ولما تواروا عنه ركب هو هاربا إلى كيمان مصر واتبعه ايدمر القنائي فلم يقف له على خبر ودخل الأمراء من قبة النصر إلى الاصطبل وامضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي وهم يحاذونه وأشير عليه بخلع المنصور والبيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو ايبك في مقدّمة العسكر وفيهم بيبقا الناظري ودمرداش اليوسفي وبلاط من أمراء الألوف وبرقوق وبركة وغيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر وغلبوهم عليه وبعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين وفوّض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم وهو شعاع وآراؤهم مختلفة ثم حضر يوم الأحد التاسع من ربيع ايبك صاحب الدولة وظهر من الاختفاء وجاء إلى بلاط منهم وأحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها وكان بيبقا الناظري يختصّ برقوق وبركة المفاوضة استرابة بالآخرين فاتفق رأيهم على أن يستدعي طشتمر من الشام وينصبوه للامارة فبعثوا اليه بذلك وانتظروه
.(5/530)
استبداد الأميرين أبي سعيد برقوق وبركة بالدولة من بعد ايبك ووصول طشتمر من الشأم وقيامه بالدولة ثم نكبته
لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة ونصبوا بيبقا الناظري ولم يمضوا له الطاعة بقي أمرهم مضطربا وآراؤهم مختلفة وكان برقوق وبركة أبصر القوم بالسياسة وطرق التدبير وكان الناظري يخالصهما كما مرّ فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدّين للمنازعة وكبح شكائمهم وهم دمرداش اليوسفي وترباي الحسيني وافتقلاص السلجوقي واستدمر ابن العثماني في آخرين من نظرائهم وركبوا منتصف صفر وقبضوا عليهم أجمعين وبعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوهم بها واصطفوا بلاطا منهم وولوه الامارة وخلطوه بأنفسهم وأبقوا بيبقا الناظري على أتابكيته كما كان وأنزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته وولى برقوق أمير الماخورية ونزل باب الاصطبل وولى بركة الجوباني أمير مجلس واستقرّت الدولة على ذلك وكان طشتمر نائب الشام قد انتقض واستبدّ بأمره وجمع عساكر الشام وأمراءه واستنفر العرب والتركمان وخيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر وبرز ايبك من مصر بالسلطان والعساكر يريد الشام لمحاربته فكان ما قدّمناه من نكبته وخروج الأمراء عليه ومصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الطائرين بايبك ومقدّمهم بيبقا الناظري ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق وبركة في استدعاء طشتمر فوافقاه ونظراه رأيا وفيه طلب الصلح من الذين معه وحسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا اليه بالوصول إلى مصر للاتابكية وتدبير الدولة وانه شيخ البيبقاوية وكبيرهم فسكنت نفسه لذلك ووضع أوزار الفتنة وسار الى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره وتعظيمه وأركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه ودفعوا الأمراء اليه وأشاروا له إلى الاتابكية ووضعوا زمام الدولة في يده فصار اليه التولية والعزل والحلّ والعقد وولى بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا وبعثوا بلاطا إلى الكرك لاستقلال طشتمر بمكانه وولى بندمر الخوارزمي نائبا بدمشق على سائر وظائف الدولة وممالك الشام كما اقتضاه نظره ووافق عليه استاذ دار برقوق وبركة وولى ايبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبه مكان الناصري واستمرّ الحال على ذلك وبرقوق وبركة أثناء هذه الأمور يستكثران من المماليك استغلاظا لشوكتهما واكتنافا لعصبيتهما أن يمتدّ الأمير إلى مراتبهما فيبذلان الجاه لتابعهما ويوفران الاقطاع لمن يستخدم لهما ويخصان بالإمرة من يجنح من أهل الدولة اليهم والى أبوابهما وانصرفت الوجوه عن سواهما وارتاب طشتمر بنفسه في ذلك وأغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين(5/531)
فلما كان ذو الحجة سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية وبعثوا اليه فأحجم وقعد عن الركوب واجتمع برقوق وبركة بالاصطبل فركن اليه وقاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار وانهزموا وافترقوا واستأمن طشتمر فأمنوه واستدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه منهم اطلمش الارغوني ومدلان الناصري وأمير حاج بن مغلطاي ودواداره أرغون وبعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وبعث معهم بيبقا الناصري كذلك ثم أفرج عنه لايام وبعثه نائبا على طرابلس ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع وثمانين واستقامت الدولة للاميرين بعد اعتقالهما وخلت لهما من المنازعين وولى الأمير برقوق اتابكا وولى الماخورية الجابي الشمسي وولى قريبه انيال أمير سلاح مكان بيبقا الناصري وولى أقتمر العثماني دوادار مكان اطلمش الارغوني وولى الطنبقا الجوباني رأس نوبة ثانيا ودمرداش أمير مجلس وتوفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني ثم استأذن عشقتمر فأذن له وحبس بالإسكندرية وولى مكانه بحلب تمرتاشي الحسيني الدمرداشي ثم أفرج عنه وأقام بالقدس قليلا ثم استدعاه بركة وأكرم نزله وبعثه نائبا الى حلب.
ثورة انيال ونكبته
كان انيال هذا أمير سلاح وكان له مقام في الدولة وهو قريب الأمير برقوق وكان شديد الانحراف على الأمير بركة ويحمل قريبه على منافرته ولا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة وتحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصديا بساحة البلد فرأى ان قد خلاله الجوّ فركب وعمد إلى باب الاصطبل فملكه ومعه جماعة من مماليكه ومماليك الأمير برقوق وتقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي واستدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدّمون من باب الستارة وجاء الأمير برقوق من صيده ومعه الاتابك الشمسي فوصلوا الى منزله خارج القلعة وأفرغوا السلاح على سائر مماليكهم وركبوا إلى ساحة الاصطبل ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه وتسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السرّ وفتحه لهم فدخلوا منه ودافعوا انيال وانتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق ورموه بالسهام فانهزم ونزل إلى بيته جريحا وأحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بانه لم يقصد بفعلته الا التغلب على بركة فبعث به إلى الاسكندرية معتقلا وأعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان واستدعي لها من نيابة طرابلس(5/532)
ووصل الخبر إلى بركة فأسرع الكرّ من البحيرة وانتظم الحال ونظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها واختصوا بها من حسن غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم وقرط وذلك سنة احدى وثمانين واقام انيال معتقلا بالإسكندرية ثم أفرج عنه في صفر سنة اثنتين وثمانين وولى على طرابلس ثم توفي منكلي بقا الاحمدي نائب حلب فولى انيال مكانه ثم تقبض عليه آخر السنة وحبس بالكرك وولى مكانه بيبقا الحمدي نائب دمشق فولى مكانه بندمر الخوارزمي ثم توفي سنة احدى وثمانين جيار بن المهنا أمير العرب بالشام فولى مكانه معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى شريكين ثم عزلا وولى يعبر بن جيار.
ثورة بركة ونكبته واستقلال الأمير برقوق بالدولة
كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه وكان أصحابه يفوّضون اليه الاستبداد في الأموال وكان الأمير برقوق كثير التثبت في الأمور والميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب ويضرب على أيديهم في الكثير من الأحوال فغصوا بمكانه وأغروا بركة بالتوثب والاستقلال بالأمر وسعوا عنده باشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق وأنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة ويفسد ذات بينهما وأنه يطلب الأمر لنفسه وقد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بركة بذلك إلى الأمير برقوق وأراد القبض على اشمس فمنعه الأمير برقوق ودفع عنه وعظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق وسعى في الإصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية والخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان وجاءوا بأشمس إلى بركة مستعتبا فأعتبه وخلع عليه ثم عاود انحرافه ثانية فمسح أعطافه وسكن وهو مجمع الثورة والفتك ثم عاود حاله تلك ثالثة واتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسرور وليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة اثنتين وثمانين وحضر عنده أصحاب بركة كلهم وأهل شوكته وقد جاءه النصيح بأنّ بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم وأركب حاشيته للقبض عليه واصعد بدلان الناصري على مئذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اصطبله وركب بركة إلى قبة النصر وخيم بها ونودي في العامّة بنهب بيوته فنهبوها للوقت وخرّبوها وتحيز اليه بيبقا الناصري فخرج معه وجلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الاصطبل وسرّح الفرسان للقتال واقتتلوا عامّة يومهم فزحف بركة على تعبيتين إحداهما لبيبقا الناصري وخرج الاق الشعبانيّ للقائه وأشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة ورجع إلى قبة النصر وقد اثخنوا بالجراح(5/533)
وتسلل أكثرهم إلى بيته وأقام الليل ثم دخل إلى جامع البلدة وبات به ونمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب اليه الطنبقا الجوباني وجاء به إلى القلعة وبعث به الأمير برقوق الى الاسكندرية فحبس بها الى ان قتله النائب بها صلاح الدين بن عزام وقتل به في خبر يأتي شرحه ان شاء الله تعالى وتقبض على بيبقا الناصري وسائر شيعته من الأمراء وأودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال وولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة وأفرج عن انيال الثائر قبله وبعثه نائبا على طرابلس واستقل بحمل الدولة وانتظمت به أحوالها واستراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه وعلى أصحابه بدمشق وولى نيابة دمشق عشقتمر ونيابة حلب انيال وولى اشمس الاتابكية مكان بركة والاق الشعبانيّ أمير سلاح والطنبقا الجوباني أمير مجلس وابقا العثماني دوادار وجركس الخليلي أمير الماخورية والله تعالى وليّ التوفيق.
انتقاض أهل البحيرة وواقعة العساكر
كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوارة ومزاتة وزنانة يعمرونها بمن تحت أيديهم من هذه القبائل وغيرهم ويقومون بخراج السلطان كل سنة في ابانه وكانت الرئاسة عليهم حتى في أداء الخراج لبدر بن سلام وآبائه من قبله وهو من زناتة احدى شعوب لواتة وكان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة وعسرة ومثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الاسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة ثم استخدموا لأمراء الترك في مقاصدهم وأموالهم واعتزوا بجاههم وأسفوا على نظائرهم من هوارة وغيرهم ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعة الدول فاستثقلوها وحدّثتهم أنفسهم بالامتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب وحبس سلام بالقاهرة وأجفل ابنه بدر الى الصعيد بالقبلية واعترضته هناك عساكر السلطان فقاتلهم وقتل الكاشف في حربه وسارت اليه العساكر سنة ثمانين مع الاق الشعبانيّ وأحمد بن بيبقا وانيال قبل ثورته فهربوا وعاثت العساكر في مخلفهم ورجعوا وعاد بدر إلى البحيرة وشغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة انيال وبركة بعده واتصل فساد بدر وامتناعه فخرجت اليه العساكر مع الاتابك اشمس والأمير سلام والجوباني أمير مجلس وغيرهم من الأمراء الغربية ونزلت العساكر البحيرة واعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك فانتبذوا عن الخيام وتركوها خاوية ووقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم وشغلوا بنهبه فكرّت عليهم العساكر فكادوا(5/534)
يستلحمونهم ولم يفلت منهم الا الأقل وبعث بدر بالطاعة واعتذر بالخوف وقام بالخراج فرجعت العساكر وولى بكتمر الشريف على البحيرة ثم استبدل منه بقرط بن عمر ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها وعاث القرط فيهم وقتل الكثير من رجالهم وحبس آخرين ورجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه ومات ابن شادي وطلب الباقي الأمان فأمنوا وحبس رجال منهم وضمن الباقون القيام بالخراج واستأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد واتبعته العساكر فهرب واستبيح مخلفه واحياؤه ولحق ببرقة ونزل على أبي ذئب فأجاره واستقام أمر البحيرة وتمكن قرط من جبايتها وقتل رحاب وأولاد شادي وكان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل وأقام بدر عند أبي ذئب يتردّد ما بين احيائه وبين الواحات حتى لقيه بعض أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع وثمانين وذهب مثلا في الآخرين والله تعالى أعلم.
مقتل بركة في محبسه وقتل ابن عزام بثأره
كان الأمير بركة استعمل أيام إمارته خليل بن عزام استاذ داره ثم اتهمه في ماله وسخطه ونكبه وصادره على مال امتحنه عليه ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث ثم صار بركة إلى ما صار اليه من الاعتقال بالإسكندرية وتولي ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة ووصل إلى القاهرة متبرئا من أمره متخوفا من مغبته ورجع وقد طوى من ذلك على الدغل ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه وزعم انه أذن له في ذلك وبلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق وصرّح مماليكه بالشكوى اليه فأنكر ذلك وأغلظ على ابن عزام وبعث دواداره الأمير يونس يكشف عن سببه واحضار ابن عزام فجاء به مقيدا وأوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادنّ منه به وأحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة اثنتين وثمانين فضرب بباب القلعة أسواطا ثم حمل على جمل مشتهرا وأنزل إلى سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف إلى أن تواقعت اشلأوه بكل ناحية وكان فيه عظة لمن يتعظ أعاذنا الله من درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء انتهى.
وفاة السلطان المنصور عليّ بن الأشرف وولاية الصالح أمير حاج
كان هذا السلطان عليّ بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف وهو(5/535)
ابن اثنتي عشرة سنة فلم يزل منصورا والأمر ينتقل من دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث وثمانين فحضر الأمير برقوق واستدعى الأمراء واتفقوا على نصب أخيه أمير حاج ولقبوه الصالح وأركبوه إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وقلده الخليفة على العادة وجعل الأمير برقوق كافله في الولاية والنظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة وأفتى العلماء يومئذ بذلك وجعلوه من مضمون البيعة وقرئ كتاب التقليد على الأمراء والقضاة والخاصة والعامة في يوم مشهود وانفضّ الجمع وانعقد أمر السلطان وبيعته وضرب فيها للأمير برقوق بسهم والله تعالى مالك الأمور.
وصول أنس الغساني والد الأمير برقوق وانتظامه في الأمراء
أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق والروس واللان من شرقيها المطلة على بسائطهم ويقال انهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم عند ما أجفل هرقل إلى الشام وسار إلى القسطنطينية وخبر مسيره من أرض الشام وقصته مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرّخين وأمّا هذا الرأي فليس على ظاهره وقبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين ونزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان وتحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرقل أقاموا عنده ويئسوا من الرجوع لبلادهم وهلك هرقل واضطرب ملك الروم وانتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم واحتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن وحالفوا قبائل جركس ونزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقيّ مما يلي القسطنطينية وخالطوهم بالنسب والصهر واندرجوا فيهم حتى تلاشت احياؤهم وصاروا إلى تلك الأماكن وأووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس وهو مصدّق في نسبه ويستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته والله تعالى أعلم وجلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات فملكه بيبقا وربي في اطباق بيته وأوى من قصده وشدّ في الرماية والثقافة وتعلم آداب الملك وانسلخ من جلدة الخشونة وترشح للرّياسة والامارة والسعادة تشير اليه والعناية الربانية تحوم عليه ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا ومهلك(5/536)
كبيرهم يومئذ استدمر وكيف تقسموا بين الجلاء والسجن وكان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحص فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهوينا لما لقي من بوائقه وشكرا له بالرجوع إلى الله ليتم ما قدّر الله فيه من حمل أمانته واسترعاء عباده ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه وخلى سبيله فانطلقوا إلى الشام واستخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ وكان بصيرا مجربا فألقى محبته وعنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول والسعادة ولم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الأشرف استدعاء المرشحين من مماليكه وهذا الأمير يقدمهم وأفاض فيهم الإحسان واستضافهم لولده الأمير علي ولم يكن الا أيام وقد انتقض الجائي القائم بالدولة وركب على السلطان فأحضرهم السلطان الأشرف وأطلق أيديهم في خيوله المقربة وأسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه وركبوا في مدافعة الجائي وصدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به واحتلوا بمكان من أثرة السلطان واختصاصه فسوّغ لهم الاقطاعات وأطلق لهم الجرايات ولهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة ورفيع محل إلى أن خرج السلطان الأشرف إلى الحج وكان ما قدّمناه من انتقاض قرطاي واستبداده ثم استبداد ايبك من بعده وقد عظم محل هذا الأمير من الدولة ونما عزه وسمت رتبته ثم فسد أمر أيبك وتغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الاهواء وخشي العقلاء انتقاض الأمر وسوء المغبة فبادر هذا الأمير وتناول الحبل بيده وجعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام ثم اضطرب وانتقض وصار إلى ما صار اليه من الهلاك واستقل الأمير برقوق بحمل الدولة والعناية الربانية تكفله والسعادة تواخيه وكان من جميل الصنع الرباني له أن كيّف الله غريبة في اجتماع شمل أبيه به فقدم وفد التجار بابيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه وتلطفوا في استخراجه وكان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته وأركب العساكر وسائر الناس على طبقاتهم لتلقيه واعدّ الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعا في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وجلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس وهم جميعا حفافيه من القضاة والأمراء ونصب السماط فطعم الناس وانتشروا ثم ركبوا إلى البلد وقد زينت الأسواق وأوقدت الشموع وماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم الا خالقهم وكان يوما مشهودا وأنزله بالاصطبل تحت المدينة الناصرية ونظمه السلطان في أقربائه وبني عمه وبني إخوانه واجتمع شملهم به وفرض لهم الأرزاق وقرّرهم في الوظائف ثم مات هذا الأب الوافد وهو الأمير(5/537)
أنس رحمه الله في أواسط [1] وثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه وشرفت مراتب الامارة بمقامه ودفنه السلطان بتربة الدوادار يونس ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشاها بين القصرين سنة ثمان وثمانين والله يؤتي الملك من يشاء
خلع الصالح أمير حاج وجلوس الأمير برقوق على التخت واستبداده بالسلطان
كان أهل الدولة من البيبقاوية من ولي منهم هذا الأمير برقوق قد طمعوا في الاستبداد وظفروا بلذة الملك والسلطان ورتعوا في ظل الدولة والأمان ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة ويستبد بها دون الاصاغرين المنتصبين بالمملكة وربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج وقال لا بدّ أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشدّ الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمير على ذلك وقام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته وجميل سيرته واتفق أنّ جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في الغدر به وكان متولي ذلك منهم ابقا العثماني دوادار السلطان ونمي الخبر اليه بذلك فتقبض عليهم وبعث ابقا إلى دمشق على إمارته وغرّب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ الله فيهم حكمه وأشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم وتفاوضوا في محو الأصاغر من الدست وقيامه بأمرهم مستقلا فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وحضر الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء وأرباب الشورى والفتيا وأطبقوا على بيعته وعزل السلطان أمير حاج فبعث اليه أميرين من الأمراء فأدخلوه إلى بيته وتناولوا السيف من يده فأحضروها ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الاصطبل وقد لبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية وجلس بالقصر الأبلق على التخت وأتاه الناس بيعتهم أرسالا وانعقد أمره يومئذ ولقب الملك الظاهر وقرعت الطبول وانتشرت البشائر وخلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك والطنبقا الجوباني أمير مجلس وجركس الخليلي أمير الماخورية وسودون الشيخوني نائبا والطنبقا المعلم أمير سلاح ويونس النوروي دوادار وقردم الحسيني رأس نوبة وعلى كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سرّه أدال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سرّ السلطان من قبل وعلى جميع أرباب
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.(5/538)
الوظائف من وزير وكاتب وقاض ومحتسب وعلى مشاهير العلم والفتيا والصوفية وانتظمت الدولة أحسن انتظام وسرّ الناس بدخولهم في ايالة السلطان يقدر للأمور قدرها ويحكم أو أخيها واستأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة وأذن له فانطلق لقضاء فرضه وعاد انتهى والله تعالى أعلم.
مقتل قرط وخلع الخليفة ونصب ابن عمه الواثق للخلافة
كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة وكان له أقدام وصرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم ومذاهبهم ودفع إلى ولاية الصعيد ومحاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي أسوان فكان له في ذلك غناء وأحسن في تشريدهم عن تلك الناحية ثم بعث إلى البحيرة واليا عند انتقاض بدر بن سلام وفراره ومرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها وتتبع آثار أولئك المنافقين وحسم عللهم وحضر في ثورة انيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته واقدامه وكان هو المتولي تسوّر الحائط وإحراق الباب الظهراني الّذي ولجوا عليه وامسكوه فكان يمت بهذه الوسائل اجمع والسلطان يرعى له الا انه كان ظلوما غشوما فكثرت شكايات الرعايا والمتظلمين به فتقبض عليه لأوّل بيعته وأودعه السجن ثم عفا عنه وأطلقه وبقي مباكرا باب السلطان مع الخواص والأولياء وطوى على الغث وتربص بالدولة ونمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض والاجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة وأصحاب بدر بن سلام وأن يفوّض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة وانه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من أمراء الترك ممن لا يؤبه له فأحضرهم من غداته وعرض عليهم الحديث فوجموا وتناكروا وأقر بعضهم واعتقل الخليفة بالقلعة وأخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمرا ابلاغا في عقابه ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد وقدّ بالسيف نصفين وضم الباقون إلى السجون وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه وهو الّذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع وعزل عن ابنه أحمد كما مرّ وكان هذا كله في ربيع سنة خمس وثمانين وولى مكانه أخوه زكريا ولقب المعتصم واستقرّت الأحوال إلى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى.(5/539)
نكبة الناصري واعتقاله
كان هذا الناصري من مماليك بيبقا وأرباب الوظائف في أيامه وكان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد وخلة من لدن المربى والعشرة فقد كانوا أترابا بها وكانت لهم دالة عليه لعلوّ سنه وقد ذكرنا كيف استبدّوا بعد ايبك ونصبوا الناصري أتابكا ولم يحسن القيام عليها وجاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة والمحبس ثم أشخص إلى الشام وولى على طرابلس ثم كانت ثورة انيال ونكبته في جمادى سنة احدى وثمانين فاستقدمهم من طرابلس وولى أمير سلاح مكان انيال واستخلصه الأمير بركة وخلطه بنفسه وكانت نكبته فحبس معه ثم أشخص إلى الشام وكان انيال قد أطلق من اعتقاله وولى على حلب سنة اثنتين وثمانين مكان منكلي بقري الاحمدي فأقام بها سنة أو ونحوها ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه وحبس بالكرك وولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوّال سنة ثلاث وثمانين وقعد الظاهر على التخت لسنة بعدها واستبدّ بملك مصر وكان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في إنفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه والسلطان ينكر ذلك ويحقده عليه وكان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه وأمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبي من ذلك صونا لوفائه بزعمه ودس بذلك إلى سولي فهرب ونجا من النكبة ووفد على السلطان سنة خمس وثمانين وجدّد حلفه مع الجوباني ومع أشمس الأتابك ورجع إلى حلب ثم خرج بالعساكر إلى التركمان آخر سنة خمس وثمانين دون إذن السلطان فانهزم وفسدت العساكر ونجا بعد ثالثة جريحا وأحقد عليه السلطان هذه كلها ثم استقدمه سنة سبع وثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه وطير به إلى الإسكندرية فحبس بها مدة عامين وولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر وكان عيبة نصح للسلطان وعينا على الناصري فيما يأتيه ويذره لانه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجا في صدر من يروم الانتقاض من ولاته وكان هذا الحاجب سودون هو الّذي ينمي أخباره إلى السلطان ويطلعه على مكامن مكره فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب وارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة والحلف فوجم واضطرب وتبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى وأقصاه والله أعلم
.(5/540)
إقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر
أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك واسمه الطنبقا وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مرّ ذكره ربي في قصره وجوّ عزه ولقن الخلال والآداب في كنفه وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصفاة اكسبتها له تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها وكوكبي أفقها وتربي مرقاها وقد كان متصلا فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض واستحكم الاتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيص والاغتراب كما مرّ فلقد كان معتقلا معه بالكرك أيام المحنة خمسا من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرّة والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألفته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الاذمة والعهود
أنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعا واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيمها في درج العز والتغريب كذلك وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون اليه بمثل هذه الوسائل وينتظمون في ملكها وكان متميز الرتبة عنهم سابقا في مرقى درجات العز أمامهم مجلبا في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها ويجوز لهم الرتب فيستهمون عليها ثم اقتعد منبر الملك والسلطان واستولى على كرسيه وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه صاحب الشورى في الدولة وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه والحظ الوافر من رضاه وإيثاره وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها وأرسى ملكه بقواعدها إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده وحوّمت شباة السعاية على قرطاسه وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين وأودعه بعض حجر القصر عامّة يومه ثم أقصاه الى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه ثم سمح وهو بالخير أسمح وجنح وهو الى الأدنى من الله أجنح فسرح اليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم(5/541)
هذا السلطان وأناته وحسن نيته وبصيرته وكرم عهده وجميل وفائه وانطلقت الألسن بالدعاء له وامتلأت القلوب بالمحبة وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة انهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل ثم مكث حولا يتعقب أحواله ويتتبع سيره وأخباره طاويا شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه فاخفق سعي الداعين وخابت ظنون الكاشحين وأداله العتبى من العتاب والرضا من النكرى واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش ويردّه إلى أرفع الامارة وبينما هو يطوي على ذلك ضميره ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتا لبدر السعادة وعلما على فوزه بذلك الحظ كما نذكر أن شاء الله تعالى وخبر هذه الواقعة أنّ بندمر الخوارزمي كان نائبا بدمشق وقد مرّ ذكره غير مرّة وأصله من الخوارزمية اتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر وافترقوا عند مهلكه على يد جنكزخان في ممالك الشام واستخدموا لبني أيوب والترك أوّل استبدادهم بمصر وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم وكان له نجابة جذبت بضيعة ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى أن ترشح للولاية في الأعمال وتداول امارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانة ثم أعيد إلى ولايته ثم تصرّمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر ورادفه فيه فولوه على دمشق وكانت صاغيته مع بركة فلما حدث انتقاض بركة كتب اليه والى بقري بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة وكتب برقوق إلى نائب القلعة يحذرهم فركب جنتمر أخو طاز وابن جرجي ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثا ثم أمسكوه وقيدوه ومعه بقري بن برقش وجبريل مرتبه وسيقوا إلى الاسكندرية فحبسوا فلما قتل بركة أطلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي ثم استخلصه السلطان برقوق وردّه إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له وكان جماعا للأموال شديد الظلامة فيها متحيلا على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسباب العقاب مصانعا للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس ايالته وترحمت القلوب منه وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع إلى السياسة التي تداولها الخلفاء وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس اليه الحاجة من(5/542)
الوازع السلطاني والمعونة على الدفاع وقديما نصبت الشرطة الصغرى والكبرى ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقرّ الخلافة وايوان الدين والعلم وتكلم الناس فيها بما هو معروف وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عن حاجة الدولة الاموية فليس ذلك من المنكر الّذي يعتدّ بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الانتقاض فرية انتحلوها وجمعا انهوه نهايته وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيما بالقدس أن يخرج نائبا على دمشق فتوجه اليها وأقام رسم الامارة بها أياما ظهر فيها عجزه وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارق الزمانة والضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني وقد خلص من الفتن ابريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده وأفرح بمطالعة الانس والقرب روعه فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة وهيئ له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثيّ والصوان واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه وتحدّث به الركبان ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيها مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأوّل من سنة سبع وثمانين وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدّمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق والناس يتلقونه أرسالا ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه وغصت السكك بالمتنزهين وتطاول إلى دولته أرباب الحدود وتحدّث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل وتناقلوا خبره واستقل بولاية دمشق وعناية السلطان تلاحظه ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه وأقام السلطان في وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس والله غالب على أمره
.(5/543)
هدية صاحب افريقية
كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين ومن أعقاب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي المستبدّ بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس وعشرين وستمائة وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم ولم تزل ملوك المغرب على القدم ولهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم ويوجبون لهم الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين وكانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال وكان لي اختصاص بذلك السلطان ومكان من مجلسه ولما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع وثمانين واتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأوّل لقيه فذكرته له بأوصافه الحميدة وما عنده من الحب والثناء ومعرفة حقه على المسلمين أجمع وعلى الملوك خصوصا في تسهيل سبيل الحج وحماية البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود أحسن الله جزاءه ومثوبته ثم بلغني أنّ السلطان بإفريقية صدّ أهلي وولدي عن اللحاق بي اغتباطا بمكاني وطلبا لفيئتي إلى بابه ورجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الاذن فاسعفني بذلك وخاطبت ذلك السلطان كان الله له أغبطه بمودّة هذا السلطان والعمل على مواصلته ومهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني وبادر إلى اتحافه بمقرّبات أفليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك الشرق الا الجياد العرب وأمّا ما سوى ذلك من أنواع الطرف والتحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله ويقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم واختار لتلك سفينته التي أعدّها لذلك وأنزل بها أهلي وولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله لسهولة سبيل البحر وقرب مسافته فلما قاربوا مرسى الاسكندرية عاقتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة وغرق معظم ما فيها من الحيوان والبضائع وهلك أهلي وولدي فيمن هلك ونفقت تلك الجياد وكانت رائعة الحسن صافية النسب وسلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمدّ العهد وتقرّر المودّة فتلقى بالقبول والكرامة وأوسع النزل والقرى ثم اعتزم على العودة إلى مرسلة فانتقي السلطان ثيابا من الوشيّ المرقوم من عمل العراق والاسكندرية يفوت القيمة واستكثر منها واتحف بها السلطان ملك افريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم وهداياهم وخاطبت ذلك السلطان معه يحسن الثناء على قصده وجميل موقع هديته من السلطان واستحكام(5/544)
مودّته له وأجابني بالعذر من الموقع وأنه مستأنف من الإتحاف للسلطان واستحكام مودّته لما يسره الحال فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان وثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته وأبناء الأعاظم المستبدّين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقرّبات رائقة الحلي رائعة الأوصاف منتخبة الأجناس والأنساب غريبة الألوان والأشكال فاعترضها السلطان وقابلها بالقبول وحسن الموقع وحضر الرسول بكتابه فقرئ وأكرم حامله وأنعم عليه بالزاد لسفر الحج وأوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال وكانت أهمّ أمنياته ثم انقلب ظافرا بقصده وإعادة السلطان إلى مرسلة بهدية نحو من الاولى من أجناس تلك الثياب ومستجادها مما يجاوز الكثيرة ويفوت واستحكمت عقدة المودّة بين هذين السلطانين وشكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي ولو قلّ وكان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال وهو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة وبجاية والزاب في وفد من بنيه وأقربائه ووصل في جملتهم أيضا عون بن يحيى بن طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس والقيروان والجريد وبنو أبيه فقضوا فرضهم أجمعون وانقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين واطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون والله متولي أمرها بمنه وكرمه انتهى.
حوادث مكة وأمرائها
قد تقدّم لنا أنّ ملك مكة سار في هذه الاعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن وذلك منذ دولة الترك وكان ملكهم بها بدويا وهم يعطون الطاعة لملك مصر ويقيمون مع ذلك الدولة العباسية للخليفة الّذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقرّ أمرها آخر الوقت لأحد بن عجلان من رميثة بن أبي نمى أعوام سنة ستين وسبعمائة بعد أبيه عجلان فأظهر في سلطانه عدلا وتعففا عن أموال الناس وقبض أيدي أهل العيث والظلم وحاشيتهم وعبيدهم وخصوصا عن المجاورين وأعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوّة أخواله ويعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة ومواليهم فاستقام أمره وشاع بالعدل ذكره وحسنت سيرته وامتلأت مكة بالمجاورين والتجار حتى غصت بيوتها بهم وكان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة ومحمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير ويحدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برضاهم في أموال جبايته فتنكروا له وهموا بالانتقاض فتقبض(5/545)
عليهم وكان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا ولبثوا في محبسهم ذلك حولا أو فوقه ثم نقبوا السجن ليلا وفرّوا فأدركوا من ليلتهم وأعيدوا الى محبسهم وأفلت منهم عنان بن مقامس وخجا إلى مصر سنة ثمان وثمانين صريخا بالسلطان وعن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه وأنّ أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمدا مكانه وقام بأمره وانه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صونا للامر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك وسخطه من فعلاتهم وافتياتهم ونسب إلى كبيش وأنه يفسد مكة بالفساد بين هؤلاء الأقارب ولما خرج الحاج سنة ثمان وثمانين أوصى أمير حاج بعزل الصبيّ المنصوب والاستبدال عنه بابن عنان بن مقامس والقبض على كبيش ولما وصل الحاج إلى مكة وخرج الصبيّ لتلقي المحمل الخلافيّ وقد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش وأميره المنصوب فقعد كبيش عن الحضور وجاء الصبيّ وترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعنا بالخناجر يظنونه كبيشا ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر وتركوه طريحا بالبطحاء ودخل الأمير إلى الحرم فطاف وسعي وخلع على عنان بن مقامس الامارة على عادة من سلف من قومه ونجا كبيش إلى جدّة من سواحل مكة ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخا فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان وافترق أمره وخذله عشيرة وانقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبيّ فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره وجاء كبيش بعد منصرف الحاج وقد انضم اليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة والركاب والمسافرين ثم زحف إلى مكة وحاصرها أوّل سنة تسع وثمانين وخرج عنان بن مقامس بعض الأيام وبارزه فقتله واضطرب الأمر بمكة وامتدّت أيدي عنان والأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها ونهبوا زرع الأمراء هنالك وزرع السلطان للصدقة وولى السلطان علي بن عجلان واعتقله حسما لمادّة طوارق الفساد عن مكة واستقرّ الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر أن شاء الله تعالى انتهى.
انتقاض منطاش بملطية ولحاقه بسيواس ومسير العساكر في طلبه
كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الّذي مرّ ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك(5/546)
الناصر محمد بن قلاون وربيا في كفالة أمّهما وكان اسم تمرتاي محمدا وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف الى أنّ وليّ بحلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان وذلك انه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي واجتمعوا فسار اليهم وأمدّه السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم الى الدربند ثم كرّوا على العساكر فهزموها ونهبوها في المضايق وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية ولما قعد على الكرسي واستبدّ بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهمّ به ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان وكان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبيته وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي فرعا لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وانه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم وانطلق الى قاعدة عمله بملطية ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وربما داخل أمراء التركمان في ذلك ونمي الخبر الى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبدّ على صبيّ من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هلاكو قد اعصوصب عليه بقية من احياء التتر الذين كانوا حامية هنالك مع الشحنة فيها كما نذكره ولما وصلت رسل منطاش وكتبه الى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلا وفدا من أصحابه في إتمام الحديث معه فخرج منطاش الى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلا فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرّأ من منطاش وأقام دعوة السلطان في البلد وبلغ الخبر الى منطاش فاضطرب ثم استمرّ وسار مع وفد القاضي الى سيواس فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار الى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش وقبض عليه وحبسه وسرح السلطان سنة تسع وثلاثين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة والطنبقا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف وأوعز الى الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكره الى انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعا وكان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف الى العراقين وآذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد فسارت هذه العساكر تورّي بغزوه ودفاعه حتى إذا بلغوا حلب أتى اليهم الخبر بأنّ تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان الى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها فبادر القاضي الى اطلاق منطاش لوقته(5/547)
وقد كان أيام حبسه يوسوس اليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى جنح الى قوله فبعث لأحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة ابن اريثا ابن أوّل فسار اليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن اريثا وبلده ووصلت العساكر خلال ذلك الى سيواس فحاصروها أياما وضيقوا عليها وكادت أن تلقي باليد ووصل منطاش أثر ذلك باحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم وجلا الناصري في هذه الوقائع وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفئوا على تعبيتهم وسار بعض التتر في اتباعهم فكرّوا عليهم واستلحموهم وخلصوا الى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدوّ ويمحوا أثر الفتنة والله تعالى أعلم.
نكبة الجوباني واعتقاله بالإسكندرية
كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر والسآمة من طول المقام وفزع قردم الطنبقا [1] المعلم منهم الى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم اليه من هذا المرتكب وتفاوضوا في ذلك مليا وتداعوا الى الإفراج عن البلد بعد أن بعثوا الى القاضي بها واتخذوا عنده يدا بذلك وأوصوه بمنطاش والإبقاء عليه ليكون لهم وقوفا للفتنة وعلم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوّض لهم ولما انتهى الى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب دمشق مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة وأنهما مصرّان على الخلاف وقفل يونس الى مصر فقص على السلطان نصيحته واستدعى دمرداش فشافه السلطان بذلك واطلع منه على جلي الخبر في شأنهما وكان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة واستهواهم الجاه وشرهوا الى التوثب وهو يزجرهم فصاروا الى اغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي فقعد في بيته عن المجلس السلطاني وطير بالخبر الى مصر فاستراب الجوباني وسابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنه ما علق به من الأوهام وأذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين ولما انتهى الى سرياقوس أزعج اليه استاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه وطير به السفن الى الاسكندرية وأصبح السلطان من الغد فقبض على قردم والطنبقا المعلم وألحقهما به فحبسوا هنالك جميعا
__________
[1] كذا بالأصل ويرد هذا الاسم تارة طنبقا وطورا الطنبغا وهو لقب تركي.(5/548)
وانحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم وولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب ومكان قردم بمصر ابن عمه مجماس ومكان المعلم دمرداش واستمرّ الحال على ذلك.
فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر واعتقال السلطان بالكرك
لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب وشرع في أسباب الانتقاض ودعا اليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والانحراف عنه لما كان منه في نكبته وإغراء السلطان به ثم ولايته مكانه ومن وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يريد الانتقاض من ولاته فأظلم الجوّ بين هؤلاء الرهط وبين المظفري وتفاقم الأمر وطير بالخبر الى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما ويسكن الثائرة وحين سمعوا بمقدمه ارتباوا وارتبكوا في أمرهم وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى اليه كتاب السلطان بالندب الى الصلح مع الحاجب والإغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتمّ الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر الى بعض خلواته وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به وتولى كبر ذلك انبقا الجوهري واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر ونهض الى محل نزوله واجتمع الأمراء الى الناصري واعصوصبوا عليه ودعاهم الى الخلعان فأجابوا وذلك في محرم سنة احدى وتسعين واتصل الخبر بطرابلس وبها جماعة من الأمراء يرومون الانتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها وجمع الذين تمالئوا عليها وعمدوا الى الإيوان السلطاني المسمى بدار السعادة وقبضوا على النائب وحبسوه ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام وسرّح السلطان العساكر لقتالهم فسارا يتمش الاتابك ويونس الدوادار والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس وايدكاز صاحب الحجاب فيمن اليهم من العسارك وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل واستضافهم الى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى(5/549)
بالشاليش وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيما بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحسانا واستنفر طوائف التركمان والعرب ونهض في جموعه يريد دمشق وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالاخبار ويستحث العساكر من مصر على خلع نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة فاسترابوا به وتقبضوا عليه ونهبوا بيته وبعثوا به حبيسا الى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدما عند بندمر هو وأبوه وولي لهذا العهد على نابلس وما يجاورها فنقلوه الى غزة ثم تقدّموا الى دمشق واختاروا من القضاة وفدا أوفدوه على الناصري وأصحابه للإصلاح فلم يجيبوا وأمسكوا الوفد عندهم وساروا للقاء ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وايدكاز الحاجب ومن معهما الى القوم فساروا معهم واتبعهم مماليك الأمراء وصدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا ولجأ ايتمش الى قلعة دمشق فدخلها وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج اليه وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله وقد أبلوا في ذلك الموقف واستلحم عامّتهم فخلص بعض العدوّ اليه وطعنه فأكبه ثم احتز رأسه وذهب ذلك الجمع شعاعا وافترقت العساكر في كل وجه وجيء بهم أسرى من كلّ ناحية ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها وبعث اليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث اليهم برأسه وأوعزوا الى نائب القلعة بحبس ايتمش عنده وفرّقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها وأظهر ابن باكيش دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم ومرّ به انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجيا من الوقعة الى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك واستعدّ السلان للمدافعة وولى دمرداش اتابكا مكان ايتمش وقرماش الجندار دوادار مكان يونس وعمر سائر المراتب عمن فقد منها وأطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد وأعاده الى خلافته وعزل [1] المنصوب مكانه وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياما ثم أجمعوا المسير الى مصر ونهضوا اليها بجموعهم وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بليس ثم تقدّموا الى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادى الأخيرة من السنة وبرز السلطان في مماليكه ووقف
__________
[1] بياض بالأصل، وسوف يتضح لنا فيما يلي أن الخليفة المعزول هو أمير حاج بن الأشرف.(5/550)
أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون الى الناصري من العساكر ومن العامّة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان الى الناصري فأمنهم واطلع السلطان على شأنهم وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين الى السلطان وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس الى الناصري بالصلح وبعث اليه بالملاطفة وأن يستمرّ على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصينه أحد من غير البيبقاوية بسوء فلما غشيه الليل أذن لمن بقي معه من مماليكه في الانطلاق ودخل الى بيته ثم خرج متنكرا وسرى في غيابات المدينة وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأعادوه الى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبوه المنصور وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالاصطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب السلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دلّ عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه وحلف له على الأمان وجاء به الى القلعة فأنزله بقاعة الغصة واشتوروا في أمره وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما وأبى الناصري والجوباني الا الوفاء بما اعتقد معهم واستقرّ الجوباني أتابك والناصري رأس النوبة الكبرى ودمرداش الاحمدي أمير سلاح وأحمد بن بيبقا أمير مجلس والابقا العثماني دوادار وانبقا الجوهري استاذدار وعمرت الوظائف والمراتب ثم بعثوا زلار نائبا على دمشق وأخرجوه اليها وبعثوا كتبقا البيبقاوي على حلب وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية وبعثوا آخرين الى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم وأشخصوا بقيتهم الى الشام يستخدمون عند الأمراء وقبضوا على استاذدار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم ثم أودعوه السجن وهم مع ذلك يتشاورون في مستقرّ السلطان بين الكرك وقوص والاسكندرية حتى أجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذرا عليه من منطاش فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصدا وبات عامة ليله وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه الى الكرك وسار معه برهة من الليل مشيعا ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر ونجا السلطان الى الكرك في(5/551)
فلّ من غلمانه ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء فتقدّمه الى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج اليه وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد أن شاء الله تعالى وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق وانهم ظفروا بهم وحبسوا جميعا ومنه أيبقا الصغير والله تعالى أعلم.
ثورة منطاش واستيلاؤه على الأمر ونكبة الجوباني وحبس الناصري والأمراء البيبقاوية بالإسكندرية
كان منطاش منذ دخل مع الناصري الى مصر متربصا بالدولة طاويا جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الاقطاع ولم يجعلوا له اسما في الوظائف حين اقتسموها ولا راعى له الناصري حق خدمته ومقارعته الأعداء وكان ينقم عليه مع ذلك إيثاره الجوباني واختصاصه فاستوحش وأجمع الثورة وكان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم وانتقض الناصري بحلب لحقوا به وجاءوا في جمله واشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس وله اليهم صفو فداخل جماعة منهم في الثورة وحملهم على صاحبهم وتطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه وملابسة ندمائه وحضور مائدته وكان البيبقاوية جميعا ينقمون على الناصري ويرون أنه مقصر في الرواتب والاقطاع وطووا من ذلك على النكث ودعاهم منطاش الى التوثب فكانوا اليه أسرع وزينوه له وقعدوا عنه عند الحاجة ونمي الخبر الى الناصري والجوباني فعزموا على اشخاص منطاش الى الشام فتمارض وتخلف في بيته أياما يطاولهم ليحكم التدبير عليهم ثم عدا عليه الجوباني يوم الاثنين وقد أكمن في بيته رجالا للثورة فقبضوا على الجوباني وقتلوه لحينه وركب منطاش الى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الاصطبل ووقف عند مئذنة المدرسة الناصرية وقد شحنها ناشبة ومقاتلة مع أمير من أصحابه ووقف في حمايتهم واجتمع اليه من داخله في الثورة من الاشرفية وغيرهم واجتمع اليه من كان بقي من مماليك الظاهر واتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم ولما أفضوا الى الرميلة وقفوا ينظرون مآل الحال وبرز الناصري من الاصطبل فيمن حضر وأمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة وتخاذل أصحابه وأصحاب منطاش ومال الى الناصري مماليك الجوباني لنكبة صاحبهم فهدّدهم منطاش بقتله فافترقوا وتحاجز الفريقان آخر النهار وباكروا شأنهم من الغد وحمل الناصري فانهزم وأقاموا على ذلك ثلاثا(5/552)
وجموع منطاش في تزايد ثم انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوما من دخول القلعة واقتحمها عليه منطاش ونهب بيوته وخزائنه وذهب الناصري حيران وأصحابه يرجعون عنه وباكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذا وبعث بهم جميعا الى الاسكندرية وبعث جماعة ممن حبسهم الناصري الى قوص ودمياط ثم جدّد البيعة لأمير حاج المنصور ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض وقبض على جماعة منهم وفرّ الباقون وبعث بالمحبوسين منهم الى قوص وصادر جماعة من أهل الأموال وأفرج عن محمود استاذدار وخلع عليه ليوليه في وظيفته ثم بدا له في أمره وعاود مصادرته وامتحانه واستصفى منه أموالا عظيمة يقال ستين قنطارا من الذهب ولما استقلّ بتدبير الدول عمر الوظائف والمراتب وولى فيها بنظره وبعث عن الاشقتمري من الشام وكان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى وعن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح وعن انبقا الصفوي فولاه صاحب الحجاب واختص الثلاثة بالمشورة وأقامهم أركانا للدولة وكان إبراهيم بن بطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك وقدّمه في أمراء الألوف ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به واستبداد السلطان فقبض عليه ثم أشخصه الى حلب على إمارته هناك وكان قد اختص ارغون السمندار وألقى عليه محبته وعنايته فغشيه الناس وباكروا بابه وعظم في الدولة صيته ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به وامتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالإنكار وأقام في محبسه وأفرج عن سودون النائب فجاء الى مصر فألزمه بيته واستمرّ الحال على ذلك انتهى.
ثورة بذلار بدمشق
ولما بلغ الخبر الى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من ذلك وارتاب وداخلته الغيرة جمع الانتقاض وكاتب نواب الممالك بالشام في حلب وغيرها يدعوهم الى الوفاق فأعرضوا عنه وتمسكوا بطاعتهم وكان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخوطاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به وتوثق منهم للدولة وبلغ الخبر الى بذلار فركب في مماليكه وشيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك واجتمعوا وظاهرهم عامّة دمشق عليه فقاتلوه ساعة من نهار ثم أيقن بالغلب والهلكة فألقى بيده وقبضوا عليه وطيروا بالخبر الى منطاش وهو صاحب الدولة فأمر باعتقاله وهلك مريضا في محبسه وولى منطاش جنتمر نيابة دمشق واستقرّت الأحوال على ذلك والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده
.(5/553)
خروج السلطان من الكرك وظفره بعساكر الشام وحصاره دمشق
ولما بلغ الخبر الى السلطان الظاهر بالكرك بأنّ منطاش استقلّ بالدولة وحبس البيبقاوية جميعا وأذال منهم بأصحابه أهمته نفسه وخشي غائلته ولم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهمّ من شأنه وشأن السلطان فكتب الى حسن الكشكي نائب الكرم بقتله وقد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك واستدعى البريدي وفاوض أصحابه وقاضي البلد وكاتب السر فأشاروا بالتحرّز من دمه جهد الطاقة فكتب الى منطاش معتذرا بالخطر الّذي في ارتكابه دون اذن السلطان والخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان والخليفة بالاذن فيه واستحثه في الاجهاز عليه فأنزل البريدي وعلله بالوعد وطاوله يرجو المخلص من ذلك وكانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة وإجلالا فشعر بذلك وأخلص اللجأ الى الله والتوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته وانطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان وأفاضوا فيهم فأجابوا وصدقوا ما عاهدوا عليه واتعدوا لقتال البريدي وكان منزله بإزاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان وهجموا عليه فقتلوه ودخلوا برأسه الى السلطان وشفار سيوفهم دامية وكان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيسا لهم فلما رآهم دهش وهموا بقتله فأجاره السلطان وملك السلطان أمره بالقلعة وبايعه النائب وصدع اليه أهل المدينة من الغد فبايعوه ووفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة وغيرهم فأعطوه طاعتهم وفشا الخبر في النواحي فتساقط اليه مماليكه من كلّ جهة وبلغت أخباره الى منطاش فأوعز الى ابن باكيش نائب غزة أن يسير في العساكر الى الكرك وتردّد السلطان بين لقائه أو النهوض الى الشام ثم أجمع المسير الى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوّال فعسكر بالقبة وجمع جموعه من العرب وسار في ألف أو يزيدون من العرب والترك وطوى المراحل الى الشام وسرّح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام وأولاد بندمر فالتقوا بشقحب وكانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق وقتل الكثير منهم وظفر السلطان بهم واتبعهم الى دمشق ونجا الكثير منهم الى مصر ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش وعساكره في اتباعه فكرّ اليهم وأسرى ليلته وصبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا ونهب السلطان وقومه جميع ما معهم وامتلأت أيديهم واستفحل أمره ورجع الى(5/554)
دمشق ونزل بالميدان وثار العوام وأهل القبيبات ونواحيها بالسلطان وقصدوه بالميدان فركب ناجيا وترك أثقاله فنهبها العوام وسلبوا من لقوة من مماليكه ولحق بقبة بلبغا فأقام بها وأغلقوا الأبواب دونه فأقام يحاصرهم الى محرّم سنة اثنتين وتسعين وكان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله وكاتبه بذلك عند ما نهض من الكرك الى الشام كما نذكره ولما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه واحتمل معه ما يزيح علل السلطان من كل صنف وأقام له أبهة ووصل اينال اليوسفي وقجماش ابن عمّ السلطان وجماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد وكان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به وأطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر ولحقوا بالسلطان وتقدّمهم اينال وهو محاصر لدمشق فأقاموا معه والله تعالى أعلم.
ثورة المعتقلين بقوص ومسير العساكر اليهم واعتقالهم
ولما بلغ الخبر الى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الاعتقال واستيلاؤه على الكرك واجتماع الناس اليه فثاروا بقوص أوائل شوّال من السنة وقبضوا على الوالي بها وأخذوا من مودع القاضي ما كان فيه من المال وبلغ خبرهم الى مصر فسرّح اليهم العساكر ثم بلغه أنهم ساروا الى أسوان وشايعوا الوالي بها حسن بن قرط فلحن [1] لهم بالوعد وعرض بالوفاق فطمعوا واعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية الى السويس ويسيروا من هناك الى الكرك ولما وصل خبر ابن قرط أخر منطاش سندمر بن يعقوب شاه ثامن عشرين [2] من السنة وانكفأ جموعه وسار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل الى قوص وبادر ابن قرط فخالفه الى منطاش بطاعته فأكرمه وردّه على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص وقد استولى على النواحي واستنزل الأمراء المخالفين ثم قبض عليهم وقتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر ومماليك ولاة الصعيد وجاء بالامراء الى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاي وحبس الباقين والله تعالى أعلم.
__________
[1] لحن اي أشار قال الشاعر:
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يفهمه ذوو الألباب
ورحم الله المؤرخ غلبت عليه صناعة الترسل فكأن كتابه هذا كتاب تاريخ وأدب فهو نعم الأدب (من خط الشيخ العطار)
[2] بياض بالأصل ومكان البياض اسم الشهر ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا الشهر.(5/555)
ثورة كمشيقا بحلب وقيامه بدعوة السلطان
قد كنا قدّمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب ولما استقل منطاش بالدولة ارتاب ودعاه بذلار لما ثار بدمشق الى الوفاق فامتنع ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الانتقاض وقام بدعوة السلطان وخالفه إبراهيم بن أمير جندار واعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمشيقا جميعا وهزمهم وقتل القاضي ابن أبي الرضا وكان معه في ذلك الخلاف واستقل بأمر حلب وذلك في شوّال من السنة ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق وابن باكيش وانه مقيم بقبة بلبغبا محاصرا لدمشق بعد ان نهبوا أثقاله وأخرجوه من الميدان فتجهز من حلب اليه في العساكر والحشود وجهز له جميع ما يحتاج اليه من المال والأقمشة والسلاح والخيل والإبل وخيام الملك بفرشها وما عونها وآلات الحصار وتلقاه السلطان وبالغ في تكرمته وفوض اليه في الاتابكية والمشورة وقام معه محاصرا لدمشق واشتدّ الحصار على أهل دمشق بعد وصوله واستكثار السلطان من المقاتلة وآلات الحصار وخرب كثيرا من جوانبها بحجارة المجانيق وتصدّعت حيطانها وأضرم كثيرا من البيوت على أربابها فاحترقت واستولى الخراب والحريق على القبيبات أجمع وتفاحش فيها واشتدّ أهل القتال والدفاع من فوق الأسوار وتولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم وفاه أهل العلم والدين بالنكير فيه وكان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الأشرف بمدد من المال يمدّ به العساكر هنالك وأقام معهم ثم بعث جنتمر الى أمير آل فضل يعبر بن جبار يستنجد به فجاء لقتالهم وسار كمشيقا نائب حلب فلقيه وفض جموعه وأسر خادمه وجاء به أسيرا فمن عليه السلطان وأطلقه وكساه وحمله وردّه الى صاحبه واستمرّ حصار دمشق الى أن كان ما نذكره ان شاء الله تعالى.
ثورة انيال بصفد بدعوة السلطان
كان انيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فرّ الى مصر ومرّ بغزة فاعتقله ابن باكيش وحبس بالكرك فلما استولى الناصري أشخصه الى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء وولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماعة من مماليك برقوق واتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار فلما بلغه خلاص السلطان من الاعتقال ومسيره الى الشام داخل بلبغا مماليك استاذه قطلوبقا في(5/556)
الخلاف واللحاق بالسلطان وهرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم وأبقى بلبغا السالمي دوادار وحاجب صفد فأطلقوا انيال وسائر المحبوسين من السلطان فملك أنيال القلعة ورجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا وامتنعوا وارتاب من مماليكه فسار عن صفد ونهب بيته ومخلفه ولحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمين أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم ولحق انيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها واستخلف عليها وأقام مع السلطان والله تعالى أعلم.
مسير منطاش وسلطانه أمير حاجي الى الشام وانهزامهم ودخول منطاش الى دمشق وظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي والخليفة والقضاة وعوده لملكه
ولما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام وحصار السلطان الظاهر دمشق وظهور دعوته في حلب وصفد وسائر بلاد الشام ثم وصلت العساكر المنهزمون وأولاد بندمر ونائب صفد واستحثوه وتواترت كتب جنتمر نائب دمشق وصريخه أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير الى الشام فتجهز ونادى في العساكر وأخرج السلطان والخليفة والقضاة والعلماء سابع عشر ذي الحجة سنة احدى وتسعين وخيموا بالريدانية [1] من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل واستخلف على القاهرة دواداره صراي تمر وأطلق يده في الحلّ والعقد والتولية والعزل واستخلف على القلعة بكا الاشرفي وعمد الى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسدّ بابها ونقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب ونقل اليها من كان في سجنه من أهل دولة السلطان ونقل سودون النائب الى القلعة فأنزله بها وأمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا فتسرّبوا في غيابات المدينة ولاذوا بالاختفاء وأوعز بسدّ كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدّت ورحل في الثاني والعشرين من الشهر بالسلطان وعساكره على التعبية وطووا المراحل ونمي اليه أثناء طريقه أنّ بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الأمراء مجمعون على التوثب ومداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففرّوا ولحقوا بالسلطان ولما بلغ خبره مسيرهم السلطان وهو محاصر دمشق ارتحل في عساكره الى لقائهم ونزل قريبا من شقحب وأصبحوا
__________
[1] الريدانية بالراء المهملة المسماة الآن بالحصوة خارج القاهرة (من خط الشيخ العطار) .(5/557)
على التعبية وكمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان ومنطاش قد عبى جيشه وجعل السلطان أمير حاجي والخليفة والقضاة والرماة من ورائهم ووقف معهم تمارتمر رأس نوبة وسندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح ووقف هو في طائفة من مماليكه وأصحابه في حومة المعترك فلما تراءى الجمعان حمل هو وأصحابه على ميمنة السلطان ففضوها وانهزم كمشيقا الى حلب ومرّوا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه وأسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحا ثم حطم السلطان على الّذي فيه أمير حاجي والخليفة والقضاة فدخلوا في حكمه ووكل بهم واختلط الفريقان وصاروا في عمى من أمرهم والسلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك ويحطم الفرسان ويشردهم في كل ناحية وشرّاد مماليكه وأمرائه يتساقطون اليه حتى كثف جمعه ثم حمل على بقية العسكر وهم ملتئمون على الصفدي فهزمهم ولحقوا بدمشق وضرب خيامه بشقحب ولما وصل منطاش الى دمشق أوهم النائب جنتمر أنّ الغلب له وأنّ السلطان أمير حاجي على الأثر ونادى في العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه وخرج من الغد موريا بذلك فركب اليهم السلطان في العساكر فهزمهم وأثخن فيهم واستلحم كثيرا من عامّة دمشق ورجع السلطان الى خيامه وبعث أمير حاجي بالتبري من الملك والعجز عنه والخروج اليه من عهدته فأحضر الخليفة والقضاة فشهدوا عليه بالخلع وعلى الخليفة بالتفويض الى السلطان والبيعة له والعود الى كرسيه وأقام السلطان بشقحب تسعا واشتدّ كلب البرد وافتقدت الأقوات لقلة الميرة فأجمع العود الى مصر ورحل يقصدها وبلغ الخبر الى منطاش فركب لاتباعه فلما أطلّ عليه أحجم ورجع واستمرّ السلطان لقصده وقدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه ولما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه وحمله معتقلا وسار وهو مستطلع أحوال مصر حتى كان ما نذكره ان شاء الله تعالى.
ثورة بكا والمعتقلين بالقلعة واستيلاؤهم عليها بدعوة السلطان الظاهر وعوده الى كرسيه بمصر وانتظام أمره
كان منطاش لما فصل الى الشام بسلطانه وعساكره كما مرّ واستخلف على القاهرة دواداره سراي تمر وأنزله بالاصطبل وعلى القلعة بكا الاشرفي ووكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم والشدّة وبعد أيام نمي اليهم أنّ جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة وقد داخلوا مماليكهم فبيتوهم وقبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم ثم تقبضوا على من داخلهم من مماليكهم وكانوا جماعة كثيرة وحدثت لهم بذلك رتبة واشتداد في الحزم فنادوا(5/558)