وأعياه أمره وصار ينتقل في البلاد ويهزم العساكر وكان سكن بحصن شيطران من جبال بلنسية فسار إليه عبد الرحمن سنة ست وخمسين واستخلف على قرطبة ابنه سليمان فأتاه الخبر بعصيان أهل إشبيليّة وثورة عبد الغفّار، وحيوة بن قلاقس مع اليمانية فرجع عن شقنا، وهاله أمر إشبيليّة. وقدم عبد الملك بن عمر لقتالهم فساروا إليه ولقيهم مستميتا فهزمهم وأثخن فيهم. ولحق بعبد الرحمن فشكرها له وجزاه خيرا ووصله بالصهر وولّاه الوزارة، ونجا عبد الغفّار وحيوة بن قلاقس إلى إشبيليّة، فسار عبد الرحمن سنة سبع وخمسين إليها فقتلهم وقتل خلقا ممن كان معهم، واستراب من يومئذ بالعرب فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم واتخاذ الموالي. ولما كانت سنة إحدى وستين غدر بشقنا رجلان من أصحابه وجاء برأسه إلى عبد الرحمن. ثم سار عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ المعروف بالقلعي من إفريقية إلى الأندلس مظهرا للدعوة العبّاسيّة، ونزل بتدمير، واجتمع إليه البربر. وكان سليمان بن يقظان عاملا على برشلونة فكتب إليه يدعوه إلى أمره فلم يجبه فسار إليه في البربر، ولقيه سليمان فهزمهم وعاد إلى تدمير وزحف إليه عبد الرحمن من قرطبة، فاعتصم بجبل بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه الأموال فاغتاله رجل من أصحابه البربر، وحمل رأسه إلى عبد الرحمن وذلك سنة اثنتين وستين. ورجع عبد الرحمن إلى قرطبة. ثم خرج دحية الغسّاني في بعض حصون البيرة، فبعث إليه شهيد بن عيسر فقتله، وخالف البربر وعليهم بحرة بن البرانس، فبعث بدرا مولاه فقتله وفرّق جموعهم. وفرّ القائد السلمي من قرطبة الى طليطلة وعصى بها فبعث حبيب بن عبد الملك، وحاصره فهلك في الحصار. وزحف عبد الرحمن سنة اربع وستين إلى سرقسطة وبها سليمان بن يقظان والحسين بن عاصي، وقد حاصرهما ثعلبة بن عبيد من قوّاده فامتنعت عليه، وقبض سليمان على ثعلبة وبعث إلى ملك الفرنج فجاء وقد تنفّس عنه الحصار فدفع إليه ثعلبة. ثم غلب الحسين على سليمان وقتله، وانفرد فحاصره عبد الرحمن حتى صالحه وسار إلى بلاد الفرنج والبشكنس ومن وراءهم من الملوك، ورجع إلى وطنه وغدر الحسين بسرقسطة، فسار إليه عامله ابن علقمة فأسر أصحابه، ثم سار إليه عبد الرحمن سنة ست وستين وملكها عنوة وقتل الحسين وقتل أهل سرقسطة. ثم خرج سنة ثمان وستين أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن فلقيه بقسطلونة وهزمه، وأثخن في أصحابه. ثم لقيه ثانية سنة تسع وستين فهزمه، ثم هلك سنة سبعين في(4/158)
أعمال طليطلة وقام مكانه أخوه قاسم وغزاه عبد الرحمن فحاصره فجاء بغير أمان فقتله. ثم توفي عبد الرحمن سنة اثنتين وسبعين ومائة لثلاثة وثلاثين سنة من إمارته.
(وفاة عبد الرحمن الداخل وولاية ابنه هشام)
ولما هلك عبد الرحمن كان ابنه الأكبر سليمان واليا على طليطلة، وكان ابنه هشام على ماردة، وكان قد عهد له بالأمر. وكان ابنه عبد الله المسكين حاضرا بقرطبة فأخذ البيعة لأخيه هشام وبعث إليه بالخبر فسار إلى قرطبة، وقام بالدولة وغصّ بذلك أخوه سليمان فأظهر الخلاف بطليطلة، ولحق به أخوه عبد الله وبعث هشام في أثره فلم يلحق. وسار هشام في العساكر فحاصرهم بطليطلة وخالفه سليمان إلى قرطبة فلم يظفر بشيء منها وبعث هشام بن عبد الملك في أثره فقصد ماردة فحاربه عامله وهزمه الله بغير أمان ودخل في طاعته فأكرمه. ثم بعث سنة أربع وسبعين ابنه معاوية لحصار أخيه سليمان بتدمير فدوّخ نواحيها، وهرب سليمان الى جبال بلنسية فاعتصم بها، ورجع معاوية إلى أبيه بقرطبة. ثم طلب سليمان العبور الى عدوة البربر بأهله وولده فأجازه هشام وأعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركة أبيه. وأقام بعدوة المغرب وسار معه أخوه عبد الله. ثم خرج على هشام سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بطرسوسة من شرق الأندلس وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه. ودعي إلى اليمانية فملكها، وأخرج عاملها يوسف العبسيّ فعارضه موسى بن فرقوق في المضريّة بدعوة هشام، وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وملك مدينة سرقسطة وواشقة، وكان هشام في شغل بأمر أخويه، فلما فرغ منهما بعث أبا عثمان عبيد الله بن عثمان بالعساكر إلى مطروح فحاصره بسرقسطة أياما، ثم أفرج عنه ونزل بطرسوسة قريبا وأقام بتحيفة، ثم غدر بمطروح بعض أصحابه وجاء برأسه إلى أبي عثمان، فبعث به إلى هشام وسار إلى سرقسطة فملكها. ثم دخل إلى دار الحرب غازيا، وقصد ألبة والقلاع فلقي العدوّ وظفر بهم، وفتح الله عليه وذلك سنة خمس وسبعين، وبعث هشام العساكر مع يوسف بن نحية إلى جلّيقة فلقي ملكها ابن مند وهزمه وأثخن في العدوّ. وفي هذه السنة دخل أهل طليطلة في طاعة الأمير هشام بعد منصرف أخويه عنهم فقبلهم، وأمّنهم وبعث عليها ابنه الحكم واليا فضبطها وأقام(4/159)
بها. وفي سنة ست وسبعين ومائة بعث هشام وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة والقلاع وأثخن في نواحيها. ثم بعثه في العساكر إلى أربونة [1] وجرندة فأثخن فيهما ووطئ أرض سلطانية، وتوغّل في بلادهم ورجع بالغنائم التي لا تحصى واستمدّ الطاغية بالبشكنس وجيرانه من الملوك فهزمهم عبد الملك، ثم بعث بالعساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى بلاد جلّيقة فأثخنوا في بلاد العدوّ وغنموا ورجعوا. وفي هذه السنة هاجت فتنة بتاكدنا وهي بلاد رندة من الأندلس، وخلع البربر لك الطاعة فبعث إليهم هشام بن عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن أبي سفيان فأبادهم، وخرّب بلادهم وفرّ من بقي منهم فدخلوا في القبائل وبقيت تاكدنا قفراء خالية سبع سنين. وفي سنة تسع وسبعين بعث هشام الحاجب عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث في العساكر إلى جليقة فانتهى إلى ميورقة [2] فجمع ملك الجلالقة واستمدّ بالملوك، ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه، وأتبعه عبد الملك وتوغّل في بلادهم وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك وأثخنوا في البلاد واعترضهم عسكر الإفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا ظافرين سالمين.
(وفاة هشام وولاية ابنه الحكم)
ثم توفي هشام بن عبد الرحمن سنة ثمانين ومائة لسبع سنين من إمارته وقيل ثمان سنين، وكان من أهل الخير والصلاح، وكان كثير الغزو والجهاد، وهو الّذي أكمل بناء الجامع بقرطبة الّذي كان أبوه شرع فيه، وأخرج المصرف لآخذي الصدقة على الكتاب والسنّة. ولما مات ولي ابنه الحكم بعده فاستكثر من المماليك وارتباط الخيل، واستفحل ملكه وباشر الأمور بنفسه. ولأوّل ولايته أجاز ابنه عبد الله البلنسي من
__________
[1] أربونة: بفتح أوله ويضم، ثم السكون، وضم الباء الموحدة، وسكون الواو، ونون وهاء: بلد في طرف الثغر من ارض الأندلس، بينها وبين قرطبة على ما ذكره ابن الفقيه، ألف ميل (معجم البلدان) .
[2] ميورقة: بالفتح ثم الضم، وسكون الواو والراء يلتقي فيه ساكنان، وقاف: جزيرة في شرقي الأندلس بالقرب منها جزيرة يقال لها منورقة. (معجم البلدان) .(4/160)
عدوة المغرب فملك بلنسية، ثم أخوه سليمان من طنجة فحاربهما الحكم سنة ثم ظفر بعمّه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين. وأقام عبد الله ببلنسية وكفّ عن الفتنة وأرسل الحكم في الصلح على يد يحيى بن يحيى الفقيه وغيره فصالحه سنة ست وثمانين. وفي خلال الفتنة مع عمّيه سليمان وعبد الله اغتنم الفرنج الفرصة واجتمعوا وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها. وبعث الحكم العساكر إلى برشلونة مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخن فيها وخالفهم العدو إلى المضايق فرجع إلى التعبية وظفر بهم، ورجع إلى بلاد الإسلام ظافرا. وفي سنة إحدى وثمانين ثار البهلول بن مرزوق بناحية الثغر، وملك سرقسطة، وفيها جاء عبد الله البلنسيّ عمّ الحكم كما ذكرناه. وفي هذه السنة خالف عبيدة بن عمير بطليطلة، وكان القائد عمروس بن يوسف من قوّاد الحكم بطلبيرة فكتب إلى هشام بحصارهم فحاصرهم. ثم استمال بني مخشي من أهل طليطلة فقتلوا عبيدة وبعثوا برأسه إلى عمروس فبعث به إلى الحكم، وأنزل بني مخشي عنده فقتلهم البربر بطلبيرة بثأر كاتب لهم، وقتل عمروس والباقين واستقامت تلك الناحية. واستعمل عمروس ابنه يوسف على مدينة طليطلة ولحق بالفرنج سنة تسع وثمانين بعض أهل الحرابة، وأطمعوا الفرنج في ملك طليطلة فزحفوا إليها وملكوها وأسروا أميرها يوسف وحبسوه بصخرة قيسر [1] ، وسار عمروس من فوره إلى سرقسطة ليحميها من العدوّ، وبعث العساكر مع ابن عمّه، فلقي العدوّ وهزمهم وسار إلى صخرة قيسر وقد وهن الفرنج من الهزيمة فافتتحها، وبعث عمروس نائبة وخلّص يوسف وعظم صيته.
(وقعة الربض)
كان الحكم في صدر ولايته قد انهمك في لذّاته، واجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي وطالوت الفقيه وغيرهما فثاروا به، وامتنع فخلعوه وبايعوا
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 187: «وكان قد انهزم من الحكم أهل بيت من الأندلس، أولوه قوة وبأس، لأنهم خرجوا عن طاعته، فالتحقوا بالمشركين فقوي أمرهم، واشتدت شوكتهم، وتقدموا الى مدينة تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين فأسروا أميرها يوسف بن عمروس وسجنوه بصخرة قيس.
ابن خلدون م 11 ج 4(4/161)
محمد بن القاسم من عمومة هشام. وكان بالربض الغربي من قرطبة محلّة متصلة بقصره، وحصروه سنة تسعين ومائة وقاتلهم فغلبهم وافترقوا، وهدم دورهم ومساجدهم ولحقوا بفاس من أرض العدوة، ولحقوا بالإسكندريّة، ونزل بها منهم جمع وثاروا بها، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر وافتتحها وأجازهم إلى جزيرة أقريطش كما مرّ. وكان مقدّمهم أبا حفص عمر البلّوطي، فلم يزل رئيسا عليهم وولده من بعده إلى أن ملكها الفرنج من أيديهم.
(وقعة الحفرة بطليطلة)
كان أهل طليطلة يكثرون الخلاف ونفوسهم قويّة لحصانة بلدهم، فكانت طاعتهم ملتانة [1] فأعيا الحكم أمرهم واستقدم عمروس بن يوسف من الثغر، وكان أصله من أهل مدينة وشقة من المولّدين، وكان عاملا عليها فداخله في التدبير على أهل طليطلة، وكتب له بولايتها فأنسوا به واطمأنوا إليه. ثم داخلهم في الخلع وأشار عليهم ببناء مدينة يعتزل فيها مع أصحاب السلطان فوافقوه، وأمضى رأيه في ذلك. ثم بعث صاحب الأعلى [2] إلى الحكم يستنجده على العدوّ فبعث العساكر مع ابنه عبد الرحمن والوزراء، ومرّوا بطليطلة ولم يعرض عبد الرحمن لدخولها. ثم رجع العدوّ وكفى الله شره، فاعتزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فأشار عمروس عند ذلك على أهل طليطلة بالخروج إلى عبد الرحمن فخرج إليه الوجوه وأكرمهم، ودسّ خادم الحكم كتابه إلى عمروس بالحيلة على أهل طليطلة، فأشار عليهم عمروس بأن يدخلوا عبد الرحمن البلد، وأنزله بداره واتخذ صنيعا للناس واستعد له [3] على موعد لذلك فكان يدخلهم من باب ويخرجهم من آخر خشية الزحام فيدخلون إلى حفرة في القصر وتضرب رقابهم عليها إلى أن قتل معظمهم وفطن الباقون فنفروا وحسنت طاعتهم من بعد ذلك، إلى أيام الفتنة كما نذكر، ثم عصى أصبغ بن عبد الله
__________
[1] لعله يعني ملتوية أي غير مرضية.
[2] هو الثغر الأعلى كما في الكامل.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 200: «وأشاع عمروس ان عبد الرحمن يريد ان يتخذ لهم وليمة عظيمة وشرع في الاستعداد لذلك، وواعدهم يوما ذكره» .(4/162)
بماردة وأخرج عامل الحكم فسار إليه الحكم وحاصره وجاءه الخبر بعصيان أهل قرطبة فرجع وقتلهم. ثم استنزل أصبغ من بعد ذلك وأنزله قرطبة. وفي سنة اثنتين وتسعين جمع لزريق بن قار له ملك الفرنج وسار لحصار طرسوسة [1] فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه وفتح الله على المسلمين. ثم عاود أهل ماردة الخلاف عن الحكم سنة أربع وتسعين فسار إليهم وقاتلهم ثلاث سنين. وكثر عيث الفرنج في الثغور فسار إليهم سنة ست وتسعين فافتتح الحصون، وخرّب النواحي وأثخن في القتل والسبي والنهب وعاد إلى قرطبة ظافرا. وفي سنة مائتين بعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج فسار فيها وخرّبها ونهبها وهدم عدّة من حصونها، وأقبل إليه ملك الجلالقة في جموع عظيمة وتنازلوا على نهر واقتتلوا عليه أياما، ونال المسلمون منهم أعظم النيل، وأقاموا على ذلك ثلاث عشرة ليلة، ثم كثرت الأمطار ومدّ النهر وقفل المسلمون ظافرين.
(وفاة الحكم وولاية ابنه عبد الرحمن الأوسط)
ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته، وهو أوّل من جنّد بالأندلس الأجناد والمرتزقة، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه واتّخذ المماليك، وكان يسمّيهم الخرس لعجمتهم، وبلغت عدّتهم خمسة آلاف، وكان يباشر الأمور بنفسه، وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس. وكان يقرّب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الّذي وطأ الملك لعقبه بالأندلس. ولما مات قام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن فخرج عليه لأوّل إمارته عبد الله البلنسي عمّ أبيه، وسار إلى تدمير يريد قرطبة فتجهّز له عبد الرحمن فحام عن اللقاء، ورجع إلى بلنسية ومات أثر ذلك فنقل عبد الرحمن ولده وأهله إلى قرطبة. ثم غزا لأوّل ولايته إلى جليقة فأبعد وأطال الغيبة وأثخن في أمم
__________
[1] لعلها طرسونة أو طرطوشة: الاولى: مدينة بالأندلس بينها وبين تطيلة اربعة فراسخ، معدودة في أعمال تطيلة يسكنها العمال ومقاتلة المسلمين. أما طرطوشة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية وهي شرقي بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر متقنة العمارة مبينة على ابره (معجم البلدان) والمدينة المقصودة هنا هي طرطوشة كما في الكامل لابن الأثير ج 6 ص 202.(4/163)
النصرانية هنالك ورجع. وقدم عليه سنة ست ومائتين من العراق زرآب المغنّي مولى المهدي ومعلم إبراهيم الموصلي، واسمه علي بن نافع فركب لتلقيه وبالغ في إكرامه، وأقام عنده بخير حال، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلف ولده مخلفة كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته. وفي سنة سبع كانت وقعة بالثغر كان الحكم قد قبض على عاملها ربيع، وصلبه حيّا لما بلغه من ظلمه، وهلك الحكم أثر ذلك فتوافى المتظلّمون من ربيع إلى قرطبة يطلبون ظلاماتهم، ومعظمهم جند البيرة ووقفوا بباب القصر وشغبوا، وبعث عبد الرحمن من يسكتهم فلم يقبلوا فركبت العساكر إليهم وأوقعوا بهم ونجا الفلّ منهم إلى البيرة وبالشر، وتتبعهم عبد الرحمن. وفي هذه السنة نشأت الفتنة بين المضريّة واليمانيّة واقتتلوا، فهلك منهم نحو من ثلاثة آلاف وبعث عبد الرحمن إليهم يحيى بن عبد الله بن خالد في جيش كثيف ليكفّهم عن الفتنة فكفّوا عن القتال لما أحسوا بوصوله. ثم عاودوا الحرب عند مغيبه، وأقاموا على ذلك سبع سنين. وفي سنة ثمان ومائتين أغزا حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى ألبة والقلاع فخرّب كثيرا من البلاد وانتسفها، وفتح كثيرا من حصونهم وصالح بعضا على الجزية واطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافرا وفي سنة ثلاث عشرة انتقض عليه أهل ماردة وقتلوا عامله فبعث إليهم العساكر فافتتحوها وعاودوا الطاعة وأخذوا رهائنهم وخرّبوا سورها، ورجعوا عنهم. ثم أمر عبد الرحمن بنقل حجارة السور إلى النهر فعاودوا الخلاف وأسروا العامل وأصلحوا سورهم فسار إليهم عبد الرحمن سنة أربع عشرة ومائتين وحاصرهم فامتنعوا عليه. ثم بعث العساكر سنة سبع عشرة فحاصرها فامتنعوا ثم حاصرها سنة عشرين وافتتحها ونجا فلّهم مع محمود ابن عبد الجبّار منهم إلى منت شلوط فاعتصم بها سنة عشرين ومائتين، فبعث عبد الرحمن العساكر لحصاره فلحق بدار الحرب واستولى على حصن من حصونهم أقام به خمسة أعوام حتى حاصره أدفونش ملك الجلالقة، وافتتح الحصن وقتل محمودا وجميع أصحابه سنة خمس وعشرين. وفي سنة خمس عشرة خرج بمدينة طليطلة هاشم الضرّاب من أهل واقعة الربض واشتدّت شوكته واجتمعت له الخلق وأوقع بأهل شنت بريّة، فبعث عبد الرحمن العساكر لقتاله فلم يصيبوا منه، ثم بعث عساكر أخرى فقاتلوه بنواحي دورقة فهزموه وقتل هو وكثير من أصحابه واستمرّ أهل طليطلة على الخلاف. وبعث عبد الرحمن ابنه أمية لحصارها فحاصرها مدّة ثم أفرج(4/164)
عنها ونزل قلعة رياح وبعث عسكرا للاغارة عليها وكان أهل طليطلة قد خرجوا في اتباعه الى قلعة رياح فكمن لهم فأوقعوا به فاغتم لذلك، وهلك لأيام قليلة. وبعث عبد الرحمن العساكر لحصارها ثانيا فلم يظفروا، وكمن المغيرون عليها بقلعة رياح يعاودونها بالحصار كل حين. ثم بعث عبد الرحمن أخاه الوليد في العساكر سنة اثنتين وعشرين لحصارها، وقد أشرفوا على الهلكة، وضعفوا عن المدافعة فاقتحمها عنوة وسكن أهلها وأقام إلى آخر ثلاث وعشرين ورجع. وفي سنة أربع وعشرين بعث عبد الرحمن قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو بلاد ألبة والقلاع، ولقي العدوّ فهزمهم وكثر السبي والقتل. ثم خرج لزريق ملك الجلالقة وأغار على مدينة سالم بالثغر. فسار إليه فرنون بن موسى وقاتله فهزمه، وأكثر القتل في العدوّ والأسر.
ثم سار إلى الحصن الّذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه. ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقة فدوّخها وافتتح عدّة حصون منها، وجال في أرضهم ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم. وفي سنة ست وعشرين ومائتين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض سلطانية، وكان على مقدّمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة ولقيهم العدوّ فصبروا حتى هزم الله عدوّهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود ووقعت بينه وبين بعض قوّاد عبد الرحمن ملاحاة، وأغلظ له القائد فكان ذلك سببا لانتقاضه، فعصى على عبد الرحمن وبعث إليه الجيوش مع الحرث بن بزيغ فقاتله موسى وانهزم وقتل ابن عمّه، ورجع الحرث إلى سرقسطة. ثم زحف الى تطيلة وحاصر بها موسى حتى نزل عنها على الصلح إلى أربط وأقام الحرب بتطيلة أياما. ثم سار لحصار موسى في أربط فاستنصر موسى بغرسية من ملوك الكفر فجاءه، وزحف الحرث وأكمنوا له فلقيهم على نهر بلبة، فخرجت عليه الكمائن بعد أن أجاز النهر وأوقعوا به وأسروه، وقد فقئت عينه، واستشاط عبد الرحمن لهذه الواقعة، وبعث ابنه محمدا في العساكر سنة تسع وعشرين وحاصر موسى بتطيلة حتى صالحه، وتقدّم إلى ينبلونة فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها الّذي أنجد موسى على الحرث. ثم عاود موسى الخلاف، فزحفت إليه العساكر فرجع إلى المسالمة ورهن ابنه عبد الرحمن على الطاعة، وقبله عبد الرحمن وولّاه تطيلة، فسار إليها واستقرّت في عمالته. ثم كان في هذه السنة خروج المجوس في أطراف بلاد الأندلس ظهروا سنة ست وعشرين بساحل أشبونة،(4/165)
فكانت بينهم وبين أهلها الحرب ثلاثة عشر يوما. ثم تقدّموا إلى قادس، ثم إلى أشدونة، وكانت بينهم وبين المسلمين بها وقعة. ثم قصدوا إشبيليّة ونزلوا قريبا منها وقاتلوا أهلها منتصف المحرّم من سنة ثمان وعشرين فهزمهم المسلمون وغنموا. ثم مضوا إلى باجة ثم إلى مدينة أشبونة. ثم أقلعوا من هنالك وانقطع خبرهم وسكنت البلاد وذلك سنة ثلاثين. وتقدّم عبد الرحمن الأوسط بإصلاح ما خرّبوه من البلاد، وأكثف الحامية بها وذكر بعض المؤرخين حادثة المجوس هذه سنة ست وأربعين ومائتين ولعلّها غيرها والله أعلم. وفي سنة إحدى وثلاثين بعث عبد الرحمن العساكر إلى جليقة فدوّخوها وحاصروا مدينة ليون ورموا سوارها فلم يقدروا عليه، لأنّ عرضه سبعة عشر ذراعا فثلموا فيه ثلمة ورجعوا. ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم بن مغيث في العساكر إلى بلاد برشلونة فجاز في نواحيها، وأجاز الدروب التي تسمّى السرب إلى بلاد الفرنجة فدوّخها قتلا وأسرا وسبيا، وحاصر مدينتهم العظمى وعاث في نواحيها وقفل، وقد كان ملك القسطنطينية توفلس بن نوفلس بن نوفيل، بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية ويطلب مواصلته فكافأه عبد الرحمن عن هديته، وبعث إليه يحيى العزال من كبار الدولة، وكان مشهورا في الشعر والحكمة، فأحكم بينهما المواصلة وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العبّاس. وفي سنة ست وثلاثين هلك نصر الحفي القائم بدولة الأمير عبد الرحمن وكان يضغن على مولاه ويمالئ ابنه عبد الرحمن على ابنه الآخر وليّ عهده بما كانت أم عبد الله قد اصطنعته، وكانت حظية عند السلطان ومنحرفة عن ابنه محمد وليّ العهد، فداخلت نصرا هذا في أمرها، وداخل هو طبيب الدار في أن يسمّ محمدا وليّ العهد. ودسّ الطبيب بذلك إلى الأمير مع قهرمانة داره وأن نصرا أكرهه على إذابة السمّ فيه، وباكر نصر القصر ودخل على السلطان يستفهمه عن شرب الدواء فوجده بين يديه، وقال له إنّ نفسي قد بشعته فاشربه أنت فوجم، فأقسم عليه فلم يسعه خلافه فشربه وركب مسرعا إلى داره فهلك لحينه، وحسم السلطان علّة ابنه عبد الله وكان من بعدها مهلكه.(4/166)
(وفاة عبد الرحمن الأوسط وولاية ابنه محمد)
ثم توفي عبد الرحمن الأوسط بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين لإحدى وثلاثين سنة من إمارته، وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة، وكانت أيامه أيام هدوّ وسكون. وكثرت الأموال عنده واتخذ القصور والمنتزهات وجلب إليها الماء، وجعل له مصنعا اتخذه الناس شريعة. وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه، فأتمه ابنه محمد بعده. وبني بالأندلس جوامع كثيرة ورتّب رسوم المملكة، واحتجب عن العامّة. ولما مات ولي مكانه ابنه محمد، فبعث لأوّل ولايته العساكر مع أخيه الحكم إلى قلعة رباح لإصلاح أسوارها، وكان أهل طليطلة خرّبوها فرمّها وأصلح حالها، وتقدّم إلى طليطلة فعاث في نواحيها. ثم بعث الجيوش مع موسى بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة والقلاع، وفتح بعض حصونها ورجع، وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها فعاثوا فيها، وفتحوا حصون برشلونة ورجعوا. ثم سار محمد سنة أربعين في جيوشه إلى طليطلة فاستمدّوا ملك جليقة وملك البشكنس فساروا لإنجادهم مع أهل طليطلة فلقيهم الأمير محمد على وادي سليط وقد أكمن لهم فأوقع بهم، وبلغ عدّة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا. ثم سار إليهم سنة ثلاث وأربعين فأوقع بهم ثانية وأثخن فيهم وخرّب ضياعهم، فصالحوه ثم نكثوا.
وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس، ونزلوا بأشبيليّة والجزيرة وأحرقوا مسجدها. ثم عادوا إلى تدمير ودخلوا قصر أريولة، وساروا إلى سواحل الفرنجة وعاثوا فيها، وانصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين، واستشهد جماعة من المسلمين. ومضت مراكب المشركين إلى ينبلونة، وأسروا صاحبها غرسية وفدّى نفسه منهم بسبعين ألف دينار. وفي سنة سبع وأربعين حاصر طليطلة ثلاثين يوما. ثم بعث الأمير محمد سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها، وجمع لزريق للقائهم فلقيهم وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر، وكان فتحا لا كفاء له. ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة فأثخن وخرّب، وانتقض عليه عبد الرحمن بن مروان الجليقي فيمن معه من المولّدين، وساروا إلى التخم، ووصل يده باذفونش ملك(4/167)
جليقة فسار إلى الوزير هاشم بن عبد الرحمن في عساكر الأندلس سنة ثلاث وستين فهزمه عبد الرحمن وحصل هاشم في أسره. ثم وقعت المراودة في الصلح على أن ينزل عبد الرحمن بطليوس [1] ويطلق الوزير هاشما فتم ذلك سنة خمس وستين، ونزل عبد الرحمن بطليوس وكانت خربة فشيّدها وأطلق هاشما بعد سنتين ونصف من أمره. ثم تغيّر أذفونش لعبد الرحمن بن مروان وفارقه، وخرج من دار الحرب بعد أن قاتله ونزل مدينة أنطانية بجهات ماردة وهي خراب فحصّنها، وملك ما إليها من بلاد أليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس، وكان مظفر بن موسى بن ذي النون الهواري عاملا بشنت بريّة فانتقض وأغار على أهل طليطلة فخرجوا إليه في عشرين ألفا، ولقيهم فهزمهم وانهزم معهم مطرّف بن عبد الرحمن، وقتل من أهل طليطلة خلق، وكان مطرّف بن موسى فردا في الشجاعة ومحلا من النسب ولقي شنجة صاحب ينبلونة أمير البشكنس فهزمه شنجة وأسره، وفرّ من الأسر ورجع إلى شنت بريّة فلم يزل بها قويم الطاعة إلى أن مات آخر دولة الأمير محمد. وفي سنة إحدى وستين انتقض أسد بن الحرث بن بديع بتاكرنا [2] وهي رندة فبعث إليهم الأمير محمد العساكر وحاصروهم حتى استقاموا على الطاعة. وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب وجعل طريقه على ماردة، وكان بها ابن مروان الجليقي، ومرّت طائفة من عسكر المنذر بماردة فخرج عليهم ابن مروان ومعه جمع من المشركين استظهر بهم، فقتل تلك الطائفة عن آخرهم. وفي سنة أربع وستين بعث ابنه المنذر ثانية إلى بلد ينبلونة، ومر بسرقسطة فقاتل أهلها، ثم تقدّم إلى تطيلة وعاث في نواحيها وخرّب بلاد بني موسى. ثم مضى لوجهه إلى ينبلونة فدوّخها ورجع. وفي سنة ست وستين أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بنهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط، ويأتي جليقة من ورائها، فلما تمّ إنشاؤها وجرت في البحر، أصابها الريح وتقطّعت فلم يسلم منها إلا القليل. وفي سنة سبع وستين ومائتين انتقض عمر بن حفصون بحصن يشتر من جبال مالقة وزحف إليه عساكر تلك الناحية فهزمهم، وقوى أمره وجاءت عساكر الأمير محمد فصالحهم ابن حفصون واستقام أمر الناحية. وفي سنة ثمان وستين بعث الأمير محمد ابنه المنذر لقتال أهل الخلاف
__________
[1] مدينة كبيرة بالأندلس من اعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة.
[2] هي تاكرني: وهي كورة كبيرة بالأندلس ذات جبال حصينة، يخرج منها عدة انهار ولا تدخلها، وفيها معقل رندة.(4/168)
فقصد سرقسطة وحاصرها وعاث في نواحيها، وفتح حصن ريطة. ثم تقدّم إلى دير بروجة، وفيه محمد بن لبّ بن موسى [1] . ثم قصد مدينة لاردة وقرطاجنة، ثم دخل دار الحرب وعاث في نواحي ألبة والقلاع وفتح منها حصونا ورجع. وفي سنة سبعين سار هاشم بن عبد العزيز بالعساكر لحصار عمر بن حفصون بحصن يشتر واستنزله إلى قرطبة فأقام بها، وفيها شرع إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لاردة، فجمع صاحب برشلونة لمنعه من ذلك، وسار إليه فهزمه إسماعيل وقتل أكثر رجاله. وفي سنة إحدى وسبعين سار هاشم بن عبد العزيز في العساكر إلى سرقسطة فحاصرها هاشم وافتتحها، ونزلوا جميعا على حكمه. وكان في عسكره عمر بن حفصون واستدعاه من الثغر فحضر معه هذه الغزاة فهرب ولحق بيشتر فامتنع به، وسار هاشم إلى عبد الرحمن بن مروان الجلّيقيّ وحاصره بحصن منت مولن، ثم رجع عنه فأغار ابن مروان على إشبيليّة ولقبت [2] . ثم نزل منت شلوط فامتنع فيه، وصالح عليه الأمير محمدا، واستقام على طاعته إلى أن هلك الأمير محمد. وكان ملك رومة والفرنجة لعهده اسمه فرلبيب بن لوزنيق.
(وفاة الأمير محمد وولاية ابنه المنذر)
ثم توفي الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في شهر صفر من سنة ثلاث وسبعين ومائتين لخمس وثلاثين سنة من إمارته، وولي بعده ابنه المنذر فقتل لأوّل ولايته هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه، وسار في العساكر لحصار ابن حفصون فحاصره بحصن يشتر سنة أربع وسبعين، وافتتح جميع قلاعه وحصونه وكان منها ريّة وهم مالقة، وقبض على واليها من قبله عيشون فقتله، ولما اشتدّ الحصار على ابن حفصون سأل الصلح فأجابه وأفرج عنه، فنكث فرجع لحصاره وصالح ثم نكث مرتين فأقام المنذر على حصاره وهلك قريبا فانفرج عن ابن حفصون.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 369 بعض الاختلاف في الأسماء «وافتتح حصن روطة، فأخذ منه عبد الواحد الروطيّ، وهو من أشجع أهل زمانه، وتقدّم الى دير تروجة، وبلد محمد بن مركب بن موسى» .
[2] هي لقنت: حصنان من اعمال لاردة بالأندلس، لقنت الكبرى ولقنت الصغرى وكل واحدة تنظر الى صاحبتها. «معجم البلدان»(4/169)
(وفاة المنذر وولاية أخيه عبد الله ابن الأمير محمد)
ثم توفي المنذر محاصرا لابن حفصون بجبل يشتر سنة خمس وسبعين ومائتين لسنتين من إمارته [1] فولي مكانه أخوه عبد الله ابن الأمير محمد، وقفل بالعساكر إلى قرطبة وقد اضطربت نواحي الأندلس بالثّوار، ولما كثر الثّوار قلّ الخراج لامتناع أهل النواحي من الأداء وكان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار، مائة ألف منها للجيوش، ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض، ومائة ألف ذخيرة ووفرا فأنفقوا الوفر في تلك السنين وقل الخراج.
(أخبار الثوار وأوّلهم ابن مروان ببطليوس واشبونة)
قد تقدّم لنا أن عبد الرحمن بن مروان انتقض على الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة خمس وخمسين في غزاته إلى بلاد الجلالقة، واجتمع إليه المولّدون وصار إلى تخم، ووصل يده بأذفونش ملك الجلالقة فعرف لذلك بالجلّيقي. وذكرنا كيف سار إليه هاشم بن عبد العزيز سنة ثلاث وستين في عساكر الأندلس فهزمه ابن مروان وأسره.
ثم وقع الصلح على إطلاق هاشم وأن ينزل ابن مروان بطليوس، فتمّ ذلك سنة خمس وثلاثمائة ونزل عبد الرحمن بطليوس فشيّدها وترّس بالدولتين. ثم تغيّر به أذفونش وقاتله ففارق دار الحرب، ونزل مدينة أنطانية بجهات ماردة فحصّنها وهي خراب، وملك ما إليها من بلد أليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس، واستعجل له الأمير عبد الله على بطليوس، وكان معه بدار الحرب سعدون السرساقي، وكان من الأبطال الشجعان، وكان دليلا للغزو وهو من الخارجين معه.
فلما نزل عبد الرحمن بطليوس انتزى سعدون ببعض الحصون ما بين قلنيرة [2]
__________
[1] استمر المنذر بالحكم حوالي سنة واحدة وأحد عشر شهرا وعشرة أيام وكان عمره نحوا من ستّ وأربعين سنة (ابن الأثير ج 7 ص 435)
[2] لعلها قلنّة: بلد في الأندلس (معجم البلدان)(4/170)
وباجة [1] . ثم ملك قلنيرة وترس [2] بأهل الدولتين إلى أن قتله أذفونش في بعض حروبه معه.
(ابن تاكيت بماردة)
كان محمد بن تاكيت من مصمودة، وثار بناحية الثغر أيام الأمير محمد، وزحف إلى ماردة وبها يومئذ جند من العرب وكتامة، فأعمل الحيلة في إخراجهم منها، ونزلها هو وقومه مصمودة.
(بقية خبر ابن مروان)
ولما ملك ابن تاكيت ماردة زحفت إليه العساكر من قرطبة، وجاء عبد الرحمن بن مروان من بطليوس مددا له فحاصروهم أشهرا ثم أقلعوا. وكان بماردة جموع من العرب ومصمودة وكتامة، فتحيّل محمد بن تاكيت على العرب وكتامة وأقاربهم فأخرجهم واستقل بماردة هو وقومه، وعظمت الفتنة بينه وبين عبد الرحمن بن مروان صاحب بطليوس بسبب مظاهرته عليه، وحاربه فهزمه ابن مروان مرارا كانت إحداها على لقنت، استلحم فيها مصمودة فقصّت من جناح ابن تاكيت واستجاش بسعدون السرساقي صاحب قلنيرة فلم يغنه، وعلا كعب بن مروان عليهم وتوتّق أمره، وطلبه ابن حفصون في الولاية فامتنع ثم هلك اثر ذلك سنة [3] أيام الأمير عبد الله، وولي ابنه عبد الرحمن بن مروان وأثخن في البرابرة المجاورين له وهلك لشهرين من ولايته، فعقد الأمير عبد الله على بطليوس لأميرين من العرب، ولحق من بقي من ولد عبد الرحمن بحصن شونة، وكانا اثنين من أعقابه، وهما مروان
__________
[1] باحة في خمسة مواضع والمقصودة هنا باجة الأندلس. (معجم البلدان)
[2] لعلها ترّسة من قرى آليش من أعمال طليطلة بالأندلس (معجم البلدان)
[3] هكذا بياض بالأصل، ولم نتوصل الى تحديد سنة وفاته ويعود ابن خلدون فيذكر سنة مهلكه سنة ست وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من ثورته. وذلك تحت عنوان «ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس» .(4/171)
وعبد الله ابنا ابنه محمد، وعمّهما مروان. ثم خرجا من حصن شونة ولحقا بآخر من أصحاب جدّهما عبد الرحمن. ثم اضطرب الأميران ببطليوس وتنازعا وقتل أحدهما الآخر، واستقل ببطليوس، ثم تسوّر عبد الله منها سنة ست وثماني فقتله وملك بطليوس، واستفحل أمره والمعجّل له الأمير عبد الله عليها ونازل حصون البرابرة حتى طاعوا له، وحارب ابن تاكيت صاحب ماردة ثم اصطلحوا وأقاموا جميعا طاعة الأمير عبد الله. ثم تحاربوا فاتصلت حروبهم إلى آخر دولته.
(ثورة لب بن محمد بسرقسطة وتطيلة)
ثم ثار لبّ بن محمد بن لبّ بن موسى بسرقسطة سنة ثمان وخمسين ومائتين أيام الأمير محمد فتردّدت إليه الغزوات حتى استقام وأسجل [1] له الأمير محمد على سرقسطة وتطيلة وطرسونة فأحسن حمايتها، واستفحلت إمارته فيها، ونازلة ملك الجلالقة أذفونش في بعض الأيام بطرسونة، فنزل إليه وردّه على عقبه منهزما وقتل نحوا من ثلاثة آلاف من قومه وانتقض على الأمير عبد الله وحاصر تطيلة.
(ثورة مطرف بن موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية)
كان لمطرف صيت من الشجاعة ومحل من النسب والعصبيّة، فثار في شنت بريّة، وكانت بينه وبين صاحب ينبلونة سلطان البشكنس من الجلالقة حروب أسره العدوّ في بعضها ففرّ من الأسر ورجع إلى شنت بريّة، واستقامت طاعته إلى آخر دولة الأمير محمد.
(ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس)
وهو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس
__________
[1] بمعنى عقد له(4/172)
هكذا نسبه ابن حيان أوّل ثائر كان بالأندلس، وهو الّذي افتتح الخلاف بها وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن في سني السبعين والمائتين. خرج بجبل يشتر من ناحية ريّة ومالقة، وانضم إليه الكثير من جند الأندلس ممن في قلبه مرض في الطاعة. وابتنى قلعته المعروفة به هنالك، واستولى على غرب الأندلس إلى رندة وعلى السواحل من الثجة إلى البيرة، وزحف إليه هاشم بن عبد العزيز الوزير فحاصره واستنزله إلى قرطبة سنة سبعين. ثم هرب ورجع إلى حصن يشتر، ولما توفي الأمير محمد تغلب على حصن الحامة وريّة ورندة والثجة، وغزاه المنذر سنة أربع وسبعين فافتتح جميع قلاعه وقتل عامله بريّة، ثم سأل الصلح فعقد له المنذر. ثم نكث ابن حفصون وعاد إلى الخلاف فحاصره المنذر إلى أن هلك محاصرا له فرجع عنه الأمير عبد الله، واستفحل أمر بن حفصون والثّوار وتوالت عليه الغزوات والحصار. وكاتب ابن الأغلب صاحب إفريقية وهاداه وأظهر دعوة العبّاسية بالأندلس فيما إليه وتثاقل ابن الأغلب على إجابته لاضطراب إفريقية، فأمسك وأكثر الأجلاب على قرطبة وبنى حصن بلايد قريبا منها، وغزاه عبد الله وافتتح بلاية والثجة. ثم قصده في حصنه فحاصره أياما وانصرف عنه فاتبعه ابن حفصون فكرّ عليه الأمير عبد الله وهزمه وأثخن فيه، وافتتح البيرة من أعماله. ووالى عليه الحصار في كل سنة، فلما كانت وثمانين [1] عمر بن حفصون وخالص ملك الجلالقة فنبذ إليه أمراؤه بالحصون عهده، وسار الوزير أحمد بن أبي عبيدة لحصاره في العساكر فاستنجد بإبراهيم بن حجّاج الثائر بأشبيليّة، ولقياه فهزمهما وراجع ابن حجّاج الطاعة، وعقد له الأمير عبد الله على إشبيليّة، وبعث ابن حفصون بطاعته للشيعة عند ما تغلّبوا على القيروان من يد الأغالبة، وأظهر بالأندلس، دعوة عبيد الله. ثم راجع طاعة بني أمية عند ما هيأ الله للناصر ما هيأه من استفحال الملك، واستنزال الثوار، واستقام إلى أن هلك سنة ست وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من ثورته. وقام مكانه ابنه جعفر فأقرّه الناصر على أعماله. ثم دسّ إليه أخوه سليمان بن عمر بعض
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي كتاب الاحاطة في تاريخ غرناطة ص 117: «وموقعه بالاي الشهيرة في تاريخ الأندلس، وهي الموقعة التي هزم فيها الأمير عبد الله صاحب الأندلس قوات الثائر ابن حفصون سنة 287 هـ (891 م) »(4/173)
رجالاتهم فقتله لسنتين أو ثلاثة من ولايته. وكان مع الناصر فسار إلى أهل يشتر وملكوه مكان أخيه، وذلك سنة ثمان وثلاثمائة، وخاطب الناصر فعقد له كما كان أخوه، ثم نكث وتكرر إنكاثه ورجوعه. ثم بعث إليه الناصر وزيره عبد الحميد بن سبيل بالعساكر، ولقيه فهزمه وقتله وجيء برأسه إلى قرطبة. وقدّم المولّدون أخاه حفص بن عمر فانتكث ومضى على العصيان، وغزاه الناصر وجهّز العساكر لحصاره حتى استأمن له، ونزل إلى قرطبة بعد سنة من ولايته. وخرج الناصر إلى يشتر فدخله وجال في أقطاره ورفع أشلاء عمرو ابنه جعفر وسليمان فصلبهم بقرطبة، وخرّب جميع الكنائس التي كانت في الحصون التي بنواحي ريّة وأعمال مالقة ثلاثين حصنا فأكثر، وانقرض أمر بني حفصون وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة والبقاء للَّه.
(ثوّار اشبيلية المتعاقبون)
ابن أبي عبيدة وابن خلدون وابن حجاج وابن مسلمة. وأوّل الثوّار كان بإشبيليّة أميّة ابن عبد الله المغافر بن أبي عبيدة، وكان جدّه أبو عبدة عاملا عليها من قبل عبد الرحمن الداخل. قال ابن سعيد ونقله عن مؤرّخي الأندلس: الحجازي ومحمد بن الأشعث، وابن حيّان قال: لما اضطربت الأندلس بالفتن أيام الأمير عبد الله وسما رؤساء البلاد إلى التغلّب، وكان رؤساء إشبيليّة المرشّحون لهذا الشأن أميّة بن عبد الغافر، وكليب بن خلدون الحضرميّ، وأخوه خالد وعبد الله بن حجّاج. وكان الأمير عبد الله قد بعث على إشبيلية ابنه محمدا، وهو أبو الناصر والنفر المذكورون يحومون على الاستبداد، فثاروا بمحمد ابن الأمير عبد الله، وحصروه في القصر مع أمّه وانصرف ناجيا إلى أبيه. ثم استبد أمية بولايتها على مداراتهم ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، فقام أخوه إبراهيم مكانه فثاروا به وحاصروه في القصر، ولما أحيط به خرج إليهم مستميتا بعد أن قتل أهله وأتلف موجودة فقتل، وعاثت العامّة برأسه وذلك أعوام الثمانين والثلاثمائة. وكتب ابن خلدون وأصحابه بذلك إلى الأمير عبد الله، وأن أميّة خلع وقتل فتقبل منهم للضرورة، وبعث عليهم عمّه هشام بن عبد(4/174)
الرحمن، واستبدوا عليه وتولى كبر ذلك [1] كريب بن خلدون، واستبدّ عليهم بالرياسة. قال ابن حيان: ونسبهم في حضر موت وهم بأشبيليّة نهاية في النباهة.
مقتسمين الرئاسة السلطانية والعلمية. وقال ابن حزم: إنهم من ولد وائل بن حجر، ونسبهم في كتاب الجمهرة، وكذلك قال ابن حيان في بني حجّاج. قال الحجازي: ولما قتل عبد الله بن حجّاج قام أخوه إبراهيم مقامه، وظاهر بني خلدون على قتل أمية وأنزل نفسه منهم منزلة الخديم. واستبدّ كريب وعسف أهل إشبيلية فنفر عنه الناس وتمكن لإبراهيم الغرض، وصار يظهر الرّفق كلما أظهر كريب الغلظة، وينزل نفسه منزلة الشفيع والملاطف. ثم دسّ للأمير عبد الله بطلب الولاية ليشتدّ بكتابه على كريب بن خلدون، وكتب له بذلك عهده فأظهره للعامّة وثاروا جميعا بكريب فقتلوه. واستقام إبراهيم بن حجّاج على الطاعة للأمير عبد الله وحصن مدينة قرمونة [2] ، وجعل فيها مرتبط خيوله، وكان يتردّد ما بينها وبين إشبيلية. وهلك ابن حجّاج واستبد ابن مسلمة بمكانه. ثم استقرّت إشبيلية آخرا بيد الحجّاج بن مسلمة وقرمونة بيد محمد بن إبراهيم بن حجّاج، وعقد له الناصر. ثم انتقض وبعث له الناصر بالعساكر، وجاء ابن حفصون لمظاهرة ابن مسلمة فهزمته العساكر، وبعث ابنه شفيعا فلم يشفعه فبعث ابن مسلمة بعض أصحابه سرّا، فداخل الناصر في المكر به وعقد له. وجاء بالعساكر وخرج ابن مسلمة للحديث معه فغدروا به وملكوا عليه أمره، وحملوه إلى قرطبة. ونزل عامل السلطان إشبيلية، وكان من الثوّار على الأمير عبد الله قريبه، وغدر به أصحابه فقتل.
(مقتل الأمير محمد ابن الأمير عبد الله ثم مقتل أخيه المطرف)
كان المطرّف قد أكثر السعاية في أخيه محمد عند أبيهما، حتى إذا تمكنت سعايته وظهر سخطه على ابنه محمد لحق حينئذ ببلد ابن حفصون. ثم استأمن ورجع وبالغ المطرّف في السعاية إلى أن حسه أبوه ببعض حجر القصر، وخرج لبعض غزواته واستخلف
__________
[1] بمعنى تولى شرف ذلك
[2] هي قرمونية: كورة بالأندلس يتصل عمله بأعمال إشبيلية غربي قرطبة وشرقي إشبيلية. (معجم البلدان)(4/175)
ابنه المطرّف على قصره، فقتل أخاه في محبسه مفتاتا [1] بذلك على أبيه، وحزن الأمير عبد الله على ابنه محمد، وضم ابنه عبد الرحمن إلى قصره وهو ابن يوم فربي مع ولده. ثم بعث الأمير عبد الله ابنه المطرّف بالصائفة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، ومعه الوزير عبد الملك بن أمية ففتك المطرّف بالوزير لعداوة بينهما، وسطا [2] به أبوه الأمير عبد الله وقتله أشرّ قتله ثأر فيها منه بأخيه محمد وبالوزير. وعقد مكان الوزير لابنه أميّة فسنح على الفقراء [3] بأنفه، وترفّع على الوزراء فمقتوه وسعوا فيه عند الأمير عبد الله بأنه بايع جماعة من سماسرة الشرّ لأخيه هشام بن محمد، ولفّقت بذلك شهادات اعتمد القاضي حينئذ قبولها [4] للساعين أن يجعلوا في الجماعة للمشهود عليهم بالبيعة بعض أعدائه فتمّت الحيلة، وقتل هشام أميّة الوزير وذلك سنة أربع وثمانين.
(وفاة الأمير عبد الله بن محمد وولاية حافده عبد الرحمن الناصر بن محمد)
ثم توفي الأمير عبد الله في شهر ربيع الأوّل من آخر المائة الثالثة لست وعشرين سنة من إمارته، وولي حافده عبد الرحمن ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرّف، وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شابا وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون فتصدّى إليها وحازها دونهم، ووجد الأندلس مضطربة فسكنها، وقاتل المخالفين حتى أذعنوا واستنزل الثّوار ومحا أثر ابن حفصون كبيرهم، وحمل أهل طليطلة على الطاعة، وكانوا معروفين بالخلاف والانتقاض. واستقامت الأندلس وسائر جهاتها في نيّف وعشرين سنة من أيامه. ودامت أيامه نحوا من خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك النواحي، وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين عند ما تلاشى أمر الخلافة بالمشرق، واستبدّ موالي الترك على بني العبّاس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفّر مولاه سنة سبع
__________
[1] بمعنى مستبدا برأيه
[2] بمعنى فتك
[3] سنح على الناس: أصابهم بشرّ
[4] هكذا بالأصل ولم نهتد الى تصويب العبارة ولكن الضمير في أخيه يعود الى الأمير عبد الله لأن هشام بن محمد هو اخوه فكيف قتل هشام أمية بعد ذلك وهو الّذي بايع له؟.(4/176)
وعشرين وثلاثمائة فتلقّب بألقاب الخلفاء، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب إلى أن انهزم عام الخندق سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ومحص الله المسلمين فقعد عن الغزو بنفسه، وصار يردّد الصوائف في كل سنة، فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الفرنج ما لم يطأه قبل في أيام سلفه، ومدّت إليه أمم النصرانيّة من وراء الدروب يد الإذعان، وأوفدوا إليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاحتمال فيما يعنّ من مرضاته. ووصل إلى سدنة ملوك الجلالقة من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين، كجهات قشتالة وينبلونة وما إليها من الثغور الجوفية، فقبّلوا يده والتمسوا رضاه، واحتقبوا جوائزه وامتطوا مركبه. ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة البربر، وأجاز إليه الكثير منهم كما نذكر في أخباره وبدء أمره لأوّل ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا، واستحجب موسى بن محمد بن يحيى، واستوزر عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر، وأحمد بن عبد الملك بن سعد وأهدى له هديته المشهورة المتعددة الأصناف. ذكرها ابن حيان وغيره، وهي مما نقل من ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها، وهي خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين، وأربعمائة رطل من التبر ومصارفه خمسة وأربعون ألف دينار. ومن سبائك الفضّة مائتا بدرة واثنا عشر رطلا من العود الهندي يختم عليه كالشمع، ومائة وثمانون رطلا من العود الصمغي المتخير، ومائة رطل من العود الشبه المنقّى. ومائة أوقية من المسك الذكي المفضّل في جنسه، وخمسمائة أوقية من العنبر الأشهب المفضّل في جنسه على خليقته من غير صناعة ومنها قطعة ململمة عجيبة الشكل، وزن مائة أوقية، وثلاثمائة أوقية من الكافور المترفّع الذكاء، ومن اللباس ثلاثون شقة من الحرير المختم المرقوم بالذهب للباس الخلفاء، مختلفة الألوان والصنائع، وعشرة أفرية [1] من عالي جلود الفنك الخراسانية، وستة من السرادقات العراقية، وثمان وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب، وثلاثون شقة الغريون من الملاحف لسروج الهبات، وعشرة قناطير من السمور فيها مائة جلد، وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول، وألف رطل من الحرير المنتقى للاستغزال،
__________
[1] ج فرو ابن خلدون م 12 ج 4(4/177)
وثلاثون بساطا من الصوف، وعشر مائة منقاة مختلفة، ومائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة، وخمسة عشر من نخاخ الخزّ المقطوع شطرها. ومن السلاح والعدة ثمانمائة من تخافيف الزينة أيام البروز والمواكب، وألف ترس سلطانية، ومائة ألف سهم من النبال البارعة الصنعة، ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيّرة لركاب السلطان فائقة النعوت، وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة بمراكب خلافية، ولجم بغال مجالس سروجها خزّ جعفري عراقيّ، ومائة فرس من عتاق الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات، ومن الرقيق أربعون وصيفا، وعشرون جارية متخيرات بكسوتهنّ وزينتهنّ، ومن سائر الأصناف ومن الصخر سيات ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار. وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقدمه، قيمته خمسون ألف دينار. وعرضت الهدية على الناصر سنة سبع وعشرين فشكرها وحسن لديه موقعها.
(سطوة الناصر بأخيه القاضي ابن محمد)
كان محمد بن عبد الجبّار ابن الأمير محمد، وعبد الجبّار هو عمّ أبي الناصر قد سعى عنده في أخيه القاضي ابن محمد، وأنه يريد الخلاف والبيعة لنفسه. وسعى القاضي في محمد بن عبد الجبّار وأنه يروم الانتقاض، واستطلع على الجليّ من أمرهما وتحقّق نقضهما فقتلهما سنة ثمان وثلاثمائة.
(سطوة الناصر ببني إسحاق المروانيين)
وهو إسحاق بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن إبراهيم بن عبد الملك بن مروان، دخل جدّهم أوّل الدولة ولن يزالوا في إكرام وعزّ، واستقرّت الرئاسة في إسحاق، وسكن إشبيلية أيام الفتنة عند ابن حجّاج. ثم هلك ابن حجّاج وولي ابن مسلمة فاتهمه، وقبض عليه وعلى ولده وصهره يحيى بن حكم بن هشام بن خالد بن أبان بن خالد بن عبد الله بن عبد الملك بن الحرث بن مروان فقتل الولد والصهر.(4/178)
وكان عنده سفير لابن حفصون فشفع في الشيخ إسحاق وولده أحمد. ثم ملك الناصر إشبيلية من يد ابن مسلمة، فرحل إسحاق إلى قرطبة واستوزره الناصر واستوزر بنيه أحمد وابنه ومحمد وعبد الله ففتحوا الفتوحات، وكفوا المهمات، وعلت مقاديرهم في الدولة. وتوفي أبوهم إسحاق فورثوا مكانه في كل رفيعة. ثم هلك كبيرهم عبد الله وكان مقدمهم عند الناصر، واستوزره ثم اتهمه الناصر بالخلاف وكثرت فيهم السعايات، وصاروا في مجال الظنون فسطا بهم الناصر وغرّبهم في النواحي، فانزوى أمية منهم في تسترين سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وخلع الطاعة وقصده الناصر في العساكر فدخل دار الحرب وأجاره رزمير ملك الجلالقة. ثم تغيّر له فجاء إلى الناصر من غير عهد وعفا عنه وبقي في غمار الناس إلى أن هلك. وأمّا أحمد فعزل عن سرقسطة لما نكب أبوه وبقي خاملا مغضيا. ثم تكاثرت السعاية فيه فقتل. وأمّا أحمد فبقي في جملة الناصر حتى إذا تحرّك إلى سرقسطة نمي عنه، ففرّ ولقي في مفرّه جماعة من أهل سرقسطة فقتلوه.
(أخبار الناصر مع الثوّار)
كان أوّل فتحه أبيح له أسجه [1] بعث إليها بدرا مولاه وحاجبه فافتتحها من يد ابن حفصون سنة ثلاثمائة، وغزا في أثرها بنفسه فافتتح أكثر من ثلاثين حصنا من يد ابن حفصون منها البيرة، ودوّخ سائر أقطاره وضيّق مخنقه بالحصار، واستنزل سعيد بن مزيل من حصن المنتلون وحصن سمنان. وفي سنة إحدى وثلاثمائة ملك إشبيلية من يد احمد بن مسلمة كما ذكرناه. ثم سار سنة اثنتين وثلاثمائة في العساكر فنازل حصون ابن حفصون وانتهى إلى الجزيرة الخضراء، وضبط البحر ونظر في أساطيله واستكثر منها، ومنع ابن حفصون من البحر، وسأله في الصلح على لسان يحيى بن إسحاق المرواني فعقد له. ثم أغزى إسحاق بن محمد القرشيّ إلى الثوار بمرسية وبلنسية فأثخن في نواحيها، وفتح أريولة وأغزى بدرا مولاه إلى مدينة ليلة، فاستنزل منها عثمان بن نصر الثائر بها وساقه مقيّدا إلى قرطبة، ثم أغزى إسحاق بن محمد سنة خمس وثلاثمائة مدينة
__________
[1] لعلها استجة: اسم لكورة بالأندلس متصلة بأعمال ريّة بين القبلة والمغرب من قرطبة (معجم البلدان) .(4/179)
قرمونة فملكها من يد حبيب بن سواره، كان ثائرا بها. وفتح حصن ستمرية سنة ست، وحصن طرش سنة تسع، وأطاعه أحمد بن أضحى الهمدانيّ الثائر. بحصن الجامة، ورهن ابنه على الطاعة، وغزا ابن حفصون سنة أربع عشرة فردته العساكر المجمّرة لحصاره، ورجع وبعث إليه حفص يستأمنه فأمّنه، وجاء إلى قرطبة وملك الناصر يشتركما مرّ. ثم انتقض سنة خمس وعشرين أميّة بن إسحاق في تسترين، وقد مرّ ذكر أوّليته ومحمد بن هشام التجيبي في سرقسطة، ومطرّف بن مندف التجيبي في قلعة أيوب فغزاهم الناصر بنفسه، وبدأ بقلعة أيوب فحاصرها وقتل مطرّف في أوّل جولة عليها، وقتل معه يونس بن عبد العزيز، ولجأ أخوه إلى القصبة حتى استأمن وعفا عنه، وقتل من كان معهم من النصرانية أهل ألبة وافتتح ثلاثين من حصونهم، وبلغه انتقاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة، ودوّخ أرضها واستباحها ورجع. ثم غزا سنة سبع وعشرين [وثلاثمائة غزوة الخندق إلى جليّقة فانهزم، وأصيبت فيها المسلمون وأسر محمد بن هاشم التجيبي، وحاول الناصر إطلاقه فأطلق بعد سنتين وثلاثة أشهر. وقعد الناصر بعدها عن الغزو بنفسه وصار يردّد البعوث والصوائف. وثار سنة ثلاث وأربعين بجهات ماردة ثائر وتوجهت إليه العساكر فجاءوا به وبأصحابه ومثّل بهم وقتلوا.
(أخبار طليطلة ورجوعها الى الطاعة)
قال ابن حيان اختطها دير نيقيوش الجبار، وكان قوّاد رومة ينزلونها دار ملك، ثم ثار بها برباط من نجدانية فملكها، واختلف قوّاد رومة على حصاره. ثم وثب به بعض أصحابه فقتله وملكها. ثم قتل ورجعت إلى قوّاد رومة، ثم انتقض أهلها وولّوا أميرا منهم اسمه أنيش. ثم قتل ورجعت إلى قوّاد رومة، وقام أوّلهم شنتيلة، وأطاعه أهل الأندلس، وامتنع على ملوك رومة. ثم غزاهم وحاصر رومة وفتح كثيرا من بلادها، ورجع إلى طليطلة، وثار عليه البشكنس فظهر عليهم وأوقع بهم، ولحقوا بالجبال، وهلك شنتيلة بعد تسع، وملك مكانه على الغوط بسيلة ست سنين، ولم يغن فيها.
ثم ولي منهم حندس، وغزا إفريقية، وولي بعده قتبان، وبنى الكنائس وبلغه خبر المبعث فقال له بليان، وكان من أكابر الغوط وأعاظمهم: وجدت في كتاب(4/180)
مطريوس العالم عن دانيال النبيّ أنهم يملكون الأندلس. ثم هلك فتبادر وملك ابنه ست عشرة سنة، وكان سيّئ السيرة. وولي بعده لزريق [1] ثم لم تزل طليطلة دار فتنة وعصبية ومنعة، أتعبت عبد الرحمن الداخل سبع سنين، وانتقضت على هشام والحكم وعلى عبد الرحمن الأوسط، إلى أن جاء الناصر فأدخلهم في الطاعة كرها لما أكمل فتح ماردة وبطليوس وتسترين، سار إليهم في العساكر وحاصرهم، وجاء الطاغية يظاهرهم فدافعه الناصر، وجثم عليها فخرج أميرهم ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث إلى الناصر فاستقال واستأمن فأمّنه وعفا عنه، ودخلها الناصر وجال في أقطارها ورجع عنها، فلم يزالوا مستقيمين على الطاعة بعد.
(أخبار الناصر مع أهل العدوة)
ثم سما للناصر أمل في ملك عدوة البربر من بلاد المغرب، فافتتح أمره بملك سبتة من بني عصام ولاتها، واستدعى أمراء البربر بالعدوة، وبلغ الخبر إبراهيم بن محمد أمير بني إدريس فبادر إلى سبتة، وحاصرها أنفة من عبور الناصر إليهم. ثم استقال وكاتب الناصر بالولاية. وأمّا إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول من الأدارسة فبادر بولاية الناصر، وكاتبه وأهدى إليه، وتقبل أثره في ذلك محمد بن خزر أمير مغراوة، وموسى بن أبي العافية أمير مكناسة، وهو يومئذ صاحب المغرب بعد أن ملك قواعد المغرب الأوسط، وهي تنس ووهران وشرشال والبطحاء. وأهدوا إلى الناصر فقبل وكافأهم وأحكم ولايتهم، وبادر جماعة من الأدارسة إلى مثل ذلك منهم: القاسم ابن إبراهيم والحسن بن عيسى، وأهدى صاحب فاس هدية عظيمة وعقد له الناصر على أهل بيته. ولما فشت دعوة الناصر في المغرب الأقصى بعث عبيد الله المهدي قائده أن يصل أمير مكناسة، وعامل تاهرت فزحف في العساكر إلى المغرب سنة إحدى وعشرين، وكتب موسى بن أبي العافية إلى الناصر يستنجده، فأخرج إليه قاسم بن طملس في العساكر، ومعه الأسطول فوصل إلى سبتة وبلغه الخبر بأنّ موسى بن أبي العافية هزم عساكر حميد فأقصر ورجع حسبما هو مذكور في أخبارهم.
__________
[1] اسمه ردريق القنبيطور drigoelcompeador وهو صاحب الاسطورة التي بنى عليها الشاعر الفرنسي كورني مسرحيته الشهيرة «السيد (تاريخ الشعوب الإسلامية ص 321 كارل بروكلمان)(4/181)
(أخبار الناصر مع الفرنجة والجلالقة)
وكان في أوّل المائة الرابعة ملك على الجلالقة أردون بن رذمير بن برمنذ بن قريولة بن اذفونش بن بيطر. وخرج سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الثغر الجوفي لأوّل ولاية ولاية الناصر، وعاث في جهات ماردة، وأخذ حصن الحنش، وبعث الناصر وزيره أحمد بن عبدة في العساكر إلى بلاده فدوّخها، ثم أغزاه ثانية سنة خمس فنكث وقتل. ثم أغزى بدرا مولاه فدوّخ ورجع. ثم غزا بنفسه بلاد جليّقة سنة ثمان واستنصر أردون بشانجة بن غرسية ملك البشكنس وصاحب بنبولة فهزمهم الناصر، ووطئ بلادهم وخرّبها، وفتح حصونهم وهدمها وردّد الغزو بعد ذلك في بلد غرسية إلى أن هلك أدفونش وولي بعده ابنه فرويلة. قال ابن حيان لما ملك فرويلة بن أردون بن رذمير ملك الجلالقة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ملك أخوه أدفونش ونازعه أخوه شانجة واستقل غرسية بليون من قواعد ملكهم، وظاهر أدفونش على أمره ابن أخيه وهو أدفونش بن فرويلة، وصهره شانجة فانهزموا وافترقت كلمتهم. ثم اجتمعوا ثانية وخلعوا شانجة وأخرجوه عن مدينة ليون ففرّ إلى قاصية جليّقة، وولّى أخاه رذمير بن أردون على ملكه بغربي جلّيقة إلى قلنسرية. وهلك شانجة إثر ذلك ولم يعقب.
واستقل أدفونش وخرج على أخيه رذمير وملك مدينة سنت ماذكش. ثم أكثروا عليه العذل في نزوعه عن الرهبانية فرجع إلى رهبانيته. ثم خرج ثانيا وملك مدينة ليون وكان رذمير أخوه غازيا إلى سمورة فرجع إليه وحاصره بها حتى اقتحمها عليه عنوة سنة عشرين وثلاثمائة فحسبه، ثم سمله في جماعة من ولد أبيه أردون خافهم على أمره.
وكان غرسية بن شانجة ملك البشكنس لما هلك قام بأمرهم بعده أخته طوطة وكفلت ولده. ثم انتقضت سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرّب نواحي بليونة وردّد عليها الغزوات. وفي أثناء هذه الغزوات نازل محمد بن هشام التجيبي سرقسطة حتى أطاع كما مرّ، وكذا أمية بن إسحاق في تسترين، وكان الناصر سنة اثنتين وعشرين قد غزا إلى وخشمة، واستدعى محمد بن هشام من سرقسطة فامتنع ورجع إليه، وافتتح حصونه وأخذ أخاه يحيى من حصن روطة. ثم رحل إلى ينبلونة فجاءته طوطة بنت أنثير بطاعتها وعقد لابنها غرسية بن شانجة على ينبلونة. ثم عدل إلى البلة(4/182)
وبسائطها فدوّخها وخرب حصونها. ثم اقتحم جلّيقة وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن اللقاء ودخل هو وحشمه فنازله الناصر فيها، وهدم برغث وكثيرا من معاقلهم، وهزمهم مرارا ورجع. ثم كانت بعدها غزوة الخندق ولم يغز الناصر بعدها بنفسه. وكان يردّد الصوائف وهابته أمم النصرانية ووفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب القسطنطينيّة وهديته وهو يومئذ قسنطين بن ليون بن شل، واحتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود، وكتب [1] فيه العساكر بالسلاح في أكمل هيئة وزيّ، وزيّن القصر الخلافيّ بأنواع الزينة وأصناف الستور، وجمّل السرير الخلافيّ بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة، ورتّب الوزراء والخدمة في مواقفهم، ودخل الرسل فهالهم ما رأوا وقربوا حتى أدّوا رسالتهم. وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل، ويعظّموا أمر الإسلام والخلافة، ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه، وذلّة عدوّه فاستعدّوا لذلك. ثم بهرهم هول المجلس فرجعوا وشرعوا في الغزل [2] فارتج عليهم، وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق، كان في جملة الحكم ولي العهد، وندبه لذلك استئثارا لفخره، فلمّا وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا رويّة ولا تقدّم له أحد في ذلك بشيء فخطب واستخفر، وجلا في ذلك القصد، وأنشد آخره شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع. وأعجب الناصر به وولّاه القضاء بعدها، وأصبح من رجالات العالم، وأخباره مشهورة وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرسل وبعث الناصر معهم هشام بن كليب الى الجاثليق ليجدّد الهدنة، ويؤكد المودّة، ويحسن الإجابة. ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء، وجاءت معه رسل قسنطين. ثم جاء رسل ملك الصقالبة وهو يومئذ هوتو، وآخر من ملك اللمان، وآخر من ملك الفرنجة وراء المغرب، وهو يومئذ أفوه وآخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق، وهو يومئذ كلدة. واحتفل السلطان لقدومهم وبعث مع رسل الصقالبة ريفا الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجعوا بعد سنتين. وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون بن رذمير وأبوه رذمير وهو الّذي سمل أخاه أدفونش وقد مرّ ذكره، بعث
__________
[1] بمعنى جعلها كتائب
[2] بمعنى المديح(4/183)
بخطب السلم فعقد له. ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فردلند بن عبد شلب قومس قشتيلية فردلند وقد مرّ ذكره، ومال إلى أردون بن رذمير كما ذكرناه.
وكان غرسية بن شانجة حافد الطوطة بنت أسنين ملكة البشكنس فامتعضت لحل حافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك، وأعانه حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوّه، وجاء ملك جلّيقة فردّ عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون، وبعث إلى الناصر يشكوه على فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك، وبما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة وعظيم قوامسه في نكثه، ووثوبه، ونفر بذلك عند الأمم ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك. ولما وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالمشرق كما تقدّم، وصل معه رسول مغيرة بن شبير ملك برشلونة وطركونة، راغبا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يطلب المودّة فأجيب.
(سطوة الناصر بابنه عبد الله)
كان الناصر قد وشحه [1] ابنه الحكم وجعله وليّ عهده وآثره على جميع ولده ودفع إليه كثيرا من التصرّف في دولته وكان أخوه عبد الله يساميه في الرتبة فغص لذلك وأغراه الحسد بالنكثة فنكث وداخل من في قلبه مرض من أهل الدولة فأجابوه، وكان منهم ياسر الفتى وغيره. ونمي الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجليّ فيه، وقبض على ابنه عبد الله وعلى ياسر الفتى وعلى جميع من داخلهم وقتلهم أجمعين سنة ثلاث وتسعين.
(مباني الناصر)
ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني والقصور، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد اختلفوا في ذلك، وبنوا قصورهم
__________
[1] من وشاح، بمعنى قلّده(4/184)
على أكمل الاتفاق والضخامة، وكان منها المجلس الزاهر، والبهو الكامل والقصر المنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم، وسمّاه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنّاءين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية. ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ مينا الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من أعلى الجبل على بعد المسافة. ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسيا لملكه، فأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما علا على مبانيهم الأولى واتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياح ومسارح الطيور ومظلّلة بالشباك واتخذ فيها دارا لصناعة آلات من آلات السلاح للحرب والحلي للزينة وغير ذلك من المهن. وأمر بعمل الظلّة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حرّ الشمس.
(وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم المستنصر)
ثم توفي الناصر سنة خمسين وثلاثمائة أعظم ما كان سلطانه، وأعز ما كان الإسلام بملكه. وكان له قضاة أربعة: مسلم بن عبد العزيز وأحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد ابن عبد الله بن أبي عيسى ومنذر بن سعيد البلوطي. ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقّب المستنصر باللَّه، وولّى على حجابته جعفر المصحفي، وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة، كاملو الشيكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندويّة، وثلاثمائة ونيّف وعشرون درعا مختلفة الأجناس، وثلاثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هندية، وخمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي يسمّونها الطاشانية وثلاثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية الجنس، وعشرة جواشن نقية مذهبة، وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس، ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزا الحكم بنفسه واستباحها، وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه. ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جلّيقة، وسار إلى مدينة سالم قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة، ولقيهم على أشتة فهزمهم واستباحهم، وأوطأ العساكر بلاد فردلند(4/185)
القومس، ودوّخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض، فأغزاه الحكم يحيى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، وامتنعوا في حصونها. وعاث في نواحيها وأغزى الهذيل بن هاشم ومولاه غالبا، فعاثا فيها وقفلا وعظمت فتوحات الحكم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب، فعمّرها الحكم واعتنى بها. ثم فتح قطريبة على يد قائد وشقة، وغنم ما فيها من الأموال والسلاح والآلات والأقوات. وفي بسيطة من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى. وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فأخذ حصن غرماج، ودوّخ بلادهم وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأنّ العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل. ثم كانت وفادة أردون بن أدفونش ملك الجلالقة. وذلك أنّ الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمّه وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلية [1] . ثم توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر بالوفادة على الحكم مستجيرا به فاحتفل لقدومه، وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله. ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه، وخلع عليه لما جاء ملقيا بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس، وأعطى على ذلك صفقة يمينه، ورهن ولده غرسية، ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابه. وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة بقرطبة وليد بن مغيث القاضي، وأصبغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق، وعبد الله بن قاسم مطران طليطلة ليوطئوا له الطاعة عند رسميته، ويقبضوا رهنه، وذلك سنة إحدى وخمسين. وعند ذلك بعث ابن عمّه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قولب من أهل جلّيقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله، ويبقى بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط
__________
[1] وهو فردند قومس قشتالة.(4/186)
شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين. ثم بعث قومس الفرنجة برسل ومنيرة أثناء سير ملك برشلونة وطركونة وغيرها يسألان تجديد العهد، وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطارا من الصوف السمور، وخمسة قناطير من الفرصدس [1] ، وعشرة أذراع صقلبية، ومائتا سيف إفرنجية، فقبل هديتهم وعقد لهم على أن يهدما الحصون التي بقرب الثغور، وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل ملّتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين. ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف فعقد لهم الحكم ورجعوا. وفي سنة خمس وستين وردت أمّ لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من جلّيقة، وهو القومس الأكبر، فأخرج الحكم لتلقّيها، واحتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها وأسعفها، وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت، ودفع لها مالا تقسّمه بين وفدها، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج.
ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت. ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم. ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف، وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم أجلاهم إلى الإسكندريّة حسبما نشير إلى ذلك كله بعد. وكان محبا للعلوم مكرّما لأهلها جمّاعة للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. قال ابن حزم: أخبرني بكيّة الخصيّ وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان، أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة، في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلّا ذكر أسماء الدواوين لا غير. فأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر. ووفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه، وكان يبعث في الكتب
__________
[1] لعلها الفرصاد وهو التوت.(4/187)
إلى الأقطار رجالا من التجّار ويسرّب إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه، قبل أن يخرجه بالعراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهريّ المالكيّ في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العبّاسي ابن المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، أمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور ابن أبي عامر. ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة، واقتحامهم إيّاها عنوة كما نشير إليه بعد. واتصلت أيام الحكم المستنصر، وأوطأ العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك زناتة ومغراوة ومكناسة فبثّها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم، ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية، فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم.
(وفاة الحكم المستنصر وبيعة ابنه هشام المؤيد)
ثم أصابت الحكم العلّة، فلزم الفراش إلى أن هلك سنة ست وستين وثلاثمائة لست عشرة سنة من خلافته، وولي من بعده ابنه هشام صغيرا مناهز الحلم، وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر، نقله من خطة القضاء إلى وزارته، وفوّض إليه في أموره فاستقل وحسنت حاله عند الحكم، فلما توفي الحكم بويع هشام ولقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ أخو الحكم المرشّح لأمره، تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه، وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم، ومن خصيان القصر ورؤسائهم فائق وجودر، فقتل محمد بن أبي عامر المغيرة وبايع لهشام
.(4/188)
(أخبار المنصور بن أبي عامر)
ثم سما محمد بن أبي عامر المتغلب على هشام لمكانه في السن، وثاب له رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها، وقتل بعضها ببعض. وكان من رجال اليمنية من مغافر واسمه محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المغافري، دخل جدّه عبد الملك مع طارق، وكان عظيما في قومه، وكان له في الفتح أثر، فاستوزره الحكم لابنه هشام كما ذكرناه. فلما مات الحكم حجبه محمد وغلب عليه ومنع الوزراء من الوصول إليه إلّا في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون. وأرخص للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين. ثم تجرّد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم وحطّهم عن مراتبهم، وقتل بعضها ببعض. كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصل بهم وفرّق جموعهم. وأوّل ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر، فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم وأخرجهم من القصر، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم، وبالغ في خدمته والتنصّح له، واستعان به على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة. ثم استعان على غالب بجعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة الفازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن كان معه من زناتة والبربر. ثم قتل جعفر عمّاله ابن عبد الودود وابن جوهر وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم. ثم لما خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشحين للرئاسة رجع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتّب منهم جندا واصطنع أولياء، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة، وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم، فتغلّب على هشام وحجره واستولى على الدولة، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته مع تعظيم الخلافة والخضوع لها، وردّ الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد، وقدّم رجال البرابرة زناتة، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر، وابتنى لنفسه مدينة فنزلها وسمّاها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة، وقعد على سرير الملك وأمر أن يحيّا بتحيّة الملوك وتسمى(4/189)
بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر والمخاطبات باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر، وكتب اسمه في السكّة والطرز، وعمر ديوانه بما سوى ذلك. وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرغبة، وقهر من يطاول إليها من الغلبة فظفر من ذلك بما أراد وردّد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا اثنتين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم ينكسر له فيها راية، ولا فلّ له جيش، ولا أصيب له بعث، ولا هلكت سرية، وأجاز عساكره إلى العدوة، وضرب بين ملوك البرابرة بعضهم في بعض، فاستوثق ملكه بالمغرب وأذعنت له ملوك زناتة، وانقادوا لحكمه وأطاعوا لسلطانه، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر لما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه من إعلانه بالنيل منه والغض من ملكهم، والتأنف لحجر الخليفة هشام، فأوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين، ونزل بفاس وملكها، وعقد لملوك زناتة على المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها على ما نشير إليه بعد. وشرّد زيري بن عطية إلى تاهرت، وأبعد المفرّ، وهلك في مفرّه. ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة واستعمل واضحا على المغرب، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد استيلاء سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته، ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه.
(المظفر بن المنصور)
ولما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن، وتلقب بالناصر لدين الله، وجرى على سنن أبيه وأخيه في حجر الخليفة هشام، والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه، وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحلّ والعقد فكان يوما مشهودا، وكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه: هذا ما عهد هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين إلى الناس عامة، وعاهد الّذي عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمّه ما جعل الله إليه من الإمامة ونصب إليه من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي ان هجم محتوم(4/190)
ذلك عليه، ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه، وملجأ تنعطف إليه، أن يلقى ربّه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها، واعتبر عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطراح الهوى والتحرّي للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا يولّيه عهده ويفوّض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلو منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه وتفاوته، المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفّر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وفقه الله تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات، سابقا إلى الجليات، مستوليا على الغايات، جامعا للماثرات، ومن كان المنصور أباه والمظفّر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه. مع أنّ أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الغيب، رأى أن يكون ولي عهده القحطاني الّذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده الآثار، ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مجتهدا، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه ثنيا ولا خيارا، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذمة الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول. وأشهد على ذلك الله والملائكة وكفى باللَّه شهيدا، وأشهد من أوقع اسمه في هذا، وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور، وفقه الله تعالى وقيد له ما قلده، وألزمه نفسه ما في الذمة. وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم. وتسمى بعدها بولي العهد. ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه، وانقراض دولته ودولة قومه والله وارث الأرض ومن عليها
.(4/191)
(ثورة المهدي ومقتل عبد الرحمن المنصور وانقراض دولتهم)
ولما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد، ونقم ذلك الأمويون والقرشيون وغصّوا بأمره واتفقوا على تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتموا لشأنهم، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم، وأجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصر ببلاد الجلالقة في غزاه من صوائف، ووثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وخلعوا هشاما المؤيد، وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعياص الملك، وأعقاب الخلفاء، ولقّبوه المهدي وطار الخبر إلى الحاجب بمكانه من الثغر فانفضّ جمعه، وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيما بنفسه، حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الجند ووجوه البربر، ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر، وأغروه بالناصر واعترضه منهم من تقبض عليه، واحتزّ رأسه وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين.
(ثورة البربر وبيعة المستعين وفرار المهدي)
كان الجند من البرابرة وزناتة قد ظاهروا المنصور على أمره وأصبحوا شيعة لبنيه من بعده، ورؤساؤهم يومئذ زاوي بن مناد الصنهاجي وبنو ماكير ابن أخيه زيري، ومحمد ابن عبد الله البرزالي، ونصيل بن حميد المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر، وزيري بن غزانة المتيطي، وأبو زيد بن دوناس اليفرني، وعبد الرحمن بن عطاف اليفرني وأبو نور بن أبي قرّة اليفرني، وأبو الفتوح بن ناصر وحزرون بن محصن المغراوي، وبكساس بن سيد الناس، ومحمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم من عشائرهم، فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأوا من انتقاض أمر عبد الرحمن وسوء تدبيره. وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريّين، وتنسب إليهم تغلب المنصور وبنيه على أمرهم فسخطتهم القلوب، وخزرتهم العيون، وتنفست(4/192)
بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدولة، ولفظت به ألسنة الدهماء من المدينة. وأمر محمد بن هشام أن لا يركبوا ولا يتسلحوا وردوا في بعض الأيام من باب القصر، وانتهب العامّة يومئذ دورهم، ودخل زاوي وابن أخيه حساسة وأبو الفتوح بن الناصر على المهدي شاكين بما أصابهم، فاعتذر إليهم وقتل من آذاهم من العامّة في أمرهم، وكان مع ذلك مظهرا لبغضهم مجاهرا بسوء الثناء عليهم. وبلغهم انه سرّه الفتك بهم فتمشت رجالاتهم، وأسروا نجواهم. واتفقوا على بيعة هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وفشا في الخاصّة حديثهم، فعوجلوا عن أمرهم ذلك، وأغرى بهم السواد الأعظم، فثاروا بهم وأزعجوهم [1] عن المدينة، وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر، وأحضرا بين يدي المهدي فضرب أعناقهما، ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر وزناتة وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتآمروا فبايعوه ولقّبوه المستعين باللَّه، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أدفونش. ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة، وبرز إليهم المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة، وكانت الدبرة عليهم، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا، وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم. ودخل المستعين قرطبة خاتم المائة الرابعة ولحق ابن عبد الجبّار بطليطلة.
(رجوع المهدي إلى ملكه بقرطبة)
ولما استولى المستعين على قرطبة خالفه محمد بن هشام المهدي إلى طليطلة واستجاش بابن أدفونش ثانية، فنهض معه إلى قرطبة وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهرها في آخر باب سبتة، ودخل المهدي قرطبة وملكها.
(هزيمة المهدي وبيعته للمؤيد هشام ومقتله)
ولما دخل المهدي إلى قرطبة خرج المستعين إلى البرابرة، وتفرّقوا في البسائط والقرى
__________
[1] بمعنى أخرجوهم وأجلوهم ابن خلدون م 13 ج 4(4/193)
فينهبون ويقتلون ولا يبقون على أحد. ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء، فخرج المهديّ وابن أدفونش واتبعهم المستعين والبرابرة أثناء ذلك يحاصرونهم، حتى خشي الناس من اقتحام البرابرة عليهم فأغروا أهل القصر وحاجبه المدبّر بالمهديّ، وأن الفتنة إنما جاءت من قبله، وتولّى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا المهدي محمد بن هشام، واجتمعت الكافة على تجديد البيعة لهشام المؤيد ليعتصموا به من معرّة البرابرة، وما يسومونهم به ملوكهم من سوء العذاب، وعاد هشام إلى خلافته وأقام واضح العامري لحجابته، وهو من موالي المنصور بن أبي عامر.
(حصار قرطبة واقتحامها عنوة ومقتل هشام)
واستمرّ البرابرة على حصار قرطبة والمستعين بينهم، ولم يفرّ عن أهل قرطبة، تبعه هشام المؤيد والبرابرة يتردّدون إليها ذاهبين وجائين بأنواع النهب والفتك، إلى أن هلكت القرى والبسائط، وعدمت المرافق وصافت أحوال أهل قرطبة وجهدهم الحصار. وبعث المستعين والبرابرة إلى ابن أدفونش يستقدمونه لمظاهرتهم، فبعث إليه هشام المؤيد وحاجبه واضحا يكفونه عن ذلك، بأن نزلوا له عن ثغور قشتالة التي كان المنصور اقتحمها فسكن عزمه، وسكن عن مظاهرتهم، ثم اتصل الحصار بمخنق البلد، وصدق البرابرة القتال فاقتحموها عنوة سنة ثلاث وأربعمائة، وفتكوا بهشام المؤيد، ودخل المستعين ولحق بأهل قرطبة من البرابرة في نسائهم ورجالهم وبناتهم وأبنائهم ومنازلهم. وظن المستعين أن قد استحكم أمره، وتوثّبت البرابرة والعبيد على الأعمال فولوا المدن العظيمة، وتقلدوا الأعمال الواسعة مثل باديس بن حبوس في غرناطة ومحمد بن عبد الله البرزالي في قرمونة وأبو ثور بن أبي شبل [1] بالأندلس، وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة مثل ابن عباد بإشبيليّة، وابن الأفطس ببطليوس وابن ذي النون بطليطلة، وابن أبي عامر ببلنسية ومرسية، وابن هود بسرقسطة ومجاهد العامري بدانية والجزائر منذ عهد هذه الفتنة، كما نذكر في أخبارهم.
__________
[1] هكذا بياض بالأصل. ولم نعثر على اسم الولاية التي اختص بها ابو ثور بن أبي شبل في المراجع التي بين أيدينا.(4/194)
(ثورة ابن حمود واستيلاؤه وقومه على ملك قرطبة)
ولما افترق شمل جماعة قرطبة وتغلّب البرابرة على الأمر، وكان عليّ بن حمود وأخوه قاسم من عقب إدريس قد أجازوا معهم من العدوة فدعوا لأنفسهم وتعصب معهم الكثير من البربر، وملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة، وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني أمية، واتصل ذلك في خلق منهم سبع سنين. ثم رجع الملك في بني أمية وفي ولد الناصر نحوا من سبع سنين. ثم خرج عنهم وافترق الأمر في رؤساء الدولة من العرب والموالي والبربر، واقتسموا الأندلس ممالك ودولا وتلقبوا بألقاب الخلفاء كما نذكر ذلك كله مستوفى في أخبارهم.
(عود الملك إلى بني أمية وأولاد المستظهر)
لما قطع أهل قرطبة دعوة المحموديّين بعد سبع من ملكهم، وزحف إليهم قاسم بن حمود في جموع من البربر فهزمهم أهل قرطبة، ثم اجتمعوا واتفقوا على ردّ الأمر إلى بني أمية، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولقبوه المستظهر. وقام بأمره المستكفي ثم ثار على المستظهر لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر أمير المؤمنين. كان المنصور بن أبي عامر قتل أباه عبد الرحمن لسعيه في الخلاف، فثار الآن محمد هذا وتبعه الغوغاء، وفتك بالمستظهر واستقلّ بأمر قرطبة وتلقب بالمستكفي.
(عود الأمر الى بني حمود)
وبعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى يحيى بن علي بن حمود، وهو المعتلي كما يذكر في أخبارهم، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مفرّه
.(4/195)
(المعتمد من بني أمية)
ثم خلع أهل قرطبة المعتلي بن حمود ثانيا سنة سبع عشرة، وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة، وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود. ولما بلغه خبر البيعة له انتقل إلى البرنث، واستقرّ عند التغلب عليها محمد بن عبد الله بن قاسم، وكانت البيعة له انتقل سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وتلقب المعتمد باللَّه، وأقام مترددا في الثغر ثلاثة أعوام، واشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف واتفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور والجماعة، ونزلها آخر سنة عشرين، وأقام يسيرا. ثم خلعه الجند سنة اثنتين وعشرين، وفرّ إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين وانقطعت دولة الأموية والله غالب على أمره.
(الخبر عن دولة بني حمود التي ادالت من دولة بني أمية بالأندلس وأولية ملكهم وتصاريف أمورهم الى آخرها)
كان في جملة المستعين مع البربر والمغاربة أخوان من ولد عمر بن إدريس، وهما القاسم وعلي ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر، كانوا في لفيف البرابرة في بلاد غمارة واستجدوا بها رياسة استمرت في بني محمد وبني عمر من ولد إدريس فكانت للبربر إليهم صاغية بسبب ذلك، وخلطة وبقي الفخر منهم بتازغدره من غمارة فأجازوا مع البربر، وصاروا في جملة المستعين مع أمراء العدوة من البربر فعقد لهما المستعين فيمن عقد له من المغاربة عقد لعليّ منهما على طنجة وعملها، وللقاسم وكان الأسنّ على الجزيرة الخضراء. وكان في نفوس المغاربة والبرابرة تشيّع لأولاد إدريس متوارث من دولتهم بالعدوة كما ذكرناه. واستقام أمر عليّ بن حمود وتمكن سلطانه، واتصلت دولته عامين إلى أن قتله صقالبته بالحمام سنة ثمان(4/196)
وأربعمائة، فولي مكانه أخوه القاسم بن حمود وتلقب بالمأمون. ونازعه في الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه عليّ بسبتة، وكان أمير الغرب ووليّ عهد أبيه، فبعث إليه أشياعهم من البربر مالا مع جند الأندلس سنة عشر واحتل بمالقة، وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما، فبعث إلى سبتة ووصل إلى يحيى بن علي زاوي بن زيري من غرناطة، وهو عميد البرابرة ثانية يومئذ، فزحف إلى قرطبة فملكها سنة اثنتي عشرة، وتلقب المعتلي واستوزر أبا بكر بن ذكوان، وفرّ المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد. واستمال بعضا من البرابرة ثانية، واستجاشهم على ابن أخيه ورجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة. ولحق المعتلي بمكانه من مالقة وتغلب على الجزيرة الخضراء عمل المأمون من لدن عهد المستعين، وتغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر، وكان المأمون يعتدها حصنا لنفسه وبنيه، ويستودع بها ذخيرته، وبلغ الخبر إلى قرطبة بتغلبه على قواعده وحصونه مع ما كان يتشدد على بني أمية، فاضطرب أمر المأمون وثار عليه أهل قرطبة ونقضوا طاعته، وبايعوا للمستظهر، ثم للمستكفي من بني أمية كما ذكرناه. وتحيّز المأمون وبرابرته إلى الأرباض فاعتصموا به، وقاتلوا دونه وحاصروا المدينة خمسين يوما. ثم صمّم أهل قرطبة لمدافعتهم فأفرجوا عن الأرباض وانفضت جموعهم سنة أربع عشرة. ولحق المأمون بإشبيليّة وبها ابنه محمد، ومحمد بن زيري من رجالات البربر فأطمعه القاضي محمد بن إسماعيل بن عبّاد في الملك وأن يمتنعوا من القاسم فمنعوه وأخرجوا إليه ابنه وضبطوا بلدهم. ثم اشتدّ ابن عبّاد وأخرج محمد بن زيري، ولحق المأمون بشريش [1] ، ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه فبايعوه سنة خمس عشرة. وزحف إلى عمه المأمون بشريش فتغلب عليه، ولم يزل عنده أسيرا وعند أخيه إدريس من بعده بمالقة إلى أن هلك في محبسه سنة سبع وعشرين وأربعمائة، واستقل يحيى المعتلي بالأمور، واعتقل محمدا والحسن ابني عمه القاسم المأمون بالجزيرة، ووكل بهما أبا الحجاج من المغاربة، وأقاما كذلك. ثم خلع أهل قرطبة المستكفي، وصاروا إلى طاعة المعتلي واستعمل عليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني من رجالات البربر، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر فهلك بمدينة سالم. ثم نقض أهل قرطبة طاعة المعتلي سنة
__________
[1] مدينة كبيرة من كورة شذونة- بالأندلس- وهي قاعدة هذه الكورة واليوم يسمّونها شرش (معجم البلدان) .(4/197)
سبع عشرة واربعمائة وصرفوا عامله عليهم ابن عطاف وبايعوا للمعتمد أخي المرتضى. ثم خلعوه كما ذكرنا في خبره، واستبدّ بأمر قرطبة الوزير ابن جهور بن محمد كما نذكره في أخبار ملوك الطوائف. وأقام يحيى بن المعتلي يتخيفهم [1] ويردّد العساكر لحصارهم إلى أن اتفقت الكافة على إسلام المدائن والحصون له، فعلا سلطانه، واشتد أمره، وظاهره محمد بن عبد الله البرزالي على أمره فنزل عنده بقرمونة يحاصر فيها ابن عباد بإشبيليّة إلى أن هلك سنة ست وعشرين بمداخلة ابن عباد للبرزالي في اغتياله، فركب المعتلي لخيل أغارت على معسكره بقرمونة من جند ابن عباد، وقد أكمنوا له، فكبا به فرسه وقتل. وتولى قتله محمد بن عبد الله البرزالي وانقطعت دولة بني حمود بقرطبة. وكان أحمد بن موسى بن بقية والخادم نجى الصقلي وزيري دولة الحموديين عند أولها، فرجعا إلى مالقة دار ملكهم، واستدعوا أخاه إدريس بن علي بن حمود من سبتة وطنجة، وبايعوه على أن يولي سبتة حسن ابن أخيه يحيى فتم أمره بمالقة، وتلقب المتأيد باللَّه، وبايعه المرية وأعمالها ورندة والجزيرة، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على سبتة، ونهض معه نجى الخادم. وكان له ظهور على ملوك الطوائف، وكان أبوه القاسم بن عباد قد استفحل ملكه لذلك العهد، ومدّ يده إلى انتزاع البلاد من أيدي الثوار، وملك أشبونة [2] واستجة [3] من يد محمد بن عبد الله البرزالي، وبعث العساكر مع ابنه إسماعيل لحصار قرمونة فاستصرخ محمد بن عبد الله بالقائد هذا وبزاوي فجاء زاوي بنفسه، وبعث القائد هذا عساكره مع ابن بقية فكانت بينهم وبين ابن عباد حروب شديدة، هزم فيها ابن عباد وقتل وحمل رأسه إلى إدريس المتأيد، وهلك ليومين بعدها سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. واعتزم ابن بقية على بيعة ابنه يحيى الملقب حبون فأعجله عن ذلك نجى الخادم، وبادر إليه من سبتة ومعه حسن بن يحيى المعتلي فبايعه البربر، ولقب المستنصر، وقتل ابن بقية وفرّ يحيى بن إدريس إلى قمارش فهلك بها سنة أربع
__________
[1] خيف القوم: نزلوا منزلا، وخيف عن القتال: نكص.
[2] أشبونة: مدينة بالأندلس يقال لها لشبونة وهي متصلة بشنترين قريبة من البحر المحيط يوجد على ساحلها العنبر الفائق (معجم البلدان) .
[3] إستجة: اسم لكورة بالأندلس متصلة باعمال ريّة بين القبلة والمغرب من قرطبة، وهي كورة قديمة واسعة الرساتيق والاراضي على نهر سنجل وهو نهر غرناطة بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ واعمالها متصلة باعمال قرطبة (معجم البلدان) .(4/198)
وثلاثين. ويقال بل قتله نجى، ورجع نجى إلى سبتة ليحفظ ثغرها، ومعه ولد حسن ابن يحيى صبيا وترك السطيفي على وزارة حسن لثقته به، وبايعته غرناطة وجملة من بلاد الأندلس. وهلك حسن مسموما بيد ابنة عمه إدريس، ثأرت بأخيها حسن سنة ثمان وثلاثين، فاعتقل السطيفي أخاه إدريس بن يحيى، وكتب إلى نجى وابن حسن المستنصر الّذي كان عنده بسبتة ليعقد له. واغتاله نجى وأجاز إلى مالقة، ودعي لنفسه. ووافقه البربر والجند. ثم نهض إلى الجزيرة ليستأصل حسنا ومحمدا ابني قاسم بن حمود، ورجع خاسئا فاغتاله في طريقه بعض عبيد القاسم وقتلوه. وبلغ الخبر إلى مالقة فثارت العامة بالسطيفي، وقتل وأخرج إدريس بن يحيى المعتلي من معتقله، وبويع له سنة أربع وثلاثين، وأطاعته غرناطة وقرمونة وما بينهما ولقب العالي، وولى على سبتة سكوت ورزق الله من عبيد أبيه. ثم قتل محمدا وحسنا ابني عمه إدريس، فثار السودان بدعوة أخيهما محمد بمالقة، وامتنعوا بالقصبة، وكانت العامة مع إدريس، ثم أسلموه. وبويع محمد بمالقة سنة ثمان وثلاثين وتلقب المهدي، وولى أخاه عهده ولقبه الساني. ثم نكر منه بعض النزعات ونفاه إلى العدوة فأقام بين غمارة، ولحق العالي بقمارش فامتنع بها وأقام يحاصر مالقة وزحف باديس من غرناطة منكرا على المهدي فعله فامتنع عليه، فبايع له وانصرف وأقام المهدي في ملكه بمالقة، وأطاعته غرناطة وحيان وأعمالها إلى أن مات بمالقة سنة أربع وأربعين.
وبويع إدريس المخلوع ابن يحيى المعتلي من مكانه بقمارش، وبويع له بمالقة وأطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم، ففرّ كثير منهم إلى أن هلك سنة سبع وأربعين، وبويع محمد الأصغر ابن إدريس المتأيد وتلقبه، وخطب له بمالقة والمرية ورندة. ثم سار إليه باديس فتغلب على مالقة سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وسار محمد المستعلي إلى المرية مخلوعا، واستدعاه أهل مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة تسع وخمسين، وبايعه بنو ورقدى وقلوع جارة ونواحيها وهلك سنة [1] وأربعمائة. وأما محمد بن القاسم المعتقل بمالقة ففرّ هو من ذلك الاعتقال سنة أربع عشرة، ولحق بالجزيرة الخضراء فملكها وتلقب المعتصم إلى أن مات سنة أربعين. ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق إلى أن هلك سنة خمسين، وصارت الجزيرة للمعتضد بن عباد
__________
[1] رغم البحث الدقيق لم نستطع تحديد سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا.(4/199)
وكان سكوت البرغواطي الحاجب مولى القاسم الواثق محمد بن المعتصم، ويقال مولى يحيى المعتلي واليا على سبتة من قبلهم، فلما غلب ابن عباد على الجزيرة طلبه في الطاعة، وطلب هو ملك الجزيرة فامتنعت عليه واتصلت الفتنة بينهما الى أن كان من أمر المرابطين وتغلبهم على سبتة على الأندلس ما سنذكره، والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى.
(الخبر عن ملوك الطوائف بالأندلس بعد الدولة الاموية)
كان ابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم لما انتثر ملك الخلافة العربية بالأندلس، وافترق الجماعة بالجهات، وصار ملكها في طوائف من الموالي والوزراء وأعياص الخلافة وكبار العرب والبربر، واقتسموا خططها وقام كل واحد بأمر ناحية منها.
وتغلب بعض على بعض استقل أخيرا بأمرها ملوك منهم استفحل شأنهم، ولاذوا بالجزيرة للطاغية أو يظاهرون عليهم أو ينتزعونهم ملكهم، حتى أجاز إليهم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وغلبهم جميعا على أمرهم فلنذكر أخبارهم واحدا بعد واحد.
(الخبر عن بني عباد ملوك اشبيلية وغربيّ الأندلس وعمن تغلبوا عليه من أمراء الطوائف)
كان أوّلهم القاضي أبو القاسم محمد بن ذي الوزارتين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمر بن أسلم بن عمر بن عطاف بن نعيم اللخمي، وعطاف هو الداخل إلى الأندلس في طوالع لخم وأصلهم من جند حمص ونزل عطاف قرية طشانة بشرق إشبيلية ونسل بنيه بها. وكان محمد بن إسماعيل بن قريش صاحب الصلاة بطشانة ثم ولي ابنه إسماعيل الوزارة بإشبيليّة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وولي ابنه أبو القاسم القضاء بها والوزارة من سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين. وكان أصل رياسته أنه كان له اختصاص بالقاسم بن حمود، وهو الّذي أحكم عقد ولايته، وكان محمد بن زيري من أقيال البرابرة واليا(4/200)
على إشبيلية، فلما فرّ القاسم من قرطبة وقصده داخل ابن عباد محمد بن زيري في غرناطة ففعل وطردوا القاسم، وطردوا بعده ابن زيري وصار الأمر شورى بينه وبين أبي بكر الزبيدي معلم هشام، وصاحب مختصر العين في اللغة، ومحمد بن برمخ الألهاني. ثم استبد عليهم وجند الجند ولم يزل على القضاء. ولما منع القاسم من إشبيلية عدل عنها إلى قرمونة ونزل على محمد بن عبد الله البرزالي، وكان ولي قرمونة أيام هشام والمهدي من بعده. ثم استبدّ بها سنة أربع وأربعمائة أزمان الفتنة فداخله ابن عبّاد في خلع القاسم والاستبداد بها. ثم تنصح للقاسم فتحول إلى شريش واستبد محمد بن البرزالي بقرمونة واستبد أبو القاسم إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين كما قلناه، وقام بأمره ابنه عباد وتلقب المعتضد، واستولى على سلطانه، واشتدت حروبه وأيامه. وتناول طائفة من الممالك بعد بالأندلس، وانفسح أمده وأول ما افتتح أمره بمداخلة محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة في إفساد ما بينه وبين القاسم بن حمود حتى تحوّل عنه إلى شريش. ثم تحارب مع عبد الله بن الأفطس صاحب بطليوس وغزاه ابنه إسماعيل في عساكره، ومعه محمد بن عبد الله البرزالي فلقيه المظفر ابن الأفطس فهزمهما وأسر المظفر بن البرزالي إلى أن أطلقه بعد حين. ثم فسد ما بينه وبين البرزالي واتصلت الفتنة بينهما إلى أن قتله ابنه إسماعيل خرج إليه في سرية فأغار على قرمونة، وأكمن الكمائن، فركب محمد البرزالي في أصحابه، واستطرد له إسماعيل إلى أن بلغ به الكمين فخرجوا عليه فقتلوه، وذلك سنة أربع وثلاثين. ثم خالف عليه ابنه إسماعيل وأغراه العبيد والبرابرة بالملك، فأخذ ما قدر عليه من المال والذخيرة، وفرّ إلى جهة الجزيرة للتوثب بها، وكان أبوه ليلتئذ بحصن الفرج، فأنفذ الخيالة في طلبه، فمال إلى قلعة الورد فتقبض واليها عليه، وأنفذه إلى أبيه فقتله وقتل كاتبه، وكل من كان معه. ثم رجع إلى مطالبة البربر المنتزين بالثغور وأوّل من نذكر منهم صاحب قرمونة وكان بها المستظهر العزيز بن محمد بن عبد الله البرزالي، وليها بعد أبيه كما ذكرناه. وكانت له معها استجة والمروز، وكان نموز ورواركش للوزير نوح الرموي من برابرة العدوة شيعة المنصور، واستبدّ بها سنة أربع، ومات سنة ثلاث وثلاثين. وولي ابنه عز الدولة الحاجب أبو مياد محمد بن نوح ومات سنة [1]
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد سنة وفاته من المراجع التي بين أيدينا.(4/201)
وكان يزيد أبو ثور بن أبي قرّة اليفرني استبدّ بها أيام الفتنة سنة خمسين من يد عامر بن فتوح من صنائع العلويين، ولم يزل المعتضد يضايقه، واستدعاه بعض الأيام لولاية فحبسه، وكاده في ابنه بكتاب على لسان جاريته برندة، أنه ارتكب منها محرّما، ثم أطلقه فقتل ابنه وشعر بالمكيدة فمات أسفا سنة خمسين، وولي ابنه أبو نصر إلى أن غدر به في الحصن بعض أجناده فسقط من السور، ومات سنة تسع وخمسين. وكان بشريش خزرون بن عبدون ثار بها سنة اثنتين وأربعمائة فتقبض عليه ابن عباد وطالبهم وطاف على حصونهم وصار يهاديهم، وأسجل لهم بالبلاد التي بأيديهم، فأسجل لابن نوح بأركش، ولابن خزرون بشريش، ولابن أبي قرّة برندة، وصاروا في حزبه ووثقوا به. ثم استدعاهم لوليمة وغدر بهم في حمام استعمله لهم على سبيل الكرامة وأطبقه عليهم فهلكوا جميعا إلّا ابن نوح فإنه سالمه من بينهم لليد التي كانت له عنده في مثلها. ثم بعث من تسلّم معاقلهم وصارت في أعماله.
وخرج باديس لطلب ثأرهم منه، واجتمعت إليه عشائرهم فنازلوه مدّة ثم انصرفوا، وأجازوا إلى العدوة فاحتلّوا بسبتة وطردهم سكوت فهلكوا في المجاعة التي صادفوا، وأحلوا بالمغرب لذلك العهد. واستقل ابن عباد وكان بأونية وشلطليش عبد العزيز البكري، وكانت عساكر المعتضد ابن عباد تحاصره فشفع فيه ابن جهور للمعتضد فسالمه مدّة. ثم هلك ابن جهور فعاد إلى مطالبته إلى أن تخلى له عنها سنة ثلاث وأربعين، فولى عليها ابنه المعتمد. ثم سار إلى شلب وبها المظفر أبو الأصبغ عيسى بن القاضي أبي بكر محمد بن سعد بن مزين ثار بها سنة تسع عشرة، ومات سنة اثنتين وأربعين فسار إليها المعتضد وملكها من يد ابنه، ونقل إليها المعتمد فنزلها واتخذها دار إمارة. ثم سار إلى شنت بريّة وبها المعتصم محمد بن سعيد بن هارون، فانخلع له عنها سنة تسع وثلاثين، وأضافها للمعتمد. وكان بلبلة تاج الدين أبو العباس أحمد بن يحيى التحصيني، ثار بها سنة أربع عشرة، وخطب له بأونية وشلطليش، ومات سنة ثلاث وثلاثين، وأوصى إلى أخيه محمد وضايقه المعتضد فهرب إلى قرطبة واستبد بها ابن أخيه فتح بن خلف بن يحيى، وانخلع للمعتضد سنة خمس وأربعين وصارت هذه كلها من ممالك بني عباد. وتملك المعتضد أيضا مرسية وثار بها عليه ابن رشيق البناء، وتسمى خاصة الدولة، وبقي ثمان سنين. ثم ثاروا عليه سنة خمس وخمسين ورجعوا لابن عباد. وتملك المعتضد مرثلة من يد ابن طيفور سنة ست وثلاثين وكان(4/202)
تملكها من يد عيسى بن نسب الجيش الثائر بها، وصارت هذه الممالك كلها في ملك ابن عباد وكانت بينه وبين باديس بن حبوس [1] صاحب غرناطة حروب إلى أن هلك سنة إحدى وستين، وولى من بعده ابنه المعتمد بن المعتضد بن إسماعيل أبو القاسم بن عباد وجرى على سنن أبيه، واستولى على دار الخلافة قرطبة من يد ابن جهور، وفرّق أبناءه على قواعد الملك وأنزلهم بها، واستفحل ملكه بغرب الأندلس وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف، مثل ابن باديس ابن حبوس بغرناطة وابن الأفطس ببطليوس وابن صمادح بالمرية وغيرهم. وكانوا يطلبون سلمه ويعملون في مرضاته وكلهم يدارون الطاغية ويتقونه بالجزى إلى أن ظهر بالعدوة ملك المرابطين، واستفحل أمر يوسف بن تاشفين، وتعلقت آمال المسلمين في الأندلس بإعانته، وضايقهم الطاغية في طلب الجزية فقتل ابن عباد ثقته اليهودي الّذي كان يتردّد إليه لأخذ الجزية بسبب كلمة أسف بها. ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن تاشفين، وكان من إجازته إليه ومظاهرته إياه ما يأتي ذكره في أخباره، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم، فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجازوه بالامتساك حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم، وهو خلال ذلك يردّد العساكر للجهاد. ثم أجاز إليهم وخلع جميعهم ونقلهم إلى العدوة، واستولى على الأندلس كما يأتي ذكره في أخباره. وصار ابن عباد في قبضة حكمه بعد حروب نذكرها. ونقله إلى أغمات قرية مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة، واعتقله هنالك إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين. وكانت بالأندلس ثغور أخرى دون هذه، ولم يستول عليها ابن عباد فمنها بلد السهلة، استبد بها هذيل بن خلف بن رزين أوّل المائة الخامسة بدعوة هشام، وتسمى مؤيد الدولة. وهلك شهيدا سنة خمسين واربعمائة وملك بعده أخوه حسام الدولة عبد الملك بن خلف، ولم يزل أميرا عليها إلى أن ملكها المرابطون من يده عند تغلبهم على الأندلس. ومنها بلد البونت واللج تغلب عليها عبد الله بن قاسم الفهري أزمان الفتنة، وتسمى نظام الدولة وهو الّذي كان المعتمد عنده عند ما ولاه الجماعة بقرطبة ومن عنده جاء إليها، وهلك سنة إحدى وعشرين وولي ابنه محمد يمين الدولة،
__________
[1] هكذا بالأصل وكذلك في كتاب الاحاطة في اخبار غرناطة ص 485، أما في كتاب الحلل السندسية للأمير شكيب أرسلان م ص 129 حيوس بالياء المشددة.(4/203)
وكانت بينه وبين مجاهد حروب، وملك بعده ابنه أحمد عقد الدولة، وهلك سنة أربعين. وملك أخوه عبد الله جناح الدولة إلى أن خلعه المرابطون سنة خمس وثمانين.
ولنرجع إلى ذكر بقية الملوك الأكابر من الطوائف والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(أخبار ابن جهور)
كان رئيس الجماعة أيام الفتنة بقرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن يحيى بن أبي المغافر بن أبي عبيدة الكلبيّ، هكذا نسبه ابن بشكوال وأبو عبيدة هو الداخل إلى الأندلس، وكانت لهم وزارة الدولة العامرية بقرطبة واستبد جهور هذا سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، لما خلع الجند المعتز آخر خلفاء بني أمية، ولم يدخل في أمور الفتنة، فاستولى على المملكة ورتب الأمور، ولم يتحول عن داره إلى قصر الخلافة. وكان على سنن أهل الفضل يعود المرضى، ويشهد الجنائز ويؤذن عند مسجدهم بالربض الشرقي، ويصلي التراويح ولا يحتجب عن الناس فأسندوا أمرهم إليه إلى أن يوجد خليفة إلى أن خاطبهم محمد بن إسماعيل ابن عباد يعرّفهم أن هشاما المؤيد عنده بإشبيليّة، وأكثر في ذلك فخطب له بقرطبة بعد مراوضات [1] ، ثم أتي به إلى قرطبة فمنعوه الدخول وأضربوا عن ذكره في الخطبة وانفرد ابن جهور بأمرهم إلى أن هلك في محرم سنة خمس وثلاثين واربعمائة ودفن بداره وولي ابنه أبو الوليد محمد بن جهور باتفاق من الكافة فجرى على سنن أبيه.
وكان قد قرأ على مكي بن أبي طالب المكيّ وغيره فكان مكرما لأهله. واستوزر ثقته إبراهيم بن يحيى فكفاه، وهلك كما هو معروف، ففوّض التدبير إلى ابنه عبد الملك فأساء السيرة، وتكرّه إلى الناس وحاصره ابن ذي النون بقرطبة، فاستغاث بمحمد ابن عباد فأمده بالجيش، ووصى عسكره بذلك فداخلوا أهل قرطبة وخلعوه سنة إحدى وستين وأخرجوه عن قرطبة. واعتقل بشلطليش إلى أن هلك سنة اثنتين وسبعين. وولى ابن عباد على قرطبة ابنه سراج الدولة، وقدمها من بلنسية ودخلها إلى
__________
[1] المراوضات: هو ما يجري بين المتبايعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحد منهما يروض صاحبه، من رياضة الدابة. (لسان العرب) .(4/204)
أن قتل بها مسموما، وحمل إلى طليطلة فدفن بها، وزحف المعتمد بن عباد بعد مهلكه إلى قرطبة فملكها سنة تسع وستين وقتل ابن عكاشة واستخلف ابنه المأمون الفتح بن محمد، وصار غرب الأندلس كلّه في ملكه إلى أن دخل المرابطون الأندلس، وغلبوا عليهم سنة أربع وثمانين واربعمائة فقتل الفتح وحمل أباه المعتمد إلى أغمات كما ذكرناه ونذكره. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(أخبار ابن الأفطس صاحب بطليوس من غرب الأندلس ومصاير أمره)
ملك بطليوس من غرب الأندلس عند الفتنة واهتياجها أبو محمد عبد الله بن مسلمة التجيبي المعروف بابن الأفطس، واستبدّ بها سنة إحدى وستين وأربعمائة فهلك، وولي من بعده ابنه المظفر أبو بكر، واستفحل ملكه، وكان من أعاظم ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن ذي النون حروب مذكورة، وكذا مع ابن عباد بسبب ابن يحيى صاحب مليلة، أعانه ابن عباد عليه فاستولى بسبب ذلك على كثير من ثغوره ومعاقلة. واعتصم المظفر ببطليوس بعد هزيمتين هلك فيهما خلق كثير وذلك سنة ثلاث وأربعين. ثم أصلح بينهما ابن جهور وهلك المظفر سنة ستين وأربعمائة، وتولى بعده ابنه المتوكل أبو حفص عمر بن محمد المعروف بساجة ولم يزل سلطانا بها إلى أن قتله يوسف بن تاشفين أمير المرابطين سنة تسع وثمانين وأربعمائة. وقتل معه أولاده، أغراه به ابن عباد فلما تمكنت الاسترابة من المتوكل خاطب الطاغية واستراح إليه مما دهمه. وشعر به ابن عباد فكاتب يوسف بن تاشفين واستحثه لمعاجلته قبل أن يتصل بالطاغية، ويتصل بالثغر فاغذ إليه السير ووافاه سنة [1] فقبض عليه وعلى بنيه وقتلهم يوم الأضحى حسبما فذكر في أخبارهم. ورثاه ابن عبدون بقصيدته المشهورة وهي:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
__________
[1] رغم التدقيق في المراجع التي بين أيدينا لم نستطع تحديد هذه السنة.(4/205)
عدد فيها أهل النكبات ومن عثر به الزمان بما يبكي الجماد، وسنذكر قصتهم في أخبار لمتونة وفتحهم الأندلس، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
(أخبار باديس بن حسون ملك غرناطة والبيرة)
كان عميد صنهاجة في الفتنة البربرية زاوي بن زيري بن مناد أجاز إلى الأندلس على عهد المنصور، فلما هاجت الفتنة البربرية، وانحل نظام الخلافة، كان فحل ذلك الشول وكبش تلك الكتائب، وعمد إلى البيرة، ونزل غرناطة واتخذها دارا لملكه، ولما بايع الموالي العامريّون للمرتضى المرواني وتولّى كبر ذلك مجاهد العامريّ ومنذر بن يحيى بن هاشم التجيبي وعمد إلى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري في جموع صنهاجة وهزمهم سنة عشرين وأربعمائة وقتل المرتضى. وأصاب زاوي من ذخائرهم وأموالهم وعددهم ما لم يقتنه ملك. ثم وقع في نفسه سوء آثار البربر بالأندلس أيام هذه الفتنة وحذّر مغبة ذلك فارتحل إلى سلطان قومه بالقيروان، واستخلف على غرناطة ابنه فدبّر القبض على ابن رصين ومشيخة غرناطة إذا رجعوا عن أبيه، وشعروا بذلك فبعثوا إلى ابن أخيه ماكس بن زيري من بعض الحصون فوصل وملك غرناطة، واستبدّ بها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين واربعمائة وولي ابنه باديس، وكانت بينه وبين ذي النون وابن عبّاد حروب. واستولى على سلطانه كاتبه وكاتب أبيه إسماعيل بن نغزلة الذمّي، ثم نكبه وقتله سنة تسع وخمسين، وقتل معه خلقا من اليهود، وتوفي سنة سبع وستين واربعمائة وولي حافده المظفّر أبو محمد عبد الله بن بلكّين بن باديس، وولّى أخاه تميما بمالقة بعهد جده. وخلعهما المرابطون سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وحملا إلى أغمات ووريكة، واستقرّا هنالك حسبما يذكر بعد في أخبارهم مع يوسف ابن تاشفين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن بني ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي وتصاريف أمورهم ومصاير أحوالهم
جدّهم إسماعيل الظافر بن عبد الرحمن بن سليمان بن ذي النون أصله من قبائل هوارة(4/206)
ورأس سلفه في الدولة المروانية وكانت لهم رياسة في شنترية ثم تغلب على حصن أفلنتين أزمان الفتنة سنة تسع وأربعمائة. وكانت طليطلة ليعيش بن محمد بن يعيش، واليها منذ أوّل الفتنة، فلما هلك سنة سبع وعشرين استدعاه إسماعيل الظافر من حصن أفلنتين بعض أجناد طليطلة فمضى إليها وملكها. وامتدّ ملكه إلى جنجالة من عمل مرسية ولم يزل أميرا بها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين. وولي ابنه المأمون أبو الحسن يحيى، واستفحل ملكه وعظم بين ملوك الطوائف سلطانه، وكانت بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة. وفي سنة خمس وثلاثين غزي بلنسية وغلب على صاحبها المظفّر ذي السابقين من ولد المنصور بن أبي عامر. ثم غلب على قرطبة وملكها من يد ابن عبّاد وقتل ابنه أبا عمر بعد أن كان ملكها، وهلك الظافر بها مسموما سنة سبع وستين كما ذكرناه. وولي بعده على طليطلة حافده القادر يحيى بن إسماعيل بن المأمون يحيى بن ذي النون، وكان الطاغية بن أدفونش قد استفحل أمره لمّا خلا الجو من مكان الدولة الخلافية، وخفّ ما كان على كاهله من أمر العرب، فآلتهم البسائط وضايق ابن ذي النون حتى غلب على طليطلة فخرج له القادر عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وشرط عليه أن يظاهره على أخذ بلنسية، وعليها عثمان القاضي ابن أبي بكر بن عبد العزيز من وزراء ابن أبي عامر فخلعه أهلها خوفا من القادر أن يمكن منهم ألفنش فدخلها القادر وأقام بها سنتين، وقتل سنة إحدى وثمانين على ما نذكر بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ابن أبي عامر صاحب شرق الأندلس من بني ملوك الطوائف وأخبار الموالي العامريّين الذين كانوا قبله وابن صمادح قائده بالمريّة وتصاريف أحوالهم ومصايرها)
بويع للمنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر بن أبي عامر بشاطبة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، أقامه الموالي العامريّون عند الفتنة البربرية فاستبدّ بها. ثم ثار عليه أهل شاطبة فأفلت ولحق ببلنسية فملكها وفوّض أمره للموالي. وكان من وزرائه ابن(4/207)
عبد العزيز وكان خيران العامريّ من مواليهم، تغلّب من قبل ذلك على أربولة سنة أربع. ثم ملك مرسية سنة سبع، ثم حيّان ثم المريّة سنة تسع، وبايعوا جميعا للمنصور عبد العزيز. ثم انتقض خيران على المنصور وسار من المريّة إلى مرسية وأقام بها ابن عمّه أبا عامر محمد بن المظفّر بن المنصور بن أبي عامر، خرج إليه من قرطبة من حجر القاسم بن حمّود، وخلص إلى خيران بأموال جليلة، فجمع الموالي فأخذوا ماله وطردوه. ثم ولّاه خيران وسمّاه المؤتمن ثم المعتصم. ثم تنكّر عليه وأخرجه من مرسية ولحق بالمريّة وأغرى به الموالي فأخذوا ماله وطردوه، ولحق بغرب الأندلس إلى أن مات. ثم هلك خيران بالمريّة سنة تسع عشرة، وقام بالأمر بعده الأمير عميد الدولة أبو القاسم زهير العامريّ، وزحف إلى غرناطة فبرز إليه باديس بن حبّوس وهزمه، وقتل بظاهرها سنة تسع وعشرين فصار ملكه للمنصور عبد العزيز صاحب بلنسية، وملكها من يده سنة سبع وخمسين. ولما هلك المأمون بن ذي النون وولي حافده القادر ولّى على بلنسية أبا بكر بن عبد العزيز بقية وزراء ابن أبي عامر، فداخله ابن هود في الانتقاض على القدر ففعل واستبدّ بها، وضبطها سنة ثمان وستين حين تغلّب المقتدر على دانية. ثم هلك سنة ثمان وسبعين لعشر سنين من ولايته. وولي ابنه القاضي عثمان، فلما سلم القادر بن ذي النون طليطلة زحف إلى بلنسية ومعه ألفنش كما قلناه، وخلع أهل بلنسية عثمان بن أبي بكر وأمكنوا منها القادر خوفا من استيلاء النصرانيّ وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ثم ثار على القادر سنة ثلاث وثمانين القاضي جعفر بن عبد الله بن حجاب وقتله واستبدّ بها. ثم تغلّب النصارى عليها سنة تسع وثمانين وقتلوه. ثم تغلّب المرابطون على الأندلس وزحف ابن ذي النون قائدهم الى بلنسية فاسترجعها من أيديهم سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وأمّا معن بن صالح قائد الوزير ابن أبي عامر فأقام بالمريّة لما ولّاه المنصور سنة ثمان وثمانين، وتسمّى ذا الوزارتين. ثم خلعه وولّى ابنه المعتصم أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح، واستبدّ بها أربعا وأربعين سنة، وثار عليه صاحب لورقة ابن شبيب، وكان أبوه معزولا عليها، فجهّز إليه المعتصم جيشا واستمد ابن شبيب المنصور بن أبي عامر صاحب بلنسية ومرسية بالعدوّ، واستمدّ المعتصم بباديس، ونهض عمّه صمادح بن باديس ابن صمادح فقاتلوا حصونا من حصون لورقة واستولوا عليها، ورجعوا ولم يزل المعتصم أميرا بالمريّة إلى أن هلك سنة ثمانين. وولي ابنه وخلعه يوسف بن تاشفين أمير(4/208)
المرابطين سنة أربع وثمانين، وأجاز إلى العدوة ونزل على آل حمّاد بالقلعة، وبها مات ولده والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن بني هود ملوك سرقسطة من الطوائف صارت اليهم من بني هاشم وما كان من أوليتهم ومصاير أمورهم
كان منذر بن مطرف بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى، وكان بين المنصور وعبد الرحمن منافسة على الإمارة والرئاسة، وكانت دار إمارته سرقسطة، ولما بويع المهدي بن عبد الجبّار وانقرض أمر العامريّين، وجاءت فتنة البربر كان مع المستعين حتى قتل هشام مولاه، فامتعض لذلك وفارقه وبايع المرواني للمرتضى مع مجاهد ومن اجتمع إليه من الموالي والعامريّين، وزحفوا الى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري وهزمهم. ثم ارتابوا بالمرتضى ووضعوا عليه من قتله مع خيران بالمريّة، واستبدّ منذر هذا بسرقسطة والثغر وتلقّب بالمنصور، وعقد ما بين طاغية جليقة وبرشلونة وبنيه، وهلك سنة أربع عشرة، وولي ابنه وتلقّب المظفّر وكان أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجذامي من أهل نسبهم مستبدا بمدينة تطيلة، ولّاها منذ أوّل الفتنة، وجدّهم هود هو الداخل للأندلس ونسبه الأزد إلى سالم مولى أبي حذيفة. قال هود بن عبد الله بن موسى بن سالم: وقيل هود من ولد روح بن زنباع، فتغلّب سليمان على المظفّر يحيى بن المنذر وقتله سنة إحدى وثلاثين، وملك سرقسطة والثغر الأعلى، وابنه يوسف المظفّر لاردة. ثم نشأت الفتنة بينهما وانتصر المقتدر بالإفرنج والبشكنس فجاءوا لميعاده فوقعت الفتنة بين المسلمين وبينهم ثائره، وانصرفوا إلى يوسف صاحب لاردة فحاصرهم بسرقسطة، وذلك سنة ثلاث وأربعين. وهلك أحمد المقتدر سنة أربع وسبعين لتسع وثلاثين سنة من ملكه، فولي بعده ابنه يوسف المؤتمن، وكان قائما على العلوم الرياضيّة، وله فيها تآليف مثل الاستهلال والمناظر ومات سنة ثمان وسبعين، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على طليطلة من يد القادر بن ذي النون. وولي بعده المستعين وعلى يده كانت وقعة وشقه، زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين، وهلك فيها خلق نحو عشرة آلاف، ولم يزل أميرا بسرقسطة إلى أن هلك شهيدا سنة ثلاث وخمسمائة ابن خبدون م 14 ج 4(4/209)
بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها. وولي بعده ابنه عبد الملك وتلقّب عماد الدولة، وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة اثنتي عشرة فنزل روطة من حصونها وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث عشرة. وولي ابنه أحمد وتلقّب سيف الدولة والمستنصر، وبالغ النكاية في الطاغية، ثم سلّم له روطة [1] على أن يملّكه بلاد الأندلس، فانتقل معه إلى طليطلة بحشمه وآلته، وهنالك هلك سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان من ممالك بني هود هؤلاء مدينة طرطوشة [2] ، وقد كان بقايا من الموالي العامريّين فملكها سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ثم هلك سنة خمس وأربعين وملكها بعده يعلى العامريّ ولم تطل مدّته. وملكها بعده شبيل إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين سنة ثلاث وخمسين، فلم تزل في يده وفي يد بنيه من بعده إلى أن غلب عليها العدوّ فيما غلب عليه من شرق الأندلس. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(الخبر عن مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية وأخبار بنيه ومواليهم من بعدهم ومصاير أمورهم)
كان فتح ميورقة سنة تسعين ومائتين على يد عصام الخولانيّ، وذلك أنه خرج حاجّا في سفينة اتخذها لنفسه فعصفت بهم الريح فأرسوا بجزيرة ميورقة، وطال مقامهم هنالك واختبروا من أحوالهم ما أطمعهم في فتحها، فلما رجع بعد فرضه أخبر الأمير بما رأى فيها، وكان من أهل الغناء عنده في مثلها، فبعث معه القطائع في البحر، ونفر الناس معه إلى الجهاد، فحاصرها أياما وفتحوها حصنا حصنا إلى أن كمل فتحها. وكتب عصام بالفتح إلى الأمير عبد الله، فكتب له بولايتها فوليها عشر سنين، وبنى فيها المساجد والفنادق والحمامات. ولما هلك قدّم أهل الجزيرة عليهم ابنه عبد الله، وكتب له الأمير بالولاية. ثم زهد وترهّب وركب إلى الشرق حاجّا وانقطع خبره، وذلك سنة خمسين وثلاثمائة. وبعث الناصر المرواني إليها الموفّق من
__________
[1] روطة: بضم اوله، وسكون ثانيه، وطاء مهملة: حصن من اعمال سرقسطة بالأندلس وهو حصين جدا على وادي شلون. (معجم البلدان) .
[2] طرطوشة: بالفتح ثم السكون ثم طاء أخرى ومضمومة، واو ساكنة وشين معجمة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية وهي شرقي بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر متقنة العمارة مبنية على نهر أبره ولها ولاية واسعة وبلاد كثيرة تعد في جملتها. (معجم البلدان) .(4/210)
الموالي فأنشأ الأساطيل وغزا بلاد الإفرنج، وهلك سنة تسع وخمسين أيام الحكم المستنصر، وولي بعده كوثر من مواليه فجرى على سنن الموفّق في جهاده. وهلك سنة تسع وثمانين أيام المنصور فولّى عليها مقاتل من مواليه، وكان كثير الغزو والجهاد.
وكان المنصور وابنه المؤيد يمدّانه في جهاده. وهلك سنة ثلاث وأربعمائة أزمان الفتنة.
وكان مجاهد بن يوسف بن عليّ من فحول الموالي العامريّين. وكان المنصور قد ربّاه وعلّمه مع مواليه القراءات والحديث والعربية فكان مجيدا في ذلك. وخرج من قرطبة يوم قتل المهدي سنة أربعمائة، وبايع هو والموالي العامريّين وكثير من جند الأندلس للمرتضى كما قدّمناه. ولقيهم زاوي بفحص غرناطة فهزمهم وبدّد شملهم. ثم قتل المرتضى كما تقدّم وسار مجاهد إلى طرطوشة فملكها. ثم تركها وانتقل إلى دانية واستقلّ بها. وملك ميورقة ومنورقة ويابسة واستبدّ سنة ثلاث عشرة. ونصّب العيطي كما مرّ فأراد الاستبداد، ومنع طاعة مجاهد ومنعه أهل ميورقة من ذلك، فبعث عنه مجاهد، وقدّم على ميورقة عبد الله ابن أخيه فولي خمس عشرة سنة. ثم هلك، وكان غزا سردانية في الأساطيل فاقتحمها، وأخرج النصارى منها وتقبضوا على ابنه أسيرا ففدّاه بعد حين، وولّى مجاهد على ميورقة بعد ابن أخيه مولاه الأغلب سنة ثمان وعشرين، وكان بين مجاهد صاحب دانية وبين خيران صاحب مرسية وابن أبي عامر صاحب بلنسية حروب إلى أن هلك مجاهد سنة ست وثلاثين. وولي ابنه عليّ وتسمى إقبال الدولة، وأصهر إلى المقتدر بن هود وأخرجه من دانية سنة ثمان وستين ونقله إلى سرقسطة، ولحق ابنه سراج الدولة بالإفرنجة، وأمدّوه على شروط شرطها لهم، فتغلّب على بعض حصونه. ثم مات فيما زعموا مسموما بحيلة من المقتدر سنة تسع. ومات عليّ قريبا من وفاة المقتدر سنة أربع وسبعين. ويقال بل فرّ أمام المقتدر إلى بجاية، ونزل على صاحبها يحيى بن حمّاد، ومات هنالك، وأمّا الأغلب مولى مجاهد صاحب ميورقة فكان صاحب غزو وجهاد في البحر. ولما هلك مجاهد استأذن ابنه عليّا في الزيارة فأذن له، وقدّم على الجزيرة صهره ابن سليمان بن مشكيان نائبا عنه، وبعث على آل الأغلب فاستعفاه وأقام سليمان خمس سنين. ثم مات فولّى عليّ مكانه مبشرا وتسمى ناصر الدولة، وكان أصله من شرق الأندلس أسر صغيرا وجبّه العدوّ وأقام بدانية محبوبا يجاهد في أسرى دانية وسردانية، واصطفاه فولّاه بعد مهلك سليمان فولي خمس سنين، وانقرض ملك عليّ وتغلّب عليه المقتدر بن هود(4/211)
فاستبد مبشر بميورقة، والفتنة يومئذ تموج بين ملوك الطوائف. وبعث إلى دانية في تسليم أهل سيده، فبعثوا إليه بهم وأولاهم جميلا. ولم يزل يردّد الغزو إلى أرض العدوّ إلى أن جمع طاغية برشلونة الجموع ونازلة بميورقة عشرة أشهر. ثم افتتحها واستباحها [1] سنة من ولايته. وكان بعث بالصريخ إلى عليّ بن يوسف صاحب المغرب من لمتونة فلم يوافهم الأسطول بالمدد إلا بعد استيلاء العدوّ. فلما وصل الأسطول دفعوا العدوّ عنها وولّى علي بن يوسف من قبله أنور بن أبي بكر اللمتوني فعسف بهم وأرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فثاروا به وصفدوه، وبعثوا إلى عليّ بن يوسف فردّهم إلى ولاية محمد بن علي بن إسحاق بن غانية المستولي صاحب غرب الأندلس، فبعث إليها أخاه محمد بن علي من قرطبة، كان واليا عليها فوصل إلى ميورقة فصغد أنور وبعث به إلى مراكش، وأقام في ولايتها عشر سنين إلى أن هلك أخوه يحيى وسلطانهم عليّ بن يوسف. واستقرّت ميورقة في ملك بني غانية هؤلاء وسلطانهم. وكانت لهم في زمن علي بن يوسف بها دولة، وخرج منها علي ويحيى إلى بجاية وملكوها من الموحّدين، وكانت لهم معهم حروب بإفريقية كما نذكر في أخبارهم بعد أخبار لمتونة. وملك الإفرنج ميورقة من أيدي الموحّدين آخر دولتهم. والبقاء للَّه والملك يؤتيه من يشاء وهو العزيز الحكيم.
(الخبر عن ثوّار الأندلس آخر الدولة اللمتونية واستبداد بني مردنيش ببلنسية ومزاحمتهم لدولة بني عبد المؤمن من أوّلها إلى آخرها ومصاير أحوالهم وتصاريفها)
لما شغل لمتونة بالعدوّ، وبحرب الموحّدين بعد عليهم الأندلس، وعادت إلى الفرقة بعض الشيء فثار ببلنسية سنة سبع وثلاثين وخمسمائة القاضي مروان بن عبد الله بن مروان بن حضاب، وخلعوه لثلاثة أشهر من ملكه، ونزل بالمريّة. ثم حمل إلى ابن غانية بميورقة فسجن بها، وثار بمرسية أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن ظاهر.
__________
[1] كذا بياض بالأصل والواقع ان مكان البياض مدة الزمن التي سبقت افتتاح المدينة. ولم نستطع تحديد مقدار السنين من المراجع التي بين أيدينا.(4/212)
ثم خلع وقتل لأربعة أشهر من ولايته، وولي حافد المستعين بن هود شهرين. ثم ولي ابن عياض وبايع أهل بلنسية بعد ابن حضاب للأمير أبي محمد عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذاميّ. وأقام مجاهدا إلى أن استشهد في بعض أيامه مع النصارى سنة أربعين وخمسمائة، فبويع لعبد الله بن عياض كان ثائرا بمرسية كما قدمناه. وهلك سنة اثنتين وأربعين فبويع إلى ابن أخيه محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش، وملك شاطبة [1] ومدينة شقر [2] ومرسية. وكان إبراهيم بن همشك من قوّاده فعبث في أقطار الأندلس وأغار على قرطبة وتملّك بها. ثم استرجعت منه ثم غدر بغرناطة وملكها من أيدي الموحّدين وحصرهم بالقصبة هو وابن مردنيش. ثم استخلصها عبد المؤمن من أيديهم بعد حروب شديدة دارت بينهم بفحص غرناطة، لقيه فيها ابن همشك وابن مردنيش، وجيوش من أمم النصرانية استعانوا بهم في المدافعة عن غرناطة، فهزمهم عبد المؤمن وقتلهم أبرح قتل، وحاصر يوسف بلنسية فخطب للخليفة العبّاسيّ المستنجد، وكاتبه فكتب له بالعهد والولاية. ثم بايع للموحّدين سنة ست وستين. وكان المظفّر عيسى بن المنصور بن عبد العزيز الناصر بن أبي عامر عند ما انصرف إلى ملك شاطبة ومرسية تغلّب على بلنسية مدّة، ثم هلك سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ورجعت إلى ابن مردنيش. وكان أحمد بن عيسى تغلّب على حصن مزيلة ثائرا بالمرابطين من أتباعه فغلب منذر بن أبي وزير عليه، فأجاز سنة أربعين وخمسمائة إلى عبد المؤمن، ورغّبه في ملك الأندلس فبعث معه البعوث وتغلّبوا على بني غانية أمراء المرابطين بالأندلس. وكان بميورقة أيضا منذ اضطراب أمر لمتونة محمد بن علي بن غانية المستوفي، وليها سنة عشرين وخمسمائة، واستشهد بها. ورحل عنها سنة سبع وثلاثين إلى زيارة أخيه يحيى ببلنسية واستخلف على ميورقة عبد الله بن تيما فلما مكث ثار عليه ثوّار فرجع محمد بن غانية وأصلح شأنها إلى أن هلك سنة سبع وستين. وولي ابنه إبراهيم أبو إسحاق وتوفي سنة ثمانين وخمسمائة.
وولي بعده أخوه طلحة وبايع للموحّدين سنة إحدى وثمانين، وأوفد عليهم أهل
__________
[1] شاطبة: بالطاء المهملة، والباء الموحدة: مدينة شرقي الأندلس وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة، يعمل الكاغد الجيّد فيها ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس. (معجم البلدان) .
[2] شقر: بفتح أوله وسكون ثانيه، جزيرة شقر: في شرقي الأندلس، وهي انزه بلاد الله وأكثرها روضة وشجرا وماء (معجم البلدان) .(4/213)
ميورقة، فبعثوا معهم علي بن الربرتبر، فلما وصل إلى ميورقة ثار على طلحة بنو أخيه أبي إسحاق وهم عليّ ويحيى ويعفر بن الربرتبر وخلعوا طلحة. ثم بلغهم موت يوسف بن عبد المؤمن فخرجوا إلى إفريقية حسبما نذكر في أخبار دولتهم، فانقرضت دولة المرابطين بالمغرب والأندلس وأدال الله منهم بالموحّدين وقتلوهم في كل وجه، واستفحل أمرهم بالأندلس واستعملوا فيها القرابة من بني عبد المؤمن وكانوا يسمّونهم السادة، واقتسموا ولايتها بينهم. وأجاز يعقوب المنصور منهم غازيا بعد أن استقرّ أهل العدوة كافة من زناتة، فأوقع العرب بابن أدفونش ملك الجلالقة بالأركه من نواحي بطليوس الوقعة المذكورة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأجاز ابنه الناصر من بعده سنة تسع فمحص الله المسلمين واستشهد منهم عدة. ثم تلاشت أمراء الموحّدين من بعده وانتزى بالسادة بنواحي الأندلس في كلّ عمله، وضعف بمراكش فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بقص، واستسلام حصون المسلمين إليه في ذلك فسمت رجالات الأندلس وأعقاب العرب من دولة الأموية، وأجمعوا إخراجهم فثاروا بهم لحين وأخرجوهم. وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس. وقام ببلنسية زيّان بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد، من أعقاب دولة بني مردنيش وثوار آخرون. ثم خرج عليّ بن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضا، وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، وتلقّب محمد هذا بالشيخ فحاربه أهل الجبل، وكانت لكل منهما دولة أورثها بنيه. فأمّا زيد بن مردنيش فكان مع عشرة من بني مردنيش رؤساء بلنسية، واستظهر الموحّدون على إمارتها. ولما وليها السيد أبو زيد بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن بعد مهلك المستنصر كما نذكر في أخبارهم، وذلك سنة عشرين وستمائة، كان زيّان هذا بطانته وصاحب أمره. ثم انتقض عليه سنة ست وعشرين عند ما بويع ابن هود بمرسية وخرج إلى أبدة فخشيه السيد أبو زيد، وبعث إليه يلاطفه في الرجوع فامتنع، ولحق السيد أبو زيد بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية أعاذنا الله من ذلك. وملك زيّان بلنسية واتصلت الفتنة بينه وبين ابن هود، وخالف عليه بنو عمّه عزيز بن يوسف بن سعد في جزيرة شقر، وصاروا إلى طاعة ابن هود وزحف زيّان للقائه على شريش فانهزم وتبعه ابن هود ونازلة في بلنسية أياما وامتنعت عليه فأقلع، وتكالب الطاغية على ثغور المسلمين، ونازل صاحب برشلونة أنيشة وملكها،(4/214)
وزحف زيّان إليها بجميع من معه من المسلمين سنة أربع وثلاثين ونفر معه أهل شاطبة وجزيرة شقر فكانت عليهم الواقعة العظيمة التي استشهد فيها أبو الربيع سليمان، وأخذ الناس في الانتقال عن بلنسية، فبعث إليهم يحيى بن أبي زكريا صاحب إفريقية بالمدد من الأموال والأسلحة والطعام مع قريبه يحيى عند ما نبذ دعوة بني عبد المؤمن وأوفد عليه أعيان بلنسية وهي محصورة فرجع إلى دانية. ثم أخذ الطاغية بلنسية سنة ست وثلاثين، وخرج زيّان إلى جزيرة شقر وأقام بدعوة الأمير أبي زكريا، وبعث إليه بيعتها مع كاتبه الحافظ أبي عبد الله محمد بن الأنباري فوصل إلى تونس، وأنشده قصيدته المشهورة على رويّ السين بلغ فيها من الإجادة حيث شاء، وهي معروفة وسيأتي ذكرها في دولة بني حفص بإفريقية من الموحدين.
ثم هلك ابن هود وانتقض أهل مرسية على ابنه أبي بكر الواثق، وكان واليه بها أبو بكر بن خطّاب، فبعثوا إلى زيّان واستدعوه فدخلها وانتهب قصرها وحملهم على البيعة للأمير أبي زكريا على ولاية شرق الأندلس كله، وذلك سنة سبع وثلاثين. ثم انتقض عليه ابن عصام بأريولة ولحق به قرابة زيّان بمدينة لقنت فلم يزل بها إلى أن أخذها منه طاغية برشلونة سنة أربع وأربعين فأجاز إلى تونس، وبها مات سنة ثمان وستين. وأمّا ابن هود فسيأتي الخبر عن دولته، وأما ابن الأحمر فلم تزل الدولة في أعقابه لهذا العهد. ونحن ذاكرون أخبارهم لأنهم من بقايا دولة العرب والله خير الوارثين.
(الخبر عن ثورة ابن هود على الموحدين بالأندلس ودولته وأولية أمره وتصاريف أحواله)
هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن أحمد بن سليمان المستعين بن محمد بن هود ثار بالصخيرات من عمل مرسية مما يلي رقوط [1] عند فشل دولة الموحّدين، واختلاف السادة الذين كانوا أمراء ببلنسية، وذلك عند ما هلك المستنصر سنة عشرين. وبايع الموحدون بمراكش لعمّه المخلوع عبد الواحد بن أمير المؤمنين
__________
[1] رقوط: لعلها رقوبل- ولم نجد لرقوط اي اسم: وهي مدينة بين شنت بريّة ومدينة سرتّة بالأندلس، قديمة البناء (معجم البلدان) .(4/215)
يوسف. ثار العادل ابن أخيه المنصور بمرسية ودخل في طاعة صاحب حيّان أبو محمد عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وخالفهما في ذلك السيد أبو زيد أخوه ابن محمد بن أبي حفص. وتفاقمت الفتنة واستظهر كل على أمره بالطاغية، ونزلوا له عن كثير من الثغور وقلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس، فتصدّر ابن هود هذا للثورة، وهو من أعقاب بني هود من ملوك الطوائف، وكان يؤمّل لها وربما امتحنه الموحّدون لذلك مرّات، فخرج في نفر من الأجناد سنة خمس وعشرين، وجهّز إليه والي مرسية يومئذ السيد أبو العبّاس بن أبي عمران موسى بن أمير المؤمنين يوسف ابن عبد المؤمن عسكرا فهزمهم. وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد، وخطب للمستنصر صاحب بغداد لذلك العهد من بني العبّاس. وزحف إليه السيد أبو زيد ابن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن من شاطبة، وكان واليه بها فهزمه ابن هود ورجع إلى شاطبة. واستجاش بالمأمون وهو يومئذ بإشبيليّة بعد أخيه العادل فخرج في العساكر، ولقيه ابن هود فانهزم واتبعه إلى مرسية فحاصره مدّة، وامتنعت عليه فأقلع عنه ورجع إلى إشبيلية. ثم انتقض على السيد أبي زيد ببلنسية زيّان بن أبي الحملات مدافع بن حجّاج بن سعد بن مردنيش، وخرج عنه إلى أبّدة [1] وذلك سنة ست وعشرين. وكان بنو مردنيش هؤلاء أهل عصابة وأولي بأس وقوة، فتوقّع أبو زيد اختلال أمره، وبعث إليه ولاطفه في الرجوع فامتنع فخرج أبو زيد من بلنسية. ولحق بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية، نعوذ باللَّه. وبايعت أهل شاطبة لابن هود، ثم تابعه أهل جزيرة شقر حملهم عليها ولاتهم بنو عزيز بن يوسف عم زيّان بن مردنيش، ثم بايعه أهل خبيان [2] وأهل قرطبة، وتسمّى بأمير المسلمين، وبايعه أهل إشبيلية عند رحيل المأمون عنها إلى مراكش، وولّى عليهم أخاه. ونازعه زيّان بن مردنيش، وكانت بينهما ملاقاة انهزم فيها زيّان سنة تسع وعشرين، وحاصره ابن هود ببلنسية. ثم أقلع ولقي الطاغية على ماردة فانهزم ومحص الله المسلمين، وانهزم بعدها أخرى على الكوس. ولم تزل غزواته متردّدة في بلاد العدوّ
__________
[1] أبدة: بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس من كورة جيّان، تعرف بأبدة العرب (معجم البلدان) .
[2] لعلها جيّان وقد حصل بعض التحريف من الناسخ لأننا لم نعثر على خبيان في المراجع التي بين أيدينا.
وجيّان: مدينة لها كورة واسعة بالأندلس تتصل بكورة البيرة مائلة عنها الى ناحية الجوف في شرقي قرطبة، بينها وبين قرطبة سبعة عشر فرسخا (معجم البلدان) .(4/216)
كل سنة وحربه معهم سجالا، والطاغية يلتقم الثغور والقواعد. ثم استولى ابن هود على الجزيرة الخضراء وجبل الفتح فرضتي المجاز على سبتة من يد السيد أبي عمران موسى لما انتقض على أخيه المأمون، ونازلة بسبتة فبايع هو لابن هود وأمكنه منها. ثم ثار بها اليناشتّي على ما يذكر. ثم بويع للسلطان محمد بن يوسف بن نصر سنة تسع وعشرين بأرجونة ودخلت قرطبة في طاعته، ثم قرمونة ثم انتقض أهل إشبيلية وأخرجوا سالم بن هود وبايعوا لابن مروان أحمد بن محمد الباجي وجهّز عسكرا للقاء ابن الأحمر فانهزموا وأسر قائده. ثم أصفق الباجي مع ابن الأحمر على فتنة ابن هود وصالح ابن هود ألفنش على فعلتهم على ألف دينار كل يوم. ثم صارت قرطبة إلى ابن هود وزحف إلى الباجي وابن الأحمر فانهزم، ونزل ابن الأحمر ظاهر إشبيلية. ثم غدر الباجي فقتله وتولّى ذلك صهره أشقيلولة، وزحف سالم بن هود إلى إشبيلية فنازلها وامتنعت عليه. ووصل خطاب الخليفة المستنصر العبّاسي إلى ابن هود من بغداد سنة إحدى وثلاثين، وفد به أبو علي حسن بن علي بن حسن بن الحسين الكرديّ الملقّب بالكمال. وجاء بالراية والخلع والعهد ولقبه المتوكل. وقدم عليه بذلك في غرناطة في يوم مشهود، وبايع له ابن الأحمر، وعند ما غدر ابن الأحمر بالباجي فرّ من إشبيلية شعيب بن محمد إلى البلد فاعتصم بها، وتسمّى المعتصم فحاصره ابن هود وأخذها من يده. ثم خرج العدوّ من كل جهة ونازلوا ثغور المسلمين وأحاطوا بهم، وانتهت محلاتهم على الثغور إلى سبع. ثم حاصر الطاغية مدينة قرطبة وغلب عليها سنة ثلاث وثلاثين وبايع أهل إشبيلية للرشيد من بني عبد المؤمن، ثم زحف ابن الأحمر إلى غرناطة وملكها كما يذكر، وبويع للرشيد سنة سبع وثلاثين.
وكان عبد الله أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الأموي الرميمي وزير ابن هود، وكان يدعوه ذا الوزارتين ولّاه المريّة من عمله، فلم يزل بها وقدم عليه المتوكل سنة خمس وثلاثين وستمائة فهلك بالحمام ودفن بمرسية. ويقال إنه قتله ثم استبدّ من بعده المؤيّد، واستنزله عنها ابن الأحمر سنة ثلاث وأربعين. ولما هلك المتوكّل ولي من بعده بمرسية ابنه أبو بكر محمد بعهده إليه وتلقّب بالواثق، وثار عليه عزيز بن عبد الملك بن خطاب سنة ست وثلاثين لأشهر من ولايته فاعتقله، وكان يلقّب ضياء الدولة. ثم تغلّب زيّان بن مردنيش على مرسية وقتل ابن خطاب لأشهر من ولايته.
وأطلق الواثق بن هود من اعتقاله. ثم ثار عليه بمدينة مرسية محمد بن هود عمّ(4/217)
المتوكّل سنة ثمان وثلاثين، وأخرج منها زيّان بن مردنيش، وتلقّب بهاء الدولة، وهلك سنة سبع وخمسين وستمائة. وولي ابنه الأمير أبو جعفر، ثم ثار عليه سنة اثنتين وستين أبو بكر الواثق الّذي كان ابن خطّاب خلعه، وهو المتوكل أمير المسلمين، وبقي بها أميرا إلى أن ضايقه الفنش والبرشلونيّ، فبعث إليه عبد الله بن علي بن أشقيلولة، وتسلّم مرسية منه. وخطب بها لابن الأحمر. ثم خرج منها راجعا إلى ابن الأحمر فأوقع به البصريّ في طريقه، ورجع الواثق إلى مرسية ثالثة فلم يزل بها إلى أن ملكها العدوّ من يده سنة ثمان وستين، وعوّضه منها حصنا من عملها يسمّى يسّ إلى أن هلك، والله خير الوارثين.
(الخبر عن دولة بني الأحمر ملوك الأندلس لهذا العهد ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة ولهم فيها سلف في أبناء الجند ويعرفون ببني نصر، وينسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان كبيرهم لآخر دولة الموحّدين محمد ابن يوسف بن نصر، ويعرف بالشيخ وأخوه إسماعيل. وكانت لهم وجاهة في ناحيتهم. ولما فشل ريح الموحّدين وضعف أمرهم وكثر الثوّار بالأندلس، وأعطى حصونها للطاغية، واستقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية، فأقام بدعوته العبّاسيّة، وتغلّب على شرق الأندلس أجمع فتصدّى محمد بن يوسف هذا للثورة على ابن هود وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة على الدعاء للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية، وأطاعته حيّان [1] وشريش سنة ثلاثين بعدها، وكان يعرف بالشيخ ويلقّب بأبي دبوس. واستظهر على أمره أوّلا بقرابته من بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة عبد الله وعلي. ثم بايع لابن هود سنة إحدى وثلاثين عند ما وصله خطاب الخليفة من بغداد. ثم ثار بإشبيليّة أبو مروان الباجي عند خروج ابن هود عنها، ورجوعه إلى مرسية فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوّجه ابنته فأطاعه، ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين. ثم فتك بابن الباجي وقتله، وتناول
__________
[1] هي جيّان. وقد مرّ ذكرها من قبل.(4/218)
الفتك به علي بن أشقيلولة. ثم راجع أهل إشبيلية بعدها لشهر دعوة ابن هود، وأخرجوا ابن الأحمر. ثم تغلّب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها ثم ثار ابن أبي خالد بدعوته في لحيان ووصلته بيعتها، فقدّم إليها أبا الحسن بن أشقيلولة. ثم جاء على أثره ونزلها واستقرّ بها بعد مهلك ابن هود، وبايع للرشيد سنة تسع وثلاثين ثم تناول المؤيد من يد محمد بن الرميمي فخلعه أهل البلد سنة ثلاث وستين وبايعوا لابن الأحمر. ثم ثار أبو عمرو بن الجدّ واسمه يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ أبي بكر وملك إشبيلية، وبايع للأمير أبي زكريا بن حفص صاحب إفريقية سنة ثلاث وأربعين، وولي عليهم أبو زكريا أميرا، وقام بأمرهم القائد شغاف، والعدوّ أثناء ذلك يلتقم بلاد المسلمين وحصونهم من لدن عام عشرين أو قبله، وصاحب برشلونة من ولد البطريق الّذي استعمله الإفرنجة عليها الأوّل استرجاعهم لها من أيدي العرب فتغلّب عليها، وبعد عن الفرنجة، وضعف لعهده سلطانهم. ووصلوا وراء الدروب وعجزوا فكانوا عن برشلونة وجماعتها أعجز، فسما أهل طاغيتها منهم لذلك العهد، واسمه حاقمة إلى التغلّب على ثغور المسلمين.
واستولى على ماردة سنة ست وعشرين وستمائة. ثم ميورقة سنة سبع وعشرين وستمائة، ثم أجاز إلى سرقسطة وشاطبة كان تملكها منذ مائة وخمسين من السنين قبلها. ثم بلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعد حصار طويل وطوى ما بين ذلك من الحصون والقرى حتى انتهى إلى المريّة وحصونها، وابن أدفونش أيضا ملك الجلالقة هو ابن الادفونش- الملقب بالحكيم- وآباؤه من قبله يتقرّى الفرستيرة حصنا حصنا، ومدينة مدينة إلى أن طواها واستعبد ابن الأحمر هذا لأوّل أمره بما كان بينه وبين الثوّار بالأندلس من المنازعة فوصل يده بالطاغية في سبيل الاستظهار على أمره فوصله وشدّ عضده، وصار ابن الأحمر في جملته وأعطاه ابن هود ثلاثين من الحصون أو نحوها في كفّ غربة عن ابن الأحمر، وأن يعيّنه على ملك قرطبة فتسلّمها. ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وأعاد إليها خيرة الله كلمة الكفر. ثم نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه مظهر الامتعاض لابن الجدّ وحاصرها سنتين ثم دخلها صلحا. وانتظم معها حصونها وثغورها وأخذ طليطلة من يد ابن كماشة، وغلب بعد ذلك ابن محفوظ على شلب وطليبرة سنة تسع وخمسين.
ثم ملك مرسية سنة خمس وستين ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك الأندلس كورة كورة(4/219)
وثغرا ثغرا إلى أن ألجأ المسلمين إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب والبيرة من شرق الأندلس. نحو عشر مراحل من الغرب الى الشرق وفي مقدار مرحلة أو ما دونها في العرض ما بين البحر والجوف ثم سخط بعد ذلك الشيخ ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على كافة الجزيرة فامتنعت عليه وتلاحق بالأندلس غزاة من زناتة الثائرين يومئذ من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وبني مرين. وكان أعلاهم كعبا في ذلك وأكثرهم غزي بنو مرين، فأجاز أوّلا أولاد إدريس بن عبد الحق وأولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق أعياص الملك منهم سنة ستين أو نحوها، فتقبل ابن الأحمر إجازتهم ودفع بهم في نحر عدوّه، ورجعوا ثم تهايلوا إليه من بعد ذلك من كل بيت من بيوت بني مرين ومعظمهم الأعياص من بني عبد الحق لما تزاحمهم مناكب السلطان في قومهم وتغص بهم الدولة فينزعون إلى الأندلس مغنين بها من بأسهم وشوكتهم في المدافعة عن المسلمين، ويخلصون من ذلك على حظ من الدولة بمكان. ولم يزل الشأن هذا إلى أن هلك محمد بن يوسف بن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة، وقام بأمره من بعده ابنه محمد وكان يعرف بالفقيه لما كان يقرأ الكتاب من بين أهل بيته، ويطالع كتب العلم. وكان أبوه الشيخ أوصاه باستصراخ ملوك زناتة من بني مرين الدائلين بالمغرب من الموحّدين وأن يوثق عهده بهم ويحكم أراضي سلطانه بمداخلتهم، فأجاز محمد الفقيه ابن الأحمر إلى يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين سنة اثنتين وسبعين وستمائة عند ما تم استيلاؤه على بلاد المغرب، وتغلّبه على مراكش، وافتقاده سرير ملك الموحّدين بها فأجاب صريخه، وأجاز عساكر المسلمين من بني مرين وغيرهم إلى الجهاد مع ابنه منديل. ثم جاء على أثرهم وأمكنه ابن هشام من الجزيرة الخضراء، كان ثائرا بها فتسلّمها منه ونزل بها، وجعلها ركابا لجهاده وينزل بها جيش الغزو. ولما أجاز سنة اثنتين وسبعين كما قلناه هزم زعيم النصرانية، ثم حذره ابن الأحمر على ملكه فداخل الطاغية. ثم حذّر الطاغية فراجعه وهو مع ذلك يده في نحره بشوكة الأعياص الذين نزعوا إليه من بني مرين بما شاركوا صاحب المغرب من نسب ملكه وقاسموه في يعسوبية قبيلته، فكان له بذلك مدفع عن نفسه ومرض في طاعة قرابته من بني أشقيلولة، كان عبد الله منهم بمالقة وعلي بوادي آش وإبراهيم بحصن قمارش فالتاثوا عليه، وداخلوا يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين في المظاهرة عليه فكان له معهم فتنة، وأمكنوا يعقوب من الثغور التي(4/220)
بأيديهم مالقة ووادي آش حتى استخلصها هذا السلطان الفقيه من بعد ذلك، كما نذكره في أخبار بني مرين مع بني الأحمر. وصار بنو أشقيلولة آخرا وقرابتهم بني الزرقاء إلى المغرب، ونزلوا على يعقوب بن عبد الحق وأكرم مثواهم وأقطعهم واستعملهم في كبير الخطط للدولة حسبما يذكر. واستبدّ السلطان الفقيه ابن الأحمر بملك ما بقي من الأندلس وأورثه عقبه من غير قبيل ولا كثير عصبة، ولا استكثار من الحامية إلا من يأخذه الجلاء من فحول زناتة وأعياص الملك فينزلون بهم غزي، ولهم عليهم عزّة وتغلّب وسبب ذلك ما قدّمناه في الكتاب الأوّل من إفقاد القبائل والعصائب بأرض الأندلس جملة فلا تحتاج الدولة هنالك إلى كبير عصبية، وكان للسلطان ابن الأحمر في أوّل أمره عصبية من قرابته بني نصر وأصهارهم بني أشقيلولة وبني المولى ومن تبعهم من الموالي والمصطنعين كانت كافية في الأمر من أوّله مع معاضدة الطاغية على ابن هود وثوّار الأندلس ومعاضدة ملك المغرب على الطاغية والاستظهار بالأعياص على ملك المغرب، فكان لهم بذلك كله اقتدار على بلوغ أمرهم وتمهيده، وربما يفهم في مدافعة الطاغية اجتماع الخاصّة والعامّة في عداوته، والرهب منه بما هو عدوّ للدين فتستوي القلوب في مدافعته ومخافته فينزل ذلك بعض الشيء منزلة العصبية. وكانت إجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق إليه أربع مرات، وأجاز ابنه يوسف إليهم بعد أبيه. ثم شغلته الفتنة مع بني يغمر أسن إلى أن هلك السلطان الفقيه سنة إحدى وسبعمائة، وهو الّذي أعان الطاغية على منازلة طريف وأخذها، وكان يمير عسكره مدّة حصاره إياها إلى أن فتحها سنة [1] لما كانت ركابا لصاحب المغرب، متى همّ بالجواز لقرب مسافة الزقاق. فلما ملكها الطاغية صارت عينا على من يروم الجواز من الغزاة فغضب أمره عليهم، وولي من بعده ابنه محمد المخلوع، واستبدّ عليه وزيره محمد بن محمد بن الحكم اللخميّ، من مشيخة رندة ووزرائها فحجره واستولى على أمره، إلى أن ثار به أخوه أبو الجيّوش نصر بن محمد فقتل الوزير، واعتقل أخاه سنة ثمان وسبعمائة وكان أبوهما السلطان الفقيه استعمل على مالقة الرئيس أبا سعيد ابن عمه إسماعيل بن نصر، وطالت فيها إمارته، وهو الّذي تملّك سبتة وغدر بني الغرفي بها على عهد المخلوع
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي نسخة اخرى سنة اربع وسبعمائة.(4/221)
وبدعوته كما يذكر في أخبار سبتة ودولة بني مرين. وكان أصهر إليه في ابنته وكان له منها ابنه أبو الوليد إسماعيل، فلما تملّك الجيوش نصر غرناطة واستولى على سلطانهم بها ساءت سيرته وسيرة وزيره ابن الحاج وأحقد الأعياص من بني مرين، واستظهر الرعية بالقهر والعسف. وكان بنو إدريس بن عبد الله بن عبد الحق أمراء على الغزاة بمالقة، وكان كبيرهم عثمان بن أبي المعلّى، فداخل أبا الوليد في الخروج على السلطان نصر، وتناول الأمر من يده لضعفه وسعفه بطانته وأقربائه فاعتزموا على ذلك، ولم يتم لهم إلا باعتقال أبيه أبي الجيوش فاعتقلوه، وبايعوا أبا الوليد. وثار بمالقة سنة سبع عشرة الرئيس أبو سعيد وزحفوا إلى غرناطة فهزموا عساكر أبي الجيّوش وثارت به الدهماء من أهل المدينة، وأحيط به. وصالحهم على الخروج إلى وادي آش فلحق بها، وجدّد بها ملكا إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين، ودخل أبو الوليد إلى غرناطة فاضل بها لنفسه وبنيه ملكا جديدا، وسلطانا فسيحا. ونازلة ملك النصارى ألفنش بغرناطة سنة ثمان عشرة وأبلى فيها بني أبي العلا. ثم كان من تكييف الله تعالى في قتله وقتل رديفه، واستلحام جيوش النصرانية بظاهر غرناطة ما ظهرت فيه معجزة من معجزات الله. وتردّد إلى أرض النصرانية بنفسه، غازيا مرّات مع عساكر المسلمين من زناتة والأندلس، وكانت زناتة أعظم غناء في ذلك لقرب عهدهم بالتقشّف والبداوة التي ليست للناس. وبلغ أبو الوليد من العزّ والشوكة إلى أن غدر به بعض قرابته من بني نصر سنة سبع وعشرين وسبعمائة، طعنه غدرا عند ما انفض مجلسه بباب داره فأنفذه وحمل إلى فراشه، ولحق القادر بدار عثمان بن أبي العلى فقتله لحينه وقتل الموالي المجاهدين، فخرج عليهم ولحق بانديس فتملّكها واستدعى محمد ابن الرئيس أبي سعيد في معتقله بسلوباشة، ونصّبه للملك فلم يتمّ له مراده من ذلك. ورجعوا آخرا للمهادنة، وقتل السلطان محمد وزيره ابن المحروق بداره غدرا سنة تسع وعشرين، واستدعاه للحديث على لسان عمّته المتغلّبة عليه مع ابن المحروق، وتناوله مع علوجه طعنا بالخناجر إلى أن مات. وقام السلطان بأعباء ملكه، ورجع عثمان ابن أبي العلى إلى مكانه من يعسوبية الغزاة وزناتة، حتى إذا هلك قدّم عليهم مكانه ابنه أبا ثابت، وأجاز السلطان محمد إلى المغرب صريخا للسلطان أبي الحسن على الطاغية فوجده مشغولا بفتنة أخيه محمد. ومع ذلك جهّز له العساكر وعقد عليها سنة ثلاث وثلاثين. واستراب بنو أبي العلى بمداخلة(4/222)
السلطان أبي الحسن، فتشاوروا في أمره وغدروا به يوم رحيله عن الجبل إلى غرناطة، فتقاصفوه بالرماح، وقدّموا أخاه أبا الحجّاج يوسف، فقام بالأمر وشمّر عن ساعده في الأخذ بثأر أخيه، فنكب بني العلى وغرّبهم إلى تونس، وقدّم على الغزاة مكان أبي ثابت بن عثمان قرثية من بني رحو بن عبد الله بن عبد الحق، وهو يحيى بن عمر بن رحو، فقام بأمرهم وطال أمر رياسته. واستدعى السلطان أبو الحجّاج السلطان أبا الحسن صاحب المغرب فأجاز ابنه عند ما تمّ له الفتح بتلمسان، وعقد له على عساكر جمّة من زناتة والمطوّعة فغزاهم، وغنم وقفل راجعا. وتلاحقت به جموع النصارى وبيّتوه على حدود أرضهم، فاستشهد كثير من الغزاة، وأجاز السلطان أبو الحسن سنة إحدى وأربعين بكافة أهل المغرب من زناتة ومغراوة والمرتزقة والمتطوّعة فنازل طريف، وزحف إليه الطاغية فلقيه بظاهرها فانكشف المسلمون، واستشهد الكثير منهم، وهلك فيها نساء السلطان وحريمه وفسطاطه من معسكره، وكان يوم ابتلاء وتمحيص. وتغلّب الطاغية أثرها على القلعة ثغر غرناطة، ونازل الجزيرة الخضراء وأخذها صلحا سنة ثلاث وأربعين، ولم يزل أبو الحجّاج في سلطانه إلى أن هلك يوم الفطر سنة خمس وخمسين، طعنه في سجوده من صلاة العيد وغد من صفاعفة البلد كان مجتمعا. وتولّى ابنه واستبدّ عليه مولاهم رضوان حاجب أبيه وعمّه فقام بأمره وغلبه عليه وحجبه. وكان إسماعيل أخوه ببعض قصور الحمراء قلعة الملك، وكانت له ذمّة وصهر من محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد، بما كان أبوه أنكحه شقيقة إسماعيل هذا. وكان أبو يحيى هذا يدعى بالرئيس وجدّه محمد هذا هو الّذي قدّمنا أنّ عثمان بن أبي العلى دعاه من مكان اعتقاله للملك فداخل محمد هذا الرئيس بعض الزعالقة من الغوغاء، وبيت حصن الحمراء، وتسوّره وولج على الحاجب رضوان في داره فقتله، وأخرج صهره إسماعيل ونصّبه للملك ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ستين وسبعمائة.
وكان السلطان محمد هذا المخلوع بروضة خارج الحمراء، فلحق بوادي آش وأجاز منها إلى العدوة، ونزل على ملك المغرب السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن فرعى له ذمّته، وأحمد نزوله وارتاب شيخ الغزاة يحيى بن عمرو بالدولة ففرّ إلى دار الحرب ولحق منها بالمغرب ونزل على السلطان أبي سالم فأحمد نزوله، وولي مكانه على الغزاة بغرناطة من جهة إدريس بن عثمان بن أبي العلى. وقام الرئيس بأمر(4/223)
إسماعيل أخيه ودبّر ملكه. ثم تردّدت السعايات ونذر الرئيس بالنكبة فغدر بإسماعيل، وقتله وإخوته جميعا سنة إحدى وستين. وقام بملك الأندلس ونبذ إلى الطاغية عهده ومنعه ما كان سلفه يعطونه من الجزية على بلاد المسلمين، فشمّر الطاغية لحربه، وجهّز العساكر إليه فأوقع المسلمون بهم بوادي آش وعليهم بعض الرؤساء من قرابة السلطان فعظمت النكاية. وأرسل ملك المغرب إلى الطاغية في شأن محمد المخلوع وردّه إلى ملكه، فأركب الأساطيل وأجازه إلى الطاغية فلقيه ووعده المظاهرة على أمره، وشرط له الاستئثار بما يفتح من حصون المسلمين. ثم نقض فيما افتتح منها ففارقه السلطان وأوى إلى الثغر المغربي في ملكة بني مرين، وأمكن من ثغور رندة، فزحف منها إلى مالقة سنة خمس وستين فافتتحها، وفرّ الرئيس محمد بن إسماعيل من غرناطة ولحق بالطاغية. وكان معه إدريس بن عثمان شيخ الغزاة بحبسه إلى أن فرّ من محبسه بعد حين، كما يذكر في أخبارهم. وزحف السلطان محمد فيمن معه وأتوه بحاجب الرئيس وقتله، واستلحم معه الرجال من الزعالقة الذين قتلوا الحاجب وتسوّروا قصور الملك. ودخل السلطان محمد غرناطة واستولى على ملكه، وقدّم على الغزاة شيخهم يحيى بن عمر، واختصّ ابنه عثمان، ثم نكبهما لسنة وحبسهما بالمطبق بالمرية، ثم غرّبهما بعد أعوام وقدّم على الغزاة قريبهما علي بن بدر الدين بن محمد بن رحو. ثم مات فقدّم مكانه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وترفّع على السلطان أبي علي ابن محمد ملك المغرب، وتملأ هذا السلطان محمد المخلوع أريكة ملكه بالحمراء ممتنعا بالظهور والترف والعزّة على الطاغية والجلالقة، وعلى ملوك المغرب بالعدوة بما نال دولتهم جميعا من الهرم الّذي يلحق الدول. وأمّا الجلالقة فانتقضوا على ملكهم بطرة ابن أدفونش سنة ثمان وستين من لدن مهلك أبيهما، ووقعت بين بطرة وبين ملك برشلونة بسبب إجارته عليه فتن وحروب حجر منها الجلالقة، وكانت سببا لانتقاضهم على بطرة واستدعائهم لأخيه ألفنش فجاء وبايعوه. وانحرفوا إليه جميعا عن بطرة، فتحيّز إلى ناحية بلاد المسلمين واستدعى هذا السلطان محمدا صاحب غرناطة لنصره من عدوّه، وأغزاه ببلاد ألفنش ففتح كثيرا من معاقلها وخرّبها مثل حيّان [1] وأبدّة وأثر وغيرها. وعاث في بسائطها ونزل قرطبة وخرّب نواحيها ورجع ظافرا غانما. ولحق
__________
[1] هي جيّان وقد مرت معنا من قبل.(4/224)
ببطرة سلطان الإفرنجة الأعظم في ناحية الشمال من وراء جزيرة الأندلس، وهو صاحب جزيرة أركبلطرة وتسمّى بنسر غالس، وفد عليه صريخا وزوّجه بنته، فبعث ابنه لنصره في أمم الإفرنج. وانهزم ألفنش أمامهم، وارتجع بطرة البلاد حتى إذا رجعت عساكر الإفرنجة، رجع ألفنش فارتجع [1] البلاد ثانيا وحاصر أخاه بطرة في بعض حصون جلّيقة حتى أخذه وقتله واستولى على ملكهم. واغتنم السلطان صاحب غرناطة شغلهم بهذه الفتنة فاعتزّ عليهم، ومنع الجزية التي كانوا يأخذونها من المسلمين منذ عهد سلفه فأقاموا من لدن سنة اثنتين وسبعين لا يعطونهم شيئا.
واستمرّ على ذلك وسما إلى مطالبتهم بنسر غالس ملك الفرنجة من ورائهم الّذي جاء لنصر بطرة، وأنكحه بطرة ابنته، وولدت له ولدا فزعم أبوه هذا الملك أنه أحق بالملك من ألفنش وغيره على عادة العجم في تمليك الأسباط من ولد البطن. وطالت الحرب بينهما ونزل بالجلالقة من ذلك شغل شاغل، واقتطع الكثير من ثغورهم وبلادهم، فمنعهم ابن الأحمر الجزية واعتزّ عليهم كما ذكرناه، والحال على ذلك لهذا العهد. وأمّا ملوك المغرب فإن السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن لما استبدّ بملكه واستفحل أمره، وكان عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مقدّما على الغزاة بالأندلس كما قلناه، وهو قسيمه في النسب ومرادفه في الترشيح للملك، فعثر السلطان عبد العزيز على مكاتبة بينه وبين أهل دولته، فارتاب وبعث إلى ابن الأحمر في حبسه فحبسه، وحبس معه الأمير مسعود بن ماسي لكثرة خوضه في الفتنة، ومكاتبته لأهل الدولة. فلما توفي السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وبويع ابنه محمد السعيد يافعا وكفله وزير أبيه أبو بكر بن غازي الثائر أطلق ابن الأحمر عبد الرحمن بن أبي يغلوسن من محبسه فنقم ذلك عليه الوزير أبو بكر كافل الدولة بالمغرب، واعتزم على بعث الرؤساء من قرابة ابن الأحمر إلى الأندلس لمنازعته، ومدّه بالمال والجيش. وبلغ ذلك ابن الأحمر فعاجله عنه وسار في العساكر إلى فرضة المجاز، ونازل جبل الفتح، ومعه ابن يغلوسن وابن ماسي، وأركبهما السفن فنزلوا ببلاد بطرة فاضطرب المغرب، واشتدّ الحصار على أهل جبل الفتح، واستأمنوا لابن الأحمر وأطاعوه. وكان بسبتة محمد بن عثمان بن الكاس صهر أبي بكر بن غازي وقريبه بعثه
__________
[1] بمعنى استعاد والأصح أن يقول واسترجع البلاد ثانيا.
ابن خلدون م 15 ج 4(4/225)
لضبط المراسي عند ما نزل ابن الأحمر على الجبل، وبطنجة يومئذ جماعة من ولد السلطان أبي الحسن المرشحين محبوسون منذ عهد عبد العزيز، فوقعت المراسلة من السلطان ابن الأحمر ومحمد بن عثمان، ونكر عليه مبايعتهم لولد صغير لم يراهق.
وأشار ببيعة واحد من أولئك المرشّحين المحبوسين بطنجة، ووعده بالمظاهرة والمدد بالمال والجيش، ووقع اختيار محمد بن عثمان على السلطان أبي العبّاس أحمد، فأخرجه وبايع له. وقد كان أولئك الفتية تعاهدوا في محبسهم أنّ من استولى منهم على الملك أطلق الباقين منهم، فوفّى لهم السلطان أبو العبّاس لأوّل بيعته، وأطلقهم من المحبس، وبعثهم إلى الأندلس، ونزلوا على السلطان ابن الأحمر فأكرمهم وجعلهم لنظره. وبعث بالأموال والعساكر للسلطان أبي العبّاس ولوزيره محمد بن عثمان، وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي يغلوسن بموافقتهما واجتماعهما على الأمر، فساروا جميعا ونازلوا دار الملك بفاس حتى استأمن ابو بكر بن غازي للسلطان أبي العبّاس، وأمكنه من البلد الجديد دار الملك فدخلها في محرّم سنة ست وسبعين. وشيّع عبد الرحمن بن أبي يغلوسن إلى مراكش وأعمالها وسوّغ له ملكها كما كان الوفاق بينهما من قبل. وبعث بالسعيد بن عبد العزيز المنصوب، واتصلت الموالاة والمهاداة بينه وبين ابن الأحمر، وانتقض ما بينه وبين عبد الرحمن صاحب مراكش، ونهض مرارا، وحاصره وابن الأحمر يمدّه تارة ويسعى بينهما في الصلح أخرى، إلى أن نهض إليه سنة أربع وثمانين وحاصره شهرا، واقتحم عليه حصنه عنوة وقتله ورجع إلى فاس.
ثم نهض. الى تلمسان، وهرب صاحبها أبو أحمد سلطان بني عبد الواد، ودخل السلطان أبو العبّاس تلمسان. وكان جماعة من سماسرة الفتن قد سعوا ما بينه وبين السلطان ابن الأحمر بالفساد حتى أوغروا صدره، وحملوه على نقض دولة السلطان أبي العبّاس ببعض الأعياص الذين عنده، فاختار من أولئك الفتية الذين نزلوا عليه من طنجة موسى ابن السلطان أبي عنّان، واستوزر له مسعود بن ماسي، وركب السفن معه إلى سبتة فبادر أهلها بطاعة موسى، وأتوه ببيعتهم، وارتحل عنهم إلى فاس وملك السلطان ابن الأحمر سبتة، وصارت في دعوته، وعمد السلطان موسى إلى دار الملك بفاس فوقف عليها يوما، واستأمنوا له آخر النهار فدخلها سنة ست وثمانين، وأصبح جالسا على سرير ملكه. وطار الخبر إلى السلطان أبي العبّاس، وقد ارتحل من تلمسان لقصد أبي حبو وبني عبد الواد بمكانهم من دار الملك فكرّ راجعا،(4/226)
وأغذّ السير إلى فاس، فلما تجاوز تازي وتوسّط ما بينهما وبين فاس، افترق عنه بنو مرين وسائر عساكره، وساروا على راياتهم إلى السلطان موسى، ونهب معسكره، ورجع هو إلى تازي فتوثّق منه عاملها حتى جاء يريد السلطان من فاس فتقبض عليه، وحمله إلى فاس وأزعجه السلطان موسى إلى الأندلس ونزل على ابن الأحمر كما كان هو. واستولى السلطان موسى على المغرب واستبد عليه وزيره مسعود، وطالب ابن الأحمر بالنزول على سبتة فامتنع، ونشأت بينهما الفتنة، ودسّ ابن ماسي لأهل بيته بالثورة على حامية السلطان ابن الأحمر عندهم فثاروا عليهم، وامتنعوا بالقصبة حتى جاءهم المدد في أساطيل ابن الأحمر، فسكن أهل بيته واطمأنت الحال، ونزع إلى السلطان ابن الأحمر جماعة من أهل الدولة، وسألوه أن يبعث لهم ملكا من الأعياص الذين عنده، فبعث إليهم الواثق محمد بن الأمير أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن وشيّعه في الاسطول إلى سبتة، وخرج إلى غمارة وبلغ الخبر إلى مسعود بن ماسي، فخرج إليه في العسكر وحاصره بتلك الجبال. ثم جاءه الخبر بموت سلطانه موسى ابن السلطان أبي عنّان بفاس فارتحل راجعا. ولما وصل إلى دار الملك نصّب على الكرسي صبيا من ولد السلطان أبي العبّاس كان تركه بفاس. وجاء السلطان أبو عنّان ابن الأمير أبي الفضل، ونزل بجبل زرهون قبالة فاس. وخرج ابن ماسي في العساكر فنزل قبالته. وكان متولي أمره أحمد بن يعقوب الصبيحي، وقد غصّ به أصحابه فذبوا [1] عليه وقتلوه أمام خيمة السلطان. وامتعض السلطان لذلك ووقعت المراسلة بينه وبين ابن ماسي على أن يبايع بشرط الاستبداد عليه، واتفقا على ذلك.
ولحق السلطان بابن ماسي ورجع به إلى دار الملك فبايع له وأخذ له البيعة من الناس.
وكانت معه حصة من جند السلطان ابن الأحمر مع مولى من مواليه فحبسهم جميعا.
وامتعض لذلك السلطان فاركب ابا العبّاس البحر وجاء معه بنفسه إلى سبتة فدخلها وعساكر ابن ماسي عليها يحاصرونها، فبايعوا جميعا للسلطان أبي العبّاس. ورجع ابن الأحمر إلى غرناطة، وسار السلطان أبو العباس إلى فاس واعترضه ابن ماسي في العساكر فحاصره بالصفيحة من جبل غمارة، وتحدّث أهل عسكره في اللحاق بالسلطان أبي العبّاس ففزعوا إليه، وهرب ابن ماسي وحاصره السلطان شهرا حتى
__________
[1] فذبوا: ذبّ: دافع وحامي، ولم نجد لها معنى هنا ومقتضى السياق هجم. اما مقتضى سياق الجملة:
ذبّ عنه أصحابه، وقتله جماعة السلطان.(4/227)
نزلوا على حكمه فقطع ابن ماسي بعد أن قتله ومثّل به. وقتل سلطانه، واستلحم سائر بني ماسي بالنكيل والقتل والعذاب. واستولى على المغرب واستبدّ بملكه وأفرج السلطان ابن الأحمر على سبتة وأعادها إليه. واتصلت الموالاة بينهما. وأقام ابن الأحمر في اعتزازه ولم تطرقه نكبة ولا حادثة سائر أيامه إلا ما بلغنا أنه نمي له عن ابنه وليّ عهده أبي الحجّاج يوسف أنه يروم التوثّب به، وكان على سفر في بعض نواحي الأندلس فقبض على ولده لحينه، ورجع إلى غرناطة. ثم استكشف حاله فظهرت براءته فأطلقه وأعاده إلى أحسن أحواله. وإلا ما بلغنا أيضا أنه لمّا سار من غرناطة إلى جبل الفتح شاربا [1] لأحوال السلطان أبي العبّاس وهو بالصفيحة من جبال غمارة، وابن ماسي يحاصره، فنمي إليه أن بعض حاشيته من أولاد الوزراء وهو ابن مسعود البلنسي [2] ابن الوزير أبي القاسم بن حكيم قد اتفقوا على اغتياله، وأن ابن ماسي دسّ إليهم بذلك ونصبت له على ذلك العلامات التي عرفها فقبض عليهم لحينه، ولم يمهلهم وقتلهم وجميع من داخلهم في ذلك، ورجع إلى غرناطة وأقام ممتنعا بملكه إلى أن هلك سنة ثلاث وتسعين، فولي مكانه ابنه أبو الحجّاج وبايعه الناس، وقام بأمره خالد مولى أبيه وتقبّض على إخوته سعد ومحمد ونصر فهلكوا في محبسهم، ولم يوقف لهم على خبر. ثم سعى عنده في خالد القائم بدولته أنه أعد السمّ لقتله، وأن يحيى بن الصائغ اليهودي طبيب دارهم داخله في ذلك ففتك بخالد، وقتل بين يديه صبرا بالسيوف لسنة أو نحوها من ملكه. وحبس الطبيب فذبح في محبسه. ثم هلك سنة أربع وتسعين لسنتين أو نحوها من ملكه. وبويع ابنه محمد وقام بأمره محمد الخصاصي القائد من صنائع أبيه، والحال على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره. وقد انقضى ذكر الدولة الأموية المنازعين لبني العبّاس ومن تبعهم من الملوك بالأندلس، فلنذكر الآن شيئا من أخبار ملوك النصرانية الذين يجاورون المسلمين بجزيرة الأندلس من سائر نواحيهم، ونلمّ بطرف من أنسابهم ودولهم.
__________
[1] بمعنى مستضعفا.
[2] كذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد الأسماء الناقصة من المراجع التي بين أيدينا.(4/228)
(الخبر عن ملوك بني أدفونش من الجلالقة ملوك الأندلس بعد الغوط ولعهد المسلمين وأخبار من جاورهم من الفرنجة والبشكنس والبرتغال والإلمام ببعض أخبارهم)
والملوك لهذا العهد من النصرانية أربعة في أربعة من العمالات محيطة بعمالة المسلمين، قد ظهر اعجاز الملة في مقامهم معهم وراء البحر بعد ما استرجعوا من أيديهم ما نظمه الفتح الإسلامي أوّل الأمر. وأعظم هؤلاء الملوك الأربعة: قشتالة وعمالاته عظيمة متسعة مشتملة على أعمال جليقية كلها، مثل قشتالة وغليسية. والقرنتيرة وهي بسيط قرطبة وإشبيلية وطليطلة وجيان، آخذة في جوف الجزيرة من المغرب إلى المشرق. ويليه من جانب الغرب ملك البرتغال وعمالته صغيرة وهي أشبونة [1] ، ولا أدري نسبه فيمن هو من الأمم. ويغلب على الظنّ أنه من أعقاب القواميس الذين تغلبوا على عمالات بني أدفونش في العصور الماضية كما نذكر بعد، ولعله من أسباطهم وأولي نسبهم والله أعلم. ويلي ملك قشتالة هذا من جهة الشرق ملك نبرة [2] ، وهو ملك البشكنس وعمالته صغيرة فاصلة بين عمالات قشتالة وعمالة ملك برشلونة. وقاعدة ملك نبرة وهي مدينة ينبلونة. وملك برشلونة وما وراءها. ونحن الآن نذكر أخبار هذه الأمم من عهد الفتح بما يظهر لك منه تفصيل أخبارهم، وذلك أن النصرانية لما تغلّب عليهم المسلمون عند الفتح سنة تسعين من الهجرة، وقتلوا لزريق ملك الغوط [3] وانساحوا في نواحي جزيرة الأندلس، وأجفلت أمم النصرانية كلها أمامهم إلى سيف البحر من الجوف، وتجاوزوا الدروب وراء قشتالة، واجتمعوا بجليقية وملكوا عليهم ثلاثة: ابن ناقله فأقام ملكا تسع عشرة سنة، وهلك سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وولي ابنه قافلة سنتين، ثم هلك فولوا عليهم بعدهما أدفونش بن بطرة، وهو الّذي اتصل ملكه في عقبه لهذا العهد. ونسبهم في الجلالقة من العجم كما تقدّم. ويزعم ابن حيان أنهم من أعقاب الغوط، وعندي أنّ ذلك ليس بصحيح فإنّ أمة الغوط قد دثرت وغبرت
__________
[1] أشبونة وتدعى أيضا لشبونة، وقد مرت معنا من قبل.
[2] نبرة: من أعمال ماردة. (معجم البلدان) .
[3] هم القوط.(4/229)
وهلكت، وقل أن يرجع أمر بعد إدباره. وإنما هو ملك مستجد في أمة أخرى والله أعلم. فجمعهم أدفونش بن بطرة على حماية ما بقي من أرضهم بعد أن ملك المسلمون عامتها، وانتهوا إلى جليقية وأقصروا عن الفتح بعدها حتى فشلت الدولة الإسلامية بالأندلس، وارتجع النصارى الكثير مما غلبوا عليه. وكان مهلك أدفونش بن بطرة سنة اثنتين وأربعين ومائة لثمان عشرة سنة من ملكه، وولي بعده ابنه فرويلة إحدى عشرة سنة قوى فيها سلطانه، وقارنه فيها شغل عبد الرحمن الداخل بتمهيد أمره فاسترجع مدينة بك، وبرتغال وسمورة، وسلمنقة، وشقرنية، وقشتالة بعد أن كانت انتظمت للمسلمين في الفتح وهلك سنة ثمان وخمسين، وولي ابنه شيلون عشر سنين. وهلك سنة ثمان وستين، فولوا مكانه أدفونش منهم، ووثب عليه سمول ماط فقتله وملك مكانه سبع سنين، وعلى عقب ذلك استفحل ملك عبد الرحمن بالأندلس، وأغزى جيوشه أرض جليقية ففتح وغنم وأسر. ثم ولي منهم أدفونش آخر سنة اثنتين وخمسين، وهلك سنة ثمان وستين فولوا مكانه أدفونش منهم، ووثب أحد ملوكهم المستبدين بأمرهم. قال ابن حيان كانت ولاية رذمير هذا عند ترهب أخيه أدفونش الملك قبله، وذلك سنة تسع عشرة وثلاثمائة على عهد الناصر، وتهيأ للناصر الظهور عليه إلى أن كان التمحيص على المسلمين في غزوة الخندق، وذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكانت الواقعة بالخندق وقريبا من مدينة شنت ماكس كما ذكر في أخباره.
ثم هلك رذمير سنة تسع وثلاثين، وولي أخوه شانجة وكان تياها معجبا بطالا فانتقض سلطانه، ووهن ملك قومه، وانتزى عليه قوامس دولته فلم يتم لبني أدفونش بعدها ملك مستبد في الجلالقة إلّا من بعد أزمان الطوائف وملوكهم كما ذكرناه. وكان اضطراب ملكهم كما نقل ابن حيان على يد فردلند بن عبد شلب قومس ألبة والقلاع، فكان أعظم القوامس، وهم ولاة الأعمال من قبل الملك الأعظم فانتقض على شانجة ألبة وظاهرهم ملك البشكنس على شانجة، وورد شانجة على الناصر بقرطبة صريخا فأمده، واستولى بذلك الإمداد على سمورة فملكها، وأنزل المسلمين بها واتصلت الحرب بين شانجة وبين فردلند إلى أن أسر فردلند في بعض أيام حروبهم، وحصل في أسر ملك البشكنس على أن ينفذ إليه أسيره فردلند بن عبد شلب قومس ألبة والقلاع فأبى من ذلك، وأطلقه. ووفد على المستنصر أرذون [1] بن أدفونش
__________
[1] وفي نسمة أخرى: أردون.(4/230)
المقارع لشانجة صريخا إحدى وخمسين فأجابه، وأنفذ غالبا مولاه في مدده. ثم هلك شانجة ملك بني أدفونش ببطليوس، وقام بأمرهم بعده ابنه رذمير، وهلك أيضا فردلند بن عبد شلب قومس ألبة، وولي بعده ابنه غرسية، ولقي رذمير المسلمين بالثغر في بعض صوائفهم وعظمت نكايته بعد مهلك الحكم المستنصر إلى أن قيض الله لهم المنصور بن أبي عامر حاجب ابنه هشام، فأثخن في عمل رذمير، وغزاه مرارا وحاصره في سمورة. ثم في ليون بعد أن زحف إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة، وظاهر معه ملك البشكنس فغلبهما. ثم ظاهروا مع رذمير وزحفوا جميعا للقائه بشنت ماكس فهزمهم، واقتحمها عليهم وخرّبها. وتشاءم الجلالقة برذمير وخرج عليهم عمه بزمند بن أرذون، وافترق أمرهم ثم رجع رذمير إلى طاعة المنصور سنة أربع وسبعين. وهلك على أثرها فأطاعت أمه، واتفقت الجلالقة على بزمند بن أرذون، وعقد له المنصور على سمورة والعيون وما اتصل بهما من أعمال غليسية إلى البحر الأخضر واشترط عليه فقبل. ثم امتعض بزمند لما نزل بالجلالقة عيث المنصور سنة ثمان وسبعين فافتتح حيون وحاصره في سمورة ففرّ عنها وأسلمها أهلها إلى المنصور فاستباحها ولم يبق لملك الجلالقة إلا حصون يسيرة بالجبل الحاجز بين بلدهم وبين البحر الأخضر. ثم اختلف حال بزمند في الطاعة والانتقاض والمنصور يردّد إليه الغزو حتى أذعن وأخفر ذمته [1] الخارج على المنصور فأسلمه إليه سنة خمس وثمانين، وضرب عليه الجزية وأوطن المسلمين مدينة سمورة سنة تسع وثمانين، وولى عليها أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي. ثم سار إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة، وكان أعان المخالفين على المنصور وكان فيمن أعان عليه حين خرج عليه فنازل المنصور مدينة أشبونة، قاعدة غليسية فملكها وخرّبها. وهلك غرسية هذا فولي ابنه شانجة، وضرب المنصور عليهم الجزية وصار أهل جليقية جميعا في طاعته، وكانوا كالعمال له إلا بزمند بن أرذون ومسد بن عبد شلب قومس غليسية فإنّهما كانا أملك لأمرهما. على أنّ مسدا بعث بنته للمنصور سنة ثلاث وثمانين وصيّرها جارية له فأعتقها وتزوّجها. ثم انتقض بزمند وغزاه المنصور فبلغ شنت ياقب موضع حجّ النصرانية ومدفن يعقوب الحواري من أقصى غليسية، وأصابها خالية فهدمها ونقل
__________
[1] كذا بياض بالأصل ولم نستطع تصويب العبارة.(4/231)
أبوابها إلى قرطبة فجعلها في سمت الزيادة التي أضافها إلى المسجد الأعظم. ثم تطارح بزمند بن أرذون في السلم وأنفذ ابنه يلانة مع معن بن عبد العزيز صاحب جليقية فوصل به إلى قرطبة وعقد له السلم وانصرف إلى أبيه. وألح المنصور على أرغومس من القوامس وكانوا في طرف جليقية بين سمورة وقشتالة، وقاعدتهم شنت بريّة فافتتحها سنة خمس وثمانين. ثم هلك بزمند بن أرذون ملك بني أدفونش وولي ابنه أدفونش، وهو صاحب بسيط غرسية واحتكما إلى عبد الملك بن المنصور، فخرج أصبغ بن سلمة قاضي النصارى للفصل بينهما، فقضى به لمسد بن عبد شلب. فلم يزل أدفونش بزمند في كفالته إلى أن قتل غيلة سنة ثمان. فاستبد أدفونش بأمره وطلب القواميس المقتدرين على أبيه وعلى من سلف من قومه برسوم الملك فحاز ذلك منهم لنفسه وبعث على نواحيهم من عنده، وأذعنوا له وسقط ذكرهم في وقته مثل بني أرغومس وبني فردلند الذين قدّمنا ذكرهم، وقد كان قيامهم أيام شانجة بن رذمير من بني أدفونش كما قدّمناه. جمعهم أدفونش للقاء عبد الملك المظفر بن المنصور فظاهرهم ملك البشكنس ولقيهم بظاهر فلونية فهزمهم وافتتح الحصن صلحا. ثم انقرض أمر المنصور وبنيه وجاءت الفتنة البربرية على رأس المائة الرابعة فانتهز الفرصة في المسلمين صاحب ألبة، وهو شانجة بن غرسية وصار يظاهر الفرقة الخارجة على الأخرى إلى أن أدرك بعض الأمل، وقتله ملك البشكنس سنة ست وأربعمائة وتغلّب النصارى على ما كان غلب عليه بقشتالة وجليقية، ولم يزل أدفونش ملكا على جليقية وأعمالها. واتصل الملك في عقبه إلى أن كان شأن الطوائف. وتغلب المرابطون ملوك المغرب من لمتونة على ملوك الطوائف، واستولوا على الأندلس وانقرض منها ملك العرب أجمع. وفي تواريخ لمتونة وأخبارهم أن ملك قشتالة الّذي ضرب الجزية على ملوك الطوائف سنة خمسين وأربعمائة هو البيطبيين، ويظهر أنه كان متغلبا على شانجة ابن أبرك الملك يومئذ من بني أدفونش، وهو مذكور في أخبارهم، وأنه لما هلك قام بأمره بنوه فردلند وغرسية ورذمير، وولى أمرهم فردلند واحتوى على شنت بريّة وعلى كثير من عمل ابن الأفطس. ثم هلك وخلف شانجة وغرسية وألفنش فتنازعوا ثم خلص الملك لألفنش وعلى عهده مات الظاهر إسماعيل بن ذي النون سنة سبع وستين وأربعمائة، وهو المستولي على طليطلة سنة ثمان وسبعين وهو يومئذ اعتزاز النصرانية بجزيرة الأندلس، وكان من بطارقته وقواميس دولته البرهانس فكان يلقب(4/232)
الأنبنذور، ومعناه ملك الملوك. وهو الّذي لقي يوسف بن تاشفين بالزلاقة، وكانت الدائرة عليه، وذلك سنة إحدى وثمانين. وحاصر ابن هود في سرقسطة، وكان ابن عمه رذمير منازعا له فزحف إلى طليطلة وحاصرها فامتنعت عليه، وحاصر القسريلية وغرسية والمرية والبرهانس مرسية وقسطون شاطبة وسرقسطة. ثم استولى على بلنسية سنة تسع وثمانين، وارتجعها المرابطون من يده بعد أن غلبوا ملوك الطوائف على أمرهم. ثم مات ألفنش سنة إحدى وخمسمائة، وقام بأمر الجلالقة زوجته، وتزوجت رذمير ثم فارقته وتزوجت بعده قمطا من أقماطها، وجاءت منه بولد كانوا يسمونه السليطين، وأوقع ابن رذمير بابن هود سنة ثلاث وخمسمائة الواقعة المشهورة التي استشهد فيها.
وملك ابن رذمير سرقسطة، وفرّ عماد الدولة وابنه إلى روطة فأقام إلى أن استنزله السليطين، ونقله إلى قشتالة. ثم كانت بين رذمير وأهل قشتالة حرب هلك فيها البرهانس سنة سبع وخمسمائة وذلك لآخر أيام المرابطين بلمتونة. ثم انقرض أمرهم على يد الموحّدين وكان أمر النصارى لعهد المنصور يعقوب ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن، كان دائرا بين ثلاثة من ملوكهم ألفنش والبيبوح وابن الرند وكبيرهم ألفنش وهو أميرهم يوم الأرك الّذي كان للمنصور عليهم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، والبيبوح صاحب ليون هو الّذي مكر بالناصر عام العقاب فداخله وقدم عليه وأظهر له التنصيح فبذل له أموالا. ثم غدر به وكرّ عليه الهزيمة يوم العقاب. ثم هلك الناصر وولي ابنه المستنصر وفشل ريح بني عبد المؤمن واستولى ألفنش على جميع ما افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس وارتجعها. ثم هلك ألفنش وولي ابنه هراندة وكان أحول، وكان يلقب بذلك، وهو الّذي ارتجع قرطبة وإشبيلية من أيدي بني هود، وعلى عهده زحف ملك أرغون فارتجع شرق الأندلس كله شاطبة ودانية وبلنسية وسرقسطة، وسائر الثغور والقواعد الشرقية. وانحاز المسلمون إلى سيف البحر وملكوا عليهم ابن الأحمر بعد ولاية ابن هود. ثم هلك هراندة وولي ابنه ثم هلك ابنه وولي ابنه هراندة، وأجاز بنو مرين إلى الأندلس صريخا لابن الأحمر وسلطانهم يومئذ يعقوب بن عبد الحق، فلقيته جموع النصرانية بوادلك وعليهم ذنبة من أقماط بني أدفونش وزعمائهم فهزمهم يعقوب بن عبد الحق، وبقيت فتن متصلة، ولم يلقه يعقوب، وإنما كان يغزو بلادهم ويكثر فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم، وخالف على هراندة ملك قشتالة هذا ابنه شانجة فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخا،(4/233)
وقبل يده فقبل وفادته وأمده بالمال والجيش، ورهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم فلم يزل بدار بني عبد الحق من بني مرين لهذا العهد. ثم هلك هراندة سنة ثلاث وثمانين واستقل ابنه شانجة بالملك ووفد على يوسف بن يعقوب بالجزيرة الخضراء بعد مهلك أبيه يعقوب، وعقد معه السلم. ثم انتقض وحاصر طريف وملكها وهلك سنة ثلاث وتسعين فولي ابنه هراندة. ثم هلك سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فولي ابنه بطرة صغيرا، وكفله عمه جران وكان نزلهما جميعا على غرناطة عند زحفهما إليها سنة ثمان عشرة وسبعمائة، فولي ابنه الهنشة بن بطرة صغيرا، وكفله زعماء دولتهم. ثم استبد بأمره وزحف إلى السلطان أبي الحسن، وهو محاصر لطريف سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فهلك في الطاعون الجارف، وملك ابنه بطرة وقرابته القمط برشلونة فأجاره ملكها، وزحف إليه بطرة مرارا وتغلّب على كثير من أعماله، وحاصر بلنسية مرارا. ثم أتيح الغلب للقمط سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، فاستولى على بلاد قشتالة وزحف إليه أمم النصرانية لما كانوا سئموا من عنف بطرة وسوء ملكته، ولحق بطرة بأمم الفرنجة الذين وراء قشتالة في الجوف بجهات الليمانية وفرطانية إلى سيف البحر الأخضر، وجزيرة قدوج شنت مزين ملكهم الأعظم، وهو البلنس غالس وجاء معه مددا بأمم لا تحصى حتى ملك قشتالة والقرنتيرة ورجعوا عنه إلى بلادهم بعد أن أصابهم وباء هلك الكثير منهم. ثم اتصلت الحرب بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلبه القمط، واعتصم منه بطرة ببعض الحصون ونازلة القمط حتى إذا أشرف على أخذه، بعث بطرة إلى بعض الزعماء سرا لنيل النزول في جواره فأجابه، ووشى به لأخيه القمط فكبسه في بيت ذلك الزعيم وقتله سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. واستولى القمط على ملك بني أدفونش أجمع واستنزل ابن أخيه بطرة من قرمونة وقد كان اعتصم بها بعد مهلك أبيه مع وزيره مرتين لبس هو. واستقام له ملك قشتالة ونازعه البلنس غالس ملك الإفرنجة بالابن الّذي هو من بنت بطرة على عادة العجم في تمليك ابن البنت محتجا بأن القمط لم يكن لرشدة. واتصلت الحرب بينهما وشغله ذلك عن المسلمين فامتنعوا من الجزية التي كانت عليهم لمن قبله. وهلك هذا القمط سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فملك ابنه شانجة وفرّ ابنه الآخر غرمس إلى غرناطة، ثم رجع إلى نواحي قشتالة والأمر على ذلك لهذا العهد، وفتنتهم مع ألفنش ملك الفرنج موصولة وعاديتهم لذلك عن المسلمين مرفوعة، والله من ورائهم محيط. وأمّا ملك(4/234)
البرتغال بجهة أشبونة غرب الأندلس ومملكته صغيرة، وهي من أعمال جليقية، وصاحبها لهذا العهد متميز بسمته. وملكه مشارك لابن أدفونش في نسبه ولا أدري كيف يتصل نسبه معهم. وأمّا ملك برشلونة بجهة شرق الأندلس فعمالتهم واسعة، ومملكتهم كبيرة تشتمل على برشلونة بجهة وارغون وشاطبة وسرقسطة وبلنسية وجزيرة دانية وميورقة وبنورقة، ونسبهم في الفرنج، وسياق الخبر عن ملكهم ما نقل، ابن حيان أن الغوط الذين كانوا بالأندلس كانوا قديما في ملك الفرنج، ثم اعتزوا عليهم وامتنعوا ونبذوا إليهم عهدهم. وكانت برشلونة من ممالك الفرنج وعمالاتهم، فلما جاء الله بالإسلام وكان الفتح، قعد الفرنج عن نصر الغوط لتلك العداوة، فلما انقضى أمر الغوط زحف المسلمون إلى الفرنج فأزعجوهم [1] عن برشلونة وملكوها. ثم تجاوزوا الدروب من ورائها إلى البسائط بالبر الكبير فملكوا من قواعدها جزيرة أربونة وما إليها من تلك البسائط. ثم كانت فترة عند انقراض الدولة الأموية بالمشرق وبداية الدولة العباسية افتتن فيها العرب بالأندلس، وانتهز الفرنج فرصتهم فارتجعوا بلادهم إلى برشلونة فملكوها لهذا العهد مائتين من الهجرة، وولّوا عليهم من قبلهم، وصار أمرها راجعا إلى ملك رومة من الفرنجة، وهو قارله الأكبر، وكان من الجبابرة. ثم ركبهم من الخلاف والمنافسة في أوقات ضعفهم واختلاف ملوكهم كالذي ركبه المسلمون من ضعفت يده من الملوك، فاقتطع الأمراء نواحيهم بكل جهة، فكان ملوك برشلونة هؤلاء ممن اقتطع عمله، وكان ملوك بني أمية لأوّل دولتهم يتراضون بمهادنة هؤلاء الملوك أهل برشلونة حذرا من مدد صاحب رومة. ثم صاحب القسطنطينية من ورائه. فلما كانت دولة المنصور بن أبي عامر بين اقطاع برشلونة عن ملك الفرنج، شمر المنصور لغزوهم واستباح بلادهم وأثخن في أعمالهم، وافتتح برشلونة وخرّبها، وأنزل بهم النقمات وملكهم لعهده بردويل بن سير وكانت حالة الظهور عليه كحاله مع سائر الملوك النصارى. ولما هلك بردويل ترك من الولد فلبة وريند وأومنقود. ثم انتقض أومنقود على عبد الملك بن المنصور فغزاه وأخذه في بعض ثغوره صلحا. ثم كانت الفتنة البربرية وحضرها أومنقود فهلك في الوقعة مع البربر سنة أربعمائة، وانفرد بيمند بملك برشلونة إلى أن هلك بعد عشر وأربعمائة، وملك ابنه يلتنفير وكفلته أمه وحاربت
__________
[1] بمعنى أخرجوهم.(4/235)
يحيى بن منذر من ملوك الطوائف وهي التي تغلبت على ثغر طرشوشة، واتصل الملك في عقب بيمند. وكان الملك منهم لآخر دولة الموحدين جامعة بن بطرة بن أدفونش ابن ريند، وهو الّذي ارتجع بلنسية وملكهم بهذا العهد اسمه بطرة. ولم يبلغني كيف اتصال نسبه بقومه. وملك بعد العشرين من هذه المائة وهو حيّ لهذا العهد، وابنه غالب عليه لكبر سنه. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(أخبار القائمين بالدولة العباسية من العرب المستبدين بالنواحي ونبدأ منهم ببني الأغلب ولاة افريقية وأولية أمرهم ومصاير أحوالهم)
قد ذكرنا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه شأن فتح إفريقية على يد عبد الله ابن أبي سرح، وكيف زحف إليها في عشرين ألفا من الصحابة وكبار العرب، ففض جموع النصرانية الذين كانوا بها من الفرنجة والروم والبربر، وهدم سبيطلة قاعدة ملكهم وخرّبها، واستبيحت أموالهم وسبيت نساؤهم وبناتهم، وافترق أمرهم وساخت خيول العرب في جهات إفريقية، وأثخنوا بها في أهل الكفر قتلا وأسرا حتى لقد طلب أهل إفريقية من ابن أبي سرح أن يرحل عنهم بالعرب إلى بلادهم، ويعطوه ثلاثمائة قنطار من الذهب ففعل وقفل إلى مصر سنة سبع وعشرين.
(معاوية بن خديج)
ثم اغزى معاوية بن أبي سفيان معاوية بن خديج السكونيّ. إفريقية سنة أربع وثلاثين، وكان عاملا على مصر فغزاها ونازل جلولاء، وقاتل مدد الروم الّذي جاءها من قسطنطينية لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم، وأقلعوا إلى بلادهم، وافتتح جلولاء وغنم وأثخن وقفل
.(4/236)
(عقبة بن نافع)
ثم ولى معاوية سنة خمس وأربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس الفهري على إفريقية واقتطعها عن معاوية بن خديج، فبنى القيروان وقاتل البربر وتوغّل في أرضهم.
(أبو المهاجر)
ثم استعمل معاوية على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد، فعزل عقبة عن إفريقية، وولى مولاه أبا المهاجر دينارا سنة خمس وخمسين فغزا المغرب، وبلغ إلى تلمسان، وخرب قيروان عقبة وأساء عزله، وأسلم على يديه كسيلة الأوربي بعد حرب ظفر به فيها.
(عقبة بن نافع ثانيا)
ولما استقل يزيد بن معاوية بالخلافة، رجع عقبة بن نافع الى إفريقية سنة اثنتين وستين فدخل إفريقية، وقد نشأت الردّة في البرابرة فزحف إليهم، وجعل مقدمته زهير بن قيس البلوي وفرّ منه الروم والفرنجة فقاتلهم، وفتح حصونهم مثل لميس وباغاية، وفتح أذنه قاعدة الزاب بعد أن قاتله ملوكها من البربر فهزمهم، وأصاب من غنائمهم وحبس أبا المهاجر فلم يزل في اعتقاله. ثم رحل إلى طنجة فأطاعه بلبان ملك غمارة، وصاحب طنجة وهاداه وأتحفه، ودله على بلاد البربر وراءه بالمغرب، مثل وليلى [1] عند زرهون وبلاد المصامدة وبلاد السوس، وكانوا على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فسار عقبة وفتح وغنم وسبى وأثخن فيهم وانتهى إلى السوس.
وقاتل مسوفة من أهل اللثام وراء السوس، ووقف على البحر المحيط وقفل راجعا،
__________
[1] اسم مدينة وقد مرّت معنا في مكان سابق.(4/237)
وأذن لجيوشه في اللحاق بالقيروان. وكان كسيلة ملك أروبة والبرانس من البربر قد اضطغن عليه بما كان يعامله به من الاحتصار، يقال: إنه كان يحاصره في كل يوم ويأمره بسلخ الغنم إذا ذبحت لمطبخه فانتهز فيه الفرصة، وأرسل البربر فاعترضوا له في تهودا [1] وقتلوه في ثلاثمائة من كبار الصحابة والتابعين، واستشهدوا كلهم وأسر في تلك الوقعة محمد بن أوس الأنصاري في نفر فخلصهم صاحب قفصة، وبعث بهم إلى القيروان مع من كان بها من المخلفين والذراري. ورجع زهير بن قيس إلى القيروان واعتزم على القتال وخالفه حنش بن عبد الله الصنعاني وارتحل إلى مصر واتبعه الناس فاضطر زهير إلى الخروج معهم، وانتهى إلى برقة فأقام بها مرابطا، واستأمن من كان بالقيروان إلى كسيلة فأمنهم ودخل القيروان وأقاموا في عهده.
(زهير بن قيس البلوي)
ولما ولي عبد الملك بن مروان بعث إلى زهير بن قيس بمكانه من برقة بالمدد، وولّاه حرب البرابرة فزحف سنة سبع وستين ودخل إفريقية ولقيه كسيلة على ميس من نواحي القيروان فهزمه زهير بعد حروب صعبة، وقتله واستلحم في الوقعة كثير من أشراف البربر ورجالاتهم. ثم قفل زهير إلى المشرق زاهدا في الملك، وقال: إنما جئت للجهاد وأخاف أن نفسي تميل إلى الدنيا، وسار إلى مصر واعترضه بسواحل برقة أسطول صاحب قسطنطينية، جاءوا لقتاله فقاتلهم واستشهد رحمه الله تعالى.
(حسان بن النعمان الغساني)
ثم إن عبد الملك بن مروان بعد أن قتل عبد الله بن الزبير وصفا له الأمر، أمر حسان ابن النعمان الغساني بغزو إفريقية، وأمده بالعساكر، ودخل القيروان وافتتح قرطاجنة عنوة وخربها، وفر من كان بها من الروم والفرنجة إلى صقلّيّة والأندلس. ثم اجتمعوا
__________
[1] تهوذة: بالفتح ثم الضم وسكون الواو والذال معجمة: اسم لقبيلة من البربر بناحية افريقية، لهم ارض تعرف بهم (معجم البلدان) .(4/238)
في صطفورة وبنزرت وهزمهم ثانية. وانحاز الفل إلى باجة وبونة فتحصنوا بها. ثم سار حسان إلى الكاهنة ملكة جرارة بجبل أوراس، وهي يومئذ أعظم ملوك البربر، فحاربها، وانهزم المسلمون وأسر منهم جماعة، وأطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي فإنّها أمسكته وأرضعته مع ولديها وصيرته أخا لهما. وأخرجت العرب من إفريقية وانتهى حسان إلى برقة، وجاءه كتاب عبد الملك بالمقام حتى يأتيه المدد. ثم بعث إليه المدد سنة أربع وسبعين فسار إلى إفريقية ودس إلى خالد بن يزيد يستعمله فأطلعه على خبرهم، واستحثه فلقي الكاهنة وقتلها وملك جبل أوراس وما إليه، ودوّخ نواحيه وانصرف إلى القيروان وأمن البربر. وكتب الخراج عليهم وعلى من معهم من الروم والفرنج على أن يكون معه اثنا عشر ألفا من البربر لا يفارقونه في مواطن جهاده ورجع إلى عبد الملك، واستخلف على إفريقية رجلا اسمه صالح من جنده.
(موسى بن نصير)
ولما ولي الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمه عبد الله، وهو على مصر ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصير إلى إفريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية فبعثه عبد الله، وقدم القيروان وبها صالح خليفة حسان فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد فوجه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة فغنم منها وسبى وعاد. ثم بعثه إلى ناحية أخرى وابنه مروان كذلك، وتوجه هو إلى ناحية فغنم منها وسبى وعاد. وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي. ثم غزا طنجة وافتتح درعه وصحراء تافيلالت. وأرسل ابنه إلى السوس وأذعن البربر لسلطانه ودولته وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة، وذلك سنة ثمان وثمانين، وولى عليها طارق بن زياد الليثي. ثم أجاز طارق إلى الأندلس دعاه إليها بلبان ملك غمارة فكان فتح الأندلس سنة تسعين. وأجاز موسى بن نصير على أثره فكمل فتحها كما ذكرناه. ثم قفل موسى إلى الشرق واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله وعلى الأندلس عبد العزيز. وهلك الوليد وولي سليمان سنة ست وتسعين فسخط موسى وحبسه
.(4/239)
(محمد بن يزيد)
ولما ولي سليمان وحبس موسى بن نصير عن [1] ابنه عبد الله عن إفريقية ولّى مكانه محمد بن يزيد مولى قريش فلم يزل عليها حتى مات سليمان.
(إسماعيل بن أبي المهاجر)
ولما مات سليمان استعمل عمر بن عبد العزيز على إفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر وكان حسن السيرة وأسلم جميع البربر في أيامه.
(يزيد بن أبي مسلم)
ولما تولى يزيد بن عبد الملك، ولى على إفريقية يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج وكاتبه فقدم سنة إحدى ومائة، وأساء السيرة في البربر، ووضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة منهم تأسيا بما فعله الحجاج بالعراق فقتله البربر لشهر من ولايته. ورجعوا إلى محمد بن يزيد مولى من الأنصار الذين كان عليهم قبل إسماعيل، وكتبوا إلى يزيد بالطاعة والعذر عن قتل ابن أبي مسلم فأجابهم بالرضا وأقرّ محمد بن يزيد على عمله.
(بشر بن صفوان الكلبي)
ثم ولى يزيد على إفريقية بشر بن صفوان الكلبي فقدمها سنة ثلاث ومائة، فمهدها وسكن أرجاءها، وغزا بنفسه صقلّيّة سنة تسع ومائة وهلك مرجعه عنها.
__________
[1] مقتضى السياق: وعزل ابنه عبد الله عن إفريقية.(4/240)
(عبيدة بن عبد الرحمن)
ثم عزل هشام بن عبد الملك بشر بن صفوان عن إفريقية وولى مكانه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي وهو ابن أخي أبي الأعور فقدمها سنة عشر ومائة
(عبيد الله بن الحجاب)
ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن وولى مكانه عبيد الله بن الحجاب مولى بني سلول وكان واليا على مصر، فأمره أن يمضي إلى إفريقية، واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، وسار إلى إفريقية فقدمها سنة أربع عشرة، وبنى جامع تونس، واتخذ لها دار الصناعة لإنشاء المراكب البحرية. وبعث إلى طنجة ابنه إسماعيل وجعل معه عمر ابن عبيد الله المرادي وبعث على الأندلس عقبة بن حجاج القيسي. وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان، وأصاب من مغانم الذهب والفضة والسبي كثيرا ودوخ بلاد المغرب وقبائل البربر ورجع. ثم أغزاه ثانية في البحر إلى صقلّيّة سنة اثنتين وعشرين، ومعه عبد الرحمن ابن حبيب فنازل سرقوسة أعظم مدائن صقلّيّة، وضرب عليهم الجزية وأثخن في سائر الجزيرة. وكان محمد بن عبيد الله بطنجة قد أساء السيرة في البربر، وأراد أن يخمس [1] من أسلم منهم، وزعم أنه الفيء، فاجمعوا الانتقاض، وبلغهم مسير العساكر مع حبيب بن أبي عبيدة إلى صقلّيّة فسار ميسرة المظفري بدعوة الصفرية من الخوارج، وزحف إلى طنجة فقتل عمر بن عبيد الله وملكها، واتبعه البربر وبايعوه بالخلافة، وخاطبوه بأمير المؤمنين، وفشت مقالته في سائر القبائل بإفريقية وبعث ابن الحجاب إليه خالد بن حبيب الفهري فيمن بقي معه من العساكر.
واستقدم حبيب بن أبي عبيدة من صقلّيّة ومن معه من العساكر، وبعثه في أثر خالد، ولقيهم ميسرة والبربر بناحية طنجة فاقتتلا قتالا شديدا. ثم تحاجزوا ورجع
__________
[1] اي ان يأخذ منهم الخمس.
ابن خلدون م 16 ج 4(4/241)
ميسرة إلى طنجة فكره البربر سوء سيرته فقتلوه، وولّوا عليهم مكانه خالد بن حبيب الزناتي، واجتمع إليه البربر، ولقيه خالد بن حبيب في العرب وعساكر هشام فانهزموا، وقتل خالد بن حبيب وجماعة من العرب وسميت بهم غزوة الأشراف، وانتقضت إفريقية على ابن الحجاب وبلغ الخبر إلى الأندلس فعزلوا عامله عقبة بن الحجاج، وولوا عبد الملك بن قطن كما مرّ.
(كلثوم بن عياض)
ولما انتهى الخبر إلى هشام بن عبد الملك بهزيمة العساكر بالمغرب استنقص ابن الحجاب وكتب إليه يستقدمه، وولّى على إفريقية سنة ثلاث وعشرين ومائة كلثوم بن عيّاض، وعلى مقدّمته بلخ بن بشر القشيريّ، فأساء إلى أهل القيروان، فشكوا إلى حبيب بن أبي عبيدة وهو بتلمسان موافق للبربر، فكتب إلى كلثوم بن عيّاض ينهاه ويتهدّده، فاعتذر واغضى له عنها، ثم سار واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة، ومرّ على طريق سبيبة، وانتهى إلى تلمسان ولقي حبيب بن أبي عبيدة واقتتلا، ثم اتفقا ورجعا جميعا. وزحف البرابرة إليهم على وادي طنجة، وهو وادي سوا فانهزم بلخ في الطلائع وانتهوا إلى كلثوم، فانكشف واشتد القتال وقتل كلثوم وحبيب بن أبي عبيدة وكثير من الجند، وتحيّز أهل الشام إلى سبتة مع بلخ بن بشر، فحاصرهم البرابرة وأرسلوا إلى عبد الملك بن قطن أمير الأندلس في أن يجيزوا إليه، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يقيموا سنة واحدة، وأخذ رهنهم على ذلك، وانقضت السنة وطالبهم بالشرط فقتلوه وملك بلخ الأندلس. وكان عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع لما قتل أبوه حبيب مع كلثوم بن عيّاض، وأجاز بلخ إلى الأندلس فملكها، فأجاز عبد الرحمن إلى الأندلس يحاول ملكها. فلما جاء أبو الخطّار إلى الأندلس من قبل حنظلة أيس عبد الرحمن من أمرها، ورجع إلى تونس سنة ست وعشرين ومائة وقد توفي هشام وولي الوليد بن يزيد فدعا لنفسه، وسار إلى القيروان ومنع حنظلة من قتاله، وبعث إليه وجوه الجند فانتهز عبد الرحمن الفرصة فيهم وأوثقهم لئلا يقاتله أصحابهم، وأغذ السير إلى القيروان فرحل حنظلة من إفريقية وقفل إلى المشرق سنة سبع وعشرين، واستقل عبد الرحمن بملك إفريقية وولّى مروان(4/242)
ابن محمد، فكتب له بولايتها، ثم ثارت عليه الخوارج في كلّ جهة فكان عمر بن عطاب الأزديّ بطبنياش، وعروة بن الوليد الصغريّ بتونس، وثابت الصّنهاجيّ بباجة، وعبد الجبّار بن الحرث بطرابلس على رأي الإباضيّة، فزحف عبد الرحمن إليهما سنة إحدى وثلاثين فظفر بهما، وقتلهما، وسرّح أخاه الياس لابن عطاب فهزمه وقتله، ثم زحف إلى عروة بتونس فقتله، وانقطع أمر الخوارج، وزحف سنة خمس وثلاثين إلى جموع من البربر بنواحي تلمسان فظفر بهم وقفل. ثم بعث جيشا في البحر إلى صقلّيّة وآخر إلى سردانية فاثخنوا في أمم الفرنج حتى استقرّوا بالجزاء. ثم دالت دولة بني العبّاس وبعث عبد الرحمن بطاعته إلى السفّاح. ثم إلى أبي جعفر من بعده.
ولحق كثير من بني أمية إلى إفريقية. وكان ممن قدم عليه القاضي، وعبد المؤمن ابنا الوليد بن يزيد ومعهما ابنة عمّ لهما، فزوّجها عبد الرحمن من أخيه الياس. ثم بلغ عبد الرحمن عنهما السعي في الخلافة فقتلهما، وامتعضت لذلك ابنة عمهما، فأغرت زوجها بأخيه عبد الرحمن واستفسدته. وكان عبد الرحمن قد أرسل إلى أبي جعفر بهدية قليلة، وذهب يعتذر عنها فلم يحسن العذر، وأفحش في الخطاب فكتب إليه المنصور يتهدّده، وبعث إليه بالخلعة فانتقض هو ومزّق خلعته على المنبر فوجد أخوه الياس بذلك السبيل إلى ما كان يحاول عليه، وداخل وجوها من الجند في الفتك بعبد الرحمن وإعادة الدعوة للمنصور، ومالأه في ذلك أخوه عبد الوارث، وفطن عبد الرحمن لهما فأمر الياس بالمسير إلى تونس، وجاء ليودّعه ومعه أخوه عبد الوارث فقتلاه في آخر سبع وثلاثين لعشر سنين من إمارته.
(حبيب بن عبد الرحمن)
ولما قتل عبد الرحمن نجا ابنه حبيب إلى تونس فلحق به بعد أن طلبوه وضبطوا أبواب القصر ليأخذوه فلم يظفروا به. وكان عمّه عمران بن حبيب بتونس فلحق به، واتبعه الياس فاقتتلوا مليا ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب قفصة وقصطيلة ونفزاوة، ولعمران تونس وصطفورة، وهي تبرزو والجزيرة، ولإلياس سائر إفريقية. وتمّ هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين. وسار حبيب إلى عمله ببلاد الجريد، وسار الياس مع أخيه(4/243)
عمران الى تونس فغدر بعمران وقتله وجماعة من الأشراف معه، وعاد الى القيروان.
وبعث بطاعته إلى أبي جعفر المنصور مع عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية. ثم سار حبيب إلى تونس فملكها وجاءه عمّه الياس فقاتله، وخالفه حبيب إلى القيروان فدخلها وفتق السجون فرجع الياس في طلبه، وفارقه أكثر أصحابه إلى حبيب، فلما تواقفا دعاه حبيب إلى البراز فتبارزا وقتله حبيب ودخل القيروان وملكها آخر سنة ثمان وثلاثين، ونجا عمه الآخر عبد الوارث إلى وربجومة من قبائل البربر، وكبيرهم يومئذ عاصم بن جميل، وكان كاهنا ويدّعي النبوّة فأجار عبد الوارث، وقاتلهم حبيب فهزموه إلى قابس واستفحل أمرهم وكتب من كان بالقيروان من العرب إلى عاصم بن جميل يدعونه للولاية عليهم، واستخلفوه على الحماية والدعاء للمنصور فلم يجب إلى ذلك. وقاتلهم فهزمهم، واستباح القيروان وخرّب المساجد واستهانها. ثم سار إلى حبيب بن عبد الرحمن بقابس فقاتله وهزمه، ولحق حبيب بجبل أوراس فأجاره أهله، وجاء عاصم فقاتلهم فهزموه، وقتل جماعة من أصحابه. وقام بأمر وربجومة والقيروان من بعده عبد الملك، وقتله سنة أربعين ومائة. وكانت إمارة الياس على إفريقية سنة ونصفا، وإمارة حبيب ثلاث سنين.
(عبد الملك بن أبي الجعد الوربجومي)
ولما قتل عبد الملك بن أبي الجعد حبيب بن عبد الرحمن رجع في قبائل وربجومة إلى القيروان وملكها، واستولت وربجومة على إفريقية، وساروا في أهل القيروان بالعسف والظلم كما كان عاصم واسوأ منه. وافترق أهل القيروان بالنواحي فرارا بأنفسهم، وشاع خبرهم في الآفاق فخرج بنواحي طرابلس عبد الأعلى بن السمح المغافري الإباضيّ منكرا لذلك وقصد طرابلس وملكها.
(عبد الأعلى بن السمح المغافري)
ولما ملك عبد الأعلى مدينة طرابلس بعث عبد الملك بن أبي الجعد العساكر لقتاله(4/244)
سنة إحدى وأربعين، فلقيهم أبو الخطّاب وهزمهم وأثخن فيهم، واتبعهم إلى القيروان فملكها وأخرج وربجومة منها واستخلف عليها عبد الرحمن بن رستم، وسار إلى طرابلس للقاء العساكر القادمة من ناحية أبي جعفر.
(محمد بن الأشعث الخزاعي)
كان أبو جعفر المنصور لما وقع بإفريقية ما وقع من الفتنة وملك قبائل وربجومة القيروان، وفد عليه رجالات من جند إفريقية يشكون ما نزل بهم من وربجومة، ويستصرخونه فولّى على مصر وإفريقية محمد بن الأشعث الخزاعي فنزل مصر وبعث على إفريقية أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجليّ. وسار في مقدّمته فلقيه أبو الخطّاب عبد الأعلى بسرت، ودهمه بالعساكر ومعهم الأغلب بن سالم بن عقال ابن خفاجة بن سوادة التميمي فسار لذلك، ولقي أبا الخطاب بسرت ثانية، فانهزم أبو الخطّاب وقتل عامّة أصحابه وذلك سنة أربع وأربعين. وبلغ الخبر إلى عبد الرحمن بن رستم بالقيروان ففرّ عنها إلى تاهرت وبنى هنالك مدينة ونزلها، وقام ابن الأشعث فافتتح طرابلس واستعمل عليها المخارق غفارا الطائي، وقام بأمر إفريقية وضبطها. وولّى على طبنة والزاب الأغلب بن سالم. ثم ثارت عليه المضريّة وأخرجوه سنة ثمان وأربعين فقفل إلى المشرق الأغلب بن سالم. ولما قفل ابن الأشعث إلى المشرق ولّى على المضريّة عيسى بن موسى الخراساني، فبعث أبو جعفر المنصور الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي بعده على إفريقية، وكان من أصحاب أبي مسلم بخراسان. وقدم مع ابن الأشعث فولّاه على الزاب وطبنة، فقدم القيروان وسكن الناس. ثم خرج عليه أبو قرة اليفرني في جموع البربر فهرب وسكن أبو قرّة اليفرني، فأبى عليه الجند وخلعوه، وكان الحسن بن حرب الكندي بقابس فكاتب الجند وثبطهم عن الأغلب فلحقوا به وأقبل بهم إلى القيروان فملكها ولحق الأغلب بقابس. ثم رجع إلى إقبال الحسن بن حرب سنة خمسين فهزمه، وسار إلى القيروان فكرّ عليه الحسن دونها واقتتلوا، وأصاب الأغلب سهم فقتله، وقدّم أصحابه عليهم المغافر بن غفار الطائي الّذي كان على طرابلس، وحملوا على الحسن فانهزم أمامهم إلى تونس. ثم لحق بكتامة وخيل المخارق في اتباعه. ثم رجع إلى تونس بعد شهرين(4/245)
فقتله الجند، وقيل أصحاب الأغلب قتلوه في الموقف الّذي قتل فيه الأغلب. وقام بأمر إفريقية المخارق بن غفار إلى أن كان ما نذكره.
(عمر بن حفص هزارمرد)
ولما بلغ أبا جعفر المنصور قتل الأغلب بن سالم بعث على إفريقية مكانه عمر بن حفص هزارمرد من ولد قبيصة بن أبي هفرة أخي المهلّب، فقدمها سنة إحدى وخمسين فاستقامت أموره ثلاث سنين. ثم سار لبناء السور على مدينة طبنة واستخلف على القيروان أبا حازم حبيب بن حبيب المهلّبيّ، فلمّا توجه لذلك ثار البربر بإفريقية وغلبوا على من كان بها وزحفوا إلى القيروان وقاتلوا أبا حازم فقتلوه واجتمع البربر الإباضيّة بطرابلس، وولّوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب الإباضيّ مولى كندة، وكان على طرابلس الجنيد بن بشّار الأسديّ من قبل عمر بن حفص فأمدّه بالعساكر، وقاتلوا أبا حازم فهزمهم وحصرهم بقابس، وانقضّت إفريقية من كل ناحية. ثم ساروا في عسكر إلى طبنة وحاصروا بها عمر بن حفص، فيهم أبو قرّة اليعقوبي في أربعين ألفا من الصفريّة وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفا من الإباضية جاءوا معه، والمسور الزناتي في عشرة آلاف من الإباضية وأمم من الخوارج من صنهاجة وزناتة وهوّارة ما لا يحصى، فدافعهم عمر بن حفص بالأموال، وفرّق كلمتهم، وبذل لأصحاب أبي قرّة مالا فانصرفوا. واضطر أبو قرّة لاتباعهم، فبعث عمر جيشا إلى ابن رستم وهو بتهودا فانهزم إلى تاهرت وضعف الإباضية عن حصار طبنة فأفرجوا عنها، وسار أبو حاتم إلى القيروان وحاصرها ثمانية أشهر، واشتدّ حصارها وسار عمر بن حفص وجهّز العساكر لطبنة فخالفه أبو قرّة إلى طبنة فهزموه.
وبلغ أبا حاتم وأصحابه وهو على القيروان مسير عمر بن حفص إليهم فساروا للقائه، فمال هو من الأربس إلى تونس. ثم جاء إلى القيروان فدخلها واستعدّ للحصار واتبعه أبو حاتم والبربر فحاصروه إلى أن جهده الحصار، وحرج لقتالهم مستميتا فقتل آخر سنة أربع وخمسين، وولىّ مكانه أخوه لأمّه حميد بن صخر فوادع أبا حاتم على أن يقيم دعوة العبّاسيّة بالقيروان وخرج أكثر الجند إلى طبنة وأحرق أبو حاتم أبواب القيروان وثلم سورها
.(4/246)
(يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب)
ولما بلغ المنصور انتقاض إفريقية على عمر بن حفص وحصاره بطبنة ثم بالقيروان، بعث إليه يزيد بن أبي حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة في ستين ألف مقاتل. وبلغ خبره عمر بن حفص فحمله ذلك على الاستماتة حتى قتل، وسار يزيد ابن حاتم فقدم عليها وأبو حاتم يعقوب بن حبيب مستول عليها، فسار إلى طرابلس للقائه، واستخلف على القيروان عمر بن عثمان الفهريّ فانتقض وقتل أصحابه.
وخرج المخارق بن غفار، فرجع إليهما أبو حاتم ففرّا من القيروان ولحقا بجيجل من سواحل كتامة فتركهما، واستخلف على القيروان عبد العزيز بن السبع المغافري، وسار للقاء يزيد. وسار يزيد إلى طرابلس فلحق أبو حاتم بجبال نفوسة، واتبعته عساكر يزيد فهزمهم فسار إليه يزيد بنفسه، وقاتله قتالا شديدا فانهزم البربر، وقتل أبو حاتم في ثلاثين ألفا من أصحابه، وتتبعهم يزيد بالقتل بثأر عمر بن حفص. ثم ارتحل إلى القيروان فدخلها منتصف سنة خمس وخمسين. وكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهرّي مع أبي حاتم فلحق بكتامة، وبعث يزيد في طلبه فحاصروهم ثم ظفروا بهم. وهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه وبعث يزيد المخارق ابن غفار على الزاب، ونزل طبنة وأثخن في البربر في وقائع كثيرة مع وربجومة وغيرهم الى ان هلك يزيد سنة سبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد. وقام بأمره ابنه داود فخرج عليه البربر، وأوقع بهم ورجع إلى القيروان إلى أن كان من أمره ما نذكره.
(أخوه روح بن حاتم)
ولما بلغ الرشيد وفاة يزيد بن حاتم، وكان أخوه روح على فلسطين استقدمه وعزّاه في أخيه وولّاه على إفريقية فقدمها منتصف إحدى وسبعين. وسار داود ابن أخيه يزيد إلى الرشيد. وكان يزيد قد أذلّ الخوارج ومهّد البلاد فكانت ساكنة أيام روح، ورغب في موادعة عبد الوهاب بن رستم وكان من الوهبيّة فوادعه، ثم هلك روح في(4/247)
رمضان سنة أربع وسبعين، وكان الرشيد قد بعث بعهده سرا إلى نصر بن حبيب من قرابتهم، فقام بالأمر بعد روح إلى أن ولي الفضل.
(ابنه الفضل بن روح)
ولما توفي روح بن حاتم قام حبيب بن نصر مكانه، وسار ابنه الفضل إلى الرشيد فولّاه على إفريقية مكان أبيه فعاد إلى القيروان في محرّم سنة سبع وسبعين، واستعمل على تونس المغيرة ابن أخيه بشر بن روح، وكان غلاما غرّا فاستخف بالجند، واستوحشوا من الفضل لما أساء فيهم السيرة، وأخذهم بموالاة حبيب بن نصر فاستعفى أهل تونس من المغيرة فلم يعفهم، فانتقضوا وقدّموا عليهم عبد الله بن الجارود، ويعرف بعبد ربّه الأنباري، وبايعوه على الطاعة، وأخرجوا المغيرة، وكتبوا إلى الفضل أن يولّي عليهم من أراد فولّى عليهم ابن عمّه عبد الله بن يزيد بن أبي حاتم، وسار إلى تونس. ولما قاربها بعث ابن الجارود جماعة لتلقّيه، واستفهامه في أيّ شيء جاء فعدوا عليه وقتلوه افتئاتا بذلك على ابن الجارود، واضطر إلى إظهار الخلاف، وتولّى كبر ذلك محمد بن الفارسيّ من قوّاد الخراسانية، وكتب إلى القوّاد والعمّال في النواحي، واستفسدهم على الفضل. وكثر جموع ابن الجارود، وخرج الفضل فانهزم واتبعه ابن الجارود، واقتحم عليه القيروان. ووكّل به وبأهله من يوصلهم إلى قابس. ثم ردّه من طريقه وقتله منتصف ثمان وسبعين. ورجع ابن الجارود إلى تونس، وامتعض لقتل الفضل جماعة من الجند وفي مقدّمهم مالك بن المنذر ووثبوا بالقيروان فملكوها، وسار إليهم ابن الجارود من تونس فقتلهم، وقتل مالك بن المنذر وجماعة من أعيانهم، ولحق فلّهم بالأندلس، فقدّموا عليهم الصّلت بن سعيد، وعادوا إلى القيروان واضطربات إفريقية.
(خزيمة بن أعين)
ولما بلغ الرشيد مقتل الفضل بن روح، وما وقع بإفريقية من الاضطراب، ولّى(4/248)
مكانه خزيمة بن أعين، وبعث إلى ابن الجارود يحيى بن موسى لمحلّه عند أهل خراسان. ويقال يقطين يرغبه في الطاعة، فأجابه بشرط الفراغ من العلاء بن سعيد. وعلم يقطين أنه يغالطه فداخل صاحبه محمد بن الفارسيّ، واستماله فنزع عن ابن الجارود. وخرج ابن الجارود من القيروان فرارا من العلاء في محرّم سنة تسع وسبعين لسبعة أشهر من ولايته، وسار للقاء ابن الفارسيّ من القيروان، وتزاحفا للقتال فدعا ابن الجارود ابن الفارسيّ إلى خلوة، وقد دسّ رجلا من أصحابه يغتاله في خلوتهما فقتله، وانهزم أصحابه وسابق العلاء بن سعيد ويقطين إلى القيروان فسبق إليها العلاء وملكها وفتك في أصحابه ابن الجارود ولحق ابن الجارود بهرثمة فبعث به إلى الرشيد، وكتب إليه أن العلاء بن سعيد هو الّذي أخرجه من القيروان فأمره بأن يبعث بالعلاء فبعث به مع يقطين، فاعتقل ابن الجارود وأحسن إلى العلاء إلى أن توفي بمصر. وسار هرثمة إلى القيروان فقدمها سنة سبع وسبعين فأمّن الناس وسكّنهم، وبني القصر الكبير بالمنستير لسنة من قدومه، وبنى السور على طرابلس مما يلي البحر. وكان إبراهيم بن الأغلب عاملا على الزاب وطبنة فهاداه، ولاطفه فعقد له على عمله فقام بأمره وحسن أثره. ثم خرج عليه عياض بن وهب الهوّاري وكليب ابن جميع الكلبيّ، وجمعا الجموع فسرّح هرثمة إليهما يحيى بن موسى من قوّاد الخراسانيّة ففرّق جموعهما، وقتل كثيرا من أصحابهما، ورجع إلى القيروان. ولما رأى هرثمة كثرة الثّوار والخلاف بإفريقية استعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه، ورجع إلى العراق لسنتين ونصف من ولايته.
(محمد بن مقاتل الكعبي)
ثم بعث الرشيد على إفريقية محمد بن مقاتل الكعبيّ، وكان صنيعه، فقدم القيروان في رمضان سنة إحدى وثمانين، فكان مسيء السيرة، فاختلف عليه الجند وقدّموا مخلّد بن مرّة الأزديّ، فبعث إليه العساكر فهزم وقتل. ثم خرج عليه بتونس تمام ابن تميم التميميّ سنة ثلاث وثمانين، واجتمع إليه الناس، وسار إلى القيروان فخرج إليه محمد بن مقاتل ولقيه فانهزم أمامه ورجع إلى القيروان، وتمام في اتباعه إلى أن(4/249)
دخل عليه القيروان، وأمّنه تمام على أن يخرج عن إفريقية، فسار محمد إلى طرابلس، وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن الأغلب بمكانه من الزاب فانتقض لمحمد، وسار بجموعه إلى القيروان وهرب تمام بين يديه إلى تونس، وملك القيروان واستقدم محمد بن مقاتل من طرابلس، وأعاده إلى إمارته بالقيروان آخر ثلاث وثمانين، وزحف تمام لقتالهم فخرج إليه إبراهيم بن الأغلب بأصحابه فهزمه، وسار في اتباعه إلى تونس. واستأمن له تمام فأمّنه وجاء به إلى القيروان وبعث به إلى بغداد فاعتقله الرشيد.
(إبراهيم بن الأغلب)
ولما استوثق الأمر لمحمد بن مقاتل كره أهل البلاد ولايته، وداخلوا إبراهيم بن الأغلب في أن يطلب من الرشيد الولاية عليهم، فكتب إبراهيم إلى الرشيد في ذلك على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت من مصر إلى إفريقية، وعلى أن يحمل هو من إفريقية أربعين ألفا. وبلغ الرشيد غناؤه في ذلك واستشار فيه أصحابه فأشار هرثمة بولايته، فكتب له بالعهد إلى إفريقية منتصف أربع وثمانين فقام إبراهيم بالولاية، وضبط الأمور وقفل ابن مقاتل إلى المشرق، وسكنت البلاد بولاية ابن الأغلب، وابتنى مدينة العبّاسيّة قرب القيروان، وانتقل إليها بجملته. وخرج عليه سنة ست وثمانين بتونس حمديس من رجالات العرب، ونزع السواد، فسرّح إليه ابن الأغلب عمران بن مجالد في العساكر فقاتله وانهزم حمديس، وقتل من أصحابه نحو عشرة آلاف. ثم صرف همّه إلى تمهيد المغرب الأقصى، وقد ظهر فيه دعوة العلويّة بإدريس بن عبد الله. وتوفي ونصّب البرابرة ابنه الأصغر، وقام مولاه راشد بكفالته.
وكبر إدريس واستفحل أمره براشد، فلم يزل إبراهيم يدسّ إلى البربر ويسرّب فيهم الأموال حتى قتل راشد وسيق رأسه إليه. ثم قام بأمر إدريس بعده بهلول بن عبد الرحمن المظفّر من رءوس البربر فاستفحل أمره، فلم يزل إبراهيم يتلطّفه ويستميله بالكتب والهدايا، الى أن انحرف عن دعوة الأدارسة إلى دعوة العبّاسيّة فصالحه إدريس، وكتب إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكفّ عنه. ثم خالف أهل طرابلس على إبراهيم بن الأغلب سنة تسع وثمانين، وثاروا(4/250)
بعاملهم سفيان بن المهاجر، وأخرجوه من داره إلى المسجد وقتلوا عامة أصحابه. ثم أمّنوه على أن يخرج من طرابلس فخرج سفيان لشهر من ولايته، واستعملوا عليهم إبراهيم بن سفيان التميمي، فبعث إليهم إبراهيم بن الأغلب العساكر وهزمهم، ودخل طرابلس عسكره. ثم استحضر إبراهيم الذين تولّوا كبر ذلك، فحضروا في ذي الحجّة آخر السنة، وعفا عنهم وأعادهم إلى بلدهم. ثم انتقض عمران بن مجالد الربعيّ سنة خمس وتسعين على ابن الأغلب، وكان بتونس، واجتمع معه على ذلك قريش بن التونسي، وكثرت جموعهما، وسار عمران إلى القيروان فملكها، وقدم عليه قريش من تونس، وخندق إبراهيم على نفسه بالعبّاسيّة فحاصروه سنة كاملة، كانت بينه وبينهم حروب كان الظفر في آخرها لابن الأغلب. وكان عمران يبعث إلى أسد بن الفرات القاضي في الخروج إليهم وامتنع. ثم بعث الرشيد إلى إبراهيم بالمال فنادى في الناس بالعطاء، ولحق به أصحاب عمران، وانتقض أمره ولحق بالزاب، فأقام به إلى أن توفي ابن الأغلب. ثم بعث إبراهيم على طرابلس ابنه عبد الله سنة ست وتسعين، فثار عليه الجند وحاصروه بداره. ثم أمّنوه على أن يخرج عنهم فخرج، واجتمع إليه الناس وبذل العطاء وأتاه البربر من كل ناحية. وزحف إلى طرابلس فهزم جندها ودخل المدينة. ثم عزله أبوه وولّى سفيان بن المضاء فثارت هوّارة بطرابلس، وهجموا الجند فلحقوا بإبراهيم بن الأغلب وأعاد معهم ابنه عبد الله في ثلاثة عشر ألفا من العساكر ففتك بهوّارة وأثخن فيهم، وجدّد سور طرابلس. وبلغ الخبر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم فجمع البربر وجاء إلى طرابلس فحاصرها وسدّ عبد الوهاب باب زناتة، وكان يقاتل من باب هوّارة. ثم جاءه الخبر بوفاة أبيه فصالحهم على أن يكون البلد والبحر لعبد الله، وأعمالها لعبد الوهاب، وسار إلى القيروان، وكانت وفاة إبراهيم في شوّال سنة ست وتسعين.
(ابنه أبو العباس عبد الله)
ولما توفي إبراهيم بن الأغلب عهد لابنه عبد الله، وكان غائبا بطرابلس والبربر يحاصرونه كما ذكرناه، وأوصى ابنه الآخر زيادة الله أن يبايع له بالإمارة ففعل، وأخذ له البيعة(4/251)
على الناس بالقيروان. وكتب إليه بذلك فقدم أبو العبّاس عبد الله في صفر سنة سبع وتسعين، ولم يرع حق أخيه فيما فعله. وكان ينتقصه ولم يكن في أيامه فتنة بما مهّد له أبوه الأمر. وكان جائرا حتى قيل: إن مهلكه كان بدعوة حفص بن حميد من الأولياء الصالحين من أهل حمّود ومهريك، وفد عليه في جماعة من الصالحين يشكو ظلامة. فلم يصغ إليهم فخرج حفص يدعو عليه، وهم يؤمنون فأصابته قرحة في أذنه عن قريب هلك منها في ذي الحجّة سنة إحدى ومائتين لخمس سنين من ولايته.
(أخوه زيادة الله)
ولما توفي أبو العباس ولي مكانه أخوه زيادة الله، وجاءه التقليد من قبل المأمون، وكتب إليه يأمره بالدعاء لعبد الله بن طاهر على منابره فغضب من ذلك، وبعث مع الرسول بدنانير من سكة الأدارسة يعرض له بتحويل الدعوة. ثم استأذنه قرابته في الحج وهم أخوه الأغلب وأبناء أخيه أبي العباس محمد وأبو محمد بهر وإبراهيم أبو الأغلب، فأذن لهم وانطلقوا لقضاء فرضهم فقضوه، وأقاموا بمصر حتى وقعت بين زيادة الله وبين الجند الحروب فاستقدمهم، واستوزر أخاه الأغلب وهاجت الفتن.
واستولى كل رئيس بناحية فملكوها عليه كلها وزحفوا إلى القيروان فحصروه، وكان فاتحة الخلاف زياد بن سهل بن الصقلية، خرج سنة سبع ومائتين وجمع وحاصر مدينة باجة فسرح إليه العساكر فهزموه وقتلوا أصحابه. ثم انتقض منصور الترمذي بطبنة، وسار إلى تونس فملكها وكان العامل عليها إسماعيل بن سفيان، وسفيان أخو الأغلب فقتله لتستخلص له طاعة الجند. وسرح زيادة الله العساكر من القيروان مع غلبون ابن عمه ووزيره اسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب وتهددهم بالقتل إن انهزموا فهزمهم منصور، وخشوا على أنفسهم ففارقوا الوزير غلبون، وافترقوا على إفريقية، واستولوا على باجة والجزيرة وصطفورة والأربس وغيرها. واضطربت إفريقية، ثم اجتمعوا إلى منصور، وسار بهم إلى القيروان فملكها، وحاصره في العباسية أربعين يوما، وعمروا سور القيروان الّذي خربه إبراهيم بن الأغلب. ثم خرج إليه زيادة الله فقاتله فهزمه، ولحق بتونس وخرب زيادة الله سور القيروان.(4/252)
ولحق قواد الجند بالبلاد التي تغلبوا عليها، فلحق منهم عامر بن نافع الأزرق بسبيبة [1] . وسرح زيادة الله سنة تسع ومائتين عسكرا مع محمد بن عبد الله بن الأغلب فهزمهم عامر وعادوا، ورجع منصور إلى تونس ولم يبق على طاعة زيادة الله من إفريقية إلا تونس والساحل وطرابلس ونفزاوة [2] . وبعث الجند إلى زيادة الله بالأمان وأن يرتحل عن إفريقية، وبلغه أن عامر بن نافع يريد نفزاوة وأن برابرتها دعوه، فسرح إليهم مائتي مقاتل لمنع عامر بن نافع فرجع [3] عامرا عنها، وهزمه إلى قسطيلة ورجع. ثم هرب عنها واستولى سفيان على قسطيلة وضبطها. وذلك سنة تسع ومائتين، واسترجع زيادة الله قسطيلة والزاب وطرابلس واستقام أمره. ثم وقعت الفتنة بين منصور الطبندي وبين عامر بن نافع، لأن منصورا كان يحسده ويضغن عليه فاستمال عامر الجند وحاصره بقصره بطبندة حتى استأمن إليه على أن يركب إلى الشرق. وأجابه إلى ذلك وخرج منصور من طبندة منهزما. ثم رجع فحاصره عامر حتى استأمن إليه ثانيا على يد عبد السلام بن المفرّج من قوّاد الجند، وأخذ له الأمان من عامر على أن يركب البحر إلى المشرق فأجابه عامر وبعثه مع ثقاته إلى تونس وأوصى ابنه. وكان يغريه أن يقتله إذا مرّ به فقتله، وبعث برأسه ورأس ابنه. وأقام عامر بن نافع بمدينة تونس إلى أن توفي سنة أربع عشرة. ورجع عبد السلام بن المفرج إلى باجة فأقام بها إلى أن انتقض فضل بن أبي العين بجزيرة شريك سنة ثمان عشرة ومائتين، فسار إليه عبد السلام بن المفرج الربعي، وجاءت عساكر زيادة الله فقاتلوهما، وقتل عبد السلام، وانهزم فضل إلى مدينة تونس وامتنع بها، وحاصرته العساكر حتى اقتحموها عليه، وقتلوا كثيرا من أهلها وهرب آخرون حتى أمنهم زيادة الله وعادوا، وفي سنة تسع عشرة ومائتين فتح أسد بن الفرات صقلّيّة، كانت صقلّيّة من عمالات الروم وأمرها راجع الى صاحب قسطنطينية، وولى عليها سنة إحدى عشرة ومائتين بطريقا اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائدا من الروم حازما شجاعا فغزا سواحل إفريقية وانتهبها. ثم بعد مدّة كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض
__________
[1] سبيبة: ناحية من أعمال افريقية ثم من أعمال القيروان (معجم البلدان) .
[2] نفزاوة: مدينة من أعمال افريقية، قال البكري: وتسير من القيروان الى نفزاوة ستة أيام نحو المغرب، وبمدينة نفزاوة عين تسمى بالبربرية تاورغي، وهي عين كبيرة لا يدرك قعرها، ولها سور صخر وطوب ولها ستة أبواب وفيها جامع وحمام وأسواق حافلة ... (معجم البلدان)
[3] بمعنى منع عامر بن نافع عنها.(4/253)
على مقدم الأسطول وقتله. ونمي الخبر إليه بذلك فانتقض، وتعصب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلّيّة فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية فأتبعه جيشا أخذوه وقتلوه، واستولى القائد على صقلّيّة فملكها وخوطب بالملك. وولى على ناحية من الجزيرة رجلا اسمه بلاطة، وكان ميخاييل ابن عم بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمه على القائد، واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة، وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجدا بزيادة الله، فبعث معهم العساكر واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مأزر، وساروا إلى بلاطة ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا بلاطة والروم الذين معه، وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة فقتل، واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة ووصلوا إلى قلعة الكرات، وقد اجتمع بها خلق كثير فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية، حتى استعدّوا للحصار، ثم امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كل ناحية، وكثرت الغنائم وحاصروا سرقوسة برا وبحرا، وجاءه المدد من إفريقية وحاصروا بليرم. وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة قد بعثوهم، واشتدّ حصار المسلمين بسرقوسة، ثم أصاب معسكرهم الفناء وهلك كثير منهم، ومات أسد بن الفرات أميرهم ودفن بمدينة قصريانة، ومعهم القائد الّذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه. وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم، ودخل فلهم إلى قصريانة. ثم توفي محمد بن الحواري أمير المسلمين، وولي بعده زهير بن عوف. ثم محص [1] الله المسلمين فهزمهم الروم مرات وحصروهم في معسكرهم حتى جهدهم الحصار، وخرج من كان في كبركيت من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مأزر. وتعذر عليهم الوصول إلى إخوانهم وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن أشرفوا على الهلاك، فوصلت مراكب افريقية مددا وأسطول من الأندلس خرجوا للجهاد. واجتمع منهم ثلاثمائة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة ومائتين. ثم ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم
__________
[1] بمعنى امتحن.(4/254)
عليها سنة عشرين ومائتين. ثم بعثوا إلى طرميس. ثم بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سرية إلى سرقوسة فغنموا. ثم سارت سرية أخرى واعترضها بطريق صقلّيّة فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتى يئس منهم وانصرف على غير طائل فحمل عليهم أهل السرية وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطعن وجرح، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب ومتاع. ثم جهز زيادة الله إلى صقلّيّة إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر، وولاه أميرا عليها فخرج منتصف رمضان، وبعث اسطولا فلقي أسطولا للروم فغنمه، وقتل من كان فيه. وبعث أسطولا آخر إلى قصوره فلقي أسطولا فغنمه وسارت سرية إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر السبي بأيدي المسلمين. وبعث الأغلب سنة إحدى وعشرين أسطولا نحو الجزائر فغنموا وعادوا. وبعث سرية إلى قطلبانة وأخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين. ثم كانت وقعة أخرى كان فيها الظفر للمسلمين. وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب، ثم عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدل المسلمين عليها، ودخلوا منها البلد، وتحصن المشركون بحصنه حتى استأمنوا وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه، وعادوا إلى بليرم إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله فوهنوا أولا.
ثم انشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومائتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته.
(أخوهما أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب)
ولما توفي زيادة الله بن إبراهيم، تولى أخوه الأغلب ويكنى أبا عقال فأحسن إلى الجند، وأزال المظالم وزاد العمال في أرزاقهم وكفهم عن الرعية! وخرج عليه بقسطيلة خوارج زواغة ولواتة وبسكاسة [1] وقتلوا عاملها بها، وبعث إليهم العساكر فقتلهم واستأصلهم. وبعث سنة أربع وعشرين سرية إلى صقلّيّة فغنموا وعادوا ظافرين. وفي سنة خمس وعشرين استأمن للمسلمين عدة حصون من صقلّيّة فأمنوهم، وفتحوها صلحا وسار أسطول المسلمين إلى قلورية ففتحوها، ولقوا أسطول
__________
[1] بسكاس: من قرى بخارى وليست هي المقصودة ولعلها مكناسة.(4/255)
القسطنطينية فهزموهم. وفي سنة ست وعشرين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثم حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها كما نذكره. ثم توفي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ست وعشرين ومائتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته.
(ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم)
ولما توفي أبو عقال الأغلب ولي بعده ابنه أبو العباس ودانت له إفريقية، وشيد مدينة بقرب تاهرت وسماها العباسية وذلك سنة سبع وعشرين، وأحرقها أفلح بن عبد الوهاب بن رستم. وكتب إلى صاحب الأندلس يتقرّب إليه بذلك فبعث إليه بمائة ألف درهم. وفي أيامه ولي سحنون القضاء سنة أربع وثلاثين ومائتين بعد عزل ابن الجواد، وضربه سحنون فمات. ومات سحنون سنة أربعين ومائتين، وثار عليه أخوه أبو جعفر وغلبه. ثم اتفقا على أن يستوزره فاستبد عليه، وقتل وزراءه ومكث على ذلك. ثم أقام أبو العباس محمد بأمره واستبد سنة ثلاث وأربعين بعد أن استعد لذلك رجالا، وحارب أخوه أبو جعفر فغلبه محمد وانتقض عليه وأخرجه من إفريقية إلى مصر سنة ست وأربعين ومائتين لستة عشر شهرا من ولايته.
(ابنه أبو إبراهيم أحمد بن أبي العباس محمد)
لما توفي أبو العباس محمد بن أبي عقال سنة اثنتين وأربعين، ولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد فأحسن السيرة وأكثر العطاء للجند، وكان مولعا بالعمارة فبنى بإفريقية نحوا من عشرة آلاف حصن بالحجارة والكلس وأبواب الحديد. واتخذ العبيد جندا وخرج عليه بناحية طرابلس خوارج من البربر فغلبهم عاملها، وهو يومئذ أخوه عبد الله بن محمد بن الأغلب، سرّح إليهم أخاهما زيادة الله يحاربهم، واستلحمهم وكتب إلى أخيه أبي إبراهيم بالفتح. وفي أيامه افتتحت قصريانة من مدن صقلّيّة في شوّال سنة أربع وأربعين، وبعث بفتحها إلى المتوكل، وأهدى له من سبيها. ثم توفي إبراهيم هذا سنة تسع وأربعين لثمان سنين من ولايته.(4/256)
(ابنه زيادة الله الأصغر بن أبي إبراهيم بن أحمد)
ولما توفي أبو إبراهيم ولي مكانه ابنه زيادة الله، ويعرف بزيادة الله الأصغر فجرى على سنن سلفه، ولم تطل أيامه. وتوفي سنة خمسين لحول من ولايته.
(أخوه أبو الغرانيق بن أبي إبراهيم بن أحمد)
ولما توفي زيادة الله كما قدّمناه ولي مكانه أخوه محمد ويلقب بأبي الغرانيق فغلب عليه اللهو والشراب. وكانت في أيامه حروب وفتن. وفتح جزيرة مالطة سنة خمس وخمسين. وتغلب الروم على مواضع من جزيرة صقلّيّة، وبنى محمد حصونا ومحارس على ساحل البحر بالمغرب على مسيرة خمسة عشر يوما من برقة إلى جهة المغرب وهي الآن معروفة. ثم توفي أبو الغرانيق منتصف إحدى وستين لإحدى عشرة سنة من ولايته.
(بقية أخبار صقلّيّة)
وفي سنة ثمان وعشرين سار الفضل بن جعفر الهمدانيّ في البحر ونزل مرسى مسينة وحاصرها فامتنعت عليه، وبث السرايا في نواحيها فغنموا. ثم بعث طائفة من عسكره وجاءوا إلى البلد من وراء جبل مطل عليه، وهم مشغولون بقتاله فانهزموا، وأعطوا باليد ففتحها. ثم حاصر سنة اثنتين وثلاثين مدينة لسى، وكاتب أهلها بطريق صقلّيّة يستمدونه فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيته فخرجوا واستطرد لهم حتى جاوزوا الكمين، فخرجوا عليهم، فلم ينج منهم إلا القليل، وسلموا البلد على الأمان. وفي سنة ثلاث وثلاثين أجاز المسلمون إلى أرض أنكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينة وسكنوها، وفي سنة أربع وثلاثين صالح أهل رغوس، ابن خلدون م 17 ج 4(4/257)
وسلموا المدينة للمسلمين فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها. وفي سنة ثلاث وثلاثين توفي أمير صقلّيّة محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العباس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم. وكتب له محمد بن الأغلب بعهده على صقلّيّة، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا، وتأتيه الغنائم. ولما جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه، وعلى مقدمته عمه رياح فعاث في نواحي صقلّيّة، وردد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس فغنموا وخربوا وحرقوا، وافتتح حصونا جمة، وهزم أهل قصريانة، وهي مدينة ملك صقلّيّة. وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلما فتحها المسلمون كما ذكرناه انتقل الملك إلى قصريانة. وخبر فتحها أن العباس كان يردد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة فيصيب منهم، ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى، وقدمهم للقتل فقال له بعضهم: وكان له قدر وهيبة استبقني وأنا أملكك قصريانة، ودلهم على عورة البلد فجاءوها ليلا، ووقفهم على باب صغير فدخلوا منه، فلما توسطوا البلد وضعوا السيف، وفتحوا الأبواب ودخل العباس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة، وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه، وذل الروم بصقلية من يومئذ.
وبعث ملك الروم عسكرا عظيما مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة فجاءهم العباس من بليرم فقاتلهم وهزمهم، وأقلع فلهم إلى بلادهم بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين. وافتتح بعدها كثيرا من قلاع صقلّيّة، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة، وزحف إليهم العباس من مكانه وهزمهم، ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى سرقوسة فغنم ورجع، واعتل في طريقه فهلك منتصف سنته. ودفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك لإحدى عشرة سنة من إمارته. واتصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال وغزوا أرض قلورية وانكبرده، وفتحوا فيها حصونا وسكن بها المسلمون. ولما توفي العباس اجتمع الناس على ابنه عبد الله وكتبوا إلى صاحب إفريقية، وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من إفريقية على صقلّيّة في منتصف ثمان وأربعين، وأخرج ابنه محمودا في سرية إلى سرقوسة فعاث في نواحيها، وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر(4/258)
ورجع. ثم فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين إلى سرقوسة، وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس، ثم غدروا فسرّح ابنه محمدا في العساكر وسبى أهلها. ثم سار خفاجة إلى رغوس وافتتحها، وأصابه المرض فعاد إلى بليرم. ثم سار سنة ثلاث وخمسين إلى سرقوسة وقطانية فخرّب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلّيّة فامتلأت أيديهم من الغنائم. وفي سنة أربع وخمسين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلّيّة فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم. وبعث سنة خمس وخمسين ابنه محمدا في العساكر الى طرميس وقد دله بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.
وجاء محمد بن خفاجة من ناحية أخرى فظنوه مددا للعدو فأجفلوا، ورآهم محمد مجفلين فرجع. ثم سار خفاجة إلى سرقوسة فحاصرها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين، وولى الناس عليهم ابنه محمدا وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير إفريقية فأقرّه على الولاية وبعث إليه بعهده.
(إبراهيم بن أحمد أخو أبي الغرانيق)
ولما توفي أبو الغرانيق ولي أخوه إبراهيم، وقد كان عهد لابنه أبي عقال، واستحلف أخاه إبراهيم أن لا ينازعه ولا يعرض له، بل يكون نائبا عنه إلى أن يكبر، فلما مات عدا عليه أهل القيروان وحملوه على الولاية عليهم، لحسن سيرته وعد له فامتنع ثم أجاب وترك وصية أبي الغرانيق في ولده أبي عقال، وانتقل إلى قصر الإمارة وقام بالأمر أحسن قيام. وكان عادلا حازما فقطع البغي والفساد وجلس لسماع شكوى المتظلمين، فأمنت البلاد وبنى الحصون والمحارس بسواحل البحر حتى كانت النار توقد في ساحل سبتة للنذير بالعدو فيتصل إيقادها بالإسكندرية في الليلة الواحدة وبنى سور سوسة. وفي أيامه كان مسير العباس بن أحمد بن طولون مخالفا على أبيه صاحب مصر سنة خمس وستين ومائتين فملك برقة من يد محمد بن قهرب قائد ابن الأغلب ثم ملك لبدة، ثم حاصر طرابلس واستمدّ ابن قهرب بقوسة فأمدوه ولقي العباس بن طولون بقصر حاتم سنة سبع وستين فهزمه، ورجع إلى مصر. ثم خالفت(4/259)
وزداجة ومنعوا الرهن، وفعلت مثل ذلك هوارة، ثم لواتة، وقتل ابن قهرب في حروبهم فسرح إبراهيم ابنه أبا العباس عبد الله إليهم في العساكر سنة تسع وستين فأثخن فيهم. وفي سنة ثمانين كثر الخوارج وفرّق العساكر إليهم فاستقاموا، واستركب العبيد السودان واستكثر منهم فبلغوا ثلاثة آلاف. وفي سنة إحدى وثمانين انتقل إلى سكنى تونس واتخذ بها القصور، ثم تحرك إلى مصر سنة ثلاث وثمانين لمحاربة ابن طولون، واعترضته نفوسة فهزمهم وأثخن فيهم. ثم انتهى إلى سرت فانفضت عنه الحشود فرجع، وبعث ابنه أبا العباس عبد الله على صقلّيّة سنة سبع وثمانين فوصل إليها في مائة وستين مركبا. وحصر طرابة وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت، وكانت بينهم فتنة فأغراه كل واحد منهم بالآخرين. ثم اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم [1] في البحر فهزمهم واستباحهم، وبعث جماعة من وجوهها إلى أبيه، وفرّ آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية وآخرون إلى طرميس فاتبعهم وعاث في نواحيها. ثم حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين. وتجهز سنة ثمان وثمانين للغزو فغزا دمقش [2] ثم مسيني [3] . ثم جاء في البحر إلى ربو [4] ففتحها عنوة وشحن مراكبه بغنائمها، ورجع إلى مسيني فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ لهم ثلاثين مركبا. ثم أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر. ورجع إلى صقلّيّة. وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العباس من صقلّيّة وارتحل هو إليها مظهرا لغربة الانتجاع. هكذا قال ابن الرقيق. وذكر أنه كان جائرا ظلوما سفّاكا للدماء، وأنه أصابه آخر عمره ماليخوليا أسرف بسببها في القتل، فقتل من خدمه ونسائه وبناته ما لا يحصى. وقتل ابنه أبا الأغلب لظن ظنه به. وافتقد ذات يوم منديلا لشرابه، فقتل بسببه ثلاثمائة خادم. وأمّا ابن الأثير فأثنى عليه بالعقل والعدل
__________
[1] بليرم: هي بلرم: وهي أعظم مدينة في جزيرة صقلّيّة في بحر المغرب على شاطئ البحر (معجم البلدان) وهي اليوم عاصمة صقلّيّة.
[2] دمقش: من قرى مصر في الغربية.
[3] مسيني: بليدة على ساحل جزيرة صقلّيّة مما يلي الروم مقابل ريو، وهو بلد في بر القسطنطينية، الواقف في مسيني يرى من في ريو (معجم البلدان) .
[4] هي ريو وليس ربو- هي مدينة للروم مقابل جزيرة صقلّيّة من ناحية الشرق على بر القسطنطينية.
(معجم البلدان) .(4/260)
وحسن السيرة، وذكر أن فتح سرقوسة كان في أيامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلّيّة، وأنه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم. ثم فتح البلد واستباحها. واتفقوا كلهم على أنه ركب البحر من إفريقية إلى صقلّيّة فنزل طرابنة. ثم تحول عنها إلى بليرم ونزل على دمقش وحاصرها سبعة عشر يوما. ثم فتح مسيني وهدم سورها. ثم فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها. ثم بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العباس عبد الله إلى قلعة بيقش فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة [1] فأعطوه الجزية. ثم عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة فقتل وسبى، ورهب منه الفرنجة. ثم رجع إلى صقلّيّة ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك. ثم سار إلى كنسة فحاصرها واستأمنوا إليه فلم يقبل. ثم هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العباس، وهو يومئذ بإفريقية، فأمن أهل كنسة قبل أن يعملوا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلا حتى تلاحقت به السرايا من النواحي. ثم ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير: حمله إلى القيروان فدفنه بها.
(ظهور الشيعي بكتامة)
وفي أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة. وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلّيّة. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلة بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بأنكجان يهدده ويحذره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلما قربت أمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم كما قدمناه أظهر التوبة، ومضى إلى صقلّيّة، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع
__________
[1] روطة: اسم أعجمي لقلعة حصينة بجزيرة صقلّيّة بينهما ثمانية أيام، هي بعيدة من البحر فوق جبل وفيها آثار الماء (معجم البلدان) .(4/261)
قبائل كتامة حتى استولى عليهم واتبعوه، وكان إبراهيم قد أسر لابنه أبي العباس في شأن الشيعي ونهاه عن محاربته، وأن يلحق به إلى صقلّيّة إن ظهر عليه.
(ابنه أبو العباس عبد الله بن إبراهيم أخي محمد أبي الغرانيق)
ولما هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين كما قدمناه، قدم حافده زيادة الله بالجيوش على أبيه أبي العباس عبد الله فقام بأمر إفريقية، وعظم غناؤه، وكتب إلى العمال كتابا يقرأ على الناس بالوعد الجميل والعدل والرّفق والجهاد، واعتقل ابنه زيادة الله هذا لما بلغه عنه من اعتكافه على اللذات واللهو، وأنه يروم التوثب عليه، وولى على صقلّيّة مكانه محمد بن السرقوسي، وكان أبو العباس حسن السيرة عادلا بصيرا بالحروب، وكانت أيامه صالحة، وكان نزوله بتونس. ولما توفي استولى أبو عبد الله الشيعي على كتامة ودخلوا في أمره كافة، وزحف إلى ميلة فافتتحها، وقتل موسى بن عياش.
وكان فتح بن يحيى أمير مسالة من كتامة حارب أبا عبد الله طويلا، ثم غلبه واستولى على قومه، فنزع فتح إلى أبي العباس وحرضه على قتال يكزاخول، وإنما كان يكرّ على جفنة إذا نظر، وزحف إليه من تونس سنة تسع وثمانين ومائتين ودخل سطيف [1] ثم بلزمة [2] ، وقتل من دخل في دعوتهم ولقيه أبو عبد الله الشيعي فانهزم وهرب من تاوزرت إلى أنكجان، وهدم أبو خول قصر الشيعي، ثم قاتلهم يوما إلى الليل، فانهزم عسكر أبي خول ولحق بتونس، ورجع بكتامة إلى مواضعهم. ولما دخل أبو خول بأبيه جدّد له العسكر وأعاده ثانية، وانتظمت إليه القبائل، وسار حتى نزل سطيف. ثم ارتحل منها إلى لقائهم، وزحف إليه أبو عبد الله فهزمه، ورجع إلى سطيف. ثم ارتحل منها إلى لقائهم، وفي أثناء ذلك صانع زيادة الله بعض الخدم على قتل أبيه أبي العباس فقتل نائما في شعبان سنة تسعين ومائتين، وأطلق زيادة الله من اعتقاله.
__________
[1] سطيف: مدينة في جبال كتامة بين تاهرت والقيروان من أرض البربر ببلاد المغرب، وهي صغيرة إلا انها ذات مزارع وعشب عظيم، ومنها خرج ابو عبد الله الشيعي داعية عبيد الله المسمى بالمهديّ (معجم البلدان) .
[2] وفي نسخة أخرى بلزمة، ولم نجد لها مادة في معجم البلدان.(4/262)
(ابنه أبو مضر زيادة الله)
ولما أطلق زيادة الله من الاعتقال اجتمع أهل الدولة وبايعوا له، فقتل الخصيان الذين قتلوا أباه، وأقبل على اللذات واللهو ومعاشرة المضحكين والصفاعين، وأهمل أمور الملك واستقل وكتب إلى أخيه أبي خول على لسان أبيه يستقدمه، وقدم فقتله وقتل عمومته وإخوته. وقوي أمر الشيعي، وانتقل زيادة الله إلى رقادة ليلا لئلا يخالفه الشيعي إليها. وفتح الشيعي مدينة سطيف فسرّح زيادة الله العساكر لحربه، وعقد عليها لإبراهيم بن حبيش من صنائعه، فخرج في أربعين ألفا، وأقام بقسطيلة ستة أشهر، فاجتمعت إليه مائة ألف، وزحف إلى كتامة، وتلقوه بأجانة فاخترمت عساكره وولت الهزيمة عليه. وانتهى إلى باغاية، ثم انتقل إلى القيروان وافتتح أبو عبد الله مدينة طبنة، وقتل فتح بن يحيى المسالتي وكان بها. ثم فتح بلزمة وهدم سورها. ثم وصل عروبة بن يوسف من أمراء كتامة إلى باغاية، وأوقع بالعساكر التي كانت بها مجمرة لحربهم بنظر هارون بن الطبني. وأرسل أبو عبد الله الشيعي إلى تيحيسن فحاصرها، ثم افتتحها صلحا، وكثر الإرجاف بالقيروان ففتح زيادة الله ديوان العطاء، واستلحق واستركب وأجمع الخروج فخرج إلى الأربس سنة خمس وتسعين، فلما انتهى إليها تخوف غائلة الشيعي، وأشار عليه أهل بيته بالرجوع فرجع إلى رقادة، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من وجوه أهل بيته. ثم زحف أبو عبد الله إلى باغاية ففتحها صلحا وهرب عاملها. ثم سرّب أبو عبد الله الجيوش فبلغت مجانة، وأوقعوا بقبائل نفزة، واستولوا على تيفاش. وزحف ابن أبي الأغلب إلى تيفاش فمنعه أهلها، وهزموا طلائعه فافتتحها، وقتل من كان بها. ثم خرج أبو عبد الله الشيعي في عساكر كتامة إلى باغاية ثم إلى سكاية، ثم إلى سبيبة، ثم إلى حمودة فاستولى على جميعها، وأمن أهلها ورحل ابن أبي الأغلب من الأربس. ثم سار أبو عبد الله إلى قسطيلة وقفصة فأمّنهم، ودخلوا في دعوته، وانصرف إلى باغاية، ثم إلى أنكجان. وزحف ابن أبي الأغلب إلى باغاية فقاتلها، وامتنعت عليه ورجع إلى الأربس. ثم زحف أبو عبد الله إلى الأربس سنة ست وتسعين في جمادى، ومرّ بشق بنارية، وأمن أهلها إلى قمودة
.(4/263)
(خروج زيادة الله الى المشرق)
ولما وصل الحبر إلى زيادة الله بوصول الشيعي إلى قمودة، حمل أمواله وأثقاله ولحق بطرابلس معتزما على الشرق. وأقبل الشيعي إلى إفريقية، وفي مقدمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، ووصل إلى رقادة في رجب سنة ست وتسعين ومائتين وتلقاه أهل القيروان وبايعوا لعبيد الله المهدي كما ذكرناه في أخبارهم ودولتهم. وأقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر يوما، وانصرف ومعه إبراهيم بن الأغلب، وكان نمي عنه أنه أراد الاستبداد لنفسه بالقيروان بعد خروج زيادة الله فأعرض عنه، واطرحه، وبلغ مصر فمنعه عاملها عيسى البرشدي من الدخول إلا عن أمر الخليفة، وأنزله بظاهر البلد ثمانية أيام وانصرف إلى ابن الفرات وزير المقتدر يستأذن له في الدخول فأتاه كتابه بالمقام في الرقة حتى يأتيه رأي المقتدر فأقام بها سنة.
ثم جاءه كتاب المقتدر بالرجوع إلى إفريقية. وأمر النوشزي بإمداده بالرجال والمال لاسترجاع الدعوة بإفريقية، ووصل إلى مصر فأصابته بها علة مزمنة، وسقط شعره.
ويقال إنه سم وخرج إلى بيت المقدس ومات بها. وتفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيامهم والبقاء للَّه وحده. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(بقية أخبار صقلّيّة ودولة بني أبي الحسن الكلبيين بها من العرب المستبدين بدعوة العبيديين وبداية أمرهم وتصاريف أحوالهم)
ولما استولى عبيد الله المهدي على إفريقية ودانت له، وبعث العمال في نواحيها، بعث على جزيرة صقلّيّة الحسن بن محمد بن أبي خنزير من رجالات كتامة، فوصل إلى مأزر سنة سبع وتسعين ومائتين في العساكر، فولى أخاه على كبركيت، وولى على القضاء بصقلية إسحاق بن المنهال، ثم سار سنة ثمان وتسعين ومائتين في العساكر إلى ومش، فعاث في نواحيها ورجع. ثم شكى أهل صقلّيّة سوء سيرته وثاروا به(4/264)
وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولى عليهم أحمد بن قهرب.
وبعث سرية إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي. ثم أرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليا إلى قلعة طرمين المحدثة ليتخذها حصنا لحاشيته وأمواله، حذرا من ثورة أهل صقلّيّة، فحصرها ابنه ستة أشهر. ثم اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامة، وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه. وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى إفريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن بن أبي خنزير فقتلوه، وأحرقوا الأسطول. وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها وانتهوا إلى طرابلس. وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي ثم وصلت الخلع والألوية من المقتدر الى ابن قهرب. ثم بعث الجيش في الأسطول إلى قلورية فعاثوا في نواحيها ورجعوا. ثم بعث ثانية أسطولا إلى إفريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره، وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي. ثم ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر ابن خنزير في جماعة من خاصته. وولى على صقلّيّة أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة فركب إليها البحر فنزل في طرابنة، وعصى عليه أهل صقلّيّة بمن معه من العساكر فامتنعوا عليه، وقاتله أهل كبركيت وأهل طرابنة فهزمهم وقتلهم. ثم استأمن إليه أهل طرابنة فأمنهم وهدم أبوابها. وأمره المهدي بالعفو عنهم. ثم ولى المهدي على صقلّيّة سالم بن راشد، وأمده سنة ثلاث عشرة بالعساكر فعبر البحر إلى أرض أنكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصونا ورجعوا. ثم عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أياما ورحلوا عنها. ولم يزل أهل صقلّيّة يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلّيّة وقلورية، ويعيثون في نواحيها. وبعث المهدي سنة اثنتين وعشرين جيشا في البحر مع يعقوب بن إسحاق، فعاث في نواحي جنوة ورجعوا. ثم بعث جيشه من قابل ففتحوا مدينة جنوة، ومروا بسردانية فأحرقوا فيها مراكب وانصرفوا. ولما كانت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم. واستمد القائم فأمدّه بالعساكر مع خليل بن إسحاق، فلما وصل إلى صقلّيّة شكا إليه أهلها من سالم بن راشد واسترحمته النساء والصبيان. وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلّيّة بمثل ذلك فرق لشكواهم، ودس إليهم سالم بأن خليلا إنما جاء للانتقام منهم بمن قتلوا من(4/265)
العسكر فعاودوا الخلاف، واختط خليل مدينة على مرسى المدينة، وسماها الخالصة. وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ست وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم، حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة، واجتمع أهل صقلّيّة على الخلاف، واستمدوا ملك القسطنطينية فأمدهم بالمقاتلة والطعام. واستمد خليل القائم فأمده بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلوط، وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين فارتحل عنها وحاصر كبركيت. ثم حبس عليها عسكرا للحصار مع أبي خلف بن هارون ورحل عنها، وطال حصارها إلى سنة تسع وعشرين فهرب كثير من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة.
ثم غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا ورجع خليل إلى إفريقية آخر سنة تسع وعشرين وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجة البحر فغرقوا أجمعين. ثم ولى على صقلّيّة عطاف الأزدي، ثم كانت فتنة أبي يزيد، وشغل القائم والمنصور بأمره، فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلّيّة للحسن ابن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قواده وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محل كبير وفي مدافعة أبي يزيد غناء عظيم. وكان سبب ولايته أن أهل بليرم [1] كانوا قد استضعفوا عطافا واستضعفهم العدو لعجزه، فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين، وتولى كبر ذلك بنو الطير منهم. ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمده، فولى الحسن بن علي على صقلّيّة وركب البحر إلى مأزر، وأرسى بها فلم يلقه أحد منهم. وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير. وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه فسبق ميعادهم ودخل المدينة، ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين واضطر بنو الطير إلى لقائه، وخرج إليهم [2] كبيرهم إسماعيل ولحق به من انحرف عن بني الطير، فكثر جمعه. ودس إسماعيل بعض غلمانه، فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أن الحسن لا يعاقب مملوكه، فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل
__________
[1] هي بلرم وقد مرت معنا في السابق.
[2] مقتضى السياق: خرج إليه.(4/266)
واستحلفه على دعواه، وقتل عبده فسر الناس بذلك، ومالوا عن الطبري وأصحابه، وافترق جمعهم وضبط الحسن أمره، وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين. وبعث ملك الروم بطريقا في البحر في عسكر كبير إلى صقلّيّة، واجتمع هو والسردغرس. واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل، وجمع الحسن من كان عنده وسار برا وبحرا. وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها وزحف إليه الروم فصالحه على مال أخذه، وزحف إلى الروم ففروا من غير حرب. ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهرا وصالحهم على مال ورجع بالأسطول إلى مسينى فشتى بها. وجاءه أمر المنصور بالرجوع إلى قلورية فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس فهزمهم، وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة. ثم سار إلى خراجة فحاصرها حتى هادنه ملك الروم قسطنطين. ثم عاد إلى ربو [1] وبنى بها مسجدا وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأن من دخله من الأسرى أمن.
ولما توفي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن، واستخلف على صقلّيّة ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية فغزاها، وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفا مددا. وبعث أحمد يستمد المعز فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن. وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة وزحفوا إلى رمطة، ومقدم الجيوش على حصارها الحسن بن عمار وابن أخي الحسن بن علي فأحاط الروم بهم.
وخرج أهل البلد إليهم وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقتل جماعة من البطارقة معه. وانهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي. ثم فتحوا رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلّيّة وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب فحرقوا مراكبهم، وقتل كثير منهم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز، وكانت سنة أربع وخمسين وأسر فيها ألف من عظمائهم ومائة بطريق. وجاءت الغنائم والأسارى إلى مدينة بليرم، حاضرة صقلّيّة،
__________
[1] هي ريو وقد مرت معنا في السابق.(4/267)
وخرج الحسن للقائهم، فأصابته الحمى من الفرح فمات، وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلّيّة بعد أن ولى المعز عليهم يعيش مولى الحسن فلم ينهض بالأمر، ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل، وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعز فولى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابة عن أخيه أحمد. ثم توفي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين واستبد بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلا محبا. وسار إليه سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها، وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم، فلما قاربهم خام عن اللقاء ورجع، وكان الأفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في اتباعه وأدركه فاقتتلوا، وقتل أبو القاسم في الحرب. وأهم المسلمين أمرهم فاستماتوا، وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة، ونجا بردويل إلى خيامه برأسه، وركب البحر إلى رومة. وولى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابر فرحل بالمسلمين لوقته راجعا، ولم يعرج على الغنائم. وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفا. وكان عادلا حسن السيرة. ولما ولي ابن عمه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور، وحسنت الأحوال. وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم.
وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وولي أخوه عبد الله فاتبع سيرة أخيه إلى أن توفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وولي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن، فأنسى بجلائله وفضائله من كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج، وعطل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمائة مع البربر والعبيد، فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله، ونفى البربر والعبيد، واستقامت أحواله. ثم انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني فثار عليه الناس بسببها، وجاءوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفة فتلطف بالناس، وسلم إليهم الباغاني فقتلوه، وقتلوه حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر، ورحل إلى مصر، وولى ابنه ابن جعفر سنة عشرة واربعمائة ولقبه بأسد الدولة بن تاج الدولة. ويعرف بالأكحل فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال، وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده(4/268)
فأساء ابن جعفر السيرة، وتحامل على صقلّيّة ومال إلى أهل إفريقية. وضج الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان، وأظهروا دعوته، فبعث الأسطول فيه ثلاثمائة فارس مع ولديه عبد الله وأيوب، واجتمع أهل صقلّيّة وحصروا أميرهم الأكحل، وقتل وحمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمائة. ثم ندم أهل صقلّيّة على ما فعلوه وثاروا بأهل إفريقية، وقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة وأخرجوهم. وولوا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت الأمور، وغلب السفلة على الأشراف. ثم ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدموا عليهم ابن الثمنة من رءوس الأجناد، وتلقب القادر باللَّه واستبد بمازر ابنه عبد الله قبل الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقل بملك الجزيرة إلى أن أخذت من يده. ولما استبد ابن الثمنة بصقلية تزوج ميمونة بنت الجراس، فتخيل له منها شيء فسقاها السم. ثم تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها، وأفاقت فندم واعتذر فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها، ووقعت الفتنة. وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس فانتصر ابن الثمنة بالروم. وجاء القمص وجاز ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من إخوته وجمع من الإفرنج، ووعدهم بملك صقلّيّة فداخل في بيع مية. وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى إفريقية عمر بن خلف بن مكي فنزل، وولي قضاءها. ولم يزل الروم يملكونها حتى لم يبق إلا المعاقل. وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة. وتملكها رجار كلها وانقطعت كلمة الإسلام منها ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدّتهم خمس وتسعون سنة. ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه. وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب نزهة المشارق في أخبار الآفاق [1] وسماه قصار رجار علما عليه معروفا به في الشهرة والله مقدر الليل والنهار.
__________
[1] هو كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، صنفه لريشار الثاني صاحب صقلّيّة. قسم منه فيه صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ومعه مقدمة وترجمة وفهرس الأسماء وشرح الكلمات الاصطلاحية الموجودة فيه وكلها باللغة الفرنسية باعتناء الاستاذين دوزي ودي غويه. وسمي الكتاب صفة المغرب والسودان (معجم المطبوعات العربية) .(4/269)
(الخبر عن جزيرة اقريطش وما كان بها للمسلمين من الملك على يد بني البلوطي الى أن استرجعها العدوّ)
هذه الجزيرة من جزر البحر الرومي ما بين صقلّيّة وقبرس في مقابلة الإسكندرية على يد الجالية أهل الربض. وذلك أن أهل الربض الغربي من قرطبة، وكان محلة متصلة بقصر الحكم بن هشام فنقموا عليه وثاروا به سنة اثنتين ومائتين، فأوقع بهم الوقعة المشهورة واستلحمهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، وأجلى الفلّ منهم إلى العدوة، ونزلوا بفاس وغيرها. وغرب آخرين إلى الإسكندرية فنزلوا وافترقوا في جوانبها. وتلاحى رجل منهم مع جزار من سوقة الإسكندرية فنادوا بالثأر، واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم وامتنعوا بها، وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح، من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم. وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر فزحف إليهم، وحصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى جزيرة أقريطش فعمروها وأميرهم أبو حفص البلوطي. وتداولها بنوه من بعده مدة من مائة وأربعين سنة إلى أن ملكها أريانوس بن قسطنطين ملك القسطنطينية من يد عبد العزيز بن شعيب من أعقابه سنة خمس وثلاثمائة، وأخرجوا المسلمين منها والله يعيد الكرة ويذهب آثار الكفرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(أخبار اليمن والدول الإسلامية التي كانت فيه للعباسيين والعبيديين وسائر ملوك العرب وابتداء ذلك وتصاريفه على الجملة ثم تفصيل ذلك على مدنه وممالكه واحدة بعد واحدة)
قد كنا قدّمنا في أخبار السير النبويّة كيف صار اليمن في ملكة الإسلام بدخول عامله في الدعوة الإسلامية، وهو باذان عامل كسرى، وأسلم معه أهل اليمن. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على جميع مخاليفها، وكان منزله صنعاء كرسي التبابعة. ولما مات(4/270)
بعد حجة الوداع قسم النبي صلى الله عليه وسلم اليمن على عمال من قبله، وجعل صنعاء لابنه شهربان بن باذان. وذكرنا خبر الأسود العنسيّ، وكيف أخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن وزحف إلى صنعاء فملكها. وقتل شهربان بن باذان وتزوج امرأته واستولى على أكثر اليمن، وارتد أكثر أهله. وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وعماله وإلى من ثبت على إسلامه فداخلوا زوجة شهربان بن باذان التي تزوجها في أمره، على يد ابن عمها فيروز. وتولى كبر ذلك قيس بن عبد يغوث المرادي، فبيته هو وفيروز وذاذويه بإذن زوجته فقتلوه. ورجع عمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم، وذلك قبيل الوفاة. واستبدّ قيس بصنعاء وجمع الفل من جند الأسود فولى أبو بكر على اليمن فيروز فيمن إليه من الأبناء، وأمر الناس بطاعته فقاتل قيس بن مكشوح وهزمه. ثم ولّى أبو بكر المهاجر بن أبي أمية فقاتل أهل الردة باليمن، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وأمره أن يبدأ بالمرتدة.
فسار معها وحضر حرب الجمل. وولي على اليمن عبيد الله بن عباس، ثم أخاه عبد الله. ثم ولى معاوية على صنعاء فيروز الديلميّ، ومات سنة ثلاث وخمسين. ثم جعل عبد الملك اليمن في ولاية الحجاج لما بعثه لحرب ابن الزبير سنة اثنتين وسبعين.
ولما جاءت دولة بنى العبّاس، ولىّ السفاح على اليمن عمه داود بن علي حتى إذا توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ولى مكانه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الملك عبد الدار. ثم تعاقب الولاة على اليمن، وكانوا ينزلون صنعاء حتى انتهت الخلافة إلى المأمون، وظهرت دعاة الطالبيين بالنواحي، وبايع أبو السرايا من بني شيبان بالعراق لمحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم أخو المهدي، النفس الزكية، محمد ابن عبد الله بن حسن. وكثر الهرج وفرق العمال في الجهات، ثم قتل وبويع محمد بن جعفر الصادق بالحجاز. وظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مائتين، ولم يتم أمره، وكان يعرف بالجزار لسفكه الدماء وبعث المأمون عساكره الى اليمن فدوخوا نواحيه وحملوا كثيرا من وجوه الناس فاستقام أمر اليمن كما نذكره.
(دعوة زياد بالدعوة العباسية)
ولما وفد وجوه أهل اليمن على المأمون، كان فيهم محمد زياد ولد عبد الله بن زياد بن(4/271)
أبي سفيان فاستعطف المأمون وضمن له حياطة اليمن من العلويين فوصله، وولاه على اليمن، وقدمها سنة ثلاث ومائتين. وفتح تهامة اليمن وهي البلد التي على ساحل البحر الغربي. واختط بها مدينة زبيد، ونزلها وأصارها كرسيا لتلك المملكة. وولى على الجبال مولاه جعفرا، وفتح تهامة بعد حروب من العرب. واشترط على عرب تهامة أن لا يركبوا الخيل، واستولى على اليمن أجمع. ودخلت في طاعته أعمال حضرموت والشحر وديار كندة، وصار في مرتبة التبابعة. وكان في صنعاء قاعدة اليمن بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة استبدوا بها مقيمين بالدعوة العباسية، ولهم مع صنعاء سبحان ونجران وجرش. وكان أخوهم أسعد بن يعفر، ثم أخوه قد دخلوا في طاعة ابن زياد، وولي بعده ابنه إبراهيم ثم ابنه زياد بن إبراهيم، ثم أخوه أبو الجيش إسحاق ابن إبراهيم. وطالت مدّته إلى أن أسن وبلغ الثمانين. وقال عمارة ملك ثمانين سنة باليمن وحضرموت والجزائر البحرية. ولما بلغه قتل المتوكل وخلع المستعين، واستبداد الموالي على الخلفاء مع ارتفاع اليمن ركب بالمظلة شأن سلاطين العجم المستبدين. وفي أيامه خرج باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي ابن إبراهيم بن طباطبا بدعوة الزيدية، جاء بها من السند، وكان جده القاسم قد فرّ إلى السند بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا، ومهلكه كما مرّ فلحق القاسم بالسند. وأعقب بها الحسين ثم ابنه يحيى باليمن سنة ثمان وثمانين، ونزل صعدة وأظهر دعوة الزيدية، وزحف إلى صنعاء فملكها من يد أسعد بن يعفر، ثم استردّها منه بنو أسعد ورجع إلى صعدة.
وكان شيعته يسمونه الإمام، وعقبه الآن بها. وقد تقدّم خبرهم. وفي أيام أبي الجيش بن زياد أيضا ظهرت دعوة العبيديين باليمن، فأقام بها محمد بن الفضل بعدن لاعة وجبال اليمن إلى جبال المديحرة سنة أربعين وثلاثمائة. وبقي له باليمن من السرجة إلى عدن عشرون مرحلة، ومن مخلافة الى صنعاء خمس مراحل. ولما غلبه محمد بن الفضل بهذه الدعوة امتنع أصحاب الأطراف عليه، مثل بني أسعد بن يعفر بصنعاء، وسليمان بن طرف بعثر، والإمام الرسي بصعدة فسلك معهم طريق المهادنة. ثم هلك أبو الجيش سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة بعد أن اتسعت جبايته وعظم ملكه. قال ابن سعيد: رأيت مبلغ جبايته وهو ألف ألف مكررة مرتين، وثلاثمائة ألف وستة وستون ألفا من الدنانير العشرية ما عدا ضرابية على مراكب السند، وعلى العنبر الواصل بباب المندب وعدن أبين، وعلى مغائص اللؤلؤ، وعلى جزيرة دهلك، ومن بعضها(4/272)
وصائف. وكانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادونه ويخطبون مواصلته. ولما مات خلف صبيا صغيرا اسمه عبد الله، وقيل إبراهيم وقيل زياد، وكفلته أخته ومولاه رشيد الحبشي واستبد عليهم إلى أن انقرضت دولتهم سنة سبع وأربعمائة. ثم هلك هذا الطفل، فولوا طفلا آخر من بني زياد أصغر منه، وقال ابن سعيد: لم يعرف عمارة اسمه لتوالي الحجبة عليه، ويعني عمارة مؤرخ اليمن، وقيل هذا الطفل الأخير اسمه إبراهيم، وكفلته عمته ومرجان من موالي الحسن بن سلامة. واستبد بأمرهم ودولتهم، وكان له موليان اسم أحدهما قيس، والآخر نجاح، فجعل الطفل المملك في كفالته وأنزله معه بزبيد. وولى نجاحا على سائر الأعمال خارج زبيد ومنها الكرارة واللجم. كان يؤثر قيسا على نجاح، ووقع بينهما تنافر، ورفع لقيس أن عمة الطفل تميل إلى نجاح وتكاتبه دونه فقبض عليها بإذن مولاه مرجان ودفنها حية، واستبد وركب بالمظلة، وضرب السكة. وانتقض نجاح لذلك فزحف في العساكر وبرز قيس للقائه، فكانت بينهما حروب ووقائع، انهزم قيس في آخرها وقتل في خمسة آلاف من عسكره. وملك نجاح زبيد سنة عشرة وأربعمائة ودفن قيسا ومولاه مرجانا مكان الطفل والعمة، واستبد وضرب السكة باسمه. وكاتب ديوان الخلافة ببغداد فعقد له على اليمن. ولم يزل مالكا لتهامة قاهرا لأهل الجبال، وانتزع الجبال كلها من مولاه الحسن بن سلامة. ولم تزل الملوك تتقي صولته إلى أن قتله علي الصليحي القائم بدعوة العبيديين على يد جارية بعث بها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فقام بالأمر بعده بزبيد مولاه كهلان. ثم استولى الصليحي على زبيد وملكها من يده كما يذكر.
(الخبر عن بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين باليمن)
كان القاضي محمد بن علي الهمدانيّ ثم الصليحي رئيس حران من بلاد همذان، وينتسب في بني يام، ونشأ له ولد اسمه علي، وكان صاحب الدعوة يومئذ عامر بن عبد الله الزوايي نسبة إلى زواية من قرى حران، ويقال إنه كان عنده كتاب لجعفر من ذخائر أبيهم بزعمهم، فزعموا أن علي ابن القاضي محمد مذكور فيه، فقرأ على علي عامل ابن خلدون م 18 ج 4(4/273)
الداعي، وأخذ عنه. ولما توسم فيه الأهلية أراه مكان اسمه في الجفر وأوصافه. وقال لأبيه القاضي احتفظ بابنك فيملك جميع اليمن. ونشأ فقيها صالحا، وجعل يحج بالناس على طريق الطائف والسروات خمس عشرة سنة فطار ذكره، وعظمت شهرته، وألقى على ألسنة الناس أنه سلطان اليمن. ومات الداعي عامر الزوايي، فأوصى له بكتبه، وعهد إليه بالدعوة. ثم حج بالناس سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على عادته، واجتمع بجماعة من قومه همذان كانوا معه، فدعاهم إلى النصرة والقيام معه فأجابوه وبايعوه، وكانوا ستين رجلا من رجالات قومهم، فلما عادوا قام في مسار وهو حصن بذروة جبل حمام، وحصن ذلك الحصن، ولم يزل أمره ينمى.
وكتب إلى المستنصر صاحب مصر يسأله الإذن في إظهار الدعوة فأذن له، وأظهرها وملك اليمن كله. ونزل صنعاء واختط بها القصور وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم، وهزم بني طرف ملوك عثرة وتهامة، وأعمل الحيلة في قتل نجاح مولى بني زياد ملك زبيد، حتى تم له ذلك على يد جارية أهداها إليه كما ذكرناه سنة اثنتين وخمسين. ثم سار إلى مكة بأمر المستنصر صاحب مصر ليمحو منها الدعوة العباسية والإمارة الحسنية. واستخلف على صنعاء ابنه المكرم أحمد، وحمل معه زوجته أسماء بنت شهاب، قد سباها سعيد بن نجاح ليلة البيات فكتبت إلى ابنها المكرم أني حبلى من العبد الأحول فأدركني قبل أن أضع، وإلا فهو العار الّذي لا يمحوه الدهر، فسار المكرم من صنعاء سنة خمس وسبعين في ثلاثة آلاف، ولقي الحبشة في عشرين ألفا فهزمهم. ولحق سعيد بن نجاح بجزيرة دهلك، ودخل المكرم إلى أمه وهي جالسة بالطاق الّذي عنده رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما ورفع السيف. وولى خاله أسعد بن شهاب على أعمال تهامة كما كان، وأنزله بزبيد منها، وارتحل بأمه إلى صنعاء وكانت تدبر ملكه. ثم جمع أسعد بن شهاب أموال تهامة وبعث بها مع وزيره أحمد بن سالم ففرقتها أسماء على وفود العرب. ثم هلكت أسماء سنة سبع وسبعين واربعمائة، وخرجت زبيد من يد المكرم، واستردها سعيد بن نجاح سنة تسع وسبعين واربعمائة، ثم انتقل المكرم إلى ذي جبلة سنة ثمانين واربعمائة، وولى على صنعاء عمران بن الفضل الهمدانيّ فاستبدّ بها، وتوارثها عقبه، وتسمى ابنه أحمد باسم السلطان واشتهر به، وبعده ابنه حاتم بن أحمد، وليس بعده بصنعاء من له ذكر حتى ملكها بنو سليمان لما غلبهم الهواشم على مكة كما مر في أخبارهم. ولما(4/274)
انتقل المكرم إلى ذي جبلة وهي مدينة اختطها عبد الله بن محمد الصليحي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان انتقاله بإشارة زوجه سيدة بنت أحمد التي صار إليها تدبير ملكه بعد أمه أسماء فنزلها، وبنى فيها دار العز، وتحيل على قتل سعيد بن نجاح فتم له كما نذكر في أخبار ابن نجاح. وكان مشغولا بلذاته محجوبا بزوجته. ولما حضرته الوفاة سنة أربع وثمانين عهد إلى ابن عمه المنصور بن أحمد المظفر بن علي الصليحي صاحب معقل أشيح، وأقام بمعقله وسيدة بنت أحمد بذي جبلة، وخطبها المنصور سبا وامتنعت منه فحاصرها بذي جبلة، وجاءها أخوها لأمها سليمان بن عامر وأخبرها أن المستنصر زوجك منه، وأبلغها أمره بذلك، وتلا عليها: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ من أَمْرِهِمْ» 33: 36. وأن أمير المؤمنين زوجك من الداعي المنصور أبي حمير سبا بن أحمد بن المظفر على مائة ألف دينار، وخمسين ألفا من أصناف التحف واللطائف فانعقد النكاح، وسار إليها من معقل أشيح إلى ذي جبلة، ودخل إليها بدار العز، ويقال إنها شبهت بجارية من جواريها فقامت على رأسه ليلها كله، وهو لا يرفع الطرف اليها حتى أصبح فرجع إلى معقلة. وأقامت هي بذي جبلة. وكان المتولي عليها المفضل بن أبي البركات من بني تام رهط الصليحي، واستدعى عشيرته جنيا. وأنزلهم عنده بذي جبلة فكان يسطو بهم. وكانت سيدة تأتي التعكر في الصيف، وبه ذخائرها وخزائنها، فإذا جاء الشتاء رجعت إلى ذي جبلة. ثم انفرد المفضل لقتال نجاح فرتب في حصن التعكر فقيها يلقب بالجمل، مع جماعة من الفقهاء أحدهم إبراهيم بن زيد بن عمر عمارة الشاعر، فبايعوا الجمل على أن يمحو الدعوة الإمامية فرجع المفضل من طريقه وحاصرهم، وجاءت خولان لنصرتهم، وضايقهم المفضل وهلك في حصارهم سنة أربع وخمسمائة، فجاءت بعده الحرة سيدة وأنزلتهم على عهد فنزلوا، ووفت لهم به وكفلت عقب المفضل وولده. وصار معقل التعكر في يد عمران بن الذر الخولانيّ وأخيه سليمان. واستولى عمران على الحرة سيدة مكان المفضل. ولما ماتت استبد عمران وأخوه بحصن التعكر، واستولى منصور بن المفضل بن أبي البركات على ذي جبلة حتى باعه من الداعي الذريعي صاحب عدن كما يأتي، واعتصم بمعقل أشيح الّذي كان للداعي المنصور سبا بن أحمد، وذلك أن المنصور توفي سنة ست وثمانين وأربعمائة، واختلف أولاده من بعده، وغلب ابنه علي منهم على المعقل، وكان ينازع(4/275)
المفضل بن أبي البركات والحرة سيدة، وأعياهما أمره، فتحيل المفضل بسم أودعه سفرجلا أهداه إليه فمات منه، واستولى بنو أبي البركات على بني المظفر في أشيح وحصونه، ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار. ولم يزل يبيع معاقلة حصنا حصنا حتى لم يبق له غير معقل تعز، أخذه منه علي بن مهدي بعد أن ملك ثمانين سنة، وبلغ من العمر مائة سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(الخبر عن دولة بني نجاح بزبيد موالي بني زياد ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
ولما استولى الصليحي على زبيد من يد كهلان بعد أن أهلكه بالسم على يد الجارية التي بعثها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة كما مرّ. وكان لنجاح ثلاثة من الولد معارك وسعيد وجياش، فقتل معارك نفسه، ولحق سعيد وجياش بجزيرة دهلك وأقاما هنالك يتعلمان القرآن والآداب. ثم رجع سعيد إلى زبيد مغاضبا لأخيه جياش، واختفى بها في نفق احتفره تحت الأرض. ثم استقدم أخاه جياشا فقدم وأقاما لك في الاختفاء. ثم إن المستنصر العبيدي الخليفة بمصر قطع دعوته بمكة محمد بن جعفر أميرها من الهواشم، فكتب إلى الصليحي يأمره بقتاله وحمله على إقامة الدعوة العلوية بمكة، فسار علي الصليحي لذلك من صنعاء، وظهر سعيد وأخوه من الاختفاء وبلغ خبرهم الصليحي فبعث عسكرا نحوا من خمسة آلاف فارس، وأمرهم بقتلهما. وقد كان سعيد وجياش خالفا العسكر وسارا في اتباع الصليحي وهو في عساكره فبيتوه في اللجم وهو متوجه إلى مكة فانتقض عسكره وقتل. وتولى قتله جياش بيده سنة ثلاث وسبعين واربعمائة ثم قتل عبد الله الصليحي أخا عليّ في مائة وسبعين من بني الصليحي، وأسر زوجته أسماء بنت عمه شهاب في مائة وخمس وثلاثين من ملوك القحطانيين الذين غلبوا باليمن. وبعث إلى العسكر الذين ساروا لقتل سعيد وجياش فأمنهم واستخدمهم، ورحل إلى زبيد وعليها أسعد بن شهاب أخو زوجة الصليحي، ففرّ أسعد إلى صنعاء ودخل سعيد إلى زبيد، وأسماء زوجة الصليحي أمامه في هودج، ورأس الصليحي وأخيه عند هودجها. وأنزلها بدارها(4/276)
ونصب الرأسين قبالة طاقها في الدار. وامتلأت القلوب منه رعبا، وتلقب نصير الدولة، وتغلب ولاة الحصون على ما بأيديهم. ودس المكرم بن الصليحي بن سعيد ابن نجاح بصنعاء على لسان بعض أهل الثغور، وضمن له الظفر، فجاء سعيد لذلك في عشرين ألفا من الحبشة. وسار إليه المكرم من صنعاء وهزمه وحال بينه وبين زبيد فهرب إلى جزيرة دهلك، ودخل المكرم زبيد وجاء إلى أمه وهي جالسة بالطاق وعندها رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما. وولى على زبيد خاله أسعد سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وكتب المكرم إلى عبد الله بن يعفر صاحب حصن الشعر بأن يغري سعيدا بالمكرم، وانتزاع ذي جبلة من يده لاشتغاله بلذاته، واستيلاء زوجه سيدة بنت أحمد عليه. وأنه بلخ فتمّت الحيلة فسار سعيد في ثلاثين ألفا من الحبشة وأكمن له المكرم تحت حصن الشعر فثاروا به هنالك. وانهزمت عساكره وقتل ونصب رأسه عند الطاق الّذي كان فيها رأس الصليحي بزبيد. واستولى عليها المكرم وانقطع منها ملك الحبشة. وهرب جياش ومعه وزير أخيه خلف بن أبي الظاهر المرواني، ودخلا عدن متنكرين. ثم لحقا بالهند وأقاما بها ستة أشهر، ولقيا هنالك كاهنا جاء من سمرقند فبشرهما بما يكون لهما فرجعا الى اليمن، وتقدم خلف الوزير إلى زبيد، وأشاع موت جياش واستأمن لنفسه، ولحق جياش فأقاما هنالك مختفيين، وعلى زبيد يومئذ أسعد بن شهاب خال المكرم ومعه علي بن القم وزير المكرم، وكان حنقا على المكرم ودولته، فداخله الوزير خلف ولاعب ابنه الحسين الشطرنج. ثم انتقل إلى ملاعبة أبيه فاغتبط به، وأطلعه على رأيه في الدولة، وكان يتشيع لآل نجاح. وانتمى بعض الأيام وهو يلاعب، فسمعه علي بن القم واستكشف أمره، فكشف له القناع واستحلفه، وجياش أثناء ذلك يجمع أشياعه من الحبشة، وينفق فيهم الأموال حتى اجتمع له خمسة آلاف، فثار بهم في زبيد سنة اثنتين وثمانين واربعمائة ونزل دار الإمارة ومن على أسعد بن شهاب وأطلقه لزمانة وكانت به.
وبقي ملكا على زبيد يخطب للعباسيين والصليحيون يخطبون للعبيديين، والمكرم يبعث العرب للغارة على زبيد كل حين إلى أن هلك جياش على رأس المائة الخامسة، وكانت كنيته ابن القطاي. وكان موصوفا بالعدل. وولي بعده ابنه الفاتك صبيا لم يحتلم، ودبروا ملكه. وجاء عمه إبراهيم لقتاله، وبرزوا له فثار عبد الواحد بالبلد، وبعث منصور إلى الفضل بن أبي البركات صاحب التعكر فجاء لنصره(4/277)
مضمرا للغدر به. ثم بلغه انتقاض أهل التعكر عليه فرجع، ولم يزل منصور في ملكه بزبيد إلى أن وزر له أبو منصور عبيد الله فقتله مسموما سنة سبع عشرة وخمسمائة، ونصب فاتكا ابنه طفلا صغيرا. واستبد عليه، وقام بضبط الملك وهان عليه التعرض لآل نجاح حتى هربت منه أم فاتك هذا، وسكنت خارج المدينة، وكان قرما شجاعا، وله وقائع مع الأعداء. وحاربه ابن نجيب داعي العلوية فامتنع عليه، وهو الّذي شيد المدارس للفقهاء بزبيد واعتنى بالحاج. ثم راود مفارك بنت جياش، ولم تجد بدّا من إسعافه فأمكنته حتى إذا قضى وطره مسحت ذكره بمنديل مسموم فنثر لحمه. وذلك سنة أربع وعشرين وخمسمائة. وقام بأمر فاتك بعده زريق من موالي نجاح. قال عمارة: كان شجاعا فاتكا قرما، وكان من موالي أم فاتك المخصين بها.
قال عمارة: وفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة توفي فاتك بن المنصور، وولي بعده ابن عمه وسميه فاتك بن محمد بن فاتك، وسرور قائم بوزارته وتدبير دولته ومحاربة أعدائه. وكان يلازم المسجد إلى أن دس عليه علي بن مهدي الخارجي من قتله في المسجد وهو يصلي العصر يوم الجمعة ثاني عشر صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وثار السلطان بالقاتل فقتل جماعة من أهل المسجد، ثم قتل واضطرب موالي نجاح بالدولة وثار عليهم ابن مهدي الخارجي وحاربهم مرارا، وحاصرهم طويلا واستعانوا بالشريف المنصور أحمد بن حمزة السليماني، كان يملك صعدة فأغاثهم على أن يملكوه ويقتلوا سيدهم فاتك بن محمد، فقتلوه سنة ثلاث وخمسين، وملكوا عليهم الشريف أحمد، فعجز عن مقاومة ابن مهدي، وفرّ تحت الليل، وملكها علي بن مهدي سنة أربع وخمسين وخمسمائة وانقرض أمر آل نجاح والملك للَّه.
(الخبر عن دولة بني الزريع بعدن من دعاة العبيديين باليمن وأولية أمرهم ومصايره)
وعدن هذه من أمنع مدائن اليمن، وهي على ضفة البحر الهندي. وما زالت بلد تجارة من عهد التبابعة، وأكثر بنائهم بالأخصاص، ولذلك يطرقها تجار الحرير كثيرا، وكانت صدر الإسلام دار ملك لبني معن ينتسبون إلى معن بن زائدة، ملكوها من(4/278)
أيام المأمون، وامتنعوا على بني زياد، قنعوا منهم بالخطبة والسكة. ولما استولى الداعي علي بن محمد الصليحي رعى لهم ذمام العروبية، وقرر عليهم ضريبة يعطونها. ثم أخرجهم منها ابنه أحمد المكرم. وولّى عليها بني المكرم من عشيرة جسم ابن يام من همذان، وكانوا أقرب عشائره إليه، فأقامت في ولايتهم زمنا. ثم حدثت بينهم الفتنة وانقسموا إلى فئتين بني مسعود بن المكرم وبني الزريع بن العباس بن المكرم. وغلب بنو الزريع بعد حروب عظيمة. قال ابن سعيد: وأول مذكور منهم الداعي بن أبي السعود بن الزريع، أول من اجتمع له الملك بعد بني الصليحي، وورثه عنه بنوه، وحاربه ابن عمه علي بن أبي الغارات بن مسعود بن المكرم صاحب الزعازع، فاستولى على عدن من يده بعد مقاساة ونفقات في الأعراب.
ومات بعد فتحها بسبعة أشهر سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وولي ابنه الأغر وكان مقيما بحصن الدملوة المعقل الّذي لا يرام. وامتنع عليه بعده ابن بلال بن الزريع من مواليه، وخشي محمد بن سبا على نفسه ففرّ إلى منصور بن المفضل من ملوك الجبال الصليحيين بذي جبلة. ثم مات الأغر قريبا فبعث بلال عن محمد بن سبا فوصل إلى عدن، وكان التقليد جاء من مصر باسم الأغر، فكتب مكانه محمد بن سبا وكان نعوته الداعي المعظم المتوج المكنى بسيف أمير المؤمنين فوقعت كلها عليها.
وزوجه بلال بنته ومكنه من الأموال التي كانت في خزائنه. ثم مات بلال عن مال عظيم، وورثه محمد بن سبا وأنفقه في سبيل الكرم المروءات. واشترى حصن ذي جبلة من منصور بن المفضل بن أبي البركات كما ذكرناه. واستولى عليه وهو دار ملك الصليحيين، وتزوج سيدة بنت عبد الله الصليحي، وتوفي سنة ثمان وأربعين. وولي ابنه عمران بن محمد بن سبا. وكان ياسر بن بلال يدبر دولته، وتوفي سنة ستين وخمسمائة، وترك ولدين صغيرين، وهما محمد وأبو السعود فحبسهما ياسر بن بلال في القصر، واستبد بالأمر. وكان ياسر محمد كثير العطية للشعراء ومن وفد عليه ومدحه ابن قلاقس شاعر الإسكندرية ومن قصائده في مدحه:
سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
وهو آخر ملوك الزريعيين. ولما دخل سيف الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن سنة ست وستين وستمائة، واستولى عليها جاء إلى عدن فملكها وقبض على ياسر بن بلال، وانقطعت دولة بني زريع. وصار اليمن للمعز، وفيه ولاتهم بنو أيوب كما نذكر في(4/279)
أخبارهم. وكانت مدينة الجدة قرب عدن اختطها ملوك الزريعيين، فلما جاءت دولة بنى أيوب تركوها ونزلوا تعز من الجبال كما يأتي ذكره.
(أخبار ابن مهدي الخارجي وبنيه وذكر دولتهم باليمن وبدايتها وانقراضها)
هذا الرجل من أهل العثرة من سواحل زبيد، وهو علي بن مهدي الحميري. كان أبوه مهدي معروفا بالصلاح والدين، ونشأ ابنه على طريقته فاعتزل ونسك. ثم حج ولقي علماء العراق وأخذ الوعظ من وعاظهم، وعاد إلى اليمن واعتزل ولزم الوعظ.
وكان حافظا فصيحا، ويخبر بحوادث أحواله فيصدق، فمال إليه الناس واغتبطوا به، وصار يتردّد للحج سنة إحدى وستين، ويعظ الناس في البوادي. فإذا حضر الموسم ركب على نجيب له ووعظ الناس ولما استولت أم فاتك على بني جياش أيام ابنها فاتك بن منصور، أحسنت فيه المعتقد وأطلقت له ولقرابته وأصهاره خرجهم فحسنت أحوالهم، وآثروا وركبوا الخيول. وكان يقول في وعظه: دنا الوقت! يشير إلى وقت ظهوره. واشتهر ذلك عنه، وكانت أم فاتك تصل أهل الدولة عنه، فلما ماتت سنة خمس وأربعين جاءه أهل الجبال وحالفوه على النصرة. وخرج من تهامة سنة ثمان وثلاثين وقصد الكودا فانهزم وعاد إلى الجبال، وأقام إلى سنة إحدى وأربعين. ثم أعادته الحرّة أم فاتك إلى وطنه، وماتت سنة خمس وأربعين فخرج إلى هوازن، ونزل ببطن منهم يقال له حيوان في حصن يسمى الشرف، وهو حصن صعب ليس يرتقي على مسيرة يوم من سفح الجبل، في طريقه أو عار في واد ضيق عقبة كئود.
وأصحابه سماهم الأنصار، وسمى كل من صعد معه من تهامة المهاجرين. وأمر للأنصار رجلا اسمه سبا وللمهاجرين آخر اسمه شيخ الإسلام واسمه النوبة واحتجب عمن سواهما. وجعل يشن الغارات على أرض تهامة، وأعانه على ذلك خراب النواحي بزبيد فأخرب سابلتها ونواحيها، وانتهى إلى حصن الداثر على نصف مرحلة من زبيد، وأعمل الحيل في قتل مسرور مدبر الدولة فقتل كما مرّ، وأقام يخيف زبيد بالزحوف. قال عمارة: زاحفها سبعين زحفا، وحاصرها طويلا، واستمدوا الشريف أحمد بن حمزة السليماني صاحب صعدة فأمدهم وشرط عليهم قتل سيدهم فاتك(4/280)
فقتلوه سنة ثلاث وخمسين. وملك عليهم الشريف ثم عجز وهرب عنهم. واستولى علي بن مهدي عليها في رجب سنة أربع وخمسين، ومات لثلاثة أشهر من ولايته.
وكان يخطب له بالإمام المهدي أمير المؤمنين. وقامع الكفرة والملحدين، وكان على رأي الخوارج يتبرأ من علي وعثمان ويكفر بالذنوب، وله قواعد وقواميس في مذهبه يطول ذكرها. وكان يقتل على شرب الخمر. قال عمارة: كان يقتل من خالفه من أهل القبلة، ويبيح نساءهم وأولادهم، وكانوا يعتقدون فيه العصمة، وكانت أموالهم تحت يده ينفقها عليهم في مؤنهم ولا يملكون معه مالا ولا فرسا ولا سلاحا.
وكان يقتل المنهزم من أصحابه ويقتل الزاني وشارب الخمر وسامع الغناء، ويقتل من تأخر عن صلاة الجماعة ومن تأخر عن وعظه يوم الإثنين والخميس. وكان حنفيا في الفروع. ولما توفي تولى بعده ابنه عبد النبي، وخرج من زبيد واستولى على اليمن أجمع، وبه يومئذ خمس وعشرون دولة فاستولى على جميعها ولم يبق له سوى عدن ففرض عليها الجزية. ولما دخل شمس الدولة تور شاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة ست وستين وخمسمائة، واستولى على الدولة التي كانت باليمن، فقبض على عبد النبي وامتحنه وأخذ منه أموالا عظيمة، وحمله إلى عدن فاستولى عليها. ثم نزل زبيد واتخذها كرسيا لملكه. ثم استوخمها وسار في الخيال ومعه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء ليتخذ فيه سكناه، فوقع اختيارهم على مكان تعز، فاختط به المدينة ونزلها.
وبقيت كرسيا لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكر في أخبارهم. وبانقراض دولة بني المهدي انقرض ملك العرب من اليمن وصار للغز ومواليهم.
(قواعد اليمن)
(ولنذكر الآن) طرفا من الكلام على قواعد اليمن ومدته واحدة واحدة كما أشار إليه ابن سعيد (اليمن) من جزيرة العرب يشتمل على كراسي سبعة للملك تهامة والجبال، وفي تهامة مملكتان: مملكة زبيد ومملكة عدن. ومعنى تهامة ما انخفض من بلاد اليمن مع ساحل البحر من البرين من جهة الحجاز إلى آخر أعمال عدن دورة(4/281)
البحر الهندي. قال ابن سعيد: وجزيرة العرب في الإقليم الأول ويحيط بها البحر الهندي من جنوبها، وبحر السويس من غربها، وبحر فارس من شرقها. وكانت اليمن قديما للتبابعة وهي أخصب من الحجاز، وأكثر أهلها القحطانية، وفيها من عرب وائل وملكها لهذا العهد لبني رسول موالي بني أيوب، ودار ملكهم تعز، بعد أن نزلوا الحرة أولا وبصعدة من اليمن أئمة الزيدية، وبزبيد وهي مملكة اليمن شمالها الحجاز وجنوبها البحر الهندي وغربها بحر السويس، اختطها محمد بن زياد أيام المأمون سنة أربع ومائتين. وهي مدينة مسورة تدخلها عين جارية، تحلها الملوك. وعليها غيطان يسكنونها أيام الغلة، وهي الآن من ممالك بني رسول، وبها كان ملك بني زياد ومواليهم، ثم غلب عليها بنو الصليحي وقد مر خبرهم. (عثر وحلى والسرجة) من أعمال زبيد في شمالها، وتعرف بأعمال ابن طرف، مسيرة سبعة أيام في يومين من السرجة إلى حلى، ومكة ثمانية أيام. وعثر هي منبر الملك وهي على البحر، وكان سليمان بن طرف ممتنعا بها على أبي الجيش بن زياد. وكان مبلغ ارتفاعه خمسمائة ألف دينار، ثم دخل في طاعته وخطب له وحمل المال. ثم صارت هذه المملكة للسليمانيين من بني الحسن من أمراء مكة حين طردهم الهواشم عن مكة. وكان غالب ابن يحيى منهم يؤدي الإتاوة لصاحب زبيد وبه استعان محمد مفلح الفاتكي من سرور. ثم هلك بعدها. ثم عيسى بن حمزة من بنيه. ولما ملك الغز اليمن، أخذ يحيى أخو عيسى أسيرا وسيق إلى العراق فحاول عليه عيسى فتخلصه من الأسر.
ورجع إلى اليمن فقتل أخاه عيسى وولى مكانه المهجم من أعمال زبيد على ثلاثة مراحل عليها، وعربها من العسيرة من حكم وجعفر قبيلتين منهم. ويجلب منها الزنجبيل. (السرير) آخر أعمال تهامة من اليمن وهي على البحر دون سور، وبيوتها أخصاص وملكها راجح بن قتادة سلطان مكة أعوام الخمسين وستمائة. وله قلعة على نصف مرحلة منها. (الزرائب) من الأعمال الشمالية من زبيد، وكانت لابن طرف واجتمع له فيها عشرون ألفا من الحبشة الذين معه جميعا. وقال ابن سعيد في أعمال زبيد والأعمال التي في الطريق الوسطى بين البحر والجبال. وهي في خط زبيد في شماليها، وهي الجادة إلى مكة. قال عمارة: هي الجادة السلطانية منها إلى البحر يوم أو دونه، وكذلك إلى الجبال. ويجتمع الطريقان الوسطى والساحلية في السرير ويفترقان. (عدن) من ممالك اليمن في جوف زبيد وهي كرسي عملها،(4/282)
وهي على ضفة البحر الهندي. وكانت بلد تجارة منذ أيام التبابعة، وبعدها عن خط الاستواء ثلاث عشرة درجة، ولا تنبت زرعا ولا شجرا ومعاشهم السمك، وهي ركاب الهند من اليمن وأول ملكها لبني معن بن زائدة، استقاموا لبني زياد وأعطوهم الإتاوة. ولما ملك الصليحيون أقرهم الداعي. ثم أخرجهم ابنه أحمد المكرم وولاها بني المكرم من جشم بن يام رهطه بهمدان، وصفا الملك فيها لبني الزريع منهم، وقنع منهم بالإتاوة حتى ملكها من أيديهم شمس الدولة بن أيوب كما تقدم.
(عدن أبين) من بينات المدن وهي إلى جهة الشحر. (الزعزاع) باودية ابن أيوب عدن، وكانت لبني مسعود بن المكرم المقارعين لبني الزريع (الجوة) اختطها ملوك الزريعيين قرب عدن، ونزلها بنو أيوب ثم انتقلوا إلى تعز. (حصن ذي جبلة) من حصون مخلاف جعفر اختطه عبد الله الصليحي أخو الداعي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وانتقل إليه ابنه المكرم من حصن صنعاء. وزوجه سيدة بنت أحمد المستبدة عليه، وهي التي تحكمت سنة ثمانين. ومات المكرم وقد فوض الأمر في الملك والدعوة إلى سبا بن أحمد بن المظفر الصليحي، وكان في معقل أشيح، وكانت تستظهر بقبيل جنب، وكانوا خاملين في الجاهلية فظهروا بمخلاف جعفر. ثم وصل من مصر ابن نجيب الدولة داعيا ونزل مدينة جند، واعتضد بهمذان فحاربته السيدة بجنب وخولان إلى أن ركب البحر وغرق. وكان يتولى أمورها المفضل ابن أبي البركات بعد زوجها المكرم، واستولى عليها (التعكر) من مخلاف جعفر، كان لبني الصليحي، ثم لسيدة من بعدهم ثم طلبه منها المفضل بن أبي البركات فسلمته إليه، وأقام فيه إلى أن سار إلى زبيد وحاصر فيها بني نجاح، وطالت غيبته فثار بالتعكر جماعة من الفقهاء وقتلوا نائبة وبايعوا لإبراهيم بن زيدان منهم، وهو عمارة الشاعر. واستظهروا بخولان فرجع المفضل وحاصرهم كما ذكرنا ذلك من قبل. (حصن خدد) كان لعبد الله بن يعلي الصليحي وهو من مخلاف جعفر، وكان المفضل قد أدخل من خولان في حصون المخلاف عددا كثيرا في بني بحر وبني منبه ورواح وشعب. فلما مات المفضل وفي كفالته سيدة كما مرّ، وثب مسلم بن الذر من خولان في حصن خدد وملكه من يد عبد الله بن يعلى الصليحي، ولحق عبد الله بحصن مصدود ورشحته سيدة لمكان المفضل، واستخلصته الدولة من مدينة الجند ومن اليمن بأمرها. (حصن مصدود) : من حصون مخلاف جعفر وهي(4/283)
خمسة: [1] ذو جبلة والتعكر وحصن خدد. ولما غلبت خولان على حصن خدد من يد عبد الله الصليحي، ولحق بحصن مصدود واستولى عليه منهم زكريا بن شكير البحري، وكان بنو الكردي من حمير ملوكا قبل بني الصليحي باليمن، وانتزع بنو الصليحي ملكهم، وكان لهم مخلاف بحصونه ومخلاف مغافر ومخلاف الجند، وحصن سمندان. ثم استقرت لمنصور بن المفضل بن أبي البركات وباعها من بني الزريع كما مرّ. (صنعاء) قاعدة التبابعة قبل الإسلام، وأول مدينة اختطت باليمن، وبنتها فيما يقال عاد، وكانت تسمى أوال من الأولية بلغتهم. وقصر غمدان قريب منها أحد البيوت السبعة، بناه الضحّاك باسم الزهرة، وحجّت إليه الأمم، وهدمه عثمان. وصنعاء أشهر حواضر اليمن، وهي فيما يقال معتدلة، وكان فيها أول المائة الرابعة بنو يعفر من التبابعة ودار ملكهم كحلان، ولم يكن لها نباهة في الملك إلى أن سكنها بنو الصليحى وغلب عليها الزيدية، ثم السليمانيون من بعد بني الصليحي.
(قلعة كحلان) من أعمال صنعاء لبني يعفر من التبابعة بناها قرب صنعاء إبراهيم وكانت له صعدة ونجران. واعتصم بنو يعفر بقلعة كحلان، وقال البيهقي: سيد قلعة كحلان أسعد بن يعفر، وحارب بني الرسي وبني زياد أيام أبي الجيش. (حصن الصمدان) من أعمال صنعاء كانت فيه خزائن بني الكردي الحميريين إلى أن ملكه علي الصليحي ورد عليهم المكرم بعض حصونهم إلى أن انقرض أمرهم على يد علي ابن مهدي. وكان لهم مخلاف [2] جعفر الّذي منه مدينة ذي جبلة، ومعقل التعكر وهو مخلاف الجند، ومخلاف معافر مقرّ ملكهم السمدان وهو أحصن من الدولة.
(قلعة منهاب) من قلاع صنعاء بالجبال ملكها بنو زريع واستبدّ بها منهم الفضل ابن علي بن راضي بن الداعي محمد بن سبا بن زريع، نعته صاحب الجزيرة بالسلطان، وقال: كانت له قلعة منهاب وكان حيا سنة ست وثمانين وخمسمائة، وصارت بعده لأخيه الأغر أبي علي (جبل الدبجرة) وهو بقرب صنعاء وقد اختط جعفر مولى بني زياد سلطان اليمن مخلاف جعفر فنسب إليه. (عدن لاعة) بجانب الدبجرة، أول موضع ظهرت فيه دعوة الشيعة باليمن، ومنها محمد
__________
[1] ذكر اربعة وهي خمسة والظاهر ان الخامس هو حصن مصدود.
[2] في لسان العرب: وقال الليث: يقال فلان من مخلاف كذا وكذا وهو عند اليمن كالرستاق والجمع مخاليف.(4/284)
ابن المفضل الداعي. ووصل إليها أبو عبد الله الشيعي صاحب الدعوة بالمغرب. وفيها قرأ على علي بن محمد الصليحي صبيا وهي دار دعوة اليمن. كان محمد بن المفضل داعيا على عهد أبي الجيش بن زياد وأسعد بن يعفر. (بيجان) ذكرها عمارة في المخاليف الجبلية وملكها نستوان بن سعيد القحطاني. (تعمر) من أجلّ معاقل الجبال المطلة على تهامة، ما زال حصنا للملوك، وهو اليوم كرسي لبني رسول ومعدود في الأمصار، وكان به من ملوك اليمن منصور بن المفضل بن أبي البركات، وبنو المظفر، وورثها عنه ابنه منصور ثم باعها حصنا حصنا من الداعي بن المظفر والداعي الزريعي، إلى أن بقي بيده حصن تعمر فأخذه منه ابن مهدي. (معقل أشيح) من أعظم حصون الجبال وفيه خزائن بني المظفر من الصليحيين صارت له بعهد المكرم ابن عمه صاحب ذي جبلة، وقلده المستنصر الدعوة وتوفي سنة ست وثمانين وأربعمائة. وغلب ابنه عليّ على معقل الملك أشيح. وأعيا المفضل أمره إلى أن تحيل عليه وقتله بالسم، وصارت حصون بني المظفر إلى بني أبي البركات. ثم مات المفضل وخلف ابنه منصورا. واستقل بملك أبيه بعد حين وباع جميع الحصون تباع ذا جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار، وحصن صنبر بعد أن كان حلف بالطلاق من زوجته أنه يستبقيه، وطلق زوجته الحرة وتزوجها الزريعي، وطال عمره. ملك ابن عشرين وبقي في الملك ثمانين، وأخذ منه معقل علي بن مهدي. (صعدة) مملكتها تلو مملكة صنعاء، وهي في شرقيها، وفي هذه المملكة ثلاثة قواعد صعدة وجبل قطابة وحصن تلا وحصون أخرى، وتعرف كلها ببني الرسي، وقد تقدم ذكر خبره. وأما حصن تلا فمنه كان ظهور الموطئ الّذي أعاد إمامة الزيدية لبني الرضا، بعد أن استولى عليها بنو سليمان، فأوى إلى جبل قطابة. ثم بايعوا لأحمد الموطئ سنة، خمس وأربعين وستمائة، وكان فقيها عابدا وحاصره نور الدين بن رسول في هذا الحصن سنة جمر عليه عسكرا للحصار. ثم مات ابن رسول سنة ثمان وأربعين واشتغل ابنه المظفر بحصار حصن الدمولة، فتمكن الموطئ وملك حصون اليمن، وزحف إلى صعدة وبايعه السليمانيون وإمامهم أحمد المتوكل كما مر في أخبار بني الرسي، وأما قطابة فهو جبل شاهق مشرف على صعدة إلى أن كان ما ذكرناه. (حران ومسار) أما حران فهو إقليم من بلاد همذان، وحران بطن من بطونهم، كان منهم الصليحي، وحصن مسار هو الّذي ظهر فيه الصليحي(4/285)
وهو من إقليم حران. قال البيهقي: بلادهم شرقية بجبال اليمن وتفرّقوا في الإسلام ولم يبق لهم قبيلة وفرقة إلا في اليمن، وهو أعظم قبائل اليمن وبهم قام الموطئ، وملكوا جملة من حصون الجبال، ولهم بها إقليم بكيل وإقليم حاشد، وهما ابنا جشم بن حيوان أنوق بن همذان. قال ابن حزم: ومن بكيل وحاشد افترقت قبائل همذان انتهى. ومن همذان بنو الزريع أصحاب السلطنة والدعوة في عدن والجوة، ومنهم بنو يام من قبائل همذان انتهى. ومن همذان بنو الزريع سبعة وهم الآن في نهاية من التشيع ببلادهم وأكثرهم زيدية. (بلاد خولان) قال البيهقي: هي شرقية من جبال اليمن، ومتصلة ببلاد همذان، وهي حصون خدد والتعكر وغيرهما. وهم أعظم قبائل اليمن مع همذان ولهم بطون كثيرة. وافترقوا على بلاد الإسلام ولم يبق منهم وبرية إلا باليمن (مخلاف بني أصح) هو بوادي سحول وذو أصح الّذي ينسبون إليه قد تقدم ذكره في أنساب حمير من التبابعة والأقيال، ومخلاف يحصب مجاور له وهو أخو أصبح. (مخلاف بني وائل) مدينة هذا المخلاف شاحط وصاحبها أسعد بن وائل وبنو وائل بطن من ذي الكلاع. وذو الكلاع من سبا تغلبوا على هذه البلاد عند مهلك الحسن بن سلامة، حتى عادوا إلى الطاعة واختط مدينة الكدد على مخلاف سهام، ومدينة المعقل على وادي دوال، ومات سنة اثنتين وأربعمائة. (بلاد كندة) وهي من جبال اليمن مما يلي حضرموت، وجبال الرمل وكان لهم بها ملوك وقاعدتهم دمون ذكرها أمرؤ القيس في شعره [1] . (بلاد مذحج) موالي جهات الجند من الجبال وينزلها من مذحج عنس وزبيد ومراد. ومن عنس بإفريقية فرقة وبرية مع ظواعن أهلها، ومن زبيد بالحجاز بنو حرب بين مكة والمدينة. وبنو زبيد الذين بالشام والجزيرة فهم من طيِّئ وليسوا من هؤلاء. (بلاد بني نهد) في أجواف السروات وتبالة [2] والسروات بين تهامة والجبال ونجد من اليمن والحجاز كسوأة الفرس. وبنو نهد من قضاعة سكنوا اليمن جوار خثعم وهم كالوحوش، والعامة تسميهم السرو، وأكثرهم أخلاط من جبلة وخثعم. ومن بلادهم تبالة يسكنها قوم من نهير وائل ولهم بها صولة، وهي التي وليها الحجاج واستحقرها فتركها. (البلاد المضافة
__________
[1] تطاول الليل علينا دمون. ودمون بلدة بحضرموت على ما جاء في الوسيط.
[2] وهي البلدة التي وليها الحجاج أول أمره، وقد ولاه إياها عبد الملك بن مروان مكافأة له بعد ان ابرع في حشد الجند الى العراق.(4/286)
إلى اليمن) أولها الثمامة. قال البيهقي: هو بلد منقطع بعمله والتحقيق أنه من الحجاز كما هي نجران من اليمن. وكذا قال ابن حوقل وهي دونها في المملكة، وأرضها تسمى العروض لاعتراضها بين الحجاز والبحرين. وفي شرقيها البحرين وغربيها أطراف اليمن والحجاز، وجنوبها نجران، وشمالها نجد من الحجاز. وفي أطرافها عشرون مرحلة، وهي على أربعة أميال من مكة. وقاعدتها حجر «بالفتح» . وبلد اليمامة كانت مقرا لملوك بني حنيفة. ثم اتخذ بنو حنيفة حجرا وبينهما يوم وليلة، وبظواهرها أحياء من بني يربوع من تميم، وأحياء من بني عجل. قال البكري: واسمها جو، وسميت باسم زرقاء اليمامة، سماها بذلك تبع الآخر، وهي في الإقليم الثاني مع مكة، وبعدهما عن خط الاستواء [1] واحد، منازلها توضيح [2] وقرقرا. وقال الطبري: إن رمل عالج من اليمامة والشحر وهي من أرض وبار. وكانت اليمامة والطائف لبني مزان بن يعفر والسكسك، وغلبتهم عليها طسم وجديس. ثم غلبتهم بنو مزان آخرا وملكوا اليمامة وطسم وجديس في تبعهم، وآخر ملوك بني طسم عمليق. ثم غلبت جديس ومنهم باليمامة التي سميت مدينة جو بها، وأخبارها معروفة. ثم استولى على اليمامة بعد طسم وجديس بنو حنيفة، وكان منهم هودة بن علي ملك اليمامة وتتوج. ويقال: إنما كانت خرزات هودة بن علي ملك اليمامة، على عهد النبوة، وأسر وأسلم وثبت عند الردة. وكان منهم مسيلمة وأخباره معروفة، قال ابن سعيد: وسألت عرب البحرين وبعض مذحج لمن اليمامة اليوم؟ فقالوا العرب من قيس عيلان، وليس لبني حنيفة بها ذكر. (بلاد حضر موت) قال ابن حوقل: هي في شرقي عدن بقرب البحر ومدينتها صغيرة، ولها أعمال عريضة، وبينها وبين عمان من الجهة الأخرى رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وكانت مواطن لعاد.
وبها قبر هود عليه السلام، وفي وسطها جبل بشام، وهي في الإقليم الأول. وبعدها عن خط الاستواء اثنتا عشرة درجة، وهي معدودة من اليمن، بلد نخل وشجر ومزارع. وأكثر أهلها يحكمون بأحكام علي وفاطمة، ويبغضون عليا للتحكيم [3] ،
__________
[1] كذا بياض بالأصل ويظهر ان المعنى كامل لا نقص فيه ويمكن العجارة ان تكون: «وبعدهما عن خط الاستواء بعد واحد» .
[2] توضيح اسم موضع وقد ذكرها امرؤ القيس في شعره: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها.
[3] لا بد ان هؤلاء من الخوارج لأن هذه هي عقيدتهم.(4/287)
وأكبر مدينة بها الآن قلعة بشام فيها خيل الملك، وكانت لعاد مع الشحر وعمان، وغلبهم عليها بنو يعرب بن قحطان. ويقال إن الّذي دل عادا على جزيرة العرب هو رقيم بن إرم، كان سبق إليها مع بني هود فرجع إلى عاد ودلهم عليها، وعلى دخولها بالجوار، فلما دخلوا غلبوا على من فيها. ثم غلبهم بنو يعرب بن قحطان بعد ذلك، وولى على البلاد فكانت ولاية ابنه حضر موت على هذه البلاد، وبه سميت الشحر من ممالك جزيرة العرب مثل الحجاز واليمن. وكان معقلا عن حضر موت وعمان والّذي يسمى الشحر قصبته، ولا زرع فيه ولا نخل، إنما أموالهم الإبل والمعز، ومعاشهم من اللحوم والألبان، ومن السمك الصغار، ويعلفونها للدواب. وتسمى هذه البلاد أيضا بلاد مهرة، وبها الإبل المهرية، وقد يضاف الشحر إلى عمان وهو ملاصق لحضرموت، وقيل هو بسائطها. وفي هذه البلاد يوجد اللبان، وفي ساحله العنبر الشحري وهو متصل في جهة الشرق. ومن غربيها ساحل البحر الهندي الّذي عليه عدن، وفي شرقيها بلاد عمان وجنوبها بحر الهند مستطيلة عليه، وشمالها حضر موت كأنها ساحل لها، ويكونان معا لملك واحد. وهي في الإقليم الأول وأشد حرا من حضر موت. وكانت في القديم لعاد وسكنها بعدهم مهرة من حضر موت أو من قضاعة، وهم كالوحوش في تلك الرمال ودينهم الخارجية على رأي الإباضية منهم.
وأول من نزل بالشحر من القحطانية مالك بن حمير، خرج على أخيه مالك وهو ملك بقصر غمدان فحاربه طويلا، ومات مالك فولي بعده ابنه قضاعة بن مالك فلم يزل السكسك يحاربه إلى أن قهره، واقتصر قضاعة على بلاد مهرة. وملك بعده ابنه أطاب ثم مالك بن الحاف، وانتقل إلى عمان وبها كان سلطانه. قال البيهقي: وملك مهرة ابن حيدان بن الحاف بلاد قضاعة وحارب عمه مالك بن الحاف صاحب عمان حتى غلبهم عليها، وليس لهم اليوم في غير بلادهم ذكر. وببلاد الشحر مدينة مرياط وضفان على وزن نزال وضفان دار ملك التبابعة، ومرياط بساحل الشحر، وقد خربت هاتان المدينتان. وكان أحمد بن محمد بن محمود الحميري، ولقبه الناخودة، وكان تاجرا كثير المال يعبر إلى صاحب مرياط بالتجارة. ثم استوزره ثم هلك فملك أحمد الناخودة. ثم خرّبها وخرب ضفان سنة تسع عشرة وستمائة، وبنى على الساحل مدينة ضفا بضم الضاد المعجمة وسماها الأحمدية باسمه، وخرب القديمة لأنها لم يكن لها مرسى. (نجران) قال صاحب الكمائم: هي صقع منفرد عن اليمن،(4/288)
وقال غيره هي من اليمن قال البيهقي مسافتها عشرون مرحلة وهي شرقي صنعاء وشماليها وتوالي الحجاز وفيها مدينتان نجران وجرش، متقاربتان في القدر والعادية غالبة عليها، وسكانها كالأعراب، وبها كعبة نجران بنيت على هيئة عمدان كعبة اليمن، وكانت طائفة من العرب تحج إليها وتنهر [1] عندها، وتسمى الدير. وبها قس بن ساعدة، كان يتعبد فيها. ونزلها من القحطانية طائفة من جرهم ثم غلبهم عليها حمير. وصاروا ولاة للتبابعة. وكان كل ملك منهم يسمى الأفعى. وكان منهم أفعى نجران واسمه القلمس بن عمرو بن همذان بن مالك بن شهاب بن زيد بن وائل بن حمير، وكان كاهنا، وهو الّذي حكم بين أولاد نزار لما أتوه حسبما هو مذكور. وكان واليا على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان عليه السلام، وآمن وبث دين اليهودية في قومه وطال عمره. ويقال إن البحرين والمسلل كانتا له. قال البيهقي: ثم نزل نجران بنو مذحج، واستولوا عليها. ومنهم الحرث بنو كعب. وقال غيره: لما خربت اليمانية في سيل العرم مرّوا بنجران فحاربتهم مذحج ومنها افترقوا. قال ابن حزم: ونزل في جوار مذحج بالصلح الحرث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. ثم غلبوا عليها مذحجا وصارت لهم رياستها. ودخلت النصرانية نجران من قيمون، وخبره معروف في كتب السير، وانتهت رياسة بني الحرث فيها إلى بني الريان. ثم صارت إلى بني عبد المدان. وكان يزيد منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يد خالد بن الوليد، ووفد مع قومه ولم يذكره ابن عبد المؤمن وهو مستدرك عليه، وابن أخيه زياد بن عبد الرحمن بن عبد المدان خال السفاح، ولاه نجران واليمامة، وخلف ابنيه محمدا ويحيى. ودخلت المائة الرابعة والملك بها لبني أبي الجود بن عبد المدان، واتصل فيهم. وكان بينهم وبين الفاطميين حروب. وربما يغلبونهم بعض الأحيان على نجران. وكان آخرهم عبد القيس الّذي أخذ علي بن مهدي الملك من يده، ذكره عمارة وأثنى عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
[1] مقتضى السياق تنحر، ولعلها تحريف من الناسخ ابن خلدون م 19 ج 4(4/289)
(الخبر عن دولة بني حمدان المستبدين بالدعوة العباسية من العرب بالموصل والجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان بنو ثعلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، ولهم محل في الكثرة والعدد، وكانت مواطنهم بالجزيرة في ديار ربيعة، وكانوا على دين النصرانية في الجاهلية، وصاغيتهم مع قيصر. وحاربوا المسلمين مع غسّان وهرقل أيام الفتوحات في نصارى العرب يومئذ من غسّان وإياد وقضاعة وزابلة وسائر نصارى العرب. ثم ارتحلوا مع هرقل إلى بلاد الروم، ثم رجعوا إلى بلادهم. وفرض عليهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجزية. فقالوا يا أمير المؤمنين لا تذلنا بين العرب باسم الجزية، واجعلها صدقة مضاعفة ففعل. وكان قائدهم يومئذ حنظلة بن قيس بن هرير من بني مالك ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب وكان من رهطه عمرو بن بسطام صاحب السند أيام بني أمية. ثم كان منهم بعد ذلك في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطّاب العدويّ، وآل هارون المغمر، وآل حمدان ابن حمدون بن الحرث ابن لقمان بن أسد. ولم يذكر ابن حزم هؤلاء البيوت الثلاثة في بطون بني ثعلب في كتاب الجمهرة. ووقفت على حشية في هذا الموضع من كتابه فيها ذكر هؤلاء الثلاثة كالاستلحاق عليه، وقال في بني حمدان: وقيل إنهم موالي بني أسد. ثم قال آخر الحاشية إنه من خط المصنّف يعني ابن حزم. ولما فشا دين الخارجيّة بالجزيرة أيام مروان بن الحكم وفرّق جموعه ومحا آثار تلك الدعوة. ثم ظهر في الجزيرة بعد حين أثر من تلك الدعوة، وخرج مساور بن عبد الله بن مساور البجليّ من السرات أيام الفتنة بعد مقتل المتوكّل واستولى على أكثر أعمال الموصل، وجعل دار هجرته الحديثة. وكان على الموصل يومئذ عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الّذي ولّى المنصور جدّه محمدا على إفريقية، وعليه خرج مساور. ثم ولي على الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي سنة أربع وخمسين، واستخلف عليه ابنه الحسن فسار إلى مساور في جموع قومه، وفيهم حمدون بن الحرث فهزموا الخوارج وفرّقوا جمعهم. ثم ولي أيام المهتدي عبد الله بن سليمان بن عمران الأزديّ فغلبه(4/290)
الخوارج، وملك مساور الموصل ورجع إلى الحديثة. ثم انتقض أهل الموصل أيام المعتمد سنة تسع وخمسين، وأخرجوا العامل وهو ابن أساتكين الهيثم بن عبد الله بن المعتمد العدويّ من بني ثعلب، فامتنعوا عليه وولّوا مكانه إسحاق بن أيوب من آل الخطّاب، فزحف ومعه حمدان بن حمدون وحاصرها مدّة. ثم كانت فتنة إسحاق ابن كنداجق وانتقاضه على المعتمد، واجتمع لمدافعته عليّ بن داود صاحب الموصل، وحمدان بن حمدون وإسحاق بن أيوب فهزمهم إسحاق بن كنداجق، وافترقوا فاتبع إسحاق بن أيوب إلى نصيبين ثم إلى آمد. واستجار فيها بعيسى بن الشيخ الشيبانيّ وبعث إلى المعزّ موسى بن زرارة صاحب أرزن فامتنع بانجادهما. ثم ولّى المعتمد ابن كنداجق على الموصل سنة سبع وستين فاجتمع لحربه إسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبو العزّ بن زرارة وحمدان بن حمدون في ربيعة وثعلب فهزمهم ابن كنداجق، وحاصره هو ولجئوا إلى آمد عند عيسى بن الشيخ الشيبانيّ، وحاصرهم بها وتوالت عليهم الحروب وهلك مساور الخارجيّ أثناء هذه الفتن في حربه مع العساكر سنة ثلاث وستين. واجتمع الخوارج بعده على هارون بن عبد الله البجليّ واستولى على الموصل وكثر تابعه. وخرج عليه محمد بن خردان من أصحابه فغلبه على الموصل، فقصد حمدان بن حمدون مستنجدا به، فسار معه وردّه إلى الموصل ولحق محمد بالحديثة، ورجع أصحابه إلى هارون. ثم سار هارون من الموصل إلى محمد فأوقع به وقتله وعاث في الأكراد الجلاليّة أصحابه، وغلب على القرى والرساتيق، وجعل رجله يأخذ الزكاة والعشر. ثم زحف بنو شيبان لقتاله سنة اثنتين وسبعين، فاستنجد بحمدان بن حمدون، وانهزم قبل وصوله إليه. ثم كانت الفتنة بين إسحاق بن كنداجق ويوسف بن أبي الساج، وأخذ ابن أبي الساج بدعوة ابن طولون، وغلب على الجزيرة والموصل، ثم عاد وملكها لابن كنداجق وولّى عليها هارون بن سيما سنة تسع وسبعين ومائتين. فطرده أهلها، واستنجد ببني شيبان فساروا معه إلى الموصل، واستمدّ أهلها الخوارج وبني ثعلب فسار لإمدادهم هارون الساري وحمدان فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل الموصل من ابن سيما فبعثوا إلى بغداد، وولّى عليهم المعتمد عليّ بن داود الأزديّ. ولما بلغ المعتضد ممالأة حمدان بن حمدون لهارون الساري، وما فعله بنو شيبان، وقد كان خرج لإصلاح الجزيرة، وأعطاه بنو شيبان رهنهم على الطاعة، زحف إلى حمدان وهزمه فلحق بماردين وترك(4/291)
بها ابنه الحسين. وهرب فسار مع وصيف ونصر القسوري، ومروا بدير الزعفران وبه الحسين بن حمدان فاستأمن لهم، وبعثوا به إلى المعتضد وأمر بهدم القلعة، ولقي وصيف حمدان فهزمه، وعبر إلى الجانب الغربي. ثم سار إلى معسكر المعتضد، وكان إسحاق بن أيوب الثعلبيّ قد سبق إلى طاعة السلطان وهو في معسكره، فقصد خيمته ملقيا بنفسه عليه، فأحضره عند المعتضد فحبسه. ثم سار نصر القسوري في اتباع هارون فهزم الخوارج، ولحق بأذربيجان. واستأمن آخرون إلى المعتضد ودخل هارون البريّة. ثم سار المعتضد سنة ثلاث وثمانين في طلب هارون وبعث في مقدمته وصيفا وسرّح معه الحسين بن حمدان بن يكرين، واشترط له إطلاق ابنه إن جاء بهرون. فاتبعه وأسره وجاء به إلى المعتضد فخلع عليه وعلى إخوته وطوّقه وفك القيود عن حمدان ووعده بإطلاقه. ومات إسحاق بن أيوب العدويّ وكان على ديار ربيعة، فولّى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمد.
(مبدأ لدولة وولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل)
ولما ولّي المكتفي عقد لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل وأعمالها، وكان الأكراد الهدبانيّة قد عاثوا في نواحيها ومقدمهم محمد بن سلّال فقاتلهم وعبر وراءهم إلى الجانب الشرقي، وقاتلهم على الخازر، وقتل مولاه سيما ورجع. ثم أمدّه الخليفة فسار في أثرهم سنة أربع وتسعين وقاتلهم على أذربيجان وهزم محمد بن سلال بأهله وولده، واستباحهم ابن حمدان. ثم استأمن محمد وجاءه إلى الموصل، واستأمن سائر الأكراد الحميديّة، واستقام أمر أبي الهيجاء. ثم كانت فتنة الخلع ببغداد سنة ست وتسعين، وقتل الوزير العبّاس بن الحسن، وخلع المقتدر وبويع عبد الله بن المعتز يوما أو بعض يوم، وعاد المقتدر كما مرّ ذلك كله في أخبار الدولة العبّاسية. وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة وكان ممن تولّى كبر هذه الفتنة مع القوّاد، وباشر قتل الوزير مع من قتله فهرب. وطلبه المقتدر وبعث في طلبه القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد فلم يظفروا به، فكتب إلى أبي الهيجاء وهو على الموصل فسار مع القاسم(4/292)
ولقيهم الحسين عند تكريت فانهزم واستأمن فأمّنه المقتدر، وخلع عليه وولّاه أعمال قمّ وقاشان. ثم ردّه بعد ذلك إلى ديار ربيعة.
(انتقاض أبي الهيجاء ثم الحسين بن حمدان)
ولما كانت سنة تسع وتسعين ومائتين خالف أبو الهيجاء بالموصل إلى سنة اثنتين وثلاثمائة، وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة كما قدّمناه، فطالبه الوزير عيسى بن عيسى بحمل المال فدافعه، فأمره بتسليم البلاد إلى العمّال فامتنع، فجهّز إليه الجيش فهزمهم. فكتب إلى مؤنس العجليّ، وهو بمصر يقاتل عساكر العلويّة، بأن يسير إلى قتال الحسين بعد فراغه من أمره، فسار إليه سنة ثلاث وثلاثمائة، فارتحل بأهله إلى أرمينية وترك البلاد. وبعث مؤنس العساكر في أثره فأدركوه، وقاتلوه فهزموه وأسر هو وابنه عبد الوهاب وأهله وأصحابه، وعاد به إلى بغداد فأدخل على جمل، وقبض المقتدر يومئذ على أبي الهيجاء وجميع بني حمدان فحبسهم جميعا. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وثلاثمائة بعدها وقتل الحسين سنة ست، وولّى إبراهيم بن حمدان سنة سبع على ديار ربيعة، وولّى مكانه داود بن حمدان.
(ولاية أبي الهيجاء ثانية على الموصل ثم مقتله)
ثم ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة أربع عشرة وثلاثمائة فبعث ابنه ناصر الدولة الحسين عليها، وأقام هو ببغداد. ثم بلغه إفساد العرب والأكراد في نواحيها وفي نواحي عمله الآخر بخراسان، فبعث إلى أبيه ناصر الدولة فأوقع بالعرب في الجزيرة ونكّل بهم. وجاءه في العساكر إلى تكريت فخرج ورحل بهم إلى شهرزور، وأوقع بالأكراد الجلاليّة حتى استقاموا على الطاعة. ثم كان خلع المقتدر سنة سبع عشرة وثلاثمائة بأخيه القاهر. ثم عاد ثاني يوم وأحيط بالقاهر في قصره فتذمّم بأبي الهيجاء، وكان عنده يومئذ، وأطال المقام يحاول على النجاة به فلم يتمكن من ذلك، وانقض الناس على القاهر ومضى أبو الهيجاء يفتّش عن بعض(4/293)
المنافق [1] في القصر يتخلّص منه فاتبعه جماعة وفتكوا به وقتلوه منتصف المحرّم من السنة. وولّى المقتدر مولاه تحريرا على الموصل.
(ولاية سعيد ونصر ابني حمدان على الموصل)
ثم ان أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة، وما بيد ناصر الدولة فولاه الراضي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وسار الى الموصل فخرج ناصر الدولة لتلقيه، وخالفه أبو العلاء إلى بيته وفعد ينتظره، فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقتلوه. وبلغ الخبر إلى الراضي فأعظم ذلك، وأمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار إليها، وارتحل ناصر الدولة واتبعه الوزير إلى جبل السن، ورجع عنه، وأقام بالموصل. واحتال بعض أصحاب ابن حمدان ببغداد على ابن الوزير وبذل له عشرة آلاف دينار على أن يستحث أباه ففعل، وكتب إليه بأمور أزعجته فاستعمل على الموصل من وثق به من أهل الدولة. ورجع إلى بغداد في منتصف شوّال. ورجع ناصر الدولة إلى الموصل فاستولى عليها وكتب إلى الراضي في الصفح، وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك واستقرّ في ولايته.
(مسير الراضي إلى الموصل)
وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة تأخر ضمان البلاد من ناصر الدولة فغضب الراضي، وسار ومدبر دولته تحكم [2] . وسار إلى الموصل، وتقدم تحكم إلى تكريت فخرج إليه ناصر الدولة فانهزم أصحابه، وسار إلى نصيبين، واتبعه تحكم فلحق به وكتب تحكم إلى الراضي بالفتح فسار في السفن يريد الموصل. وكان ابن رائق مختفيا ببغداد منذ غلبه ابن البريدي على الدولة، فظهر عند ذلك واستولى على بغداد. وبلغ الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء إلى البرّ، واستقدم تحكم من نصيبين واستعاد ناصر
__________
[1] لعلها الإنفاق
[2] بجكم: ابن الأثير ج 8 ص 371.(4/294)
الدولة ديار ربيعة وهو يعلم بخبر ابن رائق. وبعث في الصلح على تعجيل خمسمائة ألف درهم فأجابه إلى ذلك. وسار الراضي وتحكم إلى بغداد، ولقيهم أبو جعفر محمد ابن يحيى بن سريق رسولا من ابن رائق في الصلح، على أن يولي ديار مضر، وهي حران والرها والرقة. وتضاف إليها قنسرين والعواصم فأجيب إلى ذلك وسار عن بغداد إلى ولايته ودخل الراضي وتحكم بغداد ورجع ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل.
(مسير المتقى الى الموصل وولاية ناصر الدولة امارة الأمراء)
كان ابن رائق بعد مسيره إلى ديار مضر والعواصم سار إلى الشام وملك دمشق من يد الإخشيد، ثم الرملة ثم لقيه الإخشيد على عريش مصر وهزمه، ورجع إلى دمشق ثم اصطلحا على أن يجعلا الرملة تخما بين الشام ومصر وذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ثم توفي الراضي سنة تسع وعشرين، وولي المتقي وقتل تحكم وجاء البريدي إلى بغداد، وهرب الأتراك التحكمية إلى الموصل، وفيهم توزون وجحجح.
ثم لحقوا بأبي بكر محمد بن رائق واستحثوه إلى العراق، وغلب بعدهم على الخلافة الأتراك الديلمية، وجاء أبو الحسن البريدي من واسط فأقام ببغداد أربعة وعشرين يوما أمير الأمراء. ثم شغب عليه الجند فرجع إلى واسط وغلب كورتكين. ثم حجر المتقي وكتب إلى ابن رائق يستدعيه فسار من دمشق في رمضان سنة تسع وعشرين، واستخلف عليها أبا الحسن أحمد بن علي بن حمدان على أن يحمل إليه مائة ألف دينار، وسار ابن رائق إلى بغداد، وغلب كورتكين والديلمية وحبس كورتكين بدار الخلافة. ثم شغب عليه الجند وبعث أبو عبد الله البريدي أخاه أبا الحسن إلى بغداد في العساكر فغلبوا عليها، وهرب المتقي وابنه أبو منصور، وزاد في المبرة فنثر الدراهم على ابن الخليفة، وبالغ في مبرته حتى ركب للانصراف. وأمسك ابن رائق للحديث معه فاستدعاه المتقي، وخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة. وكان قتل ابن رائق لتسع بقين من رجب، وولاية ناصر الدولة مستهل شعبان من سنة ثمانين، ثم سار(4/295)
الإخشيدي من مصر إلى دمشق فملكها من يد عامل ابن رائق، وسار ناصر الدولة مع المتقي إلى بغداد.
(أخبار بني حمدان ببغداد)
ولما قتل ابن رائق وأبو الحسن البريدي على بغداد، وقد سخطه العامة والخاصة فهرب جحجح [1] إلى المتقي، وأجمع توزون وأصحابه إلى الموصل، واستحثوا المتقي وناصر الدولة فأنجدوهم إلى بغداد، وولى على الخراج والضياع بديار مضر وهي الرها وحران والرقة أبا الحسن علي بن خلف بن طياب، وكان عليها أبو الحسن علي بن أحمد بن مقاتل من قبل ابن رائق، فقاتله ابن طياب وقتله. ولما قرب المتقي وناصر الدولة من بغداد هرب أبو الحسن بن البريدي إلى واسط بعد مقامه مائة يوم وعشرة أيام، ودخل المتقي بغداد ومعه بنو حمدان، وقلد توزون شرطة جانبي بغداد وذلك في شوال من السنة. ثم سار بنو حمدان إلى واسط فنزل ناصر الدولة بالمدائن، وبعث أخاه سيف الدولة إلى قتال البريدي، وقد سار من واسط إليهم فقاتلوه تحت المدائن ومعهم توزون وجحجح والأتراك فانهزموا أولا. ثم أمدهم ناصر الدولة بمن كان معه من المدائن فانهزم البريدي إلى واسط، وعاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة وبين يديه الأسرى من أصحاب البريدي. وأقام سيف الدولة بموضع المعركة حتى اندملت جراحة وذهب وهنه. ثم سار إلى واسط فلحق البريدي بالبصرة، واستولى على واسط فأقام بها معتزما على اتباع البريدي إلى البصرة، واستمد أخاه ناصر الدولة في المال فلم يمده، وكان للأتراك عليه استطالة وخصوصا توزون وجحجح ثم جاء أبو عبد الله الكوفي بالمال من قبل ناصر الدولة ليفرقه في الأتراك فاعترضه توزون وجحجح. وأراد البطش به فأخفاه سيف الدولة عنهما وردّه إلى أخيه. ثم ثار الأتراك بسيف الدولة سلخ شعبان فهرب من معسكره الى بغداد ونهب سواده قتل جماعة من أصحابه وكان أبو عبد الله الكوفي لما وصل إلى ناصر الدولة وأخبره خبر أخيه، أراد أن يسير إلى الموصل فركب المتقي إليه واستمهله، وعاد إلى قصره فأغذ السير إلى الموصل بعد ثلاثة عشر شهرا من إمارته. وثار الديلم والأتراك
__________
[1] خجخج: ابن الأثير ج 8 ص 396.(4/296)
ونهبوا داره. ولما هرب سيف الدولة من معسكره بواسط عاد الأتراك إلى معسكرهم، وولوا توزون أميرا وجحجح صاحب جيش، ولحق سيف الدولة ببغداد منتصف رمضان بعد مسير أخيه، وبلغه خبر توزون. ثم اختلف الأتراك وقبض توزون على جحجح وسمله، وسار سيف الدولة ولحق بأخيه بالموصل وولى توزون إمارة الأمراء ببغداد.
(خبر عدل التحكمي بالرحبة)
كان عدل هذا مولى تحكم [1] ، ثم صار مع ابن رائق واصعد معه الى الموصل. ولما قتل ابن رائق صار في جملة ناصر الدولة بن حمدان فبعثه مع علي بن خلف بن طياب إلى ديار مضر فاستولى ابن طياب عليها، وقتل نائب ابن رائق وكان بالرحبة من ديار مضر رجل من قبل ابن رائق يقال له مسافر بن الحسين فامتنع بها، وجبى خراجها واستولى على تلك الناحية، فأرسل إليه ابن طباب عدلا التحكمي [2] فاستولى عليها، وفر مسافر عنها. واجتمع التحكمية إلى عدل واستولى على طريق الفرات وبعض الخابور. ثم استنصر مسافر بجمع من بني نمير وسار إلى قرقيسيا وملكها وارتجعها عدل من يده. ثم اعتزم عدل على ملك الخابور وانتصر أهله ببني نمير فأعرض عدل عن ذلك حينا حتى أمنوا. ثم أسرى إلى فسيح سمصاب وهي من أعظم قرى خابور فقاتلها ونقب السور وملكها. ثم ملك غيرها. وأقام في الخابور ستة أشهر وجبى الأموال وقوي جمعه واتسعت حاله. ثم طمع في ملك بني حمدان، فسار يريد نصيبين لغيبة سيف الدولة عن الموصل وبلاد الجزيرة، ونكب عن الرحبة وحران لأن يأنس المؤنسي كان بها في عسكر، ومعه جمع من بني نمير فحاد عنها إلى رأس عين، ومنها إلى نصيبين، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فجمع وسار إليه، فلما التقى الجمعان استأمن أصحاب عدل إلى ابن حمدان، ولم يبق معه إلا القليل فقبض عليه وسمله، وبعث به مع ابنه إلى بغداد في آخر شعبان سنة إحدى
__________
[1] بجكم: ابن الأثير ج 8 ص 371 وقد مرّ معنا من قبل
[2] البجكمي نسبة إلى بجكم كما عند الأثير ج 8 ص 394(4/297)
وثلاثين ومائتين [1] .
(مسير المتقي الى الموصل وعوده)
ولما انصرف ناصر الدولة وسيف الدولة عن المتقي من بغداد جاء توزون من واسط واستولى على الدولة. ثم رجع إلى واسط ووقعت بينه وبين ابن البريدي بالبصرة مواصلة وصهر استوحش لها المتقي. وكان بعض أصحاب توزون منافرا له، فأكثر فيه السعاية عند المتقي والوزير ابن مقلة، وخوفهما اتصال يده بابن البريدي. وقارن ذلك اتصال ابن شيرزاده بتوزون ومسيره إليه بواسط، فذكروا الخليفة بما فعل ابن البريدي معه في المرّة الأخرى وخوّفوه عاقبة أمرهم، فكتب الى ابن حمدان أن ينفذ إليه عسكرا يسير صحبته إليهم فأنفذ مع ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان، ووصلوا إلى بغداد سنة اثنتين وثلاثين وخرج المتقي معهم بأهله وأعيان دولته، ومعه الوزير ابن مقلة، وانتهى إلى تكريت فلقيه سيف الدولة لك. وجاء ناصر الدولة فأصعد المتقي إلى الموصل. ولما بلغ الخبر إلى توزون سار نحو تكريت فلقيه سيف الدولة عندها فقاتله ثلاثة أيام. ثم هزمه توزون ونهب سواده وسواد أخيه. وسار سيف الدولة إلى الموصل وتوزون في اتباعه، فخرج ناصر الدولة والمتقي وجملته إلى نصيبين، ثم إلى الرقة، ولحقهم سيف الدولة إليها. وملك توزون الموصل. وبعث إليه المتقي يعاتبه على اتصاله بابن البريدي، وأنه إنما استوحش من ذلك فإن آثر رضاه واصل ابن حمدان فأجاب توزون إلى ذلك، وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين، كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف. وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقي بالرقة. ثم أحس من ابن حمدان ضجرا به، وبلغ سيف الدولة أن محمد بن نيال الترجمان أغرى المتقي بسيف الدولة، وهو الّذي كان أفسد بين المتقي وتوزون فقبض عليه سيف الدولة وقتله، وارتاب المتقي بذلك فكتب إلى توزون يستصلحه.
وكتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فسار إليه الإخشيد. ولما وصل إلى حلب وعليها من قبل سيف الدولة ابن عمهم أبو عبد الله سعيد بن حمدان
__________
[1] الصحيح سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة كما في الكامل لابن الأثير ج 8 ص 394.(4/298)
فرحل عنها، وتخلف عنه ابن مقاتل الّذي كان بدمشق مع ابن رائق. ولما وصل الإخشيد إلى حلب لقيه ابن مقاتل فأكرمه واستعمله على خراج مصر. ثم سار إلى المتقي بالرقة فلقيه منتصف ثلاث وثلاثين فبالغ المتقي في إكرامه وبالغ هو في الأدب معه، وحمل إليه الهدايا وإلى وزيره وحاشيته، وسأله المسير إلى مصر أو الشام فأبى، فأشار عليه أن لا يرجع إلى توزون فأبى. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في دولته، وخوفه من توزون فلم يعمل، وجاءهم رسل توزون في الصلح وأنهم استحلفوه للخليفة والوزير، فانحدر المتقي إلى بغداد آخر المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر. ولما وصل المتقي إلى هيت لقيه توزون فقبل الأرض ورأى أنه تحلل عن يمينه بتلك الطاعة. ثم وكل به وسمل المتقي ورجع، إلى بغداد فبايع للمستكفي [1] . ولما ارتحل المتقي عن الرقة ولى عليها ناصر الدولة ابن عمه أبا عبد الله بن سعيد بن حمدان، وعلى طريق الفرات وديار مضر وقنسرين وجند والعواصم وحمص. فلما وصل إلى الرقة طمع أهلها فيه فقاتلهم وظفر بهم ورجع إلى حلب وقد كان ولى على هذه البلاد قبله أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل.
(استيلاء سيف الدولة على حلب وحمص)
ولما ارتحل المتقي من الرقة، وانصرف الإخشيد إلى الشام بقي يأنس المؤنسي بحلب فقصد سيف الدولة وملكها من يده. ثم سار إلى حمص فلقيه بها كافور مولى الإخشيد فهزمه سيف الدولة وسار إلى دمشق فامتنعوا عليه فرجع، وجاء الإخشيد من مصر إلى الشام، وسار في اتباع سيف الدولة فاصطفا بقنسرين، ثم تحاجزوا ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة والإخشيد إلى دمشق. ثم سار سيف الدولة إلى حلب فملكها وسارت عساكر الروم إليها فقاتلهم وظفر بهم. ثم بلغ ناصر الدولة بن حمدان
__________
[1] المعنى غير واضح تماما وفي الكامل ج 8 ص 419: «فنزل توزون وقبّل الأرض وقال: ها انا قد وفيت بيميني والطاعة لك، ثم وكّل به وبالوزير وبالجماعة، وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي، ثم كحله فأذهب عينيه، فلما سمله صاح، وصاح من عنده من الحرم والخدم، وارتجت الدنيا، فأمر توزون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهم، فخفيت أصواتهم، وعمي المتقي للَّه، وانحدر توزون من الغد الى بغداد والجماعة في قبضته.»(4/299)
ما فعله توزون من سمل المتقي وبيعة المستكفي، فامتنع من حمل المال وهرب إليه غلمان توزون فاستخدمهم ونقض الشرط في ذلك. وخرج توزون والمستكفي قاصدين الموصل، وترددت الرسل بينهما في الصلح، فتم ذلك آخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وعاد المستكفي وتوزون إلى بغداد فتوفي توزون إثر عوده، وولي الأمور بعده ابن شيرزاده [1] ، واستعمل على واسط قائدا، وعلى تكريت آخر. فأمّا الّذي على واسط فكاتب معز الدولة ابن بويه، واستقدمه فقدم بغداد واستولى على الدولة، فخلع المستكفي وبايع للمطيع، وأما الّذي على تكريت فسار إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل وسار معه وولاه عليها من قبله.
(الفتنة بين ابن حمدان وابن بويه)
ولما خلع معز الدولة بن بويه المستكفي عند استيلائه على بغداد امتعض ناصر الدولة ابن حمدان لذلك وسار من الموصل إلى العراق. وبعث معز الدولة بن بويه قواده، فالتقى الجمعان بعكبرا، واقتتلوا وخرج معز الدولة مع المطيع إلى عكبرا وكان ابن شيرزاده ببغداد وأقام بها، ولحق بناصر الدولة بن حمدان. وجاء بعساكره إلى بغداد فنزلوا بالجانب الغربي، وناصر الدولة بالجانب الشرقي، ووقع الغلاء في معسكر معز الدولة، والخليفة لانقطاع الميرة. وبقي عسكر ابن حمدان في رخاء من العيش لاتصال الميرة من الموصل. واستعان ابن شيرزاده بالعامة والعمارين على حرب معز الدولة والديلم، وضاق الأمر بمعز الدولة حتى اعتزم على الرجوع إلى الأهواز. ثم أمر أصحابه بالعبور من قطر بال بأعلى دجلة، وتسابق أصحاب ناصر الدولة إلى مدافعتهم ومنعهم، وبقي في خف من الناس، فأجاز إليه شجعان الديلم من أقرب الأماكن فهزموه، وملك معز الدولة الجانب الشرقي، وأعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ورجع ناصر الدولة إلى عكبرا وأرسل في الصلح، فوقف الأتراك التورونية الذين معه على خبر رسالته فهموا بقتله، فأغذ السير إلى الموصل ومعه ابن شيرزاده وأحكم الصلح مع معز الدولة.
__________
[1] شيرزاد: ابن الأثير ج 8 ص 448.(4/300)
(استيلاء سيف الدولة على دمشق)
وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة توفي الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج صاحب مصر والشام، فنصب للأمر بعده ابنه ابو القاسم أنوجور، واستولى عليه كافور الأسود وخادم أبيه، وسار بهما إلى مصر. وجاء سيف الدولة إلى دمشق فملكها، وارتاب به أهلها فاستدعوا كافورا فجاءهم، وخرج سيف الدولة إلى حلب، ثم اتبعوه فعبر إلى الجزيرة وأقام أنوجور على حلب. ثم اتفقوا واصطلحوا، وعاد أنوجور إلى مصر وسيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق قليلا، ثم عاد إلى مصر واستعمل على دمشق بدرا الإخشيد ويعرف ببدير. ثم عزله بعد سنة وولى أبا المظفر طغج.
(الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين تكين والأتراك)
كان مع ناصر الدولة جماعة من الأتراك أصحاب توزون فرّوا إليه كما قدّمنا، فلما وقعت المراسلة بينه وبين معز الدولة في الصلح ثاروا به، وهرب منهم وعبر إلى الجانب الغربي ونزل الموصل واستجار القرامطة فأجاروه، وبعثوا معه إلى مأمنه، وفي جملته ابن شيرزاده فقبض ناصر الدولة عليه، واجتمع الأتراك بعده فقدموا عليهم تكين الشيرازي، وقبضوا على من تخلف من أصحاب ناصر الدولة واتبعوه إلى الموصل فسار عنها إلى نصيبين ودخل الأتراك الموصل. وبعث ناصر الدولة إلى معز الدولة يستصرخه، فبعث إليه الجيوش مع وزيره أبي جعفر الصيمري وخرج الأتراك من الموصل في اتباع ناصر الدولة إلى نصيبين فمضى إلى سنجار ثم إلى الحديثة إلى السن، وهم في اتباعه. وبقي هنالك العساكر فقاتلوا الأتراك وهزموهم، وسيق قائدهم تكين إلى ناصر الدولة فسمله لوقته ثم حبسه. وسار مع الصيمري إلى الموصل فأعطاه ابن شيرزاده وارتحل به إلى بغداد.(4/301)
(انتقاض جمان بالرحبة ومهلكه)
كان جمان هذا من أصحاب توزون وسار إلى ناصر الدولة بن حمدان، فلما كان في محاربة معز الدولة ببغداد، استراب بمن معه من الديلم وجمعهم على جمان هذا وأخرجه إلى الرحبة واليا فعظم أمره. وانتقض سنة ست وثلاثين وثلاثمائة على ناصر الدولة، وحدثته نفسه بالتغلب على ديار مضر، فسار إلى الرقة وحاصرها سبعة عشر يوما، وانهزم عنها. ووثب أهل الرحبة بأصحابه وعماله فقتلوهم لسوء سيرتهم، وجاء من الرقة فأثخن فيهم وبعث ناصر الدولة بن حمدان حاجبه باروخ [1] مع عسكر فاقتتلوا على الفرات وانهزم جمان فغرق في الفرات واستأمن أصحابه إلى باروخ فأمنهم ورجع إلى ناصر الدولة.
(فتنة ناصر الدولة مع معز الدولة)
ثم وقعت الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان ومعز الدولة ابن بويه وسار إليه معز الدولة من بغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة فسار هو من الموصل الى نصيبين وملك معز الدولة الموصل فظلم الرعايا وأخذ أموالهم، وأجمع الاستيلاء على بلاد ابن حمدان كلها، فجاءه الخبر بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان والريّ. وبعث أخوه ركن الدولة يستمده فصالح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة والشام على ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، وعلى أن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة، وعاد إلى بغداد في ذي الحجة آخر سبع وثلاثين وثلاثمائة.
(غزوات سيف الدولة)
كان أمر الثغور راجعا إلى سيف الدولة بن حمدان ووقع الفداء سنة خمس وثلاثين
__________
[1] ياروخ: ابن الأثير ج 8 ص 475.(4/302)
وثلاثمائة في ألفين من الأسرى على يد نصر النملي، ودخل الروم سنة اثنتين وثلاثين مدينة واسرغين ونهبوها وسبوها وأقاموا بها ثلاثا وهم في ثمانين ألفا مع الدمشق [1] ثم سار سيف الدولة سنة سبع وثلاثين غازيا إلى بلاد الروم فقاتلوه وهزموه. ونزل الروم على مرعش فأخذوها وأوقعوا بأهل طرسوس. ثم دخل سنة ثمان وثلاثين وتوغل في بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة وغنم وسبى. ولما قفل أخذت الروم عليه المضايق وأثخنوا في المسلمين قتلا وأسرا واستردوا ما غنموه. ونجا سيف الدولة في فل قليل. ثم ملك الروم سنة إحدى وأربعين مدينة سروج واستباحوها. ثم دخل سيف الدولة سنة ثلاث وأربعين إلى بلاد الروم فأثخن فيها وغنم وقتل قسطنطين بن الدمشق فيمن قتل، فجمع الدمشق عساكر الروم والروس وبلغار وقصد الثغور، فسار إليه سيف الدولة بن حمدان والتقوا عند الحرث [2] فانهزم الروم واستباحهم المسلمون قتلا وأسرا، وأسر صهر الدمشق، وبعض أسباطه وكثير من بطارقته ورجع سيف الدولة بالظفر والغنيمة. ثم دخل بلاد الروم النصرانية ثم رجع إلى أذنة، وأقام بها حتى جاءه نائبة على طرسوس فخلع عليه، وعاد إلى حلب وامتعض الروم لذلك فرجعوا إلى بلادهم. ثم غزا الروم طرسوس والرها وعاثوا في نواحيها سبيا وأسرا ورجعوا. ثم غزا سيف الدولة بلاد الروم سنة ست وأربعين وأثخن فيها وفتح عدة حصون وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم والسبي، وانتهى إلى خرسنة [3] ورجع وقد أخذت الروم عليه المضايق، فقال له أهل طرسوس: ارجع معنا فإن الدروب التي دخلت منها قد ملكها الروم عليك فلم يرجع إليهم. وكان معجبا برأيه فظهر الروم عليه في الدرب واستردوا ما أخذوا منهم ونجا في فلّ قليل يناهزون الثلاثمائة ثم دخل سنة خمسين قائد من موالي سيف الدولة إلى بلاد الروم من ناحية ميافارقين فغنم وسبى وخرج سالما.
__________
[1] الدمشق: هكذا بالأصل وهو تحريف واسمه الحقيقي دمستق كما في كتب التاريخ وقد ورد اسمه في شعر المتنبي وكذلك في الكامل لابن الأثير ج 8 ص 508.
[2] الحدث: ابن الأثير ج 8 ص 508
[3] هي مدينة خرشنة (معجم البلدان) .(4/303)
(الفتنة بين ناصر الدولة ومعز الدولة بن بويه)
قد تقدم لنا ما وقع من الصلح بين ناصر الدولة وبين معز الدولة بن بويه، وطالبه في المال فانتقض. وسار إليه معز الدولة إلى الموصل منتصف السنة وملكها، وفارقها ناصر الدولة إلى نصيبين وحمل نوابه ومن يعرف وجوه المال وحمايته، وأنزلهم في قلاعه مثل الزعفرانيّ وكواشي ودس إلى العرب بقطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فرحل معز الدولة إلى نصيبين لما بها من الغلات السلطانية، واستخلف سبكتكين الحاجب الكبير على الموصل، وبلغه في طريقه أن أبا الرجاء وعبد الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فقصدهما فهربا، وخلفا أثقالهما وانتهب العسكر خيامهما. ثم عادا إلى معسكر معز الدولة وهم غازون فنالوا منهم، ورجعوا إلى سنجار، وسار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، واستأمن كثير من أصحابه إلى معز الدولة، فسار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فقام بخدمته وباشرها بنفسه. وأرسل إلى معز الدولة في الصلح بينه وبين أخيه، فامتنع معز الدولة من قبول ناصر الدولة لانتقاضه وإخلافه، فضمن سيف الدولة البلاد بألفي ألف وتسعمائة ألف درهم، وأطلق معز الدولة أسرى أصحابهم.
وتم ذلك في محرم سنة ثمان وأربعين ورجع معز الدولة إلى العراق وناصر الدولة إلى الموصل.
(استيلاء الروم على عين زربة ثم على مدينة حلب)
وفي المحرم من سنة إحدى وخمسين نزل الدمستق في جموع الروم على عين زربة وملك الجبل المطل عليها، وضيق عليها حصارها ونصب عليها المنجنيقات. وشرع في النقب فاستأمنوا ودخل المدينة. ثم ندم على تأمينهم لما رأى من اختلال أحوالهم، فنادى فيهم أن يخرجوا بجميع أهاليهم إلى المسجد فمات منهم في الأبواب بكض الزحام خلق، ومات آخرون في الطرقات، وقتل من وجدوا آخر النهار، واستولى الروم على أموالهم وأمتعتهم وهدموا سور المدينة، وفتحوا في نواحي عين زربة أربعة وخمسين(4/304)
حصنا. ورحل الدمستق بعد عشرين يوما بنية العود، وخلف جيشه بقيسارية وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان، واعترضه الدمستق في بعض مذاهبه فأوقع به، وقتل أخاه وأعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة، وألقى ابن الزيات نفسه في النهر فغرق. ثم رجع الدمستق إلى بلاد الثغور، وأغذ السير إلى مدينة حلب، وأعجل سيف الدولة عن الاحتشاد فقاتله في خف من أصحابه فانهزم سيف الدولة، واستلحم آل حمدان واستولى الدمستق على ما في داره خارج حلب من خزائن الأموال والسلاح. وخرب الدار وحصر المدينة، وأحس أهل حلب مدافعته فتأخر إلى جبل حيوش [1] ثم انطلقت أيدي الدعار بالبلد على النهب، وقاتلهم الناس على متاعهم، وخربت الأسوار من الحامية فجاء الروم ودخلوها عليهم وبادر الأسرى الذين كانوا في حلب وأثخنوا في الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية واحتمل الروم ما قدروا عليه وأحرقوا الباقي.
ولحأ المسلمون إلى قصبة البلد فامتنعوا بها، وتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة يحاصرها فرماه حجر منجنيق فمات وقتل الدمستق به من كان معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومائتين. وارتحل الدمستق عنهم ولم يعرض لسواد حلب وأمرهم بالعمارة على أنه يعود ابن عمه عن قريب فخيب الله ظنه. وأعاد سيف الدولة عين زربة وأصلح أسوارها وغزا حاجبه مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم فأثخنوا فيها ورجعوا. فجاء الروم إلى حصن سبة فملكوه وملكوا أيضا حصن دلوكة وثلاثة حصون مجاورة لهم. ثم سار نجا غلام سيف الدولة إلى حصن زياد فلقيهم جمع من الروم فانهزم الروم وأسر منهم خمسمائة رجل. وفي هذه السنة أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان وكان عاملا على منبج وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة إقريطش، وبعث إليهم المعز بالمدد فأسر الروم وانهزم من بقي منهم. ثم ثار الروم في اثنتين وخمسين بعدها بملكهم فقتلوه وملكوا غيره وصار ابن السميسرة دمستقا.
__________
[1] جبل جوشن: ابن الأثير ج 8 ص 540.
ابن خلدون م 20 ج 4(4/305)
(انتقاض أهل حران)
كان سيف الدولة قد ولى هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة [1] غيرها من ديار مضر، فساء أثره فيهم وطرح الأمتعة على التجار وبالغ في الظلم فانتظروا به غيبته عند عمه سيف الدولة وثاروا بعماله ونوابه فطردوهم، فسار هبة الله إليهم وحاصرهم شهرين وأفحش في القتل فيهم. ثم سار سيف الدولة فراجعوا الطاعة وأدخلوا هبة الله وأفحش في القتل واستقاموا.
(انتقاض هبة الله)
وفي هذه السنة بعث سيف الدولة الصوائف إلى بلاد الروم، فدخل أهل طرسوس من درب ومولاه نجا من درب، وأقام هو ببعض الدروب لأنه كان أصابه الفالج قبل ذلك بسنتين، فكان يعالج منه شدّة إذا عاوده وجعه، وتوغّل أهل طرسوس في غزوتهم وبلغوا قونية، وعادوا فعاد سيف الدولة إلى حلب واشتدّ وجعه، فأرجف الناس بموته فوثب عبد الله ابن أخيه، وقتل ابن نجا النصراني من غلمان سيف الدولة ولما تيقن حياة عمه رحل إلى حران وامتنع بها، وبعث سيف الدولة غلامه فجاء إلى حران في طلبه، فلحق هبة الله بأبيه بالموصل ونزل نجا على حران آخر شوال من سنة اثنتين وخمسين، وصادر أهلها على ألف ألف درهم وأخذها منهم في خمسة أيام بالضرب والنكال، وباعوا فيها ذخائرهم حتى أملقوا، وصاروا إلى ميافارقين ونزلها شاغرة فتسلط العيارون على أهلها.
(انتقاض نجا بميافارقين وأرمينية واستيلاء سيف الدولة عليها)
ولما فعل نجا بأهل حران ما فعل، واستولى على أموالهم فقوي بها وبطر، وسار إلى
__________
[1] يذكر ابن الأثير في حوادث سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة: «وفي هذه السنة في صفر امتنع أهل حرّان على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وعصوا عليه. وسبب ذلك انه كان متقلدا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة، فعسفهم نوّابه وظلموهم، وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران، وبالغوا في ظلمهم.(4/306)
ميافارقين، وقصد بلاد أرمينية. وكان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يعرف بأبي الورد فغلبه نجا على ما ملك منها، وأخذ قلاعه وبلاده فملك خلاط وملازكرد وأخذ كثيرا من أموال أبي الورد وقتله، ثم انتقض على سيف الدولة. واتفق أن معز الدولة بن بويه استولى على الموصل ونصيبين فكاتبه نجا يعده المساعدة على بني حمدان. ثم صالحه ناصر الدولة، ورجع إلى بغداد فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه واستولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد واستأمن إليه نجا وأخوه وأصحابه، فأمنهم وأعاد نجا إلى مرتبته. ثم وثب عليه غلمانه وقتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث وخمسين.
(مسير معز الدولة الى الموصل وحروبه مع ناصر الدولة)
كان الصلح قد استقرّ بين ناصر الدولة ومعز الدولة على ألف ألف درهم في كل سنة.
ثم طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي ثعلب المظفر [1] في اليمن على زيادة بذلها، وامتنع سيف الدولة من ذلك وسار إلى الموصل منتصف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة ولحق ناصر الدولة بنصيبين وملك معز الدولة الموصل، وسار عنها في اتباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية والحرب فلم يثبت ناصر الدولة، وفارق نصيبين وملكها معز الدولة. وخالفه أبو ثعلب إلى الموصل وعاث في نواحيها، وهزمه قوّاد معز الدولة بالموصل فسكنت نفس معز الدولة. وأقام ببر قعيد يترقب أخباره، وخالف ناصر الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه وقتلهم، وأسر قواده واستولى على مخلفه من المال والسلاح وحمل ذلك كله إلى قلعة كواشي. وبلغ الخبر إلى معز الدولة فلحق بالنواب، وأعيا معز الدولة أمرهم. ثم أرسلوا إليه في الصلح فأجاب، وعقد لناصر الدولة على الموصل وديار ربيعة، وجميع أعماله بمقرّها المعلوم، وعلى أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معز الدولة ورجع معز الدولة إلى بغداد.
__________
[1] أبي تغلب فضل الله الغصنفر ابن الأثير ج 8 ص 553 وكذلك في مكان آخر من هذا الكتاب.(4/307)
(حصار المصيصة وطرسوس واستيلاء الروم عليها)
وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة خرج الدمشق [1] في جموع الروم فنازل المصيصة، وشدّ حصارها وأحرق رساتيقها، وبلغ إلى نقب السور فدافعه أهلها أشد مدافعتهم.
ثم رحل إلى أذنة وطرسوس، وطال عيثه في نواحيها، وأكثر القتل في المسلمين، وغلت الأسعار في البلاد، وقلت الأقوات. وعاود مرض سيف الدولة فمنعه من النهوض إليهم، وجاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة، فارتحل بسببهم للمدافعة فوجد الروم انصرفوا ففرّق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء، وكان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوما. وبعث الدمشق إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس يتهددهم بالعود، ويأمرهم بالرحيل من البلاد. ثم عاد إليهم وحاصر طرسوس فقاتلهم أشدّ قتال وأسروا بطريقا من بطارقته وسقط الدمشق إلى أهل المصيصة ورجعوا إلى بلادهم. ثم سار يعفور [2] ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع وخمسين إلى الثغور، وبنى بقيسارية مدينة ونزلها، وجهز عليها العساكر وبعث أهل المصيصة وطرسوس في الصلح فامتنع، وسار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوة واستباحها، ونقل أهلها إلى بلاد الروم وكانوا نحوا من مائتي ألف. ثم سار إلى طرسوس واستنزل أهلها على الأمان، وعلى أن يحملوا من أموالهم وسلاحهم ما قدروا عليه، وبعث حامية من الروم يبلغونهم أنطاكية، وأخذ في عمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها. ثم عاد إلى القسطنطينية وأراد الدمشق بن شمسيق [3] ان يقصد سيف الدولة في ميافارقين ومنعه الملك من ذلك.
(انتقاض أهل انطاكية وحمص)
ولما استولى الروم على طرسوس لحق الرشيق النعيمي [4] من قوادهم وأولي الرأي فيهم
__________
[1] اسمه الحقيقي الدمستق، وقد مرّ معنا في مكان آخر من هذا الكتاب.
[2] اسمه نقفور، قد مرّ معنا من قبل.
[3] الدمستق بن شمشقيق: ابن الأثير ج 8 ص 555- 561.
[4] الرشيق النسيمي: ابن الأثير ج 8 ص 562.(4/308)
بأنطاكيّة في عدد وقوة، فاتصل به ابن أبي الأهوازي من الجباة بأنطاكيّة، وحسن له العصيان وأراه أن سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام بما هو فيه من الزمانة، وأعانه بما كان من مال الجباة، فأجمع رشيق الانتقاض، وملك أنطاكية وسار إلى حلب وبها عرقوبة [1] وجاء الخبر الى سيف الدولة بأن رشيقا أجمع الانتقاض، ونجا ابن الأهوازي إلى أنطاكية فأقام في إمارتها رجلا من الديلم اسمه وزير [2] ولقبه الأمير وأوهم أنه علوي وتسمى هو بالأشاد [3] وأساء السيرة في أهل أنطاكية، وقصدهم عرقوبة من حلب فهزموه. ثم جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب وخرج إلى أنطاكية، وقاتل وزير وابن الأهوازي أياما. وجيء بهما إليه أسيرين فقتل وزير وحبس ابن الأهوازي أياما وقتله، وصلح أمر أنطاكية. ثم ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة، وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة، فلما تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافارقين، وبعث إليه عرقوبة مولاه بدرا بالعساكر فكانت بينهما عدة حروب أصيب فيها مروان بسهم فأثبت، وبقي أياما يجود بنفسه والقتال بين أصحابه وبين بدر، وأسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان وعاش بعده أياما ثم مات وصلح أمرهم.
(خروج الروم الى الثغور واستيلاؤهم على دارا)
وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة خرجت جموع الروم إلى الثغور فحاصروا آمد ونالوا من أهلها قتلا وأسرا فامتنعت عليهم فانصرفوا إلى دارا قريبا من ميافارقين فأخذوها، وهرب الناس إلى نصيبين وسيف الدولة يومئذ بها فهم بالهروب، وبعث عن العرب ليخرج معهم ثم انصرف الروم وأقام هو بمكانه، وساروا إلى أنطاكية فحاصروها مدة، وعاثوا في جهاتها فامتنعت فعاد الروم إلى طرسوس.
__________
[1] قرغوية: ابن الأثير ج 8 ص 562 وفي تجارب الأمم قرغوية أيضا.
[2] اسمه دزير: ابن الأثير ج 8 ص 562.
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 562: الأستاذ.(4/309)
(وفاة سيف الدولة ومحبس أخيه ناصر الدولة)
وفي صفر من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة توفي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بحلب، وحمل إلى ميافارقين فدفن بها وولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف. ثم في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل، حبسه ابنه أبو ثعلب فضل الله الغضنفر [1] وكان كبير ولده، وكان سبب ذلك أنه كبر وساءت أخلاقه، وخالف أولاده وأصحابه في المصالح، وضيق عليهم فضجروا منه، ولما بلغهم معز الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق فنهاهم ناصر الدولة، وقال لهم اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به، وإلا استظهر عليكم وظفر بكم فلجوا في ذلك، ووثب به أبو ثعلب بموافقة البطانة، وحبسه بالقلعة، ووكل بخدمته. وخالفه بعض إخوته في ذلك واضطرب أمره. واضطر إلى مداراة بختيار بن معز الدولة، وأرسل له في تجديد الضمان ليحتج به على إخوته فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة.
(ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب ومقتل أبي فراس)
ولما مات سيف الدولة كما ذكرناه ولي بعده ابنه أبو المعالي شريف، وكان سيف الدولة قد ولى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان عند ما خلصه من الأسر الّذي أسره الروم في منبج فاستفداه في الفداء الّذي بينه وبين الروم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولاه على حمص. فلما مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده ففارق حمص، ونزل في صدد قرية في طرف البرية قريبا من حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وبعثهم مع عرقوبة في طلبه فجاء إلى صدد، واستأمن له أصحاب أبي فراس، وكان في جملتهم فأمر به عرقوبة فقتل، واحتمل رأسه إلى أبي المعالي وكان أبو فراس خاله.
__________
[1] مر من قبل ابو ثعلب المظفر ولعل هذا تحريف من الناسخ واسمه الحقيقي ابو تغلب الغضنفر.(4/310)
(أخبار أبي ثعلب مع اخوته بالموصل)
كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تسمى فاطمة بنت أحمد الكردية، وهي أم أبي ثعلب [1] وهي التي دبرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه، فلما حبس ناصر الدولة، كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلصه مما هو فيه. وظفر أبو ثعلب بالكتاب، فنقل أباه إلى قلعة كواشي واتصل ذلك بحمدان، وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها. ولما اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين وجمع الجموع، وبعث إلى إخوته في الإفراج عن أبيهم فسار أبو ثعلب لحربه، وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة فحاصره أبو ثعلب أشهرا، ثم اصطلحا وعاد كل منهما إلى مكانه. ثم مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ودفن بالموصل.
وبعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة فافترق عنه أصحابه، وقصد العراق مستجيرا ببختيار، فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته، وحمل إليه الهدايا وبعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه، وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وفارقه أبو البركات، ثم استقدمه أبو ثعلب فامتنع من القدوم عليه، فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانيا في العساكر، فخرج حمدان إلى البرية، وترك الرحبة فملكها أبو البركات واستعمل عليها. وسار إلى الرقة، ثم إلى عرابان. وخالفه حمدان إلى الرحبة فكبسها وقتل أصحاب أبي ثعلب بها فرجع إليه أبو البركات، وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجه. ثم ألقاه إلى الأرض وأسره ومات من يومه. وحمل إلى الموصل فدفن بها عند أبيه. وجهز أبو ثعلب إلى حمدان وقدم أخاه أبا فراس محمدا إلى نصيبين، ثم عزله عنها لأنه داخل حمدان ومالأه عليه، فاستدعاه وقبض عليه وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل فاستوحش أخوه إبراهيم والحسن، ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان، وساروا جميعا إلى سنجار. وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة فخاموا [2] عن لقائه، واستأمن
__________
[1] كثيرا ما يذكر ابن خلدون ابن تغلب باسم ابن ثعلب، كما يذكر التغالبة باسم الثعالبة.
[2] بمعنى أحجموا عن لقائه.(4/311)
إليه أخوه إبراهيم والحسن خديعة ومكرا فأمنهما، ولم يعلم، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان. وعاد حمدان من سنجار إلى عرابان واطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه فهربا منه. ثم استأمن الحسن ورجع إليه، وكان حمدان أقام نائبا بالرحبة غلامه نجا، فاستولى على أمواله وهرب بها إلى حران وبها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب فرجع حمدان إلى الرحبة، وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا، وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات، واستولوا عليها، ونجا حمدان بنفسه، ولحق بسنجار مستجيرا به، ومعه أخوه إبراهيم فأكرمهما ووصلهما وأقاما عنده. ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك كله آخر سنة ستين وثلاثمائة.
(خروج الروم الى الجزيرة والشام)
وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة دخل ملك الروم الشام فسار في نواحيها، ولم يجد من يدافعه فعاث في نواحي طرابلس، وكان أهلها قد أخرجوا عاملهم إلى عرقة لسوء سيرته فنهب الروم أمواله، ثم حاصر الروم عرقة فملكوها ونهبوها. ثم قصدوا حمص وقد انتقل أهلها عنها فأحرقوها، ورجعوا إلى بلاد السواحل وملكوا منها ثمانية عشر بلدا، واستباحوا عامة القرى، وساروا في جميع نواحي الشام ولا مدافع لهم، إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم. ثم رجع ملك الروم مجمعا حصار حلب وأنطاكية، وبلغه استعدادهم فرحل عنهم إلى بلاده ومعه من السبي مائة ألف رأس. وكان بحلب قرعوية [1] مولى سيف الدولة فمانعهم، وبعث ملك الروم سراياه إلى الجزيرة فبلغوا كفرتوثا وعاثوا في نواحيها، ولم يكن من أبي ثعلب مدافعة لهم.
(استبداد قرعوية بحلب)
كان قرعوية غلام سيف الدولة، وهو الّذي أخذ البيعة لابنه أبي المعالي بعد موته،
__________
[1] مرّ معنا من قبل باسم فرعوبة وهذا تحريف واضح. اما اسمه الحقيقي قرغوية.(4/312)
فلما كان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة انتقض على أبي المعالي وأخرجه من حلب واستبد بملكها. وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها، فسار إلى والدته بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس. ولحق أصحابه بأبي ثعلب، وبلغ أمه بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس أنه يريد القبض عليها فمنعته أياما من الدخول، حتى استوثقت لنفسها وأذنت له ولمن رضيته، وأطلقت لهم الأرزاق ومنعت الباقين وسار أبو المعالي لقتال قرعوية بحلب فامتنع عليه، ثم لحق أبو المعالي بحماة، وأقام بها وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله، فقدموا عليهم من يحكم بينهم.
(مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين)
ولما سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعوية، سار إليها وامتنعت زوجة سيف الدولة منه، واستقر الأمر بينهما على أن تحمل إليه مائتي ألف درهم. ثم نمي إليها أنه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلا، ونالت من معسكره فبعث إليها يلاطفها فأعادت إليه بعض ما نهب، وحملت إليه مائة ألف درهم وأطلقت الأسارى فرجع عنها.
(استيلاء الروم على انطاكية ثم حلب ثم ملازكرد)
وفي سنة تسع وخمسين خرج الروم إلى انطاكية فمروا بحصن الوفاء [1] بقربها، وهم نصارى فحاصروهم، واتفقوا على أن يرحلوا إلى أنطاكية، فإذا نزل الروم عليها ثاروا من داخل. وانتقل أهل الوفاء ونزلوا بجبل أنطاكية. وجاء بعد شهرين أخو يعفور [2] ملك الروم في أربعين ألفا من جموع الروم، ونازل أنطاكية فأخلى له أهل الوفاء السور من ناحيتهم، وملكوا البلد وسبوا منها عشرين ألفا. ثم أنفذ ملك الروم جيشا
__________
[1] حصن لوقا: ابن الأثير ج 8 ص 603.
[2] نقفور: ابن الأثير ج 8 ص 603.(4/313)
كثيفا إلى حلب، وأبو المعالي بن سيف الدولة عليها يحاصرها ففارقها أبو المعالي، وقصد البرية وملك الروم حلب. وتحصن قرعوية وأهل البلد بالقلعة فحاصروها مدّة، ثم ضربوا الهدنة بينهم على مال يحمله قرعوية، وعلى أن الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها. ودخل في هذه الهدنة حمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرى، وأعطاهم رهنهم على ذلك الروم، وأفرج الروم عن حلب. وكان ملك الروم قد بعث جيشا إلى ملازكرد من أعمال أرمينية فحاصروها وفتحوها عنوة، ورعب أهل الثغور منهم في كل ناحية.
(مقتل يعفور ملك الروم)
كان يعفور ملكا بالقسطنطينية، وهي البلاد التي بيد بني عثمان لهذا العهد، وكان من يليها يسمى الدمشق [1] . وكان يعفور هذا شديدا على المسلمين، وهو الّذي أخذ حلب أيام سيف الدولة. وملك طرسوس والمسينة [2] وعين زربة. وكان قتل الملك قبله وتزوج امرأته، وكان له منها ابنان فكفلهما يعفور وكان كثيرا ما يطرق بلاد المسلمين ويدوخها في ثغور الشام والجزيرة، حتى هابه المسلمون وخافوه على بلادهم. ثم أراد أن يجب [3] ربيبيه ليقطع نسلهما فغرقت [4] أمهما من ذلك، وأرسلت إلى الدمشق بن الشمشيق [5] وداخلته في قتله. وكان شديد الخوف من يعفور. وهذا كان أبوه مسلما من أهل طرسوس يعرف بابن العفاش تنصر ولحق بالقسطنطينية. ولم يزل يترقى في الأطوار إلى أن نال من الملك ما ناله. وهذه غلطة ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها، ولا ينال الملك من كان عريقا في السوقة، وفقيدا [6] للعصابة بالكلية وبعيدا عن نسب أهل الدولة، فقد تقدم من ذلك في مقدمة الكتاب ما فيه كفاية.
__________
[1] الدمستق كما مر من قبل.
[2] المصيصة: ابن الأثير ج 8 ص 607.
[3] بمعني يخصي ابني الملك ليقطع نسلهما.
[4] لا معنى لها ومقتضى السياق وقلقت أمهما من ذلك.
[5] اسمه الدمستق بن الشمشقيق وقد مر معنا من قبل.
[6] الفقيد: بمعنى المفقود في اللغة، ويظهر ان ابن خلدون يقصد الفاقد وقد كرر هذا المعنى مرات عديدة.(4/314)
(استيلاء أبي ثعلب على حران)
وفي منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحوا من شهر، ثم جنح أهلها إلى مصالحته واضطربوا في ذلك، ثم توافقوا عليه وخرجوا إلى أبي ثعلب وأعطوه الطاعة، ودخل في إخوانه وأصحابه فصلى الجمعة ورجع الى معسكره. واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي، وكان من أكابر أصحاب بني حمدان.
وبلغه الخبر بأن نميرا عاثوا في بلاد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد فأسرع العود.
(مصالحة قرعوية لابي المعالي)
قد تقدم لنا استبداد قرعوية بحلب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وخروج أبي المعالي ابن سيف الدولة منها، وأنه لحق بأمه بميافارقين. ثم رجع لحصار قرعوية بحلب. ثم رجع إلى حمص ونزل بها. ثم وقع الاتفاق بينه وبين قرعوية على أن يخطب له بحلب ويخطبان جميعا للمعز العلويّ صاحب مصر.
(مسير الروم إلى بلاد الجزيرة)
وفي سنة إحدى وستين سار الدمشق في جموع الروم إلى الجزيرة فأغار على الرها ونواحيها، ثم تنقل في نواحي الجزيرة، ثم بلغ نصيبين واستباحها ودوخها. ثم سار في ديار بكر ففعل فيها مثل ذلك. ولم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم، وسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وجلسوا إلى الناس في المساجد والمشاهد يصفون ما جرى على المسلمين، وخوفوهم عاقبة أمرهم فتقدمهم أهل بغداد إلى دار الطائع الخليفة، فأرادوا الهجوم عليه فأغلقت دونهم الأبواب فأعلنوا بشتمه، ولحق آخرون من أهل بغداد ببختيار وهو بنواحي الكوفة يستغيثونه من الروم، فوعدهم بالجهاد، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره(4/315)
بالتجهيز للغزو، وأن يستنفر العامة. وكتب إلى أبي ثعلب بن حمدان بإعداد الميرة والعلوفات والتجهيز، وأنه عازم على الغزو. ووقعت بسبب ذلك فتنة في بغداد من قبل اشتغال العامة بذلك أدت إلى القتل والنهب بين عصائب الفتيان والعيارين.
(أسر الدمشق وموته)
ولما فعل الدمشق في ديار مضر والجزيرة ما فعل، قوي طمعه في فتح آمد فسار إليه أبو ثعلب، وقدم أخاه أبا القاسم هبة الله، واجتمعا على حرب الدمشق ولقياه في رمضان سنة اثنتين وستين. وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل، وكان الروم على غير أهبة فانهزموا، وأخذ الدمشق أسيرا، فلم يزل محبوسا عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات.
(استيلاء بختيار بن معز الدولة على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب)
قد تقدم لنا ما كان بين أبي ثعلب وأخويه حمدان وإبراهيم من الحروب، وأنهما سارا إلى بختيار بن معز الدولة صريخين فوعدهما بالنصرة، وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره، وهرب إبراهيم ورجع إلى أخيه أبي ثعلب فتحرّك عزم بختيار على قصد الموصل، وأغراه وزيره ابن بقية لتقصيره في خطابه فسار، ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة ومن الدواوين. وخالف بختيار إلى بغداد، ولم يحدث فيها حدثا من نهب ولا غيره، وإنما قاتل أهل بغداد فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامتها. واضطرب أمرهم وخصوصا الجانب الغربي. وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين في الضاحية، وتأخر أبو ثعلب عن بغداد وحاربه يسيرا. ثم داخله في الانتقاض واستيلاء سبكتكين على الأمر. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك وخرج إليه ابن بقية، وراسلوا أبا ثعلب في الصلح على(4/316)
مال يضمنه ويرد على أخيه حمدان إقطاعه ما سوى ماردين، وكتبوا بذلك إلى بختيار. وارتحل أبو ثعلب إلى الموصل وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد، ثم سار. وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمة وعسفه، وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني وأن يحط عنه من الضمان فأجابه وسار. ثم بلغه في طريقه أن أبا ثعلب نقض وقتل بعضا من أصحاب بختيار عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم، فاستشاط بختيار واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر، وعادوا جميعا إلى الموصل. وفارقها أبو ثعلب وبعث أصحابه بالاعتذار والحلف على إنكار ما بلغه فقبل، وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستحلافه. وتم الصلح ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب وقد كان عقد له عليها من قبل.
(عود أبي المعالي بن سيف الدولة الى حلب)
قد تقدم لنا أن قرعوية مولى أبيه سيف الدولة كان تغلب عليه، وأخرجه من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، فسار إلى والدته بميافارقين. ثم إلى حماة فنزلها وكانت الروم قد أمنت حمص، وكثر أهلها. وكان قرعوية قد استناب بحلب مولاه بكجور فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب، وملكها سنين فكتب أصحاب قرعوية إلى أبي المعالي واستدعوه، فسار وحاصرها أربعة أشهر، وملكها وأصلح أحوالها، وازدادت عمارتها حتى انتقل إلى ولاية دمشق كما يذكر.
(استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل وسائر ملوك بني حمدان)
ولما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وهزم بختيار ابن عمه معز الدولة، سار بختيار في الفل إلى الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب فحسن له قصد الموصل على الشام، وقد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرض(4/317)
لأبي ثعلب لمودة بينهما فنكث وقصدها. ولما انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح، وأن يسير إليه بنفسه وعساكره، ويعيده على ملك بغداد على أن يسلم إليه أخاه حمدان فسلمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه، وسار بختيار إلى الحديثة ولقي أبا ثعلب وسار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل. وزحف نحوهما عضد الدولة، والتقوا بنواحي تكريت في شوال سنة ست وستين فهزمهما عضد الدولة، وقتل بختيار ونجا أبو ثعلب إلى الموصل فاتبعه عضد الدولة، وملك الموصل في ذي القعدة، وحمل معه الميرة والعلوفات للإقامة، وبث السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان ابن بختيار وأخواله أبو إسحاق وظاهر ابنا معز الدولة ووالدتهم. وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه. وسار حاجبه أبو ظاهر طغان إلى جزيرة ابن عمر ولحق أبو ثعلب بنصيبين. ثم انتقل إلى ميافارقين فأقام بها، وبلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى تدليس [1] وجاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه فتركها وطلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه، ونقل منها ذخيرته، وعاد فعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحاصرها.
واتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع، فسار إليه ولم يدركه، واستأمن إليه كثير من أصحابه. وعاد إلى الموصل وبعث قائده طغان إلى تدليس فهرب منها أبو ثعلب واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وكان منازعا لملكهم الأعظم في الملك، فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب، وصاهره ليستعين به واتبعه في مسيره عسكر عضد الدولة، وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم. ونجا فلّهم إلى حصن زياد ويسمى خرت برت. وأرسل إلى ورد يستمده فاعتذر بما هو فيه ووعده بالنصر. ثم انهزم ورد أمام ملك الروم فأيس أبو ثعلب من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد حتى جاء خبر ميافارقين. وكان أبو الوفاء لما رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين، والوالي عليها هزارمرد فضبط البلد ودافع أبا الوفاء ثلاثة أشهر. ثم مات وولى أبو ثعلب مكانه مؤنسا من موالي الحمدانية، ودس أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله فبعث له في الناس رغبة. وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم فانقاد واستأمن، وملك أبو الوفاء البلد وكان في أيام حصاره قد افتتح سائر حصونه فاستولى على سائر
__________
[1] تدليس: مدينة بالمغرب الأقصى على البحر المحيط وهي غير مقصوده هنا والمقصود بدليس: بلدة من نواحي أرمينية قرب خلاط ذات بساتين كثيرة ... (معجم البلدان) لابن الأثير ج 8 ص 693.(4/318)
ديار بكر وأمن أصحاب أبي ثعلب وأحسن إليهم ورجع إلى الموصل. وبلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبة من دار الحرب فقصد الرحبة. وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه فشرط عليه المسير إليه فامتنع. ثم استولى عضد الدولة على ديار مضر وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب بني حمدان وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشا من حلب فحاربوها وامتنعت عليهم، وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة وعرض بنفسه عليه فبعث عضد الدولة النقيب أبا احمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي، وتسلمها بعد حروب. وأخذ لنفسه منها الرقة، ورد باقيها على سعد الدولة فصارت له ثم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه. واستولى على جميع أعماله واستخلف أبا الوفاء على الموصل، ورجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وستين. ثم بعث عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصروهم حتى استقاموا وسلموا قلاعهم، ونزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش، وصلبهم على جانبي طريق الموصل.
(مقتل أبي ثعلب بن حمدان)
ولما أيس أبو ثعلب بن حمدان من إصلاح عضد الدولة، والرجوع إلى ملكه بالموصل سار إلى الشام، وكان على دمشق قسّام داعية العزيز العلويّ غلب عليها بعد أفتكين وقد تقدم ذلك، وكيف ولي أفتكين على دمشق. فخاف قسام من أبي ثعلب ومنعه من دخول البلد فأقام بظاهرها، وكاتب العزيز، وجاءه الخبر بأنه يستقدمه، فرحل إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسام. وجاء الفضل قائد العزيز لحصار قسام بدمشق، ومر بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكل جميل. ثم حدثت الفتنة بين دغفل وقسام وأخرجهم، وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والقائد الّذي يحاصر دمشق. ثم ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة في محرم سنة تسع وتسعين، فاستراب به الفضل ودغفل وجمعوا الحربة ففر بنو عقيل عنه، وبقي في سبعمائة من غلمانه وغلمان أبيه، وولى منهزما فلحقه الطلب فوقف يقاتل، فضرب وأسر وحمل إلى دغفل، وأراد الفضل حمله إلى العزيز فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل(4/319)
بأفتكين فقتله، وبعث الفضل بالرأس إلى مصر. وحمل بنو عقيل أخته جميلة وزوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب فبعث بجميلة إلى الموصل وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها.
(وصول ورد المنازع لملك الروم الى ديار بكر مستجيرا)
كان ملك الروم أرمانوس لما توفي خلف ولدين صغيرين وهما بسيل وقسطنطين، ونصب أحدهما للملك وعاد حينئذ الدمشق يعفور [1] من بلاد الإسلام بعد أن عاث في نواحيها وبالغ في النكاية، فاجتمع إليه الروم ونصبوه للنيابة عن ابني أرمانوس فداخلت أمهما ابن الشميشق [2] على الدمشقية، وقبض على لاوون أخي دمشق وعلى ابنه ورديس بن لاوون واعتقلهما في بعض القلاع. وسار إلى بلاد الشام وأعظم فيها النكاية. ومرّ بطرابلس فحاصرها، وكان لوالده الملك أخ خصي وهو يومئذ وزير، فوضع على ابن الشميشق من سقاه السم، وأحس به من نفسه فأغذ السير إلى القسطنطينية فمات في طريقه. وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة في الأمر، وصاهر أبا ثعلب بن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور، وقصد الروم ووالى عليهم الهزائم فخافه الملكان، وأطلقا ورديس بن لاوون وبعثاه على الجيوش لقتال الورد فقاتله فانهزم إلى ديار بكر سنة تسع وستين وثلاثمائة، ونزل بظاهر ميافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة مستنصرا به. وبعث ملكا الروم بالقسطنطينية إلى عضد الدولة فاستمالاه فرجح جانبهما، وأمر بالقبض على ورد وأصحابه فقبض عليه أبو علي التميمي عامل ديار بكر، وعلى ولده وأخيه وأصحابه وأردعهم السجن بميافارقين. ثم بعثهم إلى بغداد فحبسوا بها إلى أن أطلقهم بهاء الدولة بن عضد الدولة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وشرط عليه إطلاق عدد من المسلمين وإسلام سبعة من الحصون برساتيقها، وأن لا يتعرّض لبلاد المسلمين ما عاش. وجهزه فسار وملك في طريقه ملطية وقوي بما فيه وصالحه ورديس بن لاوون على أن يكون قسطنطينية وجانب الشمال من الخليج له وحاصر قسطنطينية، وبها الملكان ابنا أرمانوس وهما بسيل
__________
[1] اسمه الصحيح الدمستق نقفور.
[2] اسمه ابن الشمشقيق.(4/320)
وقسطنطين في ملكها، وأقرّا وردا على ما بيده قليلا. ثم مات وتقدم بسيل في الملك ودام عليه ملكه وحارب البلغار خمسا وثلاثين سنة، وظفر بهم وأجلاهم عن بلادهم وأسكنها الروم.
(ولاية بكجور على دمشق)
قد قدمنا ولاية بكجور على حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة وأنه عمرها وكان أهل دمشق ينتقلون إليها لما نالهم من جور قسام. وما وقع بها من الغلاء والوباء، وكان بكجور يحمل الأقوات من حمص تقربا إلى العزيز صاحب مصر، وكاتبه في ولايتها فوعده بذلك. ثم استوحش من أبي المعالي سنة ثلاث وسبعين، وأرسل إلى العزيز يستنجز وعده في ولاية دمشق فمنع الوزير بن كلس من ولايته ريبة به، وكان بدمشق من قبل العزيز القائد بلكين بعثه فمنع الوزير بعد قسام وساء أثر ابن كلس في الدولة، واجتمع الكتاميون بمصر على التوثب بابن كلس ودعته الضرورة لاستقدام بلكين من دمشق فأمر العزيز باستقدامه، وولى بكجور مكانه فدخلها في رجب سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وأساء السيرة فيها وعاث في أصحاب الوزير بن كلس وأقام على ذلك ستا. وعجز أهل دمشق منه وجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم، وكوتب نزال والي طرابلس بمعاضدته فسار في العساكر، وجمع بكجور عسكرا من العرب وغيرهم، وخرج للقائه فهزمه منير واستأمن إليه بكجور على أن يرحل عن دمشق فأمنه، ورحل إلى الرقة واستولى عليها، وتسلم منير دمشق وأقام بكجور بالرقة واستولى على الرحبة وما يجاور الرقة، وراسل بهاء الدولة بن عضد الدولة بالطاعة وباد الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وأبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته على أن يقطعه حمص، فلم يحبه أحد إلى شيء فأقام بالرقة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي، ويستميلهم في الغدر به فأجابوه، وأخبروه أن أبا المعالي مشغول بلذاته فاستمد حينئذ العزيز، فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدوه ويكونوا في تصرفه. ودس إليهم عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز في المباعدة عنه لعداوته مع ابن كلس الوزير قبله، ابن خلدون م 21 ج 4(4/321)
وتجديدها مع ابن منصور هذا فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معلوم، وأخلفه وسار بكجور من الرقة وبلغ خبر مسيره إلى أبي المعالي فسار من حلب ومعه لؤلؤ الكبير مولى أبيه، وكتب إلى بكجور يستميله ويذكره الحقوق، وأن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل وكتب أبو المعالي إلى صاحب أنطاكية يستمده فأمده بجيش الروم، وكتب إلى العرب الذين مع بكجور يرغبهم في الأموال والإقطاع فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء. فلما التقى العسكران وشغل الناس بالحرب، عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه ولحقوا بأبي المعالي فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده، وقد أزاله لؤلؤ عن موقفه، ووقف مكانه خشية عليه. وحمل ذلك فلما انتهى بكجور لحملته برز إليه لؤلؤ وضربه فأثبته. وأحاط به أصحابه فولى منهزما وجاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه فقبل شرطه، وأحضر فقتله وسار إلى الرقة، وبها سلامة الرشقي مولى بكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره فاستأمنوا إليه فأمنهم ونزلوا عن الرقة فملكها واستكثر ما مع أولاد بكجور فقال له القاضي ابن أبي الحصين هو مالك، وبكجور لا يملك شيئا ولا حنث عليك. فاستصفى مالهم أجمع وشفع فيهم العزيز فأساء عليه الردّ، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي.
(خبر باد الكردي ومقتله على الموصل)
كان من الأكراد الحميدية بنواحي الموصل ومن رؤسائهم رجل يعرف بباد، وقيل باد لقب له، واسمه أبو عبد الله الحسين بن ذوشتك، وقيل باد اسمه وكنيته أبو شجاع ابن ذوشتك. وإنما أبو عبد الله الحسين أخوه. وكان له بأس وشدّة وكان يخيف السابلة، ويبذل ما تجمع له من النهب في عشائره فكثرت جموعه. ثم سار إلى مدينة أرمينية فملك مدينة أرجيش. ثم رجع إلى ديار بكر، فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده في جملة الوفود وخافه على نفسه فعدا وأبعد في مذهبه، وبلغ عضد الدولة أمره فطلبه فلم يظفر به. ولما هلك عضد الدولة سار باد إلى ديار بكر فملك آمد وميافارقين.
ثم ملك نصيبين فجهز صمصام الدولة العساكر إليه مع الحاجب أبي القاسم سعيد ابن محمد فلقيه على خابور الحسينية من بلاد كواشي فانهزم الحاجب وعساكره، وقتل(4/322)
كثير من الديلم. ولحق الحاجب سعيد بالموصل وباد في اتباعه. وثارت عامة الموصل بالحاجب لسوء سيرته فأخرجوه، ودخل باد الموصل سنة ثلاث وسبعين وقوي أمره وسما إلى طلب بغداد وأهم صمصام الدولة أمره ونظر مع وزيره ابن سعدان في توجيه العساكر إليه وأنفذ كبير القواد زياد بن شهرا كونه. فتجهز لحربه وبالغوا في مدده وإزاحة علله فلقيهم في صفر سنة أربع وسبعين. وانهزم باد وقتل كثير من أصحابه وأسر آخرون، وطيف بهم في بغداد. واستولى الديلم على الموصل، وأرسل زياد القائد عسكرا إلى نصيبين فاختلفوا على مقدمهم. وكتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي بن حمدان صاحب حلب يومئذ بولاية ديار بكر، وإدخالها في عمله، فسير إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد، فحاصروا ميافارقين أياما ورجعوا إلى حلب. وبعث سعد الحاجب من يتولى غدر باد فدخل عليه رجل في خيمته وضربه بالسيف على ساقه يظنها رأسه فنجا من الهلكة.
ثم بعث باد إلى زياد القائد، وسعد الحاجب بالموصل بطلب الصلح فأتمروا بينهم على أن تكون ديار بكر لباد، والنصف من طور عبدين. فخلصت ديار بكر لباد من يومئذ وانحدر زياد القائد إلى بغداد، وأقام سعد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين، فطمع باد في الموصل، وبعث إليها شرف الدولة بن بويه أبا نصر خواشاده في العساكر، فزحف إليه باد وتأخر المدد عن أبي نصر فبعث عن العرب من بني عقيل وبني نمير لمدافعة باد، وأقطعهم البلاد. واستولى باد على طور عبدين آخر الجبال ولم يضجر، وأرسل أخاه في عسكر لقتال العرب فقتل، وانهزم عسكره وأقام باد قبالة خواشاده حتى جاء الخبر بموت شرف الدولة بن بويه، فزحف خواشاده إلى الموصل وقامت العرب بالصحراء وباد بالجبال.
(عود بني حمدان الى الموصل ومقتل باد)
كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن ابنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب بالعراق، وكانا ببغداد، واستقرا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة، فلما تولى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها. ثم أنكر ذلك(4/323)
عليه أصحابه فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما، فكتب إليهما بالرجوع عنه فلم يجيبا، وأغذا السير إلى الموصل حتى نزلا بظاهرها. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك الذين عندهم وخرجوا إلى بني حمدان. وزحف الديلم لقتالهم فانهزموا وقتل منهم خلق، وامتنع باقيهم بدار الإمارة ومن معه على الأمان إلى بغداد، وملكوا الموصل. وتسايل اليهم العرب من كل ناحية. وأراد أهل الموصل استلحامهم فمنعهم بنو حمدان، وأخرجوا خواشاده وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل، وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك، وكان جمعهم كثيرا.
واستمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم، فسار ونزل على الموصل، وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى أبي عبد الله محمد بن المسيب أمير بني عقيل يستنصرانه. وشرط عليهما جزيرة ابن عمر ونصيبين فقبلا شرطه. وسار أبو عبد الله صريخا، وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل وباد يحاصره. وزحف أبو الراود في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان، وعبروا دجلة عند بدر، وجاءوا إلى باد من خلفه. وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه، والتحم القتال ونكب بباد فرسه فوقع طريحا، ولم يطق الركوب وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه فقتله بعض العرب، وحمل رأسه إلى بني حمدان ورجعوا ظافرين إلى الموصل وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة.
(مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل على الموصل)
لما هلك باد طمع أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان في استرجاع ديار بكر، وكان أبو علي بن مروان الكردي، وهو ابن أخت باد قد خلص من المعركة، ولحق كيفا، وبه أهل باد وماله، وهو من أمنع المعاقل فتزوج امرأة خاله، واستولى على ماله وعلى الحصن. وسار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليدا. وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان يحاربانه فهزمهما وأسر عبد الله منهما. ثم أطلقه ولحق بأخيه أبي طاهر وهو يحاصر آمد، فزحفا لقتال ابن مروان فهزمهما وأسر أبا عبد الله ثانية إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه، واستعمله الخليفة على حلب إلى(4/324)
أن هلك. وأما أبو طاهر فلحق بنصيبين في فل من أصحابه، وبها أبو الدرداء محمد ابن المسيب أمير بني عقيل وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليه عاملا من قبله، فبعث إليها قائدا كان تصرفه عن أبي الدرداء، ولم يكن له من الأمر شيء إلى أن استبد أبو الدرداء واستغنى عن العامل، وانقرض ملك بني حمدان من الموصل والبقاء للَّه.
(ملك سعد الدولة بن حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل واستبداد لؤلؤ عليه)
ولما هزم سعد الدولة مولاه بكجور، وقتله حين سار إليه من الرقة، رجع إلى حلب فأصابه فالج وهلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وكان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل، وأخذ له العهد على الأجناد، وتراجعت إليهم العساكر. وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي فسار إلى العزيز بمصر، وأغراه بملك حلب فبعث إليها قائده منجوتكين في العساكر وحاصرها، ثم ملك البلد، واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة، وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه، وكان مشغولا بقتال البلغار، فأرسل إلى نائبة بأنطاكيّة أن يسير إليهم، فسار في خمسين ألفا ونزل جسر الحديد على وادي العاصي، فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين وهزم الروم إلى أنطاكية، واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقها. ونزل أبو الفضائل ولؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فنقل ما فيها من الغلال، وأحرق الباقي. وعاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب. وبعث لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الوساطة لهم في الصلح فصالحهم منجوتكين، ورحل إلى دمشق حجرا من الحرب وتعذر الأقوات. ولم يراجع العزيز في ذلك فغضب العزيز، وكتب إليه يوبخه ويأمره بالعود لحصار حلب فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهرا. فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم وحرّضوه على انطاكية، وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد، ورجع إلى حلب. وبلغ الخبر إلى منجوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه وهدم مبانيه، وجاء ملك الروم وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا، ورحل(4/325)
ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما. وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة. ثم رحل عائدا إلى بلده.
(انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها)
ثم إنّ أبا نصر لؤلؤا مولى سيف الدولة عزل أبا الفضائل مولاه بحلب، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسية، وخطب للحاكم العلويّ بمصر ولقبه مرتضى الدولة. ثم فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة وأميرهم يومئذ صالح بن مرداس وتقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب، كان فيهم صالح فاعتقله مدّة وضيق عليه. ثم فرّ من محبسه ونجا إلى أهله وزحف إلى حلب ولؤلؤ فيها وكانت بينه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها، وأسره سنة ستين وأربعمائة. وخلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه، ورجع إلى حلب واتهم مولاه فتحا، وكان نائبة على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته. ونمي إليه الخبر، فكاتب الحاكم العلويّ وأظهر دعوته، وانتقض على لؤلؤ فأقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ولحق لؤلؤ بالروم في أنطاكية فأقام عندهم ولحق فتح بصيداء.
واستعمل الحاكم على حلب من قبله، وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع، وبقيت حلب في ملك العبيديين. ثم غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي، وكانت بها دولة له ولقومه، وورثها عنه بنوه كما يذكر في أخبارهم.
(الخبر عن دولة بني عقيل بالموصل وابتداء أمرهم بأبي الدرداء وتصاريف أحوالهم)
كان بنو عقيل وبنو كلاب وبنو نمير وبنو خفاجة، وكلهم من عامر بن صعصعة وبنو طيِّئ من كهلان، قد انتشروا ما بين الجزيرة والشام في عدوة الفرات. وكانوا كالرعايا لبني حمدان يؤدون إليهم الأتاوات وينفرون معهم في الحروب. ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان، وساروا إلى ملك البلاد. ولما انهزم أبو طاهر بن(4/326)
حمدان أمام علي بن مروان بديار بكر كما قدمناه سنة ثمانين وثلاثمائة ولحق بنصيبين وقد استولى عليها أبو الدرداء محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر بن عمر بن مهند أمير بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر، فقتل أبا طاهر وأصحابه وسار إلى الموصل فملكها. وبعث إلى بهاء الدولة بن بويه المستبد على الخليفة بالعراق، في أن يبعث عاملا على الموصل فبعث عاملا من قبله، والحكم راجع لأبي الدرداء. وأقام على ذلك سنتين. وبعث بهاء الدولة سنة اثنتين وثمانين عساكره إلى الموصل مع أبي جعفر الحجاج بن هرمز فغلب عليها أبا الدرداء، وملكها. وزحف لحربه أبو الدرداء في قومه ومن اجتمع إليه من العرب فكانت بينهم حروب ووقائع، وكان الظفر فيها للديلم.
(مهلك أبي الدرداء وولاية أخيه المقلد)
ثم مات أبو الدرداء سنة ست وثمانين وولي إمارة بني عقيل مكانه أخوه عليّ بعد أن تطاول إليها أخوهما المقلد بن المسيب، وامتنع بنو عقيل لأن عليا كان أسن منه فصرف المقلد وجهه إلى ملك الموصل، واستمال الديلم الذين فيها مع أبي جعفر بن هرمز فمالوا إليه، وكتب إلى بهاء الدولة أن يضمنه الموصل بألفي ألف درهم كل سنة. ثم أظهر لأخيه علي وقومه أن بهاء الدولة قد ولاه، واستمدهم فساروا معه ونزلوا على الموصل، وخرج إلى المقلد من كان استماله من الديلم واستأمن إليهم أبو جعفر قائد الديلم فأمنوه، وركب السفن إلى بغداد واتبعوه فلم يظفروا منه بشيء وتملك المقلد ملك الموصل.
(فتنة المقلد مع بهاء الدولة بن بويه)
2 كان المقلد يتولى حماية غربي الفرات وكان له ببغداد نائب فيه تهور وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة. وكان بهاء الدولة مشغولا بفتنة أخيه، فكتب نائب المقلد إليه يشكو من أصحاب بهاء الدولة، فجاء في العساكر، وأوقع بهم، ومد يده(4/327)
إلى جباية الأموال، وخرج نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو أبو علي بن إسماعيل عن ضمان القصر وغيره فغالط بهاء الدولة، وأنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز للقبض على أبي علي بن إسماعيل ومصالحة المقلد بن المسيب، فصالحه على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار ويخطب له ولأبي جعفر بعده، ويأخذ من البلاد رسم الحماية، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية ويلقب حسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين وجلس له ولأبي جعفر القادر باللَّه فاستولى على البلاد، وقصده الأعيان والأماثل، وعظم قدره وقبض أبو جعفر على أبي علي بن إسماعيل ثم هرب ولحق بمهذب الدولة.
(القبض على عليّ بن المسيب)
كان المقلد بن المسيب قد وقعت المشاجرة بين أصحابه وأصحاب أخيه في الموصل قبل مسيره إلى العراق، فلما عاد إلى الموصل أجمع [1] الانتقام من أصحاب أخيه. ثم نوى أنه لا يمكنه ذلك مع أخيه، فأعمل الحيلة في قبض أخيه، وأحضر عسكره من الديلم والأكراد. وورى بقصر دقوقا واستحلفهم على الطاعة. ثم نقب دار أخيه وكانت ملاصقة له، ودخل إليه فقبض عليه وحبسه، وبعث زوجته وولديه قراوش [2] وبدران إلى تكريت. واستدعى رؤساء العرب وخلع عليهم وأقام فيهم العطاء فاجتمعت له زهاء ألفي فارس، وخرجت زوجة أخيه بولديها إلى أخيها الحسن ابن المسيب، وكانت أحياؤه قريبا من تكريت، فاستجاش العرب على المقلد وسار إليه في عشرة آلاف، فخرج المقلد عن الموصل واستشار الناس في محاربة أخيه.
فأشار رافع بن محمد بن مغز [3] بالحرب، وأشار أخوه غريب بن محمد بالموادعة وصلة الرحم. وبينما هو في ذلك إذ جاءت أخته رميلة [4] بنت المسيب شافعة في أخيها عليّ فأطلقه، ورد عليه ماله وتوادع الناس، وعاد المقلد إلى الموصل وتجهز
__________
[1] بمعنى عزم على الانتقام.
[2] قرواش: ابن الأثير ج 9 ص 134.
[3] رافع بن محمد بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 134.
[4] رهيلة: المرجع السابق.(4/328)
لقتال علي بن مزيد الأسدي بواسط، لأنه كان مغضبا لأخيه الحسن، فلما قصد الحلة خالفه علي إلى الموصل فدخلها وعاد إليه المقلد، وتقدمه أخوه الحسن مشفقا عليه من كثرة جموع المقلد فأصلح ما بينهما، ودخل المقلد إلى الموصل وأخواه معه.
ثم خاف علي فهرب. ثم وقع الصلح بينهما على أن يكون أحدهما بالبلد. ثم هرب علي فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة فهرب إلى العراق، واتبعه المقلد فلم يدركه ورجع عنه. ثم سار المقلد إلى بلد علي بن مزيد فدخله ثانية ولحق ابن مزيد بمهذب الدولة صاحب البطيحة فأصلح ما بينهما.
(استيلاء المقلد على دقوقا)
ولما فرغ المقلد من شان أخويه وابن مزيد، سار إلى دقوقا فملكها. وكانت لنصرانيين قد استعبدا أهلها وملكها من أيديهما جبريل بن محمد من شجعان بغداد، أعانه عليها مهذب الدولة صاحب البطيحة، وكان مجاهدا يحب الغزو فملكها. وقبض على النصرانيين وعدل في البلد. ثم ملكها المقلد من يده، وملكها بعده محمد بن نحبان، ثم بعده قراوش بن المقلد. ثم انتقلت إلى فخر الملك أبي غالب فعاد جبريل واستجاش بموشك بن حكويه من أمراء الأكراد. وغلب عليها عمال فخر الدولة. ثم جاء بدران بن المقلد فغلب جبريل وموشك عليها وملكها.
(مقتل المقلد وولاية ابنه قراوش)
كان للمقلّد موال من الأتراك فهربوا منه، واتبعهم فظفر بهم، وقتل وقطع وأفحش في المثلة، فخاف إخوانهم منه، واغتنموا غفلته فقتلوه فيها بالأنبار سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وكان قد عظم شأنه وطمع في ملك بغداد. ولما قتل كان ولده الأكبر قراوش غائبا وكانت أمواله بالأنبار، فخاف نائبة فيها عبد الله بن إبراهيم بن شارويه بادرة عمّه الحسن، وراسل أبا منصور بن قراد، وكان بالسنديّة، وقاسمه في مخلّف المقلّد على أن يدافع الحسن إن قصده، فأجابه إلى ذلك، وأرسل عبد الله إلى(4/329)
قراوش يستحثه فوصل، ووفّى لابن قراد بما عاهده عليه نائبة عبد الله، وأقام ابن قراد عنده. ثم إنّ الحسن بن المسيّب جاء إلى مشايخ بني عقيل شاكيا مما فعله قراوش وابن قراد عنده، فسعوا بينهم في الصلح، واتفق الحسن وقراوش على الغدر بابن قراد، وأن يسير أحدهما إلى الآخر متحاربين، فإذا تلاقيا قبضا على ابن قراد ففعلا ذلك. فلما تراءى الجمعان نمي الخبر إلى ابن قراد فهرب، واتبعه قراوش والحسن ولم يدركاه، ورجع قراوش إلى بيوته فأخذها بما فيها من الأموال، فوجه الأموال إلى أن أخذها أبو جعفر الحجّاج بن هرمز.
(فتنة قراوش مع بهاء الدولة بن بويه)
ولما كانت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة بعث قراوش بن المقلّد جمعا من بني عقيل إلى المدائن فحصروها، فبعث أبو جعفر بن الحجّاج بن هرمز نائب بهاء الدولة ببغداد عسكرا إليهم فدفعوهم عنها. فاجتمعت عقيل وبنو أسد وأميرهم عليّ بن مزيد.
وخرج أبو جعفر إليهم واستجاش بخفاجة، وأحضرهم من الشام فانهزم واستبيح عسكره، وقتل وأسر من الأتراك والديلم كثير. ثم جمع العساكر ثانيا ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم، وقتل وأسر وسار إلى أحياء بني مزيد، ونهب منها ما لا يقدّر قدره.
ثم سار قراوش إلى الكوفة سنة سبع وتسعين، وكانت لأبي علي بن تمال الخفاجي، وكان غائبا عنها فدخل قراوش الكوفة وصادرهم. ثم قتل أبو علي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وكان الحاكم صاحب مصر قد ولّاه الرحبة فسار إليها، وخرج إليه عيسى ابن خلاط العقيليّ فقتله وملكها. ثم ملكها بعده غيره إلى أن ولي أمرها صالح بن مرداس الكلابيّ صاحب حلب.
(قبض قراوش على وزرائه)
كان معتمد الدولة قراوش بن المقلّد قد استوزر أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، وكان من خبره أنّ أباه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فذهب عنه(4/330)
إلى مصر وولي بها الأعمال. وولد ابنه أبا القاسم ونشأ هنالك. ثم قتله الحاكم فلحق أبو القاسم بحسّان بن مفرّج بن الجرّاح الطائي بالشام، وأغراه بالانتقاض والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر صاحب مكة ففعل ذلك، ولم يتم أمر أبي الفتوح ورجع إلى مكة ولحق أبو القاسم المغربي بالعراق، واتصل بفخر الملك فارتاب به القادر لانتسابه إلى العلويّة فأبعده فخر الملك، فقصد قراوش بالموصل فاستوزره. ثم قبض عليه سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وصادره على مال زعم أنه ببغداد والكوفة فأحضره، وترك سبيله فعاد إلى بغداد ووزر لشرف الدولة بن بويه بعد وزيره مؤيد الملك الرجيحي، وكان مداخلا لعنبر الخادم الملقّب بالأثير المستولي على الدولة يومئذ. ثم سخطه الأتراك وسخطوا الأبهر [1] فأشار عليه بالخروج عن بغداد فخرج الوزير وأبو القاسم معه إلى السندية وبها قراوش فأنزلهم، وساروا إلى أوانا وبعث الأتراك إلى الأثير عنبر بالاستعتاب فاستعتب، ورجع وهرب أبو القاسم المغربي إلى قراوش سنة خمس عشرة واربعمائة لعشرة أشهر من وزارته. ثم وقعت فتنة بالكوفة كان منشؤها من صهره ابن أبي طالب، فأرسل الخليفة إلى قراوش في إبعاده عنه، فأبعده وسار إلى ابن مروان إلى ديار بكر، ولك يذكر بقية خبره. ثم قبض معتمد الدولة قراوش على أبي القاسم سليمان بن فهر عامل الموصل له ولأبيه، وكان من خبره أنه كان يكتب في حداثته بين يدي أبي إسحاق الصابي، ثم اتصل بالمقلّد بن المسيّب، وأصعد معه إلى الموصل واقتنى بها الضياع. ثم استعمله قراوش على الجبايات فظلم أهلها وصادرهم فحبسه، وطالبه بالمال فعجز وقتل.
(حروب قراوش مع العرب وعساكر بغداد)
وفي سنة إحدى عشرة واربعمائة اجتمع العرب على فتن قراوش، وسار إليه دبيس
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ويذكر ابن الأثير في تاريخه الكامل ج 9 ص 335: «في هذه السنة- 415- تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المغربيّ، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربيّ الملك مشرّف الدولة في الانتزاح الى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعا ومعهم جماعة من مقدّمي الديلم الى السّنديّة، وبها قراوش، فأنزلهم ثم ساروا كلّهم الى أوانا» .(4/331)
ابن علي بن مزيد الأسديّ وغريب بن معن، وجاءهم العسكر من بغداد فقاتلوه عند سرّ من رأى، ومعه رافع بن الحسين فانهزم ونهبت أثقاله وخزائنه، وحصل في أسرهم، وفتحوا تكريت عنوة من أعماله. ورجعت عساكر بغداد إليها واستجار قراوش بغريب بن معن فأطلقه، ولحق بسلطان بن الحسن من عمّال أمير خفاجة واتبعه عسكر من الترك وقاتلهم غربي الفرات، وانهزم هو وسلطان، وعاث العسكر في أعماله فبعث إلى بغداد بمراجعة الطاعة وقبل. ثم كانت الفتنة بينه وبين أبي أسد وخفاجة سنة سبع عشرة وأربعمائة لأنّ خفاجة تعرّضوا لأعماله بالسواد، فسار إليهم من الموصل وأميرهم أبو الفتيان منيع بن حسّان، فاستجاش بدبيس بن علي بن مزيد فجاءه في قومه بني أسد، وعسكر من بغداد والتقوا بظاهر الكوفة، وهو يومئذ لقراوش، فخاف قراوش عن لقائهم وأجفل ليلا للأنبار، واتبعوه فرحل عنها إلى حلله، واستولى القوم على الأنبار وملكوها. ثم فارقوها، وافترقوا فاستعادها قراوش، ثم كانت الحرب بينه وبين بني عقيل في هذه السنة، وكان سببها أن الأثير عنبر الخادم حاكم دولة بني بويه انتقض عليه الجند، وخافهم على نفسه فلحق بقراوش فجاء قراوش وأخذ له أقطاعه وأملاكه بالقيروان، فجمع مجد الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا كبيرا من بني عقيل وانضم اليهم بدران أخو قراوش وساروا لحربه وقد اجتمع هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأمدّهم ابن مروان فكانوا في ثلاثة عشر ألفا، والتقوا عند بلدهم فلما تصافوا والتحم القتال خرج بدران بن المقلّد إلى أخيه قراوش فصالحه وسط المصاف، وفعل ثوران بن قراد كذلك مع غريب بن معن فتوادعوا جميعا واصطلحوا. وأعاد قراوش الى أخيه بدران مدينة الموصل. ثم وقعت الحرب بين قراوش وبين خفاجة ثانيا. وكان سببها أنّ منيع بن حسّان أمير خفاجة وصاحب الكوفة سار إلى الجامعين بلد دبيس ونهبها فخرج دبيس في طلبه إلى الكوفة فقصد الأنبار، ونهبها هو وقومه، فسار قراوش إليهم ومعه غريب بن معن [1] الأنبار. ثم مضى في اتباعهم إلى القصر فخالفوه إلى الأنبار ونهبوها وأحرقوها.
واجتمع قراوش ودبيس في عشرة آلاف وخاموا عن لقاء خفاجة فلم يكن من قراوش إلّا بناء السور على الأنبار. ثم سار منيع بن حسّان الخفاجي إلى الملك كيجار والتزم
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 352: «وعلم قراوش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلا جريدة في نفر يسير، وعلم أصحابه بذلك، فتبعوه منهزمين، فوصلوا الى الأنبار» .(4/332)
الطاعة وخطب له بالكوفة وأزال حكم بني عقيل عن سقي الفرات. ثم سار بدران بن المقلّد في جموع من العرب إلى نصيبين وحاصرها وهي لنصير الدولة بن مروان فجهّز لهم الجند، وبعثهم إليها فقاتلوا بدران فانهزم أولا. ثم عطف عليهم فانهزموا وأثخن فيهم، وبلغه الخبر أنّ أخاه قراوش قد وصل الى الموصل فأجفل خوفا منه.
(استيلاء الغز على الموصل)
كان هؤلاء الغزّ من شعوب الترك بمفازة بخارى، وكثر فسادهم في جهاتها فأجاز إليهم محمود بن سبكتكين، وهرب صاحب بخارى وحضر عنده أميرهم أرسلان بن سلجوق فقبض عليه وحبسه بالهند، ونهب أحياءهم وقتل كثيرا منهم فهربوا الى خراسان وأفسدوا ونهبوا فبعث إليهم العساكر فأثخنوا فيهم وأجلوهم عن خراسان.
ولحق كثير منهم بأصبهان وقاتلوا صاحبها وذلك سنة عشرين وأربعمائة. ثم افترقوا فسارت طائفة منهم إلى جبل بكجار عند خوارزم ولحقت طائفة أخرى بأذربيجان وأميرها يومئذ وهشوذان فأكرمهم، ووصلهم ليكفّوا عن فسادهم فلم يفعلوا. وكان مقدّموهم أربعة: توقا وكوكناش ومنصور ودانا فدخلوا مراغة سنة تسع وعشرين [وأربعمائة] ونهبوها وأثخنوا في الأكراد الهدبانيّة، وسارت طائفة منهم الى الريّ فحاصروها وأميرها علاء الدين بن كاكويه واقتحموا عليه البلد وأفحشوا في النهب والقتل، وفعلوا كذلك في الكرخ وقزوين. ثم ساروا إلى أرمينية وعاثوا في نواحيها وفي أكرادها. ثم عاثوا في الدينور سنة ثلاثين. ثم أوقع وهشوذان صاحب تبريز لجماعة منهم في بلده وكانوا ثلاثين ومقدّمهم، فضعف الباقون وأكثر فيهم القتل. واجتمع الغز الذين بأرمينية، وساروا نحو بلاد الأكراد الهكّاريّة من أعمال الموصل فأثخنوا فيهم، وعاثوا في البلاد. ثم كرّ عليهم الأكراد فنالوا منهم وافترقوا في الجبال وتمزّقوا.
وبلغهم مسير نيال أخي السلطان طغرلبك وهم في الريّ وكانوا شاردين منه فأجفلوا من الريّ، وقصدوا ديار بكر والموصل سنة ثلاث وثلاثين واربعمائة ونزلوا جزيرة ابن عمر، ونهبوا باقردى وبازبدى والحسنية وغدر سليمان بن نصير الدولة بن مروان بأمير منهم، وهو منصور بن عزعنيل فقبض عليه وحبسه، وافترق أصحابه في كل جهة.(4/333)
وبعث نصير الدولة بن مروان عسكرا في اتباعهم، وأمدهم قراوش صاحب الموصل بعسكر آخر، وانضم إليهم الأكراد البثنويّة أصحاب فتك فأدركوهم فاستمات الغزّ وقاتلوهم. ثم تحاجزوا، وتوجّهت العرب إلى العراق للمشتى، وأخربت الغزّ ديار بكر، ودخل قراوش الموصل ليدفعهم عنها لما بلغه أن طائفة منهم قصدوا بلده. فلما نزلوا برقعيد عزم على الإغارة عليهم، فتقدّموا إليه فرجع إلى مصانعتهم بالمال على ما شرطوه. وبينما هو يجمع لهم المال وصلوا الى الموصل فخرج قراوش في عسكره وقاتلهم عامّة يومه. وعادوا للقتال من الغد فانهزمت العرب وأهل البلد، وركب قراوش سفينة في الفرات، وخلّف جميع ماله. ودخل الغزّ البلد ونهبوا ما لا يحصى من المال والجوهر والحلي والأثاث، ونجا قراوش إلى السند، وبعث إلى الملك جلال الدولة يستنجده، وإلى دبيس بن عليّ بن مزيد وأمراء العرب والأكراد يستمدّهم، وأفحش الغزّ في أهل الموصل قتلا ونهبا وعيثا في الحرم. وصانع بعض الدروب والمحال منها عن أنفسهم بمال ضمنوه فكفّوا عنهم وسلموا. وفرضوا على أهل المدينة عشرين ألف دينار فقبضوها، ثم فرضوا أربعة آلاف أخر وشرعوا في تحصيلها فثار بهم أهل الموصل. وقتلوا من وجدوا منهم في البلد. ولما سمع إخوانهم اجتمعوا ودخلوا البلد عنوة منتصف سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ووضعوا السيف في الناس واستباحوها اثني عشر يوما، وانسدت الطرق من كثرة القتلى حتى واروهم جماعات في الحفائر. وطلبوا الخطبة للخليفة ثم لطغرلبك، وطال مقامهم بالبلد، فكتب الملك جلال الدولة بن بويه ونصير الدولة بن مروان إلى السلطان طغرلبك يشكون منهم، فكتب إلى جلال الدولة معتذرا بأنهم كانوا عبيدا وخدما لنا فأفسدوا في جهات الريّ فخافوا على أنفسهم وشردوا. ويعده بأنه يبعث العساكر إليهم، وكتب إلى نصير الدولة بن مروان يقول له: بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك فصانعتهم بالمال، وأنت صاحب ثغور ينبغي أن تعطي ما تستعين به على الجهاد، ويعده أنه يرسل من يدفعهم عن بلاده.
ثم سار دبيس بن مزيد إلى قراوش مددا، واجتمعت إليه بنو عقيل، وساروا من السنّ إلى الموصل فتأخر الغزّ إلى تل أعفر، وأرسلوا إلى أصحابهم بديار بكر ومقدمهم ناصفلي وبوقا فوصلوا إليهم وتزاحفوا مع قراوش في رمضان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فقاتلوهم إلى الظهر، وكشفوا العرب عن حللهم. ثم استماتت العرب فانهزمت الغزّ وأخذهم السيف ونهب العرب أحياءهم، وبعثوا برءوس القتلى إلى(4/334)
بغداد واتبعهم قراوش إلى نصيبين ورجع عنهم. وقصدوا ديار بكر فنهبوها، ثم أرزن الروم كذلك ثم أذربيجان، ورجع قراوش إلى الموصل.
(استيلاء بدران بن المقلد على نصيبين)
قد تقدّم لنا محاصرة بدران نصيبين ورحيله عنها من أخيه قراوش. ثم اصطلحا بعد ذلك واتفقا وتزوّج نصير الدولة ابنة قراوش فلم يعدل بينها وبين نسائه، وشكت إلى أبيها فبعث عنها. ثم هرب بعض عمّال ابن مروان إلى قراوش وأطمعه في الجزيرة فتعلّل عليه قراوش بصداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار. وطلب الجزيرة ونصيبين لأخيه بدران فامتنع ابن مروان من ذلك، فبعث قراوش جيشا لحصار الجزيرة وآخر مع أخيه بدران لحصار نصيبين. ثم جاء بنفسه وحاصرها مع أخيه، وامتنعت عليه وتسلّلت العرب والأكراد إلى نصير الدولة بن مروان بميّافارقين. وطلب منه نصيبين فسلّمها إليه، وأعطى قراوش من صداق ابنته خمسة عشر ألف دينار. وكان ملك ابن مروان في دقوقا، فزحف إليه أبو الشوك من أمراء الأكراد فحاصره بها، وأخذها من يده عنوة، وعفا عن أصحابه. ثم توفي بدران سنة خمس وعشرين وأربعمائة وجاء ابنه عمر إلى قراوش فأقرّه على ولاية نصيبين، وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحاصروه، فسار إليهم ودافعهم عنها.
(الفتنة بين قراوش وغريب بن معن)
كانت تكريت لأبي المسيّب رافع بن الحسين من بني عقيل، فجمع غريب جمعا من العرب والأكراد، وأمدّه جلال الدولة بعسكر، وسار إلى تكريت فحاصرها.
وكان رافع بن الحسين عند قراوش بالموصل، فسار لنصره بالعساكر، ولقيه غريب في نواحي تكريت فانهزم، واتبعه قراوش ورافع، ولم يتعرّضوا لمحلّته وماله. ثم تراسلوا واصطلحوا.(4/335)
(فتنة قراوش وجلال الدولة وصلحهما)
كان قراوش قد بعث عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت، واستجار خميس بجلال الدولة فبعث إليه بالكفّ عنه فلم يفعل، فسار بنفسه يحاصره، وكتب إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم عن جلال الدولة. وسار جلال الدولة إلى الأنبار فامتنعت عليه، وسار قراوش للقائه وأعوزت عساكر جلال الدولة الأقوات. ثم اختلفت عقيل على قراوش، وبعث إلى جلال الدولة بمعاودة الطاعة، فتحالفا وعاد كل إلى بلده.
(أخبار ملوك القسطنطينية لهذه العصور)
كان بسيل وقسطنطين قد تزوّج أبوهما أمّهما في يوم عيد، ركب إلى الكنيسة فرآها في النظارة فشغف بها. وكان أبوها من أكابر الروم فخطبها منه، وتزوّجها وولدت الولدين ومات أبوهما وهما صغيران. وتزوّجت بعده بمدّة نقفور، وملك وتصرّف وأراد أن يجبّ [1] ولديها. وأغرت الدمشق [2] بقتله فقتله وتزوّجت به. وأقامت معه سنة، ثم خافها وأخرجها بولديها إلى دير بعيد فأقامت فيه سنة أخرى. ثم دسّت إلى بعض الرهبان ليقتل الدمشق، فأقام بكنيسة الملك يتحيّل لذلك، حتى جاء الملك واستطعمه القربان في العيد من يده، فدسّ له معه سمّا ومات. وجاءت هي قبل العيد بليال الى القسطنطينية فملك ولدها بسيل واستبدّت عليه لصغره. فلما كبر سار لقتال البلغار في بلادهم، وبلغه وهو لك وفاتها فأمر خادما له بتدبير الأمر في غيبته بالقسطنطينية. وأقام في قتال البلغار أربعين سنة. ثم انهزم وعاد إلى القسطنطينية وتجهّز ثانية، وعاد إليهم فظفر بهم وقتل ملكهم وملك بلادهم. ونقل أهلها إلى بلاد الروم. قال ابن الأثير: وهؤلاء البلغار الذين ملك بلادهم بسيل غير الطائفة المسلمة
__________
[1] أي ان يخصيهما.
[2] هو الدمستق: ابن الأثير ج 9 ص 497.(4/336)
منهم، وهؤلاء أقرب من أولئك إلى بلاد الروم بشهرين، وكلاهما بلغار انتهى.
وكانت بسيل عادلا حسن السيرة، وملك على الروم نيفا وسبعين سنة. ولما مات ملك أخوه قسطنطين، ثم مات وخلّف بناتا ثلاثا فملكت الكبرى وتزوّجت بأرمانوس من بيت ملكهم، وهو الّذي ملك الرّها من المسلمين، وكان له من قبل الملك رجل يخدمه من السوقة الصيارفة اسمه ميخاييل فاستخلصه وحكّمه في دولته، فمالت زوجة أرمانوس إليه، وأعملا الحيلة في قتل الملك أرمانوس فقتلاه خنقا وتزوجته على كره من الروم. ثم عرض لميخائيل هذا مرض شوّه خلقته فعهد بالملك إلى ابن أخيه واسمه ميخاييل، فملك بعده وقبض على أخواله وإخوتهم وضرب الدنانير باسمه سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ثم أحضر زوجته بنت الملك وحملها على الرهبانية والخروج له عن الملك، وضربها ونفاها إلى جزيرة في البحر. ثم اعتزم على قتل البطرك للراحة من تحكّمه، فأمره بالخروج إلى الدير لعمل وليمة يحضرها عنده، وأرسل جماعة من الروم وبلغار لقتله، فبذل لهم البطرك مالا على الإبقاء، ورجع إلى بيعته، وحمل الروم على عزل ميخاييل، فأرسل إلى زوجته الملكة من الجزيرة التي نفاها إليها فلم تفعل، وأقبلت على رهبانيتها فخلعها البطرك من الملك، وملكت أختها الصغيرة بدرونة، وأقاموا من خدم أبيها من يدبّر ملكها، وخلعوا ميخاييل، وقاتل أشياعه أشياع بدرونة فظفر بهم أشياع بدرونة ونهبوهم. وفزع الروم إلى التماس ملك يدبّرهم، وقارعوا بين المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين فملّكوه وتزوّجته الملكة الكبرى، ونزلت لها الصغيرة عن الملك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم خرج خارجي من الروم اسمه ميناس وكثر جمعه وبلغ عشرين ألفا، وجهّز قسطنطين إليه العساكر فقتلوه وسيق رأسه إليه، وافترق أصحابه. ثم ورد على القسطنطينية سنة خمس وثلاثين مراكب للروم ووقعت منها محاورات نكرها الروم فحاربوهم، وكانوا قد فارقوا مراكبهم إلى البرّ فأحرقوها وقتلوا الباقين.
(الوحشة بين قراوش والأكراد)
كان للأكراد عدّة حصون تجاور الموصل، فمنها للحميديّة قلعة العقر وما إليها، ابن خلدون م 22 ج 4(4/337)
وصاحبها أبو الحسن بن عكشان وللهدبانيّة قلعة إربل وأعمالها، وصاحبها أبو الحسن ابن موشك، [1] ونازعه أخوه أبو علي بن أربل فأخذها منه بإعانة ابن عكشان، وأسر أخاه أبا الحسن. وكان قراوش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل مشغولين بالعراق فنكرا ذلك لمّا بلغهما. ورجعا إلى الموصل، فطلب قراوش من الحميديّ والهدبانيّ النجدة على نصير الدولة بن مروان، فجاء الحميدي بنفسه، وبعث الهدباني أخاه.
وأصلح قراوش ونصير الدولة. ثم قبض على عكشان وصالحه على إطلاق أبي الحسن ابن موشك، وامتنع أخوه أبو علي وكان عكشان عونا عليه، فأجاب ورهن في ذلك ولده. ثم أرسل أبا علي في ذلك الأمر، وحضر بالموصل ليسلّم أربل إلى أخيه أبي الحسن، وسلّم قراوش إليه قلاعه. وخرج ابن عكشان وأبو علي ليسلّما إربل إلى أبي الحسن بن موشك، فغدرا به وقبضا على أصحابه، وهرب هو إلى الموصل وتأكّدت الوحشة بينهما وبين قراوش.
(خلع قراوش بأخيه أبي كامل ثم عوده)
ثم وقعت الفتنة بين معتمد الدولة قراوش وأخيه زعيم الدولة أبي كامل، وكان سببها أنّ قريشا ابن أخيهما بدران فتن عمّه أبا كامل، وجمع عليه الجموع وأعانه عمّه الآخر. واستمدّ قراوش بنصير الدولة بن مروان فبعث إليه بابنه سليمان. وأمدّه الحسن ابن عكشان وغيرهما من الأكراد وساروا إلى معلابا [2] فنهبوها وأحرقوها. ثم اقتتلوا في المحرّم سنة إحدى وأربعين يوما وثانيا، ووقفت الأكراد ناحية عن المصاف ولم يغشوا المجال. وتسلّل عن قراوش بعض جموعه من العرب إلى أخيه، وبلغه أنّ شيعة أخيه أبي كامل بالأنبار ووثبوا فيها وملكوها فضعف أمره، وأحس من نفسه الظهور عليه.
ولم يبرح فركب أخوه أبو كامل وقصد حلّته، فركب قراوش للقائه، وجاء به أبو كامل لحلّته ثم بعث به إلى الموصل ووكّل به. وملك أبو كامل الموصل واشتطّ عليه
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 549: «وكان للحميد به عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها، وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها، وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميديّ، وصاحب إربل ابو الحسن بن موسك الهذبانيّ» .
[2] معلثايا: ابن الأثير ج 9 ص 553.(4/338)
العرب فخاف العجز والفضيحة أن يراجعوا طاعة أخيه فسبقهم إليها، وأعاده إلى ملكه وبايعه على الطاعة. ورجع قراوش إلى ملكه. وكان أبو كامل قد أحدث الفتنة بين البساسيريّ كافل الخلافة ببغداد، وملك الأمراء بها لما فعله بنو عقيل في عراق العجم من التعرّض لإقطاعه، فسار إليهم البساسيري، وجمع أبو كامل بني عقيل ولقيه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم تحاجزوا. فلما رجع قراوش إلى ملكه نزع جماعة من أهل الأنبار إلى البساسيري شاكرين شاكين سيرة قراوش، وطلبوا أن يبعث معهم عسكرا وعاملا إلى بلدهم ففعل ذلك، وملكها من يد قراوش وأظهر فيهم العدل.
(خلع قراوش ثانية واعتقاله)
كان قراوش لمّا أطاعه أخوه أبو كامل بقي معه كالوزير يتصرّف، إلّا أن قراوش أنف من ذلك وأعمل الحيلة في التخلّص منه، فخرج من الموصل سائرا إلى بغداد، وشقّ ذلك على أخيه أبي كامل فأرسل إليه أعيان قومه ليردّوه طوعا أو كرها فلاطفوه أوّلا، وشعر منهم بالدخيلة فأجاب إلى العود وشرط سكنى دار الإمارة، فلما جاء إلى أبي كامل قام بمبرّته وإكرامه ووكّل به من يمنعه [1] التصرّف.
(وفاة أبي كامل وولاية قريش بن بدران)
لما ملك قريش بن بدران وحبس عمّه بقلعة الجراحيّة، ارتحل يطلب العراق سنة أربع وأربعين وأربعمائة فانتقض عليه أخوه المقلّد، وسار إلى نور الدولة دبيس بن مزيد فنهب قريش حلله، وعاد إلى الموصل، واختلف العرب عليه، ونهب عمّال الملك الرحيم ما كان لقريش بنواحي العراق. ثم استمال قريش العرب عليه، ونهب عمّال الملك الرحيم ما كان لقريش بن المسيّب صاحب الحظيرة مخالفا عليه. وبعث قريش بعض أصحابه فلقيهم، وأوقع بهم فسار إليه قريش، ولقيه فهزمهم واتبعه إلى حلل بلاد ابن غريب ونبهبها. ودخل العراق وبعث إلى عمّال الملك الرحيم
__________
[1] مقتضى السياق: فيمنعه. ولعله تحريف من الناسخ لأنه لا معنى ليمنعه هنا.(4/339)
بالطاعة وضمان ما كان عليه في أعماله فأجابوه إلى ذلك لشغل الملك الرحيم بخوزستان فاستقرّ أمره وقوي. (وفاة قراوش) وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة هذه توفي معتمد الدولة أبو منيع قراوش بن المقلّد بمحبسه في قلعة الجراحيّة وحمل الى الموصل ودفن بها ببلد نينوى شرقيها، وكان من رجال العرب.
(استيلاء قريش على الأنبار)
وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة زحف قريش بن بدران من الموصل ففتح مدينة الأنبار وملكها من يد عمال البساسيري. وسار البساسيري إلى الأنبار فاستعادها.
(حرب قريش بن بدران والبساسيري ثم اتفاقهما وخطبة قريش لصاحب مصر)
كان قريش بن بدران قد بعث بطاعته إلى طغرلبك وهو بالريّ، وخطب له بجميع أعماله، وقبض على الملك الرحيم. وكان قريش معه فنهب معسكره واختفى، وسمع به السلطان فأمّنه ووصل إليه فأكرمه وردّه إلى عمله. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم عند مسيره من واسط إلى بغداد، ومسير طغرلبك من حلوان. وقصد نور الدولة دبيس بن مزيد للمصاهرة بينهما. وكان سبب مفارقة البساسيري للملك الرحيم كتاب القائم له بإبعاده لاطلاعه على كتابه إلى خليفة مصر، فلما وصل قريش بن بدران إلى بغداد وعظم استيلاء السلطان طغرلبك على الدولة، بعث جيشا وزحف البساسيري للقائهم ومعه نور الدولة دبيس، فالتقوا بسنجار، فانهزم قريش وقطلمش وأصحابهما، وقتل كثير منهم وعاث أهل سنجار فيهم، وسار بهم إلى الموصل وخطب بها للمستنصر خليفة مصر، وقد كانوا بعثوا إليه بطاعتهم من قبل، فبعث إليهم بالخلع ولقريش جملتهم.(4/340)
(استيلاء طغرلبك على الموصل وولاية أخيه نيال عليها ومعاودة قريش الطاعة)
كان السلطان طغرلبك لمّا طال مقامه ببغداد، ساء أثر عساكره في الرعايا، فبعث القائم وزيره رئيس الرؤساء أن يحضر عميد الملك المكندريّ وزير طغرلبك ويعظه في ذلك، ويهدّده برحيل القائم عن بغداد فبلغه خلال ذلك شأن الموصل، فرحل إليها وحاصر تكريت ففتحها وقبل من صاحبها نصر بن عيسى من بني عقيل ما لا بدّ له منه. ورحل عنه فمات نصر وولي بعده أبو الغنائم البحلبان [1] فأصلح حاله مع رئيس الرؤساء، ورحل السلطان من البواريج [2] وكان في انتظار أخيه ياقوتي بن تنكير [3] . ثم توجه السلطان إلى نصيبين وبعث هزارسب إلى البريّة لقتال العرب وفيهم قريش ودبيس وأصحاب حرّان والرقّة من نمير فأوقع بهم، ونال منهم وأسر جماعة فقتلهم.
وعاد إلى السلطان طغرلبك فبعث إليه قريش ودبيس بطاعتهما، وأن يتوسط لهما عند السلطان، فعفا السلطان عنهما، وقال للبساسيري: ردّهما إلى الخليفة فيرى ما عندهما. فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة وتبعه إنزال بغداد ومقبل بن المقلّد وجماعة من بني عقيل، وبعث السلطان إلى قريش ودبيس هزارسب بن تنكير ليقضي ما عندهما ويحضرهما، وكان ذلك بطلبهما ثم خافا على أنفسهما، فبعث قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر ودبيس ابنه بهاء الدولة منصورا فقبلهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما، وكان لقريش من الأعمال: الموصل ونصيبين وتكريت وأوانا ونهر بيطر وهيت والأنبار وبادرون ونهر الملك. ثم قصد السلطان ديار بكر ووصل إليه أخوه إبراهيم نيال، وأرسل هزارسب إلى قريش ودبيس يحذّرهما منه. وسار لسنجار لأجل واقعته مع قريش ودبيس، فبعث العساكر إليها واستباحوها وقتل أميرها علي بن مرحا وخلق كثير من أهلها رجالا ونساء، وشفع إبراهيم نيال في الباقين فكفّ
__________
[1] ابن المحلبان: ابن الأثير ج 9 ص 627
[2] البوازيج: المرجع السابق وقد مرّ ذكرها من قبل.
[3] كذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 627- 628: «فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر، فسار بهم الى الموصل، وأقطع مدينة بلد لهزارسب بن بنكير، فأجفل البلاد الى بلد ... » .(4/341)
عنهم، وأقطع سنجار والموصل وتلك الأعمال كلها لأخيه إبراهيم نيال، وعاد إلى بغداد فدخلها في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
(مفارقة نيال الموصل وما كان لقريش فيها وفي بغداد مع البساسيري وحبسهما القائم)
وفي سنة خمسين وأربعمائة خرج إبراهيم نيال [1] من الموصل إلى بلاد الروم، فخشي طغرلبك أن يكون منتقضا، وبادر بكتابه وكتاب الخليفة إليه، فرجع وخرج الوزير الكندريّ للقائه. وخالفه البساسيري وقريش إلى الموصل فملكها وحاصر القلعة حتى استأمن أهلها على يد ابن موسك وصاحب أربد فأمّناهم وهدما القلعة. وسار السلطان طغرلبك من وقته إلى الموصل ففارقها، واتبعهما إلى نصيبين ففارقه أخوه نيال في رمضان سنة خمسين وأربعمائة. وسار السلطان طغرلبك في أثره وحاصره بهمذان، وجاء البساسيري إلى بغداد وكان هزارسب بواسط، ودبيس ببغداد قد استدعاه الخليفة للدفاع فسئم المقام، ورجع إلى بلده، وجاء البساسيري وقريش ووزير بني بويه أبو الحسن بن عبد الرحيم ونزلوا بجوانب بغداد، ونزل عميد العراق بالعسكر قبالة البساسيري ورئيس الرؤساء وزير الخليفة قبالة الآخرين. وخطب البساسيري للمستنصر صاحب مصر بجوامع بغداد وأذّن بحيّ على خير العمل. ثم استعجل رئيس الرؤساء الحرب فاستجده القوم، ثم كرّوا عليه فهزموه واقتحموا حريم الخلافة، وملكوا القصور بما فيها، وركب الخليفة فوجد عميد العراق قد استأمن إلى قريش بن بدران فاستأمن هو كذلك، وأمّنهما قريش وأعادهما. وعذله البساسيري في الانفراد بذلك دونه، وقد تعاهدا على خلاف ذلك فاستعتب له بالوزير رئيس الرؤساء، ودفعه إليه وأقام الخليفة والعميد عنه، فقتل البساسيري الوزير ابن عبد الرحيم، وبعث قريش بالخليفة القائم مع ابن عمّه مهارش بن نجلى [2] إلى حديثة عانة فأنزله بها مع أهله وحرمه وحاشيته، حتى إذا فرغ السلطان
__________
[1] اسمه نيال وقد مرّ معنا في السابق. ابن الأثير ج 9 ص 639.
[2] مهارش بن المجلي: ابن الأثير ج 9 ص 643.(4/342)
طغرلبك من أمر أخيه نيال وقتله ورجع إلى بغداد بعث البساسيري وقريش في إعادة القائم إلى داره فامتنع، وأجفل عن بغداد في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وشمل النهب مدينة بغداد وضواحيها من بني شيبان وغيرهم، وبعث السلطان طغرلبك الإمام أبا بكر محمد بن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة وبابنة أخيه زوجة الخليفة أرسلان خاتون، وأنه بعث ابن فورك لإحضارهما، وكتب قريش إلى مهارش ابن عمّه بأن يلحق به هو والخليفة في البريّة فأبى، وسار بالخليفة إلى العراق وجعل طريقه على الريّ، ومرّ ببدر بن مهلهل فخدم القائم وخرج السلطان للقاء الخليفة، وقدّم إليه الأموال والآلات، وعرضه أرباب الوظائف ولقيه بالنهروان، وجاء معه إلى قصره كما تقدّم في أخباره. وبعث السلطان خبارتكين الطّغرائيّ في العساكر لاتباع البساسيري والعرب، وجاء إلى الكوفة واستصحب سرايا ابن منيع ببني خفاجة. وسار السلطان في أثرهم وصبحت السريّة البساسيري في حلّة دبيس بن مزيد من الكوفة فنهبوها، وفرّ دبيس، وقاتل البساسيري وأصحابه فقتل في المعركة.
(وفاة قريش بن بدران وولاية ابنه مسلم)
ثم توفي قريش بن بدران سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ودفن بنصيبين، وجاء فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من دارا وجمع بني عقيل على ابنه أبي المكارم مسلم بن قريش فولّوه عليهم، واستقام أمره وأقطعه السلطان سنة ثمان وخمسين الأنبار وهيت وحريم والسّن والبواريح، ووصل إلى بغداد فركب الوزير ابن جهير في المركب للقائه. ثم سار سنة ستين وأربعمائة إلى الرّحبة فقاتل بها بني كلاب وهم في طاعة المستنصر العلويّ فهزمهم وأخذ أسلابهم، وبعث بأشلائهم وعليها سمات العلويّة فطيف بها منكّسة ببغداد.
(استيلاء مسلم بن قريش على حلب)
وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة سار شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل إلى(4/343)
مدينة حلب فحاصرها، ثم أفرج عنها فحاصرها تتش بن آلب أرسلان، وقد كان ملك الشام سنة إحدى وسبعين قبلها فأقام عليها أياما. ثم أفرج عنها وملك بزاغة والبيرة، وبعث أهل حلب الى مسلم بن قريش بأن يمكّنوه من بلدهم ورئيسها يومئذ ابن الحسين العبّاسيّ، فلما قرب منهم امتنعوا من ذلك فترصّد لهم بعض التركمان وهو صاحب حصن بنواحيها. وأقام كذلك أياما حتى صادف ابن الحسين يتصيّد في ضيعته فأسره، وبعث به إلى مسلم بن قريش فأطلقه على أن يسلّموا له البلد، فلما عاد إلى البلد تمّم له ذلك، وسلّم له البلد. فدخله سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة واستنزل منها سابغا ووثّابا ابني محمد بن مرداس، وبعث ابنه إبراهيم وهو ابن عمّة السلطان إلى السلطان يخبره بملك حلب وسأل أن يقدّر عليه ضمانه فأجابه السلطان إلى ذلك، وأقطع ابنه محمدا مدينة بالس. ثم ساره مسلم إلى حرّان وأخذها من بني وثّاب النميريّين وأطاعه صاحب الرّها ونقش السكة باسمه.
(حصار مسلم بن قريش دمشق وعصيان أهل حران عليه)
وفي سنة ست وسبعين وأربعمائة سار شرف الدولة إلى دمشق فحاصرها، وصاحبها تتش فخرج في عسكره وهزم مسلم بن قريش فارتحل عنها راجعا إلى بلاده. وقد كان استمدّ أهل مصر فلم يمدّوه، وبلغه الخبر بأنّ أهل حرّان نقضوا الطاعة، وأنّ ابن عطيّة وقاضيها ابن حلية عازمون على تسليم البلد للترك، فبادر الى حرّان وصالح في طريقه ابن ملاعب صاحب حمص، وأعطاه سليمة ورفسة [1] ، وحاصر حرّان وخرّب أسوارها، واقتحمها عنوة وقتل القاضي وابنه.
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 129: «في هذه السنة- 476 عصى أهل حرّان على شرف الدولة مسلم بن قريش، وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة، وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى جبق، أمير التركمان، وكان شرف الدولة على دمشق يحاصر تاج الدولة تتش بها، فبلغه الخبر، فعاد إلى حرّان وصالح ابن ملاعب صاحب حمص وأعطاه سلميّة ورفنيّة. وبادر بالمسير الى حرّان» .(4/344)
(حرب ابن جهير مع مسلم بن قريش واستيلاؤه على الموصل ثم عودها إليه)
كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن أحمد بن جهير من أهل الموصل، واتصل بخدمة بني المقلّد ثم استوحش من قريش بن بدران واستجار ببعض رؤساء بني عقيل فأجاروه منه. ومضى إلى حلب فاستوزره معزّ الدولة أبو ثمال بن صالح. ثم فارقه إلى نصير الدولة بن مروان بديار بكر فاستوزره. ولما عزل القائم وزيره أبا الفتح محمد بن منصور بن دارس استدعاه للوزارة، فتحيّل في المسير إلى بغداد، واتبعه ابن مروان فلم يدركه. ولما وصل إلى بغداد استوزره القائم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وطغرلبك يومئذ هو السلطان المستبد على الخلفاء. واستمرّت وزارته وتخلّلها العزل في بعض المرّات إلى أن مات القائم، وولي المقتدي، وصارت السلطنة إلى ملك شاه فعزله المقتدي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بشكوى نظام الملك إلى الخليفة به، وسؤاله عزله فعزله، وسار ابنه عميد الدولة إلى نظام الملك بأصفهان واستصلحه وشفع فيه إلى المقتدي، فأعاد ابنه عميد الدولة. ثم عزله سنة ست وسبعين وأربعمائة فبعث السلطان ملك شاه ونظام الملك الى المقتدي بتخلية سبيل بني جهير إليه فوفدوا عليه بأصفهان، ولقوا منه مبرّة وتكرمة. وعقد السلطان ملك شاه لفخر الدولة على ديار بكر، وبعث معه العساكر وأمره أن يأخذ البلاد من ابن مروان، وأن يخطب لنفسه بعد السلطان وينقش اسمه على السكة كذلك فسار لذلك، وتوسّط ديار بكر.
ثم أردفه السلطان سنة سبع وسبعين وأربعمائة بالعساكر مع الأمير أرتق جد الملوك بماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان عند ما أحسّ بمسير العساكر إليه، بعث إلى شرف الدولة مسلم بن قريش يستنجده على أن يعطيه آمد من أعماله. فجاء إلى آمد وفخر الدولة بنواحيها، وقد ارتاب من اجتماع العرب على نصرة ابن مروان ففتر عزمه عن لقائهم، وسارت عساكر الترك الذين معه فصبّحوا العرب في أحيائهم فانهزموا، وغنموا أموالهم ومواشيهم، ونجا شرف الدولة إلى آمد، وحاصره فخر الدولة فيمن معه من العساكر. وبعث مسلم بن قريش إلى الأمير أرتق يقضي عنه في الخروج من آمد على مال بذله له فأغضى له وخرج إلى الرقّة. وسار أحمد بن جهير الى ميّافارقين(4/345)
بلد ابن مروان لحصارها، ففارقه بهاء الدولة منصور بن مزيد وابنه سيف الدولة صدقة إلى العراق، وسار ابن جهير إلى خلاط وكان السلطان ملك شاه لما بلغه انحصار مسلم بن قريش بآمد، بعث عميد الدولة آقسنقر جدّ الملك العادل محمود في عساكر الترك، ولقيهم الأمير أرتق في طريقهم سائرا إلى العراق فعاد معهم وجاءوا إلى الموصل فملكوها، وسار السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش وانتهى إلى البواريح، وقد خلص مسلم بن قريش من الحصار بآمد، ووصل إلى الرّحبة، وقد ملكت عليه الموصل، وذهبت أمواله فراسل مؤيد الملك بن نظام الملك فتوسّل به فتقبل وسيلته وأذن له في الوصول الى السلطان بعد أن أعطاه من العهد ما رضي به.
وسار مسلم بن قريش من الرّحبة فأحضره مؤيّد الملك عند السلطان، وقدّم هديّة فاخرة من الخيل وغيرها، ومن جملتها فرسه الّذي نجا عليه، وكان لا يجارى فوقع من السلطان موقعا وصالحه وأقرّه على بلاده فرجع إلى الموصل وعاد السلطان إلى ما كان بسبيله.
(مقتل مسلم بن قريش وولاية ابنه إبراهيم)
قد قدّمنا ذكر قطلمش قريب السلطان طغرلبك، وكان سار إلى بلاد الروم فملكها، واستولى على قونية وأقصراي، ومات فملك مكانه ابنه سليمان، وسار إلى أنطاكية سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وأخذها من يد الروم كما نذكر في أخباره. وكان لشرف الدولة مسلم بن قريش بأنطاكيّة جزية يؤدّيها إليه صاحبها الفردروس [1] من زعماء الروم، فلمّا ملكها سليمان بن قطلمش بعث إليه يطالبه بتلك الجزية، ويخوّفه معصية السلطان فأجابه بأني على طاعة السلطان وأمري فيها غير خفي، وأمّا الجزية فكانت مضروبة على قوم كفّار يعطونها عن رءوسهم، وقد أدال الله منهم بالمسلمين ولا جزية عليهم فسار شرف الدولة، ونهب جهات انطاكية. وسار سليمان فنهب جهات حلب وشكت إليه الرعايا فردّ عليهم. ثم جمع شرف الدولة جموع العرب وجموع التركمان مع أميرهم جقّ، وسار إلى أنطاكية فسار سليمان للقائه والتقيا في أعمال أنطاكية في صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ولما التقوا مال الأمير جقّ بمن
__________
[1] اسمه الحقيقي الكسندروس.(4/346)
معه من التركمان إلى سليمان فاختلّ مصاف مسلم بن قريش، وانهزمت العرب عنه وثبت فقتل في أربعمائة من أصحابه، وكان ملكه قد اتسع من نهر عيسى وجميع ما كان لأبيه وعمّه قراوش من البلاد. وكانت أعماله في غاية الخصب والأمن، وكان حسن السياسة كثير العدل. ولما قتل مسلم اجتمع بنو عقيل وأخرجوا أخاه إبراهيم من محبسه، بعد أن مكث فيه سنين مقيّدا حتى أفسد القيد مشيته، فأطلقوه وولّوه على أنفسهم مكان أخيه مسلم. ولما قتل مسلم سار سليمان بن قطلمش إلى أنطاكية وحاصرها شهرين فامتنعت عليه ورجع. وفي سنة تسع وسبعين وأربعمائة بعدها بعث عميد العراق عسكرا إلى الأنبار فملكها من يد بني عقيل. وفيها أقطع السلطان ملك شاه مدينة الرّحبة وأعمالها وحرّان وسروج والرقّة والخابور لمحمد بن شرف الدولة مسلم ابن قريش، وزوّجه بأخته خاتون زليخة فتسلّم جميع هذه البلاد، وامتنع محمد بن المشاطر من تسليم حرّان فأكرهه السلطان على تسليمها.
(نكبة إبراهيم وتنازع محمد وعلي ابني مسلم بعده على ملك الموصل ثم استيلاء علي عليها)
لم يزل إبراهيم بن قريش ملكا بالموصل وأميرا على قومه بني عقيل، حتى استدعاه السلطان ملك شاه سنة اثنتين وثمانين فلمّا حضر اعتقله، وبعث فخر الدولة ابن جهير على البلاد فملك الموصل وغيرها، وأقطع السلطان عمّته صفيّة مدينة بلد، وكانت زوجا لمسلم بن قريش ولها منه ابنه عليّ، وتزوّجت بعده بأخيه إبراهيم. فلما مات ملك شاه ارتحلت صفيّة الى الموصل ومعها ابنها عليّ بن مسلم، وجاءه أخوه محمد بن مسلم وتنازعا في ملك الموصل وانقسمت العرب عليهما. واقتتلوا على الموصل فانهزم محمد وملك عليّ ودخل الموصل وانتزعها من يد ابن جهير.
(عود إبراهيم الى ملك الموصل ومقتله)
لما مات ملك شاه واستبدّت تركمان خاتون بعده بالأمور، وأطلقت إبراهيم من(4/347)
الاعتقال، فبادر الى الموصل، فلما صار بها سمع أنّ عليّ ابن أخيه مسلم قد ملكها ومعه أمّه صفيّة عمّة ملك شاه فبعث إليها، وتلطّف بها فدفعت إليه ملك الموصل فدخلها وكان تتش صاحب الشام أخو ملك شاه قد طمع في ملك العراق. واجتمع إليه الأمراء بالشام وجاء آق سنقر صاحب حلب، وسار إلى نصيبين فملكها وبعث إلى إبراهيم أن يخطب له ويسهّل طريقه إلى بغداد، فامتنع إبراهيم من ذلك فسار تتش ومعه آق سنقر وجموع الترك. وخرج إبراهيم للقائه في ثلاثين ألفا. والتقى الفريقان بالمغيم فانهزم إبراهيم، وقتل وغنم الترك حللهم وقتل كثير من نساء العرب أنفسهنّ خوفا من الفضيحة، واستولى تتش على الموصل.
ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم استيلاء كربوقا وانتزاعه إياها من يده وانقراض أمر بني المسيب من الموصل
ولما قتل إبراهيم وملك تتش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش فدخلها مع أمّه صفيّة عند ملك شاه، واستقرّت هي وأعمالها في ولايته. وسار تتش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه، وتقاتلا فانهزم تتش، وقام بماكنه ابنه رضوان، وملك حلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حرّان فملكها، وكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه ثوران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على عليّ بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقا، وعاد إلى حصار الموصل. واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فسار إليه منجدا له. وبعث كربوقا إليه عسكرا مع أخيه التوتناش فردّه مهزوما إلى الجزيرة فتمسّك بطاعة كربوقا، وجاء مددا له على حصار الموصل. واشتدّ الحصار بعليّ بن مسلم فخرج من الموصل، ولحق بصدقة بن مزيد بالحلّة، وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيّب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغزّ من السلجوقية أمراؤهم والبقاء للَّه وحده.(4/348)
(الخبر عن دولة بني صالح بن مرداس بحلب وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان ابتداء أمر صالح بن مرداس ملك الرّحبة، وهو من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومجالاتهم بضواحي حلب. وقال ابن حزم أنه من ولد عمرو بن كلاب، وكانت مدينة الرّحبة لأبي علي بن ثمال الخفاجيّ، فقتله عيسى بن خلاط العقيلي وملكها من يده، وبقيت له مدّة. ثم أخذها منه بدران بن المقلّد. وزحف لؤلؤ الساري نائب الحاكم بدمشق فملك الرقّة، ثم الرّحبة من يد بدران، وعاد إلى دمشق. وكان رئيس الرّحبة ابن مجلكان فاستبدّ بها، وبعث إلى صالح بن مرداس يستعين به على أمره فأقام عنده مدّة. ثم فسد ما بينهما، وقاتله صالح. ثم اصطلحا، وزوّجه ابن مجلكان ابنته ودخل البلد. ثم انتقل ابن مجلكان إلى عانة بأهله وماله بعد أن أطاعوه وأخذ رهنهم. ثم نقضوا وأخذوا ماله وسار إليهم ابن مجلكان مع صالح فوضع عليه صالح من قتله، وسار إلى الرّحبة فملكها واستولى على أموال ابن مجلكان وأقام دعوة العلويّين بمصر.
(ابتداء أمر صالح في ملك حلب)
قد قدّمنا أن لؤلؤا مولى أبي المعالي بن سيف الدولة استبدّ بحلب على ابنه أبي الفضائل، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العبّاسية وخطب للحاكم العلويّ بمصر. ثم فسد حاله معه وطمع صالح بن مرداس في ملك حلب. وذكرنا هنالك ما كان بين صالح ولؤلؤ من الحروب، وأنه كان له مولى اسمه فتح وضعه في قلعة حلب حافظا لها، فاستوحش وانتقض على لؤلؤ بممالأة صالح بن مرداس، وبايع للحاكم على أن يقطعه صيدا وبيروت، وسوّغه ما كان في حلب من الأموال. ولحق لؤلؤ بأنطاكيّة وأقام عند الروم. وخرج فتح بحرم لؤلؤ وأمّه وتركهنّ في منبج. وترك حلب وقلعتها إلى نوّاب الحاكم وتداولت في أيديهم حتى وليها بعض بني حمدان من قبل الحاكم يعرف بعزيز الملك، اصطنعه الحاكم وولّاه حلب ثم عصى على ابنه الظاهر،(4/349)
وكانت عمّته بنت الملك مدبّرة لدولته، فوضعت على عزيز الملك من قتله، وولّوا على حلب عبد الله بن عليّ بن جعفر الكتامي، ويعرف بابن شعبان الكتامي وعلى القلعة صفيّ الدولة موصوفا الخادم.
(استيلاء صالح بن مرداس على حلب)
ولما ضعف أمر العبيديّين بمصر من بعد المائة الرابعة وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة، تطاولت العرب إلى الاستيلاء على البلاد فاستولى بنو عقيل على الجزيرة، واجتمع عرب الشام فتقاسموا البلاد على أن يكون لحسّان بن مفرّج بن دغفل وقومه طيِّئ من الرملة إلى مصر، ولصالح بن مرداس وقومه بني كلاب من حلب إلى عانة ولحسّان بن عليان وقومه [1] دمشق وأعمالها وكان العامل على هذه البلاد من قبل الظاهر خليفة مصر أنوشتكين إلى عسقلان، وملكها ونهبها حسّان.
وسار صالح بن مرداس إلى حلب فملكها من يد ابن شعبان، وسلّم له أهل البلد ودخلها. وصعد ابن شعبان إلى القلعة فحصرهم صالح بالقلعة حتى جهدهم الحصار، واستأمنوا وملك القلعة وذلك سنة أربع وعشرين وأربعمائة، واتسع ملكه ما بين بعلبكّ وعانة.
(مقتل صالح وولاية ابنه أبي كامل)
ولم يزل صالح مالكا لحلب إلى سنة عشرين وأربعمائة فجهّز الظاهر العساكر من مصر إلى الشام لقتال صالح وحسّان، وعليهم أنوشتكين الدريديّ فسار لذلك، ولقيهما
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 230: «وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق والرملة وعسقلان وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان وتحالفوا واتفقوا على ان يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة الى مصر لحسّان ودمشق لسنان، فسار حسان الى الرملة فحصرها وبها انوشتكين، فسار عنها الى عسقلان، واستولى عليها حسّان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة اربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة قصره» .(4/350)
على الأردنّ بطبريّة، وقاتلهما فانهزما، وقتل صالح وولده الأصغر، ونجا ولده الأكبر أبو كامل نصر بن صالح إلى حلب، وكان يلقّب شبل الدولة. ولما وقعت هذه الواقعة طمع الروم أهل أنطاكية في حلب فزحفوا إليها في عدد كثير.
(مسير الروم الى حلب وهزيمتهم)
ثم سار ملك الروم إلى حلب في ثلاثمائة ألف مقاتل، ونزل قريبا من حلب ومعه ابن الدوقس من أكابر الروم، وكان منافرا له، فخالفه وفارقه في عشرة آلاف مقاتل، ونمي إليه أنّه يروم الفتك به، وأنه دسّ عليه فكرّ راجعا، وقبض على ابن الدوقس واضطرب الروم واتبعهم العرب وأهل السواد الأرمن، ونهبوا أثقال الملك أربعمائة حمل، وهلك أكثر عسكره عطشا. ثم أشرف بعض العرب على معسكره فهربوا وتركوا سوادهم وأموالهم وأكرم الله المسلمين بالفتح.
(مقتل نصر بن صالح واستيلاء الوزيري على حلب)
وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف الوزيري [1] من مصرفي العساكر الى حلب وخليفتهم يومئذ المستنصر، وبرز إليه نصر فالتقوا عند حماة، وانهزم نصر وقتل وملك الوزيري حلّب في رمضان من هذه السنة.
(مهلك الوزيري وولاية ثمال بن صالح)
ولما ملك الوزيري حلب واستولى على الشام عظم أمره، واستكثر من الأتراك في الجند، ونمي عنه إلى المستنصر بمصر ووزيره الجرجاي أنه يروم الخلاف فدس الجرجاي [2] إلى جانب الوزيري والجند بدمشق في الثورة به، وكشف لهم عن سوء
__________
[1] الدزبري: ابن الأثير ج 9 ص 500.
[2] ابو القاسم الجرجرائي: ابن الأثير ج 9 ص 500(4/351)
رأي المستنصر فثاروا به، وعجز عن مدافعتهم فاحتمل أثقاله، وسار إلى حلب، ثم إلى حماة فمنع من دخولها فكاتب صاحب كفر طاب فسار إليه وتبعه إلى حلب ودخلها، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ولما توفي فسد أمر الشام وانحل النظام وتزايد طمع العرب. وكان معز الدولة ثمال بن صالح بالرحبة منذ مهلك أبيه وأخيه فقصد حلب، وحاصرها فملك المدينة وامتنع أصحاب الوزيري بالقلعة.
واستمدوا أهل مصر وشغل الوالي بدمشق بعد الوزيري، وهو الحسين بن حمدان الحرب حسان بن مفرج صاحب فلسطين، فاستأمن أصحاب الوزيري إلى ثمال بن صالح بعد حصاره إياها حولا فأمنهم، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فلم يزل مملكا عليها إلى أن زحفت إليه العساكر من مصر مع أبي عبيداض بن ناصر الدولة بن حمدان، وبلغت جموعهم خمسة آلاف مقاتل فخرج إليهم ثمال، وقاتلهم وأحسن دفاعهم، وأصابهم سيل كاد يذهب بهم فأفرجوا عن حلب، وعادوا إلى مصر. ثم عادت العساكر ثانية من مصر سنة إحدى وأربعين مع رفق الخادم فقاتلهم ثمال وهزمهم، وأسر الخادم رفقا ومات عنده.
(رغبة ثمال عن حلب ورجوعها لصاحب مصر وولاية ابن ملهم عليها)
لم تزل العساكر تتردد من مصر إلى حلب، وتضيق عليها حتى سئم ثمال بن صالح إمارتها، وعجز عن القيام بها، فبعث إلى المستنصر بمصر وصالحه على أن ينزل له عن حلب، فبعث عليها مكين الدولة أبا عليّ الحسن بن ملهم، فتسلمها آخر سنة تسع وأربعين. وسار ثمال إلى مصر ولحق أخوه عطية بن صالح بالرحبة، واستولى ابن ملهم عليها.
(ثورة أهل حلب بابن ملهم وولاية محمود بن نصر بن صالح)
وأقام ابن ملهم بحلب سنتين أو نحوها، بلغه عن أهل حلب أنهم كاتبوا محمود بن نصر(4/352)
بن صالح فقبض عليه، فثار به أهل حلب وحصروه بالقلعة، وبعثوا إلى محمود فجاء منتصف اثنتين وخمسين وأربعمائة وحاصره معهم بالقلعة. واجتمعت معه جموع العرب واستمد ابن ملهم المستنصر، فكتب إلى أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان أن يسير إليه في العساكر، فسار إلى حلب وأجفل محمود عنها، ونزل ابن ملهم إلى البلد ودخلها ناصر الدولة ونهبتها عساكره، وابن ملهم. ثم تواقع محمود وناصر الدولة بظاهر حلب فانهزم ناصر الدولة بن حمدان وأسر فرجع به محمود إلى البلد وملكها وملك القلعة في شعبان من هذه السنة، وأطلق أحمد بن حمدان وابن ملهم فعاد إلى مصر.
(رجوع ثمال بن صالح الى ملك حلب وفرار محمود بن نصر عنها)
لما هزم محمود بن حمدان وأخذ القلعة من يد ابن ملهم. وكان معز الدولة ثمال بن صالح بمصر منذ سلمها للمستنصر سنة تسع وأربعين فسرحه المستنصر الآن، وأذن له في ملك حلب من ابن أخيه، فحاصره في ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة واستنجد محمود بخاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حران، فأمده بنفسه، وجاء لنصره فأفرج ثمال عن حلب وسار إلى البرية في محرم سنة ثلاث وخمسين. ثم عاد منيع إلى حران وملك ثمال حلب في ربيع سنة ثلاث وخمسين وغزا بلاد الروم فظفر وغنم.
(وفاة ثمال وولاية أخيه عطية)
ثم توفي ثمال بحلب قريبا من استيلائه، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة وعهد بحلب لأخيه عطية بن صالح وكان بالرحبة من لدن مسير ثمال إلى مصر فسار وملكها.
ابن خلدون م 23 ج 4(4/353)
(عود محمود الى حلب وملكه إياها من يد عطية)
ولما ملك عطية حلب وكان ذلك عند استيلاء السلجوقية على ممالك العراق والشام وافتراقهم على العمالات. ونزل به قوم منهم فاستخدمهم وقوي بهم. ثم خشي أصحابه غائلتهم فأشاروا بقتلهم، فسلط أهل البلد عليهم فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون، فقصدوا محمود بن نصر بحران فاستنهضوه لملك حلب. وجاءهم فحاصرها وملكها في رمضان سنة خمس وخمسين وأربعمائة واستقام أمره. ولحق عطية عمه بالرقة، فملكها إلى أن أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فسار إلى بلد الروم سنة خمس وستين وأربعمائة واستقام أمر محمود ابن نصر في حلب. وبعث الترك الذين جاءوا في خدمته مع أميرهم ابن خان سنة ستين وأربعمائة إلى بعض قلاع الروم فحاصروها وملكها. وسار محمود إلى طرابلس فحاصرها وصالحوه على مال فأفرج عنهم. ثم سار إليه السلطان البارسلان بعد فراغه من حصار ديار بكر وآمد والرها، ولم يظفر بشيء منها كما نذكر في أخبارهم. وجاء إلى حلب وحاصرها وبها محمود بن نصر. وجاءت رسالة الخليفة القائم بالرجوع إلى الدعوة العباسية فأعادها وسأل من الرسول أزهر أبو الفراس طراد الزيني أن يعفيه السلطان من الحصور عنده فأبى السلطان من ذلك، واشتد الحصار على محمود وأضربهم حجارة المجانيق، فخرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثاب متطارحين على السلطان، فخلع على محمود في حلب آخر ثمان وستين وأربعمائة وعهد لابنه شبيب إلى الترك الذين ملكوا أباه وهم بالحاضر، وقد بلغه عنهم العيث والفساد، فلما دنا من حللهم تلقوه فلم يجبهم، وقاتلهم وأصيب بسهم في تلك الجولة ومات.
(مهلك نصر بن محمود وولاية أخيه سابق)
ولما هلك نصر ملك أخوه سابق. قال ابن الأثير: وهو الّذي أوصى له أبوه بالملك، فلم ينفذ عهده لصغره، فلما ولي استدعى أحمد شاه مقدم التركمان الذين قتلوا أباه فخلع عليه، وأحسن إليه وبقي فيها ملكا.(4/354)
(استيلاء مسلم بن قريش على حلب من يد سابق وانقراض دولة بني صالح بن مرداس)
ولما كانت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة زحف تتش بعد أن ملك دمشق إلى حلب فحاصرها أياما ووجل أهل حلب من ولاية الترك فبعثوا الى مسلم بن قريش ليملكوه ثم بدا لهم في أمره ورجع من طريقه، وكان مقدمهم يعرف بابن الحسين العباسي وخرج ولده متصيدا في ضيعة له فأرسل له بعض أهل القلاع بنواحي حلب من التركمان، وأسره وأرسله إلى مسلم بن قريش فعاهده على تمكينه من البلد، وعاد إلى أبيه فسلم البلد إلى مسلم بن قريش وملكها سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ولحق سابق بن محمود وأخوه وثاب إلى القلعة واستنزلهما بعد أيام على الأمان واستولى على نواحيها. وبعث إلى السلطان ملك شاه بالفتح، وأن يضمن البلد على العادة فأجابه إلى ذلك، وصارت في ولاية مسلم بن قريش إلى أن ملكها السلطان من بعده.
(استيلاء السلطان ملك شاه على حلب وولاية آق سنقر عليها)
قد تقدم لنا أن مسلم بن قريش قتله سليمان بن قطلمش كما مر في أخبار مسلم، فلما قتله أرسل إليه ابن الحسين العباسي مقدم أهل حلب يطلب تسليمها إليه. وكان تتش أيضا قد حاصرها وضيق عليها يطلب ملكها فوعد كلا منهما. ونمي الخبر إلى تتش فسار إلى حلب، وجاءه سليمان بن قطلمش فاقتتلا، وقتل سليمان سنة تسع وسبعين وأربعمائة وبعث برأسه إلى ابن الحسين، فكتب أنه يشاور السلطان ملك شاه في ذلك، فغضب تتش وحاصره، وداخله بعض أهل البلد فغدر به وأدخله ليلا فملك تتش مدينة حلب، وشفع الأمير أرتق بن أكسك من أمراء تتش في ابن الحثيثي وامتنع بالقلعة سالم بن مالك بن بدران ابن المقلد فحاصره تتش وكان ابن الحثيثي قد كاتب السلطان ملك شاه واستدعاه لملك حلب عند ما خاف من أخيه تاج الدولة تتش، فسار إليها من أصفهان سنة تسع وأربعين وأربعمائة ومر بالموصل. ثم تسلم حران(4/355)
من يد ابن الشاطر، وأقطعها لمحمد بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها من يد الروم.
وكانوا اشتروها من ابن عطية، وسار إلى قلعة جعفر [1] فملكها وقتل من بها من بني قشير وأخذ صاحبها جعفرا شيخا أعمى وولدين له، وكانوا يفسدون السابلة ويرجعون إليها. ثم سار إلى منبج فملكها وسار إلى حلب وأخوه تتش يحاصر القلعة سبعة عشر يوما من حصارها، وعاد إلى دمشق وملك السلطان مدينة حلب وقاتل القلعة ساعة من نهار رشقا بالسهام، فأذعن سالم بن مالك بن بدران بالطاعة والنزول عنها على أن يقطعه قلعة جعفر، فأقطعها له السلطان فلم تزل بيده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد [2] . وبعث نصر بن علي بن منقذ الكتاني صاحب شيزر بالطاعة، وولى على حلب قسيم الدولة آق سنقر جد العادل نور الدين الشهيد، وارتحل عائدا إلى العراق. وسأله أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فاستصلحه، وأرسله إلى ديار بكر فنزلها إلى أن توفي على حال شديدة من الفقر والاملاق. والله مالك الأمور لا رب غيره.
(الخبر عن دولة بني مزيد ملوك الحلة وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان بنو مزيد هؤلاء من بني أسد، وكانت محلاتهم من بغداد إلى البصرة إلى نجد وهي معروفة. وكانت لهم النعمانية، وكانت بنو دبيس من عشائرهم في نواحي خوزستان في جزائر معروفة بهم. وكان كبير بني مزيد أبو الحسن علي بن مزيد وأخوه أبو الغنائم.
وسار أبو الغنائم إلى بني دبيس فأقام عندهم، وفر فلم يدركوه، ولحق بناحية أبي الحسن فسار إليهم أبو الحسن، واستمد عميد الجيوش فأمده بعسكر من الديلم في البحر، ولقيهم فانهزم أبو الحسن وقتل أبو الغنائم وذلك سنة إحدى وأربعمائة. فلما كانت سنة خمس وأربعمائة جمع أبو الحسن وسار إليهم لإدراك الثأر بأخيه، وجمع بني دبيس وهم مضر وحسان ونبهان وطراد فاجتمع إليهم العرب ومن في نواحيهم من
__________
[1] قلعة جعبر: ابن الأثير ج 9 ص 149، قلعه على الفرات بين بالس والرقة قرب صفين (معجم البلدان) .
[2] هو نور الدين محمود بن زنكي.(4/356)
الأكراد الشاهجان والحادانية، وتزاحفوا ثم انهزم بنو دبيس، وقتل حسان ونبهان واستولى أبو الحسن بن مزيد على أموالهم وحللهم. ولحق الفل منهم بالجزيرة وقلده فخر الدولة أمر الجزيرة الدبيسية واستثنى منها الطيب وقرقوب. وأقام أبو الحسن هناك. ثم جمع مضر بن دبيس جمعا وكبسه فنجا في فل يسير ولحق ببلد النيل منهزما، واستولى مضر على أمواله وعلى الجزيرة وملكها.
(وفاة علي بن مزيد وولاية ابنه دبيس)
ثم توفي أبو الحسن بن مزيد سنة ثمان وأربعمائة وقام بالأمر مكانه ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وقد كان أبوه عهد لأخيه في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته. فلما ولي بعد أبيه نزع أخوه المقلد إلى بني عقيل فأقام بينهم، وكانت بسبب ذلك بين دبيس وقراوش أميري بني عقيل فتن وحروب. وجمع دبيس عليه بني خفاجة، وملك الأنبار من يده سنة سبع عشرة وأربعمائة ثم انتقض خفاجة على دبيس وأميرهم منيع بن حسان وسار إلى الجامعين فنهبها وملك الكوفة. وصار أمر دبيس وقراوش إلى الوفاق واستوى الأمر على ذلك ومنعت خفاجة بني عقيل من سقي الفرات.
(استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسية)
كانت الجزيرة الدبيسية قد استقرت لطراد بن دبيس، وكان منصور بن الحسين من شعوب بني أسد تغلب عليها، وأخرج طراد بن دبيس عنها سنة ثمان عشرة وأربعمائة ثم مات طراد فسار ابنه أبو الحسن إلى جلال الدولة ببغداد، وكان منصور بن الحسين قد خطب للملك أبي كليجار، وقطع الخطبة لجلال الدولة فسأل منه علي بن طراد أن يبعث معه عسكرا ليخرج منصورا من الجزيرة، فأنفذ معه العسكر، وسار إلى واسط. ثم أغذ السير وكان منصور جمع للقائه، وأعانه بعض أمراء الترك، وهو أبو صالح كركبر. وكان قد هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأعان منصورا على(4/357)
شأنه، ولقوا علي بن طراد فهزموه، وقتلوه وجماعة من الترك الذين بعثهم جلال الدولة لنصرته. واستقر ملك الجزيرة الدبيسية لمنصور بن الحسين.
(فتنة دبيس مع جلال الدولة وحروبه مع قومه)
كان المقلد أخو دبيس بن مزيد قد لحق ببني عقيل كما ذكرناه، وكانت بينه وبين نور الدولة دبيس عداوة، فسار إلى منيع بن حسان أمير خفاجة، واجتمعا على قتال دبيس على خلافة جلال الدين، وخطب لأبي كليجار واستقدمه للعراق فجاء إلى واسط، وبها ابن جلال الدولة ففارقها وقصد النعمانية ففجر عليه البثوق من بلده.
وأرسل أبو كليجار إلى قراوش صاحب الموصل، والأثير عنبر الخادم أن ينحدروا إلى العراق فانحدروا إلى الكحيل. ومات بها الأثير عنبر وجمع جلال الدولة عساكره واستنجد أبا الشوك صاحب بلاد الأكراد، فأنجده وانحدر إلى واسط، وأقام بها وتتابعت الأمطار والأوحال فسار جلال الدولة إلى الأهواز بلد أبي كليجار لينهبها.
وبعث أبو كليجار إليه بأن عساكر محمود بن سبكتكين قد قصدت العراق ليردّه عن الأهواز فلم يلتفت إلى ذلك، وسار ونهب الأهواز، وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فسار إلى مدافعته، وتخلف عنه دبيس خوفا على حلله من خفاجة. والتقى أبو كليجار وجلال الدولة فانهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه كثير. واستولى جلال الدولة على واسط وأعاد إليها ابنه عبد العزيز كما كان. ولما فارق دبيس أبا كليجار وجد جماعة من عشيرته قد خالفوا عليه، وعاثوا في نواحي الجامعين فقاتلهم وظفر بهم، وأسر منهم جماعة منهم: أبو عبد الله الحسين ابن عمه أبي الغنائم، وشبيب وسرايا ووهب بنو.
عمه حماد بن مزيد وحبسهم بالجوسق. ثم جمع المقلد أخوه جموعا من العرب واستمدّ جلال الدولة فأمدّه بعسكر، وقصدوا دبيس فانهزم وأسر جماعة من أصحابه، ونزل المعتقلون بالجوسق فنهبوا حلله. ولحق دبيس بالشريد منهزما فسار به إلى مجد الدولة، وضمن عنه المال المقرّر في ولايته فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه، واستقام حاله. وذهب المقلّد مع جماعة من خفاجة فنهبوا مطيرآباد والنيل أقبح نهب، وعاثوا في منازلها، ولم تكن الحلّة بنيت يومئذ. وعبر المقلّد دجلة إلى أبي الشوك فأقام عنده حتى أصلح أمره
.(4/358)
(الفتنة بين دبيس وأخيه ثابت)
كان أبو قوام ثابت بن علي بن مزيد متصلا بالبساسيري سنة أربع وعشرين وأربعمائة وتزحزح لهم دبيس عن البلاد وملك ثابت النيل وأعمال دبيس. وبعث دبيس طائفة من أصحابه لقتال ثابت فانهزموا فسار دبيس عن البلاد، وتركها لثابت حتى رجع البساسيري إلى بغداد فسار في جموع بني أسد وخفاجة، ومعه أبو كامل منصور بن قراد وتركوا حللهم بين حصني وجرى. وساروا جريدة ولقيهم ثابت عند جرجرا، فاقتتلوا مليا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يعود دبيس إلى أعماله، ويقطع أخاه ثابتا بعض تلك الأعمال، وتحالفوا على ذلك وافترقوا وجاء البساسيري منجدا لثابت فبلغه الخبر بالنعمانيّة فرجع.
(الفتنة بين دبيس وعسكر واسط)
كان الملك الرحيم قد أقطع دبيس بن مزيد سنة إحدى وأربعين واربعمائة حماية نهر الصلة ونهر الفضل، وهي من إقطاع جند واسط فسخطوا ذلك، واجتمعوا وبعثوا إليه بالتهديد فراجعهم إلى حكم الملك الرحيم، فغضبوا وزحفوا إليه فلقيهم وأكمن لهم فهزمهم وأثخن فيهم، وغنم أموالهم ودوابهم ورجعوا إلى واسط يستنجدون جند بغداد، ويرغبون من البساسيري في المدافعة ويعطه [1] نهر الصلة ونهر الفضل.
(إيقاع دبيس بخفاجه)
وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة قصد بنو خفاجة الجامعين من أعمال دبيس فعاثوا فيها من غربي الفرات، وكان دبيس في شرقيه فاستنجد البساسيري فجاء بنفسه، وعبر
__________
[1] الأصح ان يقول ويعطونه لأنه لا وجوب لحذف النون، أو ان يقول: وان يعطوه ...(4/359)
دبيس الفرات معه وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين فسلكوا البرية، ورجع عنهم. ثم عادوا للفساد فعاد إليهم فدخلوا البرية فاتبعهم إلى حصن خفان فأوقع بهم، وأثخن فيهم وحاصر خفان ثم اقتحمه، وأخرجهم ورجع إلى بغداد ومعه أسارى من خفاجة فصلبوا. ثم سار إلى جرى [1] فحاصرها ووضع عليهم سبعة [2] آلاف دينار فالتزموها وأمنهم.
(حرب دبيس مع الغز وخطبته للعلوي صاحب مصر ومعاودته الطاعة)
ولما انقرض أمر بني بويه وغلب عليهم الغز، وصارت الدولة للسلطان طغرلبك سلطان السلجوقية، وجاء السلطان طغرلبك إلى بغداد، واستولى على الخليفة، وخطب له على منابر الإسلام، وقبض على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه حسما ذلك كله مذكور في أخبارهم. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم قبل مسيره من واسط إلى بغداد للقاء طغرلبك مجمعا على الخلاف على الغز مع قطلمش ابن عم طغرلبك جدّ الملوك ببلاد الروم أولاد قليج أرسلان [3] ، ومعه متمم الدولة أبو الفتح عمر، وسار معهم قريش بن بدران صاحب الموصل فلقيهم دبيس والبساسيري على سنجار، وهزمهم ورجع قريش إلى دبيس جريحا فخلع عليه، وسار معهم وذهب بهم إلى الموصل. وخرج دبيس وقريش والبساسيري إلى البرية، ومعهم جماعة من بني نمير أصحاب حران والرقة. واتبعهم عساكر السلطان مع هزارسب من أمراء السلجوقية فأوقع بهم، ورجع بالغنائم والأسرى. وأرسل دبيس وقريش إلى هزارسب أن يستعطف بهم السلطان ففعل. وبعث دبيس ابنه بهاء الدولة مع وافد قريش فأكرمهما السلطان طغرلبك. ثم انتقض عليه أخوه نيال بهمذان فسار لحربه. وترك بغداد وخالفه البساسيري إليها وبعث الخليفة القائم عن دبيس ليقيم عنده ببغداد، فاعتذر
__________
[1] حربي: ابن الأثير ج 9 ص 600- بليدة في أقصى دجيل بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة (معجم البلدان) .
[2] تسعة آلاف دينار: المرجع السابق.
[3] قلج ارسلان: ابن الأثير ج 9 ص 625.(4/360)
بأن العرب لا تقيم، وطلب الخليفة في الخروج إليه حتى يجتمع عليه هو وهزارسب، ويدافعوا عن بغداد. وجاء البساسيري ودخل بغداد ومعه قريش بن بدران فملكها سنة خمسين وأربعمائة وخطب فيها للعلويّين واستذم الخليفة القائم بقريش بن بدران فأذمه، وبعثه إلى عانة عند مهاوش العقيلي من بني عمه وفعل البساسيري وجموعه في بغداد الأفاعيل، وأطاعه دبيس بن علي بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين صاحب الجزيرة الدبيسية، وكان ولي بعد أبيه وقد تقدم ذكر هذا كله. ثم رجع السلطان من همذان بعد قتل أخيه، وقضى أشغاله فأجفل البساسيري وأصحابه من بغداد، ولحق ببلاد دبيس وفارقه صدقة بن منصور إلى هزارسب بواسط. وأعاد طغرلبك الخليفة إلى داره، وسار السلطان في اتباعه وفي مقدمته خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس، ومعه سرايا بن منيع الخفاجي فصبحت المقدمة دبيس بن مزيد والبساسيري، فهرب دبيس ووقف البساسيري فقتل وذلك سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ورجع السلطان إلى بغداد ثم انحدر إلى واسط. وجاءه هزارسب بن تنكين [1] فأصلح عنده حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين، وحضرا عند السلطان وجاءا في ركابه إلى بغداد فخلع عليهما وردهما إلى عمالتهما.
(وفاة دبيس وامارة ابنه منصور)
ولم يزل دبيس على أعماله إلى أن توفي سنة اربع وسبعين وأربعمائة لسبع وخمسين سنة من إمارته، وكان ممدوحا. ورثاه الشعراء بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته. ولما مات ولي في أعماله وعلى بني أسد ابنه أبو كامل منصور، ولقب بهاء الدولة. وسار إلى السلطان ملك شاه فأقره على أعماله وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة فأحسن السيرة.
(وفاة منصور بن دبيس وولاية ابنه صدقة)
ثم توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل
__________
[1] هزارسب بن بنكير: ابن الأثير ج 9 ص 644 وقد مر ذكره من قبل.(4/361)
وغيرهما في ربيع الأول سنة تسع وسبعين، فأرسل الخليفة نقيب العلويين أبا الغنائم إلى ابنه سيف الدولة صدقة يعزيه. وسار صدقة إلى السلطان ملك شاه فخلع عليه وولاه مكان أبيه.
(انتقاض صدقة بن منصور بن دبيس على السلطان بركيارق)
وكان السلطان بركيارق قد خرج عليه أخوه محمود بن ملك شاه ينازعه في الملك، وكانت بينهما عدة وقعات، ولم يزل صدقة بن منصور على طاعته ويحضر حروبه تارة بنفسه، وتارة يبعث إليه العساكر مع ابنه إلى سنة أربع وتسعين وأربعمائة. فبعث إليه وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن الدهستاني يطلبه فبما تخلف عنده من المال، وهو ألف ألف دينار، ويتهدده عليه فقطع صدقة الخطبة لبركيارق، وعاد إلى بغداد في هذه السنة منهزما أمام أخويه محمد وسنجر، فبعث الأمير أياز من أكبر أصحابه، وطرد نائب السلطان عن الكوفة واستضافها إليه.
(استيلاء صدقة على واسط وهيت)
كان السلطان محمد في سنة ست وتسعين وأربعمائة مستوليا على بغداد والخطبة بها وشحنته فيها أبو الغازي بن أرتق، وصدقة بن دبيس على طاعته ومظاهرته. ثم ظهر في هذه السنة بركيارق على محمد، وحاصره بأصفهان فامتنع عليه فأفرج عنه إلى همذان، وبعث كمستكين القصيري شحنة إلى بغداد فاستدعى أبو الغازي أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا يستعين به في مدافعة كمستكين. وجاء كمستكين إلى بغداد وخطب بها لبركيارق وخرج أبو الغازي وسقمان إلى دجيل فأقاما به بجرى [1] وجاء صدقة بن مزيد إلى صرصر بعد أن جاءه رسول الخليفة في طاعة أبي الغازي
__________
[1] حربي وقد مر ذكرها من قبل.(4/362)
وسقمان فعادا وعاثت عساكرهما في نواحي دجيل، وتقدما إلى بغداد وبعث معهما صدقة ابنه دبيسا فخيموا بالرملة، وقاتلهم العامة وكثر الهرج، وبعث الخليفة إلى صدقة يعظم عليه الأمر فأشار بإخراج كمستكين القيصري من بغداد لتصلح الأحوال، فأخرج إلى النهروان في ربيع سنة ست وتسعين وأربعمائة وعاد صدقة إلى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ولحق القيصري بواسط، وخطب بها لمحمد فسار إليه صدقة وأخرجه وجاء أبو الغازي واتبعوا القيصري واستأمن إلى صدقة فأكرمه وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وبعده لصدقة وأبي الغازي. وولى كل واحد منهما ولده على واسط، وذهب أبو الغازي إلى بغداد وعاد صدقة إلى الحلة، وأرسل ابنه منصورا مع أبا الغازي إلى المستنصر ليستظهر رضاه فرضي عنه. ثم استولى صدقة على هيت، وكان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة توران بن تهيبة [1] وكان مقيما في جماعة من بني عقيل عند صدقة. ثم تشاجرا ومال بنو عقيل إلى صدقة، وحج عقب ذلك، ورجع فوكل به صدقة. وبعث ابنه دبيس ليتسلم هيت فمنعه نائب توران بها، وهو محمد بن رافع بن رفاع بن منيعة [2] بن مالك بن المقلد. فلما أخذ صدقة واسطا سار إلى هيت وبها منصور بن كثير نائبا عن عمه توران، فلقي صدقة وحاربه. ثم انتقض جماعة من أهل البلد وفتحوا لصدقة فملكها، وخلع على منصور وأصحابه وعاد إلى الحلة. واستخلف على هيت ابن عمه ثابت بن كامل. ثم اصطلح السلطان محمد وبركيارق وسار صدقة في شوال إلى واسط فملكها وأخرج الترك الذين كانوا بها وأحضر مهذب الدولة بن أبي الخير فضمنه البلد لثلاثة أشهر بقيت من السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلة.
(استيلاء صدقة بن مزيد على البصرة)
كانت البصرة منذ سنين في ولاية إسماعيل بن أرسلان جق من السلجوقية، أقام فيها عشر سنين وعظم تمكنه للخلاف الواقع بين بركيارق ومحمد. وكان يظهر طاعة صدقة
__________
[1] ثروان بن وهب بن وهيبة: ابن الأثير ج 10 ص 358.
[2] بن ضبيعة: المرجع السابق ص 359.(4/363)
وموافقته. فلما صفا الأمر لمحمد رغب إليه صدقة في إبقائه فابقاه. وبعث السلطان محمد عاملا على خاصة البصرة فمنعه إسماعيل، فأمر السلطان صدقة بأخذ البصرة منه. وأظهر منكبرس الخلاف فشغلوا عن البصرة، وبعث إليه صدقة بتسليم الشرطة إلى مهذب الدولة بن أبي الخير فمنع من ذلك، فسار صدقة إليه، وحصن إسماعيل القلاع التي استجدها حوالي البصرة، واعتقل وجوه البلد من العباسيين والعلويين، والقاضي والمدرس والأعيان، وحاصرها صدقة وخرج إسماعيل لقتاله، وخالفه طائفة من أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد فاقتحموها، وانهزم إسماعيل إلى قلعة الجزيرة فامتنع بها، ونهبت البلد. وانحدر المهذب بن أبي الخير في السفن فأخذ القلعة التي كانت لإسماعيل بمطارا. ثم استأمن إسماعيل إلى صدقة فأمنه. وجاء صدقة فأمن أهل البصرة ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة منتصف تسع وتسعين وأربعمائة لستة عشر يوما من مقامه بالبصرة. وسار إسماعيل نحو فارس فطرقه المرض في رامهرمز ومات وكان صدقة قد استعمل على البصرة مملوك جده دبيس، واسمه اليونشاش ورتب معه مائة وعشرين فارسا، فاجتمعت ربيعة والمتقن [1] وقصدوا البصرة فدخلوها بالسيف، وأسروا اليونشاش وأقاموا بها شهرا ينهبون ويخربون، وبعث صدقة عسكرا فوصل بعد خروجهم من البلد فانتزع السلطان البصرة من صدقة وبعث إليها شحنة وعميدا واستقام أمرها.
(استيلاء صدقة على تكريت)
كانت تكريت لبني معن من بني عقيل، وكانت إلى آخر سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن معن، فلما مات وليها ابن أخيه أبو منعة بن ثعلب بن حماد [2] ووجد بها خمسمائة ألف دينار. وتوفي سنة خمس وثلاثين، ووليها ابنه أبو غشام إلى سنة أربع وأربعين فوثب عليه أخوه عيسى فحبسه وملك القلعة والأموال. فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه، ومات عيسى إثر
__________
[1] الصحيح المنتفق وما يزال هذا الاسم يطلق على مدينة الناصرية وعشائرها في جنوب العراق بين الديوانية والبصرة.
[2] هو ابو منعة خميس بن تغلب بن حماد: ابن الأثير ج 10 ص 419.(4/364)
ذلك وخافت زوجته من عود أخيه أبي غشام إلى الملك فقتله في محبسه. وولت على القلعة أبا الغنائم بن المجلبان [1] فسلمها إلى أصحاب طغرلبك، وسارت هي إلى الموصل فقتلها ابن أبي غشام بأبيه. وأخذ مسلم بن قريش مالها. وولى طغرلبك على قلعة تكريت أبا العباس الرازيّ، فمات لستة أشهر، فولي عليها المهرباط وهو أبو جعفر محمد بن غشام [2] من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة، ومات فوليها ابنه سنتين، وأخذتها من [3] تركمان خاتون وولت عليها كوهوايين الشحنة. ثم مات ملك شاه فملكها قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب، فلما قتل صارت للأمير كمستكين الجاندار، فولى عليها رجلا يعرف بأبي نصر المصارع، ثم عادت إلى كوهوايين إقطاعا. ثم أخذها منه محمد الملك الباسلاني [4] فولى عليها لمقا بن هزارشب الديلميّ [5] وأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها، وأساء السيرة، فلما أجاز به سقمان بن ارتق سنة ست وتسعين وأربعمائة فنهبها، وكان كيقباد [6] ينهبها ليلا وسقمان ينهبها نهارا. فلما استقر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباد الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه، فسار إليها في صفر من هذه السنة، وتسلمها منه. وانحدر البرسقي ولم يملكها ومات كيقباد بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة ورام بن أبي قريش بن ورام [7] وكان كيقباد ينسب الى البطانية.
(الخلف بين صدقة وصاحب البطيحة)
قد كنا قدمنا أن السلطان محمدا أقطع صدقة بن مزيد مدينة واسط، فضمنها صدقة
__________
[1] ابن المحلبان: ابن الأثير ج 10 ص 420 وقد مر ذكره من قبل.
[2] بن خشنام: المرجع السابق.
[3] مقتضى السياق أخذتها منه تركمان خاتون وولت عليها كوهرائين الشحنة.
[4] مجد الملك البلاساني: ابن الأثير ج 10 ص 420.
[5] كيقباذ بن هزارسب الديلميّ: المرجع السابق.
[6] هو كيقباذ.
[7] ورّام بن أبي فراس بن ورام: المرجع السابق.(4/365)
لمهذب الدولة بن أبي الخير، وولى في أعمالها أولاده، فبذروا الأموال، وطالبه صدقة عند انقضاء السنة بالمال وحبسه. وسعى في خلاصه بدران بن صدقة، وكان صهرا لمهذب الدولة، وأعاده إلى البطيحة. وضمن حماد والمختم محمد والد مهذب الدولة كانا أخوين وهما ابنا أبي الخير [1] وكانت لهما رياسة قومهما. وهلك المصطنع وقام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه. وهلك المختم [2] محمد وقام ابنه مهذب الدولة مقامه، ونازعا إبراهيم صاحب البطيحة حتى غلبه مهذب الدولة وقبض عليه، وسلمه إلى كوهوايين، فحمله إلى أصفهان فهلك في الطريق. وعظم أمر مهذب الدولة وصير كوهوايين أمير البطيحة، وصارت جماعته لحكمه. وكان حماد شابا، وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، وهو يضمر نقضه، فلما مات كوهوايين انتقض حماد عن مهذب الدولة وأظهر ما في نفسه، واجتهد مهذب الدولة في استصلاحه، فلم يقدر وجمع ابنه القيسر [3] وقصد حمادا فهرب إلى صدقة بالحلة، وبعث معه مددا من العسكر. وحشد مهذب الدولة وسار في العساكر برا وبحرا.
وأكمن حماد لهم وأصحابه واستطردوا بين أيديهم. ثم خرجت عليهم الكمائن فانهزموا. وأرسل حماد يستمد صدقة فبعث إليه مقدم جيشه، وجمعوا السفن وكان مهذب الدولة جوادا، فبعث إلى مقدم الجيش بالإنعامات والصلات فمال إليه، وأشار عليه أن يبعث ابن النفيس [4] إلى صدقة فرضي عنه وأصلح بينه وبين حماد ابن عمه، وذلك آخر المائة الخامسة.
(مقتل صدقة وولاية ابنه دبيس)
كان صدقة بن منصور بن مزيد شيعة للسلطان محمد بن ملك شاه على أخيه بركيارق، ومن أعظم أنصاره. ولما هلك بركيارق واستبد السلطان محمد بالملك رعى
__________
[1] المعنى غير واضح والجملة مبتورة، وفي الكامل ج 10 ص 435 «وضمن حماد بن بي الجبر واسط، فانحلّ على مهذّب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر الى الاختلاف بعد الاتفاق. فإن المصطنع إسماعيل، جدّ حمّاد، والمختص محمدا، والد مهذب الدولة، أخوان، وهما ابنا أبي الجبر ... » .
[2] المختصّ: المرجع السابق.
[3] النفيس بن مهذب الدولة: ابن الأثير 10 ص 436.
[4] مقتضى السياق: ان يبعث ابنه النفيس إلى صدقة.(4/366)
وسائله في ذلك، وأقطعه واسطا وأذن له في ملك البصرة، وأنزله منزل المصافاة حتى كان يجبر عليه. وسخط مرة على سرخاب بن كيخس [1] صاحب سارة فلجأ إليه مستجيرا به فأجاره، وطلبه السلطان فمنعه. وكان العميد أبو جعفر يستبد له السلطان لكثرة السعاية، ويغريه به وينكر دالته وتبسطه فتعين [2] السلطان وسار إلى العراق وأرسل إلى صدقة فاستشار صدقة أصحابه فأشار ابنه دبيس بملاطفته واستعطافه بالهدايا، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيشه بالمحاربة، فجنح إلى رأيه واستطال في الخطاب وجمع الجند وأفاض فيهم العطاء واعترضهم فكانوا عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل. وبعث إليه المستظهر مع علي بن طراد الزيني [3] نقيب النقباء يعظه في المخالفة، ويحضه على لقاء السلطان، فاعتذر بالخوف منه ثم بعث إليه السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي ليؤمنه، ويستنفره لجهاد الفرنج في جملته فامتنع، ووصل السلطان إلى بغداد في ربيع من سنة إحدى وخمسمائة، ومعه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك، فقدم البرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء فنزلوا بصرصر مسلحة لقلّة عسكر السلطان. وإنه إنما جاء في ألفي فارس للإصلاح والاستئلاف، فلما تبين له لجاج صدقة أرسل إلى الأمراء بأصفهان بأن يستجيشوا ويقدموا، فكتب صدقة إلى الخليفة بالمقاربة وموافقة السلطان. ثم رجع صدقة عن رأيه، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد مددته بالأموال والرجال لجهاده. واما الآن عساكره متصلة فلا وفاق عندي، وقد أرسل إلى جاولي سكاوو، وصاحب الموصل وإيلغازي بن أرتق [4] صاحب ماردين بالانتقاض على السلطان وأيس السلطان من استقامته. ووصل إليه ببغداد قراوش شرف الدولة وكروباوى [5] بن
__________
[1] شرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة وآبه: ابن الأثير ج 10 ص 441.
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 10 ص 441: «وظهر منه أمور أنكرها السلطان، فتوجه الى العراق ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الّذي يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال والخيل والتحف، ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد، صاحب جيش صدقة، بالمحاربة وجمع الجند وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله، وجمع العساكر واجتمع إليه عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل» .
[3] علي بن طراد الزينبي: المرجع السابق.
[4] ايلغازي بن أرتق: ابن الأثير ج 10 ص 443.
[5] قرواش بن شرف الدولة، وكرماوي بن خراسان التركماني: ابن الأثير ج 10 ص 443.(4/367)
خراسان التركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن خادم بن الجرج [1] الطائي، وكان آباؤه أصحاب البلقاء وبيت المقدس، ومنهم حسان بن مفرج، وطرده كفرتكين أتابك [2] دمشق لما كان عليه من الأجلاب تارة مع الفرنج، وتارة مع أهل مصر.
فلجأ إلى صدقة وقبله وأكرمه، وأجزل له العطاء سبعة آلاف دينار. فلما كانت هذه الحادثة رغب عن صدقة وسار في طلائعه فهرب إلى السلطان فخلع عليه وعلى أصحابه، وسوغه دار صدقة عن الهروب. وأذن له فعبر من الأنبار وكان آخر العهد به. ثم أنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط، الأمير محمد بن بوقا التركماني فملكها وأخرج منها أصحاب صدقة، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان من أعمال صدقة، فنهبه وأقام أياما، حتى بعث صدقة ابن عمه ثابت بن سلطان في عسكر، فخرج منها الأمير محمد وملكها ثابت. وأقاموا على دجلة وخرج ثابت لقتالهم فهزموه واقتحموا البلد، ومنعهم الأمير محمد من النهب ونادى بالأمان، وأمر السلطان الأمير محمدا بنهب بلاد صدقة، فسار إليها وأقطع مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي ثم سار السلطان من بغداد آخر رجب ولقيه صدقة واشتد القتال وتخاذلت عنه عبادة وخفاجة. ورفع صوته بالابتهال بالناشرة بالعرب، ورغب الأكراد بالمواعد، ثم غشيه الترك فحمل عليهم وهو ينادي: أنا ملك العرب أنا صدقة فأصابه سهم أثبته وتعلق به غلام تركي يسمى برغش فجذبه إلى الأرض. فقال: يا برغش: ارفق فقتله وحمل رأسه إلى السلطان فأنفذه إلى بغداد، وأمر بدفن شلوه. وقتل من أصحابه ثلاثة آلاف أو يزيدون، ومن بني شيبان نحو مائة، وأسر ابنه دبيس، ونجا ابنه بدران إلى الحلة، ومنها إلى البطيحة عند صهره مهذب الدولة، وأسر سرجان بن كيخسرو والمستجير بصدقة على السلطان، وسعيد بن حميد العمدي صاحب الجيش. وكان مقتل صدقة لإحدى وعشرين سنة من إمارته وهو الّذي بنى الحلة بالعراق، وكان قد عظم شأنه وعلا قدره بين الملوك، وكان جوادا حليما صدوقا عادلا في رعيته. وكان يقرأ ولا يكتب، وكانت له خزانة كتب منسوبة الخط ألوف مجلدات، ورجع السلطان إلى بغداد من دون الحلة، وأرسل أمانا لزوج صدقة فجاءت إلى بغداد، وأمر السلطان الأمراء بتلقيها، وأطلق لها ولدها دبيسا، واعتذر
__________
[1] ابن الجراح: المرجع السابق.
[2] طغتكين أتابك: المرجع السابق.(4/368)
لها من قتل صدقة، واستحلف دبيسا على الطاعة، وأن لا يحدث حدثا. وأقام في ظله وأقطعه السلطان إقطاعا كثيرا. ولم يزل دبيس مقيما عند السلطان محمد إلى أن توفي، وملك ابنه محمود سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فرغب دبيس من السلطان محمود أن يسرحه إلى بلده، فسرحه، وعاد إليها فملكها واجتمع عليه خلق كثير من العرب والأكراد واستقام أمره.
(خبر دبيس مع البرسقي ومع الملك مسعود)
لما توفي الخليفة المستظهر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وبويع ابنه المسترشد خاف ابنه الآخر من غائلة أخيه وانحدر في البحر إلى المدائن، وسار منها إلى الحلّة فأبى أن يكرهه فتلطّف عليّ بن طراد لأخي الخليفة فأجاب، وتكفل دبيس بما يطلبه، وبينما هو في خلال ذلك برز البرسقيّ من بغداد مجلبا على دبيس الجموع، وسار أخو الخليفة إلى واسط فملكها في صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقوي أمره وكثرت جموعه فبعث الخليفة إلى دبيس في شأنه، وأنه خرج عن جواره فلقي أمره بالطاعة، وبعث إليه وهو بواسط عسكرا من قبله فتلقاه وقبض عليه، وبعثه إلى أخيه المسترشد. وكان مسعود أخو السلطان محمد بالموصل ومعه أتابكه حيوس بك [1] ، فاعتزما على قصد العراق لغيبة السلطان محمود عنه، فسار لذلك ومعه وزيره فخر الملك أبو عليّ بن عمّار صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آق سنقر أبو المعالي أبو الملك العادل، وكروباوي بن خراسان التركماني صاحب البواريح [2] وأبو الهيجاء صاحب إربل وصاحب سنجار، فلما قاربوا بغداد خاف البرسقي شأنهم وبعث إليه الملك مسعود وحيوس بك أنهم إنما جاءوا نجدة على دبيس. وكان البرسقيّ إنّما ارتاب من حيوس بك فصالحهم، ودخل مسعود بغداد ونزل دار المملكة. وجاء منكبرس في العساكر فسار البرسقيّ عن بغداد لمحاربته ودفاعه فمال إلى النعمانيّة، وعبر دجلة واجتمع مع دبيس بن صدقة. وكان دبيس قد صانع مسعودا وصاحبه بالهدايا والألطاف مدافعة عن نفسه، فلما لقيه منكبرس اعتضد به، وسار الملك مسعود
__________
[1] أتابكه أي أبه جيوش بك: ابن الأثير ج 10 ص 539.
[2] البوازيج وقد مرّ ذكرها من قبل.
ابن خلدون م 24 ج 4(4/369)
والبرسقيّ وحيوس بك الى المدائن للقائهما. ثم خاموا عن لقائهما لكثرة جموعهما، ونكبوا عن المدائن وعبروا نهر صرصر، وأكثروا النهب في تلك النواحي من الطائفتين.
وبعث إليهم المسترشد بالموعظة ويأمرهم بالموادعة والمصالحة فأجابوا إلى ذلك. ثم بلغهم أنّ دبيسا ومنكبرس قد بعثا العساكر مع منصور أخي دبيس وحسين بن أوزبك ربيب منكبرس ليخالفوهم إلى بغداد فخلوها من الحامية، فأغذّ البرسقي السير إلى بغداد وترك ابنه عزّ الدين مسعود على العسكر وصحبه عماد الدين زنكي بن آق سنقر وانتهى إلى ديالى، ومنع العسكر من العبور. ثم جاءه الخبر ليومين بصلح الفريقين كما أشار الخليفة ففتر نشاطه وعبر إلى الجانب الغربيّ من بغداد. وجاء في أثره منصور أخو دبيس وحسين ربيب منكبرس فنزلا في الجانب الشرقي من بغداد. وأغار البرسقي على نعم الملك مسعود فأخذها، وعاد فخيم بجانب آخر من بغداد، وخيّم مسعود وحيوس بك من جانب آخر ودبيس ومنكبرس من جانب ومعهما عز الدولة بن البرسقيّ منفردا عن أبيه. وكان حيوس بك قد بعث إلى السلطان محمود بطلب الزيادة له وللملك مسعود فجاء كتاب مع رسوله يذكر أنّ السلطان كان أقطعهم أذربيجان، حتى إذا بلغه مسيرهم إلى بغداد تثاقل عن ذلك، وقد جهّز العساكر إلى الموصل. ووقع الكتاب بيد منكبرس فبعث إلى حيوس بك وضمن له إصلاح الحال. وكان يؤثر مصلحته إذ كان متزوّجا بأمّه فتمّ الصلح وافترق عن البرسقي أصحابه، وبطل ما كان يحدّث به نفسه من الاستبداد بالعراق. وصار مع الملك مسعود واستقرّ منكبرس شحنة ببغداد، ورجع دبيس الى الحلّة.
(فتنة دبيس مع السلطان محمود واجلاؤه عن بغداد ثم معاودته الطاعة)
كان دبيس بن صدقة كثيرا ما يكاتب حيوس بك أتابك الملك مسعود، ويعريهم بطلب السلطنة ويعدهم بالمساعدة ليحصل له بذلك علوّ اليد كما كان لأبيه مع بركيارق ومحمد ابني ملك شاه. وكان قسيم الدولة البرسقي شحنة بغداد قد سار للملك مسعود، وأقطعه مراغة مع الرحبة. وكانت بينه وبين دبيس عداوة مستحكمة فأغراهم دبيس بالقبض عليه، ففارقهم البرسقي إلى السلطان محمود فأكرمه. ثم(4/370)
اتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن عليّ الأصفهاني الطغرائي بالملك مسعود، وكان ولده أبو المؤيد محمد يكاتب الطغرائي عن الملك مسعود. فلمّا وصل أبوه عزل أبا عليّ بن عمّار صاحب طرابلس واستوزره. وحسن لهم ما أشار به دبيس فعزموا عليه. ونمي الخبر إلى السلطان محمود فكاتبهم بالوعيد فأظهروا أمرهم وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس. وبلغهم أن عساكر محمود متفرّقة فأغذّوا السير لمحاربته، والتقوا عند عقبة أستراباد في ربيع سنة أربع عشرة، وأبلى البرسقيّ وكان في مقدمته. ثم انهزم مسعود وأمر [1] كثير من أصحابه، وجيء بالوزير أبي إسماعيل الطغرائي فأمر بقتله لسنة من ولايته، وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف في صنعة الكيمياء. وسار مسعود يطلب الموصل بعد أن استأمن البرسقيّ وأدركه فردّه إلى أخيه، وعفا عنه وعطف عليه. ولحق حيوس بك بالموصل. ثم بلغه فعل السلطان محمود ومعه ألف سفينة لعبوره، فبادر دبيس لطلب الأمان بعد أن أرسل حرمه إلى البطيحة. وسار بأمواله عن الحلّة وأمر بنهبها. ولحق بأبا الغازي بن أرتق بماردين، ووصل السلطان إلى الحلّة فوجدها خاوية على عروشها فرجع عنها. وأرسل دبيس أخاه منصورا من قلعة صفد في عسكر إلى العراق فمرّ بالحلّة والكوفة، وانحدر إلى البصرة وبعث إلى برتقش الزكويّ في صلاح حالهما مع السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وولده، وحبسهما ببعض القلاع حذاء الكرخ. ثم أذن دبيس لجماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط فمنعهم أتراك واسط، فبعث إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر، وأمر مظفّر بن أبي الخير فساعده، واستمدّ أهل واسط البرسقي فأمدّهم بعسكر. وسار مهلهل للقائهم قبل مجيء المظفّر فهزم وأخذ أسيرا في جماعة من أصحابه. وأصعد المظفر من البطيحة ينهب ويفسد حتى قارب واسط. وسمع بالهزيمة فأسرع منحدرا ووقع على كتاب بخط دبيس إلى مهلهل يأمره بالقبض على مظفّر بن أبي الخير، ومطالبته بالأموال، فبعثوا به إلى المظفّر. وسار معهم وبلغ دبيسا أنّ السلطان كحّل أخاه فلبس السواد، ونهب البلاد، وأخذ للمسترشد بنهر الملك، وأجفل الناس إلى بغداد وسار عسكر واسط إلى النعمانيّة، فأوقعوا بمن لك من عساكر دبيس وأجلوهم
__________
[1] مقتضى السياق وفرّ كثير من أصحابه.(4/371)
عنها. وكان دبيس قد أسر في واقعة البرسقي عفيفا خادم الخليفة فأطلقه، وحمله إلى المسترشد عقابا ووعيدا على كحل أخيه فغضب الخليفة، وتقدّم إلى البرسقيّ بالخروج لحرب دبيس، وخرج بنفسه في رمضان سنة عشرة وخمسمائة وأتاه سليمان ابن مهارش من الحديثة في جماعة من بني عقيل وقريش بن مسلم صاحب الموصل في كافة بني عقيل. وأمر المسترشد باستنفار الجند كافة، وفرّق فيهم الأموال والسلاح، وجاء دبيسا ما لم يكن يحتسبه فرجع إلى الاستعطاف وبرز الخليفة آخر ذي الحجّة، وعبر دجلة وهو في أكمل زيّه، ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونقيب الطالبيّين ونقيب النقباء عليّ بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل. وبلغ البرسقي مسير المسترشد فعاد إلى خدمته ونزل معه بالحديثة. ثم سار إلى الموصل على سبيل التعبية والبرسقي في المقدّمة، وعبّى دبيس أصحابه صفا واحدا. وجعل الرجّالة بين يدي الخيّالة. وقد كان وعد أصحابه بنهب بغداد وسبي حريمها، فالتقى الفريقان فانهزم عسكر دبيس وأسر جماعة من أصحابه فقتلوا صبرا وسبيت حرمه، ورجع المسترشد إلى بغداد يوم عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمائة. ونجا دبيس وعبر الفرات، وقصد غزنة من عرب نجد مستنصرا بهم فأبوا عليه، فسار إلى المنتقى [1] وحالفهم على أخذ البصرة فدخلوا ونهبوا أهلها، وقتل مقدّم عسكرها.
وبعث المسترشد إلى البرسقي بالعتاب على إهمال أمر البصرة، فتجهّز البرسقي للانحدار إليها ففارقها دبيس، ولحق بقلعة حعبر وصار مع الفرنج وأطمعهم في حلب وسار معهم لحصارها سنة ثمان عشرة وخمسمائة فامتنعت عليهم فعادوا عنها، ولحق هو بالملك طغرلبك ابن السلطان بن محمد فأغراه بالمسير إلى العراق كما نذكر.
(مسير دبيس إلى الملك طغرل)
لما سار دبيس من الشام إلى الملك طغرل بأذربيجان تلقّاه بالمبرّة والتكرمة، وأنظمه في خواصّه ووزرائه. وأغراه دبيس بالعراق، وضمن له ملكه فسار معه لذلك، وانتهوا
__________
[1] وفي نسخة اخرى المنتفق وكذلك في كتاب الكامل وقد مرّت معنا من قبل.(4/372)
إلى دقوقا في عساكر كثيرة. وكتب مجاهد الدين مهروز [1] صاحب تكريت إلى المسترشد بالخبر فتجهّز لمدافعتهم، وجمع العساكر فبلغوا اثني عشر ألف فارس، وبرز من بغداد في صفر سنة تسع عشرة وخمسمائة وفي مقدّمته برتقش الذكوي [2] ونزل الخالص. وانتهى إلى طغرل خروج المسترشد فعدل إلى طريق خراسان ونزل جلولاء، وتفرّق أصحابه للنهب. وبرز إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كبير فنزل الدّسكرة، ولحقه المسترشد وكان معه. ورحل طغرل ودبيس إلى الهارونيّة.
ثم سارا إلى تامرّا ليقطعا جسر النهروان فحفظ دبيس المعابر، وتقدّم طغرل إلى بغداد وتملكها ونهبها. ثم رحل دبيس من تامرّا وأقام طغرل لحمّى أصابته، وحالت بينهما الأمطار والسيول. ثم أخذ دبيس ثقلا جاء للخليفة فيه ملبوس وطعام كثير، وكان لحقه الجوع والتعب والبرد فأخذ من ذلك الملبوس ولبسه، وأكل من الطعام كثيرا.
واستقبل الشمس فأخذه النوم ورقد. وأمّا الخليفة لمّا بلغه الخبر بأخذ الثقل رجع إلى بغداد، ففي حال سيره عثر على دبيس وهو نائم فوقف وأيقظه، فحلّ عينيه ورأى الخليفة فبادر بتقبيل الأرض على العادة، وسأل العفو، فرقّ له الخليفة وثناه الوزير ابن صدقة عن ذلك، ووقف دبيس إزاء عسكر برتقش يحادثهم. ثم مدّوا الجسر آخر النهار للعبور فتسلل دبيس عنهم، ولحق بالملك طغرل، وسار معه إلى عمه الملك سنجر، وعاثوا في أعمال همذان واتبعهم السلطان محمود فلم يظفر بهم.
(مسير دبيس الى السلطان سنجر)
لما أيس طغرل من ملك العراق عند ما سار إليه مع دبيس عاد منه، وسار هو ودبيس إلى السلطان سنجر، وهو يومئذ صاحب خراسان، والمتقدّم على بني ملك شاه، فشكى إليه طغرل ودبيس من المسترشد، وبرتقش الشحنة، ووعدهم النصفة منهم.
ثم داخله دبيس وأطمعه في ملك العراق. وخيّل له أن المسترشد والسلطان محمود متفقان على مباعدته، ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب [3] حتى حرّك حفيظته
__________
[1] مجاهد الدين بهروز: ابن الأثير ج 10 ص 626.
[2] يرنقش الزكوي: ابن الأثير ج 10 ص 626.
[3] هذا مثل سائر، يقال لمن يبالغ في القول بغية الاقناع.(4/373)
لذلك، وسار إلى العراق سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فوصل إلى الريّ، واستدعى السلطان محمودا من همذان يختبر ما خيّل له دبيس. فجاء محمود مبادرا وأكذب دبيسا فيما خيّل. وأمر السلطان سنجر العساكر بتلقي السلطان محمود، وأجلسه معه على التخت. وأقام عنده إلى آخر سنة اثنتين وعشرين ثم عاد إلى خراسان وأوصاه بإعادة دبيس إلى بلده، فرجع السلطان محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد في محرّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة وأنزل دبيس بداره، واسترضى له الخليفة فرضي عنه، وامتنع من ولايته، وبذل دبيس مائة ألف دينار لذلك فلم يقبله، وعاد السلطان محمود إلى همذان منتصف السنة.
(فتنة دبيس مع محمود واسره)
كانت زوجة السلطان محمود وهي ابنة عمّه سنجر تعين بأمر دبيس، فماتت عند رحيل السلطان إلى همذان فانحل أمره. ثم مرض السلطان فأخذ دبيس ابنه الصغير، وقصد العراق فجمع المسترشد لمدافعته. وكان بهروز شحنة بغداد بالحلّة فهرب عنها، وملكها دبيس في رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. وبلغ الخبر إلى السلطان محمود، فأحضر الأمير ابن قزل والأحمديليّ، وكانا ضمنا دبيس فطالبهما بالضمان فسار الاحمديلي في أثره. وجاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بهدايا عظيمة كان فيها مائتا ألف دينار، وثلاثمائة فرس بسروج مثقلة بالذهب. ثم جاء إلى البصرة ونهبها وأخذ ما في بيوت الأموال. وبعث السلطان في أثره العساكر فدخل البريّة، وجاءه عند مفارقته البصرة قاصدا من صرصر يستدعيه، وكان صاحبها خصيّا فتوفي في هذه السنة، وخلف سرية له فاستولت على القلعة، وأرادت أن تتم أمرها برجل له قوّة ونجدة فوصف لها دبيس، وحاله في العراق وكثرة عشيرته، فكتبت تستدعيه لتتزوّج به، وتملّكه القلعة بما فيها فلحقه الكتاب بعد مفارقته البصرة. وقفل من العراق إلى الشام ومعه الأدلّاء ومرّ بدمشق فحبسه واليها عنده، وبعث فيه عماد الدين زنكي، وكان عدوّه. وكان عنده ابن تاج الملوك مأسورا في واقعة كانت بينهما، فطلب أن يبعث إليه دبيس، ويفادي به ابنه والأمراء الذين معه ففعل ذلك تاج الملوك، وحصل دبيس في يد زنكي، وقد أيقن بالهلاك فأطلقه زنكي وحمل له(4/374)
الأموال والدواب والسلاح وخزائن الأمتعة كما يفعل مع أكابر الملوك. وبلغ المسترشد خبره فبعث سديد الدين بن الأنبار يطلبه من تاج الملوك فسار لذلك من جزيرة ابن عمر، وبلغه في طريقه أنه بعثه إلى زنكي وأنه فاته القصد منه.
(مسير دبيس الى بغداد مع زنكي وانهزامهما)
لما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين وخمسمائة وولي بعده داود، ونازعه عمومته مسعود وسلجوق، ثم استقرّت السلطة لمسعود، وكان أخوهما طغرل عند عمّه سنجر بخراسان، وكان كبير بيت أهل السلجوقيّة، وله الحكم على ملوكهم فنكر على السلطان محمود لقتاله سلجوق وطغرل، وسار به إلى العراق، وانتهى الى همذان.
وبعث إلى عماد الدين زنكي فولّاه شحنة بغداد، وإلى دبيس بن صدقة وهو عند زنكي فأقطعه الحلّة وتجهّز السلطان محمود لقتال سنجر وطغرل، واستدعى الخليفة للحضور معه فخرج من بغداد وعاجلهم، ورجع المسترشد إلى بغداد وقد سمع بوصول زنكي ودبيس إليها ولقيهم بالعبّاسيّة فهزمهم، وقتل من عسكرهم ودخل بغداد وسار دبيس إلى بلاد الحلّة. وكانت بيد أقيال خادم المسترشد فبعث إليها بالمدد فهزموا دبيس ونجا من المعركة. ثم جمع جمعا وقصدوا واسط وانضمّ إليه عسكرها وابن أبي الخير صاحب البطيحة، وملكها إلى سنة سبع وعشرين وخمسمائة فبعث أقيال الخادم وبرتقش الشحنة العساكر إلى دبيس فلقيهم في عسكر واسط، وانهزم وسار إلى السلطان مسعود فأقام عنده.
(مقتل دبيس وولاية ابنه صدقة)
لم يزل دبيس مقيما عند السلطان مسعود إلى أن حدثت الفتنة بينه وبين المسترشد، ومات أخوه طغرل كما هو مذكور في أخبارهم. وسار مسعود إلى همذان بعد موت أخيه طغرل فملكها، وفارقه جماعة من أعيان أمرائه، ومعهم دبيس بن صدقة مستوحشين منه. واستأمنوا للخليفة فحذر من دبيس، ولم يقبلهم فمضوا إلى(4/375)
خوزستان، واتفقوا مع برسق بن برسق. ثم تدارك الخليفة رأيه وبعث إلى الأمراء الذين مع دبيس بالأمان، وكانوا لما ردّهم الخليفة بسبب دبيس أجمعوا القبض عليه، وخدمة الخليفة به. وشعر بهم وهرب إلى السلطان مسعود. وبرز الخليفة من بغداد في رجب من سنة تسع وعشرين وخمسمائة لقتال مسعود، وكتب إليه أكثر أهل الأعمال بالطاعة. وأرسل إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد المسترشد الدّينور ليحضر داود حربه فأبى، وسار على التعبية حتى بلغ وأعرج [1] فالتقوا هنالك. وانهزمت عساكر المسترشد وأخذ أسيرا ومعه وزيره شرف الدين عليّ بن طراد، وقاضي القضاة، وابن الأنباري، وجماعة من أعيان الدولة. وغنم ما في عسكره وعاد السلطان إلى بغداد. وبعث الأمير بكاية شحنة إلى بغداد، وكثر العويل والبكاء والضجيج ببغداد على الخليفة، وجعل الخليفة في خيمة ووكّل به، وراسله السلطان مسعود في الصلح، وشرط عليه مالا يؤدّيه، ولا يجمع العساكر ولا يخرج من داره ما بقي، وانعقد ذلك بينهما. وبينما هما في ذلك وصل رسول السلطان سنجر فركب السلطان مسعود للقائه، وافترق المتوكّلون بالمسترشد فدخل عليه خيمته آخر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة جماعة الباطنية، وقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه. ولما قتل المسترشد اتهم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة دسّ أولئك النفر عليه فأمر بقتله، وقصده غلام فوقف على رأسه عند باب خيمته، وهو ينكث الأرض بإصبعه فأطار رأسه وهو لا يشعر. وبلغ الخبر إلى ابنه صدقة وهو بالحلّة، فاجتمعت إليه عساكر أبيه ومماليكه، واستأمن إليه الأمير قطلغ تكين وأمر السلطان مسعود الشحنة بك آيه بمعاجلته، وأخذ الحلّة من يده إلى أن قدم السلطان بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده صدقة وأصلح حاله معه ولزم بابه.
(مقتل صدقة وولاية ابنه محمد)
ولما قتل المسترشد ولي ابنه الراشد بإشارة السلطان مسعود، ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان مسعود، وأغراه بها عماد الدين زنكي صاحب الموصل، ومعه الراشد.
__________
[1] دايمرج: ابن الأثير ج 11 ص 25.(4/376)
وبايع السلطان مسعود للمقتفي سنة ثلاثين وخمسمائة وخلع الراشد ففارق الموصل، وسار الأمراء الذين كانوا مع داود إلى السلطان مسعود، ورضي عنهم. ورجع إلى همذان وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم، وتمسّك بصدقة بن دبيس وزوّجه ابنته. وسار الراشد من الموصل إلى أذربيجان قاصدا الملك، واجتمع إليه صاحب فارس وخوزستان وجماعة الأمراء، فسار إليهم السلطان مسعود وهزمهم. وأخذه صاحب فارس الأمير منكبرس فقتله صبرا. وتسلّل صاحب خوزستان وعبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال إلى السلطان مسعود وهو في خف من الناس فحملوا عليه وهزموه، وقبضوا على جماعة من الأمراء الذين معه فقتلهم منكبرس فيهم صدقة بن دبيس وعنبر بن أبي العسكر. وذهب داود إلى همذان فملكها، واستقال السلطان مسعود من عثرته، وولّى على الحلّة محمد بن دبيس، وجعل معه مهلهل بن أبي العسكر أخا نمير بربره، واستقام أمره بالحلّة، وكان من شأن الراشد والسلجوقية ما نذكره في أخبارهم.
(تغلب عليّ بن دبيس على الحلّة وملكه إياها من أخيه محمد)
ثم خرج على السلطان مسعود سنة ست وأربعين وخمسمائة بوزابة صاحب فارس وخوزستان وبايع للسلطان محمد ابن السلطان محمود، وسار معهم عبّاس صاحب الريّ، وملكوا كثيرا من البلاد، فسار السلطان مسعود إليهم من بغداد واستخلف بها الأمير مهلهل ابن أبي العسكر ونظر الخادم، وأشار مهلهل على السلطان مسعود عند رحيله من بغداد أن يحبس عليّ بن دبيس بقلعة تكريت. ونمي إليه الخبر فهرب في نفر قليل، ومضى إلى بني أسد فجمعهم فسار الى الحلّة فبرز إليه محمد أخوه فهزمه عليّ، وملك الحلّة واستهان السلطان أمره أوّلا فاستفحل وضمّ إليه جمعا من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، وضربوا عليه مصافا وكسرهم، وعادوا منهزمين إلى بغداد. وكان أهلها يتعصّبون لعليّ بن دبيس فكانوا يعيّطون إذا ركب مهلهل أو بعض أصحابه يا عليّ كله. فكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب، ويد عليّ فوق كل يد(4/377)
في أوضاع الأمراء بالحلّة [1] وتصرّف فيها وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، ووضع الخليفة الحامية على الأسوار وأرسل إلى عليّ يحضّه على الاستقامة فأجاب بالآمال والطاعة فسكن الناس.
(أخذ السلطان الحلة من يد عليّ وعوده اليها)
كان عليّ بن دبيس كثير العسف بالرعية والظلم لهم، وارتفعت شكوى الرعية به إلى السلطان مسعود سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فأشكاهم، وأقطع الحلّة سلاركرد فسار إليها من همذان. وجمع عسكرا من بغداد وقصد الحلّة، واحتاط على أهل عليّ، وأقام بالحلّة في مماليكه وأصحابه. ورجعت عنه العساكر ولحق عليّ بن دبيس بالتقشكنجر [2] وكان في أقطاعه باللّحف متجنيا على السلطان مسعود، فاستنجده عليّ فأنجده، وسار معه إلى واسط، وسار معهما الطرنطاي صاحب واسط فانتزعوا الحلّة من سلاركرد ورجع إلى بغداد آخر اثنتين وأربعين، واستولى عليّ على الحلّة.
(نكبة عليّ بن دبيس)
ثم انتقض على السلطان مسعود سنة أربع وأربعين وخمسمائة جماعة من الأمراء منهم التقشكنجر والطرنطاي وعليّ بن دبيس، وبايعوا ملك شاه ابن السلطان محمود، وساروا به إلى العراق، وراسلوا المقتفي في الخطبة له فامتنع، وجمع العساكر وحصن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود بالخبر فشغل عنهم بلقاء عمّه السلطان سنجر، كان سار إليه بالريّ. ولما علم التقشكنجر بذلك نهب النهروان وقبض على عليّ بن دبيس، وهرب الطرنطاي إلى النعمانيّة. ثم وصل السلطان مسعود إلى بغداد فرحل التقشكنجر من النهروان وأطلق عليّ بن دبيس فسار إلى السلطان مسعود فلقيه ببغداد واستعطفه فرضي عنه.
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 11 ص 105: «ومدّ علي يده في أقطاع الأمراء بالحلّة، وتصرّف فيها على وجل منه» وقد ذكر ابن الأثير هذه الحوادث سنة 540.
[2] البقش كون خر: ابن الأثير ج 11 ص 122.(4/378)
(وفاة عليّ بن دبيس وانقراض بني مزيد)
ثم توفي عليّ بن دبيس صاحب الحلّة عليلا بسعدآباد، واتهم طبيبه محمد بن صالح بالادهان فيه فمات بعده بقليل. ثم مات السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقيّة الأعاظم. وبويع ملك شاه ابن أخيه محمود بعهده. واستبدّ المقتفي على ملوك السلجوقية بعده. وبعث السلطان ملك شاه سلاركرد إلى الحلّة فملكها، ولحق به مسعود بلاك شحنة بغداد، وهرب منها عند موت السلطان مسعود، وأظهر لسلاركرد الوفاق. ثم قبض عليه وغرّقه، واستبدّ بالحلّة، وبعث المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدين بن هبيرة، فبرز مسعود بلاك للقائهم، فانهزم وعاد إلى الحلّة فمنعه أهلها من الدخول، فسار إلى تكريت، وملك ابن هبيرة الحلّة، وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها. ثم جاءت عساكر السلطان ملك شاه إلى واسط، وخرجت منها عساكر المقتفي إلى واسط فملكها، ثم إلى الحلّة كذلك. ثم عاد إلى بغداد آخر ذي القعدة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم قبض الأمراء على ملك شاه سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وبايعوا لأخيه محمد وطلب الخطبة من المقتفي فمنع منها، فسار السلطان محمد بن محمود إلى العراق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. واضطرب الناس ببغداد واهتم المقتفي بالاحتشاد، وجاءته عساكر واسط، وبعث السلطان مهلهل بن أبي العسكر إلى الحلّة فملكها، وحاصر السلطان محمد بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وامتنعت عليه فرجع، وتوفي المقتفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة وبويع ابنه المستنجد، واستبدّ بأمره كما كان أبوه. ومنع خطبة السلجوقيّة من بغداد، وكان في نفسه شيء من بني أسد لاجلابهم على بغداد مع مهلهل بن أبي العسكر، أيام حصار السلطان محمد لها، فأمر بردن بن قماج بقتالهم وإجلائهم، وكانوا منتشرين في البطائح، ولا يقدر عليهم، وجمع عساكره وبعث عن ابن معروف مقدّم المنتفق من أرض البصرة فجاءه في جمع كبير، وحاصرهم حتى انحسر الماء عنهم. وأبطأ أمرهم على المستنجد فبعث إلى بردن يعاتبه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع فجهد هو وابن معروف في قتالهم، وسدّ مسالكهم في الماء، واستسلموا فقتل منهم أربعة آلاف، ونودي عليهم بالجلاء من الحلّة فافترقوا في البلاد، ولم يبق منهم(4/379)
بالعراق من يعرف، وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف والمنتفق وانقرضت دولة بني مزيد والبقاء للَّه.
(الخبر عن ملوك العجم القائمين بالدعوة العباسية في ممالك الإسلام والمستبدّين على الخلفاء ونبدأ منهم أولا بدولة ابن طولون بمصر وبداية أمرهم ومصاير أحوالهم)
قد تقدّم لنا عند ذكر الفتوحات فتح مصر على يد عمرو بن العاص سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بإذنه، وولّاه عليها، وافتتح ما وراءها في المغرب إلى طرابلس وودان وغذامس حسبما ذلك مذكور هنالك، وأقام عمرو في ولايتها أيام عمر كلّها وولّى عثمان على الصعيد عبد الله بن أبي سرح، وأفردها بالولاية، وكان يعدو على عمرو فغضب عمرو، وأبى من الرجوع إلى ولاية مصر، فضمّها عثمان لعبد الله بن أبي سرح وولّاه عليها. وكانت في أيامه غزوة الصواري، جاءت مراكب الروم من القسطنطينية في ألف مركب ونزلوا بسواحل الإسكندريّة. وانتقض أهل القرى، ورغب أهل الإسكندرية من عثمان أن يمدّهم بعمرو بن العاص فبعثه، وزحف إليهم في العرب ومعه المقوقس في القبط، وخرجوا من البحر ومعهم من انتقض من أهل القرى، ففتح الله على المسلمين، وهزموا الروم إلى الإسكندريّة. وأمضى عمرو في قتلهم وردّ على أهل القرى ما غنم المسلمون منهم، وعذرهم بالإكراه، ورجع إلى المدينة وأقام عبد الله في ولايتهم، وغزا إفريقية وافتتحها. ثم غزا بلد النوبة، ووضع عليهم الجزية المعروفة الباقية على الأيام وذلك سنة إحدى وثلاثين. ثم كان من بعد ذلك يبعث معاوية بن خديج فيفتح ويثخن إلى أن استملك فتح إفريقية. ووفد على عثمان آخر أيامه عند ما اهتاجت الفتنة، وكثر الطعن عليه من جماعة جند مصر يتعلّلون بالشكوى من ابن أبي سرح مع وفد من الجند شاكين من عمّالهم بالأمصار. وعزله عثمان يسترضيهم به فكانت قضية الكتاب المنسوب إلى مروان وحصارهم عثمان بداره. وخرج عبد الله من مصر(4/380)
مددا لعثمان فخالفه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى مصر وانتزى بها.
ورجع عبد الله من طريقه فمنعه الدخول فسار إلى عسقلان، وأقام بها حتى قتل عثمان. ثم سار إلى الرملة وكانت من مهماته فأقام بها هربا من الفتنة حتى مات، ولم يبايع عليا ولا معاوية. ثم قتل عمرو بن العاص محمد بن أبي حذيفة، وفي كيفية قتله إياه اضطراب. ثم ولّى عليّ على مصر قيس بن سعد بن عبادة، وكان ناصحا له شديدا على عدوّه، واستماله معاوية فأساء في الردّ عليه. وأشاع معاوية خلاف ذلك عنه فعزله عليّ من أجل ذلك، وولى ذلك الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحرث بن يغوث بن سلمة بن ربيعة بن الحرث بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع. وسار إليها فمات بالقلزم قريبها منها سنة سبع وثلاثين، فولّى عليّ مكانه محمد ابن أبي بكر، وكان نشأ في حجره. ثم بعث معاوية إلى عمرو بن العاص وهو بفلسطين قد اعتزل الناس بعد مقتل عثمان، واستماله واجتمع معه على قتال عليّ وولّاه مصر فسار إليها بعد انقضاء أمر صفّين وأمر الحكمين. وطلب معاوية الخلافة وقد اضطرب الأمر على محمد بن أبي بكر وخرج عليه معاوية بن خديج السّكونيّ مع جماعة من العثمانية [1] بنواحي مصر فكاتب عمرو العثمانية، وسرّح الكتائب إلى مصر، وفي مقدّمتها معاوية بن خديج فهزموا عساكر محمد، وافترق عنه أصحابه وقتل كما هو معروف في أخباره. ودخل عمرو بن العاص الفسطاط، وملك مصر، إلى سنة ثلاث وأربعين ومائة فتوفي، وملك مكانه ابنه عبد الله. ثم عزله معاوية وولّى أخاه عتبة بن أبي سفيان، وتوفي سنة أربع وأربعين وولّى مكانه عقبة بن عامر الجهنيّ، ثم عزله سنة سبع وأربعين ومائة وولّى مكانه معاوية بن خديج. ثم اقتطع عنه إفريقية سنة خمسين وولّى عليها عقبة بن نافع. ثم جمع مصر وإفريقية لمسلمة بن مخلد الأنصاري، فبعث مسلمة على إفريقية مولاه أبا المهاجر، وأساء عزل عقبة كما هو معروف. ثم مات معاوية وولي ابنه يزيد، واضطربت الأمور، وبويع عبد الله بن الزبير بمكة، وانتشرت دعوته في الممالك الإسلامية فبعث على مصر عبد الرحمن بن جحدم القرشيّ، وهو عبد الرحمن بن عقبة بن إياس بن الحرث بن عبد بن أسد بن جحدم الفهريّ، ثم بويع مروان وانتقض ابن الزبير وسار مروان الى
__________
[1] نسبة الى الخليفة عثمان بن أبي عفّان.(4/381)
مصر فأخرج منها عبد الرحمن بن جحدم وولّى عليها عمر بن سعيد الأشدق. ثم بعثه للقاء مصعب بالشام، وولّى مكانه على مصر ابنه عبد العزيز بن مروان. ثم هلك سنة خمس وكان مروان قد مات فولي مكانه ابنه عبد الله ابن عبد الملك [1] . ثم عزله الوليد سنة تسع وثمانين وولّى عليها مرّة بن شريك بن مرثد بن الحرث العبسيّ، ومات سنة خمس وتسعين فولّى الوليد مكانه عبد الملك بن رفاعة سنة تسع وتسعين، وكان قد استخلفه عند موته. ويقال بل ولي قبله أسامة بن زيد التنّوخيّ. ثم عزل عمر بن عبد العزيز عبد الملك بن رفاعة سنة تسع وتسعين وولّى مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكرم بن أبرهة بن الصبّاح الأصبحي. ثم عزله يزيد بن عبد الملك، وولى مكانه بشر بن صفوان، وأقرّه يزيد، ثم عزله هشام بن عبد الملك وولّى [2] بن رفاعة وتوفي بعد خمس عشرة ليلة. واستخلف أخاه الوليد بن رفاعة، وأقرّه هشام فأقام سبعة أشهر، ثم عزله وولّى حنظلة بن صفوان في المحرّم سنة أربع وعشرين ومائة وأقرّه هشام. ثم استعفى مروان بن محمد حين ولي فأعفاه، وولّى مكانه حسّان بن عتامة بن عبد الرحمن السجيني، وكان بالشام فاستخلف حمير بن نعيم الحصري بمصر. ثم قدم ورفض ولايتها، فولّى مكانه حفص بن الوليد لستة عشر يوما من ولايته. وبقي حفص شهرين، ثم ولّى مروان الحوثرة بن سهل بن العجلان الباهليّ في محرّم سنة ثمان وعشرين ومائة ثم صرف عنها في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة، وولي المغيرة بن عبد الله بن مسعود الفزاريّ. ثم مات في جمادى سنة ست وثلاثين، واستخلف ابنه الوليد. وولّى مروان بن عبد الملك موسى بن نصير فأمر باتخاذ المنابر في الكور، وإنما كانوا يخطبون على العصي. ثم قدم مروان بن محمد إلى مصر، وكان فيها مهلكه كما هو معروف. ثم جاءت الدولة العبّاسيّة فولّى السفاح على مصر عمّه صالح بن عليّ سنة أربع وثلاثين ومائة، وبقيت في ولايته يستخلف عليها، فاستخلف أولا محصن بن فاني الكنديّ ثمانية أشهر. ثم أبا عون
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة مشوشة وغير واضحة أما عبد العزيز بن مروان فقد توفي في جمادى الأولى في مصر سنة 85 هـ. أما بعد موت مروان بن الحكم فقد وليّ الخلافة من بعده ابنه عبد الملك بن مروان كما هو معروف وكانت ولاية العهد من بعده لشقيقه عبد العزيز بن مروان ولكن هذا توفي في عهد عبد الملك سنة 85 كما ذكرنا فضم عبد الملك ولاية مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وقد بقي في ولايتها الى ان عزله الوليد بن عبد الملك.
[2] هكذا بياض بالأصل والمعروف من كتب التاريخ انه ولّى عبد الملك بن رفاعة.(4/382)
عبد الملك بن يزيد مولى مناه ثمانية أشهر. وولّى داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة في محرّم سنة أربع وسبعين. ثم عزله في محرّم سنة خمس وسبعين لسنة من ولايته، وأعاد إليها موسى بن عيسى. ثم صرفه في ربيع سنة ست وسبعين وولّى ابن عمّه إبراهيم بن صالح وتوفي لثلاثة أشهر من ولايته، وقام بالأمر بعده ابنه صالح فولّى الرشيد عبد الله ابن المسيّب بن زهير الضّبيّ في رمضان سنة ستة وسبعين ومائة ثم عزله بعد الحول، وولّى هرثمة بن أعين. ثم أمره بالمسير إلى إفريقية لثلاثة أشهر من ولايته سلخ ثمان وسبعين ومائة، وولّى أخاه عبيد الله بن المسيّب. ثم أعاد موسى بن عيسى في رمضان سنة تسع وسبعين ومائة فاستخلف ابنه يحيى. ثم صرف موسى في منتصف سنة ثمانين لعشرة أشهر من ولايته، وأعيد عبيد الله بن المهدي. ثم صرفه في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة وأعيد إسماعيل بن صالح بن عليّ من العمومة فاستخلف، ثم صرف في منتصف اثنتين وثمانين ومائة وأعيد لعشرة أشهر من ولايته. وولّى الليث بن الفضل من أهل أسبورد فوليها أربع سنين ونصفا وعزل. ثم ولّى الرشيد من قرابته أحمد بن إسماعيل بن عليّ منتصف سبع وثمانين ومائة فبقي عليها سنتين وشهرين. ثم ولّى مكانه عبد الله بن محمد بن الإمام إبراهيم بن محمد ويعرف بابن زينب، وصرفه عنها آخر شعبان من سنة تسعين ومائة لسنة وشهرين من ولايته. وولّى حاتم بن هرثمة بن أعين، فقدم في شوّال سنة أربع وتسعين ومائة، ثم صرفه الأمير منتصف خمس وتسعين ومائة لسنة وثلاثة أشهر من ولايته، وولّى جابر بن الأشعث بن يحيى بن النعمان الطائي منتصف خمس وتسعين ومائة فأخرجه الجند منها سنة وست وتسعين ومائة لسنة من ولايته. ثم ولّى المأمون عليها عباد بن محمد بن حيّان البلخيّ مولى كندة، ويكنى أبا نصر. ثم عزله لسنة ونصف من ولايته في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وولى المطلب بن عبد الله بن مالك ابن الهيثم الخزاعيّ، وقدمها من مكة في منتصف ربيع الأوّل. ثم صرفه في شوّال لثمانية أشهر من ولايته، وولّى من عمومته العبّاس بن موسى بن عيسى فبعث عليها ابنه عبد الله، ومعه الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، فأقام عليها شهرين ونصفا، فقتله الجند يوم النحر سنة ثمان وتسعين ومائة، وولوا عليهم المطلب بن عبد الله. ثم جرت بينه وبين السدّي وبين الحكم بن يوسف مولى بني ضبّة من أهل بلخ من قوم يقال لهم الزطّ، وجرت بينه وبين أهل المطّلب حروب، وخرج هاربا إلى مكة بعد سنة وثمانية أشهر من ولايتها(4/383)
ووليها السري بإجماع الجند في رمضان سنة مائتين. ثم وثب به الجند بعد ستة أشهر وولّوا سليمان بن غالب بن جبريل بن يحيى بن قرّة العجليّ في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين. وولّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مولى خزاعة فأقام عشرة. ثم ولّى المأمون عليها أخاه أبا إسحاق الملقّب في خلافته بالمعتصم، فأقرّ عيسى الجلودي، وبعده عمير بن الوليد التميمي في صفر سنة أربع عشرة ومائتين ثم قتل بعد شهرين، واستخلف ابنه محمد بن عمير شهرا، ثم أعاد عيسى الجلودي. ثم جاء أبو إسحاق المعتصم إلى الفسطاط، وعاد إلى الشام، واستخلف عبدويه بن جبلة في المحرّم فاتح [1] خمس عشرة فأقام سنة، وولّى عيسى بن منصور بن موسى الخراساني الرّافعي مولى بني نصر بن معاوية. ثم قدم المأمون مصر لسنة من ولايته، فسخط على عيسى بن منصور، وعمّر المقياس وجسرا آخر بالفسطاط، وولّى كندر بن عبد الله ابن نصر الصّفدىّ، ويكنّى أبا مالك، ورجع إلى العراق ومات كندر في ربيع سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر. ولما صارت الخلافة للمعتصم ولّى على مصر مولاه أشناس، ويكنّى أبا جعفر في رجب سنة ثمان عشرة، فاستخلف عليها موسى بن أبي العبّاس ثابت من بني حنيفة من أهل الشاش في رمضان سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر فأقام مستخلفا لأشناس أربع سنين ونصفا. ثم عزله بعد سنتين، واستخلف مالك ابن كيد [2] بن عبد الله الصّفديّ، فقدم في ربيع سنة أربع وعشرين ومائتين ثم عزله بعد سنتين واستخلف عليّ بن يحيى الأرمني، وقدم في ربيع سنة ست وعشرين ومائتين. ثم عزله بعد سنتين وثمانية أشهر، واستخلف عيسى بن منصور الّذي كان مستخلفا للمعتصم أيام المأمون، وسخطه المأمون عند قدومه مصر فقدم عيسى في محرّم سنة تسع وعشرين ومائتين. ثم مات أشناس بعد الثلاثين، وقد استخلف على مصر أتياخ مولى المعتصم وأقيم اتياخ [3] مكان أشناس فأقرّ الواثق إتياخ على مصر، فأقرّ إتياخ عيسى بن منصور في ربيع سنة ست وثلاثين ومائتين فبقي أربعة أشهر. ثم استخلف إتياخ هرثمة بن النضر الجبليّ فقدم منتصف سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وأقام سنة، ثم مات سنة أربع وثلاثين
__________
[1] اي بداية سنة خمس عشرة. وفاتحة كل شيء أوله (قاموس) .
[2] هكذا بالأصل والصحيح كندر.
[3] إيتاخ: ابن الأثير ج 6 ص 507.(4/384)
ومائتين، وقام بأمره ابنه حاتم رضي الله تعالى عنه، فاستخلف إتياخ على بني يحيى الأرمني في رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين. ثم صرف إتياخ عن ولاية مصر في محرم سنة خمس وثلاثين ومائتين بعد وفاة المعتصم. وولّى المتوكل على مصر ابنه المستنصر فاستخلف عليها إسحاق بن يحيى بن معاذ الختّليّ، وقدم في ذي القعدة من سنته.
وفي أيامه أخرج ولد عليّ من مصر إلى العراق. ثم صرف في ذي القعدة من سنة ست وثلاثين ومائتين، واستخلف المستنصر عليها عبد الرحمن بن يحيى بن منصور بن طلحة وريق، وهو ابن عم طاهر بن الحسين، وقدم في ذي القعدة سنة ست وثلاثين ومائتين. ثم صرفه واستخلف عنبسة بن إسحاق بن عبس بن عبسة من أهل هراة. ويكنّى أبا حاتم في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين. وفي ولايته كبس الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين. واستخلف يزيد بن عبد الله بن دينار من مواليهم، ويكنّى أبا خالد. وفي أيامه منع العلويّون من ركوب الخيل واقتناء العبيد. ثم ولي المستنصر الخلافة في شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين فأقرّ يزيد على ولاية مصر. ثم صرف عنها في ربيع سنة ثلاث وخمسين لعشر سنين من ولايته، وولّى المعتز مكانه مزاحم بن خاقان [1] بن عزطوج التركي في ربيع سنة أربع وخمسين، وعهد الى أزجور بن أولغ طرخان التركي فأقام خمسة أشهر وخرج حاجّا في رمضان سنة أربع وخمسين. وولي أحمد بن طولون، واستفحل بها أمره، وكانت له ولبنيه بها دولة كما نذكر الآن أخبارها.
(الخبر عن دولة أحمد بن طولون بمصر وبنيه ومواليه بني طغج وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم)
قال ابن سعيد ونقله من كتاب ابن الداية في أخبار بني طولون: كان طولون أبو أحمد من الطغزغز، وهم التتر. حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون في وظيفته من المال والرقيق والبراذين. وولد له أحمد سنة عشرين ومائتين من جارية اسمها ناسم.
وتوفي طولون سنة أربعين ومائتين، وكفله رفقاء أبيه بدار الملك حتى ثبتت مرتبته، وتصرّف في خدمة السلطان، وانتشر له ذكر عند الأولياء فاق به على أهل طبقته،
__________
[1] توفي سنة 253 كما في الكامل ج 7 ص 183 فكيف يكون ولي مصر سنة 254؟
ابن خلدون م 25 ج 4(4/385)
وشاع بين الترك صونه ودينه وأمانته على الأسرار والأموال والفروج. وكان يستصغر عقول الأتراك، ويرى أنهم ليسوا بأهل للرتب. وكان يحبّ الجهاد. وطلب من محمد بن أحمد بن خاقان أن يسأل من عبد الله الوزير أن يكتب لهما بأرزاقهما إلى الثغر، ويقيما لك مجاهدين. وسار إلى طرسوس، وأعجبه ما عليه أهل الحقّ من تغيير المنكر وإقامة الحقّ فأنس، وعكف على طلب الحديث. ثم رجع إلى بغداد وقد امتلأ علما ودينا وسياسة. ولما تنكّر الأتراك للمستعين وبايعوا المعتزّ، وآل أمر المستعين إلى الخلع والتغريب إلى واسط، وكّلوا به أحمد بن طولون فأحسن عشرته، ووسّع عليه، وألزمه أحمد بن محمد الواسطيّ يومه، وكان حسن العشرة فكه المجالسة. ولمّا اعتزموا على قتله بعثوا إلى أحمد بن طولون أن يمضي ذلك فتفادى منه، فبعثوا سعيدا الحاجب فسمله، ثم قتله. ودفنه ابن طولون وعظم محلّه بذلك عند أهل الدولة، انتهى كلام ابن سعيد. وقال ابن عبد الظاهر: وقفت على سيرة للإخشيذ قديمة عليها خطّ الفرغاني وفيها أن أحمد هو ابن النج من الأتراك، كان طولون صديق أبيه ومن طبقته. فلما مات النج ربّاه طولون وكفله، فلمّا بلغ من الحداثة مشى مع الحشوية وغزا، وتنقّلت به الأحوال إلى أن صار معدودا في الثقات. وولي مصر واستقرّ بها. قال صدر الدين بن عبد الظاهر: ولم أر ذلك لغيره من المؤرخين انتهى. ولما وقع اضطراب الترك ببغداد وقتل المستعين وولي المعتز واستبدّ عليه الأتراك وزعيمهم يومئذ باك باك [1] وولّاه المعتزّ مصر، ونظر فيمن يستخلفه عليها، فوقع اختياره على أحمد بن طولون فبعثه عليها، وسار معه أحمد بن محمد الواسطي، ويعقوب بن إسحاق، ودخلها في رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين وعلى الخوارج [2] بها أحمد بن المدبّر، وعلى البريد سفير مولى قبيجة [3] فأهدى له ابن المدبّر، ثم استوحش منه، وكاتب المعتز بأنّ ابن طولون يروم العصيان وكاتب صاحب البريد بمثل ذلك، فسطا بسفير صاحب البريد ومات من غده. ثم قتل المعتزّ وولي المهتدي فقتل باك باك، ورتّب مكانه يارجوج [4] ، وولّاه مصر. وكانت
__________
[1] بابكيال: ابن الأثير ج 7 ص 187.
[2] مقتضى السياق الخراج، وليس للخوارج اي محل هنا.
[3] الصحيح قبيحة وهي أم المعتزّ وقد سمّاها بهذا الاسم المتوكّل لحسنها وجمالها.
[4] ياركوج التركي: ابن الأثير ج 7 ص 187.(4/386)
بينه وبين أحمد بن طولون مودّة أكيدة، فاستخلفه على مصر، وأطلق يده على الإسكندرية والصعيد بعد أن كان مقتصرا على مصر فقط. وجعل إليه الخراج فسقطت رتبة ابن المدبّر. ثم أعاده المعتمد فلم ينهض إلى مساماة ابن طولون ولا منازعته. ثم كتب إليه المعتمد بضبط عيسى بن شيخ الشيبانيّ، وكان يتقلّد فلسطين والأردن، وتغلّب على دمشق، وطمع في مصر ومنع الحمل. واعترض حمل ابن المدبّر، وكان خمسة وسبعين حملا من الذهب فأخذها، فكتب إليه المعتمد يومئذ بولاية أعماله فادّعى العجز، وأنكر مال الحمل ونزع السواد، وأنفذ أناجور من الحضرة في العساكر إلى دمشق سنة سبع وخمسين. ثم خرج أحمد بن طولون إلى الإسكندرية ومعه أخوه موسى وكان يتجنى عليه، ويرى أنه لم يوف بحقّه، وظهر ذلك منه في خطابه فأوقع به ونفاه، وحبس كاتبه إسحاق بن يعقوب، واتهمه بأنه أفضى بسرّه إلى أخيه. وخرج أخوه حاجّا، وسار من هنالك إلى العراق، ووصف أخاه بالجميل فحظي بذلك عند الموفّق. واستفحل أمر أحمد واستكثر من الجند وخافه أناجور بالشام. وكتب الموفّق يغريه بشأنه وأنه يخشى على الشام منه.
فكتب الموفّق إلى ابن طولون بالشخوص إلى العراق لتدبير أمر السلطان، وأن يستخلف على مصر فشعر ابن طولون بالمكيدة في ذلك، فبعث كاتبه أحمد بن محمد الواسطي إلى يارجوج وإلى الوزير، وحمل إليهما الأموال والهدايا. وكان يارجوج متمكّنا في الدولة فسعى في أمره، وأعفاه من الشخوص وأطلق ولده وحرمه، واشتدّت وطأة ابن طولون وخافه أحمد بن المدبّر، فكتب إلى أخيه إبراهيم أن يتلطّف له في الانصراف عن مصر فورد الكتاب بتقليده خراج دمشق وفلسطين والأردن، وصانع ابن طولون بضياعه التي ملكها، وسار إلى عمله بمصر وشيّعه ابن طولون ورضي عنه وذلك سنة ثمان وخمسين ومائتين وولي الوزير على الخراج من قبله، وتقدّم لابن طولون باستحثاثه، فتتابع حمل الأموال إلى المعتمد. ثم كتب ابن طولون بأن تكون جباية الخراج له فأسعف بذلك، وأنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليده خراج مصر وضريبتها، وخراج الشام. وبعث إليه نفيس الخادم ومعه صالح بن أحمد بن حنبل قاضي الثغور، ومحمد بن أحمد الجزوعي قاضي واسط شاهدين بإعفائه ما زاد على الرسم من المال والطراز. ومات يارجوج في رمضان سنة تسع وخمسين وكان صاحب مصر، ومن أقطاعه. ويدعى له قبل ابن طولون، فلمّا مات استقل(4/387)
أحمد بمصر.
(فتنة ابن طولون مع الموفق)
لما استأمن الزنج وتغلّبوا على نواحي البصرة، وهزموا العساكر بعث المعتمد إلى الموفّق، وكان المهتدي نفاه إلى مكة، فعهد له المعتمد بعد ابنه المفوّض، وقسّم ممالك الإسلام بينهما. وجعل الشرق للموفّق ودفعه لحرب الزنج، وجعل الغرب للمفوّض، واستخلف عليه موسى بن بغا، واستكتب موسى بن عبيد الله بن سليمان بن وهب. وأودع كتاب عهدهما في الكعبة. وسار الموفّق لحرب الزنج، واضطرب الشرق، وقعد الولاة عن الحمل، وشكا الموفق الحاجة إلى المال. وكان ابن طولون يبعث الأموال إلى المعتمد يصطنعه بذلك، فأنفذ الموفّق نحريرا خادم المتوكّل إلى أحمد بن طولون يستحثّه لحمل الأموال والطراز والرقيق والخيل، ودسّ إليه أن يعتقله واطلع على الكتب، وقتل بعض القوّاد وعاقب آخرين وبعث مع نحرير ألفي ألف ومائتي ألف دينار ورقيقا وطرزا. وجمع الرسم وبعث معه من أسلمه إلى ثقة أناجور صاحب الشام. ولما فعل ابن طولون بنحرير ما فعل، كتب الموفّق إلى موسى بن بغا بصرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها أناجور. فكتب إلى أناجور بتقليدها فعجز عن مناهضة أحمد، فسار موسى بن بغا ليسلّم إليه مصر، وبلغ الرقّة واستحثّ أحمد في الأموال، فتهيّأ أحمد لحربه، وحصّن الجزيرة معقلا لحربه وذخيرته. وأقام موسى بالرقّة عشرة أشهر، واضطرب عليه الجند وشغبوا وطالبوه بالأرزاق واختفى كاتبه موسى بن عبيد الله بن وهب، فرجع وتوفي سنة أربع وستين ومائتين ثم كتب الموفّق إلى ابن طولون باستقلال ما حمله من المال، وعنّفه وهدّده فأساء ابن طولون جوابه، وأنّ العمل لجعفر بن المعتمد ليس لك فأحفظ ذلك الموفّق، وسأل من المعتمد أن يولّي على الثغور من يحفظها، وأنّ ابن طولون لا يؤمن عليها لقلّة اهتمامه بأمرها، فبعث محمد بن هارون التغلبيّ عامل الموصل، وركب السفن فألقته الريح بشاطئ دجلة، فقتله الخوارج أصحاب مسا والساري
.(4/388)
(ولاية أحمد بن طولون على الثغور)
وكانت أمهات الثغور يومئذ أنطاكية وطرسوس والمصيصة وملطية، وكان على أنطاكية محمد بن عليّ بن يحيى الأرمني، وعلى طرسوس سيما الطويل وإليه أمر الثغور. وجاء في بعض أيامه إلى أنطاكية فمنعه الأرمني من الدخول فدسّ إلى أهل البلد بقتله فقتلوه، وأحفظ ذلك الموفّق فولّى على الثغور أرجون بن أولغ طرخان التركي، وأمره بالقبض على سيما الطويل فقام بالثغور، وأساء التصرّف، وحبس الأرزاق عن أهلها. وكانت قلعة لؤلؤة من قلاع طرسوس في نحر العدوّ، وأهمّ أهل طرسوس أمرها، فبعثوا إلى حاميتها خمسة آلاف دينار رزقا من عندهم، فأخذها أرجون لنفسه، وضاعت حاميتها وافترقوا. وكتب الموفّق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور، وأن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله وكتب الموفّق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور، وأن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله طحشي بن بكروان، وحسنت حالهم وطلب منه ملك الروم الهدنة. واستأذن في ذلك ابن طولون فمنعه، وقال: إنما حملهم على ذلك تخريبكم لقلاعهم وحصونهم فيكون في الصلح راحة لهم فحاش للَّه منه، وأمره برمّ الثغور وأرزاق الغزاة.
(استيلاء أحمد بن طولون على الشام)
قد تقدّم لنا ولاية أناجور [1] على دمشق سنة سبع وخمسين ومائتين وما وقع بينه وبين أحمد بن طولون. ثم توفي أناجور في شعبان سنة أربع وستين ومائتين ونصّب ابنه عليّ مكانه. وقام يدبّر أمره أحمد بن بغا وعبيد الله بن يحيى بن وهب. وسار إلى الشام موريا بمشارفة الثغور، واستخلف ابنه العبّاس على مصر، وضمّ إليه أحمد بن محمد الواسطي، وعسكر في مينة الإصبع، وكتب إلى عليّ بن أناجور بإقامة الميرة للعساكر فأجاب الآمال. وسار ابن طولون إلى الرملة، وبها محمد بن أبي رافع من
__________
[1] أماجور: ابن الأثير ج 7 ص 316- والمختصر في اخبار البشر ج 2 ص 48.(4/389)
قبل أناجور، ومدبّر دولته أحمد بن [1] لك منذ نفاه المهتدي فأكرمه.
ثم سار عن دمشق، واستخلف عليها أحمد بن دوغياش، ورحل الى حمص وبها أكبر قوّاد أناجور فشكت الرعية منه فعزله، وولّى يمتا التركي. ثم سار إلى أنطاكية وقد امتنع بها سيما الطويل بعد أن كتب بالطاعة، وأن ينصرف عنه فأبى وحاصرها وشدّ حصارها. وضجر أهلها من سيما فداخل بعضهم أحمد بن طولون ودلّوه على بعض المسارب فدخلها منه في فاتحة خمس وستين وقتل سيما الطويل وقبض على أمرائه وكاتبه. ثم سار إلى طرسوس فملكها، ودخلها في خلق كثير، وشرع في الدخول إلى بلاد الروم للغزو. وبينما هو يروم ذلك جاءه الخبر بانتقاض ابنه العبّاس الّذي استخلفه بمصر فرجع، وبعث عسكرا إلى الرقّة وعسكرا إلى حرّان، وكانت لمحمد بن أناشر [2] فأخرجوه عنها وهزموه. وبلغ الخبر إلى أخيه موسى، فسار إلى حرّان وكان شجاعا. وكان مقدّم العسكر بحرّان ابن جيعونه [3] فأهمه أمرهم، فقال له أبو الأغرّ من العرب: أنا آتيك بموسى واختار عشرين فارسا من الشجعان وسار إلى معسكر موسى فأكمن بعضهم ودخل بالباقين بعض الخيام فعقدت، واهتاج العسكر، وهرب أبو الأغرّ واتبعوه فخرج عليهم الكمين فهزموهم وأسر موسى، وجاء به أبو الأغرّ إلى ابن جيعونة قائد ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر سنة ست وستين ومائتين
(الخبر عن انتقاض العبّاس بن أحمد بن طولون على أبيه)
لما رحل أحمد بن طولون إلى الشام واستخلف ابنه العبّاس، وكان أحمد بن الواسطي محكما في الدولة. وكان للعبّاس بطانة يدارسونه الأدب، والنحو وأراد أن يولّي بعضهم الوظائف، ولم يكونوا يصلحون لها، فمنع الواسطي من ذلك خشية الخلل في الأعمال، فحمل هؤلاء البطانة عليه عند العبّاس وأغروه به. وكتب هو إلى أحمد
__________
[1] كان مدبر دولة علي بن اماجور أحمد بن بغا
[2] محمد بن أتامش: ابن الأثير ج 7 ص 318.
[3] هو أحمد بن جيعويه: المرجع السابق.(4/390)
يشكوهم فأجابه بمداراة الأمور إلى حين وصوله. وكان محمد بن رجاء كاتب أحمد مداخلا لابنه العبّاس فكان يبعث إليه بكتب الواسطي يتنزّل له، فاطّلع على جواب أبيه عن كتبه بالمداراة، فازداد خوفا وحمل ما كان هنالك من المال والسلاح، وهو ألف ألف دينار. وتسلّف من التجّار مائتي ألف أخرى، واحتمل أحمد بن محمد الواسطي وأيمن الأسود مقيّدين، وسار إلى برقة. ورجع أحمد إلى مصر وبعث له جماعة فيهم القاضي أبو بكرة بكّار بن قتيبة والصابوني القاضي وزياد المرّيّ مولى أشهب، فتلطّفوا به بالموعظة حتى لان، ثم منعه بطانته وخوّفوه فقال لبكّار:
ناشدتك الله هل تأمنه عليّ؟ فقال: هو قد حلف، وأنا لا أعلم فمضى على ريبته.
ورجع القوم إلى أبيه وسار هو إلى إفريقية يطلب ملكها، وسهّل عليه أصحابه أمر إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحبها، وكتب إليه بأنّ المعتمد قلّده إفريقية، وأنه أقرّه عليها. وانتهى إلى مدينة لبدة [1] فخرج عليه عامل ابن الأغلب فقبض عليه، ونهب البلد وقتل أهله، وفضح نساءهم فاستغاثوا بإلياس بن منصور كبير نفوسة ورئيس الإباضيّة، وقد كان خاطبه يتهدّده على الطاعة. وبلغ الخبر إلى ابن الأغلب فبعث العساكر مع خادمه بلاغ، وكتب إلى محمد بن قهرب عامل طرابلس بأن يظاهر معه على قتال العبّاس فسار ابن قهرب وناوشه القتال من غير مسارعة. ثم صحبهم الياس في اثني عشر ألفا من قومه. وجاء بلاغ الخادم من خلفه فأجفل، واستبيح أمواله وذخائره، وقتل أكثر من كان معه، وأفلت بحاشيته. وانطلق أيمن الأسود من القيد ورجع إلى مصر. وجاء العبّاس إلى برقة مهزوما وكان قد أطلق أحمد الواسطي بعد أن ضمن حزب برقة إحضاره، فلما رجع أعاده إلى محبسه فهرب من المحبس، ولحق بالفسطاط ووجد أحمد بن طولون قد سار إلى الإسكندرية عازما على الرحيل إلى برقة، فهوّن أمره، ومنعه من الرحيل بنفسه، وخرج طبارجي وأحمد الواسطي فجاءوا به مقيّدا على بغل، وذلك سنة سبع وستين ومائتين وقبض على كاتبه محمد بن رجاء وحبسه لما كان يطلع ابنه العبّاس على كتبه، ثم ضرب ابنه وهو باك عليه وحبسه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى لبلة، ولبلة هي قصبه كورة بالأندلس وليست معنية هنا. والصحيح لبدة وهي مدينة بين برقة وافريقية، وقيل بين طرابلس وجبل نفوسة. (معجم البلدان) .(4/391)
(خروج الصوفي والعمري بمصر)
كان أبو عبد الرحمن العمريّ بمصر، وهو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، مقيما بالقاصية من الصعيد، وكان البجاة يغيرون في تلك الأعمال ويعيثون فيها. وجاءوا يوم عيد فنهبوا وقتلوا، فخرج هذا العمري غضبا للَّه، وأكمن لهم في طريقهم ففتك بهم، وسار في بلادهم حتى أعطوه الجزية، واشتدّت شوكته.
وزحف العلويّ للقائه فهزمه العمري، وذلك سنة ستين ومائتين وكان من خبر هذا العلويّ أنه ظهر بالصعيد سنة سبع وخمسين ومائتين وذكر أنّ اسمه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، ويعرف بالصوفيّ، فملك مدينة أسنا ونهبها، وعاث في تلك الناحية. وبعث إليه ابن طولون جيشا فهزمهم، وأسر مقدّم الجيش فقطعه فأعاد إليه جيشا آخر، وانهزم إلى الواحات. ثم عاد إلى الصعيد سنة تسع وخمسين ومائتين وسار إلى الأشمونين. ثم سار للقاء العمري وانهزم إلى أسوان، وعاث في جهاتها. وبعث إليه ابن طولون العسكر فهرب إلى عيذاب، وعبر البحر إلى مكة فقبض عليه الوالي بمكة، وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدّة، ثم أطلقه ومات بالمدينة. ثم بعث ابن طولون العسكر إلى العمري فلقي قائدهم وقال:
إني لم أخرج بالفساد ولا يؤذى مسلم ولا ذمي [1] وإنما خرجت للجهاد فشاور أميرك في فأبى، وناجزه الحرب فانهزم العسكر، ورجعوا إلى ابن طولون فأخبروه بشأنه فقال: هلّا كنتم شاورتموني فيه؟ فقد نصره الله عليكم ببغيكم. ثم وثب عليه بعد مدّة غلامان له فقتلاه وجاءا برأسه إلى أحمد بن طولون فقتلهما.
(انتقاض برقة)
وفي سنة إحدى وستين ومائتين وثب أهل برقة بعاملهم محمد بن فرج الفرغاني
__________
[1] مقتضى السياق: ولم أؤذ مسلما ولا ذميا.(4/392)
فأخرجوه، ونقضوا طاعة ابن طولون فبعث إليهم العساكر مع غلامه لؤلؤ، وأمره بالملاينة فحاصرهم أياما وهو يلين لهم حتى طمعوا فيه، ونالوا من عسكره فبعث إلى أحمد بخبره فأمره بالاشتداد فشدّ حصارهم، ونصب عليهم المجانيق فاستأمنوا، ودخل البلد وقبض على جماعة من أعيانهم فضربهم وقطعهم، ورجع إلى مصر واستعمل عليهم مولى من مواليه، وذلك قبل خلاف العبّاس على أبيه.
(انتقاض لؤلؤ على ابن طولون)
كان ابن طولون قد ولّى مولاه لؤلؤا على حلب وحمص وقنسرين وديار مضر من الجزيرة، وأنزله الرقّة، وكان يتصرّف عن أمره. ومتى وقع في مخالفته عاقب ابن سليمان كاتب لؤلؤ فسقط لؤلؤ في المال، وقطع الحمل عن أحمد بن طولون. وخاف الكاتب مغبّة ذلك، فحمل لؤلؤا على الخلاف، وأرسل إلى الموفّق بعد أن شرط على المعتمد شروطا أجابه الموفق إليها، وسار إلى الرقّة وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه وملكها منه وسلّمها إلى أحمد بن مالك بن طوق. وسار إلى الموفّق فوصل إليه بمكانه من حصار صاحب الزنج وأقبل عليه، واستعان به في تلك الحروب، وولّاه على الموصل. ثم قبض عليه سنة ثلاث وسبعين ومائتين وصادره على أربعمائة ألف دينار فافتقر وعاد إلى مصر آخر أيام هارون بن خماروي فقيرا فريدا.
(مسير المعتمد الى ابن طولون وعوده عنه من الشام)
كان ابن طولون يداخل المعتمد في السرّ ويكاتبه، ويشكو إليه المعتمد ما هو فيه من الحجر والتضييق عليه من أخيه الموفّق، والموفّق بسبب ذلك ينافر ابن طولون ويسعى في إزالته عن مصر. ولما وقع خلاف لؤلؤ على ابن طولون خاطب المعتمد وخوّفه الموفّق واستدعاه إلى مصر، وأنّ الجيوش عنده لقتال الفرنج. فأجابه المعتمد إلى ذلك، وأراد لقاءه بجميع عساكره فمنعه أهل الرأي من أصحابه، وأشاروا عليه بالعدول عن المعتمد جملة، وأنّ أمره يؤل معه إلى أكثر من أمر الموفّق، من أجل بطانته التي(4/393)
يؤثرها على كل أحد. واتصلت الأخبار بأنّ الموفّق شارف القبض على صاحب الزنج، فبعث ابن طولون بعض عساكره إلى الرقة لانتظار المعتمد، واغتنم المعتمد غيبة الموفّق وسار في جمادى سنة ثمان وستين ومائتين ومعه جماعة من القواد الذين معه فقبض عليهم وقيّدهم. وقد كان ساعد بن مخلّد وزير الموفّق خاطبه في ذلك عن الموفّق فأظهر طاعتهم حين صاروا إلى عمله، وسار معهم إلى أوّل عمل أحمد بن طولون فلم يرحل معهم حين رحلوا [1] . ثم جلس معهم بين يدي المعتمد وعذلهم في المسير إلى ابن طولون ودخولهم تحت حكمه وحجره. ثم قام بهم عند المعتمد ليناظرهم في خلوة فلما دخلوا خيمته قبض عليهم. ثم رجع إلى المعتمد فعذله في الخروج عن دار خلافته، وفراق أخيه وهو في قتال عدوّه. ثم رجع بالمعتمد والذين معه حتى أدخلهم سرّ من رأى. وبلغ الخبر إلى ابن طولون فقطع خطبة الموفّق ومحا اسمه من الطرز، فتقدّم الموفّق إلى المعتمد بلعن ابن طولون في دار العامّة، فأمر بلعنه على المنابر وعزله عن مصر [2] وفوّض إليه من باب الشاتية إلى إفريقية، وبعث إلى مكة بلعنه في المواسم فوقعت بين أصحاب ابن طولون وعامل مكة حرب، ووصل عسكر الموفق مع جعفر الباعردي، فانهزم فيها أصحاب ابن طولون وسلبوا وأمر جعفر المصريّين وقرءوا الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون.
__________
[1] المقطع كله غير واضح ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة 269: وفيها سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمها، ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا كثير، وكان الحكم كله للموفق، والأموال تجبى إليه، فضجر المعتمد من ذلك، وأنف منه، فكتب الى أحمد بن طولون يشكو إليه حاله سرا من أخيه الموفق، فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر، ووعده النصرة، وسيّر عسكرا الى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتنم المعتمد غيبة الموفق عنه، فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، فأقام بالكحيل يتصبّر.
فلما سار الى عمل إسحاق بن كنداجيق، وكان عامل الموصل وعامّة الجزيرة، وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد فقبضهم ... وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق. وكان سبب وصوله الى قبضهم أنه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد، إذ هو الخليفة، ولقيهم لما صاروا الى عمله، وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الاتباع والغلمان الذين مع المعتمد، وقوّاده ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون ... ابن الأثير ج 7 ص 394.
[2] كذا بياض بالأصل، وفي تاريخ أبي الفداء المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 53 «وفي هذه السنة- 269- أمر المعتمد بلعن أحمد بن طولون على المنابر لكونه قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز، وانما أمر المعتمد بذلك مكرها لأن هواه كان مع ابن طولون» . أما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 397 «وفيها- 269- لعن المعتمد احمد بن طولون في دار العامة وأمر بلعنه على المنابر، وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون، وفوّض اليه من باب الشّمّاسيّة الى افريقية، وولّي شرطة الخاصة»(4/394)
(اضطراب الثغور ووصول أحمد بن طولون اليها ووفاته)
كان عامل أحمد بن طولون على الثغور طلخشى بن بلذدان، واسمه خلف، وكان نازلا بطرسوس. وكان مازيار [1] الخادم مولى فتح بن خاقان معه بطرسوس وارتاب به طلخشى فحبسه فوثب جماعة من أهل طرسوس، واستقدموا مازيار من يده وولّوه. وهرب خلف وتركوا الدعاء لابن طولون فسار ابن طولون من مصر وانتهى إلى أذنة، وكاتب مازيار واستماله فامتنع، واعتصم بطرسوس فرجع ابن طولون إلى حمص ثم إلى دمشق فأقام بها. ثم رجع وحاصره في فصل الشتاء بعد أن بعث إليه يدعوه [2] وانساح على معسكر أحمد وخيمه، وكادوا يهلكون، فتأخّر ابن طولون إلى أذنة، وخرج أهل طرسوس فنهبوا العسكر. وطال مقام أحمد بأذنة في طلب البرد [3] ثم سار إلى المصيصة فأقام بها ومرض هناك. ثم تماسك إلى أنطاكية فاشتدّ وجعه ونهاه الطبيب عن كثرة الغذاء فتناوله سرّا، فكثر عليه الاختلاف، لأنّ أصل علّته هيضة من لبن الجواميس. وثقل عليه الركوب فحملوه على العجلة فبلغ الفرمار، وركب من ساحل الفسطاط إلى داره، وحضره طبيبه فسهّل عليه الأمر وأشار بالحمية فلم يداوم عليها. وكثر الإسهال وحميت كبده من سوء الفكر فساءت أفعاله. وضرب بكار بن قتيبة القاضي، وأقامه للناس في الميدان، وخرق سواده وأوقع بابن هرثمة وأخذ ماله وحبسه. وقتل سعيد بن نوفل مضروبا بالسياط. ثم جمع أولياءه وغلمانه وعهد إلى ابنه أبي الجيش خمارويه. وأوصاهم بإنظاره وحسن النظر فسكنوا إلى ذلك لخوفهم من ابنه العبّاس المعتقل. ثم مات سنة ست وسبعين ومائتين لست وعشرين سنة من إمارته، وكان حازما سائسا وبنى جامعه بمصر وأنفق فيه مائة وعشرين ألف دينار، وبنى قلعة يافا، وكان يميل إلى مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه. وخلّف من المال عشرة آلاف ألف دينار، ومن الموالي سبعة آلاف.
__________
[1] بازمار: ابن الأثير ج 7 ص 406.
[2] بياض بالأصل في الكامل ج 7 ص 409: وراسله يستميله، فلم يلتفت الى رسالته.
[3] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 7 ص 409: وكان الزمان شتاء ومقتضى السياق: وطال مقام احمد بأذنة بسبب البرد.(4/395)
ومن الغلمان أربعة آلاف، ومن الخيل المرتبطة مائة، ومن الدواب لركابه مائتين وثلاثين. وكان خراج مصر لأيامه مع ما ينضاف إليها من ضياع الأمراء لحضرة السلطان أربعة آلاف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، وعلى المارستان وأوقافه ستين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة والجزيرة وهي المسماة لهذا العهد بقلعة الروضة ثمانين ألف دينار. وخربت بعد موته وجدّدها الصالح نجم الدين بن أيوب. ثم خربت ثانية، ولم يبق منها إلا أطلال دائرة، وكان يتصدّق في كل شهر بألف دينار، ويجري على المسجونين خمسمائة دينار في كل شهر، وكانت نفقة مطابخه وعلوفته ألف دينار في كل يوم.
(ولاية خمارويه بن أحمد بن طولون)
ولما توفي أحمد بن طولون اجتمع أهل الدولة وخواص الأولياء وكبيرهم أحمد بن محمد الواسطي والغالب على الدولة الحسن بن مهاجر، فاتفقوا على بيعة ابنه أبي الجيش خمارويه، وأحضروا ابنه العبّاس من محبسه وعزّاه الواسطي وهم يبكون. ثم قال بايع لأخيك فأبى، فقام طبارجي وسعد الآيس [1] من الموالي، وسحبوه إلى حجرة في القصر فاعتقلوه بها، وأخرج من الغد ميتا، وأخرجوا أحمد إلى مدفنه وصلى عليه ابنه أبو الجيش، وواراه ورجع إلى القصر مقيما لأمر سلطانه.
(مسير خمارويه الى الشام وواقعته مع ابن الموفق)
ولما توفي أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداج عاملا على الجزيرة والموصل، وابن أبي الساج على الكوفة، وقد ملك الرحبة من يد أحمد بن مالك فطمعا في ملك الشام، واستأذنا الموفّق فأذن لهما ووعدهما بالمدد. وسار إسحاق إلى الرقّة والثغور والعواصم فملكها من يد ابن دعّاس عامل ابن طولون. واستولى إسحاق على حمص وحلب وأنطاكية، ثم على دمشق. وبعث خمارويه العساكر إلى الشام فملكوا دمشق
__________
[1] سعيد الأيسر: ابن الأثير ج 7 ص 415.(4/396)
وهرب العامل الّذي انتقض بها. ثم سار العسكر إلى شيزر فأقام عليها قبالة إسحاق وابن أبي الساج، وهما ينتظران المدد من العراق. ثم هجم الشتاء فتفرّق عسكر خمارويه في دور شيزر ووصل العسكر من العراق مع أبي العبّاس أحمد بن الموفّق الّذي صارت إليه الخلافة ولقّب المعتضد فكبسوا عسكر خمارويه في دور شيزر وفتكوا فيهم. ونجا الفلّ إلى دمشق والمعتضد في اتباعهم فارتحلوا عنها، وملكها المعتضد في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. ولحق عسكر خمارويه بالرملة فأقاموا بها وكتبوا إلى خمارويه بالخبر، وسار المعتضد نحوهم من دمشق. وبلغه وصول خمارويه وكثرة عساكره. فهمّ بالعود ومعه أصحاب خمارويه الذين خالفوا عليه، ولحقوا به وكان ابن كنداج وابن أبي الساج متوحشين من المعتضد لسوء معاملته لهما. والتقى العسكران على الماء الّذي عليه الطواحين بالرملة. فولّى خمارويه منهزما مع عصابة معه ليس لهم دربة بالحرب. ومضى إلى مصر بعد أن أكمن مولاه سعدا الآيس في عسكر. وجاء المعتضد فملك خيام خمارويه وسواده وهو يظنّ الظفر، فخرج سعد الآيس من كمينه وقصد الخيام وظنّ المعتضد أن خمارويه قد رجع فركب وانهزم لا يلوي على شيء. وجاء إلى دمشق فمنعوه الدخول فمضى إلى طرسوس، ولما افتقد سعد الآيس خمارويه نصّب أخاه أبا العشائر لقيادة العساكر، ووضع العطاء، ووصلت البشائر إلى مصر فسرّ خمارويه بالظفر، وخجل من الهزيمة، وأكثر الصدقة وأكرم الأسرى وأطلقهم. وسارت عساكره إلى الشام فارتجعوه كله من أصحابه فأخرجوهم، ولحقوا بالعراق وغزا بالصائفة هذه السنة مازيار صاحب الثغر، وغنم وعاد. ثم غزا كذلك سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
(فتنة ابن كنداج وابن أبي الساج والخطبة لابن طولون بالجزيرة)
كان ابن أبي الساج عاملا على قنّسرين وإسحاق على الجزيرة والموصل فتنافسوا في الأعمال واستظهر ابن أبي الساج بخمارويه، وخطب له بأعماله، وبعث ابنه رهينة إليه، فسار في عساكره بعد أن بعث إليه الأموال وانتهى إلى السنّ، وعبر ابن أبي الساج الفرات ولقي إسحاق بن كنداج على الرقّة فهزمه، وجاز خمارويه من بعده فعبر(4/397)
الفرات إلى الرافقيّة، ونجا إسحاق إلى ماردين، وحصره ابن أبي الساج. ثم خرج وسار إلى الموصل فصدّه ابن أبي الساج عنها، وهزمه فعاد إلى ماردين. واستولى ابن أبي الساج على الجزيرة والموصل، وخطب في أعمالها لخمارويه، ثم لنفسه بعده. وبعث العساكر مع غلامه فتح لجباية نواحي الموصل فأوقع بالشراة اليعقوبيّة ومكر بهم.
وعلى أصحابهم بما فعل معهم فجاءوا إليه، وهزموه واستلحموا أصحابه، ونجا ابن أبي الساج في فلّ قليل. ثم انتقض ابن أبي الساج على خمارويه سنة خمس وسبعين ومائتين وذلك أنّ إسحاق بن كنداج سار إلى خمارويه بمصر وصار في جملته فانتقض ابن أبي الساج. وسار خمارويه إليه فلقيه على دمشق في المحرّم فانهزم ابن أبي الساج، واستبيح معسكره وكان وضع بحمص خزائنه، فبعث خمارويه عسكرا إلى حمص فمنعوه من دخولها، واستولوا على خزائنه. ومضى ابن أبي الساج إلى حلب، ثم إلى الرقّة وخمارويه في اتباعه. ثم فارق الرقّة الى الموصل، وعبر خمارويه الفرات واحتلّ مدينة بلد، وأقام بها. وسار ابن أبي الساج الى الحديثة. وبعث خمارويه عساكره وقوّاده مع إسحاق بن كنداج في طلب ابن أبي الساج فعبر دجلة، وأقام بتكريت وإسحاق في عشرين ألفا، وابن أبي الساج في ألفين، وأقاموا يترامون في العدوتين. ثم جمع ابن كنداج السفن ليمدّ الجسر للعبور، فخالفهم ابن أبي الساج إلى الموصل ونزل بظاهرها فرحلوا في اتباعه فسار لقتالهم فانهزم إسحاق إلى الرقة وتبعه ابن أبي الساج. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفرات إلى الشام وأعمال حمازويه فأجابه بالتربص وانتظار المدد. ولما انهزم إسحاق سار إلى خمارويه وبعث معه العسكر، ورجع فنزل على حدّ الفرات من أرض الشام، وابن أبي الساج قبالته على حدود الرقّة، فعبرت طائفة من عسكر ابن كنداج لم يشعروا بهم، وأوقعوا بجمع من عسكر ابن أبي الساج، فلما رأى أن لا مانع لهم من العبور سار إلى الرقّة إلى بغداد، وقدم على الموفّق سنة ست وسبعين ومائتين فأقام عنده إلى أن ولّاه أذربيجان في سنته واستولى ابن كنداج على ديار ربيعة وديار مضر، وأقام الخطبة فيها لخمارويه
.(4/398)
(عود طرسوس الى ايالة خمارويه)
قد كنا قدّمنا أن مازيار الخادم ثار بطرسوس سنة سبعين ومائتين وحاصره أحمد بن طولون فامتنع عليه، فلمّا ولي خمارويه وفرغ من شواغله، أنفذ إلى مازيار سنة سبع وسبعين ومائتين ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف، واصطنعه فرجع إلى طاعته وخطب له بالثغور. ثم دخل بالصائفة سنة ثمان وسبعين ومائتين وحاصروا أسكند فأصابه منها حجر منجنيق رثه، ورجع إلى طرسوس فمات بها. وقام بأمر طرسوس ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه فأقرّه على ولايتها، ثم عزله واستعمل مكانه محمد ابن عمه موسى بن طولون، وكان من خبره أنّ أباه موسى لما ملك أحمد أخوه مصر تبسّط عليه بدلالة القرابة وذوي الأرحام، فلم يحتمله له أحمد وردّه عليه، وكسر جاهه فانحرف موسى وسخط دولته. ثم خاطبه في بعض مجالسه بمال لا يحتمله السلطان فضربه ونفاه إلى طرسوس، وبعث إليه بمال يتزوّده فأبى من قبوله، وسار إلى العراق. ورجع إلى طرسوس فأقام بها إلى أن مات وترك ابنه محمدا. وولّاه خمارويه وبعث إلى أميرهم راغب فأكرمه خمارويه وأنس به، وطالت مقامته عنده وشاع بطرسوس أن خمارويه حبسه فاستعظم الناس ذلك، وثاروا بأميرهم محمد بن موسى وسجنوه رهينة في راغب. وبلغ الخبر إلى خمارويه فسرّحه إلى طرسوس، فلمّا وصلها أطلقوا أميرهم محمد بن موسى، وقد سخطهم، فسار عنهم إلى بيت المقدس. وعاد ابن عجيف إلى ولايته بدعوة خمارويه. وغزا سنة ثمانين ومائتين بالصائفة ودخل معه بدر الحمامي فظفروا وغنموا ورجعوا. ثم دخل بالصائفة سنة احدى وثمانين ومائتين من طرسوس طغج بن جف الفرغاني من قبل خمارويه في عساكره طرابزون وفتح مكودية.
(صهر المعتضد مع خمارويه)
ولما ولي المعتضد الخلافة بعث إلى خمارويه خاطبا قطر الندى ابنته، وكانت أكمل نساء عصرها في الجمال والآداب. وكان متولّي خطبتها أمينه الخصيّ ابن عبد الله ابن الجصّاص، فزوّجه خمارويه بها، وبعثها مع ابن الجصّاص، وبعث معها من الهدايا(4/399)
ما لا يوصف. وقدمت سنة تسع وسبعين ومائتين فدخل بها، وتمتع بجمالها وآدابها، وتمكّن سلطانه في مصر والشام والجزيرة إلى أن هلك.
(مقتل خمارويه وولاية ابنه جيش)
كان خمارويه قد سار سنة اثنتين وثمانين ومائتين إلى دمشق فأقام بها أياما، وسعى إليه بعض أهل بيته بأنّ جواريه يتّخذون الخصيان يفترشوهنّ، وأراد استعلام ذلك من بعضهنّ، فكتب إلى نائبة بمصر أن يقرّر بعضهنّ، فلما وصله الكتاب قرّر بعض الجواري وضربهنّ. وخاف الخصيان ورجع خمارويه من الشام، وبات في مخدعه فأتاه بعضهم وذبحه على فراشه في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين. وهرب الذين تولّوا ذلك، فاجتمع القوّاد صبيحة ذلك اليوم، وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه على كرسي سلطانه، وأفيض العطاء فيهم، وسيق الخدم الذين تولّوا قتل خمارويه فقتل منهم نيف وعشرون.
(مقتل جيش بن خمارويه وولاية أخيه هارون)
ولما ولي جيش كان صبيا غرّا فعكف على لذّاته وقرّب الأحداث والسّفلة، وتنكر لكبار الدولة، وبسط فيهم القول، وصرّح لهم بالوعيد، فأجمعوا على خلعه. وكان طغج بن جف مولى أبيه كبار الدولة، وكان عاملا لهم على دمشق فانتقض وخلع طاعته. وسار آخرون من القوّاد إلى بغداد، منهم إسحاق بن كنداج وخاقان المعلجي، وبدر بن جف أبو طغج، وقدموا على المعتضد فخلع عليهم، وأقام سائر القوّاد بمصر على انتقاضهم وقتل قائدا منهم. ثم وثبوا بجيش فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وحرقوه، وبايعوا لأخيه هارون وذلك لتسعة أشهر من ولايته.
(فتنة طرسوس وانتقاضها)
قد تقدّم لنا أن راغبا مولى الموفّق نزل طرسوس للجهاد فأقام بها، ثم غلب عليها بعد ابن عجيف. ولما ولي هارون بن خمارويه سنة ثلاث وثمانين ومائتين ترك الدعاء له،(4/400)
ودعا لبدر مولى المعتضد، وقطع طرسوس والثغور من عمالة بني طولون. ثم بعث هارون بن خمارويه إلى المعتضد أن يقاطعه على أعماله بمصر والشام بأربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، ويسلّم قنسرين والعواصم، وهي الثغور للمعتضد فأجابه إلى ذلك.
وسار من آمد وكان قد ملكها من يد محمد بن أحمد بن الشيخ، فاستخلف ابنه المكتفي عليها، وسار سنة ست وثمانين ومائتين فتسلّم قنّسرين والثغور من يد أصحاب هارون وجعلها مع الجزيرة في ولاية ابنه المكتفي.
(ولاية طغج بن جف على دمشق)
ولما ولي هارون بعد أخيه جيش على ما ولي عليه من اختلاف القوّاد وقوّة أيديهم، خشي أهل الدولة من افتراق الكلمة ففوّضوا أمرها إلى أبي جعفر بن إيام. كان مقدّما عند أحمد وخمارويه فأصلح ما استطاع، وبقي يرتّق الفتق ويجبر الصدع. ثم نظر إلى الجند الذين كانوا خالفوا بدمشق مع طغج بن جف فبعث إليهم بدرا الحمامي والحسين بن أحمد المارداني فأصلحا مورد الشام وأفرد الطغج بن جف بولاية دمشق، واستعملا في سائر الأعمال، ورجعا إلى مصر والأمور مضطربة والقوّاد طوائف لا ينقاد منهم أحد إلى أحد إلى أن وقع ما نذكر.
(زحف القرامطة الى دمشق)
قد تقدّم لنا ابتداء أمر القرامطة وما كان منهم بالعراق والشام، وأنّ ذكرويه بن مهداويه داعية القرامطة لما هزم بسواد الكوفة وأفنى أصحابه القتل، لحق ببني القليص بن كلب بن وبرة في السماوة فبايعوه، ولقبوه الشيخ وسمّوه يحيى. وكنّوه أبا القاسم. وزعم أنه محمد بن عبد الله بن المكتوم بن إسماعيل الإمام فلقّبوه المدّثر.
وزعم أنه المشار إليه في القرآن. ولقّب غلاما من أهله المطوّق. وسار من حمص إلى حماة ومعرّة النعمان إلى بعلبكّ، ثم إلى سلميّة فقتل جميع من فيها حتى النساء والصبيان والبهائم. ونهب سائر القرى من كل النواحي. وعجز طغج بن جف وسائر ابن خلدون م 26 ج 4(4/401)
جيشه وصاحبه هارون عن دفاعهم. وتوجّه أهل الشام ومصر إلى المكتفي مستغيثين، فسار إلى أهل الشام سنة تسعين ومائتين ومرّ بالموصل، وقدّم بين يديه أبا الأغرّ من بني حمدان في عشرة آلاف رجل، ونزل قريبا من حلب وكبسه القرمطي صاحب الشامة فقتل منهم جماعة ونجا أبو الأغرّ إلى حلب في فلّ من أصحابه. وحاصره القرمطي، ثم أفرج عنه، وانتهى المكتفي إلى الرقّة. وبعث محمد بن سليمان الكاتب في العساكر، ومعه الحسين من بني حمدان، وبنو شيبان فناهضه في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائتين على حماة، وانهزم القرامطة، وأخذ صاحب الشامة أسيرا فبعث به إلى الرقّة وبين يديه المدّثر والمطوّق، وتقدّم المكتفي إلى بغداد ولحقه محمد ابن سليمان بهم، فأمر المكتفي بضربهم وقطعهم، وضرب أعناقهم وحسم دائهم، حتى ظهر منهم من ظهر بالبحرين.
(استيلاء المكتفي على الشام ومصر وقتل هارون وشيّبان ابني خمارويه وانقراض دولة بني طولون)
ونبدأ أوّلا بخبر محمد بن سليمان المتولّي بتحويل دولة بني طولون، كان أصله من ديار مضر من الرقّة اصطنعه أحمد بن طولون وخدّمه في مصر. ثم تنكّر له وعامله في جاهه وأقاربه بما أحفظه، وخشي على نفسه فلحق ببغداد، ولقي بها مبرّة وتكرمة.
واستخدمه الخلفاء وجعلوه كاتبا للجيش، فما زال يغريهم بملك مصر إلى أن ولي هارون بن خمارويه، وفشلت دولة بني طولون بالشام، وعاث القرامطة في نواحيه وعجز هارون عن مدافعتهم، ووصل صريخ أهل الشام إلى المكتفي فقام لدفع ضررهم عن المسلمين، ودفع محمد بن سليمان لذلك، وهو يومئذ من أعظم قوّاده، فسار بالعساكر في مقدمته. ثم أمره المكتفي باتباع القرامطة، وأقام بالرقّة فسار حتى لقيهم وقاتلهم حتى هزمهم واستلحمهم، ودفع عن الشام ضررهم، ورجع بالقرمطي صاحب الشامة وأصحابه أسرى إلى المكتفي بالرقّة فرجع إلى بغداد، وقتلهم هنالك وشفى نفسه ونفس المسلمين منهم. وكان محمد بن سليمان لما تخلّف عن المكتفي عند وصوله إلى بغداد فأمره بالعود، وبعث معه جماعة من القوّاد، وأمدّه بالأموال، وبعث دميانة غلام مازيار في الأسطول، وأمره بالمسير إلى سواحل مصر، ودخول نهر(4/402)
النيل، والقطع عن أهل مصر ففعل وضيّق عليهم. وسار محمد بن سليمان والعساكر واستولى على الشام وما وراءه، فلما قارب مصر كاتب القوّاد يستميلهم، فجاء إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم. وتتابع إليه القوّاد يستميلهم، فجاء إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم. وتتابع إليه القوّاد مستأمنين، فبرز هارون لقتالهم فيمن معه من العساكر، وأقام قبالتهم واضطرب عسكره في بعض الأيام من فتنة وقعت بينهم. واقتتلوا فركب هارون ليسكّنهم فأصابته حربة من بعض المغاربة كان فيه حتفه، فقام عمه شيبان بن أحمد بن طولون بعده بالأمر، وبذل الأموال للجند من غير حسبان ولا تقدير، ثم أباح نهب ما بقي منه يصطنعهم بذلك، فنهبوه في ساعة واحدة، وتشوّف إلى جمع المال فعجز عنه واضطرب، وفسد تدبيره، وتسايل إلى محمد بن سليمان جنده، وفاوض أعيان دولته في أمره، فاتفقوا على الاستئمان إلى محمد بن سليمان، فبعث إليه مستأمنا، فسار إليه ثم تبعه قوّاده وأصحابه، فركب محمد إلى مصر واستولى عليها، وقيّد بني طولون وحبسهم، وكانوا سبعة عشر رجلا. وكتب بالفتح فأمره المكتفي بإشخاص بني طولون جميعا من مصر والشام إلى بغداد، فبعث بهم. ثم أمر بإحراق القطائع التي بناها أحمد بن طولون على شرقي مصر، وكانت ميلا في ميل فأحرقت ونهب الفسطاط.
(ولاية عيسى النوشزي على مصر وثورة الخليجي)
ولما اعتزم محمد بن سليمان على الرجوع إلى بغداد وكان المكتفي قد ولاه على مصر، فولّى المكتفي عيسى بن محمد النوشزي، وقدم في منتصف سنة اثنتين وتسعين ومائتين ثم ثار بنواحي مصر إبراهيم الخليجيّ، وكان من قوّاد بني طولون، وتخلّف عن محمد ابن سليمان. وكتب إلى المكتفي عيسى النوشزي بالخبر. وكثرت جموع الخليجي، وزحف إلى مصر، فخرج النوشزي هاربا إلى الإسكندرية وملك الخليجي مصر، وبعث المكتفي العساكر مع فاتك مولى أبيه المعتضد، وبدر الحمامي وعلى مقدّمتهم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القوّاد، ولقيهم الخليجي على العريش في صفر سنة ثلاث وتسعين ومائتين فهزمهم. ثم تراجعوا وزحفوا إليه وكانت بينهم حروب فني فيها(4/403)
أكثر أصحاب الخليجي وانهزم الباقون، فظفر عسكر بغداد، ونجا الخليجي إلى الفسطاط واختفى به. ودخل قوّاد المكتفي المدينة وأخذوا الخليجي وحبسوه. وكان المكتفي عند ما بلغته هزيمة ابن كيغلغ، وسار ابن كيغلغ في ربيع وبرز المكتفي من ورائهم يسير إلى مصر، فجاءه كتاب فاتك بالخبر وبحبس الخليجي، فكتب المكتفي بحمله ومن معه إلى بغداد. وبرز من تكريت فبعث فاتك بهم، وحبسوا ببغداد.
ورجع عيسى النوشزي إلى مصر في منتصف ثلاث وتسعين ومائتين فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين لخمس سنين من ولايته وشهرين، وقام بأمره ابنه محمد، وولّى المقتدر على مصر أبا منصور تكين الخزريّ، فقدمها آخر شوّال من سنة سبع وتسعين ومائتين، وقام واليا عليها. واستفحلت دولة العلويّين بالمغرب. وجهّز عبيد الله المهدي العساكر مع ابنه أبي القاسم سنة إحدى وثلاثمائة، فملك برقة في ذي الحجّة آخرها. ثم سار إلى مصر وملك الإسكندرية والفيّوم، وبلغ الخبر إلى المقتدر، فقلّد ابنه أبا العبّاس مصر والمغرب وعمره يومئذ أربع سنين، وهو الّذي ولي الخلافة بعد ذلك ولقّب الراضي. ولما قلّده مصر استخلف له عليها مؤنسا الخادم، وبعثه في العساكر إلى مصر وحاربهم فهزمهم. ورجعوا إلى المغرب فأعاد عبيد الله العساكر سنة اثنتين مع قائده حامسة الكتامي. وجاء في الأسطول فملك الإسكندرية، وسار منها إلى مصر، وجاءه مؤنس الخادم في العساكر فقاتله وهزمه.
ثم كانت بينهم وقعات، وانهزم أصحاب المهدي آخرا في منتصف اثنتين وثلاثمائة.
وقتل منهم نحوا من سبعة آلاف، ورجعوا إلى المغرب فقتل المهدي حامسة وعاد مؤنس إلى بغداد.
(ولاية ذكاء الأعور)
لم يزل تكين الخزري واليا على مصر استخلافا إلى أن صرف آخر اثنتين وثلاثمائة، فولّى المقتدر مكانه أبا الحسن ذكاء الأعور، وقدم منتصف صفر من سنة ثلاث فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي سنة سبع وثلاثمائة لأربع سنين من ولايته
.(4/404)
(ولاية تكين الخزري ثانية)
لما صرف المقتدر ذكاء، ولّى مكانه أبا منصور تكين الخزري ولاية ثانية، فقدم في شعبان سنة سبع وثلاثمائة وكان عبيد الله المهدي قد جهّز العساكر مع ابنه أبي القاسم، ووصل إلى الإسكندرية في ربيع من سنة سبع وثلاثمائة وملكها. ثم سار إلى مصر وملك الجزيرة والأشمونين من الصعيد وما إليه، وكتب أهل مكة بطاعته، وبعث المقتدر من بغداد مؤنسا الخادم في العساكر فواقع أبا القاسم عدّة وقعات، وجاء الأسطول من إفريقية إلى الإسكندرية في ثمانين مركبا مددا لأبي القاسم، وعليه سليمان بن الخادم، ويعقوب الكتامي، فسار إليهم في أسطول طرسوس في خمسة وعشرين مركبا، وفيها النفط والمدد، وعليها أبو اليمن، فالتقت العساكر في الأساطيل في مرسى رشيد، فظفر أسطول طرسوس بأسطول إفريقية وأسر كثير منهم. وقتل بعضهم وأطلق البعض، وأسر سليمان الخادم فهلك في محبسه بمصر، وأسر يعقوب الكتامي وحمل إلى بغداد فهرب منها إلى إفريقية، واتصل الحرب بين أبي القاسم ومؤنس، وكان الظفر لمؤنس، ووقع الغلاء والوباء في عسكر أبي القاسم ففني كثير منهم بالموت.
ووقع الموتان في الخيل فعاد العسكر إلى المغرب، واتبعهم عساكر مصر حتى أبعدوا فرجعوا عنهم. ووصل أبو القاسم إلى القيروان منتصف السنة. ورجع مؤنس إلى بغداد وقدم تكين إلى مصر كما مرّ، ولم يزل واليا عليها إلى أن صرف في ربيع من سنة تسع وثلاثمائة
(ولاية أحمد بن كيغلغ)
ولّاه المقتدر بعد هلال بن بدر، فقدم في جمادى وصرف لخمسة أشهر من ولايته.
وأعيد تكين المرّة الثالثة، فقدم في عاشوراء سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وأقام واليا عليها تسع سنين إلى أن توفي في منتصف ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وفي أيامه جدّد المقتدر عهده لابنه أبي العبّاس على بلاد المغرب ومصر والشام،(4/405)
واستخلف له مؤنسا، وذلك سنة ثمان عشرة وثلاثمائة. وقال ابن الأثير: وفي سنة إحدى وعشرين توفي تكين الخزري بمصر فولي عليها مكانه ابنه محمد، وبعث له القاهر بالخلع وثار به الجند فظفر بهم انتهى.
(ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية)
ولّاه القاهر في شوّال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد أن كان ولّى محمد بن طغج، وهو عامل دمشق وصرفه لشهر من ولايته قبل أن يتسلّم العمل، وردّه إلى أحمد بن كيغلغ كما قلناه، فقدم مصر في رجب سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ثم عزل آخر رمضان من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وولي الراضي الخليفة بأن يدعى على المنبر باسمه ويزاد في ألقابه الإخشيد فقام بولاية مصر أحسن قيام ثم انتزع الشام من يده كما يذكر.
(استيلاء ابن رائق على الشام من يد الإخشيد)
كان محمد بن رائق أمير الأمراء ببغداد وقد مرّ ذكره. ثم نازعه مولاه تحكم [1] وولي مكانه سنة ست وعشرين وثلاثمائة وهرب ابن رائق ثم استتر ببغداد، واستولى عليها، ورجع الخليفة من تكريت بعد أن كان قدم تحكم، ثم كتب إليه واستردّه، وقد عقد الصلح مع ناصر الدولة بن حمدان من قبل أن يسمع بخبر بن رائق. ثم عادوا جميعا إلى بغداد، وراسلهم ابن رائق مع أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد في الصلح، فأجيب وقلّده الراضي طريق الفرات وديار مضر التي هي حرّان والرّها وما جاورهما، وجند قنّسرين والعواصم، فسار إليها واستقر بها. ثم طمحت نفسه سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى ملك الشام، فسار إلى مدينة حمص فملكها، وكان على دمشق بدر بن عبد الله مولى الإخشيد ويلقّب بتدبير فملكها ابن رائق من يده. وسار إلى الرملة يريد مصر. وبرز الإخشيد من مصر فالتقوا بالعريش وأكمن له
__________
[1] جاء اسمه في الكامل بجكم وقد مرّ ذكره معنا من قبل ج 8 ص 346.(4/406)
الإخشيد، ثم التقيا فانهزم الإخشيد أولا، وملك أصحاب ابن رائق سواده ونزلوا في خيامهم، ثم خرج عليهم كمين الإخشيد فانهزموا، ونجا ابن رائق إلى دمشق في فلّ من أصحابه. فبعث إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج في العسكر، فبرز إليهم ابن رائق وهزمهم، وقتل أبو نصر في المعركة، فبعث ابن رائق شلوه إلى مصر مع ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وكتب إليه بالعزاء والاعتذار، وأن مزاحما في فدائه، فخلع عليه وردّه إلى أبيه. وتمّ الصلح بينهما على أن تكون الشام لابن رائق ومصر للإخشيد، والتخم بينهما للرملة. وحمل الإخشيد عنها مائة وأربعين ألفا كل سنة، وخرج الشام عن حكم الإخشيد وبقي في عمالة ابن رائق إلى أن قتل تحكم والبريدي.
وعاد ابن رائق من الشام إلى بغداد، فاستدعاه المتّقي وصار أمير الأمراء بها، فاستخلف على الشام أبا الحسن عليّ بن أحمد بن مقاتل. ولما وصل إلى بغداد قاتله كورتكين القائم بالدولة فظفر به، وحبسه، وقاتل عامّة أصحابه من الديلم. وزحف إليهم البريدي من واسط سنة ثلاثين وثلاثمائة فانهزم المتقي وابن رائق، وسار إلى الموصل وكان المتقي قد استنجد ناصر الدولة بن حمدان، فبعث إليه أخاه سيف الدولة ولقيه المتقي بتكريت، ورجع معه إلى الموصل، وقتل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن رائق، وولي إمارة الأمراء للمتقي. فلما سمع الإخشيد بمقتل ابن رائق سار إلى دمشق، ثم استولى يوسف بعد ذلك عليها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وولّى ناصر الدولة بن حمدان في ربيع سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة على أعمال ابن رائق كلّها، وهي طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم وحمص أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل، وأنفذه إليها من الموصل في جماعة من القوّاد. ثم ولّى بعده في رجب ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان على تلك الأعمال، وامتنع أهل الكوفة من طاعته فظفر بهم وملكها. وسار إلى حلب، وكان المتقي قد سار إلى الموصل سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة مغاضبا الأمراء توزون فأقام بالموصل عند بني حمدان. ثم سار إلى الرقّة فأقام بها، وكتب إلى الإخشيد يشكو إليه ويستقدمه، فأتاه من مصر، ومرّ بحلب فخرج عنها الحسين بن سعيد بن حمدان، وتخلّف عنه أبو بكر بن مقاتل للقاء الإخشيد فأكرمه، واستعمله على خراج مصر. وولّى على حلب يأنس المؤنسي. وسار الإخشيد من حلب إلى الرقّة في محرم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وأهدى له ولوزيره الحسين بن مقلة وحاشيته، وأشار عليه بالمسير إلى مصر(4/407)
والشام ليقوم بخدمته فأبى فخوّفه من تورون، وأن يلزم الرقّة. وكان قد أنفذ رسله إلى تورون في الصلح وجاءوه بالإجابة فلم يعرج على شيء من إشارته. وسار إلى بغداد وانصرف الإخشيد إلى مصر وكان سيف الدولة بالرقّة معهم فسار إلى حلب وملكها.
ثم سار إلى حمص وبعث الإخشيد عساكره إليها مع كافور مولاه، فلقيهم سيف الدولة إلى قنسرين، والتقيا لك وتحاربا، ثم افترقا على منعة وعاد الإخشيد إلى دمشق وسيف الدولة إلى حلب، وذلك سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وسارت الروم إلى حلب وقاتلهم سيف الدولة فظفر بهم.
(وفاة الإخشيد وولاية ابنه أنوجور واستبداد كافور عليه واستيلاء سيف الدولة على دمشق)
ثم توفي الإخشيد أبو بكر بن طغج بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وقيل خمس وولي مكانه أبو القاسم أنوجور وكان صغيرا فاستبدّ عليه كافور، وسار من دمشق إلى مصر فخالفه سيف الدولة، فسار إلى حلب، وزحف أنوجور في العساكر إليه فعبر سيف الدولة إلى الجزيرة، وحاصر أنوجور حلب أياما. ثم وقع الصلح بينهما، وعاد سيف الدولة إلى حلب وأنوجور إلى مصر، ومضى كافور إلى دمشق وولى عليها بدرا الإخشيدي المعروف بتدبير [1] ، فرجع إلى مصر فأقام يدبّر بها سنة، ثم عزل عنها وولي أبو المظفّر طغج وقبض على تدبير.
(وفاة أنوجور ووفاة أخيه علي واستبداد كافور عليه)
ثم علت سن أبي القاسم أنوجور، ورام الاستبداد بأمره وإزالة كافور فشعر به وقتله فيما قيل مسموما سنة [2] ونصّب أخاه عليا للأمر في كفالته، وتحت استبداده إلى أن هلك.
__________
[1] ويعرف ببدير: ابن الأثير ج 8 ص 458
[2] يذكر ابن الأثير وفاته سنة 342.(4/408)
(وفاة علي بن الإخشيد وولاية كافور)
ثم توفي علي بن الإخشيد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فأعلن كافور بالاستبداد بالأمر دون بني الإخشيد. وركب بالمظلّة وكتب له المطيع بعهده على مصر والشام والحرمين وكنّاه العالي باللَّه، فلم يقبل الكنية، واستوزر أبا الفضل جعفر بن الفرات، وكان من أعاظم الملوك جوادا ممدوحا سيوسا كثير الخشية للَّه والخوف منه. وكان يداري المعزّ صاحب المغرب ويهاديه، وصاحب بغداد وصاحب اليمن، وكان يجلس للمظالم في كل سبت إلى أن هلك.
(وفاة كافور وولاية أحمد بن علي بن الإخشيد)
ثم توفي كافور منتصف سبع وخمسين وثلاثمائة لعشرة سنين وثلاثة أشهر من استبداده.
منها سنتان وأربعة أشهر مستقلا من قبل المطيع، وكان أسود شديد السواد واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا. ولما هلك اجتمع أهل الدولة وولّوا أحمد بن علي بن الإخشيد وكنيته أبو الفوارس، وقام بتدبير أمره الحسن ابن عمه عبد الله بن طغج، وعلى العساكر شمول مولى جدّه، وعلى الأموال جعفر بن الفضل، واستوزر كاتبه جابر الرياحي. ثم أطلق ابن الفرات بشفاعة ابن مسلم الشريف، وفوّض أمر مصر إلى ابن الرياحي.
(مسير جوهر الى مصر وانقراض دولة بني طغج)
ولما فرغ المعز لدين الله من شواغل المغرب بعث قائده جوهر الصّقلي الكاتب إلى مصر، وجهّزه في العساكر، وأزاح عللها. وسار جوهر من القيروان إلى مصر، ومرّ ببرقة وبها أفلح مولى المعز فلقيه، وترجّل له فملك الإسكندرية، ثم الجيزة. ثم أجاز إلى مضر وحاصرها، وبها أحمد بن علي بن الإخشيد وأهل دولته. ثم افتتحها سنة(4/409)
ثمان وخمسين وثلاثمائة وقتل أبا الفوارس، وبعث بضائعهم وأموالهم إلى القيروان صحبة الوفد من مشيخة مصر وقضاتها وعلمائها، وانقرضت دولة بن طغج، وأذّن سنة تسع وخمسين في جامع ابن طولون بحيّ على خير العمل. وتحوّلت الدعوة بمصر للعلويّة، واختطّ جوهر مدينة القاهرة في موضع العسكر. وسيّر جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام فغلب القرامطة عليه كما تقدّم ذلك في أخبارهم.
(الخبر عن دولة بني مروان بديار بكر بعد بني حمدان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان حق هذه الدولة أن نصل ذكرها بدولة بني حمدان كما فعلنا في دولة بني المقلّد بالموصل، وبني صالح بن مرداس بحلب، لأنّ هذه الدول الثلاث إنما نشأت وتفرّعت عن دولتهم، إلا أنّ بني مروان هؤلاء ليسوا من العرب، وإنما هم من الأكراد فأخّرنا دولتهم حتى ننسقها مع العجم. ثم أخّرناها عن دولة بني طولون لأنّ دولة بني طولون متقدّمة عنها في الزمن بكثير. فلنشرع الآن في الخبر عن دولة بني مروان وقد كان تقدّم لنا خبر باد الكردي واسمه الحسين بن دوشك، وكنيته أبو عبد الله وقيل كنيته أبو شجاع، وأنه خال أبي عليّ بن مروان الكردي، وأنه تغلّب على الموصل وعلى ديار بكر، ونازع فيها الديلم ثم غلبوه عليها وأقام بجبال الأكراد. ثم مات عضد الدولة وشرف الدولة. ثم جاء أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن إلى الموصل فملكاها. ثم حدثت الفتنة بينهما وبين الديلم وطمع باد في ملك الموصل، وهو بديار بكر فسار إلى الموصل فغلبه ابنا ناصر الدولة، وقتل في المعركة، وقد مرّ الخبر عن ذلك كله. فلما قتل خلص ابن أخته أبو علي بن مروان من المعركة، ولحق بحصن كيفا، وبه أهل باد وذخيرته، وهو من أمنع المعاقل فتحيل في دخوله بأنّ خاله أرسله، واستولى عليه وتزوّج امرأة خاله. ثم سار في ديار بكر فملك جميع ما كان لخاله باد. وزحف إليه ابنا حمدان وهو يحاصر ميّافارقين فهزمهما. ثم رجعا إليه وهو يحاصر آمد فهزمهما ثانيا، وانقرض أمرهما من الموصل، وملك أبو علي بن مروان ديار بكر وضبطها، واستطال عليه أهل ميّافارقين، وكان شيخها أبو الأصغر فتركهم يوم العيد حتى اصحروا وكبسهم بالصحراء، وأخذ أبا الأصغر فألقاه من السور،(4/410)
ونهب الأكراد عامّة البلد، وأغلق أبو علي الأبواب دونهم، ومنعهم من الدخول فذهبوا كل مذهب، وذلك كله سنة ثمانين وثلاثمائة.
(مقتل أبي علي بن مروان وولاية أخيه أبي منصور)
كان أبو علي بن مروان قد تزوّج بنت سعد الدولة بن سيف الدولة، وزفّت إليه من حلب وأراد البناء بها بآمد فخاف شيخها أن يفعل به وبهم ما فعل في ميّافارقين فحذّر أصحابه منه، وأشار عليهم أن ينثروا الدنانير والدراهم إذا دخل، ويقصدوا بها وجهه فيضربوه فكان كذلك. ثم أغفله وضرب رأسه واختلط أصحابه، فرمى برأسه إليهم، وكرّ الأكراد راجعين إلى ميّافارقين فاستراب بهم مستحفظها أن يملكوها عليه، ومنعهم من الدخول. ثم وصل مهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميّافارقين فأمكنه المستحفظ من الدخول فملكه، ولم يكن له فيه إلا السكّة والخطبة، ونازعه أخوه أبو نصر فأقام بها مضيّقا عليه فغلبه أبو منصور، وبعثه إلى قلعة أسعرد فأقام بها مضيّقا عليه وأمّا آمد فتغلّب عليها عبد الله شيخهم أياما، وزوّج بنته من ابن دمنة الّذي تولّى قتل أبي علي بن مروان فقتله ابن دمنة، وملك آمد وبنى لنفسه قصرا ملاصقا للسور. وأصلح أمره مع مهد الدولة بالطاعة. وهادي ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك، وانتشر ذكره.
(مقتل مهد الدولة بن مروان وولاية أخيه أبي نصر)
ثم إنّ مهد الدولة [1] أقام بميّافارقين، وكان قائده شروة متحكما في دولته. وكان له مولى قد ولّاه الشرطة. وكان مهد الدولة يبغضه ويهمّ بقتله مرارا. ثم يتركه من أجل شروة، فاستفسد مولاه شروة على مهد الدولة لحضوره. فلمّا حضر عنده قتله وذلك سنة اثنتين وأربعمائة ثم خرج على أصحابه وقرابته يقبض عليهم كأنه بأمر مهد الدولة ثم مضى الى ميافارقين ففتحوا له يظنونه مهد الدولة فملكها، وكتب إلى أصحاب
__________
[1] مهذب الدولة: ابن الأثير ج 9 ص 183 المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 136.(4/411)
القلاع يستدعيهم على لسان مهد الدولة، وفيهم خواجا أبو القاسم صاحب أرزن الروم، فسار إلى ميّافارقين، ولم يسلم القلعة لأحد. وسمع في طريقه بقتل مهد الدولة فرجع من الطريق إلى أرزن الروم، وأحضر أبا نصر بن مروان من أسعرد، وجاء به إلى أبيهم مروان. وكان قد أضرّ ولزم قبر ابنه أبي علي بأرزن هو وزوجته فأحضره خواجا عنده، واستحلفه عند أبيه وقبر أخيه، وملك أرزن. وبعث شروة من ميّافارقين إلى أسعرد عن أبي نصر بن مروان، ففاته إلى أرزن، فأيقن بانتقاض أمره. ثم ملك أبو نصر سائر ديار بكر، ولقّب نصير الدولة، ودامت أيامه. وأحسن السيرة وقصده العلماء من سائر الآفاق وكثروا عنده. وكان ممن قصده أبو عبد الله الكازروني، وعنه انتشر مذهب الشافعيّ بديار بكر، وقصده الشعراء ومدحوه وأجزل جوائزهم. وأقامت الثغور معه آمنة، والرعية في أحسن ملكة إلى أن توفي.
(استيلاء نصير الدولة بن مروان على الرها)
كانت مدينة الرّها بيد عطير، وكاتبوا أبا نصر بن مروان أن يملكوه فبعث نائبة بآمد ويسمى زنك فملكها، واستشفع عطير بصالح بن مرداس صاحب حلب إلى ابن مروان فأعطاه نصف البلد، ودخل إلى نصير الدولة بميّافارقين فأكرمه، ومضى إلى الرّها فأقام بها مع زنك. وحضر بعض الأيام مع زنك في صنيع، وحضر ابن النائب الّذي قتله فحمله زنك على الأخذ بثأره فاتبعه لما خرج، ونادى بالثأر واستنفر أهل السوق فقتلوه في ثلاثة نفر. وكمن له بنو نمير خارج البلد وبعثوا من يغير منهم عليها، فخرج زنك في العسكر. ولما جاوز الكمين خرجوا عليه وقاتلوه وأصابه حجر فمات من ذلك فاتح ثمان عشرة وأربعمائة وخلصت الرّها لنصير الدولة. ثم شفع صالح بن مرداس في ابن عطير وابن شبل فردّ إليهما البلد إلى أن باعه ابن عطير من الروم كما يأتي.
(حصار بدران بن مقلد نصيبين)
كانت نصيبين لنصير الدولة بن نصر بن مروان، فسار إليها بدران بن المقلّد في جموع(4/412)
بني عقيل، وحاصرها فظهر على العساكر الذين بها، وأمدّهم نصير الدولة بعسكر آخر، فبعث بدران من اعترضهم في طريقهم وهزمهم، فاحتفل ابن مروان في الاحتشاد وبعث العساكر إلى نصيبين، فخرجوا عليه فهزموه أوّلا. ثم كرّ عليهم ففتك فيهم، وأقام يقاتلهم حتى سمع بأنّ أخاه قرواش وصل إلى الموصل فخشي منه وارتحل عنها.
(دخول الغز الى ديار بكر)
هؤلاء الغزّ من طوائف الترك، وهم الشعب الذين منهم السلجوقية، وقد تقدّم لنا كيف أجازوا إلى خراسان لمّا قبض محمد بن سبكتكين على أرسلان بن سلجق منهم فحبسه، وما ظهر من فسادهم في خراسان وكيف أوقع بهم مسعود بن سبكتكين من بعد أبيه محمود، ففروا إلى الذين يريدون أذربيجان واللحاق بمن تقدّم منهم هنالك، ويسمون العراقية بعد أن عاثوا في همذان وقزوين وأرمينية. وعاث الآخرون في أذربيجان وقتل وهشوذان صاحب تبريز منهم جماعة. ثم عاثوا في الأكراد واستباحوهم. ثم جاءهم الخبر بأن نيال إبراهيم أخا السلطان طغرلبك سار إلى الريّ فأجفلوا منها سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ووصلوا أذربيجان واتصلت الأخبار بأن نيال في أثرهم، فأجفلوا ثانيا خوفا منه، لأنهم كانوا له ولإخوته رعيّة. ولما أجفلوا سلك بهم الدليل في الجبال على الزّوزان [1] ، وأسهلوا إلى جزيرة ابن عمر، فسار بعضهم إلى ديار بكر، ونهبوا قزوين ويا زيدي [2] والحسنية، وبقي آخرون بالجانب الشرقي من الجزيرة، وسار آخرون إلى الموصل. وكان سليمان بن نصير الدولة قيّما بها فراسلهم في الصلح على أن يسير معهم إلى الشام فقبلوا. ثم صنع سليمان صنيعا ودعا إليه ابن غرغلي [3] وقبض عليه وحبسه. وأجفل الغز في كل ناحية واتبعهم عساكر نصير الدولة وقرواش والأكراد البثنويّة [4] . ثم قصدت العرب العراق للمشتى،
__________
[1] وفي نسخة أخرى الزوزون.
[2] بازبدى: ابن الأثير ج 9 ص 386.
[3] غزغلي: ابن الأثير ج 9 ص 386.
[4] البشنوية: المرجع السابق.(4/413)
وعاد الغزّ الى جزيرة ابن عمر فحصروها، وخرّبوا ديار بكر نهبا وقتلا. وصانعهم نصير الدولة بإطلاق منصور بن غرغلي الّذي حبسه سليمان فلم يكف إطلاقه من فسادهم، وساروا إلى نصيبين وسنجار والخابور، ودخل قرواش الموصل كما نبهنا، واتبعه طائفة منهم فكان من خبره معهم ما قدّمناه في أخباره.
(مسير الروم الى بلد ابن مروان ثم فتح الرها)
ولما كانت الدعوة العلويّة قد انتشرت في الشام والجزيرة، وكان سبب ذلك أنّ وثّابا النميريّ صاحب حرّان والرقّة يخطب لهم، فلمّا ولي الوزيري للعلويّين على الشام، بعث إلى ابن مروان بالتهديد، وأنه يسير إلى بلاده، فاستمدّ ابن مروان قرواش صاحب الموصل وشبيب بن وثّاب صاحب الرقّة، ودعاهما إلى الموافقة، وقطع الدعوة العلويّة، فأجابوه وخطبوا للقائم وقطعوا الخطبة للمستنصر، وذلك سنة ثلاثين وأربعمائة. فقام الوزيري في ركائبه وتهدّدهم، وأعاد ابن وثّاب خطبة العلويّة بحرّان في ذي الحجة آخر السنة.
(مقتل سليمان بن نصير الدولة)
كان نصير الدولة قد ولّى ابنه سليمان، (ويكنّى أبا حرب) الأمور وكان يحاوره في الجزيرة بشرموشك بن المحلي زعيم الأكراد في حصون له هنالك منيعة، ووقعت بينهما منافرة. ثم استماله سليمان ومكر به، وكان الأمير أبو طاهر البثنويّ صاحب قلعة فنك وغيرها، وهو ابن أخت نصير الدولة، وكان صديقا لسليمان فكان مما استماله به موشك أن زوّجه بابنة أبي طاهر فاطمأن موشك إلى سليمان، وسار إلى غزو الروم بأرمينية. وأمدّه نصير الدولة ابن مروان بالعساكر والهدايا، وقد كان خطب له من قبل ذلك، وأطاعه فشفع عنده في موشك فقتله سليمان، وقال لطغرلبك أنه مات.
وشكر له أبو طاهر حيث كان صهره واتخذها ذريعة إلى قتله، فخافه سليمان، وتبرّأ إليه مما وقع فأظهر القبول، وطلب الاجتماع من حصنه فنك لذلك. وخرج سليمان(4/414)
إليه في قلّة من أصحابه فقتله عبيد الله وأدرك من ثأر أبيه وبلغ الخبر إلى نصير الدولة فبادر بابنه نصير، وبعث معه العساكر لحماية الجزيرة. وسمع قريش بن بدران صاحب الموصل فطمع في ملك جزيرة ابن عمر فسار إليها، واستمال الأكراد الحسنية والبثنوية، واجتمعوا على قتال نصير بن مروان فأحسن المدافعة عن بلده، وقاتلهم وجرح قريش جراحا عديدة، ورجع إلى الموصل وأقام نصير بن مروان بالجزيرة والأكراد على خلافه.
(مسير طغرلبك الى ديار بكر)
ولما انصرف طغرلبك من الموصل وملكها وفرّ قريش عنها ثم عاود الطاعة وذلك سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فسار طغرلبك بعدها إلى ديار بكر وحاصر جزيرة ابن عمر.
وكان ابن مروان في خدمته وهداياه مترادفة عليه في مسيره، الى الموصل وعوده.
فبعث إليه بالمال مفاداة عن الجزيرة، ويذكر ما هو بصدده من الجهاد وحماية الثغر فأفرج عنه طغرلبك، وسار إلى سنجار كما ذكرناه في أخبار قريش.
(وفاة نصير الدولة [1] بن مروان وولاية ابنه نصر)
وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة توفي نصير الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر، وكان لقبه القادر باللَّه، ومات لاثنتين وخمسين سنة من ولايته. وكان قد عظم استيلاؤه، وتوفّرت أمواله، وحسّن في عمارة الثغور وضبطها أثره [2] . وكان يهادي السلطان طغرلبك بالهدايا العظيمة، ومنها حبل الياقوت الّذي كان لبني بويه، اشتراه من أبي منصور بن جلال الدولة، وأرسل معه مائة ألف دينار فحسنت حاله عنده وكان يناغي [3] عظماء الملوك في الترف، فيشتري الجارية بخمسمائة دينار
__________
[1] نصر الدولة بن مروان: ابن الأثير ج 10 ص 17/ المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 180.
[2] الأصح أن يقول: وحسن اثره في عمارة الثغور وضبطها.
[3] بمعنى يضاهي.(4/415)
وأكثر. واجتمع عنده منهنّ للافتراش والاستخدام أزيد من ألف. واقتنى من الأواني والآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار. وجمع في عصمته بنات الملوك، وأرسل طبّاخين الى الديار المصرية، وأنفق عليهم جملة حتى تعلموا الطبخ هنالك. ووفد عليه أبو القاسم بن المغربي من أهل الدولة العلويّة بمصر، وفخر الدولة بن جهير من الدولة العبّاسيّة، فأقبل عليهما واستوزرهما. ووفد عليه الشعراء فوصلهم، وقصده العلماء فحمدوا عنده مقامهم، ولما توفي في [1] كان الظفر فيها لنصر واستقرّ بميّافارقين ومضى أخوه سعيد إلى آمد فملكها واستقرّ الحال بينهما على ذلك.
(وفاة نصر بن نصير الدولة وولاية ابنه منصور)
ثم توفي نظام الدين نصر بن نصير الدولة في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وولي ابنه منصور، ودبّر دولته ابن الأنباري، ولم يزل في ملكه إلى أن قدم ابن جهير وملك البلاد من يده.
(مسير ابن جهير إلى ديار بكر)
كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من أهل الموصل، واستخدم لجارية قراوش ثم لأخيه بركة، وسار عنه بالعوائد إلى ملك الروم. ثم استخدم لقريش بن بدران وأراد حبسه، فاستجار ببعض بني عقيل، ومضى إلى حلب فوزر لمعزّ الدولة أبي ثمال بن صالح. ثم مضى إلى عطيّة ولحق منها بنصير الدولة بن مروان، واستوزره وأصلح حال دولته. ولما توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة دبّر أمر ابنه نصر القائم بعده. ثم هرب إلى بغداد سنة أربع وخمسين وأربعمائة استدعى منها للوزارة فوزر بعد محمد بن منصور بن دؤاد. ثم تداول العزل والولاية مرّات هو وابنه عميد الملك، واستخدم لنظام الملك والسلطان طغرلبك. وكان شفع عند الخليفة، فلما
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد مكان وفاته. وقد ذكر أبي الفداء في كتابه المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 180 ذكر وفاته سنة 453 وكذلك ابن الأثير ج 10 ص 17.(4/416)
عزل ابنه آخرا بعث عنه السلطان ونظام الملك وعن ابنه وجميع أقاربه، وسار إليه بأصفهان ولقاه مبرة وتكريما. وبعثه في العساكر لفتح ديار بكر، وأخذها من يد بني مروان، وأعطاه الآلات وأذن له أن يخطب لنفسه بعد السلطان، وينقش اسمه على السكّة فسار لذلك سنة ست وسبعين وأربعمائة.
(استيلاء ابن جهير على آمد)
قد ذكرنا مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر إلى ديار بكر، ثم أمدّه السلطان سنة سبع وسبعين وأربعمائة بأرتق بن أكسك [1] في العساكر. واستنجد نصر بن مروان شرف الدولة مسلم بن قريش على أن يعطيه آمد فأنجده، وسار لمظاهرته فأقصر فخر الدولة بن جهير عن حربهم عصبة للعرب. وخالفه أرتق وسار في الترك إليهم وهزمهم، ولحق مسلم بآمد وحاصره بها فبذل المال لأرتق. وخلص من أمره، ولحق بالرقّة وسار ابن جهير إلى ميّافارقين فرجع عنه منصور بن مزيد وابنه صدقة ومن معهما من العرب. وسار فخر الدولة المعروف بالقرم فنزل عليها، وشدّ حصارها ونزل يوما بعض الحامية من السور، وأخلى مكانه فوقف فيه بعض العامّة، ونادى بشعار السلطان، واتبعه سائر الحامية بالسور. وبعثوا إلى زعيم الرؤساء ابن جهير فركب إليهم وملك البلد. وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ونصب أهل البلد بيوت النصارى الذين كانوا يستخدمون لبني مروان في الجبايات، وانتقموا منهم، والله أعلم.
(استيلاء ابن جهير على ميافارقين وجزيرة ابن عمر وانقراض دولة بني مروان)
كان فخر الدولة بن جهير لما بعث ابنه إلى آمد، سار هو إلى ميّافارقين، وأقام على حصارها منذ سنة سبع وسبعين وأربعمائة وجاءه سعد الدولة كوهرايين مددا واشتدّ الحصار، وانثلم السور في بعض الأيام فنادى أهلها بشعار ملك شاه. ودخل فخر
__________
[1] أرتق بن اكسب: ابن الأثير ج 10 ص 134، أما ابو الفداء فقد ذكر اسمه كما ذكره ابن خلدون.
ج 2 ص 197.
ابن خلدون م 27 ج 4(4/417)
الدولة وملك البلد، واستولى على أموال بني مروان وذخائرهم، وبعثها إلى السلطان ملك شاه مع ابنه زعيم الرؤساء، فوصل أصفهان في شوّال سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وسار فخر الدولة وكوهرايين إلى بغداد، وكان قد بعث عسكرا لحصار جزيرة ابن عمر، فحصروها، وثار بها أهل بيت من أعيانها يعرفون ببني رهان، وفتحوا بابا صغيرا للبلد كان منفذا للرجّالة، وأدخلوا العسكر منه، وملكوه بدعوة السلطان ملك شاه. وانقرضت دولة بني مروان ولحق منصور بن نظام الدين نصر بن نصير الدولة بالجزيرة، وأقام في إيالة الغزّ. ثم قبض عليه جكرمش وحبسه بدار يهودي فمات بها سنة تسع وثمانين وأربعمائة والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة بني الصفار ملوك سجستان المتغلبين على خراسان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان أهل هذه الدولة قوما اجتمعوا بنواحي سجستان، ونصّبوا لقتال الخوارج الشّراة بتلك الناحية عند ما اضطربت الدولة ببغداد لقتل المتوكّل، وسمّوا أنفسهم المتطوّعة، وكان اجتماعهم على صالح بن نصر الكناني، ويقال له صالح المتطوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث الصفّار وغلبوا على سجستان وملكوها. ثم سار إليهم طاهر بن عبد الله أمير خراسان وغلبهم عليها وأخرجهم منها. ثم هلك صالح أثر ذلك، وقام بأمره في المتطوّعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث قائده، وكان درهم مضعّفا فتحيّل صاحب خراسان عليه حتى ظفر به، وبعثه إلى بغداد فحبس بها، واجتمع المتطوّعة على يعقوب بن الليث قائده، وكان درهم يكاتب المعتزّ يسأله ولايتها، وأن يقلّده حرب الخوارج فكتب له بذلك، وأحسن الغناء في حرب الشّراة، وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى خراسان سنة ثلاث وخمسين ومائتين وعلى الأنبار ابن أوس فجمع لمحاربة يعقوب. وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس، وملك يعقوب هراة وبوشنج، وعظم أمره، وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف.(4/418)
(استيلاء يعقوب الصفّار على كرمان ثم على فارس وعودها)
كان على فارس علي بن الحسين بن شبل، وكتب إلى المعتز يطلب كرمان، ويذكر عجز ابن طاهر عنها. وكان قد أبطأ عن حرب الخوارج فكتب له المعتز بولاية كرمان، وكتب ليعقوب الصفّار أيضا بولايتها بقصد التضريب بينهما لتتمحّص طاعتهما أو طاعة أحدهما. فأرسل علي بن الحسين من فارس على كرمان طوق بن المفلّس من أصحابه فسبق إليه يعقوب وملكها. وجاء يعقوب فأقام قريبا منها شهرين يترقّب خروج طوق إليه. ثم ارتحل الى سجستان ووضع طوق أوزار الحرب، وأقبل على اللهو واتصل ذلك بيعقوب في طريقه فكرّ راجعا، وأغذّ السير ودخل كرمان، وحبس طوقا. وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز فجمع عسكره ونزل مضيق شيراز. وأقبل يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعّر بين جبل ونهر ضيّق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بأصحابه، وأجاز إلى علي بن الحسين وأصحابه فانهزموا.
وأخذ عليّ بن الحسين أسيرا، واستولى على سواده، ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين وقيل قد وقع بينهما بعد عبور النهر حروب شديدة، وانهزم آخرها عليّ وكان عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي والأكراد، فرجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم، وازدحموا في الأبواب، وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف. ثم افترقوا في نواحي فارس وانتهبوا الأموال. ولما دخل يعقوب شيراز وملك فارس امتحن عليا وأخذ منه ألف بدرة ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحصى، وكتب للخليفة بطاعته، وأهدى هدية جليلة منها عشرة بازات بيض، وباز أبلق صيني، ومائة نافجة من المسك، وغير ذلك من الطرف، ورجع إلى سجستان ومعه علي وطوق في اعتقاله، ولما فارق فارس بعث المعتز عماله إليها.
(ولاية يعقوب الصفار على بلخ وهراة)
ولما انصرف يعقوب عن فارس ولّى عليها المعتز من قبله، والخلفاء بعده، وليها(4/419)
الحرث بن سيما، فوثب به محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي من رجال العرب، وأحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها فقتلاه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين ومائتين وأظهر دعوة المعتمد، وبعث عليها المعتمد الحسين بن الفيّاض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين ومائتين. وكتب إليه المعتمد بالنكير على ذلك. وبعث إليه الموفّق بولاية بلخ وطخارستان فملكها، وخرّب المباني التي بناها داود بن العبّاس بظاهر بلخ، وتسمّى بأساديانج. ثم سار إلى كابل واستولى عليها، وقبض على رتبيل [1] ، وبعث بالأصنام التي أخذها من كابل، وملّك البلاد إلى المعتمد. وأهدى إليه هدية جليلة المقدار، وعاد إلى بست معتزما على العود إلى سجستان فاحفظه بعض قوّاده بالرحيل قبله فغضب، وأقام منه إلى سجستان. ثم سار إلى خراسان وملك هراة. ثم إلى بوشنج فملكها وقبض على عاملها الحسين بن علي بن طاهر الكبير، وكان كبير بيتهم، وشفع له فيه محمد بن طاهر صاحب خراسان فأبى من إسعافه، وبقي في قلبه، وولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع إلى سجستان.
(استيلاء الصفار على خراسان وانقراض أمر بني طاهر)
كان بسجستان عبد الله السجزيّ ينازع يعقوب بن الليث، فلمّا قوي يعقوب واستفحل، سار عبد الله إلى خراسان، وطمع في ملكها، وحاصر محمد بن طاهر في كرسيّ ولايته نيسابور. ثم تردّد الفقهاء بينهم في الصلح حتى تمّ بينهما، وولّاه محمد الطبسين وقهستان. ثم بعث يعقوب إلى محمد في طلبه فأجاره، وأحفظ ذلك يعقوب فسار إلى محمد بنيسابور، فخام محمد عن لقائه. ونزل يعقوب بظاهر نيسابور، وخرج إليه قرابة محمد وعمومته وأهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها، وذلك سنة تسع وخمسين ومائتين. وكتب إلى المعتمد بأنّ أهل خراسان استدعوه لعجز ابن طاهر وتفريطه في أمره. وغلبه العلويّ على طبرستان فكتب إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما بيده، وإلّا سلك به سبيل المخالفين. وقيل في ملكه نيسابور غير
__________
[1] زنبيل: ابن الأثير ج 7 ص 247.(4/420)
ذلك، وهو أنّ محمد بن طاهر لما أصاب دولته العجز والإدبار، كاتب بعض قرابته يعقوب بن الليث الصفّار، واستدعوه فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحيته موريا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان. وأنّ المعتمد أمره بذلك، وأنه لا يعرض لشيء من أمر خراسان. وبعث بعض قوّاده عينا عليه، وعنّفه على الإهمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته نحوا من مائة وستين رجلا وحملهم جميعا إلى سجستان وذلك لإحدى عشرة سنة من ولاية محمد. واستولى يعقوب على خراسان وهرب منازعة عبد الله السجزيّ إلى الحسين بن يزيد صاحب طبرستان، وقد كان ملكها من لدن سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأجاره الحسين وسار إليه يعقوب سنة ستين ومائتين، وحاربه فانهزم الحسين الى أرض الديلم، واعتصم بجبار طبرستان وملك يعقوب سارية وآمد ورجع في طلب السّجزيّ إلى الريّ وتهدد العامل على دفعه إليه فبعث به وقتله يعقوب.
(استيلاء الصفار على فارس)
تقدّم لنا تغلّب محمد بن واصل على فارس سنة ست وخمسين ومائتين ومسير الصفّار إليه سنة سبع وثلاثمائة ورجوعه عنها، وأنه أعاضه عنها ببلخ وطخارستان. ثم إن المعتمد أضاف فارس إلى موسى بن بغا مع الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، وما بيده من الأعمال، فولّي موسى على فارس من قبله عبد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وامدّه بطاشتمر. وزحفوا إلى ابن واصل وسار لحرب موسى بن بغا بواسط، فولى على الأهواز مكانه أبا الساج وأمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك، فلقيه عليّ بن أياز قائد الزنج، وهزمه وقتل. وملك الزنج الأهواز وعاثوا فيها وأديل من أبي الساج بإبراهيم بن سيما، وسار لحرب ابن واصل، واضطربت الناحية على موسى بن بغا فاستعفى من ولايتها، وأعفاه المعتمد وطمع يعقوب الصفار في ملك فارس، فسار من سجستان ممدا، ورجع ابن واصل من الأهواز إليه، وترك محاربة ابن سيما، وأغذّ السير ليفجأه على بغتة، ففطن له الصفّار وسار إليهم وفد أعيوا وتعبوا من شدّة السير والعطش، ولما تراءى الجمعان تخاذل أصحاب ابن واصل وانهزموا من غير قتال، وغنم الصفّار في معسكره وما كانوا أصابوا لابن(4/421)
مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العمّال وأوقع بأهل ذمّ [1] لإعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها.
(حروب الصفار مع الموفق)
ولما ملك الصفّار خراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه وملك فارس من يد ابن واصل، وكان المعتمد نهاه عن تلك، فلم ينته، صرّح المعتمد بأنه لم يولّه، ولا فعل ما فعل بإذنه، وأحضر حاجّ خراسان وطبرستان والري، وخاطبهم بذلك فسار الصفّار الى الأهواز سنة اثنتين [2] أصحابه الذين أسروا بخراسان، فأبى إلّا العزم على الوصول إلى الخليفة ولقائه، وبعث حاجبه درهما يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان والريّ وجارس [3] والشرطة ببغداد، فولّاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى سجستان وكرمان. وأعاد حاجبه بذلك، ومعه عمرو بن سيما فكتب يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد، وارتحل من عسكر مكرم جائيا. وخرج أبو الساج من الأهواز لتلقّيه لدخول الأهواز في أعماله، فأكرمه ووصله. وسار إلى بغداد ونهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانيّة، ووافاه مسرور البلخيّ من مكانه من مواجهة الزنج، وجاء يعقوب إلى واسط فملكها، ثم سار منها إلى دير العاقول، وبعث المعتمد أخاه الموفّق لمحاربته وعلى ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته موسى البلخيّ، فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفّق وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تزاحفوا واشتدّت الحرب وجاء للموفّق محمد بن أوس والدراني [4] مددا من المعتمد، وفشل أصحاب الصفّار، ولما رأوا مدد الخليفة انهزموا، وخرج الصفّار، واتبعهم أصحاب الموفّق، وغنموا من عسكره نحوا من
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 277 زمّ. وهي مدينة ذمّي من قرى سمرقند ينسب اليها أحمد بن محمد السقر الدهقان (معجم البلدان) .
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 290 يذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 262 فيقول: «فعاد الرسل من عند يعقوب يقولون: إنه لا يرضيه ما كتب به دون ان يسير إلى باب المعتمد» .
[3] هي فارس كما في الكامل ج 7 ص 290.
[4] الديراني: المرجع السابق. ص 291.(4/422)
عشرة آلاف من الظهر، ومن الأموال والمسك ما يؤد [1] حمله. وكان محمد بن طاهر معتقلا في العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلّص ذلك اليوم، وجاء إلى الموفّق، وخلع عليه وولّاه الشرطة ببغداد. وسار الصفّار إلى خوزستان فنزل جنديسابور، وراسله صاحب الزنج على الرجوع، ويعده المساعدة فكتب له: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» 109: 1- 2 السورة. وكان ابن واصل قد خالف الصفّار إلى فارس وملكها، فكتب إليه المعتمد بولايتها، وبعث إليه الصفّار جيشا مع عمر بن السري من قواده، فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي. ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط، واعتزم الموفّق على إتباع الصفّار فقعد به المرض عن ذلك. وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخي، وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد.
(انتقاض الخجستاني بخراسان على يعقوب الصفار وقيامه بدعوة بني طاهر)
كان من أصحاب محمد بن طاهر ورجالاته أحمد بن عبد الله بن خجستان، وكان متولّيا على وهي من جبال سراة وأعمال باذغيس. فلما استولى الصفّار على نيسابور وخراسان، انضم أحمد هذا إلى أخيه علي بن الليث، وكان شركب الحمّال قد تغلّب على مرو ونواحيها سنة تسع وخمسين ومائتين وتغلّب على نيسابور سنة ثلاث وستين ومائتين وأخرج منها الحسين بن طاهر، وكان لشركب ثلاثة من الولد: إبراهيم وهو أكبرهم، وأبو حفص يعمر، وأبو طلحة منصور، وكان إبراهيم قد أبلى في واقعة المغار مع الحسن بن زيد بجرجان، فقدّمه الصفّار، وحسده أحمد الخجستاني فخوّفه عادية الصفّار، وزيّن له الهرب. وكان يعمر أخوه محاصرا لبعض بلاد بلخ، فاتفق إبراهيم وأحمد الخجستاني في الخروج إلى يعمر، وسبقه إبراهيم إلى الموعد ولم يلقه فسار إلى سرخس. ولما عاد الصفّار إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين ولّى
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 296: «كان احمد بن عبد الله الخجستاني من خجستان وهي من جبال هراة من اعمال باذغيس»(4/423)
على هراة أخاه عمرو بن الليث فاستخلف عليها طاهر بن حفص الباذغيسيّ، وجاء الخجستاني إلى علي بن الليث وزيّن له أن يقيم بخراسان نائبا عنه في أموره وأقطاعه، فطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له. فلمّا ارتحلوا عن خراسان جمع أحمد الخجستاني وأخرج علي بن الليث من بلده سنة إحدى وستين ومائتين وملك تونس [1] وأعاد دعوة بني طاهر، وملك نيسابور سنة اثنتين وستين واستقدم رافع بن هرثمة من رجالات بني طاهر فجعله صاحب جيشه وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص وقتله، ثم قتل يعمر بن شركب، واستولى على خراسان ومحا منها دعوة يعقوب بن الليث. ثم جاء الحسن بن طاهر أخو محمد بأصفهان ليخطب له، فأبى فخطب له أبو طلحة بن شركب بنيسابور. وانتقض الخجستاني واضطربت خراسان فتنة. وزحف إليها الحسن بن زيد فقاتلوه وهزموه. ثم ملك نيسابور من يد عمرو بن الليث، وترك الخطبة لمحمد بن طاهر، وخطب للمعتمد ولنفسه من بعده كما هو مشروح في أخبار الخجستانيّ.
(استيلاء الصفار على الأهواز)
قد تقدّم لنا استيلاء الصفّار على فارس بعد خراسان. ثم سار منها إلى الأهواز وكان أحمد بن لسوقة قائد مسرور البلخي على الأهواز قد نزل تستر، فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور وفرّت عساكر السلطان من تلك النواحي. وبعث يعقوب بالخضر ابن العين [2] إلى الأهواز وعليّ بن أبان والزنج يحاصرونها، فتأخروا عنها إلى نهر السّدرة، ودخل الخضر الأهواز وملكها بدعوة الصفّار. وكان عسكره وعسكر الزنج يغير بعضهم على بعض. ثم أوقع الزنج بعسكره ولحق الخضر بعسكر مكرم،
__________
[1] لعلها قومس لأنه ليس لتونس اي مكان في هذه الأحداث. وقومس في الإقليم الرابع وهو تعريب كومس: وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان..
(معجم البلدان) .
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 307: «وفيها- 263- اقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما بلغ النّوبندجان انصرف احمد بن الليث عن تستر، فلما بلغ يعقوب جنديسابور ونزلها، ارتحل عن تلك الناحية كل من بها من عسكر الخليفة ووجّه إلى الأهواز رجلا من أصحابه يقال له الخضر بن العنبر» .(4/424)
واستخرج ابن أبان ما كان في الأهواز، ورجع إلى نهر السّدرة، وبعث يعقوب الأمداد إلى الخضر، وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز فوادع الزنج، وشحن الأهواز بالأقوات وأقام.
(وفاة يعقوب الصفّار وولاية عمرو أخيه)
ثم توفي يعقوب الصفّار في شوّال سنة خمس وستين بعد أن افتتح الزنج [1] ، وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده. وكانت مملكة واسعة الحدود. وافتتح زابلستان وهي غزنة وأعمالها. وكان المعتمد قد استماله وولّاه على سجستان والسّند. ثم تغلّب على كرمان وخراسان وفارس، وولّاه المعتمد على جميعها. ولما مات قام مكانه أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى المعتمد بطاعته، فولّاه الموفّق من قبل أعمال أخيه، وهي خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد. وبعث إليه بالخلع، فولّى عمرو بن الليث على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى من قبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وخلع عليه الموفّق وعمرو بن الليث وولّى على أصفهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف. وولّى على طريق مكة والحرمين محمد بن أبي الساج.
(مسير عمرو بن الليث الى خراسان لقتال الخجستاني)
قد تقدّم ذكر الخجستاني وتغلّبه على نيسابور وهراة بدعوة بني طاهر سنة اثنتين وستين ومائتين فلما توفي يعقوب سار عمرو إلى خراسان سنة خمس وستين ومائتين واستولى على هراة. وسار الخجستاني بنيسابور فقاتله فانهزم عمرو، ورجع إلى هراة. وكان الفقهاء بنيسابور يشيعون لعمور لولاية الخليفة إياه، فأوقع الخجستاني الفتنة بينهم بالميل إلى بعضهم، وتكرمتهم عن بعض ليشغلهم بها. ثم سار إلى هراة سنة سبع
__________
[1] الزنج: من قرى نيسابور (معجم البلدان) وفي الكامل أنه افتتح الرّخج، وقتل ملكها، وأسلم أهلها على يده. ج 7 ص 326. والرّخج: كورة ومدينة من نواحي كابل (معجم البلدان) .(4/425)
وستين ومائتين، وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر بشيء فتركه، وخالفه إلى سجستان. ووثب أهل نيسابور بنائبه عليهم، وأمدّهم عمرو بن الليث بجنده فقبضوا على نائب الخجستاني وأقاموا بها. ورجع الخجستاني من سجستان فأخرجهم وملكها. وكان أبو منصور طلحة بن شركب محاصرا لبلخ من قبل ابن طاهر، وكاتبه عمرو بن الليث واستقدمه، وأعطاه أموالا واستخلفه على خراسان، ورجع إلى سجستان. وبقي أبو طلحة بخراسان والخجستاني يقاتله إلى أن قتل الخجستاني سنة ثماني وستين ومائتين قتله بعض مواليه كما مر في أخباره مع رافع بخراسان. كان رافع بن هرثمة من قوّاد بني طاهر بخراسان، فلمّا ملكها يعقوب سار إليه واستقرّ في منزله بتامين من قرى باذغيس. فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش على رافع وهو بهراة فأقرّوه عليهم. وكان أبو طلحة بن شركب قد سار من جرجان إلى نيسابور. فسار إليه رافع وحاصرها، وخرج عنها أبو طلحة إلى مرو، وخطب بها وبهراة لمحمد بن طاهر، وولّى على هراة من قبله. ثم زحف إليه عمرو بن الليث فغلبه عليها، وولّى عليها محمد بن سهل بن هاشم. ورجع وبعث أبو طلحة إلى إسماعيل بن أحمد يستنجده فأنجده بعسكر سار بهم إلى مرو، وأخرج منها محمد بن سهل وخطب لعمرو بن الليث وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. ثم عزل المعتمد عمرو بن الليث عن سائر أعمال خراسان وقلّدها الموفّق محمد بن طاهر، وهو مقيم ببغداد، فاستخلف محمد عليها رافع بن هرثمة، وأقرّ نصر بن محمد أحمد الساماني على ما وراء النهر، فسار رافع إلى إسماعيل يستنجده على أبي طلحة فجاءه في أربعة آلاف مددا. واستقدم رافع أيضا عليّ بن الحسين المروروذي، وساروا جميعا إلى أبي طلحة وهو بمرو سنة اثنتين وسبعين ومائتين وغلبوه عليها ولحق بهراة، وعاد إسماعيل إلى خوارزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.
(حروب عمرو مع عساكر المعتمد ومع الموفق)
ولما عزل المعتمد عمرو بن الليث عن خراسان أمر بلعنه على المنابر، وأعلم حاجّ خراسان بذلك، وقلّد محمد بن طاهر أعمالها فاستخلف عليها رافع بن الليث، وكتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بعزله عن أصفهان والريّ. وبعث(4/426)
إليه العساكر لقتاله سنة إحدى وسبعين ومائتين فزحف إليه عمرو في خمسة عشر ألفا من المقاتلة فهزمه أحمد بن عبد العزيز والعساكر واستباحوا معسكره، ودفعوه عن أصفهان والري. وكان المعتمد لمّا عزله ولعنه بعث صاعد بن مخلّد في العساكر إلى فارس لقتال عمرو بن الليث وإخراجه من فارس، فسار لذلك ولم يظفر. ورجع سنة اثنتين وسبعين ومائتين. ثم سار الموفّق سنة أربع وسبعين ومائتين إلى فارس لحرب عمرو ابن الليث، فسيّر عمرو قائده عبّاس بن إسحاق إلى شيراز، وابنه محمد بن عمرو إلى أرّجان وبعث على مقدّمته أبا طلحة بن شركب صاحب جيشه، فاستأمن أبو طلحة إلى الموفّق وفتّ ذلك في عضد عمرو، وخام عن لقائه. وسار الموفّق إلى شيراز وارتاب بأبي طلحة فقبض عليه، وملك الموفّق فارس، وعاد عمرو إلى كرمان فسار الموفّق في طلبه، فلحق بسجستان على المفازة، وتوفي ابنه محمد بن عمرو بها. وامتنعت كرمان وسجستان على الموفّق فعاد إلى بغداد. وارتاب عمرو بن الليث بأخيه عليّ فحبسه بكرمان، وحبس معه ابنه المعدل والليث فهربوا من محبسهم، ولحقوا برافع ابن الليث عند ما ملك طبرستان وجرجان من محمد بن زيد العلويّ سنة سبع وسبعين ومائتين فأقاموا عنده، وهلك عليّ بن الليث وبقي ولداه عنده. ثم رضي المعتمد عن عمرو بن الليث وولّاه الشرطة ببغداد، وكتب اسمه على الأعلام والترسة سنة ست وسبعين ومائتين واستخلف في الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ثم سخطه لسنة ومحا اسمه من الأعلام.
(ولاية عمرو بن الليث على خراسان ثانيا ومقتل رافع بن الليث)
ثم سخط المعتمد رافع بن الليث لامتناعه عن تخلية قرى السلطان بالريّ بعد أن أمره بذلك، فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه عن الريّ. وكتب إلى عمرو بن الليث بولاية خراسان. وحارب أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين فقاتل أخويه عمر وبكر ابني عبد العزيز فهزمهما إلى أصفهان، وأقام بالري باقي سنته. ثم سار إلى أصفهان فملكها سنة إحدى وثمانين ومائتين وعاد إلى جرجان، ووافى عمرو بن الليث خراسان واليا عليها بجموعه.(4/427)
وتورّط رافع بن الليث ورجع إلى مصالحة محمد بن زيد، ويعيد إليه طبرستان فصالح محمد بن زيد، وخطب له بطبرستان سنة اثنتين وثمانين ومائتين على أن يمدّه بأربعة آلاف من الديلم. وسار عن طبرستان إلى نيسابور سنة ثلاث وثمانين ومائتين فحاربه عمرو وهزمه إلى أبيورد، وأخذ منه المعدل والليث ابني أخيه. ثم أراد رافع المسير إلى هراة فأخذ عليه عمرو الطريق لسرخس وسرّب رافع في المضايق ونكب عن جمهور الطريق فدخل نيسابور وحاصره فيها عمرو بن الليث. ثم برز للقائه واستأمن بعض قوّاد رافع إلى عمرو، فانهزم رافع وأصحابه. وبعث إلى محمد بن وهب [1] يسنمدّه كما شرط له. وكان عمرو قد حذّر محمد بن زيد من إمداده فأقصر من ذلك. وتفرّق عن رافع أصحابه وغلمانه، وكانوا أربعة آلاف غلام. وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل بن سمّان ببخارى، وخرج رافع منهزما إلى خوارزم في فلّ من العسكر، وحمل بقية المال والآلة، وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين. فلما رآه صاحب خوارزم أبو سعيد الغرغاني في قلة من العسكر، غدر به وقتله في أوّل شوّال، وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور فأنفذه عمرو إلى بغداد. فكتب إليه المعتضد بولاية الريّ مضافة إلى خراسان، وأنفذ له الألوية والخلع سنة أربع وثمانين ومائتين.
(استيلاء بني سامان على خراسان وهزيمة عمرو بن الليث وحبسه ثم مقتله)
لما بعث عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة إلى المعتضد، طلب ولاية ما وراء النهر فولّاه وبعث إليه بالخلع واللواء، فسرّح عمرو الجيوش من نيسابور مع قائده محمد بن بشير وغيره من قوّاده لمحاربة إسماعيل بن أحمد، وانتهوا إلى آمد فعبر إسماعيل جيحون وهزمهم، وقتل محمد بن بشير وغيره من قوّاده، ورجع الفلّ إلى عمرو بنيسابور.
وعاد إسماعيل إلى بخارى وتجهّز [2] للسير إلى إسماعيل، وسار إلى بلخ. وبعث إليه
__________
[1] هو محمد بن زيد كما تقدم من قبل وكما يظهر فيما بعد وفي الطبري ج 11 ص 348: محمد بن زيد الطالبي. وفي الكامل ج 7 ص 483: محمد بن زيد العلويّ.
[2] يبدو أنه سقطت كلمة عمرو. كما يقتضي سياق المعنى(4/428)
إسماعيل: إنك قد حزت الدنيا العريضة فاتركني في هذا الثغر فأبى. وعبر إسماعيل وأخذ عليه الجهات فصار محصورا، وندم وطلب المحاجزة فأبى إسماعيل، وقاتله فانهزم عمرو ونكب عن طريق العسكر إلى مضيق ينفرد فيه وتوارى في أجمة فوحلت به دابته، ولم يتفطّن له أصحابه، فأخذ أسيرا وبعث به إسماعيل إلى المعتضد، بعد أن خيّره فاختار المسير إليه، ووصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين وأدخل على جمل وحبس. وبعث المعتضد إلى إسماعيل بولايته خراسان إلى أن توفي المعتضد.
وجاء المكتفي إلى بغداد، وكان في نفسه اصطناعه، وكره ذلك الوزير القاسم بن عبيد الله فوضع عليه من قتله سنة تسع وثمانين ومائتين.
(ولاية طاهر بن محمد بن عمرو على سجستان وكرمان ثم على فارس)
ولما أسر عمرو وسار إلى محبسه، قام مكانه بسجستان وكرمان حافده طاهر بن محمد ابن عمرو، وهو الّذي مات أبوه محمد بمفازة سجستان عند ما هرب عمرو أمام الموفّق من فارس، ثم سار طاهر إلى فارس، وسار إليها في الجيوش سنة ثمان وثمانين ومائتين واعترضه بدر، فعاد طاهر الى سجستان، وملك بدر فارس وجبى أموالها. ثم بعث طاهر بن محمد سنة تسع وثمانين ومائتين يطلب المقاطعة على فارس بمال يحمله، وكان المعتضد قد توفي، فعقد له المكتفي عليها، وتشاغل طاهر بالصيد واللهو، ومضى إلى سجستان فغلب على الأمر بفارس الليث ابن عمه علي بن الليث، وسبكرى مولى جدّه عمرو، وكان معهما أبو قابوس قائد طاهر، فلحق بالخليفة المكتفي وكتب طاهر ردّه بما جباه من المال، ويحتسب له من جملته فلم يجب إلى ذلك.
(استيلاء الليث على فارس ثم مقتله واستيلاء سبكرى)
ولما تغلّب سبكرى على فارس لحق الليث بن علي بطاهر ابن عمه وزحف طاهر إلى فارس فهزمه السبكري وأسره، وبعث به وبأخيه يعقوب إلى المقتدر سنة سبع وتسعين(4/429)
ومائتين وضمن فارس بالحمل الّذي كان قرّره فولّاه على فارس. ثم زحف إليه الليث ابن علي بن الليث فملك فارس [1] الليث للقائهم وجاءه الخبر بأنّ الحسين ابن حمدان صار من قمّ مددا لمؤنس، فركب لاعتراضه، وتاه الدليل عن الطريق فأصبح على معسكر مؤنس فثاروا واقتتلوا وانهزم عسكر الليث، وأخذ أسيرا، وأشار أصحاب مؤنس بأن يقبض على سبكر معه. ويملك بلاد فارس، ويقرّه الخليفة فوعدهم بذلك، ودسّ إلى سبكرى بأن يهرب إلى شيراز. وأصبح يلوم أصحابه على ظهور الخبر من جهتهم، وعاد بالليث إلى بغداد واستولى سبكر على فارس، واستبدّ كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على أموره، فسعى فيه أصحابه عند سبكرى حتى قبض عليه، وحملوه على العصيان فمنع الحمل، فكتب هو من محبسه إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه بأمرهم. وكتب ابن الفرات إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس ويعاتبه حيث لم يقبض على سبكرى فسار مؤنس إلى الأهواز، وراسله سبكرى وهاداه. وعلم ابن الفرات بميل مؤنس إليه فأنفذ وصيفا وجماعة من القوّاد ومعهم محمد بن جعفر وأمرهم بالتعويل عليه في فتح فارس. وكتب إلى مؤنس باستصحاب الليث إلى بغداد ففعل، وسار محمد بن جعفر إلى فارس ورافع سبكرى على شيراز فهزمه، وحاصره بها وحاربه ثانية فهزمه ونهب أمواله، ودخل سبكرى مفازة خراسان فظفرت به جيوش خراسان وأسروه، وبعثوا به إلى بغداد. وولّى على فارس فتح [2] خادم الأفشين.
(انقراض ملك بني الليث من سجستان وكرمان)
وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين توفي فتح صاحب فارس، فولّى المقتدر مكانه عبد الله ابن إبراهيم المسمعي وأضاف إليه كرمان من أعمال بني الليث. وسار أحمد بن إسماعيل
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 56: «وفي هذه السنة- 297- سار الليث بن علي بن الليث من سجستان الى فارس في جيش فأخذها، واستولى عليها، وهرب سبكرى عنها الى أرجان. فلما بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنسا الخادم وسيّره الى فارس، معونة لسبكرى فاجتمعا بأرّجان، وبلغ خبر اجتماعهما الليث، فسار اليهما، فأتاه الخبر بمسير الحسين بن حمدان من قمّ الى البيضاء» .
[2] قنبج: ابن الأثير ج 8 ص 58.(4/430)
ابن سامان إلى الريّ فبعث منها جيوشه إلى سجستان سنة ثمان وتسعين ومائتين مع جماعة من قواده وعليهم الحسن بن علي المروروذيّ. وكانت سجستان لما أسر طاهر سنة سبع وتسعين ومائتين ولي بها بعده الليث بن علي بن الليث. فلما أسر الليث كما تقدّم ولي بعده أخوه المعدّل بن عليّ بن الليث، فلما بلغه مسير هذه العساكر إليه من قبل أحمد ابن إسماعيل بعث أخاه أبا علي بن الليث محمد بن علي بن الليث إلى بست والرخّج ليجبيهما، ويبعث منهما إلى سجستان بالميرة، فسار إليه أحمد بن إسماعيل بن سامان، وعلى سجستان أبو صالح منصور ابن عمه إسحاق بن أحمد بن سامان لما بلغه مسير سبكر من فارس إلى سجستان في المفازة، فبعث إليه جيشا فأخذه، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بالخبر وبالفتح، فأمره بحمل سبكر والليث، فبعث بهما إلى بغداد وحبسهما.
(ثورة أهل سجستان بأصحاب ابن سامان ودعوتهم الى بني عمرو بن الليث بن الصفار ثم عودهم الى طاعة أحمد بن إسماعيل بن سامان)
كان محمد بن هرمز ويعرف بالمولى الصندليّ خارجيا وهو من أهل سجستان. خرج أيام بني سامان وأقام ببخارى، وسخط بعض الأعيان بها فسار إلى سجستان، واستمال جماعة من الخوارج رئيسهم ابن الحفّار فخرجوا، وقبضوا على منصور بن إسحاق عاملهم من بني سامان وحبسوه، وولّوا عليهم عمرو بن يعقوب بن محمد بن الليث، وخطبوا له، فبعث أحمد بن إسماعيل الجيوش ثانيا مع الحسين بن علي سنة ثلاثمائة، وحاصرها ستة أشهر، ومات الصندلي فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن علي، وخرج منصور بن إسحاق من محبسه. واستعمل أحمد ابن إسماعيل على سجستان سيمجور الدواني، ورجع الحسين بالجيوش إلى الأمير أحمد ومعه يعقوب وابن الحفّار في ذي الحجة سنة ثلاثمائة.(4/431)
(استيلاء خلف بن أحمد بن علي على سجستان ثم انتقاضهم عليه)
كان خلف بن أحمد من ذرية عمرو بن الليث الصفّار، وهو بسطة برسمه بانوا [1] ولما فشل أمر بني سامان استولى على سجستان وكان من أهل العلم ويجالسهم. ثم حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. واستخلف على أعماله طاهر بن الحسين من أصحابه. فلما عاد من الحج انتقض عليه طاهر بن الحسين من أصحابه، فسار خلف إلى بخارى مستجيشا بالأمير منصور بن سامان، فبعث معه العساكر وملك سجستان، وكثرت أمواله وجنوده. وقطع ما كان يحمله إلى بخارى، فسارت العساكر إليه ومقدّمهم [2] وحاصروا خلف بن أحمد في حصن أوّال من أمنع الحصون وأعلاها. ولما اشتدّ به الحصار وفنيت الأموال والآلات، كتب إلى نوح بن منصور صاحب بخارى بأن يستأمنه، ويرجع إلى دفع الحمل، فكتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور عامله على خراسان وقد عزل [3] بالمسير إلى حصار خلف، فسار من قهستان إلى سجستان وحاصر خلف، وكانت بينهما مودّة، فأشار عليه سيمجور بتسليم حصن أوّال [4] للحسن لتتفرّق الجيوش عنه إلى بخارى، ويرجع هو إلى شأنه مع صاحبه، فقبل خلف مشورته. ودخل سيمجور إلى حصن أوّال وخطب فيه للأمير نوح. ثم سلمه للحسن بن طاهر وانصرف إلى بخارى، وكان هذا أول وهن دخل على بني سامان من سوء طاعة أصحابهم.
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 8 ص 563: «وفي هذه السنة- 354- عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد، وكان خلف هذا هو صاحب سجستان حينئذ، وكان عالما محبا لأهل العلم، فاتّفق انه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة» .
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 564: «وجهّزت العساكر إليه، وجعل مقدّمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور، فساروا إلى سجستان وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك، وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلا وأعمقها خندقا» .
[3] كان ابو الحسن بن سيمجور عامل خراسان من قبل نوح بن منصور قد عزل عن عمله. ثم أعيد إليه.
ويبدو هنا انه سقط بعض الكلمات أثناء النسخ.
[4] هو حصن أرك كما مرّ معنا.(4/432)
(استيلاء خلف بن أحمد على كرمان ثم انتزاع الديلم لها)
ولما استفحل أمر خلف بسجستان حدّث نفسه بملك كرمان، وكانت في أيدي بني بويه وملكهم يومئذ عضد الدولة، فلمّا وهن أمرهم، ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة ابني عضد الدولة، جهّز العساكر إلى كرمان وعليهم عمرو ابنه وقائدهم يومئذ تمرتاش من الديلم. فلما قاربها عمرو هرب تمرتاش إلى بردشير [1] وحمل ما أمكنه، وغنم عمرو الباقي وملك كرمان وجبى الأموال. وكان صمصام الدولة صاحب فارس، فبعث العساكر إلى تمرتاش مع أبي جعفر وأمره بالقبض عليه لاتهامه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة، فسار وقبض عليه، وحمله إلى شيراز. وسار بالعساكر إلى عمرو بن خلف فقاتله عمرو بدار زين وانهزم الديلم وعادوا على طريق جيرفت، وبعث صمصام الدولة عسكرا آخر مع العبّاس بن أحمد من أصحابه، فلقوا عمرو بن خلف بالسيرجان في المحرّم سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فهزموه وعاد إلى أبيه بسجستان مهزوما، ووبّخه ثم قتله. ثم عزل صمصام الدولة العبّاس عن كرمان فأشاع خلف بأن أستاذ هرمز سمّه، واستنفر الناس لغزو كرمان، وبعثهم مع ابنه طاهر، فانتهوا إلى برماشير [2] وملكوها من الديلم، ولحق الديلم بجيرفت واجتمعوا بها، وبعثوا بها [3] إلى بردشير حامية من العسكر، وهو أصل بلاد كرمان ومصرها فحصرها طاهر ثلاثة أشهر، وضيّق على أهلها، وكتبوا إلى أستاذ هرمز يستمدّونه قبل أن يغلبهم عليها طاهر، فخاطر بنفسه، وركب إليهم المضايق والأوعار حتى دخلها، وعاد طاهر إلى سجستان واستنفر الناس لغزو الديلم بجيرفت، واجتمعوا بها وبعثوا إلى بردشير حامية من العسكر، وهو أصل بلاد كرمان، وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
__________
[1] بردسير: ابن الأثير ج 9 ص 82.
[2] نرماسير: ابن الأثير ج 9 ص 84.
[3] يبدو ان «بها» زائدة ولا لزوم لها حسب سياق المعنى.
ابن خلدون م 28 ج 4(4/433)
(استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنها ومقتله)
كان طاهر بن خلف من العقوق لأبيه على عظيم [1] وانتقض عليه وجرت بينهما وقائع كان الظفر بها لخلف، ففارق طاهر سجستان وسار إلى كرمان. وبها الديلم عسكر بهاء الدولة فصعد إلى جبالها، واحتمى بقوم هنالك كانوا عصاة، ونزل على جيرفت فملكها، ولقيه الديلم فهزمهم، واستولى على الكثير مما بأيديهم فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر بن أستاذ هرمز، فغلب طاهرا على كرمان فعاد إلى سجستان، وقاتل أباه فهزمه، وملك البلاد وامتنع أبوه خلف ببعض حصونه، وكان الناس قد سئموا منه لسوء سيرته، فرجع إلى مخادعة ابنه، فتواعد اللقاء تحت القلعة، وأكمن له بالقرب كمينا، فلما لقيه الكمين واستمكن منه أبوه خلف فقتله أبوه.
(استيلاء محمود بن سبكتكين على سجستان ومحو آثار بني الصفار منها)
كان خلف بن أحمد قد بعث ابنه طاهرا إلى قهستان فملكها. ثم إلى بوشنج كذلك.
وكانت هي وهراة لبغراجق عمّ محمود، وكان محمود مشتغلا بالفتنة مع قوّاد بني سامان، فلما فرغ منها استأذنه عمّه في إخراج طاهر بن خلف فأذن له. وسار إليه سنة تسعين وثلاثمائة ولقيه بنواحي بوشنج فهزمه، ولجّ في طلبه فكرّ عليه طاهر وقتله، فساء ذلك محمودا وجمع عساكره وسار إلى خلف بن أحمد، وحاصره بحصن أصبهيل، وضيّق عليه حتى بذل له أموالا جليلة، وأعطاه الرهن عليها فأفرج عنه.
ثم عهد خلف بملكه إلى ابنه، وعكف على العبادة والعلم خوفا من محمود بن سبكتكين فلما استولى طاهر على الملك عقّ أباه وكان من أمره ما تقدّم. ولما قتل طاهر تغيّرت نيّات عساكره، وساءت فيه ظنونهم، واستدعوا محمود بن سبكتكين وملّكوه مدينتهم. وقعد خلف في حصنه وهو حصن الطاق، له سبعة أسوار محكمة، وعليها
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 166: «وكان سبب مسيره إليها- كرمان- انه قد خرج عن طاعة أبيه، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه» .(4/434)
خندق عتيق له جسر يرفع ويحط عند الحاجة، فحاصره محمود سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وطمّ الخندق بالأعواد والتراب في يوم واحد، وزحف لقتاله بالفيول. وتقدّم عظيمها فاقتلع باب الحصن بنابه وألقاه، وملك محمود السور الأوّل ودفع عنه أصحاب خلف إلى السور الثاني. ثم إلى الثالث كذلك فخرج خلف واستأمن.
وحضر عنده محمود وخيّره في المقام حيث شاء من البلاد فاختار الجوزجان، وأقام بها أربع سنين. ثم نقل عنه الخوض في الفتنة، وأنه راسل أيلد خان يغريه بمحمود، فنقله الى جردين وحبسه لك إلى أن هلك سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وورثه ابنه أبو حفص. ولما ملك محمود سجستان واستنزل خلف من حصن الطاق، ولّى على سجستان أحمد الفتحي من قوّاد أبيه. ثم انتقض أهل سجستان فسار إليهم محمود سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في ذي الحجة، وحصرهم في حصن أوّال [1] واقتحمه عليهم عنوة وقتل أكثرهم وسبى باقيهم حتى خلت سجستان منهم، وصفا ملكها له فأقطعها أخاه نصرا مضافة إلى نيسابور، وانقرض ملك بني الصفّار وذويهم من سجستان والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة بني سامان ملوك ما وراء النهر المقيمين بها الدولة العباسية وأولية ذلك ومصائره)
أصل بني سامان هؤلاء من العجم، كان جدّهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها، وينتسبون في الفرس إلى بهرام حشيش الّذي ولّاه كسرى أنوشروان مرزبان أذربيجان. وبهرام حشيش من أهل الريّ ونسبهم إليه هكذا أسد بن سامان خذاه بن جثمان بن طغان بن نوشردين بن بهرام نجرين بن بهرام حشيش. ولا وثوق لنا بضبط هذه الأسماء. وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد ويحيى والياس، وأصل دولتهم هذه فيما وراء النهر أنّ المأمون لمّا ولي خراسان اصطنع بني أسد هؤلاء، وعرف لهم حق سلفهم واستعملهم. فلمّا انصرف إلى العراق ولّى على خراسان غسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن طاهر، مكان ابنه إسحاق ومحمد بن الياس. ثم مات
__________
[1] حصن أرك.(4/435)
أحمد بن أسد بفرغانة سنة إحدى وستين. وكان له من الولد سبعة: نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد، وكنيته أبو الأشعث، وحميد وكنيته أبو غانم. ولما توفي أحمد وكانت سمرقند من أعماله، استخلف عليها ابنه نصرا، وأقام في ولايتها أيام بني طاهر وبعدهم. وكان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أمر بني طاهر واستولى الصفّار على خراسان.
(ولاية نصر بن أحمد على ما وراء النهر)
ولما استولى الصفّار على خراسان، وانقرض أمر بني طاهر، عقد المعتمد لنصر بن أحمد على أعمال ما وراء النهر، فبعث جيوشه إلى شطّ جيحون مسلحة من عبور الصفّار فقتل مقدّمهم، ورجعوا إلى بخارى. وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها.
وولوا عليهم ثم عزلوا، ثم ولّوا ثم عزلوا، فبعث نصر أخاه إسماعيل على شط بخارى.
وكان يعظم محلّه ويقف في خدمته. ثم ولّى على غزنة أبا إسحاق بن التكين. ثم ولّى على خراسان من بعد ذلك رافع بن هرثمة بولاية بني طاهر وأخرج عنها الصفّار.
وحصلت بينه وبين إسماعيل أعمال خوارزم فولّاه إياها، وفسد ما بين إسماعيل وأخيه نصر، وزحف إليه سنة اثنتين وسبعين فأرسل قائده حمويه بن عليّ إلى رافع يستنجده، فسار إليه بنفسه منها، وأصلح بينهما ورجع إلى خراسان. ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسماعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيل وقبّل يده وردّه إلى كرسي إمارته بسمرقند. وأقام نائبا عنه ببخارى، وكان إسماعيل خيّرا مكرما لأهل العلم والدين.
(وفاة نصر بن أحمد وولاية أخيه إسماعيل على ما وراء النهر)
ثم توفي نصر سنة تسع وسبعين ومائتين، وقام مكانه في سلطان ما وراء النهر أخوه إسماعيل وولّاه المعتضد، ثم ولّاه خراسان سنة سبع وثمانين ومائتين. وكان سبب ولايته(4/436)
على خراسان أنّ عمرو بن الليث كان المعتضد ولّاه خراسان. وأمره بحرب رافع بن هرثمة فحاربه وقتله، وبعث برأسه إلى المعتضد، وطلب منه ولاية ما وراء النهر، فولّاه وسير العساكر لمحاربة إسماعيل بن أحمد مع محمد بن بشير من خواصه، فانتهوا إلى آمد بشط جيحون. وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتل محمد بن بشير، ورجع إلى بخارى فسار عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ يريد العبور إلى ما وراء النهر، فبعث إليه إسماعيل يستعطفه بأنّ الدنيا العريضة في يدك وإنما لي هذا الثغر فأبى ولجّ، وعبر إسماعيل النهر وأحاط به، وهو على نجد فصار محصورا وسأل المحاجزة فأبى إسماعيل وقاتله فهزمه، وأخذه بعض العسكر أسيرا، وبعث به إلى سمرقند. ثم خيّره في إنفاذه إلى المعتضد فاختاره، فبعث به إليه. ووصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين وأدخل على جمل وحبس وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بولاية خراسان كما كانت لهم فاستولى عليها، وصارت بيده. ولما قتل عمرو بن الليث طمع محمد بن زيد العلويّ صاحب طبرستان والديلم في ملك خراسان، فسار إليها وهو يظن أن إسماعيل بن أحمد لا يريدها ولا يتجاوز عمله، فلما سار إلى جرجان وقد وصل كتاب المعتضد إلى إسماعيل بولاية خراسان، فكتب إليه ينهاه عن المسير إليها فأبى، فسرّح إليه محمد بن هارون قائد رافع، وكان قد فارقه عند هزيمته ومقتله. ولحق بإسماعيل فسرّحه في العساكر لقتل محمد بن زيد العلويّ ولقيه على جرجان فانهزم محمد بن زيد وغنم ابن هارون عسكره، وأصابت محمد بن زيد جراحات هلك لأيام منها. وأسر ابنه زيد فأنزله إسماعيل بخارى وأجرى عليه، وسار محمد بن هارون إلى طبرستان فملكها، وخطب فيها لإسماعيل وولّاه إسماعيل عليها.
(استيلاء إسماعيل على الري)
كان محمد بن هارون قد انتقض في طبرستان على إسماعيل وخلع دعوة العبّاسيّة وكان الوالي على أهل الري من قبل المكتفي أغرتمش التركي، وكان سيّئ السيرة فيهم فاستدعوا محمد بن هارون من طبرستان فسار إليها، وحارب أغرتمش فقتله، وقتل ابنين له وأخاه كيغلغ من قواد المكتفي. واستولى على الري فكتب المكتفي إلى إسماعيل(4/437)
بولاية الريّ، وسار إليها فخرج محمد بن هارون عنها إلى قزوين وزنجان وعاد إلى طبرستان، واستعمل إسماعيل بولاية الذين على جرجان فارس الكبير [1] وألزمه بإحضار محمد بن هارون. فكاتبه فارس، وضمن له إصلاح حاله، فقبل قوله وانصرف عن حسّان الديلميّ إلى بخارى في شعبان سنة تسعين ومائتين. ثم قبض في طريقه وأدخل إلى بخارى مقيّدا، فحبس بها ومات لشهرين.
(وفاة إسماعيل بن أحمد وولاية ابنه أحمد)
ثم توفي إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف سنة خمس وتسعين ومائتين، وكان يلقّب بعد موته بالماضي، وولي بعده أبو نصر أحمد، وبعث إليه المكتفي بالولاية، وعقد له لواءه بيده، وكان إسماعيل عادلا حسن السيرة حليما.
وخرجت الترك في أيامه سنة احدى وتسعين ومائتين الى ما وراء النهر في عدد لا يحصى، يقال كان معهم سبعمائة قبّة، وهي لا تكون إلا للرؤساء، فاستنفر لهم إسماعيل الناس، وخرج من الجند والمتطوّعة خلق كثير. وخرجوا إلى الترك وهم غارّون فكبسوهم مصبحين، وقتلوا منهم ما لا يحصى وانهزم الباقون. واستبيح عسكرهم.
ولما مات ولي ابنه أبو نصر أحمد واستوثق أمره ببخارى بعث عن عمّه إسحاق بن أحمد من سمرقند فقبض عليه وحبسه. ثم عبر إلى خراسان ونزل نيسابور، وكان فارس الكبير [2] مولى أبيه عاملا على جرجان. وكان ظهر له أنّ أباه عزله عن جرجان بفارس [2] هذا، وكان فارس قد ولي الريّ وطبرستان، وبعث إلى إسماعيل ابن أحمد بثمانين حملا من المال [3] ، فلما سمع بوفاة إسماعيل استردّها من الطريق.
وحقد له أبو نصر ذلك كله، فخافه فارس. فلما نزل أبو نصر نيسابور كتب فارس إلى المكتفي يستأذنه في المسير إليه، وسار في أربعة آلاف فارس، وأتبعه أبو نصر فلم
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 7 ص 527: «فاستعمل إسماعيل بن أحمد على جرجان بارس الكبير، وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرا» .
[2] هو بارس الكبير.
[3] هذه الأموال من خراج الريّ وطبرستان وجرجان. جمعها بارس وأرسلها الى إسماعيل، ولما بلغ وفاته استرد المال ...(4/438)
يدركه. وتحصّن منه عامل أبي نصر بالريّ، ووصل إلى بغداد فوجد المقتدر قد ولي بعد المكتفي، وقد وقعت حادثة ابن المعين فولّاه المقتدر ديار ربيعة، وبعثه في طلب بني حمدان، وخشي أصحاب المقتدر أن يتقدّم عليهم فوضعوا عليه غلاما له فسمّه ومات بالموصل، وتزوّج الغلام امرأته.
(استيلاء أحمد بن إسماعيل على سجستان)
كانت سجستان في ولاية الليث بن علي بن الليث، وخرج إلى طلب فارس فأسره مؤنس الخادم، وحبس ببغداد وولى على سجستان أخوه المعدّل، ثم سار أبو نصر أحمد بن إسماعيل سنة سبع وتسعين من بخارى إلى الري، ثم إلى هراة وطمع في ملك سجستان، فبعث إليه العسكر في محرّم سنة ثمان وتسعين مع أعيان قوّاده:
أحمد بن سهل ومحمد بن المظفّر وسيمجور الدواتيّ والحسين بن علي المروروذيّ. فلما بلغ الخبر إلى المعدّل بعث أخاه محمد بن علي إلى بست والزنج [1] فحاصرته العساكر بسجستان وسار أحمد بن إسماعيل إلى بست فملكها، وأسر محمد بن علي، وبلغ الخبر الى المعدّل فاستأمن إلى الحسين فملكها، وحمل المعدّل معه إلى بخارى. وولّى الأمير على سجستان أبا صالح منصور بن عمّه إسحاق بن أحمد، وكان قد قبض على إسحاق لأوّل ولايته. ثم أطلقه الآن وأعاده إلى سمرقند وفرغانة. وقد كان سبكرى هزمته عساكر المقتدر بفارس، وخرج إلى مفازة سجستان فبعث الحسين عسكرا لاعتراضه، وأخذ أسيرا، وبعثوا به وبمحمد بن علي إلى بغداد. وبعث المقتدر إلى أحمد بالخلع والهدايا. ثم انتقض أهل سجستان على سيمجور الدواتي وولّوا منصور ابن عمه إسحاق على نيسابور.
(مقتل أبي نصر أحمد بن إسماعيل وولاية ابنه نصر)
ثم قتل أبو نصر أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر آخر جمادى الآخرة سنة إحدى
__________
[1] الزّنج: من قرى نيسابور وفي الكامل ج 8 ص 60: الرخّج(4/439)
وثلاثمائة، وكان مولعا بالصيد، فخرج إلى برير [1] متصيّدا وكان له أسد يربط كل ليلة على باب خيمته فأغفل ليلة، فعدا عليه بعض غلمانه وذبحوه على سريره. وحمل إلى بخارى فدفن بها ولقّب الشهيد، وقتل من وجد من أولئك الغلمان. وولي الأمير مكانه ابنه أبا الحسن [2] نصر بن أحمد، وهو ابن ثمان سنين، ولقّب السعيد. وتولّى الأمور له أصحاب أبيه ببخارى، وحمله على عاتقه أحمد بن الليث مستولي الأمور، وانتقض عليه أهل سجستان، وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بسمرقند. وابناه منصور والياس ومحمد بن الحسين ونصر بن محمد وأبو الحسين بن يوسف والحسن بن علي المروروذيّ وأحمد بن سهل وليلى بن النعمان من الديلم صاحب العلويّين بطبرستان، ومعه سيمجور وأبو الحسين بن الناصر الأطروش وقراتكين، وخرج عليه إخوته يحيى ومنصور وإبراهيم بنو أبيه، وجعفر بن داود ومحمد بن الياس، ومرداويج ووشمكير ابنا زياد من أمراء الديلم، وكان السعيد نصر مظفّرا على جميعهم.
(انتقاض سجستان)
ولما قتل أحمد بن إسماعيل انتقض أهل سجستان وبايعوا للمقتدر، وبعثوا إليه وأخرجوا سيجور الدواتي [3] ، فأضافها المقتدر إلى بدر الكبير، وأنفذ إليها الفضل بن حميد وأبا يزيد من قبل السعيد نصر وسعيد الطالقانيّ بغزنة كذلك فقصدها الفضل وخالد واستوليا على غزنة وبسنة وقبضا على سعيد الطالقانيّ وبعثا به إلى بغداد وهرب عبيد الله الجهستاني ثم اعتل الفضل وانفرد خالد بالأمور [4] . ثم انتقض فأنفذ إليه
__________
[1] فربر: ابن الأثير ج 8 ص 77.
[2] هكذا بالأصل والعبارة الصحيحة وولي الأمر مكانه ابنه ابو الحسن نصر ابن أحمد.
[3] سيمجور الدواتي: ابن الأثير ج 8 ص 79
[4] العبارات غير واضحة ومبتورة وفي الكامل ج 8 ص 79: «فولّاها المقتدر باللَّه بدرا الكبير، فأنفذ إليها الفضل بن حميد، وابا يزيد بن خالد بن محمد المروزيّ، وكان عبيد الله بن أحمد الجيهانيّ ببست، والرخّج، وسعد الطالقانيّ بغزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد، فقصدهما الفضل وخالد، وانكشف عنهما عبيد الله، وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه الى بغداد، واستولى الفضل وخالد على غزنة وبست، ثم اعتلّ الفضل، وانفرد خالد بالأمور» .(4/440)
المقتدر أخا نجح الطولونيّ فهزمه خالد. وسار إلى كرمان، فأنفذ إليه بدر الجيش فأخذ أسيرا ومات، وحمل إلى بغداد.
(انتقاض إسحاق العمّ وابنه الياس)
كان إسحاق بن أحمد عم الأمير أحمد بن إسماعيل واليا على سمرقند، فلما بلغه مقتل الأمير أحمد، وولاية ابنه السعيد نصر، دعا لنفسه بسمرقند، وتابعه ابنه الياس على ذلك. وساروا إلى بخارى فبرز إليهم القائد حمويه بن عليّ فهزمهم إلى سمرقند. ثم جمعوا وعادوا فهزمهم ثانية، وملك سمرقند من أيديهم عنوة. واختفى إسحاق وجدّ حمويه في طلبه فضاق به مكانه، واستأمن إلى حمويه وحمله إلى بخارى وأقام بها إلى أن هلك. ولحق الياس بفرغانة فأقام بها إلى أن خرج ثانية كما يأتي.
(ظهور الأطروش واستيلاؤه على طبرستان)
قد تقدّم لنا في أخبار العلويّة شأن دولة الأطروش وبنيه بطبرستان، وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمرو بن علي بن الحسن السبط، وأنه استعمل الأمير أحمد على طبرستان مكانه أبا العبّاس أحمد عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة، وعدل في الرعية وأكرم العلويّة وبالغ في الإكرام والإحسان إليهم. واستمال رؤساء الديلم وهاداهم، وكان الحسن الأطروش قد دخل إليهم بعد قتل محمد بن زيد وأقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا إليه، وبنى في بلادهم المساجد، ودعاهم للمسير معه إلى طبرستان فلم يجيبوه إلى ذلك. ثم عزل أبو العبّاس، وتولّى سلام فلم يحسن سياسة الديلم فخرجوا عليه، وقاتلوه فهزمهم، واستعان بالأمير أحمد السعيد، فأعاد الأمير أحمد إليها ابن نوح، فاستعمل عليها أبا العبّاس محمد بن إبراهيم صعلوك، ففسد ما بينه وبين الديلم بإساءة السيرة وعدم السياسة. فطلبهم الأطروش في الخروج معه فخرجوا، ولقيهم ابن صعلوك على(4/441)
مرحلة من سالوس وهي ثغر طبرستان فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، وحصر الأطروش الباقين. ثم أمّنهم وعاد إلى آمد وسار إليهم الحسن بن القاسم العلويّ الداعي صهر الأطروش فقتلهم متعلّلا عليهم فأنه لم يحضر لعهدهم. واستولى الأطروش على طبرستان سنة إحدى وثلاثمائة أيام السعيد نصر، وخرج صعلوك إلى الريّ متعلّلا عليهم، ومنها إلى بغداد. وكان الذين أسلموا على يد الأطروش الديلم من وراء أسفيجاب [1] إلى آمد، فيهم شيعة زيدية. وكان الأطروش زيديّا، وخرجت طبرستان يومئذ من ملك بني سامان.
(انتقاض منصور بن إسحاق العم والحسين والمروروذي)
كان الأمير أحمد بن إسماعيل لما افتتح سجستان ولّى عليها منصور ابن عمّه إسحاق، وكان الحسين بن عليّ هو الّذي تولّى فتحها وطمع في ولايتها. ثم افتتحها ثانيا كما ذكرنا فوليا [2] سيجور الدواتي، فاستوحش الحسين لذلك، وداخل منصور بن إسحاق في الانتقاض، على أن تكون إمارة خراسان لمنصور والحسين بن علي خليفته على أعماله. فلما قتل الأمير أحمد انتقض الحسين بهراة، وسار إلى منصور بنيسابور فانتفض أيضا، وخطب لنفسه سنة اثنتين وثلاثمائة وسار القائد حمويه [3] بن علي من بخارى في العساكر لمحاربتهما، ومات منصور قبل وصوله. فلما قارب حمويه نيسابور سار الحسين عنها إلى هراة، وأقام بها. وكان محمد بن جند على شرطته [4] من مدّة طويلة، وبعث من بخارى بالنكير، فخشي على نفسه، وعدل عن الطريق إلى هراة فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نيسابور، بعد أن استخلف عليها أخاه منصورا فملك نيسابور، فسار إلى محاربته من بخارى أحمد بن سهل فحاصر هراة وملكها من منصور على الأمان. ثم سار إلى نيسابور فحاصر بها الحسين وملكها عنوة، وأسر الحسين سنة اثنتين وثلاثمائة. وأقام أحمد بن سهل بنيسابور وجاءه ابن
__________
[1] اسفيدروز: ابن الأثير ج 8 ص 82.
[2] مقتضى السياق فوليها، وسيجور هو سيمجور كما في الكامل ج 8 ص 87.
[3] حمويه بن علي: المرجع السابق.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 88: «وكان محمد بن حيد على شرطة بخارى مدة طويلة» .(4/442)
جيد مزمر [1] وقبض عليه وسيّره والحسين بن علي إلى بخارى فأمّا ابن جيد مزمر فسيّر إلى خوارزم ومات بها، وأمّا الحسين فحبس. ثم خلّصه أبو عبد الله الجهانيّ مدبّر الدولة، وعاد إلى خدمة السعيد نصر.
(انتقاض أحمد بن سهل بنيسابور وفتحها)
كان الأمير أحمد بن سهل من قوّاد إسماعيل، ثم ابنه أحمد، ثم ابنه نصر بن أحمد.
قال ابن الأثير: وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبلة بن كامكان بن يزدجرد بن شهربان الملك. قال: وكان كامكان دهقان بنواحي مرو قال: وكان لأحمد إخوة ثلاثة وهم: محمد والفضل والحسين قتلوا في عصبيّة العرب والعجم وكان خليفة عمرو بن الليث على مرو فسخطه وحسبه بسجستان. ثم فرّ من محبسه ولحق بمرو فملكها واستأمن إلى أحمد بن إسماعيل، وقام بدعوته فاستدعاه إلى بخارى وأكرمه ورفع منزلته. ونظّمه في طبقة القوّاد وبقي في خدمته وخدمة بنيه، فلما انتقض الحسين بن علي بنيسابور على السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل سنة اثنتين وثلاثمائة، سار إليه أحمد بن سهل في العساكر وظفر به كما مرّ. وولّى السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل على نيسابور قراتكين مولاهم.
(مقتل ليلى بن النعمان ومهلكه)
كان ليلى بن النعمان من كبار الديلم، ومن قوّاد الأطروش، وكان الحسن بن القاسم الداعي قد ولّاه على جرجان سنة ثلاث وثلاثمائة، وكان أولاد الأطروش يحلّونه في كتابهم بالمؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كريما شجاعا. ولمّا ولي جرجان سار إليه قراتكين وقاتله على عشرة فراسخ من جرجان، فانهزم قراتكين، واستأمن غلامه فارس إلى ليلى في ألف رجل من أصحابه، فأمّنه
__________
[1] ورد اسمه من قبل محمد بن جند وفي الكامل محمد بن حيد ولعله كله تحريف من الناسخ.(4/443)
وأكرمه وزوّجه أخته، واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت سهل، وحرّضه على المسير إلى نيسابور وبها قراتكين، وكان أجناده قد كثروا وضاقت عليهم الأموال فاستأذن الداعي في المسير إلى نيسابور، فأذن له، وسار إليها في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثمائة فملكها، وأقام بها الخطبة للداعي الحسين بن القاسم، وأنفذ السعيد نصر العساكر من بخارى مع حمويه بن علي ومحمد بن عبيد الله البلغميّ وأبي جعفر صعلوك، وخوارزم شاه وسيجور الدواتيّ، فانهزم أكثر أصحاب حمويه وثبت القوّاد، وجالت العساكر جولة فانهزم ليلى ودخل آمد. ولحقه بقراخان ملك الترك جاء مع العساكر مددا فقبض على ليلى في آمد، وبعث إلى حمويه بذلك، فبعث إليه من قطع رأس ليلى في ربيع سنة تسع وثلاثمائة. وبعث به إلى بخارى وطلب قوّاد الديلم الذين كانوا مع ليلى الأمان فأمّنوهم بعد أن أشار حمويه بقتلهم والراحة منهم، فلم يوافقوه. وهؤلاء القوّاد هم الذين خرجوا بعد ذلك على الجهات وملكوها مثل:
أسفار ومرداويح [1] وشبكين وبني بويه وستأتي أخبارهم وبقي فارس [2] غلام قراتكين بجرجان واليا عليها. ثم جاءه قراتكين واستأمن إليه غلامه فارس فأمّنه. ثم قتله سنة ست عشرة وثلاثمائة وانصرف عن جرجان.
(حرب سيجور [3] مع ابن الأطروش)
ولما قتل قراتكين غلامه سنة ست عشرة وثلاثمائة وانصرف عن جرجان سار إليها أبو الحسن بن ناصر الأطروش من أستراباذ فملكها، وأنفذ السعيد لحربه سيجور الدواتي في أربعة آلاف فارس فنزل على فرسخين من جرجان، وخرج إليه أبو الحسن في ثمانية آلاف راجل من الديلم فاقتتلا، وكان سيجور قد أكمن لهم وأبطأ عليه الكمين فانهزم واتبعه سرخاب [4] . وشغل عسكر أبي الحسن بالنهب. ثم خرج عليهم الكمين بعد ساعة فانهزم أبو الحسن وقتل من عسكره نحو من أربعة آلاف، وركب البحر إلى
__________
[1] هو مرداويج بن زيار من الديلم (المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 73) .
[2] هو بارس كما مرّ معنا من قبل.
[3] ورد اسمه في الكامل سيمجور وقد مرّ معنا من قبل.
[4] هو سرخاب بن وهسوذان ابن عم ما كان بن كالي الديلميّ.(4/444)
أستراباذ واجتمع إليه فلّ من أصحابه، وجاءه سرخاب بعد أن رجع عن سيجور، وجمع عيال أصحابه ومخلفهم وقدم بهم وأقام سيجور بجرجان. ثم مات سرخاب ورجع ابن الأطروش إلى سارية بعد أن استخلف ما كان بن كالي على أستراباذ، واجتمع إليه الديلم وأمّروه. ثم سار إلى أستراباذ ومعه محمد [1] ليظهر غناؤهم فخرج من سارية، وولّوا عليها بقراخان، ووصلوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور ورجع ما كان إلى أستراباذ مع جرجان ولحق بقراخان بنيسابور [2] . وهذا كان مبتدأ أمر ما كان بن كالي وستأتي أخباره.
(خروج الياس بن إسحاق)
قد تقدّم لنا انتقاض إسحاق وابنه الياس بسمرقند سنة إحدى وثلاثمائة، وكيف غلبهم القائد حمويه. وسار بإسحاق إلى بخارى ومات بها. ولحق ابنه الياس بفرغانة فأقام بها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأجمع المسير إلى سمرقند واستظهر بمحمد بن الحسين بن مت [3] من قوّاد بني سامان، واستمدّ أهل فرغانة من الترك فأمدّوه، واجتمع إليه ثلاثون ألف فارس، وقصد سمرقند وبعث السعيد للمدافعة عنها أبا عمرو ومحمد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة راجل. فلما ورد الياس كمنوا له بين الشجر حتى إذا اشتغلت عساكره بضرب الأبنية خرجوا عليه، فانهزم الحسن بن ست [4] ولحق بأسفيجاب [5] ومنها إلى ناحية طراز وكريت [6] فلقيه دهقان الناحية فقتله،
__________
[1] بياض في الأصل وفي الكامل ج 8 ص 132: «ثم سار محمد بن عبيد الله البلغميّ وسيمجور إلى باب أستراباذ، وحاربوا ما كان بن كالي فلما طال مقامهم اتفقوا معه على أن يخرج عن أستراباذ إلى سارية، وبذلوا له على هذا مالا ليظهر للناس انهم قد افتتحوها» .
[2] العبارة غير واضحة في الكامل ج 8 ص 132: «وجعلوا بغرا بأستراباذ، فلما سارا عنها عاد اليها ما كان ابن كالي، ففارقها بغرا إلى جرجان، وأساء السيرة في أهلها، وخرج إليه ما كان، فرجع بغرا إلى نيسابور، وأقام ما كان بجرجان» .
[3] محمد بن الحسين بن متّ: ابن الأثير ج 8 ص 133.
[4] اسمه الصحيح محمد بن الحسين بن مت كما سبق.
[5] أسبيجاب: المرجع السابق.
[6] هكذا بالأصل وفي الكامل: «ومنها الى ناحية طراز، فكوتب دهقان الناحية التي نزلها وأطمع، وقبض عليه وقتله» .(4/445)
وأنفذ رأسه إلى بخارى. ثم استمدّ الياس صاحب الشاش، وهو أبو الفضل بن أبي يوسف فأمدّه بنفسه وبعث إليه أليسع بالمدد، وعاود محاربة الوالي بسمرقند، فانهزم إلى كاشغر، وأسر أبو الفضل وحمل إلى بخارى فمات بها. وسار الياس إلى كاشغر وصاحبها طغاتكين [1] من ملوك الترك فصاهره بابنته وأقام معه.
(استيلاء السعيد على الري)
كان المقتدر قد عقد على الريّ ليوسف بن أبي الساج، وسار إليه سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فملكه من يد أحمد بن علي أخي صعلوك، وقد كان فارق أخاه صعلوكا وسار إلى المقتدر فولّاه على الري. ثم انتقض على المقتدر ووصل يده بما كان بن كالي قائد الديلم وأولاد الأطروش وهم بطبرستان وجرجان. وفارق طاعة المقتدر، فسار إليه يوسف بن أبي الساج وحاربه فقتله، واستولى على الريّ ثم استدعاه المقتدر سنة أربع عشرة وثلاثمائة إلى واسط لقتال القرامطة، وكتب إلى السعيد نصر بن أحمد بولاية الريّ فاستخلف عليها [2] وأمره بالمسير إليها، وأخذها فاتك مولى يوسف بن أبي الساج فسار نصر السعيد لذلك أوّل سنة أربع عشرة وأربعمائة فلما وصل إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من الاجتياز به، فبذل له ثلاثين ألف دينار واسترضاه.
وسار إلى الريّ فخرج عنها فاتك، واستولى عليها السعيد منتصف السنة، وأقام بها شهرين. ثم عاد عنها إلى بخارى واستعمل عليها محمد بن علي الملقّب صعلوك، فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة، ومرض فكاتب الداعي وما كان بن كالي في القدوم ليسلّم لهم الريّ. فقدموا واستولوا على الريّ وسار صعلوك عنها فمات في طريقه. وأقام الحسن الداعي بالريّ مالكا لها. واستولى معها على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ ومعه ما كان. وكان أسفار قد استولى على طبرستان، فسار الداعي وما كان إليه، والتقوا على سارية فانهزم، وقتل الداعي كما مرّ في أخبار العلويّة بطبرستان.
__________
[1] طغاتكين: المرجع السابق.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 166: «وولى عليها سيمجور الدواتي وعاد عنها ثم استعمل عليها محمد بن علي صعلوك، وسار نصر إلى بخارى»(4/446)
(ولاية أسفار على جرجان والري)
كان أسفار بن شيرويه من أعيان الديلم وكان من أصحاب ما كان بن كالي. وقد تقدّم لنا أنّ أبا الحسن بن الأطروش ولّى ما كان على أستراباذ وأنّ الديلم اجتمعوا إليه وأمّروه، وأنّه ملك جرجان واستولى بعدها على طبرستان، وولّى أخاه أبا الحسن بن كالي على جرجان. وكان أسفار بن شيرويه من قوّاده، فانصرف مغاضبا عنه سنة خمس عشرة وثلاثمائة إلى بكر بن محمد بن أليسع بنيسابور فبعثه بكر إلى جرجان ليفتحها، واضطرب أمر جرجان لأن ما كان ابن كالي اعتقل بها أبا علي الأطروش بنظر أخيه ابن كالي، فوثب الأطروش على أخيه أبي الحسن وقتله وملك جرجان [1] . واستقدم أسفار بن شيرويه فقدم وضبط أمره، وسار إليهم ما كان من طبرستان في جيوشه فهزموه، واتبعوه إلى طبرستان فملكوها، وأقاموا بها. وهلك أبو علي ابن الأطروش بطبرستان، فعاد ما كان بن كالي وأخرج أسفار بن شيرويه من طبرستان.
ثم زحف أسفار إلى الداعي وما كان والتقوا على السيّاريّة فانهزم الداعي وما كان وقتل الداعي. واستولى أسفار على طبرستان وجرجان والريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ. ودعا للسعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان واستعمل على آمد هارون ابن بهرام يريد استخلاصه لنفسه، لأن هارون كان يخطب لأبي جعفر من ولد الأطروش فولّاه آمد وزوّجه ببعض نساء الأعيان بها. وحضر عرسه أبو جعفر وغيره من العلويّين، فهجم عليه أسفار يوم العرس فقبض على أبي جعفر والعلويّين وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها، واستفحل أمر أسفار وانتقض على السعيد صاحب خراسان وعلى الخليفة المقتدر. وسار السعيد من بخارى إلى نيسابور لمحاربته وأشار عليه وزيره محمد بن مطرّف الجرجاني بطاعة السعيد، وخوّفه منه، فقبل إشارته ورجع إلى طاعة السعيد، وقبل شروطه من حمل المال وغيره. ثم انتقض عليه
__________
[1] العبارة غير واضحة وغير صحيحة وفي الكامل ج 8 ص 175- 176: «وكان ما كان بن كالي ذلك الوقت بطبرستان، وأخوه ابو الحسن بن كالي بجرجان، وقد اعتقل ابا عليّ بن أبي الحسين الأطروش العلويّ عنده، فشرب ابو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه فغرّقهم، وبقي في بيت هو والعلويّ، فقام الى العلويّ ليقتله، فظفر به العلويّ وقتله» .(4/447)
مرداويح [1] واستدعى ما كان من طبرستان وهزم أسفار وقتله. وملك ما بيده من الأعمال كما يذكر في أخبار الديلم. ثم ملك طبرستان وجرجان من يد ما كان، فاستمدّ ما كان السعيد فأمدّه بأبي علي بن محمد المظفّر فهزمهما مرداويح، وعاد أبو علي إلى نيسابور وما كان إلى خراسان.
(خروج أولاد الأمير أحمد بن إسماعيل على أخيهم السعيد)
كان السعيد نصر بن أحمد لمّا ولي استراب بإخوته، وكانوا ثلاثة أبو زكريا يحيى وأبو صالح منصور وأبو إسحاق إبراهيم أولاد الأمير أحمد بن إسماعيل، فحبسهم في القندهان ببخارى ووكّل بهم. فلما سار السعيد إلى نيسابور سنة خمس عشرة فتقوا السجن وخرجوا منه على يد رجل خبّاز من أصفهان يسمّى أبا بكر، داخلهم في محبسهم بتسهيل نفقتهم التي كانت على يده. وجاء إلى القندهان قبل يوم الجمعة الّذي كان ميقاتا لفتحه، وأقام عندهم مظهرا للزهد والدين، وبذل للبوّاب دنانير على أن يخرجه ليلحق الصلاة في الجماعة، ففتح له الباب وقد أعدّهم جماعة للوثوب، فحبسوا البواب، وأخرجوا أولاد الأمير أحمد ومن معهم في الحبس من العلويّين والديلم والعيّارين. واجتمع إليهم من كان وافقهم من العسكر والقوّاد ورأسهم شروين الجبليّ، وبايعوا يحيى ابن الأمير أحمد، ونهبوا خزائن السعيد وقصوره. وقدّم يحيى أبا بكر الخبّاز، وبلغ الخبر الى السعيد فعاد من نيسابور إلى بخارى. وكان أبو بكر محمد بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان مقيما بجرجان، فاستدعى ما كان بن كالي وصاهره، وولّاه نيسابور فسار إليها. ولما جاء السعيد إلى بخارى اعترضه أبو بكر الخبّاز عند النهر فهزمه السعيد، وأسره ودخل بخارى فعذّبه وأحرقه في تنوره الّذي كان يخبز فيه. ولحق يحيى بسمرقند ثم مرّ بنواحي الصغانيان، وبها أبو علي بن أحمد بن أبي بكر بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان مقبما بجرجان، فاستدعى ما كان بن كالي إلى جرجان، ولقوا بها محمد بن الياس،
__________
[1] مرداويج كما مرّ معنا في السابق.(4/448)
وقوي أمره، فلما جاء يحيى إلى نيسابور خطب له وأظهر دعوته. ثم قصدهم السعيد فافترقوا، ولحق ابن الياس بكرمان، ولحق يحيى وقراتكين ببست والرخّج، ووصل السعيد إلى نيسابور سنة عشرين وثلاثمائة واصطلح قراتكين وأمّنه وولّا، بلخ، وذهبت الفتنة. وأقام السعيد بنيسابور إلى أن استأمن إليه أخواه يحيى ومنصور وحصرا عنده وهلكا، وفرّ إبراهيم إلى بغداد، ومنها إلى الموصل. وهلك قراتكين ببست، وصلحت أمور الدولة. وكان جعفر بن أبي جعفر بن داود واليا لبني سامان على الختّل، فاستراب به السعيد، وكتب إلى أبي علي أحمد بن أبي بكر محمد بن المظفّر وهو بالصغانيان أن يسير إليه، فسار إليه وحاربه وكسره، وجاء به إلى بخارى فحبس بها، فلما فتق السجن خرج مع يحيى وصحبهم. ثم لما رأى تلاشي أموره استأذنه في المسير إلى الختّل فأذن له فسار إليها، وأقام بها، ورجع إلى طاعة السعيد سنة ثمان عشرة وصلح حاله. (والختل بخاء معجمة مضمومة وتاء مثناة فوقانية مشددة مفتوحة) .
(ولاية ابن المظفر على خراسان)
كان أبو بكر محمد بن المظفّر واليا للسعيد نصر على جرجان. ولما استفحل أمر مرداويح بالريّ كما يأتي في أخبار الديلم، خرج عنها ابن المظفّر ولحق بالسعيد نصر في نيسابور وهو مقيم بها، فسار السعيد في عساكره نحو جرجان، ووقعت المكاتبة بين محمد بن عبيد الله البلغميّ مدبّر دولته، وبين مطرّف بن محمد، واستماله محمد فمال إليه مطرّف وقتله سلطانه مرداويح. ثم بعث محمد ينتصح لمرداويج ويذكره نعمة السعيد عنده في اصطناعه وتوليته، وتطوّق العار في ذلك المطرف الوزير الهالك ويهوّل عليه أمر السعيد ويخوّفه ويشير عليه بمسالمة جرجان إليه. وصالحه السعيد عليها ولما فرغ السعيد من أمر جرجان وأحكمه استعمل محمد بن المظفّر بن محتاج على جيوش خراسان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وردّ إليه تدبير الأمور بجميع نواحيها.
وسار إلى كرسي ملكه ببخارى واستقرّ بها.
ابن خلدون م 29 ج 4(4/449)
(استيلاء السعيد على كرمان)
كان محمد بن الياس من أصحاب السعيد، ثم سخطه وحبسه، وشفع فيه محمد بن عبيد الله البلغمي فأطلقه، وسيّره محمد بن المظفّر إلى جرجان. ثم سار إلى يحيى وإخوته عند ما توثبوا ببخارى فكان معه في الفتنة، وخطب له بنيسابور كما مرّ. فلمّا زحف السعيد إليهم فارق يحيى ولحق بكرمان، واستولى عليها. ثم خرج إلى بلاد فارس وبها ياقوت مولى الخلفاء فوصل إليه بإصطخر يريد ان يستأمن له، وأطلع ياقوت على مكره، فرجع إلى كرمان ثم بعث السعيد ما كان بن كالي في العساكر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وقاتل ابن الياس وهزمه وملك كرمان بدعوة السعيد نصر بن أحمد وسار الياس إلى الدّينور. ثم رجع ما كان عن كرمان على ما نذكره بعد، فرجع إليها ابن الياس، وسبب خروج ما كان أنّ السعيد بعد قتل مرداويح كتب إليه وإلى محمد بن المظفّر صاحب خراسان أن يقصد جرجان والريّ وبها وشمكير أخو مرداويح، فجاء ما كان على المفازة ووصل إلى نيسابور بعد أن كان محمد بن المظفّر قد استولى عليها، بعث إليه مددا فهزمتهم عساكر وشمكين فأقصر ما كان عن حربهم، وأقام بنيسابور وجعلت ولايتها له، وذلك أوّل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم صفت كرمان لمحمد بن الياس بعد حروب مع جيش نصر كان له الظفر فيها آخرا.
(استيلاء ماكان على كرمان وانتقاضه)
لما ملك مانحين جرجان وأقام ما كان بنيسابور وجعلت ولايتها له وهلك مانحين لأيام من دخوله جرجان، استنفر محمد المظفّر ما كان للمسير إلى جرجان فاعتلّ بالخروج بجميع أصحابه وسار إلى أسفراين، فأنفذ عسكرا إلى جرجان واستولى عليها. ثم انتقض وسار إلى نيسابور وبها محمد بن المظفّر وكان غير مستعدّ للحرب فسار نحو سرخس، ودخل ما كان نيسابور سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم رجع عنها خوفا من اجتماع العساكر.(4/450)
(ولاية علي بن محمد على خراسان وفتحه جرجان)
كان أبو بكر محمد بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان من ولاة السعيد عليها سنة احدى وعشرين وثلاثمائة فلمّا كانت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة اعتلّ أبو بكر وطال به مرضه، وقصد السعيد راحته فاستقدم ابنه أبا علي من الصغانيان، وبعثه أميرا على خراسان واستدعى أباه أبا بكر فلقي ابنه أبا عليّ على ثلاث مراحل من نيسابور فوصّاه وحمّله حملا من سياسته. وسار إلى بخارى ودخل ابنه أبو علي نيسابور من السنة فأقام بها أياما. ثم سار في محرّم سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى جرجان وبها ما كان بن كالي مستنقضا على السعيد، وقد غوّروا المياه في طريقه فسلك إليهم غمرة حتى نزل على فرسخ من جرجان، وحاصرها وضيّق عليها وقطع الميرة عنها حتى جهدهم الحصار. وبعث ما كان بن كالي إلى وشمكير وهو بالريّ، فأمدّه بقائد من قوّاده فلما وصل إلى جرجان شرع في الصلح بينهما لينجو فيه ما كان فتمّ ذلك، وهرب ما كان إلى طبرستان واستولى أبو علي على جرجان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة واستخلف عليها إبراهيم بن سيجور الدواتي.
(استيلاء أبي علي على الريّ وقتل ما كان بن كالي)
ولما ملك أبو علي جرجان أصلح أمورها. ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيجور وسار إلى الريّ في ربيع سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وبها وشمكير بن زياد أخو مرداويح قد تغلّب عليها من بعد أخيه. وكان عماد الدولة وركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي صاحب خراسان، ويستحثّانه لقصد الريّ بأنّ أبا عليّ لا يقيم بها لسعة ولايته فتصفو لهما. فلمّا سار أبو علي لذلك بعث وشمكير إلى ما كان بن كالي يستنجده، فسار إليه من طبرستان وسار أبو علي، وجاءه مدد ركن الدولة بن بويه والتقوا بنواحي الريّ فانهزم وشمكير وما كان. ثم ثبت ما كان، ووقف مستميتا فأصابه سهم فقتله، وهرب وشمكير إلى طبرستان فأقام بها واستولى أبو علي على الريّ سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وأنفذ رأى ما كان والأسرى معه إلى بخارى فأقاموا حتى دخل وشمكير في(4/451)
طاعة بني سامان. وسار إلى خراسان سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوهبهم الأسرى فأطلقوا له وبقي الرأس ببخارى ولم يحمل إلى بغداد.
(استيلاء أبي عليّ على بلد الجبل)
ولما ملك أبو علي بن محتاج صاحب خراسان بلد الريّ والجبل من يد وشمكير، وأقام بها دعوة السعيد نصر بعث العساكر إلى بلد الجبل ففتحها، واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقمّ وكرخ وهمذان ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان، ورتّب فيها العمّال وجبى الأموال. وكان الحسن بن الفيرزان بسارية وهو ابن عم ما كان بن كالي وكان وشمكير يطمع في طاعته له وهو يتمنع، فقصده وشمكير وحاصره بسارية وملكها عليه. واستنجد الحسن أبا عليّ بن محتاج فسار معه لحصار وشمكير بسارية سنة ثلاثين وثلاثمائة، وضيّق عليه حتى سأل الموادعة، فصالحه أبو علي على طاعة السعيد نصر، وأخذ رهنه، ورحل عنه إلى جرجان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ثم بلغه موت السعيد فعاد أبو عليّ إلى خراسان فملكها وراسله الحسن بن الفيرزان يستميله وردّ عليه ابنه سلار الرهينة ليستعين به على الخراسانية، فوعده وأطمعه. ولما ملك وشمكير الريّ طمع فيه بنو بويه لأنه كان قد اختلّ أمره بحادثته مع أبي علي، فسار الحسن بن الفيرزان إلى الريّ، وقاتل وشمكير فهزمه، واستأمن إليه الكثير من جنده. وسار وشمكير إلى الريّ فاعترضه الحسن بن الفيرزان من جرجان وهزمه إلى خراسان، وراسل الحسن ركن الدولة وتزوّج بنته واتصل ما بينهما.
(وفاة السعيد نصر وولاية ابنه نوح)
ثم أصاب السعيد نصرا صاحب خراسان وما وراء النهر مرض السلّ، فاعتلّ ثلاثة عشرة شهرا ومات في شعبان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة لثلاثين سنة من ولايته. وكان يؤثر عنه الكرم والحلم، وأخلص في مرضه التوبة إلى أن توفي. ولما مات ولي مكانه ابنه نوح، وكان يؤثر الكرم والحلم عنه، وبايعه الناس ولقّب الحميد، وقام بتدبير(4/452)
ملكه أبو الفضل أحمد بن حوية [1] وهو من أكابر أصحاب أبيه، كان أبوه السعيد ولّى ابنه إسماعيل بخارى في كفالة أبي الفضل وولايته، فأساء السيرة مع نوح وحقد له ذلك. وتوفي إسماعيل في حياة أبيه، وكان يؤثر أبا الفضل فحذّره من ابنه نوح.
فلما ولي نوح سار أبو الفضل من بخارى وعبر جيحون إلى آمد. وكان بينه وبين أبي علي بن محتاج صهر، فبعث إليه يخبره بقدومه فنهاه عن القدوم عليه. ثم كتب له نوح بالأمان وولّاه سمرقند وكان [2] على الحاكم صاحب الدولة ولا يلتفت إليه، والآخر يحقد عليه ويعرض عنه. ثم انتقض عبد الله بن أشكام بخوارزم على الأمير نوح فسار من بخارى إلى مرو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وبعث إليه جيشا مع إبراهيم بن فارس [3] فمات في الطريق. واستجار ابن أشكام بملك الترك، وكان ابنه محبوسا ببخارى فبعث إليه نوح بإطلاق ابنه على أن يقبض على ابن أشكام، وأجابه ملك الترك لذلك. ولما علم بذلك ابن أشكام عاد إلى طاعة نوح وعفا عنه وأكرمه.
(استيلاء أبي علي على الريّ ودخول جرجان في طاعة نوح)
ثم إنّ الأمير نوحا سار إلى مرو وأمر أبا علي بن محتاج أن يسير بعساكر خراسان إلى الريّ وينتزعها من يد ركن الدولة بن بويه فسار لذلك، ولقي في طريقه وشمكير وافدا على الأمير نوح فبعثه إليه. وسار أبو علي إلى بسطام فاضطرب جنوده، وعاد عنه منصور بن قراتكين من أكابر أصحاب نوح، فقصدوا جرجان وصدّهم الحسن بن الفيرزان فانصرفوا الى نيسابور. وسار إلى الأمير نوح بمرو فأعاده وأمده بالعساكر. وسار من نيسابور في منتصف ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وعلم ركن الدولة بكثرة جموعه، فخرج من الري واستولى أبو علي عليها، وعلى سائر أعمال الجبال. وأنفذ نوّابه إلى الأعمال
__________
[1] هو ابو الفضل محمد بن أحمد الحاكم.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 404: «وكان ابو الفضل معرضا عن محمد بن أحمد الحاكم، ولا يلتفت إليه» .
[3] إبراهيم بن بارس: ابن الأثير ج 8 ص 415.(4/453)
وذلك في رمضان من سنته. ثم سار الأمير نوح من مرو إلى نيسابور، وأقام بها، ووضع [1] جماعة من الغوغاء والعامّة يستغيثون من أبي علي ويشكون سوء السيرة منه ومن نوّابه، فولّى على نيسابور إبراهيم بن سيجور [2] وعاد عنها وقصد أن يقيم أبو علي بالري لحسن دفاعه عنها وينقطع طمعه عن خراسان، فاستوحش أبو علي للعزل وشق عليه. وبعث أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمد إلى كور الجبال، وولّاه همذان، وخلافة العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور، واستولى عليها واستأمن إليه رؤساء الأكراد بتلك النواحي، وأعطوا رهنهم على الطاعة وكان وشمكير لما وفد على الأمير نوح بمرو كما قدّمناه استمدّه على جرجان، فأمدّه بعسكر، وبعث إلى أبي علي بمساعدته، فلقي أبا علي منصرفه في المرّة الأولى من الري إلى نيسابور، فبعث معه جميع من بقي من العسكر، وسار وشمكير إلى جرجان وقاتل الحسن بن الفيرزان فهزمه واستولى على جرجان بدعوة نوح بن السعيد وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
(انتقاض أبي علي وولاية منصور بن قراتكين على خراسان)
قد تقدم لنا أنّ الأمير نوحا عزل أبا علي بن محتاج عن خراسان، وكان من قبلها عزله عن ديوان الجند وهو لنظره، وبعث من يستعرض الجند فمحا وأثبت وزاد في العطاء ونقص فاستوحش لذلك كله، واستوحش الجند من التعرّض إليهم بالإسقاط، ولأرزاقهم بالنقصان. وخلص بعضهم إلى بعض بالشكوى، واتفقوا في سيرهم إلى الريّ وهم بهمذان على استقدام إبراهيم بن أحمد أخي السعيد الّذي كان قد هرب أمامه إلى الموصل كما تقدم. وظهر أبو علي على شأنهم، فنكر عليهم فتهدّدوه، وكاتبوا إبراهيم واستدعوه، وجاء إليهم بهمذان في رمضان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وكاتبه أبو علي، وكتب أخوه الفضل سرا إلى الأمير نوح بذلك، ونمي خبر كتابه إلى أخيه أبي
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 444: «ثم ان الأمير نوحا سار من مرو الى نيسابور فوصل اليها في رجب وأقام بها خمسين يوما، فوضع أعداء أبي علي جماعة من الغوغاء والعامّة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوابه» .
[2] إبراهيم بن سيمجور (المرجع السابق) .(4/454)
علي فقبض عليه، وعلى متولي الديوان. وسار إلى نيسابور، واستخلف على الريّ والجبل، وبلغ الخبر إلى الأمير نوح، فنهض إلى مرو واضطرب الناس عليه، وشكوا من محمد بن أحمد الحاكم مدبّر ملكه، ورأوا أنه الّذي أوحش أبا عليّ وأفسد الدولة، فنقموا ذلك عليه، واعتلّوا عليه فدفع إليهم الحاكم فقتلوه منتصف خمس وثلاثين وثلاثمائة. ووصل أبو علي إلى نيسابور وبها إبراهيم بن سيجور ومنصور بن قراتكين وغيرهما من القوّاد فاستمالهم، وساروا معه، ودخلها في محرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ثم ارتاب بمنصور بن قراتكين فحبسه، وسار من نيسابور ومعه العم إبراهيم إلى مرو، وهرب أخوه الفضل في طريقه من محبسه، ولحق بقهستان. ولما قاربوا مرو اضطرب عسكر الأمير نوح، وجاء إليهم أكثرهم. واستولى عليها وعلى طخارستان، وبعث نوح العساكر من بخارى مع الفضل أبي علي إلى الصغانيان فأقاموا بها، ودسّ إليهم أبو عليه فقبضوا على الفضل وبعثوا به الى بخارى وعاد أبو علي من طخارستان إلى الصغانيان فأقاموا بها في ربيع سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وقاتل العساكر فغلبوه، ورجع إلى الصغانيان. ثم تجاوزها وأقام قريبا منها، ودخلتها العساكر فخرّبوا قصوره ومساكنه، وخرجوا في اتباعه، فرجع وأخذ عليهم المسالك، فضاقت أحوالهم، وجنحوا إلى الصلح معه على أن يبعث بابنه أبي المظفّر عبد الله إلى الأمير نوح رهينة، فانعقد ذلك منتصف سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. وبعث بابنه إلى بخارى فأمر نوح بلقائه، وخلع عليه وخلطه بندمائه، وسكنت الفتنة. قال ابن الأثير: هذا الّذي ذكره مؤرخو خراسان في هذه القصة، وأمّا أهل العراق فقالوا: إنّ أبا علي لمّا سار نحو الريّ استمدّ ركن الدولة بن بويه أخاه عماد الدولة فكتب يشير عليه بالخروج عن الريّ وملكها أبو علي، وكتب عماد الدولة إلى نوح سرّا يبذل له في الريّ في كل سنة مائة ألف دينار وزيادة على ضمان أبي علي، ويعجّل له ضمان سنة وسجله عليه. ثم دسّ عماد الدولة إلى نوح في القبض على أبي علي وخوّفه منه، فأجاب الأمير نوح إلى ذلك، وبعث تقرير الضمان، وأخذ المال. ودسّ ركن الدولة إلى أبي علي بهمذان ورجع به على خراسان. وعاد ركن الدولة إلى الريّ واضطربت خراسان، ومنع عماد الدولة مال الضمان خوفا عليه في طريقه من أبي علي. وبعث إلى أبي علي يحرّضه على اللقاء ويعده بالمدد. وفسد ما بينه وبين إبراهيم، وانقبض عنه، وأنّ الأمير نوحا سار إلى بخارى عند مفارقتها أبي علي.(4/455)
وحارب إبراهيم العم ففارقه القوّاد إلى الأمير نوح فأخذ أسيرا وسمله الأمير نوح وجماعة من أهل بيته والله أعلم.
(انتقاض ابن عبد الرزاق بخراسان)
كان محمد بن عبد الرزاق عاملا بطوس وأعمالها وكان أبو علي استخلفه بنيسابور عند ما زحف منها إلى الأمير نوح، فلما راجع الأمير نوح ملكه انتقض ابن عبد الرزاق بخراسان. وولّى الأمير نوح على خراسان محمد بن عبد الرزاق [1] واتفق وصول وشمكير منهزما من جرجان أمام الحسن الفيرزان، واستمدّ الأمير نوحا فأخرج معه منصورا في العساكر وأمرهما بمعاجلة ابن عبد الرزاق، فخرج سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى أستراباذ ومنصور في اتباعه فلحق بجرجان واستأمن إلى ركن الدولة بن بويه ومضى إلى الريّ. وسار منصور بن قراتكين إلى طوس، وحاصر رافع إلى قلعة أخرى [2] فحاصره منصور بها حتى استأمن إليه، وجمع ما معه فأنهبه أصحابه.
وخرج معهم فافترقوا في الجبال واحتوى منصور على ما وجد بالحصن وحمل عيال محمد بن عبد الرزاق وأمّه إلى بخارى فاعتقلوا بها. ولما وصل محمد بن عبد الرزاق إلى ركن الدولة بن بويه أفاض عليه العطاء وسرّحه إلى محاربة المرزبان بأذربيجان كما يأتي.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 470: «كان محمد بن عبد الرزاق بطوس وأعمالها، وهي في يده ويد نوّابه، فخالف على الأمير نوح بن نصر السامانيّ، وكان منصور بن قراتكين، صاحب جيش خراسان، بمرو عند نوح، فوصل اليها وشمكير منهزما من جرجان، قد غلبه عليها الحسن بن الفيرزان» .
[2] هكذا بالأصل والمعنى غير واضح وفي الكامل: «وسار منصور من نيسابور الى طوس، وحصروا رافع بن عبد الرزاق بقلعة شميلان، فاستأمن بعض أصحاب رافع إليه، فهرب رافع من شميلان الى حصن درك، فاستولى منصور على شميلان، وأخذ ما فيها من مال وغيره واحتمى رافع بدرك، وبها أهله ووالدته، وهي على ثلاثة فراسخ من شميلان، فأخرب منصور شميلان، وسار إلى درك فحاصرها، وحاربهم عدة أيام فتغيّرت المياه بدرك، فاستأمن أحمد بن عبد الرزاق الى منصور ... » .(4/456)
استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان ومسير العساكر إلى جرجان والصلح مع الحسن بن الفيرزان
ولما وقع من الاضطراب ما وقع بخراسان، اجتمع ركن الدولة بن بويه والحسن بن الفيرزان، وقصدوا بلاد وشمكير فهزموه، وملك ركن الدولة طبرستان. وسار إلى جرجان فملكها، وأقام بها الحسن بن الفيرزان. واستأمن قوّاد وشمكير إليهم فأمّنوهم وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بصاحب خراسان، فسار معه منصور بن قراتكين في عساكر خراسان إلى جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان. واسترهن ابنه، ثم أبلغه عن الأمير نوح ما أقلعه فأعاد على الحسن ابنه، وعاد إلى نيسابور وأقام وشمكير باورن [1]
(مسير ابن قراتكين الى الريّ وعوده اليه)
ثم سار منصور بن قراتكين سنة تسع وثمانين وثلاثمائة [2] إلى الريّ بأمر الأمير نوح لغيبة ركن الدولة بن بويه في نواحي فارس، فوصل إلى الريّ، واستولى عليها وعلى الجبل إلى قرميسين فكبس الذين بها من العسكر وهم غارون وأسروا مقدّمهم محكما وحبس ببغداد، ورجع الباقون إلى همذان. فسار سبكتكين نحوهم، وجاء ركن الدولة إثر الانهزام، وشاور وزيره أبا الفضل بن العميد فأشار عليه بالثبات. ثم أجفل عسكر خراسان إلى الريّ لانقطاع الميرة عنهم، وكان ذلك سواء بين الفريقين، إلّا أنّ الديلم كانوا أقرب إلى البداوة، فكانوا أصبر على الجوع والشظف، فركب ركن الدولة واحتوى على ما خلفه عسكر خراسان.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 478: «وأقام الحسن بزوزن وبقي وشمكير بجرجان» .
[2] يذكر ابن الأثير هذه الحوادث سنة 339 وهو الصحيح وليس تسع وثمانين كما يذكر ابن خلدون.(4/457)
(وفاة ابن قراتكين ورجوع أبي عليّ بن محتاج إلى ولاية خراسان)
ثم توفي منصور بن قراتكين صاحب خراسان بالريّ بعد عوده من أصفهان في ربيع سنة أربعين، وحملت جنازته إلى أسفيجاب فدفن بها عند والده، فولّى الأمير نوح على خراسان أبا علي بن محتاج، وأعاده إلى نيسابور. وقد كان منصور يستقيل من ولاية خراسان لما يلقى بها من جندها، ويستعفي نوحا المرّة بعد المرّة، وكان نوح يعد أبا علي بعوده إلى ولايته. فلما توفي منصور بعث إليه بالخلع واللواء، وأمره بالمسير وأقطعه الريّ وأمره بالمسير إليها فسار عن الصغانيان في رمضان سنة أربعين وثلاثمائة واستخلف مكانه ابنه أبا منصور وانتهى إلى مرو فأقام إلى أن أصلح امر خوارزم وكانت شاغرة. ثم سار إلى نيسابور فأقام بها. ولما كانت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة كتب وشمكير إلى الأمير نوح يأمر أبا علي ابن محتاج بالمسير معه في عساكر خراسان، فساروا في ربيع من السنة، وخام ركن الدولة عن لقائهم، فامتنع بطزل [1] وأقام عليه أبو علي عدّة شهور يقاتله حتى سئم العسكر، وعجفت دوابهم فمال إلى الصلح، وسعى بينهما فيه محمد بن عبد الرزاق المقدّم ذكره، فتصالحا على مائتي ألف دينار ضريبة يعطيها ركن الدولة في كل سنة، ورجع أبو علي إلى خراسان. وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأنّ أبا علي لم ينصح في الحرب، وأنّ بينه وبين ركن الدولة مداخلة. وسار ركن الدولة بعد انصراف أبي علي نحو وشمكير فانهزم إلى أسفراين، واستولى ركن الدولة على طبرستان.
(عزل الأمير أبي علي عن خراسان ومسيره الى ركن الدولة وولاية بكر بن مالك مكانه)
ولما تمكنت سعاية وشمكير من أبي علي عند الأمير نوح، كتب إليه بالعزل عن خراسان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وكتب إلى القواد بمثل ذلك. واستعمل على
__________
[1] هو حصن من حصون فارس.(4/458)
الجيوش مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، وبعث أبو علي يعتذر فلم يقبل وأرسل جماعة من أعيان نيسابور يسألون إبقاءه فلم يجيبوا، فانتقض أبو علي وخطب لنفسه بنيسابور وكتب نوح إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان بأن يتفقا ويتعاضدا على أولياء ركن الدولة حيث كانوا ففعلا ذلك، فارتاب أبو علي بأمره ولم يمكنه العود إلى الصغانيان، ولا المقام بخراسان، فصرف وجهه إلى ركن الدولة واستأذنه في المسير إليه فأذن. وسار أبو علي إلى الريّ سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فأكرمه ركن الدولة وأنزله معه واستولى بكر على خراسان.
(وفاة الأمير نوح وولاية ابنه عبد الملك)
ثم توفي الأمير نوح بن نصر ولقبه الحميد في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة لاثنتي عشرة سنة من ولايته، وولي بعده ابنه عبد الملك. وقام بأمره بكر بن مالك الفرغاني فلمّا قرّر أمر دولته، وثبت ملكه، أمر بكرا بالمسير إلى خراسان فكان من شأنه مع أبي علي ما قدّمناه.
(مسير العساكر من خراسان الى الري وأصفهان)
ثم زحفت عساكر خراسان إلى الريّ سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وبها ركن الدولة بن بويه قدم إليها من جرجان، واستمدّ أخاه معزّ الدولة ببغداد، فأمدّه بالحاجب سبكتكين. وبعث بكر عسكرا آخر من خراسان مع محمد بن ما كان على طريق المفازة إلى أصفهان. وكان بأصفهان أبو منصور علي بن بويه بن ركن الدولة فخرج عنها مجرم أبيه وخزائنه. وانتهى الى خالنجان، ودخل محمد بن ماكان أصفهان وخرج في اتباع ابن بويه، وأدرك الخزائن فأخذها وسار فأدركه. ووافق وصول أبي الفضل بن العميد وزير ركن الدولة في تلك الساعة فقاتله ابن ماكان وهزم أصحابه، وثبت ابن العميد، وشغل عسكر ابن ما كان بالنهب، فاجتمع على ابن العميد لمة من العسكر فاستمات، وحمل على عسكر ابن ما كان فهزمهم وأسر ابن(4/459)
ما كان. وسار ابن العميد إلى أصفهان فملكها، وأعاد حرم ركن الدولة وأولاده إلى حيث كانوا من أصفهان. ثم بعث ركن الدولة إلى بكر بن مالك صاحب الجيوش بخراسان وقرّر معه الصلح على مال يحمله ركن الدولة إليه على الريّ وبلد الجيل، فتقرّر ذلك بينهما، وبعث إليه من عند أخيه ببغداد بالخلع واللواء بولاية خراسان، فوصلت إليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
(وفاة عبد الملك بن نوح صاحب ما وراء النهر وولاية أخيه منصور)
ثم توفي الأمير عبد الملك لإحدى عشرة خلت من شوّال سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، لسبع سنين من ولايته. وولي بعده أخوه أبو الحرث منصور بن نوح، واستولى ركن الدولة لأوّل أيامه على طبرستان وجرجان فملكهما. وسار وشمكير عنها فدخل بلاد الجبل.
(مسير العساكر من خراسان الى الري ووفاة وشمكير)
قد ذكرنا من قبل أنّ وشمكير كان يقدح في عمّال بني سامان بأنهم لا ينصحون لهم، ويداخلون عدوّهم من الديلم. ووفد أبو علي بن الياس صاحب كرمان على الأمير أبي الحرث منصور مستجيشا به علي بني بويه، فحرّضه على قصد الريّ وحذّره من الاستمالة في ذلك إلى عمّاله كما أخبره وشمكير، وبعث إلى الحسن بن الفيرزان بالنفير مع عساكره. ثم أمر صاحب جيوش خراسان أبا الحسن بن محمد بن سيجور الدواني [1] بالمسير إلى الريّ وأوصاه بالرجوع إلى رأي وشمكير. وبلغ الخبر إلى ركن الدولة، فاضطرب وبعث بأهله وولده إلى أصفهان. واستمدّ ابنه عضد الدولة بفارس، وبختيار ابن أخيه عزّ الدولة ببغداد، فبادر عضد الدولة إلى إمداده.
وبعث العساكر على طريق خراسان يريد قصدها لخلوّها من العسكر، فأجحفت
__________
[1] وفي الكامل سيمجور الدواتي وقد مرّ معنا من قبل. ابن الأثير ج 8 ص 578.(4/460)
عساكر خراسان، وانتهوا إلى الدامغان، فأقاموا. وبرز ركن الدولة نحوهم في عساكره من الريّ، وبينما هم في ذلك ركب وشمكير يوما ليتصيّد فاعترضه خنزير، فأجفل فرسه وسقط الى الأرض وانهشم ومات، وذلك في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وانتقض ما كانوا فيه، وقام يسنون [1] بن وشمكير مقام أبيه، وراسل ركن الدولة وصالحه، فأمدّه ركن الدولة بالمال والرجال.
(خبر ابن الياس بكرمان)
كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة بني سامان، واستبدّ بها وأصابه فالج وأزمن به. وكان له ثلاثة من الولد: اليسع والياس وسليمان فعهد إلى اليسع وبعده الياس وأمر سليمان بالعود إلى أرضهم ببلاد الصغد، يقيم بها فيما لهم هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان واليسع فخرج سليمان لذلك، واستولى على السيرجان، فأنفذ إليه أبوه أبو علي ابنه الآخر في عسكر، وأمره بإجلائه عن البلاد، ولا يمكنه من قصد الصغد إن طلبها، فسار وحاصره. ولما ضاق الحصار على سليمان جمع أمواله ولحق بخراسان. وملك اليسع السيرجان وسار إلى خراسان. ثم لحق أبو علي ببخارى ومعه ابنه سليمان فأكرمه الأمير أبو الحرث وقرّبه. وأغزاه أبو علي بالريّ، وتجهيز العساكر إليه كما ذكرناه، وأقام عنده إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة كما نذكر في أخباره. ولحق اليسع ببخارى فأقام بها، ثم سعى سليمان عند الأمير أبي الحرث منصور في المسير إلى كرمان وأطمعه في ملكها، وأنّ أهلها في طاعته، فبعث معه عسكرا. ولما وصل أطاعه أهل نواحيها من القمص والبولص وجميع المنتقضين على عضد الدولة، واستفحل أمره فسار إليه كوركين عامل عضد الدولة بكرمان، وحاربه ونزعت عساكره عنه، فانهزم وقتل معه ابنا أخيه اليسع وهما بكر والحسين وكثير من القوّاد وصارت كرمان للديلم.
__________
[1] بيستون: المرجع السابق.(4/461)
(انعقاد الصلح بين منصور بن نوح وبين بني بويه)
ثم انعقد الصلح بين الأمير أبي الحرث منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر، وبين ركن الدولة وزوّجه ابنته، وحمل إليه الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله.
وكتب بينهم كتاب الصلح، شهد فيه أعيان خراسان وفارس والعراق. وتمّ ذلك على يد أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب الجيوش بخراسان من جهة الأمير أبي الحرث في سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
(وفاة منصور بن نوح وولاية ابنه نوح)
ثم توفي الأمير أبو الحرث منصور ببخارى منتصف سنة ست وستين وثلاثمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم نوح صبيا لم يبلغ الحلم، فاستوزر أبا الحسن العتبي، وجعل على حجابة بابه مولاه أبا العبّاس قاسما، وكان من موالي أبي الحسن العتبي فأهداه إلى الأمير أبي صالح وشركهما في أمر الدولة أبو الحسن فائق، وأقرّ على خراسان أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور واطردت أمور الدولة على استقامتها.
(عزل ابن سيجور عن خراسان وولاية أبي العباس تاش)
قد تقدّم لنا شأن خلف بن أحمد الليثي صاحب سجستان وانتصاره بالأمير منصور ابن فرج على قريبه طاهر بن خلف بن أحمد بن الحسين المنتقض عليه لسنة أربع وخمسين وثلاثمائة وأنه مدّه بالعسكر وردّه إلى ملكه. ثم انتقض طاهر ثانيا بعد انصراف العسكر عن خلف، وبعث مستجيشا فأمدّه ثانيا. وقد هلك طاهر وولي ابنه الحسين فحاصره خلف، وأرهقه الحصار فنزل لخلف عن سجستان ولحق بالسعيد نوح بن منصور. وأقام خلف دعوة نوح في سجستان وحمل المال متقرّرا عليه(4/462)
كل سنة. ثم قصر في الطاعة والخدمة، وصار يتلقى الأوامر بالإعراض والإهمال فرمي بالحسين بن طاهر في جيوش خراسان وحاصره بقلعة أرك وطال انحصاره وأمدّه العتبي الوزير بجماعة القوّاد كالحسن بن مالك وبكتاش فأقاموا عليه سبع سنين حتى فنيت الرجال والأموال. وكان ابن سيجور صاحبه فلم يغن عليه، وعوتب في ذلك، وعزل عن خراسان بأبي العبّاس تاش فكتب يتعذر ورحل إلى قهستان ينتظر جواب كتابه، فجاءه كتاب الأمير نوح بالمسير إلى سجستان فسار، واستنزل خلفا من معقلة للحسين بن طاهر، وسار خلف إلى حصن الطاق، وداخله ابن سيجور وأقام خطبة لرضا نوح به وانصرف. ولمّا ولّى الأمير نوح الحاجب أبا العبّاس تاش قيادة خراسان سار إليها سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة فلقي هنالك فخر الدولة ابن ركن الدولة، وشمس المعالي قابوس بن وشمكير ناجين من جرجان، وكان من خبرهما أنّ عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة وهزمه، ولحق فخر الدولة بقابوس، وبعث عضد الدولة في طلبه ترغيبا وترهيبا فأجاره قابوس، وبعث عضد الدولة في طلبه أخاه مؤيد الدولة في العساكر إليهم، ولقيهم قابوس فهزموه فسار إلى بعض قلاعه، واحتمل منها ذخائره ولحق بنيسابور. ولحق به فخر الدولة ناجيا من المعركة فأكرمهم أبو العبّاس تاش، وأنزلهم خير منزل، وأقاموا عنده واستولى مؤيد الدولة على جرجان وطبرستان.
(مسير أبي العباس في عساكر خراسان الى جرجان ثم مسيره إلى بخارى)
ولما وصل قابوس بن وشمكير وفخر الدولة بن ركن الدولة إلى أبي العبّاس تاش مستجيرين بالأمير نوح على استرجاع جرجان وطبرستان من يد مؤيّد الدولة، كتب بذلك إلى الأمير نوح ببخارى فأمره بالمسير معهما، وإعادتهما إلى ملكهما، فسار معهما لذلك في العساكر، ونازلوا جرجان شهرين حتى ضاق عليهم الحصار، وداخل مؤيد الدولة فائقا من قوّاد خراسان ورغّبه فوعده بالانهزام. ثم خرج مؤيد الدولة من جرجان في عساكره مستميتا فهزمهم، ورجعوا إلى نيسابور وكتبوا إلى بخارى بالخبر فأجابهم الأمير نوح بالوعد. واستنفر العساكر من جميع الجهات إلى نيسابور للمسير(4/463)
مع قابوس وفخر الدولة، فاجتمعوا لك. ثم جاء الخبر بقتل الوزير أبي الحسن العتبي، وكان زمام الدولة بيده، فيقال إنّ أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور وضع عليه من قتله، وذلك سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ولما قتل كتب الأمير نوح بن منصور إلى الحاجب أبي العبّاس تاش يستدعيه لتدبير دولته ببخارى، فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسن.
(ردّ أبي العباس الى خراسان ثم عزله وولاية ابن سيجور)
ولما سار أبو العبّاس إلى بخارى وكان أبو الحسن بن سيجور من حين سار إلى سجستان كما مرّ مقيما بها. ثم رجع آخرا إلى قهستان. فلما سار أبو العبّاس تاش إلى بخارى، وكتب ابن سيجور إلى فائق يطلب مظاهرته على ملك خراسان، أجابه إلى ذلك، واجتمعا بنيسابور واستوليا على خراسان، وسار إليهما أبو العبّاس تاش في العساكر. ثم تراسلوا كلّهم واتفقوا على أن يكون بنيسابور، وقيادة العساكر لأبي العبّاس تاش، وبلخ لفائق، وهراة لأبي الحسن بن سيجور، وانصرف كل واحد إلى ولايته. وكان فخر الدولة بن بويه خلال ذلك معهما بنيسابور ينتظر النجدة إلى أن هلك أخوه مؤيد الدولة بجرجان في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. واستدعاه أهل دولته للملك فكاتبه الصاحب ابن عبّاد وغيره فسار إليهم، واستولى على ملك أخيه بجرجان وطبرستان، وكان الأمير نوح لما سار أبو العبّاس من بخارى إلى نيسابور استوزر مكانه عبد الله بن عزيز، وكانت بينه وبين أبي الحسن العتبي منافسة وعداوة. ثم لمّا ولي الوزارة تقدّم على عزل أبي العبّاس عن خراسان وكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بخراسان بولاية نيسابور.
(انتقاض أبي العباس وخروجه مع ابن سيجور ومهلكه)
ولما عزل أبو العبّاس تاش عن خراسان كتب إلى الأمير نوح يستعطفه فلم يجبه،(4/464)
فانتقض. وكتب إلى فخر الدولة يستمدّه على ابن سيجور فأمدّه بالأموال والعسكر مع أبي محمد عبد الله بن عبد الرزاق، وسار إلى نيسابور في عساكره وعساكر الديلم، وتحصّن ابن سيجور بنيسابور، وجاءه [1] مدد آخر من فخر الدولة وبرز ابن سيجور للقائهم فهزموه وغنموا منه. واستولى أبو العبّاس على نيسابور، وكتب إلى الأمير نوح يستعطفه، ولجّ ابن عزيز في عزله. ثم ثاب لابن سيجور رأيه، وعادت إليه قوّته.
وجاءه الأمراء من بخارى مددا. وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة بفارس يستمدّه فأمده بألفي فارس مراغمة لعمّه فخر الدولة. فلمّا كثف جمعه زحف إلى أبي العبّاس وقاتله فهزمه، ولحق بفخر الدولة ابن بويه بجرجان فأكرمه وعظّمه، وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ إقطاعا. وسار عنها إلى الري، وبعث إليه من الأموال والآلات ما يخرج عن الحدّ. وأقام أبو العبّاس بجرجان. ثم جمع العساكر وسار إلى خراسان، فلم يقدر على الوصول إليها وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين، ومات سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. وقام أهل جرجان بأصحابه لما كانوا يحقدون عليهم من سوء السيرة فقاتلهم أصحابه، واستباحوهم حتى استأمنوا وكفّوا عنهم. ثم افترق أصحابه وسار أكثرهم وهم كبار الخواص والغلمان إلى خراسان، وقد كان صاحبها أبو الحسن سيجور مات فجأة. وقام بأمرها مكانه ابنه أبو علي، وأطاعه إخوته وكبيرهم أبو القاسم، ونازعه فائق الولاية فلحق به أصحاب أبي العبّاس واستكثر بهم لشأنه.
(ولاية أبي علي بن سيجور على خراسان)
قد تقدم اتفاق أبي الحسن بن سيجور وأبي العبّاس تاش وفائق على أن تكون نيسابور وقيادة خراسان لتاش، وبلخ لفائق، وهراة لأبي علي بن أبي الحسن سيجور. ثم عزل تاش بسعاية الوزير ابن عزيز وولي أبو الحسن وكانت بينهما الحرب التي مرّ ذكرها. وانهزم تاش إلى جرجان فاستقرّ أبو علي بهراة وفائق ببلخ، وكان ابن عزيز يستحثّ الحسن لقصد جرجان. ثم عزل ابن عزيز ونفي إلى خوارزم، وقام
__________
[1] الضمير هنا عائد الى ابن سيمجور ومقتضى السياق الضمير يقتضي ان يعود لابن تاش.
ابن خلدون م 30 ج 4(4/465)
مكانه أبو علي محمد بن عيسى الدامغانيّ. ثم عجز لما نزل بالدولة من قلّة الخراج وكثرة المصاريف، فصرف عن الوزارة بابي نصر بن أحمد بن محمد بن أبي يزيد. ثم عزل وأعيد أبو علي الدامغانيّ. وهلك أبو الحسن بن سيجور خلال ذلك، وقام ابنه أبو علي مقامه. وكاتب الأمير نوح بن منصور يطلب أن يعقد له الولاية كما كانت لأبيه فأجيب إلى ذلك ظاهرا، وكتب لفائق بولاية خراسان، وبعث إليه بالخلع والألوية. وكان أبو علي يظنّ أنّها له، فلمّا بدا له من ذلك ما لم يحتسب، جمع عسكره وأغذ السير، وأوقع بفائق ما بين هراة وبوشنج، فانهزم فائق إلى مروالروذ، وملك أبو علي مرو، ووصله عهد الأمير نوح بقيادة الجيوش وولاية نيسابور وهراة وقهستان ولقّبه عماد الدولة، ثم رقّاه الأمير نوح. واستولى على سائر خراسان، واستبدّ بها على السلطان حتى طلبه نوح في بعض أعمالها لنفقته فمنعه، وأقام مظهرا لطاعته، وخشي غائلة السلطان من طلبة نوح فكاتب بقراخان ملك الترك ببلاد كاشغر وشاغور يغريه ويستحثّه لملك بخارى وما وراء النهر على أن يستقرّ هو بخراسان.
(خبر فائق)
وأقام بعد انهزامه أمام أبي علي بمروالروذ حتى اندملت جراحة، واجتمع إليه أصحابه. وسار إلى بخارى قبل أن يستأذن، فارتاب به الأمير نوح فسرّح إليه العساكر مع أخي الحاجب، وفكنزرون [1] فانهزم وعبر النهر إلى بلخ، فأقام بها أياما، وسار إلى ترمذ وكاتب بقراخان يستحثّه. وكتب الأمير نوح إلى والي الجوزجان أبي الحرث أحمد بن محمد الفيرقوني بقصد فائق، فقصده في جموعه، وسرّح فائق إليه بعض عسكره فهزمه وعاد إلى بلخ. وكان طاهر بن الفضل قد ملك الصغانيان على أبي المظفّر محمد بن أحمد، وهو واحد خراسان فانقطع أبو المظفّر إلى فائق صريخا، فأمدّه وسار إلى طاهر بعسكر فائق، واقتتلوا فانهزم طاهر وقتل، وصارت الصغانيان لفائق.
__________
[1] وفي نسخة اخرى بكثرزون وفي الكامل ج 9 ص 129: بكتوزون.(4/466)
(استيلاء الترك على بخارى)
ولما خرج الأمير نوح عن بخارى عبر النهر واستقر بآمل الشط، وكاتب أبا علي بن سيجور يستحثّه للنصرة، وكاتب فائقا أيضا يستصرخه فلم يصرخه أحد منهما. وبلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذّ السير إليها، وعاود الجلوس على كرسي ملكه، وتباشر الناس بقدومه. ثم بلغه مهلك بقراخان فتزايد سرورهم، ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى ندم أبو علي على ما فرّط فيه من نصرته، وأجمع الاستظهار بفائق، فأزاحوه عن ملكه وملكوها، ولحق فائق بأبي علي بن سيجور، وتظاهرا على الأمير نوح وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
(عزل أبي علي بن سيجور عن خراسان وولاية سبكتكين)
ولما اجتمع أبو علي بن سيجور وفائق على منافرة الأمير نوح وعصيانه، كتب الأمير نوح الى سبكتكين، وكان أميرا على غزنة ونواحيها يستقدمه لنصره منهما، وإنجاده عليهما، وولّاه خراسان. وكان سبكتكين في شغل عن أمرهم بما هو فيه من الجهاد مع كفّار الهند. فلما جاءه كتاب نوح ورسوله بادر إليه، وتلقّى أمره في ذلك، وعاد إلى غزنة فجمع العساكر، وبلغ الخبر أبا علي وفائقا، فبعثا إلى فخر الدولة بن بويه يستنجدانه، واستعانا في ذلك بوزيره الصاحب بن عبّاد، فبعث إليهما مددا من العساكر. ثم سار سبكتكين وابنه محمود نحو خراسان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وسار الأمير نوح واجتمعوا ولقوا أبا علي وفائقا بنواحي هراة، وكان معهما دارا بن قابوس بن وشمكير، فنزع إلى الأمير نوح، وانهزم أصحاب أبي علي وفائق وفتك فيهم أصحاب سبكتكين واتبعوهم إلى نيسابور، فلحقا بجرجان، وتلقّاهما فخر الدولة بالهدايا والتحف والأموال، وأنزلهما بجرجان. واستولى نوح على نيسابور، واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقّبه سيف الدولة. ولقّب أباه(4/467)
سبكتكين ناصر الدولة، وعاد نوح إلى بخارى وترك سبكتكين بهراة ومحمود بنيسابور.
(عود ابن سيجور الى خراسان)
لما افترق نوح وسبكتكين طمع أبو علي وفائق في خراسان، فسار عن جرجان إلى نيسابور في ربيع سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وبرز محمود للقائهما بظاهر نيسابور، وأعجلوه عن وصول المدد من أبيه سبكتكين. وكان في قلّة، وانهزم إلى أبيه، وغنموا اسواده. وأقام أبو علي بنيسابور وكان الأمير نوح يستميله ويتلطّف في العذر مما كان سبكتكين فلم يجيباه إلى ما طلب.
(ظهور سبكتكين وابنه محمود على أبي علي وفائق ومقتل أبي علي)
ولما دخل أبو علي نيسابور، وانهزم عنها محمود، جمع سبكتكين العساكر وسار إليه، فالتقوا بطوس، وجاء محمود على أثره مددا، فانهزم هو وفائق إلى أبيورد، فاتبعهما سبكتكين بعد أن استخلف ابنه محمودا بنيسابور فلحقا بمرو، ثم آمل الشطّ، وكتبا إلى الأمير نوح يستعطفانه، فشرط على أبي علي أن ينزل بالجرجانيّة ويفارق فائقا ففعل. ونزل قريبا من خوارزم بالجرجانية، فأكرمه أبو عبد الله خوارزم شاه وسكن إليه، وبعث من ليلته من جاء به واعتقله وأعيان أصحابه. وبلغ الخبر إلى مأمون بن محمد صاحب الجرجانية فاستعظم ذلك. وسار بعساكره إلى خوارزم شاه وافتتح مدينته وتسمّى كاش [1] عنوة، وخلّص أبا علي من محبسه، وعاد إلى الجرجانية واستخلف بعض أصحابه على بلاد خوارزم. ولما عاد إلى الجرجانية أخرج خوارزم شاه وقتله بين يدي أبي علي بن سيجور، وكتب إلى الأمير نوح يشفع في أبي علي
__________
[1] كاث: ابن الأثير ج 9 ص 108. ومعنى الكاث بلغة أهل خوارزم الحائط في ... الصحراء من غير ان يحيط به شيء، وهي بلدة كبيرة من نواحي خوارزم (معجم البلدان) .(4/468)
فشفعه. واستدعى أبا علي إلى بخارى فسار إليها وأمر الأمراء والعساكر بتلقيه، فلما دخل عليه أمر بحبسه. وشف سبكتكين فيه فهرب ولحق بفخر الدولة، وأقام عنده. وأمّا فائق فلما فارقه أبو علي كما شرط عليه الأمير نوح سار إلى إيلك خان ملك الترك بكاشغر، فأكرمه وكتب إلى نوح يشفع فيه فقبل شفاعته وولّاه عليها وأقام بها.
(وفاة الأمير نوح وولاية ابنه منصور وولاية بكثرزون على خراسان)
ثم توفي الأمير نوح بن منصور منتصف سبع وثمانين وثلاثمائة لإحدى وعشرين سنة من ملكه، وانتقض بموته ملك بني سامان وصار إلى الانحلال. ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور، وتابعه أهل الدولة واتفقوا على طاعته، وقام بتدبير دولته بكثرزون. واستوزر أبا طاهر محمد بن إبراهيم، وبلغ خبر وفاة نوح إلى إيلك خان، فطمع في ملكهم، وسار إلى سمرقند، وبعث من هنالك فائقا والخاصة إلى بخارى فاضطرب منصور وهرب عن بخارى وقطع النهر. ودخل فائق بخارى وأعلم الناس أنه إنما جاء لخدمة الأمير منصور، فبعث مشايخ بخارى بذلك إلى منصور ودخل. واستقدموه بعد أن أخذوا له مواثيق العهد من فائق، فاطمأن وعاد الى بخارى، وأقام فائق بتدبير أمره وتحكّم في دولته وأبعد بكثرزون إلى خراسان أميرا، وقد كان سبكتكين توفي في شعبان من هذه السنة، ووقعت الفتنة بين ابنيه إسماعيل ومحمود فقدم بكثرزون أيام فتنتهما واستولى على خراسان.
(عود أبي القاسم بن سيجور الى خراسان وخيبته)
قد ذكرنا مسير بكثرزون إلى خراسان عند مفرّه أيام محمود بن سبكتكين من خراسان وأقام عند فخر الدولة، وعند أبيه مجد الدولة واجتمع عنده أصحاب أبيه، وكتب إليه فائق من بخارى يغريه ببكثرزون ويأمره بقصد خراسان ويخرج بكثرزون منها فسار عن جرجان إلى نيسابور، وبعث جيشا إلى أسفراين فملكوها من يد أصحاب بكثرزون، ثم تردّد السفراء بينهما، ووقع الصلح والصهر وعاد بكثرزون إلى نيسابور
.(4/469)
(انتقاض محمود بن سبكتكين وملكه نيسابور ثم خروجه عنها)
لما فرغ محمود بن سبكتكين من أمر الفتنة بينه وبين أخيه إسماعيل، واستولى على ملك غزنة، وعاد إلى بلخ وجد بكثرزون واليا على خراسان كما ذكرناه فبعث إلى الأمير منصور بن نوح يذكر وسائله في الطاعة والمحاباة، ويطلب ولاية خراسان، فاعتذر له عنها وولّاه ترمذ وبلخ وما وراءهما من أعمال بست. فلم يرض ذلك، وأعاد الطلب فلم يجب، فسار إلى نيسابور وهرب منها بكثرزون وملكها محمود سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فسار الأمير منصور من بخارى إليه فخرج عنها إلى مروالروذ وأقام بها.
(خلع الأمير منصور وولاية أخيه عبد الملك)
ولما سار الأمير منصور عن بخارى إلى خراسان لمدافعة محمود بن سبكتكين عن نيسابور، سار بكثرزون للقائه فلقيه بسرخس، ثم لم يلق من قبوله ما كان يؤمّله، فشكا ذلك إلى فائق فألفاه واجدا مثل ذلك فخلصا في نجواهما، واتفقا على خلعه وإقامة أخيه عبد الملك مقامه، ووافقهما على ذلك جماعة من أعيان العسكر، ثم قبضوا عليه وسملوه أوّل سنة تسعين لعشرين شهرا من ولايته، وولي مكانه أخوه عبد الملك. وبعث محمود إلى فائق وبكثرزون يقبّح عليهما فعلهما. وسار نحوهما طامعا في الاستيلاء على الملك.
(استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان)
ثم سار محمود بن سبكتكين إلى فائق وبكثرزون ومعهما عبد الملك الصبي الّذي نصّبوه فساروا إليه، والتقوا بمرو سنة تسعين وثلاثمائة وقاتلهم فهزمهم وافترقوا. ولحق عبد الملك ببخارى ومعه فائق، ولحق بكثرزون بنيسابور، ولحق أبو القاسم بن سيجور(4/470)
بقهستان وقصد محمود نيسابور، وانتهى إلى طرسوس فهرب بكثرزون إلى جرجان، وبعث في إثره أرسلان الحاجب [1] إلى أن وصل جرجان، ورجع فاستخلفه محمود على طرسوس، وسار إلى هراة فخالفه بكثرزون إلى نيسابور وملكها. ورجع إليها محمود فأجفل عنها، ومرّ بمرو فنهبها ولحق ببخارى واستقرّ محمود بخراسان وأزال عنها ملك بني سامان، وخطب فيها للقادر العبّاسي، واستدعى الولاية من قبله فبعث إليه بالعهد عليها والخلع لبني سيجور، وأنزله نيسابور وسار هو إلى بلخ كرسي أبيه فافتقده [2] واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته مثل آل أفريقون بالجوزجان والشاه صاحب غرسيان وبني مأمون بخوارزم.
(استيلاء ايلك خان على بخارى وانقراض دولة بني سامان)
ولما ملك محمود خراسان ولحق عبد الملك ببخارى اجتمع إليه فائق وبكثرزون وغيرهما من الأمراء، وأخذوا في جمع العساكر لمناهضة محمود بخراسان. ثم مات فائق في شعبان من هذه السنة فاضطربوا ووهنوا لأنه كان المقدّم فيهم، وكان خصيّا من موالي نوح بن نصر فطمع ايلك خان في الاستيلاء على ملكهم، كما ملكه بقراخان قبله، فسار في جموع الترك يظهر المدافعة لعبد الملك عنه فاطمأنوا لذلك، وخرج بكثرزون وغيره من الأمراء والقوّاد للقائه فقبض عليهم جميعا. ودخل بخارى عاشر ذي القعدة. ونزل دار الإمارة واختفى عبد الملك فبعث العيون عليه حتى ظفر به وأودعه السجن في أرزكند [3] فمات. وحبس معه أخاه أبا الحرث منصور المخلوع وإخوته الآخرين أبا إبراهيم إسماعيل وأبا يعقوب، وأعمامه أبا زكريا وأبا سليمان وأبا صالح القاري وغيرهم من بني سامان. وانقرضت دولتهم بعد أن كانت انتشرت في الآفاق ما بين حلوان وبلاد الترك، ووراء النهر، وكانت من أعظم الدول وأحسنها سياسة.
__________
[1] أرسلان الجاذب: ابن الأثير ج 9 ص 146.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 146: «وسار هو الى بلخ «مستقرّ والده، فاتخذها دار ملك واتفق أصحاب الاطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون.»
[3] بافكند: ابن الأثير ج 9 ص 149.(4/471)
(خروج إسماعيل بن نوح بخراسان)
ثم هرب أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه في زيّ امرأة كانت تتعاهد خدمته فاختفى ببخارى. ثم لحق بخوارزم وتلقّب المنتصر، واجتمع إليه بقايا القوّاد والأجناد. وبعث قابوس عسكرا مع ابنيه منوجهر ودارا. ووصل إسماعيل إلى نيسابور في شوّال سنة إحدى وتسعين، وجبى أموالها. وبعث إليه محمود مع الترنتاش الحاجب الكبير صاحب هراة، فلقيهم فانهزم المنتصر إلى أبيورد وقصد جرجان فمنعه قابوس منها فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها في ربيع سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
فأرسل إليها محمود العساكر مع منصور، والتقوا فانهزم إسماعيل وأسر أبو القاسم بن سيجور في جماعة من أعيان العسكر، فبعث بهم منصور إلى غزنة، وسار إسماعيل حائرا فوافى أحياء الغزّ بنواحي بخارى فتعصّبوا عليه، وسار بهم إلى إيلك خان في شوّال سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة فلقيه بنواحي سمرقند. وانهزم ايلك واستولى الغز على سواده وأمواله، وأسرى من قوّاده ورجعوا إلى أحيائهم وتفاوضوا في إطلاق الأسرى من أصحاب ايلك خان، وشعر بهم إسماعيل فسار عنهم خائفا وعبر النهر إلى آمل الشطّ، وبعث إلى مرو ونسا وخوارزم فلم يقبلوه، وعاودوا العبور إلى بخارى وقاتله واليها فانهزم إلى دبوسية وجمع بها. ثم عاد فانهزم من عساكر بخارى وقاتله واليها.
وجاءه جماعة من فتيان سمرقند فصاروا في جملته. وبعث إليه أهله بأموال وسلاح ودواب، وسار إليه ايلك خان بعد أن استوعب في الحشد ولقيه بنواحي سمرقند في شعبان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وظاهر الغزّ إسماعيل فكانت الدبرة على ايلك خان، وعاد إلى بلاد الترك فاحتشد، ورجع إلى إسماعيل وقد افترقت عنه أحياء الغزّ إلى أوطانهم، وخفّ جمعه، فقاتلهم بنواحي مروسية فهزموه وفتك الترك في أصحابه.
وعبر إسماعيل النهر إلى جوزجان فنهبها، وسار إلى مرو وركب المفازة إلى قنطرة راغول، ثم إلى بسطام، وعساكر محمود في اتباعه مع أرسلان الحاجب صاحب طوس، وأرسل إليه قابوس عسكرا مع الأكراد الشاهجانية فأزعجوه عن بسطام، فرجع إلى ما وراء النهر وأدرك أصحابه الكلل والملال ففارقه الكثير منهم، وأخبروا أصحاب ايلك خان وأعلموهم بمكانه فكبسه الجند فطاردهم ساعة، ثم دخل في حيّ من(4/472)
أحياء العرب بالفلاة من طاعة محمود بن سبكتكين يعرف أميرهم بابن بهيج، وقد تقدم إليهم محمود في طلبه فأنزله [1] عندهم حتى إذا جنّ الليل وثبوا عليه وقتلوه وذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وانقرض أمر بني سامان وانمحت آثار دولتهم.
والبقاء للَّه وحده.
الخبر عن دولة بني سبكتكين ملوك غزنة وما ورثوه من الملك بخراسان وما وراء النهر عن مواليهم وما فتحوه من بلاد الهند وأوّل أمرهم ومصاير أحوالهم
هذه الدولة من فروع دولة بني سامان وناشئة عنها، وبلغت من الاستطالة والعزّ المبالغ العظيمة، واستولت على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون وما وراء النهر، وخراسان، وعراق العجم، وبلاد الترك. وزيادة بلاد الهند. وكان مبدأ أمرهم عن غزنة. وذلك أنّ سبكتكين من موالي بني ألتيكين. وكان ألتيكين من موالي بني سامان. وكان في جملته، وولّاه حجابته، وورد بخارى أيام السعيد منصور بن نوح وهو إذ ذاك حاجبه، ثم تفوي ألتيكين هذا وعقد له السعيد منصور بن نوح سنة خمس وستين وثلاثمائة، وولّى ابنه نوح ويكنّى أبا القاسم واستوزر أبا الحسن العتبي، وولّى على نيسابور أبا الحسن محمد بن سيجور. وكان سبكتكين شديد الطاعة له، والقيام بحاجاته. وطرقت دولة بني سامان النكبة من الترك، واستولى بقراخان على بخارى من يد الأمير نوح. ثم رجع إليها، ومات أبو الحسن بن سيجور وولي مكانه بخراسان ابنه أبو علي. واستبدّ على الأمير نوح في الاستيلاء على خراسان عند نكبة الترك. فلما عاد الأمير نوح إلى كرسيه وثبت في الملك قدمه، كاشفه أبو علي في خراسان بالانتقاض، واستدعى أبا منصور سبكتكين يستمده على أبي علي ويستعين به في أحوال الدولة فبادر لذلك، وكان له المقام المحمود فيه.
وولّاه الأمير نوح خراسان، فدفع عنها أبا علي. ثم استبد بعد ذلك على بني سامان بها. ثم غلبهم على بخارى وما وراء النهر، ومحا أثر دولتهم وخلفهم أحسن خلف،
__________
[1] مقتضى السياق فأنزلوه.(4/473)
وأورث ذلك بنيه، واتصلت دولتهم في تلك الأعمال إلى أن ظهر الغزّ، وملك الشرق والغرب بنو سلجوق منهم فغلبوهم على أمرهم، وملكوا تلك الأعمال جميعا من أيديهم حسبما يذكر ذلك كله. ولنبدأ الآن بسبكتكين من الجهاد في بلاد الهند قبل ولايته خراسان. ثم نأتي بأخبارهم.
(فتح بست)
كانت بست هذه من أعمال سجستان وفي ولايتها ولما فسد نظام تلك الولاية بانقراض دولة بني الصفّار واخترقت تلك العمالات طوائف فانفرد ببست أمير اسمه طغان. ثم غلبه عليها آخر اسمه كان، يكنّى بأبي ثور فاستصرخ طغان سبكتكين على مال ضمنه على الطاعة والخدمة، فسار سبكتكين إلى بست وفتحها، وأخذ الوزير أبا الفتح علي بن محمد البستيّ الشاعر المشهور فأحضره واستكتبه، وكتب لابنه محمود من بعده. ثم استخلف سبكتكين وسار إلى قصدار من ورائها فملكها وتقبض على صاحبها. ثم أعاده إلى ملكه على مال يؤدّيه وطاعة يبذلها له.
(غزو الهند)
ثم سار سبكتكين بعد ما فتح بست وقصد غازيا بلاد الهند، وتوغل فيها حتى افتتح بلادا لم يدخلها أحد من بلاد الإسلام. ولما سمع به ملك الهند سار إليه في جيوشه وقد عبّى العساكر والفيلة على عادتهم في ذلك بالتعبية المعروفة بينهم، وانتهى إلى لمغان من ثغورة وتجاوزه، وزحف إليه سبكتكين من غزنة في جموع المسلمين، والتقى الجمعان ونصر الله المسلمين، وأسر ملك الهند وفدّى نفسه على ألف ألف درهم، وخمسين فيلا ورهن في ذلك من قومه. وبعث معه رجالا لقبض ذلك فغدر بهم في طريقه، وتقبّض عليهم، فسار سبكتكين في تعبيته إلى الهند، فقبض كل من لقيه من جموعهم، وأثخن فيهم. وفتح لمغان وهدمها وهي ثغر الهند مما يلي غزنة، فاهتز لذلك جميال واحتشد، وسار إلى سبكتكين، فكانت بينهم حرب(4/474)
شديدة، وانهزم جميال وجموع الكفر، وخمدت شوكتهم، ولم يقم لملوك الهند بعدها معه قائمة. ثم صرف وجهه إلى إعانة سلطانه الأمير نوح كما نذكر.
(ولاية سبكتكين على خراسان)
قد قدّمنا أنّ الأمير نوح بن منصور لما طرقته النكبة ببخارى من الترك، وملكها عليه بقراخان عبر النهر إلى آمل الشطّ، واستصرخ ابن سيجور صاحب خراسان وفائقا صاحب بلخ، فلم يصرخاه، وبلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذّ السير إليها، وارتجع ملكه كما كان. وهلك بقراخان فثبت قدمه في سلطانه. وارتاب أبو علي وفائق بأمرهم عنده، وغلط فائق بالمبادرة إلى بخارى للتهنئة والتقدّم في الدولة من غير إذن في ذلك، فسرّح الأمير نوح غلمانه ومواليه فحاربوه، وملكوا بلخا من يده، ولحق بأبي علي بن سيجور، فاستظهر به على فتنة الأمير نوح وذلك سنة أربع وثمانين، فكتب الأمير نوح عند ذلك إلى سبكتكين يستدعيه للنصرة عليهما، وعقد له على خراسان وأعمالها، وكان في شغل شاغل من الجهاد بالهند كما ذكرناه فبادر لذلك.
وسار إلى نوح فلقيه واتفق معه. ثم رجع إلى غزنة واحتشد وسار هو وابنه محمود ولقيا الأمير نوحا بخراسان في الموضع الّذي تواعد معه، ولقيهم أبو علي بن سيجور وفائق فهزمهما. وفتك فيهم أصحاب سبكتكين واتبعوهم إلى نيسابور، ثم صدّوهم عنها إلى جرجان واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين وأنزله بها، ولقّبه سيف الدولة، وأنزل أباه سبكتكين بهراة ولقّبه ناصر الدولة ورجع إلى بخارى.
(الفتنة بين سيجور وفائق بخراسان وظهور سبكتكين وابنه محمود عليهم)
ولما رجع نوح إلى بخارى وطمع أبو علي بن سيجور وفائق في انتزاع خراسان من يد سبكتكين وابنه. وبادروا إلى محمود بن سبكتكين بنيسابور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وأعجلوه عن وصول المدد إليه من ابنه سبكتكين. وكان في قلّة فانهزم إلى أبيه بهراة،(4/475)
وملك أبو علي نيسابور، وسار إليه سبكتكين في العساكر، والتقوا بطوس، فانهزم أبو علي وفائق حتى انتهيا إلى آمل الشطّ. واستعطف أبو علي الأمير نوحا فاستدعاه وحبسه. ثم بعث به إلى سبكتكين وحبسه عنده، ولحق فائق بملك الترك ايلك خان في كاشغر، وشفع فيه إلى الأمير نوح فولّاه سمرقند كما مر ذلك كله في أخبارهم.
وكان أبو القاسم أخو أبي علي قد نزع إلى سبكتكين يوم اللقاء فأقام عنده مدّة مديدة. ثم انتقض وزحف الى نيسابور فجاء محمود بن سبكتكين فهرب ولحق بفخر الدولة بن بويه فأقام عنده، واستولى سبكتكين على خراسان.
(مزاحفة سبكتكين وايلك خان)
كان ايلك خان ولي بعد بقراخان على كاشغر وشاغور، وعلى أمم الترك وطمع في أعمال الأمير نوح كما طمع أبوه، ومدّ يده إليها شيئا فشيئا. ثم اعتزم على الزحف إليه فكتب الأمير نوح إلى سبكتكين بخراسان يستجيشه على ايلك خان، فاحتشد وعبر النهر وأقام بين نسف وكشف حتى لحقه ابنه محمود بالحشود من كل جهة، ولك وصله أبو علي بن سيجور مقيّدا، بعث به إليه الأمير نوح فأبى من ذلك، وجمع ايلك خان أمم الترك من سائر النواحي. وبعث سبكتكين إلى الأمير نوح يستحثّه فخام عن اللقاء، وبعث قوّاده وجميع عساكره، وجعلهم لنظره وفي تصريفه فألحّ عليه سبكتكين، وبعث أخاه بغراجق وابنه محمودا لاستحثاثه فهرب الوزير بن عزيز خوفا منهم، وتفادى نوح من اللقاء فتركوه، وفتّ ذلك في عزم سبكتكين، وبعث ايلك خان في الصلح فبادر سبكتكين وبعث أبا القاسم. ثم ارتاب به عند عبوره إلى ايلك خان، فحبسه مع أبي علي وأصحابه حتى رجع سبكتكين من طوس إلى بلخ، فبلغ الخبر بمقتلهم، ووصل نعي مأمون بن محمد صاحب الجرجانية بخوارزم غدر به صاحب جيشه في صنيع أعدّه له وقتله، ووصل خبر الأمير نوح أثرهما وأنه هلك منتصف رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
(أخبار سبكتكين مع فخر الدولة بن بويه)
كان أبو علي بن سيجور وفائق لمّا هزمهما سبكتكين لحقا بجرجان عند فخر الدولة بن(4/476)
بويه، ثم لمّا أجلب أبو القاسم على خراسان، وسار إليه محمود بن سبكتكين، وعمّه بغراجق وكان معه أبو نصر بن محمود الحاجب فهربا إلى فخر الدولة وأقاما في نزله وتحت حرابه بقومس والدّامغان وجرجان وأتاخ سبكتكين على طوس.
ثم وقعت المهاداة بينه وبين فخر الدولة بن بويه صاحب الريّ، وكان آخر هديّة من سبكتكين جاء بها عبد الله الكاتب من ثغابة. ونمي إلى فخر الدولة أنه يتجسّس عدد الجند، وغوامض الطرق، فبعث إلى سبكتكين بالعتاب في ذلك. ثم ضعف الحال بينهما، واتصل ما بين فخر الدولة والأمير نوح على يد سبكتكين.
(وفاة سبكتكين وولاية ابنه إسماعيل)
ولما فرغ سبكتكين من أمر ايلك خان ورجع إلى بلخ، وأقام بها قليلا طرقه المرض، فبادر به إلى غزنة، وهلك في طريقه في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة لعشرين سنة من ملكه في غزنة وخراسان، ودفن بغزنة. وكان عادلا خيرا حسن العهد محافظا على الوفاء كثير الجهاد. ولما هلك بايع الجند لابنه إسماعيل بعهده إليه، وكان أصغر من محمود فأفاض فيهم العطاء وانعقد أمره بغزنة.
(استيلاء محمود بن سبكتكين على ملك أبيه وظفره بأخيه إسماعيل)
ولما ولي إسماعيل بغزنة استضعفه الجند واستولوا عليه، واشتطوا عليه في الطلب حتى أنفد خزائن أبيه، وكان أخوه محمود بنيسابور فبعث إليه أن يكتب له بالأعمال التي لنظره مثل بلخ فأبى، وسعى أبو الحرب والي الجوزجان في الإصلاح بينهما فامتنع إسماعيل، فسار محمود إلى هراة معتزما عليه، وتحيّز معه عمه بغراجق. ثم سار إلى بست وبها أخوه نصر فاستماله، وساروا جميعا إلى غزنة، وقد كتب إليه الأمراء الذين مع إسماعيل واستدعوه ووعدوه بالطاعة. وأغذّ السير ولقيه إسماعيل بظاهر غزنة فاقتتلوا قتالا(4/477)
شديدا. وانهزم إسماعيل واعتصم بقلعة غزنة، واستولى محمود على الملك وحاصر أخاه إسماعيل حتى استنزله على الأمان فأكرمه وأشركه في سلطانه، وذلك لسبعة أشهر من ولاية إسماعيل، واستقامت الممالك لمحمود ولقّب بالسلطان، ولم يلقّب به أحد قبله.
ثم سار إلى بلخ.
(استيلاء محمود على خراسان)
لما ولي أبو الحرث منصور بعد نوح استوزر محمد بن إبراهيم، وفوّض أمره إلى فائق كفالة وتدبيرا لصغره. وكان عبد الله بن عزيز قد هرب من بخارى عند قدوم محمد إليها في استحثاث الأمير نوح للقاء ايلك خان كما مرّ، فلما مات الأمير نوح وولي ابنه منصور أطمع عزيز أبا منصور محمد بن الحسين الاسبيجابي في قيادة الجيش بخراسان وحمله على الانحدار به إلى بخارى مستغيثا بايلك خان على غرضه، فنهض ايلك خان لمصاحبتهما وسار بهما كأنه يريد سمرقند. ثم قبض على أبي منصور وابن عزيز، وأحضر فائقا وأمره بالمسير على مقدّمته إلى بخارى، فهرب أبو الحرث وملك فائق بخارى ورجع ايلك خان. واستدعى فائق أبا الحرث فاطمأنّ، وبعث من مكانه بكثرزون الحاجب الأكبر على خراسان ولقّبه بستان الدولة، ورجع إلى بخارى فتلقّاه فائق، وقام بتدبير دولته. وكانت بينه وبين بكثرزون ضغن فأصلح أبو الحرث بينهما، وأقام بكثرزون وجبى الأموال، وزحف إليه ابو القاسم بن سيجور، وكانت بينهما الفتنة التي مرّ ذكرها. وجاء محمود إلى بلخ بعد فراغه من فتنة أخيه إسماعيل، فبعث إلى أبي الحرث منصور رسله وهداياه، فعقد له على بلخ وترمذ وهراة وبست. واعتذر عن نيسابور فراجعه مع ثقته أبي الحسن الحمولي فاستخلصه أبو الحرث لوزارته، وقعد عن رسالة صاحبه فأقبل محمود إلى نيسابور، وهرب عنها بكثرزون فنهض ابو الحرث إلى نيسابور، فخرج محمود عنها إلى مروالروذ، وجمع أبو الحرث وكحلة بكثرزون، وبايعوا لأخيه عبد الملك بن نوح. وبعث محمود إلى فائق وبكثرزون بالعتاب على صنيعهما بالسلطان، وزحف إليهما فبرزا من مرو للقائه، ثم سألوه الإبقاء فأجاب وارتحل عنهم، وبعض أوباشهم في أعقابه فرجع إليهم.(4/478)
وحشدوا الناس للقائه فهزمهم وافترقوا، فسار عبد الملك إلى بخارى وبكثرزون إلى نيسابور وكان معهم أبو القاسم بن سيجور، ولحق بقهستان واستولى محمود على خراسان وذلك سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. ثم سار إلى طوس وهرب بكثرزون إلى جرجان، وبعث محمود أرسلان الحاجب في أثره فأخرجه من نواحي خراسان، فولّى أرسلان على طوس وسار إلى هراة لمطالعة أحوالها، فخالفه بكثرزون إلى نيسابور وملكها، ورجع فطرده عنها أبو القاسم بن سيجور وملكها. وولّى محمود أخاه نصر ابن سبكتكين قيادة الجيوش بخراسان وأنزله بنيسابور، ثم سار إلى بلخ فأنزل بها سريره. ثم استراب بأخيه إسماعيل فاعتقله ببعض القلاع موسعا عليه، وكتب بالبيعة للقادر الخليفة من بني العبّاس [1] ، فبعث إليه بالخلع والألوية على العادة. وقام بين يديه السماطان واستوثق له ملك خراسان وبقي يردّد الغزو إلى الهند كل سنة.
(استيلاء محمود على سجستان)
كان خلف بن أحمد صاحب سجستان في طاعة بني سامان ولما شغل عنه بالفتن استفحل أمره، وشغل للاستبداد. فلما سار سبكتكين للقاء ملك الهند كما مرّ، اغتنم الفرصة من بست وبعث إليها عسكرا فملكوها وجبوها. ولما رجع سبكتكين من الهند ظافرا تلقّاه بالمعاذير والتعزية والهدايا والطاعة فقبل وأعرض عنه، وارتهن عنده على طاعته، وسار معه الحرث أبو علي بن سيجور بخراسان فملأ يده ويد عسكره بالعطاء، وبتفدّمه لقتال ايلك خان بما وراء النهر كما مرّ، فدسّ إلى ايلك خان يغريه بسبكتكين. واعتزم سبكتكين على غزو سجستان، ثم أدركه الموت فاغتنم خلف الفرصة وبعث طاهرا إلى قهستان وبوشنج فملكها، وكاتب البغراجق أخا سبكتكين. فلما فرغ محمود من شأن خراسان بعث لبغراجق عمه بانتزاع قهستان وبوشنج، فسار إلى طاهر فهزمه واتبعه، وكرّ عليه طاهر فقتله وانهزم الفريقان، وزحف محمود إلى خلف سنة تسعين وثلاثمائة، فامتنع في أحصن بلد [2] وهي قلعة
__________
[1] وكان يخطب سابقا للطائع للَّه.
[2] هو حصن اصبهبد.(4/479)
عالية منيعة، وحاصره بها حتى لاذ بالطاعة. وبذل مائة ألف دينار فأفرج عنه وسار إلى الهند فتوغّل فيها، وانتهى في اثني عشر ألف فارس وثلاثين ألف راجل، فاختار محمود من عساكره خمسة عشر ألفا، وسار لقتال جميال [1] فهزمه وأسره في بنيه وحفدته وكثير من قرابته. ووجد في سلبه مقلد من فصوص يساوي مائة ألف دينار وأمثال ذلك، فوزّعها على أصحابه، وكان الأسرى والسبي خمسمائة ألف رأس وذلك سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وفتح من بلاد الهند بلادا أوسع من بلاد خراسان. ثم فادى جميال ملك الهند نفسه بخمسين رأسا من الفيلة ارتهن فيها ابنه وحافده وخرج إلى بلده، فبعث إلى ابنه أندبال وشاهينة وراء سيجور فأعطوه تلك الفيلة، وسار لا يعود له ملك [2] ، وسار السلطان محمود الى ويهند فحاصرها وافتتحها، وبعث العساكر لتدويخ نواحيها فأثخنوا في القتل في أوباش كانوا مجتمعين للفساد مستترين بخمر الغياض فاستلحموهم. ورجع السلطان محمود الى غزنة وكان خلف بن أحمد عند منصرف السلطان عنه أظهر النسك، وولّى ابنه طاهرا على سجستان، فلما طالت غيبة السلطان أراد الرجوع إلى ملكه فلم يمكّنه ابنه، فتمارض وبعث إليه بالحضور للوصيّة والاطلاع على خبايا الذخيرة، فلما حضر اعتقله ثم قتله كما مرّ. وبلغت ضمائر [3] قوّاده لذلك، وخافوه، وبعثوا للسلطان محمود بطاعتهم ما بقيت له الدعوة في سجستان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وسار السلطان محمود إلى خلف فامتنع منه في معقلة بحصن الطاق، وهو في رأس شاهق تحيط به سبعة أسوار عالية، ويحيط به خندق بعيد المهوى، وطريقه واحدة على جسر، فجثم عليه أشهرا. ثم فرض على أهل العسكر قطع الشجر التي تليه وطمّ بها الخندق، وزحف إليه وقدّم الفيول بين يديه على تعبيتها فحطم الفيل الأعظم على باب الحصن فقلعه ورمى به، وفشا القتل في أصحاب خلف وتماسكوا داخل الباب يتناضلون بأحجار المجانيق والسهام والحراب، فرأى خلف هول المطلع فأثاب [4] واستأمن، وخرج إلى السلطان وأعطاه كثيرا من الذخيرة، فرفع من قدره وخيّره في مقاماته فاختار الجوزجان فأذن له في
__________
[1] جيبال: ابن الأثير ج 9 ص 169.
[2] من عادة الهند انه من وقع أسيرا في ايدي المسلمين لا ينعقد له لواء بعد ذلك.
[3] اي جزعت نفوس قواده.
[4] لا معنى لها ولعلها أناب أي تاب.(4/480)
المسير إليها على ما بينه وبين ايلك خان من المداخلة. ثم هلك خلف سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأبقى السلطان على ولده عمر، وكان خلف كثير الغاشية من الوافدين والعلماء، وكان محسنا لهم، ألّف تفسيرا جمع له العلماء من أهل إيالته، وأنفق عليهم عشرين ألف دينار، ووضعه في مدرسة الصابوني بنيسابور. ونسخه يستغرق عمر الكاتب، إلّا أن يستغرق في النسخ. واستخلف السلطان على سجستان أحمد الفتحي من قوّاد أبيه ورجع إلى غزنة. ثم بلغه انتقاض أحمد بسجستان فسار إليهم في عشرة آلاف، ومعه أخوه صاحب الجيش أبي المظفّر نصر والتوتناش الحاجب، وزعيم العرب أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي فحاصرهم، وفتحها ثانية، وولى عليها أخاه صاحب الجيش نصر بن سبكتكين مضافة إلى نيسابور فاستخلف عليها وزيره أبا منصور نصر بن إسحاق. وعاد السلطان محمود إلى بلخ مضمرا غزو الهند.
هكذا مساق خبر السلطان محمود مع خلف بن أحمد وخبر سجستان عند العيني.
وأمّا عند ابن الأثير فعلى ما وقع في أخبار دولة بني الصفّار.
(غزوة بهاطية والملتان وكوكبر)
ولما فرغ السلطان محمود من سجستان اعتزم على غزو بهاطية من أعمال الهند، وهي وراء الملتان، مدينة حصينة عليها أنطاق من الأصبوان وآخر من الخنادق، بعيدة المهوى. وكانت مشحونة بالمقاتلة والعدّة، واسم صاحبها بجير، فعبر السلطان إليها جيحون وبرز إليه بجير فاقتتلوا بظاهر بهاطية ثلاثة أيام. ثم انهزم بجير وأصحابه في الرابع وتبعهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم، وأخذتهم السيوف من أمامهم ومن ورائهم فبلغ القتل والسبي والسلب والنهب فيهم مبالغه. وسار بجير في رءوس الجبال فستر في شعابها وبعث السلطان سرية في طلبه فأحاطوا به، وقتلوا من أصحابه. ولما أيقن بالهلكة قتل نفسه بخنجر معه. وأقام السلطان محمود في بهاطية حتى أصلح أمورها، واستخلف عليها من يعلّم أهلها قواعد الإسلام، ورجع إلى غزنة فلقي في طريقه شدّة من الأمطار في الوحل وزيادة المدد في الأنهار، وغرق كثير من عسكره. ثم بلغه عن أبي الفتوح والي الملتان أنه ملحد، وأنه يدعو أهل ولايته إلى مذهبه فاعتزم على جهاده، وسار كذلك ومنعه سيجور من العبور لكثرة المدد، ابن خلدون م 31 ج 4(4/481)
فبعث السلطان إلى أندبال ملك الهند في أن يبيح له العبور إلى بلاده لغزو الملتان فأبى، فبدأ بجهاده، وسار في بلاده ودوّخها وفرّ أندبال بين يديه، وهو في طلبه إلى أن بلغ كشمير. ونقل أبو الفتوح أمواله على الفيول إلى سرنديب، وترك الملتان فقصدها السلطان، وامتنع أهلها فحاصرهم حتى افتتحها عنوة، وأغرمهم عشرين ألف ألف درهم عقوبة لهم على عصيانهم. ثم سار إلى كوكبر واسم صاحبها بيدا، وكان بها ستمائة صنم فافتتحها وأحرق أصنامها. وهرب صاحبها إلى قلعته وهي كاليجار وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة وعشرون ألف راية، وهو مشحون بالأقوات والمسالك إليه متعذرة بخمر الشجر، وملتف الغياض، فأمر بقطع الأشجار حتى اتضحت المسالك. واعترضه دون الحصن واد بعيد المهوى، فطمّ منه عشرين ذراعا بالأجربة المحشوة بالتراب، وصيّره جسرا، ومضى منه إلى القلعة، وحاصرها ثلاثة وأربعين يوما حتى جنح صاحبها إلى السلم.
وبلغ السلطان أن ايلك خان مجمع غزو خراسان، فصالح ملك الهند على خمسين فيلا، وثلاثة آلاف من الفضة، وخلع عليه السلطان فلبس خلعته وشدّ منطقته. ثم قطع خلعته وأنفذها إلى السلطان، وتبعه بما عقد معه وعاد السلطان إلى خراسان بعد أن كان عازما على التوغّل في بلاد الهند.
(مسير ايلك خان الى خراسان وهزيمته)
كان السلطان محمود لما ملك ايلك خان بخارى كما مرّ، وكتب إليه مهنيا، وتردّد السفراء بينهما في الوصلة، وأوفد عليه سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي إمام الحديث، ومعه طغان جقّ والي سرخس في خطبة كريمته بهدية فاخرة من سبائك العقيان واليواقيت والدرّ والمرجان والوشي والحمر، وصواني الذهب مملوءة بالعنبر والكافور والعود والنصول، وأمامه الفيول تحت الخروج المغشّاة، فقوبلت الهدية بالقبول، والوافد بالتعظيم له ولمن أرسله، وزفّت المخطوبة بالهدايا والألطاف، واتحدت الحال بين السلطانين. ولم يزل السعاة يغرون ما بينهما حتى فسد ما بينهما، فلما سار السلطان محمود إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة، وبعث سباسي تكين قريبه وقائد جيشه إلى خراسان، وبعث معه أخاه جعفر تكين وذلك سنة تسعين وثلاثمائة فملك(4/482)
بلخا وأنزل بها جعفر تكين، وكان أرسلان الحاجب بهراة أنزله السلطان بها، وأمره إذا دهمه أن ينحاز إلى غزنة. وقصد سباسي هراة وسكنها، وندب الحسين بن نصر إلى نيسابور فملكها، ورتّب العمّال، واستخرج الأموال. وطار الخبر إلى السلطان بالهند، وقصد بلخ فهرب جعفر تكين إلى ترمذ، واستقرّ السلطان ببلخ، وسرّح أرسلان الحاجب في عشرة آلاف من العساكر إلى سباسي تكين بهراة فسار سباسي إلى مرو، واعترضه التركمان، وقاتلهم فهزمهم وأثخن فيهم. ثم سار إلى أبيود، ثم إلى نسا وأرسلان في اتباعه حتى انتهى إلى جرجان فصدّ عنها، وركب قلل الجبال والغياض، وتسلط الكراكلة على أثقاله ورجاله، واستأمن طوائف من أصحابه إلى قابوس لعدم الظهر. ثم عاد إلى نسا وأصدر ما معه إلى خوارزم شاه أبي الحسن علي ابن مأمون، وديعة لايلك خان، واقتحم المفازة إلى مرو، فسار السلطان لاعتراضه ورماه محمد بن سبع بمائة من القوّاد حملوا الى غزنة. ونجا سباسي تكين في فلّ من أصحابه، فعبر النهر إلى ايلك خان، وقد كان ايلك خان بعث أخاه جعفر تكين في ستة آلاف راجل إلى بلخ ليفتر من عزيمة السلطان عن قصد سباسي تكين فلم يفتر ذلك من عزمه، حتى أخرج سباسي من خراسان. ثم قصدهم فانهزموا أمامه، وتبعهم أخوه نصر بن سبكتكين صاحب جيش خراسان إلى ساحل جيحون، فقطع دابرهم. ولما بلغ الخبر إلى ايلك خان قام في ركائبه وبعث بالصريخ إلى ملك الختّل وهو قدرخان بن بقراخان لقرابة بينهما وصهر، فجاءه بنفسه ونفر معه، واستجاش أحياء النزل ودهاقين ما وراء النهر، وعبر النهر في خمسين ألفا، وانتهى إلى السلطان خبره وهو بطخارستان فقدم إلى بلخ، واستعدّ للحرب، واستنفر جموع الترك والجند والخلنجيّة والأفقانية والفربوية. وعسكر على أربعة فراسخ من بلخ، وتزاحفوا على التعبية، فجعل السلطان في القلب أخاه نصرا صاحب الجيش بخراسان، وأبا نصر ابن أحمد الفريغوني صاحب الجوزجان، وأبا عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطائي في كماة الأكراد والعرب والهنود، وفي الميمنة حاجبه الكبير أبا سعيد التمرتاشي، وفي الميسرة أرسلان الحاجب. وحصّن الصفوف بخمسمائة من الفيلة. وجعل ايلك خان على ميمنته قدرخان ملك الختّل وعلى ميسرته أخاه جعفر تكين، وهو في القلب. وطالت الحرب، واستمات الفريقان ونزل السلطان وعفّر خدّه بالأرض متضرعا. ثم ركب وحمل في فيلته على القلب فأزاله عن مكانه، وانهزم الترك،(4/483)
واتبعوهم يقتلون ويأسرون إلى أن عبروا بهم النهر. وأكثر الشعراء تهنئة السلطان بهذا الفتح وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. ولما فرغ السلطان من هذه الحرب سار للهند للإيقاع بنواسه شاه أحد أولاد الملوك، كان أسلم على يده واستخلفه على بعض المعاقل التي افتتحها، فارتد ونبذ الإسلام، فأغذّ السير إليه ففرّ أمامه، واحتوى على المعاقل التي كانت في يده من أصحابه، وانقلب إلى غزنة ظافرا وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.
(فتح بهيم نقرا [1] )
ثم سار السلطان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة في ربيع منها غازيا إلى الهند فانتهى الى سبط وبهند، فلقيه لك ابن هزبال [2] ملك الهند في جيوش لا تحصى، فصدقهم السلطان القتال فهزمهم، واتبعهم إلى قلعة بهيم نقرا وهي حصن على حصن عالية اتخذها أهل الهند خزانة للصنم، ويودعون به أنواع الذخائر والجواهر التي يتقرّب بها للصنم، فدافع عنه وعن خزنته أياما. ثم استأمنوا وأمكنوا السلطان من القلعة، فبعث عليه أبا نصر الفريغوني وحاجبه الكبير ابن التمرتاش، وواسع تكين، وكلّفهما بنقل ما في الخزائن، فكان مبلغ المنقول من الوزن سبعين ألف ألف شامية، ومن الذهبيات والفضيات موزونة، والديباج السوسي ما لا عهد بمثله، ووجد في جملتها بيت من الفضّة الخالصة طوله ثلاثون ذراعا في خمسة عشر، صفائح مضروبة ومعالق للطهي والنشر، وشراع من ديباج طوله أربعون ذراعا في عرض عشرين بقائمتين من ذهب، وقائمتين من فضة، فوكّلهما بحفظ ذلك. ومضوا إلى غزنة فأمر بساحة داره ففرشه بتلك الجواهر، واجتمعت وفود الأطراف لمشاهدتها، وفيهم رسول طغان أخي ايلك خان.
(خبر الفريغون واستيلاء السلطان على الجوزجان)
وكان بنو فريغون هؤلاء ولاة على الجوزجان أيام بني سامان يتوارثونها، وكان لهم
__________
[1] غزوة بهيم نغر: ابن الأثير ج 9 ص 206.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل «فانتهى الى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال» .(4/484)
شهرة مكارم. وكان أبو الحرث أحمد بن محمد غرّتهم. وكان سبكتكين خطب كريمته لابنه محمود وأنكح كريمته أخت محمود لابنه أبي نصر فالتحم بينهما. وهلك أبو الحرث فأقرّ السلطان محمود ابنه أبا نصر على ولايته إلى أن مات سنة إحدى وأربعمائة، وكان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف بالبديع يؤلّف له التآليف ويجعلها باسمه، ونال عنده بذلك فوق ما أمّل.
(غزوة بارين [1] )
ثم سار السلطان محمود على رأس المائة الرابعة لغزو بلاد الهند فدوّخها واستباحها، وأوقع بملكها، ورجع إلى غزنة فبعث إليه ملك الهند في الصلح على جزية مفروضة، وعسكر مقرّر عليه، وعلى تعجيل مال عظيم، وهديّة فيها خمسون فيلا، وتقرّر الصلح بينهما على ذلك.
(غزوة الغور وقصران)
بلاد الغور هذه تجاور بلاد غزنة، وكانوا يفسدون السابلة ويمتنعون بجبالهم وهي وعرة ضيّقة، وأقاموا على ذلك متمرّدين على كفرهم وفسادهم، فامتعض السلطان محمود، وسار لحسم عللهم سنة إحدى وأربعمائة وفي مقدمته الترنتاش الحاجب والي هراة وأرسلان الحاجب والي طوس. وانتهوا الى مضيق الجبل وقد شحنوه بالمقاتلة فنازلتهم الحرب ودهمهم السلطان فارتدّوا على أعقابهم، ودخل عليهم لبلادهم ولملكها. ودخل حصنا في عشرة آلاف واستطرد لهم السلطان الى فسيح من الأرض.
ثم كرّ عليهم فهزمهم وأثخن فيهم وأسر ابن سوري وقرابته وخواصه، وملك قلعتهم وغنم جميع أموالهم، وكانت لا يعبّر عنها. وأسف ابن سوري على نفسه فتناول سما كان معه ومات. ثم سار السلطان سنة اثنتين وأربعمائة لغزو قصران [2] وكان صاحبها
__________
[1] نارين: ابن الأثير ج 9 ص 213.
[2] قصدار: ابن الأثير ج 9 ص 227.(4/485)
يحمل ضمانه كل سنة، فقطع الحمل وامتنع بموالاة ايلك خان، وسار إليه فبادر باللقاء وتنصّل واعتذر، وأهدى عشرين فيلا وألزمه السلطان خمسة عشر ألف درهم، ووكّل بقبضها ورجع إلى غزنة.
(خبر اليشار واستيلاء السلطان على غرشستان)
كان اسم أليشار عند الأعاجم لقبا على ملك غرشستان، كما أن كسرى على ملك الفرس وقيصر على ملك الروم ومعناه الملك الجليل. وكان أليشار أبو نصر محمد بن إسماعيل بن أسد ملكها إلى أن بلغ ولده محمد سن النجابة فغلب على أبيه، وانقطع أبو نصر للنظر في العلوم لشغفه بها، وصاحب خراسان يومئذ أبو علي بن سيجور. ولما انتقض على الرضى نوح خطبهم لطاعته وولايته فأبوا من ذلك لانتقاضه على سلطانه، فبعث العساكر إليهم وحاصرهم زمانا. ثم نهض سبكتكين إلى أبي علي بن سيجور، وانضاف أليشار إلى سبكتكين في تلك الفتنة كلّها، فلما ملك السلطان محمود خراسان وأذعن له ولاة الأطراف والأعمال بعث إليهم في الخطبة فأجابوه. ثم استنفر محمد بن أبي نصر في بعض غزواته فقعد عن النفير، فلمّا رجع السلطان من غزوته بعث حاجبه الكبير أبا سعيد الترنتاش في العساكر وأردفه بأرسلان الحاجب والي طوس لمناهضة أليشار ملك غرشستان. واستصحبا معهما أبا الحسن المنيعي الزعيم بمروالروذ لعلمه بمخادع تلك البلاد، فأمّا أبو نصر فاستأمن إلى الحاجب، وجاء به إلى هراة مرفّها محتاطا عليه. وأمّا ابنه محمد فتحصّن بالقلعة التي بناها أيام ابن سيجور فحاصروها طويلا، واقتحموها عنوة وأخذا أسيرا، فبعث به إلى غزنة، واستصفيت أمواله وصودرت حاشيته. واستخلف الحاجب على الحصن ورجع إلى غزنة فامتحن الولد بالسياط، واعتقله مرفّها واستقدم أباه أبا نصر من هراة فأقام عنده في كرامة إلى أن هلك سنة ست وأربعمائة.
(وفاة ايلك خان وصلح أخيه طغان خان مع السلطان)
كان ايلك خان بعد هزيمته بخراسان يواصل الأسف، وكان أخوه طغان يكبر عليه(4/486)
على فعلته، وينقضه العهد مع السلطان. وبعث الى السلطان يتبرّأ ويعتذر فنافره ايلك خان بسبب ذلك وزحف إليه. ثم تصالحها. ثم هلك ايلك خان سنة ثلاثة وأربعمائة وولّى مكانه أخوه طغان خان فراسل السلطان محمود وصالحه. وقال له اشتغل أنت بغزو الهند، وأنا بغزو الترك فأجابه إلى ذلك. وانقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال. ثم خرجت طوائف الترك فأجابه إلى ذلك. وانقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال. ثم خرجت طوائف الترك من جانب الصين في مائة ألف [1] خركاة وقصدوا بلاد طغان، فهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان من الترك أزيد من مائة ألف، واستقبل جموع الكفرة فهزمهم وقتل نحوا من مائة ألف وأسر مثلها، ورجع الباقون منهزمين. وهلك طغان إثر ذلك، وملك بعده أخوه أرسلان خان سنة ثمان وأربعمائة، وخلّص ما بينه وبين السلطان محمود، وخطب بعض كرائمه للسلطان مسعود ولده فأجابه. وعقد السلطان لابنه على هراة فسار اليها سنة ثمان وأربعمائة.
(فتح بارين [2] )
ثم سار السلطان سنة ثمان وأربعمائة عند ما فصل الشتاء غازيا إلى الهند، وتوغّل فيها مسيرة شهرين، وامتنع عظيم الهند في جبل صعب المرتقى ومنع القتال، واستدعى الهنود وملك عليهم الفيلة وفتح الله بارين وكثرت الأسرى والغنائم ووجد به في بيت البدجي [3] حجر منقوش، قال التراجمة كتابته إنه مبنيّ منذ أربعين ألف سنة. ثم عاد إلى غزنة وبعث إلى القادر يطلب عهد خراسان وما بيده من الممالك.
__________
[1] في ثلاثمائة ألف خركاة: ابن الأثير ج 9 ص 297.
[2] ناردين: ابن الأثير ج 9 ص 244.
[3] هو بيت البد اي بيت الصم.(4/487)
(غزوة تنيشرة [1] )
كان صاحب تنيشرة عاليا في الكفر والطغيان، وانتهى الخبر إلى السلطان في ناحيته من الفيلة فيلة من الفيتلمان [2] الموصوفة في الحروب، فاعتزم السلطان على غزوة، وسار إليه في مسالك صعبة وعرة بين أودية وقفارات حتى انتهى إلى نهر طام قليل المخاضة وقد استندوا من ورائه إلى سفح جبل، فسرّب إليهم جماعة من الكماة خاضوا النهر وشغلوهم بالقتال حتى تعدّت بقية العسكر. ثم قاتلوهم وانهزموا، واستباحهم المسلمون وعادوا إلى غزنة ظافرين ظاهرين. ثم غزا السلطان على عادته فضل الأدلاء طريقهم فوقع السلطان في مخاضات من المياه غرق فيها كثير من العسكر، وخاض الماء بنفسه أياما حتى تخلّص ورجع إلى خراسان.
(استيلاء السلطان على خوارزم)
كان مأمون بن محمد صاحب الجرجانية من خوارزم، وكان مخلصا في طاعة الرضى نوح أيام مقامه في آمد كما مرّ، فأضاف نسا إلى عمله فلم يقبلها المودّة بينه وبين أبي علي ابن سيجور. وكان من خبره مع ابن سيجور واستنقاذه إياه من أسر خوارزم شاه سنة ست وثمانين وثلاثمائة ما مرّ ذكره، وصارت خوارزم كلها له. ثم هلك وملك مكانه أبو الحسن علي. ثم هلك وملك مكانه ابنه مأمون، وخطب إلى السلطان محمود بعض كرائمه فزوّجه أخته. واتحد الحال بينهما الى أن هلك، وولّي مكانه أبو العبّاس مأمون، ونكح أخته كما نكحها أخوه من قبله. ثم دعاه إلى الدخول في طاعته، والخطبة له، كما دعا الناس، فمنعه أصحابه وأتباعه، وتوجّس الخيفة من السلطان في ذلك، فرجعوا إلى الفتك به، فقتلوه وبايعوا ابنه داود. وازداد خوفهم من السلطان في ذلك، فتعاهدوا على الامتناع ومقدّمهم التكين البخاريّ. وسار
__________
[1] تانيسر: ابن الأثير ج 9 ص 247.
[2] الصليمان: ابن الأثير ج 9 ص 247.(4/488)
إليهم السلطان في العساكر حتى أناخ عليهم وبيّتوا محمد بن إبراهيم الطائي، وكان في مقدّمة السلطان فقاتلهم إلى أن وصل السلطان فهزمهم، وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وركب التكين السفن ناجيا فغدره الملّاحون وجاءوا به إلى السلطان فقتله في جماعة من القوّاد الذين قتلوا مأمونا على قبره. وبعث بالباقين الى غزنة، فأخرجوا في البعوث إلى الهند وأنزلوا هنالك في حامية الثغور وأجريت لهم الأرزاق، واستخلف على خوارزم الحاجب الترنتاش ورجع إلى بلاده.
(فتح قشمير [1] وقنوج)
ولما فرغ السلطان من أمر خوارزم، وانضافت إلى مملكته، عدل إلى بست، وأصلح أحوالها ورجع إلى غزنة. ثم اعتزم على غزو الهند سنة تسع وأربعمائة، وكان قد دوّخ بلادها كلها، ولم يبق عليه إلّا قشمير ومن دونها الفيافي والمصاعب، فاستنفر الناس من جميع الجهات من المرتزقة والمتطوّعة. وسار تسعين مرحلة وعبر نهر جيحون وحيلم وخيالا [2] ، هو وامراؤه. وبثّ عساكره في أودية لا يعبر عن شدّة جريها وبعد أعماقها، وانتهى إلى قشمير. وكانت ملوك الهند في تلك الممالك تبعث إليه بالخدمة والطاعة، وجاءه صاحب درب قشمير وهو جنكي بن شاهي وشهي فأقرّ بالطاعة، وضمن دلالة الطريق، وسار أمام العسكر إلى حصن مأمون لعشرين من رجب، وهو خلال ذلك يفتتح القلاع إلى أن دخل في ولاية هردت، أحد ملوك الهند فجاء طائعا مسلما. ثم سار السلطان إلى قلعة كلنجد من أعيان ملوكهم، فبرز للقائه، وانهزم، واعترضهم أنهار عميقة سقطوا فيها وهلكوا قتلا وغرقا، يقال: هلك منهم خمسون ألفا. وغنم السلطان منهم مائة فيل وخمسة إلى غير ذلك مما جلّ عن الوصف ثم عطف إلى سقط التقيذ [3] وهو بيت مبني بالصخور الصمّ يشرّع منها
__________
[1] هي كشمير.
[2] وفي الكامل لابن الأثير: وعبر نهر سيحون وجيلوم وهما نهران عميقان شديدا الجرية فوطئ أرض الهند، وأثاه رسل ملوكها بالطاعة.
[3] وفي الكامل: ثم سار نحو بيت متعبد لهم- وهو من مهرة الهند وهو من أحصن الأبنية على نهر ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر مرصعة بالجواهر.(4/489)
بابان إلى الماء المحيط، موضوعة أبنيته فوق التلال، وعن جنبتيه ألف قصر مشتملة على بيوت الأصنام. وفي صدر البلد بيت أصنام منها خمسة من الذهب الأحمر مضروبة على خمسة أذرع في الهواء قد جعلت عينا كل واحدة منهما ياقوتتان تساوين خمسين ألف دينار، وعين الآخر قطعة ياقوت أزرق تزن أربعمائة وخمسين مثقالا، وفي وزن قدمي الصنم الواحد أربعة آلاف وأربعمائة مثقال، وجملة ما في الأشخاص من الذهب ثمانية وتسعون ألف مثقال. وزادت شخوص الفضّة على شخوص الذهب في الوزن، فهدمت تلك الأصنام كلّها، وخرّبت. وسار السلطان طالبا قنوج، وخرّب سائر القلاع في طريقه، ووصل إليها في شعبان سنة تسع وأربعمائة وقد فارقها نزوجبال حين سمع بقدومه. وعبر نهر الغانج الّذي تغرق الهنود فيه أنفسهم ويذرون فيه رماد المحرقين منهم. وكان أهل الهند واثقين بقنوج وهي سبع قلاع موضوعة على ذلك الماء، فيها عشرة آلاف بيت للأصنام، تزعم الهنود أن تاريخها منذ مائتي ألف سنة، أو ثلاثمائة ألف سنة، وأنها لم تزل متعبّدا لهم. فلمّا وصلها السلطان ألفاها خالية قد هرب أهلها، ففتحها كلّها في يوم واحد، واستباحها أهل عسكره. ثم أخذ في السير منها الى قلعة لنج، وتعرف بقلعة البراهمة، فقاتلوا ساعة، ثم تساقطوا من أعاليها على سنا الرماح وضياء الصفاح. ثم سار إلى قلعة أسا وملكها جندبال فهرب وتركها، وأمر السلطان بتخريبها. ثم عطف على جندراي من أكابر الهنود في قلعة منيعة. وكان جميال ملك الهند من قبل ذلك يطلبه للطاعة والألفة فيمتنع عليه. ولحق جميال بنهوجد أحد المغرورين بحصانة المعقل، فنجا بنفسه.
ورام جندراي المدافعة وثوقا بامتناع قلعته. ثم تنصّح له بهميال ومنعه من ذلك، فهرّب إليه أمواله وأنصاره إلى جبال وراء القلعة، وافتتحها السلطان وحصل منها على غنائم. وسار في أتباع جندراي وأثخن فيهم قتلا ونهبا، وغنم منهم أموالا وفيولا، وبلغت الغنائم ثلاثة آلاف ألف درهم ذهبا وفضّة، ويواقيت والسبي كثير، وبيع بدرهمين إلى عشرة. وكانت الفيول تسمّى عندهم جنداي داد. ثم قضى السلطان جهاده ورجع إلى غزنة فابتنى مسجدها الجامع وجلب إليه جذوع الرخام من الهند، وفرشه بالمرمر، وأعالي جدرانه بالأصباغ وصباب الذهب المفرغة من تلك الأصنام، واحتضر بناء المسجد بنفسه، ونقل إليه الرخام من نيسابور، وجعل أمام البيت مقصورة تسع ثلاثة آلاف غلام، وبنى بإزاء المسجد مدرسة احتوت فيها الكتب من(4/490)
علوم الأوّلين والآخرين، وأجريت بها الأرزاق، واختصّت لنفسه يفضي منه إليه في أمن من العيون، وأمر القوّاد والحجّاب وسائر الخدّام فبنوا بجانب المسجد من الدور ما لا يحصى. وكانت غزنة تحتوي على مربط ألف فيل يحتاج كل واحد منها لسياسته ومائدته خطّة واسعة.
(غزوة الأفقانية)
لما رجع السلطان إلى غزنة راسل بيدو والي قنوج واسمه راجبان بدلحه وطال بينهما العتاب وآل إلى القتال فقتل والي قنوج، واستلحمت جنوده. وطغى بيدو، وغلب على الملوك الذين معه، وصاروا في جملته، ووعدهم بردّ ما غلبهم عليه السلطان محمود، ونمي الخبر بذلك إليه فامتعض، وسار إلى بيدو فغلبه على ملكه. وكان ابتداؤه في طريقه بالأفقانية طوائف من كفّار الهند معتصمون بقلل الجبال، ويفسدون السابلة، فسار في بلادهم ودوّخها، وعبر نهر كنك، وهو واد عميق، وإذا جيبال من ورائه، فعبر إليه على عسر العبور فانهزم جيبال، واسر كثير من أصحابه.
وخلص جريحا واستأمن إلى السلطان فلم يؤمّنه إلا أن يسلم، فسار ليلحق ببيدو فغدر به بعض الهنود وقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى السلطان في الطاعة على الإتاوة، وسار إلى مدينة باري من أحصن بلاد الهند فألفاها خالية، فأمر بتخريبها وعشر قلاع مجاورة لها، وقتل من أهلها خلقا وسار في طلب بيدو، وقد تحصّن بنهر أدار ماءه عليه من جميع جوانبه، ومعه ستة وخمسون ألف فارس وثمانون ألف راجل وسبعمائة وخمسون فيلا، فقاتلهم لك يوما، وحجز بينهم الليل فأجفل بيدو، وأصبحت دياره بلاقع، وترك خزائن الأموال والسلاح فغنمها المسلمون وتتبعوا آثارهم فوجدوهم في الغياض والآكام، فأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدو بذماء نفسه، ورجع السلطان إلى غزنة ظافرا.
(فتح سومنات)
كان للهند صنم يسمّونه سومنات، وهو أعظم أصنامهم في حصن حصين على ساحل(4/491)
البحر بحيث تلتقفه أمواجه والصنم مبنى في بيته على ستة وخمسين سارية من الساج المصفّح بالرصاص، وهو من حجر طوله خمسة أذرع، منها ذراعان غائصان في البناء وليس له صورة مشخّصة. والبيت مظلم يضيء بقناديل الجوهر الفائق، وعنده سلسلة ذهب بجرس وزنها مائة من تحرّك بأدوار معلومة من الليل فيقوم عباد البرهميّين لعبادتهم بصوت الجرس. وعنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبا وفضة، عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب، تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار. وكانوا يحجّون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر فتجتمع إليه عوالم لا تحصى.
وتزعم الهنود أن الأرواح بعد المفارقة تجتمع إليه فيبثّها فيمن شاء بناء على التناسخ، والمدّ والجزر عندهم هو عبادة البحر. وكانوا يقرّبون إليه كل نفيس، وذخائرهم كلّها عنده ويعطون سدنته الأموال الجليلة. وكان له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة.
وكان نهرهم المسمّى كنك الّذي يزعمون أنّ مصبه في الجنّة، ويلقون فيه عظام الموتى من كبرائهم، وبينه وبين سومنات مائتا فرسخ. وكان يحمل من مائه كل يوم لغسل هذا الصنم، وكان يقوم عند الصنم من عبّاد البرهميّين ألف رجل في كل يوم للعبادة، وثلاثمائة لحلق رءوس الزوّار ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنّون ويرقصون، ولهم على ذلك الجرايات الوافرة، وكان كلّما فتح محمود بن سبكتكين من الهند فتحا أو كسر صنما، يقول أهل الهند: إن سومنات ساخط عليهم، ولو كان راضيا عنهم لأهلك محمودا دونه. فاعتزم محمود بن سبكتكين إلى غزوة، وتكذيب دعاويهم في شأنه، فسار من غزنة في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة في ثلاثين ألف فارس سوى المتطوّعة، وقطع القفر إلى الملتان وتزوّد له من القوت والماء قدر الكفاية، وزيادة عشرين ألف حمل. وخرج من المفازة إلى حصون مشحونة بالرجال قد غوّروا آبارهم مخافة الحصار، فقذف الله الرعب في قلوبهم، وفتحها وقتل سكانها وكسر أصنامها، واستقى منها الماء. وسار إلى أنهلوارن وأجفل عنها صاحبها بهيم، وسار إلى بعض حصونه، وملك السلطان المدينة، ومرّ إلى سومنات ووجد في طريقه حصونا كثيرة فيها أصنام وضعوها كالنقباء والخدمة لسومنات، ففتحها وخرّبها وكسّر الأصنام. ثم سار في قفر معطش، واجتمع من سكانه عشرون ألفا لدفاعه، فقاتلهم سراياه، وغنموا أموالهم، وانتهوا إلى دبلواه على مرحلتين من سومنات، فاستولى عليها وقتل رجالها. ووصل الى سومنات منتصف ذي القعدة، فوجد أهلها مختفين في(4/492)
أسوارهم، وأعلنوا بكلمة الإسلام فوقها، فاشتدّ القتال حتى حجز بينهم الليل. ثم أصبحوا إلى القتال وأثخنوا في الهنود، وكانوا يدخلون إلى الصنم فيعنّفونه ويبكون ويتضرّعون إليه، ويرجعون إلى القتال. ثم انهزموا بعد أن أفناهم القتل، وركب فلّهم السفن فأدركوا، وانقسموا بين النهب والقتل والغرق، وقتل منهم نحو من خمسين ألفا. واستولى السلطان على جميع ما في البيت. ثم بلغه أنّ بهيم صاحب أنهلوارن اعتصم بقلعة له تسمّى كندهة في جزيرة على أربعين فرسخا من البرّ، فرام خوض البحر إليها، ثم رجع عنها وقصد المنصورة، وكان صاحبها ارتدّ عن الإسلام، ففارقها وتسرّب في غياض هناك، فأحاطت عساكر السلطان بها، وتتبّعوهم بالقتل، فأفنوهم. ثم سار إلى بهاطية فدان أهلها بالطاعة ورجع إلى غزنة في صفر سنة سبع عشرة وأربعمائة.
(دخول قابوس صاحب جرجان وطبرستان في ولاية السلطان محمود)
قد قدّمنا وفادة قابوس على الأمير نوح بن منصور بن سامان، وعامله بخراسان أبي العبّاس تأس مستصرخا على بني بويه عند ما ملكوا طبرستان وجرجان من يده سنة إحدى وسبعين، وأقام بخراسان ثماني عشرة سنة وهم يعدونه بالنصرة والمدد حتى يئس منهم. ولما جاء سبكتكين وعده بمثل ذلك. ثم شغله شغل بني سيجور، ثم وعده السلطان محمود وشغلته فتنة أخيه، واستولى أبو القاسم بن سيجور على جرجان بعد مهلك فخر الدولة بن بويه. ثم أمر من بخارى بالمسير إلى خراسان، فسار إلى أسفراين واستمدّ قابوس رجال الديلم والجبل، فأمدّوه وظاهروه على أمره حتى غلب على طبرستان وجرجان، وملكها كما يذكر في أخبار الديلم والجبل. وكان نصر بن الحسن بن الفيرزان وهو ابن عمّ ما كان بن كالي ينازعه فيهما، فآل الحال بنصر إلى أن اعتقله بنو بويه بالريّ، واستقلّ قابوس بولاية جرجان وطبرستان وديار الديلم كلّها من ممالك محمود
.(4/493)
(استيلاء السلطان محمود على الري والجبل)
كان مجد الدولة بن فخر الدولة صاحب الريّ، وكان قد ضعف أمره وأدبرت دولته، وكان يتشاغل بالنساء والكتاب نسخا ومطالعة. وكانت أمّه تدبّر ملكه، فلما توفيت انتقضت أحواله وطمع فيه جنده، وكتب إلى محمود يشكو ذلك ويستدعي نصرته، فبعث إليه جيشا عليهم حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة فقبض عليه وعلى ابنه أبي دلف عند وصوله. وطيّر بالخبر إلى السلطان، فسار في ربيع من سنة عشرين وأربعمائة ودخل المريّ وأخذ أموال مجد الدولة، وكانت ألف ألف دينار، ومن الجواري قيمة خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات ما لا يحصى. ووجد له خمسين زوجة ولدن نيفا وثلاثين ولدا، فسئل عن ذلك فقال: هذه عادة. وأحضر مجد الدولة وعنّفه، وعرض له بتسفيه رأيه في الانتصار عن جندراي منه، وبعثه إلى خراسان فحبس بها. ثم ملك السلطان قزوين وقلاعها، ومدينة ساوة وآوه، وصلب أصحاب مجد الدولة من الباطنية ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة والاعتزال والنجوم، وأخذ مما سوى ذلك من الكتب مائة حمل. وتحصّن منه منوجهر بن قابوس ملك الجبل بالجبال الوعرة فقصده فيها، ولم تصعب عليه فهرب منوجهر وتحصّن بالغياض، وبعث له بخمسمائة ألف دينارا استصلاحا فقبله ورجع عنه إلى نيسابور. وتوفّي منوجهر عقب ذلك، وولي بعده ابنه أنوشروان فأقرّه السلطان على ولايته، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار ضريبة. وخطب للسلطان محمود في بلاد الجبل إلى أرمينية. وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر من يد إبراهيم السيلار بن المرزبان من عقب شوذان بن محمد بن مسافر الديلميّ، وجميع قلاعه، ولم يبق بيده إلّا شهرزان، قرّر عليه فيها ضريبة، كما يأتي في أخبار الديلم. ثم أطاعه علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان، وخطب له، وعاد السلطان إلى خراسان، واستخلف بالريّ ابنه مسعودا فقصد أصفهان وملكها من علاء الدولة، واستخلف مسعود عليها بعض أصحابه وعاد عنها فثار أهلها بعامله وقتلوه، فرجع إليهم واستباحهم. ثم عاد إلى الريّ فأقام بها
.(4/494)
(استيلاء السلطان محمود على بخارى ثم عوده عنها)
كان ايلك خان ملك الترك وصاحب تركستان لما ملك بخارى من يد بني سامان سنة تسعين وثلاثمائة، ولّى عليها ورجع إلى بلاده كما مرّ، وكان الغزّ أحياء بادية بضواحي بخارى وزعيمهم أرسلان بن سلجوق عمّ السلطان طغرلبك. وكان بينه وبين ايلك خان وأخيه بقراخان حروب وفتن بسبب استظهار بني سامان بهم. فلما ملك ايلك خان بخارى عرف لأرسلان بن سيجور حقّه ورفع محلّه، وهو مع ذلك مستوحش.
وكان على تكين أخو ايلك خان، وحبس أرسلان ولحق ببخارى فاستولى عليها، وطلب موالاة أرسلان بن سيجور فوالاه، واستفحل أمرهما، ونهض إليهما ايلك خان وقاتلهما فهزماه. واستوثق أمر تكين في بخارى وكان يسيء جوار السلطان محمود بن سبكتكين في أعماله، ويعترض رسله المتردّدين إلى ملوك الترك فأحفظ ذلك السلطان، وأجمع المسير إليه، فنهض من بلخ سنة عشرين وأربعمائة، وعبر النهر وقصد بخارى، فهرب منها على تكين ولحق بايلك خان. ودخل السلطان بخارى وملك سائر أعمالها، وأخذ الجزية من سمرقند، وأجفلت أحياء الغزّ وأرسلان بن سلجوق، وتلطف في استدعائه. فلما حضر عنده تقبّض عليه، وبعثه إلى بعض قلاع الهند وحبسه بها. وسار إلى أحياء الغزّ فنهبهم، وأثخن فيهم قتلا وأسرا، ورجع إلى خراسان.
(خبر السلطان محمود مع الغز بخراسان)
لمّا حبس السلطان أرسلان بن سلجوق، ونهب احياءهم، أجلاهم عن ضواحي بخارى، فعبروا نهر جيحون إلى خراسان، وامتدّت فيهم أيدي العمّال بالظلم والتعدّي في أموالهم وأولادهم فتفرّقوا، وجاءت منهم طائفة في أكثر من ألفي خركاة إلى كرمان، ثم إلى أصفهان، وكان يسمّون العراقية. وطائفة إلى جبل بكجان عند خوارزم القديمة، وعاث كل منهم فيما سار فيه من البلاد. وبعث السلطان إلى علاء الدولة بأصفهان لردّ الذين ساروا إليه إلى الريّ وقبلهم، وحاول ذلك بالغدر فلم(4/495)
يستطع، وحاربهم فهزموه وساروا عنه إلى أذربيجان، وأفسدوا ما ساروا عليه وصانعهم وهشوذان صاحب أذربيجان وآنسهم. وكان مقدّموهم: بوقا وكوكاش ومنصور ودانا. وأمّا الذين ساروا إلى خوارزم القديمة فكثر عيثهم في تلك النواحي.
وأمر السلطان محمود صاحب طوس أرسلان الحاجب أن يسير في طلبهم فاتبعهم سنتين. ثم جاء السلطان على أثره فشرّدهم على نواحي خراسان، واستخدم بعضهم.
وكان أمراؤهم: كوكاش وبوقا وقزل ويغمروتا صغلي.
ولمّا مات السلطان محمود استخدمهم ابنه مسعود أيضا، وساروا معه من غزنة إلى خراسان فسألوه فيمن بقي منهم بجبل بكجان عند خوارزم فأذن لهم أن يسهلوا الى البسائط على شرط الطاعة. ثم انتقض أحمد نيال عامل الهند فسار مسعود إليه، وولى على خراسان تاش، وكثر عيث هؤلاء الغز في البلاد فأوقع بهم تاش، وقتل أميرهم يغمر. وبعث السلطان مسعود من إجلائهم عن البلاد، ومثّل بهم بالقتل والقطع والصلب. فساروا إلى الريّ طالبين أذربيجان للحاق بالعراقية منهم كما مرّ ذكرهم فملكوا الدامغان ونهبوها، ثم سمنان. ونهبوا جوار الريّ وايجاباذ ومشكوبة من أعمال الريّ، وخرّبوا كل ما مرّوا عليه من القرى والضياع فاجتمع لحربهم تاش وأبو سهل الحمدونيّ صاحب الريّ. وسار إليهم تاش في العساكر والفيلة على التعبية، ولقوة مستميتين، وسبق إليه أحياؤهم فهزموه وقتلوه.
ثم ساروا الى الريّ فهزموا أبا سهل الحمدونيّ وعسكره، ولحق بقلعة طبول، ونهبوا الريّ واستباحوا أموالها، وجاء عسكر من جرجان فاعترضوه وكبسوه، وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، ومضوا إلى أذربيجان ليجتمعوا بالعراقية. ثم رجع علاء الدولة بن كاكويه إلى أصفهان بعد مسيرهم من الريّ، وطلبوا مولاه أبا سهل على طاعة مسعود فلم يتم وعاث الغز في أذربيجان وأوقع بهم ففارقوها إشفاقا من نيال وأخيه طغرلبك، وافترقوا بين الموصل وديار بكر فملكوها ونهبوها وعاثوا في نواحيها كما مرّ ذكره في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر.
هذه أخبار أرسلان بن سلجوق مفصلة إلّا مفصلة إلّا ما اختصر منها بالريّ وأذربيجان فإنه يأتي في مواضعه من دولة الديلم. وأمّا طغرلبك وإخوته داود ...
وبيقو وأخوه لأمه نيال المسمى بعد الإسلام إبراهيم فانهزموا وأقاموا بعد سلجوق ببلاد ما وراء النهر. وكان بينهم وبين علي تكين صاحب بخارى حروب ظهر عليهم فيها(4/496)
فعبروا جيحون إلى خوارزم وخراسان، وكان من أخبارهم فيها وما آل أمرهم إلى الملك والدولة ما يأتي ذكره.
(افتتاح نرسى من الهند)
كان السلطان محمود قد استخلف على الهند من مواليه أحمد نيال تكين، فغزا سنة إحدى وعشرين مدينة نرسى من أعظم مدن الهند في مائة ألف مقاتل، فنهب وخرّب الأعمال واستباحها. وجاء إلى المدينة فدخلها من أحد جوانبها، واستباحها يوما ولم يستوعبها حتى خرجوا فباتوا بظاهرها خوفا على أنفسهم من أهل البلد.
وقسّموا الأموال كيلا، وأرادوا العود من الغد فدافعهم أهلها، ورجع أحمد نيال بعساكره إلى بلده.
(وفاة السلطان محمود وولاية ابنه محمد)
ثم توفي السلطان محمود في ربيع سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وكان ملكا عظيما استولى على كثير من الممالك الإسلامية، وكان يعظّم العلماء ويكرّمهم، وقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلا في رعيته رفيقا بهم محسنا إليهم، وكان كثير الغزو والجهاد، وفتوحاته مشهورة. ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لابنه محمد وهو ببلخ، وكان أصغر من مسعود إلّا أنه كان مقبلا عليه ومعرضا عن مسعود. فلمّا توفي بعث أعيان الدولة إلى محمد بخبر الوصية واستحثّوه، وخطب له في أقاصي الهند إلى نيسابور، وسار إلى غزنة فوصلها لأربعين يوما، واجتمعت العساكر على طاعته وقسّم فيها الأعطيات.
(خلع السلطان محمد ابن السلطان محمود وولاية ابنه الآخر مسعود الأكبر)
ابن خلدن م 32 ج 4(4/497)
لما توفي السلطان محمود كان ابنه مسعود بأصفهان، فسار إلى خراسان، واستخلف على أصفهان، فثار أهلها بخليفته وعسكره فقتلوهم، فعاد إليهم مسعود وحصرها وافتتحها عنوة واستباحها. ثم استخلف عليها وسار إلى الريّ ومنها إلى نيسابور، وكتب إلى أخيه محمد بالخبر وأنه لا ينازعه، ويقتصر على فتحه من طبرستان وبلد الجبل وأصفهان، ويطلب تقديمه على محمد في الخطبة فأحفظه ذلك، واستحلف العساكر. وسار إلى مسعود، وكان أكثر العساكر يميلون الى مسعود لقوّته وشجاعته وعلوّ سنه. وأرسل التوتناش صاحب خوارزم، وكان من أصحاب السلطان محمود يشير على محمد بترك الخلاف فلم يسمع، وسار فانتهى إلى بكياباد أوّل رمضان من سنته، وأقام، وكان مشتغلا باللعب عن تدبير الملك، فتفاوض جنده في خلعه والادالة منه بأخيه مسعود. وتولّى كبر ذلك عمّه يوسف بن سبكتكين، وعلى حشاوند صاحب أبيه. وحبسوا محمدا بقلعة بكياباد وكتبوا بالخبر إلى مسعود، وارتحلوا إليه بالعساكر فلقوه بهراة فقبض على عمّه وعلى صاحب أبيه، وعلى جماعة من القوّاد. واستقرّ في ملك أبيه شهر ذي القعدة من سنته، وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن السيمندي من محبسه وفوّض إليه الوزارة وأمور المملكة.
وكان أبوه قبض عليه سنة ست عشرة واربعمائة وصادره على خمسة آلاف دينار. ثم سار إلى غزنة فوصلها منتصف اثنتين وعشرين واربعمائة ووفدت عليه رسل جميع الملوك من جميع الآفاق، واجتمع له ملك خراسان وغزنة والهند والسند وسجستان وكرمان ومكران والريّ وأصفهان والجبل، وعظم سلطانه.
(عود أصفهان الى علاء الدولة بن كاكويه ثم رجوعها للسلطان مسعود)
كان قناخر مجد الدولة بن بويه صاحب أصفهان، وملكها السلطان محمود من يده فهرب عنها، وامتنع بحصن قصران. وأنزل السلطان محمود ابنه مسعودا بأصفهان، وأنزل معه علاء الدولة بن كاكويه فاستقل بها، وسار عنه مسعود. ثم زحف إليه وملكها من يده. ولحق علاء الدولة بخوزستان يستنجد أبا كليجار بن سلطان الدولة. وسار عنه إلى تستر ليستمدّ له من أخيه جلال الدولة العساكر لمعاودة(4/498)
أصفهان. وكان ذلك عقب فتنة وحرب بين أبي كليجار وأخيه جلال الدولة فوعده أبوه بذلك إذا اصطلحا، وأقام عنده إلى أن توفي السلطان محمود. ولما توفي السلطان محمود جمع قناخر جمعا من الديلم والأكراد، وقصد الريّ وقاتله نائبة مسعود فهزمه، ودفعه عن الريّ وفتك في عسكره قتلا وأسرا. وعاد قناخر إلى بلده، وبلغ الخبر إلى علاء الدولة بموت السلطان محمود وهو عند أبي كليجار بخوزستان، وقد أيس من النصر، فبادر إلى أصفهان فملكها، ثم همذان. وقصد الريّ فقاتله نائب مسعود، ورجع إلى أصفهان. ثم اقتحموا عليه البلد عنوة ونجا علاء الدولة إلى قلعة قردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان. وخطب لمسعود بالريّ وجرجان وطبرستان.
(فتح التيز ومكران وكرمان ثم عود كرمان لأبي كليجار)
كان صاحب التيز ومكران لما توفي خلّف ولدين أبا العساكر وعيسى، واستبدّ عيسى منهما بالملك فسار أبو العساكر إلى خراسان مستنجدا بمسعود فبعث معه عسكرا ودعوا عيسى إلى الطاعة فامتنع، وقاتلوه فاستأمن كثير من أصحابه إلى أبي العساكر فانهزم عيسى وقتل في المعركة. واستولى أبو العساكر على البلاد وملكها، وخطب فيها للسلطان مسعود، وذلك سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وفي هذه السنة ملك السلطان مسعود كرمان وكانت للملك أبي كليجار بن سلطان الدولة فبعث إليها السلطان مسعود عساكر خراسان فحاصروا مدينة بردسير، وشدّوا في حصارها، واستبدّ إلى أطراف البلاد، ثم وصل عسكر أبي كليجار إلى جيرفت واتبعوا الخراسانية بأطراف البلاد فعاود هزيمتهم، ودخلوا المفازة إلى خراسان وعادت العساكر الى فارس.
(فتنة عساكر السلطان مسعود مع علاء الدولة بن كاكويه وهزيمته)
قد تقدّم لنا هزيمة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه من الريّ ونجاته إلى قلعة(4/499)
قردخان. ثم سار منها إلى يزدجرد ومعه فرهاد بن مرداويح مددا له. وبعث صاحب الجيوش بخراسان عسكرا مع ابن عمران الديلميّ لاعتراضهما، فلما قاربهما العسكر فرّ فرهاد إلى قلعة شكمين، ومضى علاء الدولة إلى سابور خرات، وملك علي بن عمران يزدجرد. ثم أرسل فرهاد إلى الأكراد الذين مع علي بن عمران وداخلهم في الفتك به، وشعر بذلك فسار إلى همذان، ولحقه فرهاد فاعتصم بقلعة في طريقه منيعة، وكادوا يأخذونه لولا عوائق الثلج والمطر في ذلك اليوم، وكانوا ضاحين من الخيام فتركوه ورجعوا عنه. وبعث ابن عمران الى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان يستمدّه في العسكر إلى همذان، وبعث علاء الدولة يستدعي أبا منصور ابن أخيه من أصفهان بالسلاح والأموال ففعل. وسار علي بن عمران من همذان لاعتراضه، فكبسه بجرباذقان وغنم ما معه وقتل كثيرا من عسكره وأسره، وبعث به إلى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان. وسار إلى همذان وزحف إليه علاء الدولة وفرهاد، فانقسموا عليه وجاءوه من ناحيتين، فانهزم علاء الدولة ونجا إلى أصفهان وفرّ هاربا الى قلعة شكمين فتحصّن بها.
(مسير السلطان مسعود إلى غزنة والفتن بالري والجبل)
لما استولى السلطان على أمره سار من غزنة إلى خراسان لتمهيد أمورها، وكان عامله وعامل أبيه على الهند أحمد نيال تكين [1] قد استفحل فيها أمره، وحدّثته نفسه بالاستبداد فمنع الحمل وأظهر الانتقاض. فسار السلطان إلى الهند ورجع أحمد نيال الى الطاعة، وقام علاء الدولة بأصفهان وأظهر الانتقاض، ومعه فرهاد بن مرادويح، فزحف إليهم أبو سهل وهزمهم، وقتل فرهاد ونجا علاء الدولة إلى جبال أصفهان وجرباذقان فامتنع بها، وسار ابو سهل إلى أصفهان فملكها سنة خمس وعشرين وأربعمائة ونهب خزائن علاء الدولة وحمل كتبه إلى غزنة وأحرقها الحسين الغوري بعد ذلك.
__________
[1] ينالتكين: ابن الأثير ج 9 ص 441.(4/500)
(عود أحمد نيال تكين إلى العصيان)
ولما عاد السلطان إلى خراسان لقتال الغزّ، عاد أحمد نيال تكين إلى العصيان بالهند، وجمع الجموع فبعث السلطان سنة ست وعشرين وأربعمائة إليه جيشا كثيفا، وكتب إلى ملوك الهند بأخذ المذاهب عليه. فلما قاتله الجيوش انهزم ومضى هاربا إلى ملتان، وقصد منها بهاطية وهو في جمع فلم يقدر ملك بهاطية على منعه. وأراد عبور نهر السند في السفن، فهيّأ له الملك ليعبر إلى جزيرة وسط النهر ظنّها متصلة بالبر، وأوصى الملك الملّاحين أن ينزلوه بها ويرجعوا عنه. وعلموا أنها منقطعة، فضعفت نفوسهم وأقاموا بها سبعة أيام، ففنيت أزوادهم وأكلوا دوابهم، وأوهنهم الجوع. وأجاز إليهم ملك بهاطية فاستوعبهم بالقتل والغرق والأسر وقتل أحمد نفسه.
(فتح جرجان وطبرستان)
كانت جرجان وطبرستان وأعمالهما لدارا بن منوجهر بن قابوس، وكان السلطان مسعود قد أقرّه عليها، فلمّا سار السلطان إلى الهند وانتشر الغزّ في خراسان منع الحمل، وداخل علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن ماكان في العصيان. فلمّا عاد مسعود من الهند وأجلى الغزّ عن خراسان سار إلى جرجان سنة ست وعشرين وأربعمائة فملكها ثم سار إلى آمد فملكها وفارقها أصحابها، وافترقوا في الغياض فتبعهم، وقتل منهم وأسر. ثم راسله دارا في الصلح وتقرير البلاد عليه، وحمل ما بقي عليه، فأجابه السلطان إلى ذلك ورجع إلى خراسان.
(مسير علاء الدولة الى أصفهان وهزيمته)
كان أبو سهل الحمدونيّ قد أنزله السلطان بأصفهان [1] ودلّهم على النواحي
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 446: «سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير-(4/501)
القريبة من علاء الدولة فأوقع بهم وغنم ما معهم، وقوي طمعه بذلك في أصفهان، فجمع الجموع، وسار إليها، فخرج إليهم أبو سهل وقاتلهم. وتحيّز من كان مع علاء الدولة من الأتراك إلى أبي سهل، فانهزم علاء الدولة، ونهب سواده، وسار إلى بروجرد، ثم إلى الطّرم فلم يقبله ابن السلّار صاحبها.
(استيلاء طغرلبك على خراسان)
كان طغرلبك وأخواه بيقو وحقربيك، واسم طغرلبك محمد، ولما أسر السلطان محمود أرسلان بن سلجوق وحبسه كما مرّ وأجاز أحياء من الغزّ إلى خراسان فكان من أخبارهم ما قدّمناه، وأقام طغرلبك وإخوته في أحيائهم بنواحي بخارى. ثم حدثت الفتنة بينهم وبين علي تكين صاحب بخارى، وكانت بينهم حروب ووقائع، وأوقعوا بعساكره مرارا فجمع أهل البلاد عليهم، وأوقع بهم واستلحمهم واستباحهم، فانحازوا إلى خراسان سنة ست وعشرين وأربعمائة، واستخدموا لصاحب خوارزم وهو هارون بن التوتناش. وغدر بهم، فساروا عنه إلى مفازة نسا، ثم قصدوا مرو وطلبوا الأمان من السلطان مسعود على أن يضمنهم أمان السابلة، فقبض على الرسل ولم يجبهم على ما سألوا. وبعث العساكر فأوقعوا بهم على نسا، ثم طار شررهم في البلاد وعمّ ضررهم. وسار السلطان ألب أرسلان إلى نيسابور ففارقها أبو سهل الحمدونيّ فيمن معه، واستولى عليها داود. وجاء أخوه طغرلبك على أثره ولقيهم رسل الخليفة إليهم وإلى العراقية الذين قتلهم بالريّ وهمذان، يعنّفهم وينهاهم عن الفساد ويطمعهم، فتلقوا الرسل بالإعظام والتكرمة. ثم امتدّت عين داود إلى نهب نيسابور فمنعه طغرلبك، وعرض له بشهر رمضان، ووصية الخليفة، فلجّ فقوي طغرلبك في المنع وقال: والله لئن نهبت لأقتلنّ نفسي، فكفّ داود عن ذلك. وقسّطوا على أهل
__________
[ (-) ] أبي سهل الحمدونيّ بأصبهان يطلبون الميرة، فوضع عليهم علاء الدولة من أطمعهم في الامتيار من النواحي القريبة منه، فساروا إليها ولا يعلمون قربه منهم، فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم» .(4/502)
نيسابور ثلاثين ألف دينار، فرّقوها في أصحابهم. وجلس طغرلبك على سرير ملك مسعود بدار الملك، وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على عادة ولاة خراسان، وكانوا يخطبون للملك مسعود مغالطة وإيهاما.
(مسير السلطان مسعود من غزنة إلى خراسان واجلاء السلجوقية عنها)
ولما بلغ الخبر إلى السلطان مسعود باستيلاء طغرلبك والسلجوقية على نيسابور، جمع عساكره من غزنة وسار إلى خراسان فنزل بلخ في صفر سنة ثلاثين وأربعمائة وأصهر إلى بعض ملوك الخانية دفعا لشرّه. وأقطع خوارزم ولحق إسماعيل بطغرلبك. ثم أراح السلطان مسعود وفرغ من خوارزم والخانية، فبعث السلطان سباسي، فسار إليهم في العساكر فلم يشف نفسه، ونزل سرخس، وعدلوا عن لقائه، ودخلوا المفازة التي بين مرو وخوارزم، واتبعهم السلطان مسعود وواقعهم في شعبان من هذه السنة، فهزمهم فما بعدوا حتى عادوا في نواحيه، فأوقع بهم أخرى. وكان القتلى فيها منهم ألفا وخمسمائة، وهربوا إلى المفازة. وثار أهل نيسابور بمن عندهم وقتلوهم، ولحق فلّهم بأصحابهم في المفازة. وعدل السلطان إلى هراة ليجهّز العساكر ليطلبهم، فبلغه الخبر بأنّ طغرلبك سار إلى أستراباذ، وأقام بها في فصل الشتاء يظن أنّ الثلج يمنعهم عنه، فسار السلطان إليه هنالك، ففارقها طغرلبك وعدل عن طوس إلى جبال الريّ التي كان فيها طغرلبك وأصحابه، وقد امتنعوا بحالهم خوفا من السلطان لما كان منهم من موالاة السلجوقية، فاغذّ إليهم السير، وصبحهم فتركوا أهلهم وأموالهم واعتصموا بوعر الجبل، وغنمت عساكره جميع ما استولوا عليه. ثم صعد إليهم بنفسه وعساكره وهلك كثير من العسكر بالثلج في شعاب الجبل ثم ظفروا بهم في قلّة الجبل واستلحموهم، وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ليريح ويخرج في فصل الربيع لطلبهم في المفاوز. ثم عاد طغرلبك وأصحابه من المفازة وبعث إليهم السلطان بالوعيد. فيقال إنّ طغرلبك قال لكاتبه أكتب إليه:
«قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ» 3: 26 الآية. ولا تزده عليها. ولما ورد الكتاب على السلطان مسعود، كتب إليه «وآنسه بالمواعيد» وبعث إليه بالخلع، وأمره بالرحيل إلى آمل(4/503)
الشطّ على جيحون، وأقطع نسا لطغرلبك ودهستان لداود وبدارة لبيقو، وسمّى كل واحد منهما بالدهقان، فلم يقبلوا شيئا من ذلك ولا وثقوا به. وأكثروا من العيث والفساد. ثم كفّوا عن ذلك، وبعثوا إلى السلطان مسعود يخادعونه بالطاعة ببلخ، ورغّبوه في أن يسرّح إليهم أخاهم أرسلان المحبوس بالهند، فبعث إليه السلطان مسعود وجاءوا بأرسلان من الهند، ولمّا لم يتم بينهم أمر بإعادته إلى محبسه.
(هزيمة السلطان مسعود واستيلاء طغرلبك على مدائن خراسان وأعمالها)
ولما تغلّبت السلجوقية على نواحي خراسان. وفضّوا عساكر السلطان وهزموا الحاجب سباسي [1] ، اهتز السلطان لذلك، وأجمع لخراسان الحشد وبثّ العطاء، وأزاح العلل، وسار من غزنة في الجيوش الكثيفة والفيلة العديدة على التعبية المألوفة، ووصل إلى بلخ، ونزل بظاهرها، وجاء داود بأحيائه فنزل قريبا منه، وأغار يوما على معسكره فساق من باب الملك مسعود عدّة من الجنائب المقرّبات، معها الفيل الأعظم، وارتاع الملك لذلك، وارتحل مسعود من بلخ في رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف مقاتل. ومرّ بالجوزجان فصلب الوالي الّذي كان بها للسلجوقية، وانتهى إلى مرو الشاهجان. ومضى داود إلى سرخس واجتمع معه أخوه طغرلبك وبيقو، وبعث إليهم السلطان في الصلح، فوفد عليه بيقو فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأجابه هو عن أصحابه بالامتناع من الصلح للخوف من السلطان.
وسار من عند السلطان فسقط في يده [2] وسار في اتباعهم من هراة إلى نيسابور، ثم سرخس. كلّما تبعهم إلى مكان هربوا منه إلى آخر، حتى أظلهم فصل الشتاء فأقاموا بنيسابور ينتظرون انسلاخه فانسلخ، والسلطان عاكف على لهوه غافل عن شأنه حتى انقضى زمن الربيع. واجتمع وزراؤه وأهل دولته وعذلوه في إهمال أمر عدوّه، فسار من نيسابور إلى مرو في طلبهم فدخلوا المفازة، فدخل وراءهم مرحلتين وقد ضجر العسكر من طول السفر وعنائه. وكانوا منذ ثلاث سنين منقلبين فيه منذ سفرهم مع
__________
[1] هو سباشي: ابن الأثير ج 9 ص 457.
[2] العبارة مشوشة وغير واضحة ولم نهتد الى تصويبها في المراجع التي بين أيدينا.(4/504)
سباسي فنزل بعض الأيام في منزلة على قليل من الماء، وازدحم الناس على الورود واستأثر به أهل الدولة والحاشية، فقاتلهم عليه الجمهور، ووقعت في العساكر لذلك هيعة. وخالفهم الدعرة إلى الخيام ينهبون ويتخطّفون. وكان داود وأحياؤه متابعا للعسكر على قرب يتخطّف الناس من حولهم، فشعر بتلك الهيعة فركب في قومه وصدم العساكر وهم في تلك الحال فولّوا منهزمين، والسلطان والوزير ثابتان في موقفهما يحرّضان الناس على الثبات، فلم يثبت أحد، فانصرفا مع المنهزمين في فلّ وأتبعهم داود وأثخن فيهم بالقتل. ثم رجع إلى العسكر وقد غنمه أصحابه فآثرهم بالغنائم، وقسّم فيهم ما حصل له وقعد على كرسيّ السلطان، وأقام عسكره ثلاثة أيام ولياليها على ظهر خشية من كرّ العسكر السلطانية عليهم. ونجا السلطان إلى غزنة فدخلها في شوّال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبض على سباسي وغيره من الأمراء، وسار طغرلبك إلى نيسابور فملكها آخر إحدى وثلاثين وأربعمائة، ونهب عسكره أهلها، وكان بها هرج عظيم من الدعرة. وكانوا ينالون من الناس بالنهب والزنا والقتل فارتدعوا لذلك لهيبة طغرلبك، وسكن الناس. وملك السلجوقية البلاد فسار بيقو إلى هراة فملكها وسار داود إلى بلخ وبها الحاجب التوتناش فاستخلفه السلطان عليها، فأرسل إليه داود في الطاعة فسجن الرسل، وحاصره داود. وبعث السلطان مسعود جيشا كثيفا لإمداده، ودفع السلجوقية عن البلاد، فسار فريق منهم إلى الرخّج، فدفعوا من كان بها من السلجوقية وهزموهم، وأفحشوا في قتلهم وأسرهم.
وسار فريق منهم إلى بيقو في هراة فقاتلوه ودفعوه عنها ثم بعث السلطان ابنه مودود بعساكر أخرى، وجعل معه وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبّره، فسار عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فلما قارب بلخ وداود يحاصرها، بعث داود جماعة من عسكره فلقوا طلائع مودود فهزمهم، فلمّا وصلت منهزمة تأخّر مودود عن نهايته، وأقام وسمع التوتناش بأحجام مودود عنه فأطاع داود وخرج إليه.
(خلع السلطان مسعود ومقتله وولاية أخيه محمد مكانه)
ولما بعث السلطان ولده مودود إلى خراسان لمدافعة السلجوقية عنها، وأقام بعده سبعة(4/505)
أيام، وخرج من غزنة في ربيع سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة يريد الهند للمشتى به على عادة أبيه، ويستنفر الهنود لقتال السلجوقية. واستصحب أخاه محمدا المسمول معه.
وكان أهل الدولة قد ضجروا منه فتفاوضوا في خلعه وولاية أخيه محمد، وأجمعوا ذلك. فلما عبروا نهر سيحون وتقدّم بعض الخزائن فتخلّف أنوش تكين البلخيّ في جماعة من الغلمان الفداوية، ونهبوا بقية الخزائن، وبايعوا لمحمد المسمول وذلك في منتصف ربيع الآخر من السنة. وافترق العسكر واقتتلوا وعظم الخطب وانهزم السلطان مسعود، وحاصروه في رباط هناك. ثم استنزلوه على الأمان وخيّره أخوه محمد في السكنى فاختار مسعود قلعة كيدي فبعث إليها، وأمر بإكرامه، ورجع محمد بالعساكر إلى غزنة. وفوّض إلى ابنه أحمد أمر دولته وكان أهوج فاعتزم على قتل عمّه مسعود، وداخل في ذلك عمّه يوسف، وعلي خشاوند فوافقوه عليه، وحرّضوه فطلب من أبيه خاتمه ليختّم به بعض خزائنهم، وبعث به إلى القلعة مع بعض خدمه ليؤدّي رسالة مسعود، وهو بخراسان يعتذر بأن أولاد أحمد نيال تكين قتلوا السلطان مسعود قصاصا بأبيهم، فكتب إليه يتوعّده. ثم طمع الجند في السلطان محمد ومدّو أيديهم إلى الرعايا ونهبوها، وخربت البلاد وارتحل عنها محمد. وكان السلطان مسعود شجاعا كريما غزير الفضل حسن الخط، سخيّا محبا للعلماء مقرّبا لهم محسنا إليهم وإلى غيرهم من ذوي الحاجات، كثير الصلات والعطاء والجوائز للشعراء، حليت تصانيف العلوم باسمه، وكثرت المساجد في البلاد بعمارته. وكان ملكه فسيحا، ملك أصفهان وهمذان والريّ وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الدارون وكرمان وسجستان والسند والرخّج وغزنة وبلاد الغور، وأطاعه أهل البرّ والبحر وقد صنّف في أخباره ومناقبه.
(مقتل السلطان محمد وولاية مودود ابن أخيه مسعود)
لما بلغ الخبر بمقتل السلطان مسعود إلى ابنه مودود بخراسان سار مجدّا في عساكره إلى غزنة فلقيه عمّه محمد في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وانهزم محمد وقبض عليه وعلى أبيه أحمد وعبد الرحمن، وعلى أنوش تكين البلخيّ الخصيّ، وعلى علي(4/506)
خشاوند وقتلهم أجمعين، إلّا عبد الرحمن لرفقه بأبيه مسعود عند القبض عليه.
وقتل كل من داخل في قبض أبيه وخلعه، وسار سيرة جدّه محمود، وبلغ الخبر إلى أهل خراسان فثار أهل هراة بمن عندهم من السلجوقية فأخرجوهم، وتشوّف أهل خراسان للنصر على الغزّ من قبل مودود، وكان أبوه السلطان مسعود قد بعث ابنه الآخر إلى الهند أميرا عليها سنة ست وعشرين وأربعمائة فلمّا بلغه موت أبيه بايع لنفسه وقفل إلى لهاور والملتان فملكهما، وأخذ الأموال وجمع العساكر وأظهر الخلاف على أخيه مودود. وحضر عيد الأضحى فأصبح ثالثه ميتا بلهاور، بعد أن كان مودود يجّهز العساكر من غزنة لقتاله، وهو في شغل شاغل من أمره، ففرغ عن الشواغل ورسخت قدمه في ملكه، وخالفه السلجوقية بخراسان وخاطبه خان الترك من وراء النهر بالانقياد والمتابعة.
(استيلاء طغرلبك على خوارزم)
كانت خوارزم من ممالك محمود بن سبكتكين وابنه مسعود من بعده، وكان عليها التوتناش حاجب محمود من أكابر أمرائه، ووليها لهما معا، ولما شغل مسعود بفتنة أخيه محمد عند مهلك أبيهما أغار على تكين صاحب بخارى من أطراف البلاد وغيرهما.
فلمّا فرغ مسعود من مراجعة محمد واستقل بالملك بعث إلى التوتناش بالمسير إلى أعمال علي وانتزاع بخارى وسمرقند منه، وأمدّه بالعساكر فعبر جيحون سنة أربع وعشرين وأربعمائة وأخذ من بلاد تكين كثيرا فأقام بها، وهرب تكين بين يديه. ثم دعته الحاجة إلى الأموال للعساكر، ولم يكن في جبايته تلك البلاد. وجاء بها فاستأذن في العود إلى خوارزم، وعاد واتبعه علي تكين وكبسه على غرّة، فثبت وانهزم علي تكين ونجا إلى قلعة دبوسية. وحاصره التوتناش وضيّق عليه فبعث إليه واستعطفه فأفرج عنه، وعاد إلى خوارزم، وكانت به جراحة من هذه الوقعة، فانتقض عليه ومات وترك من الولد ثلاثة وهم: هارون ورشيد وإسماعيل، وضبط وزيره أحمد بن عبد الصمد البلد والخزائن حتى جاء هارون الأكبر من الولد من عند السلطان بعهده على خوارزم، ثم توفي المتميدي وزير السلطان مسعود، وبعث على أبي نصر لوزارته، واستناب أبو نصر عند هارون بخوارزم ابنه عبد الجبّار. ثم استوحش من هارون(4/507)
وسخطه وأظهر العصيان في رمضان سنة خمس وعشرين وأربعمائة فاختفى عبد الجبّار خوفا من غائلته، وسعى عند السلطان مسعود. وكتب مسعود إلى شاه ملك بن علي أحد ملوك الأطراف بنواحي خوارزم بالمسير لقتال إسماعيل فسار وملك البلد فهزمهما، وهرب إسماعيل وشكر إلى طغرلبك وداود صريخين، فسار داود إلى خوارزم فلقيهما شاه ملك وهزمهما. ثم قتل مسعود وملك ابنه مودود فدخل شاه ملك بأمواله وذخائره في المفاوز إلى دهستان ثم إلى طبس، ثم إلى نواحي كرمان ثم إلى أعمال البتر ومكران. وقصد أرتاش أخا إبراهيم نيال وهو ابن عم طغرلبك في أربعة آلاف فارس، فأسره وسلّمه إلى داود واستأثر هو بما غنم من أمواله. ثم أعاد أرتاش إلى باذغيس، وأقام على محاصرة هراة على طاعة مودود بن مسعود فامتنعوا منه خوفا من معرّة هجومه عليهم.
(مسير العساكر من غزنة الى خراسان)
ولما ملك الغزّ خراسان واستولوا على سائر أملاكها وأعمالها. واستولى طغرلبك على جرجان وطبرستان وخوارزم، وإبراهيم نيال على همذان وعلى الريّ والجبل، وولّى على خراسان وأعمالها داود بن ميكائيل، وبعث السلطان أبو الفتح مودود عساكره مع بعض حجّابه إلى خراسان سنة خمس وثلاثين، فسرّح إليهم داود ابنه آلب أرسلان في العساكر فاقتتلوا، وكان الغلب لألب أرسلان. وعاد عسكر غزنة مهزوما، وسار عسكر من الغز إلى نواحي بست. وعاثوا وأفسدوا، فبعث أبو الفتح مودود إليهم عسكرا فقاتلهم، وانهزموا وظفر عسكر مودود بهم وأثخنوا فيهم.
(مسير الهنود لحصار لهاور وامتناعها وفتح حصون اخرى من بلادهم)
وفي سنة خمس وثلاثين اجتمع ثلاثة من ملوك الهند على لهاور، فجمع مقدّم العساكر الإسلامية هناك عسكره وبعثهم للدفاع عنها. وبعث إلى السلطان مودود(4/508)
وحاصرها الثلاثة ملوك. ثم أفرج الآخران وعادا إلى بلادهما. وسارت عساكر الإسلام في اتباع أحدهما وهو دوبالي هربابة فانهزم منهم، وامتنع بقلعة له هو وعساكره، وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل، وحاصرهم المسلمون حتى استأمنوا وسلّموا ذلك الحصن وجميع الحصون التي من أعمال الملك، وغنموا أموالهم، وأطلقوا من كان في الحصون من أسرى المسلمين بعد أن أعطوهم خمسة آلاف، ثم ساروا إلى ولاية الملك الآخر واسمه باس الريّ فقاتلوه وهزموه، وقتل في المعركة هو وخمسة آلاف من قومه، وأسر الباقون، وغنم المسلمون ما معهم. وأذعن ملوك الهند بعدها بالطاعة، وحملوا الأموال وطلبوا الأمان والإقرار على بلادهم فأجيبوا.
(وفاة مودود وولاية عمه عبد الرشيد)
ثم توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بغزنة لعشر سنين من ولايته في رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وقد كان كاتب فأجابوه [1] وجمع كليجار صاحب أصفهان العساكر، وسار في المفازة لنصره فمرض في طريقه ورجع. وسار خاقان إلى ترمذ لنصره، وطائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم. وسار مودود من غزنة فعرض له بعد رحيله من غزنة مرض القولنج، فعاد إلى غزنة، وبعث إلى وزيره أبي الفتح عبد الرزاق بن أحمد المتميدي في العساكر إلى سجستان لانتزاعها من الغزّ. ثم اشتدّ وجعه فمات ونصّب ابنه للأمر خمسة أيام. ثم عدل الناس عنه إلى عمّه عليّ بن مسعود، وكان مسعود لأوّل ولايته قبض على عمّه عبد الرشيد أخي محمود وحبسه بقلعة بطريق بست. فلمّا قاربها الوزير أبو الفتح وبلغه وفاة مودود، نزل عبد الرشيد الى العسكر فبايعوا له ورجعوا به إلى غزنة فهرب عليّ بن مسعود، واستقرّ الأمر لعبد الرشيد. ولقّب سيف الدولة وقيل جمال الدولة. واستقام أمر السلجوقيّة بخراسان، واندفعت العوائق عنهم.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 558: «وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد، ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر، وبذل لهم الأموال الكثيرة، وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم، فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار، صاحب أصبهان، فإنه جمع عساكره وسار في المفازة فهلك كثير من عسكره، ومرض وعاد» .(4/509)
(مقتل عبد الرشيد وولاية فرخزاد)
كان لمودود صاحب اسمه طغرل، وجعله حاجبا ببابه، وكان السلجوقيّة قد ملكوا سجستان وصارت في قسم بيقو أخي طغرلبك، وولّى عليها أبا الفضل من قبله، فأشار طغرلبك على عبد الرشيد بانتزاعها منهم، وألحّ عليهم في ذلك، فبعث إليها طغرل في ألف فارس، فحاصر حصن الطاق أربعين يوما. وكتب أبو الفضل من سجستان يستنجده، وسار طغرل، ولمّا سمع أصوات البوقات والدبادب، وأخبر أنه بيقو، فتحاجزوا، وعلم أنه تورط ولقيهم مستميا فهزمهم وسار إلى هراة. واتبعهم طغرل فرسخين وعاد إلى سجستان فملكها، وكتب إلى عبد الرشيد بالخبر، واستمدّه لغزو خراسان فأمدّه بالعساكر. ثم حدّثته نفسه بالملك، فاغذّ السير إلى غزنة حتى كان على خمسة فراسخ منها، كتب إلى عبد الرشيد باستيجاش العسكر وطلبهم الزيادة في العطاء، فشاور أصحابه فكشفوا له وجه المكيدة في ذلك وحذّروه من طغرل، فصعد إلى قلعة غزنة وتحصّن بها. وجاء طغرل من الغد فنزل في دار الإمارة، وراسل أهل القلعة في عبد الرشيد فأسلموه إليه فقتله واستولى على ملكهم، وتزوّج ابنة السلطان عبد الرشيد [1] ويحضّهم على الأخذ بثأره فأجابوا ودخلوا عليه في مجلسه [2] ، وقتلوه وجاء ذخير الحاجب لخمسة أيام من مقتله، وجمع وجوه القوّاد وأعيان البلد، وبايع قرخاد ابن السلطان مسعود، وقام بتدبير دولته وقتل الساعين في [3] إلى غزنة ولقي الغزّ وهزمهم. ودخل غزنة فملكها
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 584: «فقتله واستولى على البلد، وتزوج ابنة مسعود كرها، وكان في الأعمال الهندية أمير يسمّى خرخيز، ومعه عسكر كثير، فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر، كتب إليه ودعاه الى الموافقة والمساعدة على إنجاح الأعمال من ايدي الغزّ، ووعده على ذلك وبذل البذول الكثيرة فلم يرض فعله، وأنكره وامتعض منه، وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل ووجوه القوّاد ينكر ذلك عليهم، ويوبخهم على إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم، ويحثّهم على الأخذ بثأره» .
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل: «فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطهم. ودخل جماعة منهم على طغرل ووقفوا بين يديه فضربه أحدهم بسيفه» .
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 584: «وجمع وجوه القوّاد وأعيان أهل البلد وقال لهم: قد عرفتم ما جرى مما خولفت به الديانة والأمانة، وأنا تابع، ولا بدّ للأمر من سائس فاذكروا ما عندكم من-(4/510)
من أيديهم. ثم سار إلى كرمان وسنوران فملكها وكرمان هذه بين غزنة والهند، وليست كرمان المعروفة. ثم سار غيّاث الدين إلى نهر السند ليعبر إلى لهاور كرسي خسرو شاه بن بهرام شاه، فبادر خسرو شاه ومنعه العبور فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعمال الأنبار. وولّى على غزنة أخاه شهاب الدين ورجع الى فيروزكوه.
(استيلاء الغورية على لهاور ومقتل خسرو شاه وانقراض دولة بني سبكتكين)
ولما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم، وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه، وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه، فسار سنة تسع وسبعين وأربعمائة في عسكر غزنة والغور، وعبر إليها وحاصرها، وبذل الأمان لخسروشاه وأنكحه ابنته وسوّغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لأخيه فأبى من ذلك. وأقام شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه، وخذله أهل البلد، فبعث القاضي والخطيب يستأمنان له فأمّنه ودخل شهاب الدين، وبقي خسرو شاه عنده مكرّما، وبقي شهرين ينتظر المعونة من يد غيّاث الدين، فأنقذ خسرو شاه إليه فارتاب من ذلك، وأمّنه شهاب الدين وحلف له، وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم. فلمّا وصلوا بلد الغور حبسهم غيّاث الدين ببعض قلاعه، فكان آخر العهد به. وانقرضت دولة بني سبكتكين بموته، وكان مبدؤها سنة ست وستين وثلاثمائة، فتكون مدّة الدولة مائتين وثلاث عشرة سنة.
__________
[ (-) ] ذلك فأشاروا بولاية فرخزاد بن مسعود بن محمود، وكان محبوسا في بعض القلاع فأحضر وأجلس بدار الامارة. وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور، وأخذ من أعان على قتل عبد الرشيد فقتله، فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان قتل عبد الرشيد جمع عساكره، وسار إلى غزنة فخرج إليه خرخيز ومنعه، وقاتله فانهزم داود، وغنم ما كان معه. ولما استقر ملك فرخزاد وثبت قدمه جهّز جيشا جرارا إلى خراسان فاستقبلهم الأمير كلسارغ وهو من أعظم الأمراء فقاتلهم، وصبر لهم فظفروا به، وانهزم أصحابه عنه، وأخذ أسيرا، وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوههم وأمرائهم. فجمع ألب أرسلان عسكرا كثيرا، وسيّر والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الّذي أسروا كلسارغ فقاتلهم وهزمهم، وأسر جماعة من أعيان العسكر فأطلق فرخزاد الأسرى، وخلع على كلسارغ وأطلقه» .(4/511)
(دولة الترك الخبر عن دولة الترك في كاشغر وأعمال تركستان وما كان لهم من الملك في الملة الإسلامية بتلك البلاد وأوّلية أمرهم ومصاير أحوالهم)
كان هؤلاء الترك ملوك تركستان، ولا أدري أولية أمرهم بها إلّا أنّ أوّل من أسلم منهم سبق قراخان، وتسمّى عبد الملك، وكانت له تركستان وقاعدتها كاشغر، وبلاساغون وخيمو وما يتصل بها إلى أوان المفازة المتّصلة بالصين في ناحية الشمال عنهم، أعمال طراز والشاش وهي للترك أيضا. إلّا أنّ ملوك تركستان أعظم ملكا منهم بكثير. وفي المغرب عنهم بلاد ما وراء النهر التي كان ملكها لبني سامان وكرسيّهم بخارى. ولما أسلم ملكهم عبد الكريم سبق أقام على ملكه بتلك الناحية، وكان يطيع بني سامان هو وعقبه يستنفرونهم في حروبهم إلى أن ملك عهد الأمير نوح بن منصور في عشر التسعين والثلاثمائة على حين اضطراب دولة بني سامان، وانتقاض عمّالهم بخراسان.
وانتقض أبو علي بن سيجور فراسل بقراخان وأطمعه في ملك بخارى فطمع بقراخان في البلاد. ثم قصد أعمال بني سامان وملكها شيئا فشيئا. وبعث الأمير نوح إليه العساكر مع قائده أنج فلقيهم بقراخان وهزمهم، وأسر أنج وجماعة من القوّاد. وسار فائق إلى بقراخان واختصّ به، وصار في جملته، ورجع الأمير نوح إلى بخارى كما مرّ من قبل، وهلك بقراخان في طريقه.
(وفاة بقراخان وملك أخيه ايلك خان سليمان)
ولما ارتحل بقراخان من بخارى وهو على ما به من المرض، أدركه الموت في طريقه فمات سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وكان ديّنا عادلا حسن السيرة، محبّا للعلماء وأهل الدين مكرّما لهم، متشيّعا سنيا. وكان مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/512)
ولمّا مات ولي بعده أخوه ايلك خان سليمان، ولقبه شهير الدولة. واستوثق ملكه بتركستان وأعمالها، ووفد عليه فائق بعد حروبه بخراسان مع جيوش الأمير نوح وسبكتكين وابنه محمود، ولحق به مستصرخا فأكرمه ووعده، وكتب إلى الأمير نوح يشفع في فائق وأن يولّيه سمرقند فولّاه عليها وأقام بها.
(استيلاء ايلك خان على ما وراء النهر)
لما عاد بقراخان على بخارى وعاد إليها الأمير نوح، وقد كان من أبي علي بن سيجور وإجلائه عن خراسان ماكان، استدعى الأمير نوح مولاه سبكتكين بعد ذلك، واختلف ابناه بكثرزون ومنصور كما تقدّم ذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة ثم هلك سبكتكين كما تقدّم ذلك كله قبل. ثم استوحش بكثرزون من منصور واتفق مع فائق على خلعه، فخلعه وسمله بخراسان سنة تسع وثمانين وأربعمائة وكان فائق خصيّا من موالي نوح بن منصور. وهذه الأخبار كلّها مستوفاة في دولة بني سامان. ثم بلغ الخبر إلى أيلك خان، فطمع في ملك بخارى وأعمالها، وسار في جموع الترك إلى بخارى موريا بالمحامات عن عبد الملك والنصرة له. وخرج بكثرزون والأمراء والقوّاد للقائه فقبض عليهم، وسار فدخل بخارى عاشر ذي القعدة من سنة تسع وثمانين واربعمائة ونزل دار الإمارة، وظفر بعبد الملك فحبسه فانكدر حتى مات. وحبس معه أخاه المخلوع أبا الحرث منصور، وأخويه الآخرين إسماعيل ويوسف ابني نوح، وأعمامه محمودا وداود وغيرهم. وانقرضت دولة بني سامان والبقاء للَّه.
(ثورة إسماعيل الى بخارى ورجوعه عنها)
قد تقدّم لنا أنّ إسماعيل فرّ من محبسه ولحق بخوارزم، واجتمع إليه قوّادهم وبايعوه ولقّبوه المستنصر. وبعث قائدا من أصحابه إلى بخارى ففرّ من كان بها من عساكر ايلك خان فهزمهم، وقتل منهم وحبس. وكان النائب بها جعفر تكين أخي ايلك خان فحبسه، واتبع المنهزمين إلى سمرقند، ولحق إسماعيل بأحياء الغزّ، وجمعوا عليه.
ابن خلدون م 33 ج 4(4/513)
وجاء ايلك خان في جيوشه، والتقوا فانهزم ايلك خان وأسروا قوّاده، وغنموا سواده ورجعوا إلى بلادهم. وتشاوروا في الأسرى فارتاب بهم إسماعيل، وعبر النهر وانضمّت إليه فتيان سمرقند. واتصل الخبر بايلك خان فجمع والتقى هو وإسماعيل وهزمه بنواحي أسروشنة، وعبر النهر إلى نواحي الجوزجان. ثم إلى مرو، وبعث محمود العساكر في أثره من خراسان، وكذلك قابوس من جرجان فعاد إلى ما وراء النهر وقد ضجر أصحابه، ونزل بحيّ من العرب فأمهلوه الليل وقتلوه. واستقرّت بخارى في ملك ايلك خان، وولّى عليها أخوه علي تكين.
(عبور ايلك خان الى خراسان)
قد تقدم لنا ما كان انعقد بين ايلك خان ومحمود من المواصلة. ثم دبّت عقارب السعاية بينهما، وأكثر محمود من غزو بلاد الهند. ولمّا سار إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة في خراسان وبعث سباسي تكين صاحب جيشه وأخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء وأرسلان الحاجب. فسار أرسلان إلى غزنة وملك سباسي هراة وأقام بها، وبعث إلى نيسابور عسكرا فاستولى عليها وبادر محمود بالرجوع من الهند، وفرّق العطايا وأزاح العلل واستنفر الأتراك الخلنجيّة. وسار إلى جعفر تكين ببلخ ففارقها إلى ترمذ، وبعث العساكر إلى سباسي بهراة، ففارقها إلى مرو ليعبر النهر، فاعترضه التركمان فأوقع بهم، وسار إلى أبيورد والعساكر في اتباعه. ثم سار إلى خراسان فاعترضه محمود وهزمه، وأسر أخاه وجماعة من قوّاده، وعبر النهر إلى ايلك، وأجلى عساكره وأصحابه عن خراسان، فبعث ايلك خان إلى قراخان ملك الختّل، فاستنفر الترك الغزّية والخلنجيّة والهنود، وعسكر على فرسخين من بلخ، وتقدّم ايلك وقراخان في عساكرهما، ونزلوا قبالته، واقتتلوا يوما إلى الليل، ومن الغد اشتدّت الحرب ونزل الصبر. ثم حمل محمود في الفيلة على ايلك خان في القلب، فاختلّ المصاف، وانهزم الترك، واتبعهم عساكر محمود وأثخنوا فيهم القتل والأسر إلى أن عبر النهر، وانقلب ظافرا غانما وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.(4/514)
(وفاة ايلك خان وولاية أخيه طغان خان)
ثم هلك ايلك خان سنة ثلاث وأربعمائة وكان مواليا للسلطان محمود ومظاهرا له على أخيه طغان خان. فلما ولي تجدّد ما بينه وبين السلطان من الولاية، وصلحت الأحوال وانمحت آثار الفتنة في خراسان وما وراء النهر.
(وفاة طغان خان وولاية أخيه أرسلان خان)
ثم توفي طغان خان ملك الترك سنة ثمان وأربعمائة بعد أن كان له جهاد خرجوا من الصين في زهاء ثلاثمائة ألف وقصدوا بلاده في ساعون [1] وهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان طوائف المسلمين وغيرهم، واستقبلهم فهزمهم، وقتل منهم نحو مائة ألف وأسر مثلها، ورجع الباقون منهزمين. ومات طغان إثر ذلك، وولي بعده أخوه أرسلان.
وكان من الغريب الدال على قصد إيمان طغان، أنه كان عند خروج الترك إلى بلاساغون عليلا، فلمّا بلغه الخبر تضرّع للَّه أن يعافيه حتى ينتقم من هؤلاء الكفرة ويدفعهم عن البلاد، فاستجاب الله دعاءه. وكان محبا لأهل العلم والدين. ولما توفي واصل أرسلان خان الولاية مع السلطان محمود، وأصهر إلى ابنه مسعود في بعض كرائمه فاستحكم الاتصال بينهما.
(انتقاض قراخان على أرسلان وصلحه)
كان أرسلان خان قد ولّى على سمرقند قراخان يوسف بن بقراخان هارون الّذي ملك بخارى، فانتقض عليه سنة تسع وأربعمائة وكاتب السلطان محمود صاحب خراسان يستظهر به على أرسلان خان فعقد السلطان على جيحون جسرا من السفن محكمة
__________
[1] بلاساغون: ابن الأثير ج 9 ص 297.(4/515)
الربط بسلاسل الحديد وعبر إليه. ثم خام عن لقائه فعاد إلى خراسان، وانقطعت الموالاة بينه وبين أرسلان خان، وتصالح مع قراخان واتفقا على محاربة السلطان محمود، والمسير إلى بلاده، فسار إلى بلخ، وقاتلهما السلطان قتالا شديدا حتى انهزم الترك، وعبروا النهر إلى بلادهم، وكان من غرق أكثر ممن نجا وعبر السلطان في أثرهم
(أخبار قراخان)
الّذي يظهر من كلام ابن الأثير: أن قراخان ولي بلاد الترك بتركستان وبلاساغون، فإنه ذكره عقب هذا الخبر بالعدل وحسن السيرة وكثرة الجهاد. ثم قال عقب كلامه:
فمن فتوحاته ختن بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء. ثم قال: وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها. ولمّا توفي خلّف ثلاثة بنين:
أرسلان خان وكنيته أبو شجاع ولقبه شرف الدولة، وبقراخان، ولم يذكر الثالث.
والظاهر أنه شرف الدولة. قال: وكان لأرسلان كاشغر وختن وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان عادلا مكرّما للعلماء وأهل الدين، محسنا لهم. وقصده كثير منهم فأكرمهم. قال: وكان لبقراخان طراز وأسبيجاب، ووقعت الفتنة بين بقراخان وأرسلان فغلبه بقراخان وحبسه وملك بلاده. وقال في موضع آخر: كان يقنع من إخوته وأقاربه بالطاعة فقسّم البلاد بينهم، وأعطى أخاه أرسلان تكين كثيرا من بلاد الترك، وأعطى أخاه طراز وأسبيجاب، وأعطى عمّه طغان خان فرغانة بأسرها، وأعطى ابنه علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما. وقنع هو ببلاساغون وكاشغر.
قال: وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة أسلم كثير من كفّار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر، ويعيثون فيها ويصيّفون ببلاد بلغار فأسلموا وافترقوا في البلاد، وبقي من لم يسلم، التتر والخطا في نواحي الصين انتهى. ورجع إلى بقراخان الأوّل وقال فيه حبس أخاه أرسلان خان وملك بلاده. ثم عهد بالملك لولده الأكبر واسمه حسين جعفر تكين. وكان له ولد آخر أصغر من حسين اسمه إبراهيم، فغارت أمّه لذلك، وقتلت بقراخان بالسم، وخنقت أخاه أرسلان في محبسه. ثم استلحمت وجوه أصحابه وأمرائه، وملكت ابنها إبراهيم سنة تسع وثلاثين(4/516)
وأربعمائة وبعثته في العساكر إلى برسخان، مدينة بنواحي تركستان، وكان صاحبها يسمّى نيال تكين. فانهزم إبراهيم وظفر به نيال تكين وقتله. واختلف أولاد بقراخان وفسد أمرهم، وقصدهم طقفاج خان صاحب سمرقند وفرغانة، فأخذ من أولاد بقراخان الملك من أيديهم [1] .
(الخبر عن طقفاج خان وولده)
كان بسمرقند وفرغانة أيام بني بقراخان وإخوته ملك من الترك الخانية اسمه نصر ايلك، ويلقّب عماد الدولة ويكنّى أبا المظفّر. ثم فلج سنة اثنتين وأربعمائة ومات، وقد عهد بملكه لابنه شمس الدولة نصر، فقصده أخوه طغان خان ابن طقفاج وحاصره بسمرقند وبيّته شمس الدولة فهزمه وظفر به. وكان ذلك في حياة أبيهما. ثم جاء بعد مماته إلى محاربة شمس الدولة بقراخان هارون بن قدرخان يوسف وطغرك خان، وكان طقفاج قد استولى على ممالكها وحاصره بسمرقند، ولم يظفروا به ورجعوا عنه، وصارت أعمال الخانية كلّها في أيديهما، والأعمال المتاخمة لسيحون لشمس الدولة، والتخم بينهما خجندة. وكان السلطان آلب أرسلان قد تزوّج بابنة قدرخان، وكانت قبله زوجا لمسعود بن محمود بن سبكتكين. وتزوّج شمس الدولة بابنة آلب أرسلان شمس الملك، وذلك سنة خمس وستين وأربعمائة وملكها [2] ونقل ذخائرها إلى سمرقند. وخاف أهل بلخ منه فاستأمنوا إليه وخطبوا له فيها، لأن أرباس [3] آلب أرسلان سار إلى الجوزجان، وجاء إليها التكين، وولّى عليها وعاد إلى ترمذ فثار أهل بلخ بأصحابه وقتلوهم فرجع إليهم، وأمر بإحراق المدينة ثم عفا عنهم وصادر التجّار، وبلغ الخبر إلى آلب أرسلان فعاد من الجوزجان وسار في العساكر إلى
__________
[1] العبارة هكذا غير صحيحة والصواب: فأخذ الملك من ايدي أولاد بقراخان.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 77: «فقصد ترمذ أول ربيع الآخر، وفتحها ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها الى سمرقند» .
[3] كلمة أرباس زائدة ولا معنى لها وفي الكامل ج 10 ص 77: «وكان أياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان، فخاف أهل بلخ، فأرسلوا الى التكين يطلبون منه الأمان، فأمنهم، فخطبوا له فيها وورد إليها، فنهب عسكره شيئا من أموال الناس، وعاد الى ترمذ» .(4/517)
ترمذ في منتصف سنة خمس وستين واربعمائة فلقيه التكين وهزمه وغرق كثير من أصحابه في النهر. ثم استقامت الأمور للسلطان ملك شاه فسار إلى ترمذ سنة ست وستين وأربعمائة وحاصرها ورماها بالمنجنيق، وطمّ خندقها حتى استأمن أهلها واعتصم بقلعتها أخو التكين. ثم استأمن وأطلقه السلطان إلى أخيه. ثم سار ملك شاه إلى سمرقند ففارقها، وبعث أخوه السلطان في الصلح فأجابه وردّه إلى سمرقند.
ورجع السلطان إلى خراسان انتهى. قال ابن الأثير: ثم مات شمس الدولة وولّي بعده أخوه خضرخان. ثم مات خضرخان فولي بعده ابنه أحمد خان. وكان أحمد هذا أسره ملك شاه في سمرقند لما فتحها، ووكّل به جماعة من الديلم، فلقّن عنهم معتقدات الإباحة والزندقة. فلمّا ولّي أظهر الانحلال، فاعتزم جنده على قتله، وتفاوضوا في ذلك مع نائبة بقلعة قاشان، فأظهر العصيان عليه، فسار في العساكر وحاصر القلعة، وتمكّن جنده منه فقبضوا عليه ورجعوا به إلى سمرقند فدفعوه إلى القضاة وقتلوه بالزندقة. وولّوا مكانه مسعود خان ابن عمّه. قال ابن الأثير: وكان جدّه من ملوكهم وكان أصمّ. وقصده طغان خان بن قراخان صاحب طراز فقبله واستولى على الملك، وولّى على سمرقند أبا المعالي محمد بن محمد بن زيد العلويّ فوليها ثلاث سنين. ثم عصى عليه فحاصره وأخذه فقتله. ثم خرج طغان خان الى ترمذ فلقيه السلطان سنجر وظفر به وقتله، وأخذها منه عمرخان. وملك سمرقند ثم هرب من جنده إلى خوارزم فظفر به السلطان أحمد. وولي سمرقند محمد خان، وولي بخارى محمد تكين. وقال ابن الأثير في ذكر كاشغر وتركستان: إنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدرخان كما ذكرنا. ثم صارت لمحمود نورا خان صاحب طراز والشاش فملكها سنة وثلاثة أشهر، ثم مات، فولى بعده طغرا خان بن يوسف قدرخان، وملك بلاساغون وأقام ست عشرة سنة. ثم توفي فملك ابنه طغرل تكين شهرين. ثم جاء هارون بقراخان بن طقفاج ثورا خان وهو أخو يوسف طغرل خان فملك كاشغر، وقبض على هارون واستولى على ختن، وما يتصل به إلى بلاساغون، وأقام عشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي بعده أحمد بن أرسلان خان، وبعث إليه المستظهر بالخلع، ولقبه نور الدولة
.(4/518)
(مقتل قدرخان صاحب سمرقند)
قال ابن الأثير سنة خمس وتسعين وأربعمائة: ولمّا سار سنجر إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد، طمع قدرخان جبريل بن عمر صاحب سمرقند في خراسان، فخالف إليها سنجر بعد رجوعه إليها، وقد عظم الخلاف بين بركيارق وأخيه محمد.
وكان بعض أمراء سنجر اسمه كنذعري [1] يكاتب قدرخان ويغريه ويستحثّه إلى البلاد، فسار قدرخان إلى بلخ سنة سبع وتسعين وأربعمائة في مائة ألفا. وبادر سنجر إليها في ستة آلاف، فلمّا تقاربا لحق كنذعري بقدرخان، فبعثه إلى ترمذ وملكها.
وجاء الخبر إلى سنجر بأنّ قدرخان نزل قريبا من بلخ، وأنه خرج متصيّدا في ثلاثمائة فارس، فجرّد إليه عسكرا مع أميره برغش [2] فهزمهم، وجاء بكنذعري وقدرخان أسيرين. وقيل إنه وقع بينهما مصاف، وانهزم قدرخان وأسر فقتله سنجر، وسار إلى ترمذ فحاصرها حتى استأمن إليه كنذعري فأمّنه، ولحق بغزنة وكان محمد أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان نازلا بمرو فبعث عنه السلطان سنجر، وولّاه على سمرقند وهو من نسل الخانية مما وراء النهر، وأمّه بنت السلطان سنجر، وولي ملك شاه [3] دفع عن ملك آبائه فقصد مرو، وأقام بها، فلمّا قتل قدرخان ولّاه سنجر أعماله، وبعث معه العساكر الكثيرة فاستولى عليها، واستفحل ملكه. ثم انتقض عليه من أمراء الترك تيمور لنك، وجمع وسار إلى محمد خان بسمرقند وغيرها فاستنجد محمد خان بالسلطان سنجر فأنجده بالعساكر، وسار إلى تيمور لنك فهزمه وفضّ جموعه، ورجعت العساكر إليه.
__________
[1] كندغدي: ابن الأثير ج 10 ص 347.
[2] بزغش: ابن الأثير ج 10 ص 348.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 350: «في هذه السنة- 495- أحضر السلطان سنجر محمدا أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان من مرو، وملّكه سمرقند بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملك شاه، فدفع عن ملك آبائه، فقصد مرو.»(4/519)
(انتقاض محمد خان عن سنجر)
ثم بلغ السلطان سنجر سوء سيره محمد في رعيّته وإهماله لأوامر السلطان، فسار إليه سنة سبع وخمسمائة فخاف محمد خان غائلته، وبعث إلى الأمير قماج أعظم أمراء سنجر يعتذر ويسأله الصلح، فشرط عليه الحضور عند السلطان، فاعتذر بالخوف، وأنه يقف من وراء جيحون ويقبّل الأرض من لك فأجيب إلى ذلك، ووقفوا بعدوة النهر حتى وافى محمد خان بشرطه وسكنت الفتنة.
(استيلاء السلطان سنجر على سمرقند)
كان السلطان سنجر لما ملك سمرقند ولّى عليها أرسلان خان بن سليمان بقراخان داود فأصابه الفالج، واستناب ابنه نصر خان فوثب به أهل سمرقند وقتلوه. وتولّى كبر ذلك اثنان منهم أحدهما علويّ، وكان أبوه محمد المفلوج غائبا فعظم عليه، وبعث عن ابنه الآخر من تركستان فجاء وقتل العلويّ وصاحبه. وكان والد أرسلان خان قد بعث الى السلطان سنجر يستحثّه قبل قدوم ابنه الآخر فسار سنجر لذلك. فلمّا قدم إلى أبيه أرسلان وقتل قاتلي أخيه، بعث أرسلان إلى السلطان سنجر يعرّفه، ويسأله العود إلى بلده فغضب لذلك، وأقام أياما ثم جيء إليه بأشخاص واعترفوا بأنّ محمدا خان بعثهم لقتله فغضب، وسار إلى سمرقند فملكها عنوة، وتحصّن محمد خان ببعض الحصون حتى استنزله سنجر بالأمان بعد مدّة وأكرمه. وكانت بنته تحبّه، فبعثه إليها وأقام عندها. وولّى على سمرقند حسين تكين، ورجع إلى خراسان. ومات حسين تكين فولي بعده عليها محمود بن محمد خان أخا زوجته.
(استيلاء الخطا على تركستان وبلاد ما وراء النهر وانقراض دولة الخانية)
نقل ابن الأثير هذا الخبر عن اضطراب عنده فيه، على أنّ أخبار هذه الدولة الخانية(4/520)
في كتابه ليست جليّة ولا متّضحة، وأرجو إن مدّ الله في العمر أن أحقّق أخبارها بالوقوف عليها في مظان الصحّة وألخّصها مرتّبة، فإنّي لم أوفّها حقّها من الترتيب لعدم وضوحها في نقله. وحاصل ما قرّر في هذا الخبر من أحد طرقه أنه قال: إنّ بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاساغون وختن وطراز وغيرها مما بجوارها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية من الترك، وهم من نسل فراسياب ملكهم الأوّل المنازع لملوك الكينيّة من الفرس. وأسلم جدّهم الأوّل سبق قراخان. ويقال سبب إسلامه أنه رأى في منامه رجلا نزل من السماء، فقال له باللسان التركي ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة فأسلم في منامه، وأصبح مظهرا لإسلامه. ولما مات قام مقامه ابنه موسى واتصل الملك في عقبه إلى أرسلان خان بن محمد بن سليمان سبق فخرج عليه قدرخان في ملكه سنة أربع وتسعين وأربعمائة. واجتمع الترك عليه وكانوا طوائف فكان منهم القارغلية، وبقيّة الغزّ الذين عبروا إلى خراسان ونهبوها على ما مرّ. وكان لأرسلان ابن اسمه نصر خان، وفي صحابته شريف علويّ اسمه الأشرف محمد بن أبي شجاع السمرقنديّ، فحسّن له طلب الملك من أبيه وأطمعه فيه فقتلهما أرسلان. ثم وقعت بينه وبين القارغلية من الترك وحشة دعتهم إلى الانتقاض والعصيان، واستنجد بالسلطان سنجر فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ووصل إلى سمرقند وهرب القارغلية بين يديه. ثم عثر على رجّالة استراب بهم فقبض عليهم، وتهدّدهم فذكروا أنّ أرسلان خان وضعهم على قتله فرجع إلى سمرقند، وملك القلعة وبعث أرسلان أميرا إلى بلخ فمات بها. وقيل إنه اختراع منه، ووضع هذه الحكاية وسيلة لذلك. ثم ولّى السلطان سنجر على سمرقند قلج طمغاج، وهو أبو المعالي الحسن بن علي المعروف بحسين تكين، كان من أعيان بيت الخانية فلم تطل أيامه. ومات فولّى سنجر مكانه محمود ابن أخته، وهو ابن السلطان أرسلان فأقام ملكا عليها. وكان ملك الصين كوخان قد وصل إلى كاشغر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة في جيوش كثيفة. ومعنى كوبلسان أهل الصين أعظم، وخان سمة ملوك الترك. وكان أعور وكان يلبس لبسة ملوك الترك، وهو مانويّ المذهب. ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه طوائف الخطا من الترك، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين، وأقاموا في خدمة الخانية أصحاب تركستان فانضافوا إلى كوملك الصين وكثف جمعه بهم. وزحف إليه صاحب كاشغر، وهو الخان أحمد بن الحسين(4/521)
بجموعه فهزمه، وأقامت طوائف الخطا معه في تلك البلاد. وكان سبب خروجهم من الصين ونزولهم بلاساغون، أن أرسلان محمد كان يستنجد بهم ويجري عليهم الأرزاق والأقطاعات، وينزلهم مسالح في ثغوره. ثم استوحشوا منه ونفروا وطلبوا الرحلة إلى غير بلده، وارتادوا البلاد واختاروا منها بلد الساغون فساروا إليها وردّد عليهم أرسلان الغزو. ولما جاء كوخان ملك الصين صاروا في جملته حتى إذا رجع زحفوا إلى بلاد تركستان فملكوها بلدا بلدا. وكانوا إذا ملكوا المدينة يأخذون دينارا من كل بيت ولا يزيدون عليه، ويكلّفون من يطيعهم من الملوك أن يعلّق في منطقته لوحا من فضّة علامة على الطاعة. ثم ساروا إلى بلاد ما رواء النهر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ولقيهم محمود خان بن أرسلان خان فهزموه إلى سمرقند وبخارى، واستنجد بالسلطان سنجر ودعاه لنصر المسلمين، فجمع العساكر واستنجد صاحب سجستان ابن خلف والغوريّ صاحب غزنة، وملوك ما وراء النهر وغيرهم. وسار للقائهم وعبر النهر في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وشكا إليه محمود من القارغلية، فأراد أخذهم فهربوا إلى كوخان، وسألوه أن يشفع لهم عند السلطان سنجر، وكتب إليه يشفع لهم فلم يشفعه. وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويتهدّده.
ولمّا بلغ الكتاب إلى كوخان عاقب الرسول، وسار للقاء سنجر في أمم الترك والخطا والقارغلية، فلقيه السلطان سنجر أوّل صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة وعلى ميمنته قماج وعلى ميسرته صاحب سجستان، وأبلى ذلك اليوم وساء أثر القارغلية في تلك الحرب، وانهزم السلطان سنجر والمسلمون، واستمرّ القتل فيهم. وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان ابنة أرسلان خان محمد، وأطلقهم الكفّار.
ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أفحش قتلا. واستقرّت الدولة فيما وراء النهر للخطأ والترك، وهم يومئذ على دين الكفر، وانقرضت دولة الخانية المسلمين الذين كانوا فيها. ثم هلك كوخان منتصف سبع وثلاثين وكان جميلا حسن الصوت، ويلبس الحرير الصيني، وكان له هيبة على أصحابه ولا يقطع أحدا منهم خوفا على الرعية من العسف. ولا يقدّم أميرا على فوق مائة فارس خشية أن تحدّثه نفسه بالعصيان. وينهى عن الظلم وعن السكر ويعاقب عليه. ولا ينهي عن الزنا ولا يقبّحه.
ولما مات ملكت بعده ابنته وماتت قريبا فملكت بعدها أمّها زوجة كوخان، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه علاء الدين محمد بن خوارزم شاه صاحب(4/522)
دولة الخوارزميّة سنة اثنتي عشرة وستمائة على ما يأتي في أخبار دولتهم.
(إجلاء القارغلية من وراء النهر)
لما ملك ما وراء النهر سمرقند وبخارى جقري خان بن حسين تكين من بيت الخانية، وأمره سنة تسع وخمسين وخمسمائة بإجلاء الترك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وإلزامهم الفلاحة ومجانبة حمل السلاح فامتنعوا من ذلك. وألحّ عليهم جقري خان فامتنعوا واجتمعوا لحربه. وسار إلى بخارى فبعث إليهم بالوعظ في ذلك والوعد الجميل بخلال ما جمع بقراخان، وكبسهم على بخارى فانهزموا، وأثخن فيهم وقطع دابرهم وأجلاهم عن نواحي سمرقند، وصلحت تلك النواحي والله أعلم.
(الخبر عن دولة الغورية القائمين بالدولة العباسية بعد بني سبكتكين وما كان لهم من السلطان والدولة وابتداء أمرهم ومصاير أحوالهم)
كان بنو الحسين أيام سبكتكين ملوكا على بلاد الغور لبني سبكتكين وكانت لهم شدّة وشوكة. وكان منهم لآخر دولة بني سبكتكين أربعة أمراء قد اشتهروا واستفحل ملكهم: وهم محمد وشوري والحسين شاه وسام بنو الحسين، ولا أدري إلى من ينسب الحسين وأظنّهم إلى بهرام شاه آخر ملوك بني سبكتكين، والتحم به فعظم شأنه. ثم كانت الفتنة بين بهرام وأخيه أرسلان فمال محمد إلى أرسلان، وارتاب به بهرام لذلك. ثم انقضى أمر أرسلان، وسار محمد بن الحسين في جموعه إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، موريا بالزيارة وهو يريد الغدر به، وشعر بذلك بهرام فحبسه ثم قتله، واستوحش الغورية لذلك.(4/523)
(مقتل محمد بن الحسين الغوري وولاية أخيه الحسين شاه ثم أخيه شوري)
ولما قتل محمد ولي من بعده أخوه شاه بن الحسين. ثم كانت الوقعة. وملك بعده أخوه شوري بن الحسين، وأجمع الأخذ بثأر أخيه من بهرام شاه فجمع له، وسار إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فملكها، وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند فجمع عسكره التي هناك، ورجع إلى غزنة وعلى مقدّمته السلّار بن الحسين، وأمير هندوخان [1] إبراهيم العلويّ. وسار شوري للقائه فانفضّ عنه عسكر غزنة إلى بهرام شاه فانهزم وأسره بهرام، ودخل غزنة في محرّم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وصلب شوري [2] على باب غزنة واستقرّ في ملكه.
(مقتل شوري بن الحسين وولاية أخيه علاء الدين ابن الحسين واستيلاؤه على غزنة وانتزاعها منه)
لما هلك شوري بن الحسين ملك الغور من بعده أخوه الحسين، ويلقّب علاء الدولة.
واستولى على جبال الغور ومدينة بيروزكوه [3] المجاورة لأعمال غزنة من بلاد الهند، وهي تقارب في اتساعها بلاد خراسان فاستفحل ملكه، وطمع في ملك خراسان وسار إلى هراة باستدعاء أهلها، فحاصرها ثلاثا ثم ملكها بالأمان وخطب فيها للسلطان سنجر. وسار إلى بلخ وبها الأمير قماج من قبل السلطان سنجر، فغدر به أصحابه، فملك علاء الدولة بلخ، وسار إلى السلطان سنجر وقاتله وظفر به فأسره.
ثم خلع عليه وردّه إلى بيروزكوه. ثم سار علاء الدين يريد غزنة سنة سبع وأربعين وخمسمائة ففارقها صاحبها بهرام شاه، وملكها علاء الدولة، وأحسن السيرة واستخلف عليهم أخاه سيف الدولة، وعاد إلى بلاد الغور، فلما جاء فصل الشتاء
__________
[1] أمير هندوستان: ابن الأثير ج 11 ص 135.
[2] سوري: المرجع السابق.
[3] فيروزكوه: ابن الأثير ج 11 ص 164.(4/524)
وسدّ الثلج المسالك، كتب أهل غزنة إلى بهرام شاه واستدعوه، فلمّا وصل وثبوا بسيف الدولة وصلبوه. وبايعوا لبهرامشاه وملّكوه عليهم كما كان.
(انتقاض شهاب الدين وغياث الدين على عمهما علاء الدولة)
لما استفحل أمر علاء الدولة واستفحل ملكه استعمل على البلاد العمّال وكان فيمن ولاه بلاد الغور ابنا أخيه سالم بن الحسين، وهما غيّاث الدين وشهاب الدين، فأحسنا السيرة في عملهما، ومال إليهما الناس، وكثرت السعاية فيهما عند عمّهما بأنهما يريدان الوثوب فبعث عنهما فامتنعا، فجهّز إليهما العساكر فهزماها وأظهرا عصيانه، وقطعا خطبته فسار إليهما فقاتلاه قتالا شديدا حتى انهزم فاستأمن إليهما فأجلساه على التخت، وقاما بخدمته. وزوّج بنته غيّاث الدين منهما [1] وبقي مستبدّا على عمّه علاء الدولة، ثم عهد إليه بالأمر من بعده ومات.
(وفاة علاء الدولة وولاية غياث الدين ابن أخيه من بعده وتغلب الغز على غزنة)
ثم توفي علاء الدولة ملك الغورية سنة ست وخمسين، وقام بالأمر من بعده ببيروز كوه غيّاث الدين أبو الفتح ابن أخيه سالم، وطمع الغز بموته في ملك غزنة فملكوها من يده، وبقي غياث الدين في كرسيه ببيروز كوه وأعمالها، وابنه سيف الدين محمد في بلاد الغور. ثم أساء السيرة الغز في غزنة بعد مقامهم فيها خمس عشرة سنة، واستفحل أمر غياث الدين فسار إلى غزنة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في عساكر الغوريّة والخلخ والخراسانية ولقي الغزّ فهزمهم وملك غزنة من أيديهم. وسار إلى كرمان وشنوران فملكهما، وكرمان هذه بين غزنة والهند وليست كرمان المعروفة. ثم سار غيّاث الدين إلى لهاور ليملكها من يد خسرو شاه بن بهرام، فبادر خسرو شاه إلى نهر المدّ
__________
[1] العبارة غير صحيحة والصواب: وزوّج غيّاث الدين أحدهما بنتا له.(4/525)
ومنعه العبور منه، فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعماله الأثغار، وولّى غزنة أخاه شهاب الدين ورجع إلى بيروز كوه.
(استيلاء شهاب الدين الغوري على لهاور ومقتل خسرو شاه صاحبها)
ولما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم، وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه، وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه، فسار سنة تسع وسبعين وخمسمائة في عسارك خراسان والغور وعبر إليها وحاصرها، وبذل الأمان لخسروشاه وأنكحه ابنته وسوّغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لأخيه فأبى من ذلك، وبقي شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه بالحصار.
وخذله أهل البلد، فبعث بالقاضي والخطيب يستأمنان له فأمّنه ودخل شهاب الدين البلد، وبقي خسرو شاه عنده مكرّما، وبعد شهرين وصل الأمر من غيّاث الدين بإنفاذ خسرو شاه إليه، فارتاب من ذلك فأمنه شهاب الدين، وحلف له وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم، فلمّا وصلوا بلاد الغور حبسهم غيّاث الدين ببعض قلاعه، فكان آخر العهد به وبابنه.
(استيلاء غياث الدين على هوّارة وغيرها من خراسان)
ولما استقرّ ملك غيّاث الدين بلهاور كتب إلى أخيه شهاب الدين الّذي تولّى فتحها أن يقيم الخطبة له، ويلقّبه بألقاب السلطان، فلقّبه غياث الدنيا والدين معين الإسلام والمسلمين، قسيم أمير المؤمنين. ولقّب أخاه شهاب الدين بعزّ الدين. ثم لما فرغ شهاب الدين من أمور لهاور وسار إلى أخيه غيّاث الدين ببيروز كوه واتفق رأيهما على المسير إلى هراة من خراسان سار في العساكر فحاصرها، وبها عسكر السلطان سنجر وأمراؤه فاستأمنوا إليهما، وملكا هراة. وسار إلى بوشنج فملكها، ثم إلى باذغيس كذلك. وولّى غياث الدين على ذلك وعاد إلى بيروزكوه وشهاب الدين إلى غزنة ظافرين غانمين
.(4/526)
(فتح أجرة على يد شهاب الدين)
لما عاد شهاب الدين إلى غزنة راح بها أياما حتى استراحت عساكره. ثم سار غازيا إلى بلاد الهند سنة سبع وأربعين وخمسمائة وحاصر مدينة أجرة وبها ملك من ملوكهم فلم يظفر منه بطائل، فراسل امرأة الملك في أنه يتزوّجها إذا ملك البلد، فأجابت بالعذر، ورغبت في ابنتها فأجاب فقتلت زوجها بالسمّ وملّكته البلد، فأخذ الصبية وأسلمت، وحملها إلى غزنة ووسّع عليها الجراية، ووكّل بها من يعلّمها القرآن حتى توفت والدتها، وتوفت هي من بعدها لعشر سنين، ولما ملك البلد سار في نواحي الهند فدوّخها، وفتح الكثير منها، وبلغ منها ما لم يبلغه أحد قبله.
(حروب شهاب الدين مع الهنود وفتح دهلي وولاية قطب الدين أيبك عليها)
ولما اشتدّت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند، تراسل ملوكهم وتلاوموا بينهم وتظاهروا على المسلمين، وحشدوا عساكرهم من كل جهة، وجاءوا بقضهم وقضيضهم في حكم امرأة ملكت عليهم، وسار هو في عساكره من الغوريّة والخلخ والخلنجية والخراسانية وغيرهم، والتقوا فمحّص الله المسلمين وأثخن فيهم الكفرة بالقتل. وضرب شهاب الدين في يده اليسر فشلّت، وعلى رأسه فسقط عن فرسه، وحجز بينهم الليل وحمله جماعة من غلمانه إلى منجاته ببلده. وسمع الناس بنجاته فتباشروا ووفدوا عليه من كل جهة، وبعث إليه أخوه غياث الدين بالعساكر، وعذله في عجلته. ثم ثارت الملكة ثانيا إلى بلاد شهاب الدين بالعساكر، وبعثت إلى شهاب الدين بالخروج عن أرض الهند إلى غزنة، فأجاب إلى ذلك بعد أن يستأذن أخاه غياث الدين وينظر جوابه. وأقاموا على ذلك وقد حفظ الهنود مخاضات النهر بينهم وهو يحاول العبور فلا يجد، وبينما هو كذلك جاءه بعض الهنود، فدلّه على مخاضة فاستراب به حتى عرفه قوم من أهل أجرة والملتان. وبعث الأمير الحسن بن(4/527)
حرميد الغوري في عسكر كثيف، وعبر تلك المخاضة ووضع السيف في الهنود فأجفل الموكّلون بالمخاضات. وعبر شهاب الدين وباقي العساكر وأحاطوا بالهنود، ونادوا بشعار الإسلام فلم ينج منهم إلّا الأقل، وقتلت ملكتهم وأسروا منهم أمما. وتمكّن شهاب الدين بعدها من بلاد الهند وحملوا له الأموال وضربت عليهم الجزية فصالحوه وأعطوه الرهن عليها. وأقطع قطب الدين أيبك مدينة دلهي، وهي كرسي الممالك التي فتحها، وأرسل عسكرا من الخلخ مختارين ففتحوا من بلاد الهند ما لم يفتحه أحد، حتى قاربوا حدود الصين من جهة الشرق، وذلك كله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
(مقتل ملك الغور محمد بن علاء الدين)
قد تقدّم لنا أن محمد بن علاء الدين ملك الغور بعد أبيه، وأقام مملكا عليها. ثم سار سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بعد أن احتفل في الاحتشاد وجمع العساكر، وقصد بلخ وهي يومئذ للغزّ فزحفوا إليه. وجاءهم بعض العيون بأنه خرج من معسكره لبعض الوجوه في خفّ من الجند، فركبوا لاعتراضه، ولقوة فقتلوه في نفر من أصحابه، وأسروا منهم آخرين، ونجا الباقون إلى المعسكر فارتحلوا هاربين إلى بلادهم، وتركوا معسكرهم بما فيه فغنمه الغزّ وانقلبوا إلى بلخ ومروا ظافرين غانمين.
(الفتنة بين الغورية وبين خوارزم شاه على ما ملكوه من بلاد خراسان)
قد تقدّم لنا أنّ غيّاث الدين وشهاب الدين ابني أبي الفتح سام بن الحسين الغوري رجعا إلى خراسان سنة سبع وأربعين وخمسمائة فملكا هراة وبوشنج وباذغيس وغيرها. وذلك عند انهزام سنجر أمام الغزّ، وافترق ملكه بين أمرائه ومواليه فصاروا طوائف، وأظهرهم خوارزم شاه بن أنس بن محمد بن أنوشتكين صاحب خوارزم.
فلما كان سنة خمس وسبعين وخمسمائة قام بأمره ابنه سلطان شاه، ونازعه أخوه علاء الدين تكين فغلبه على خوارزم. وخرج سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغزّ. ثم(4/528)
أخرجوه منها فاستجاش بالخطا وأخرجهم من مرو وسرخس ونسا وأبيورد، وملكها جميعا، وصرف الخطا إلى بلادهم. وكتب إلى غيّاث الدين أن ينزل له عن هراة وبوشنج وباذغيس وما ملكه من خراسان وهدّده على ذلك فراجعه بإقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من خراسان، فامتعض لذلك سلطان شاه وسار إلى بوشنج فحاصرها وعاث في نواحيها. وجهز غيّاث الدين عساكره مع صاحب سجستان وابن أخته بهاء الدين سام بن باميان لغيبة أخيه شهاب الدين في الهند، فساروا إلى خراسان، وكان سلطان شاه يحاصر هراة فخام عن لقائهم ورجع إلى مرو، وعاث في البلاد في طريقه، وأعاد الكتاب إلى غيّاث الدين بالتهديد فاستقدم أخاه شهاب الدين من الهند، فرجع مسرعا، وساروا إلى خراسان. وجمع سلطان شاه جموعا ونزل الطالقان، وتردّدت الرسل بين سلطان شاه وغيّاث الدين حتى جنح إلى الصلح بالنزول له عن بوشنج وباذغيس، وشهاب الدين يجنح إلى الحرب، وغيّاث الدين يكفهم. وجاء رسول سلطان شاه لا تمام العقد، فقام شهاب الدين العلويّ وقال:
لا يكون هذا أبدا، ولا تصالحوه، وقام شهاب الدين ونادى في عسكره بالحرب، والتقدّم الى مروالروذ. وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه ودخل إلى مرو في عشرين فارسا، وبلغ الخبر إلى أخيه فسار لتعرّضه عن جيحون وسمع سلطان شاه بتعرّض أخيه له فرجع عن جيحون، وقصد غيّاث الدين فأكرمه وأكرم أصحابه، وكتب أخوه علاء الدين في ردّه إليه، وكتب إلى نائب هراة يتهدّده، فامتعض غيّاث الدين لذلك، وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير وشفيع له، ويطلب بلاده وميراثه من أبيه، ويضمن له الصلح مع أخيه سلطان شاه. وطلب منه مع ذلك أن يخطب له بخوارزم، ويزوّج أخته من شهاب الدين فامتعض علاء الدين لذلك، وكتب بالتهديد فسرّح غيّاث الدين جميع عساكره مع سلطان شاه إلى خوارزم شاه، وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده، فجمع عساكره وقام في انتظارهم، وسمع بذلك علاء الدين تكش، وهو زاحف للقاء أخيه سلطان شاه، وعساكر الغورية، فخشي أن يخالفوه إلى خوارزم وكرّ إليها راجعا. واحتمل أمواله وعبر إلى الخطا.
وقدّم فقهاء خوارزم في الصلح والصهر، ووعظه الفقهاء وشكوا إليه بأنّ علاء الدين يستجيش بالخطا، فإمّا أن تتخذ مرو كرسيّا لك فتمنعنا منهم، أو تصالحه، فأجاب إلى الصلح، وترك معاوضة البلاد ورجع إلى كرسيّه.
ابن خلدون م 34 ج 4(4/529)
(غزوة شهاب الدين الى الهند وهزيمة المسلمين بعد الفتح ثم غزوته الثانية وهزيمة الهنود وقتل ملكهم وفتح اجمير)
كان شهاب الدين قد سار سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة الى الهند، وقصد بلاد أجمير وتعرف بولاية السواك، واسم ملكهم كوكه، فملك عليهم مدينة تبرندة ومدينة أسرستي وكوه رام، فامتعض الملك وسار للقاء المسلمين ومعه أربعة عشر فيلا ولقيهم شهاب الدين في عساكر المسلمين، فانهزمت ميمنته وميسرته، وحمل على الفيلة فطعن منها واحدا، ورمي بحربة في ساعده فسقط عن فرسه. وقاتل أصحابه عليه فخلصوه وانهزموا، ووقف الهنود بمكانهم ولما أبعد شهاب الدين عن المعركة نزف من جرحه الدم فأصابه الغشي، وحمله القوم على أكتافهم في محفّة اتخذوها من اللبود ووصلوا به إلى لهاور. ثم سار منها إلى غزنة فأقام إلى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وخرج من غزنة غازيا لطلب الثأر من ملك الهند، ووصل إلى برساور [1] وكان وجوه عسكره في سخطة منه منذ انهزموا عنه في النوبة الأولى، فحضروا عنده واعتذروا ووعدوا من أنفسهم الثبات، وتضرّعوا في الصفح فقبل منهم، وصفح عنهم، وسار حتى انتهى إلى موضع المصاف الأوّل وتجاوزه بأربع مراحل، وفتح في طريقه بلادا.
وجمع ملك الهند وسار للقائه فكرّ راجعا الى أن قارب بلاد الإسلام بثلاث مراحل، ولحقه الهنود قريبا من بربر [2] فبعث شهاب الدين سبعين ألفا من عسكره لياتوا العدوّ من ورائهم، وواعدهم هو الصباح، وأسرى هو ليلة فصابحهم فذهلوا، وركب الملك فرسه للهروب فتمسّك به أصحابه، فركب الفيل واستماتت قومه عنده، وكثر فيهم القتل، وخلص إليه المسلمون فأخذوه أسيرا، وأحضروه عند شهاب الدين فوقف بين يديه وجذبوا بلحيته حتى قبّل الأرض. ثم أمر به فقتل ولم ينج من الهنود إلا الأقل. وغنم المسلمون جميع ما معهم وكان في جملة الغنائم الفيول. ثم سار شهاب الدين إلى حصنهم الأعظم وهو أجمير ففتحه عنوة، وملك جميع البلاد التي
__________
[1] برشاوور: ابن الأثير ج 12 ص 91
[2] مرنده: ابن الأثير ج 12 ص 92(4/530)
تقاربه، وأقطعها كلّها لمملوكه أيبك [1] نائبة في دلهي وعاد إلى غزنة.
(غزوة بناوس ومقتل ملك الهند ثم فتح بهنكر)
كان شهاب الدين ملك غزنة قد أمر مملوكه قطب الدين أيبك خليفته على دلهي أن يغزو بلاد الهند من ناحيته، فسار فيها ودوّخها وعاث في نواحيها. وسمع ملك بناوس [2] وهو أكبر ملوك الهند، وولايته من تخوم الصين إلى بلاد ملئوا طولا، ومن البحر الأخضر إلى عشرة أيام من لهاور عرضا وأهل تلك البلاد من أيام السلطان محمود مقيمون على إسلامهم، فاستنفر معه مسلمون كانوا في تلك البلاد، فسار إلى شهاب الدين سنة تسعين وخمسمائة والتقوا على ماحون [3] نهر كبير يقارب دجلة فاقتتلوا، ونزل الصبر. ثم نصر الله المسلمين واستلحم الهنود، وقتل ملكهم، وكثر السبي في جواريهم والأسرى من أبنائهم، وغنموا منهم تسعين فيلا. وهرب بقية الفيول وقتل بعضها. ودخل شهاب الدين بلاد بناوس، وحمل من خزائنها ألفا وأربعمائة حمل، وعاد إلى غزنة. ثم سار سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى بلاد الهند وحاصر قلعة بهنكر حتى تسلّمها على الأمان، ورتّب فيها الحامية. وسار إلى قلعة كواكير [4] ، وبينهما خمس مراحل يعترضها نهر كبير فحاصرها شهرا حتى صالحوه على مال يحملونه، فحملوا إليه حمل فيل من الذهب، فرحل عنهم إلى بلاد أبي رسود [5] فأغار ونهب وسبى وأسر، وعاد إلى غزنة ظافرا.
(استيلاء الغورية على بلخ وفتنتهم مع الخطا بخراسان)
كان الخطا قد غلبوا على مدينة بلخ وكان صاحبها تركيا اسمه ازبة [6] يحمل إليهم
__________
[1] هو قطب الدين أيبك
[2] بنارس: ابن الأثير ج 12 ص 105
[3] ماجون: ابن الأثير ج 12 ص 105
[4] قلعة كوالير: ابن الأثير ج 12 ص 121
[5] آي وسور: المرجع السابق.
[6] أزيه: المرجع السابق ص 134.(4/531)
الخراج كل سنة وراء النهر، فتوفي أزبة سنة أربع وتسعين وخمسمائة وكان بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود صاحب باميان من قبل خاله غيّاث الدين فسار إلى بلخ، وقطع الحمل للخطأ، وخطب لغياث الدين وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكفّار. فامتعض الخطا لذلك، واعتزموا على فتنة الغورية. واتفق أنّ علاء الدين تكش صاحب خوارزم بعث إليهم يغريهم ببلاد غيّاث الدين. وكان سبب ذلك أنه ملك الريّ وهمذان وأصفهان وما بينهما، وتعرّض لعساكر الخليفة، وطلب الخطبة والسلطنة ببغداد مكان ملوك السلجوقية، فبعث الخليفة يشكوه إلى غيّاث الدين يقبح فعله وينهاه عن قصد العراق، ويتهدّده بسلطان شاه وأخذ بلاده، فأنف من ذلك وبعث إلى الخطا يغريهم ببلاده، فجهّز ملك الخطا جيشا كثيفا مع مقدّم عساكره وعبروا النهر إلى بلاد الغور. وسار علاء الدين تكش إلى طوس لحصارها، لأنّ غياث الدين عاجز عن الحركة بعلّة النقرس، فعاثوا في بلاده ما شاء الله وحاصر الخطا بهاء الدين فاشتدّت الحرب وثبت المسلمون. وجاء المدد من عند غيّاث الدين، ثم حملوا جميعا على الخطا فهزموهم إلى جيحون وألقى الكثير منهم أنفسهم في الماء، فهلك منهم نحو اثني عشر ألفا، وعظم الأمر على ملك الخطا، وبعث إلى علاء الدين تكش صاحب خوارزم يطوقه الذنب ويطالبه بدية القتلى من أصحابه. والزمه الحضور عنده، فبعث علاء الدين تكش يشكو ذلك إلى غيّاث الدين فردّ جوابه باللوم على عصيان الخليفة، ودعا ذلك علاء الدين إلى الفتنة مع الخطا وانتزاعه بخارى من أيديهم كما يأتي في أخبارهم.
(استيلاء الغورية على ملك خوارزم شاه بخراسان)
ثم توفي علاء الدين تكش صاحب خوارزم وكان قد ملك بعض خراسان وبلاد الريّ والبلاد الجبالية، فولي بعده ابنه قطب الدين، ولقّب علاء الدين بلقب أبيه، وولّى علاء الدين أخاه علي شاه خراسان، وأقطعه نيسابور. وكان هندوخان ابن أخيهما ملك شاه فخاف عمه فلحق بمرو، وجمع الجموع وبعث إليه عمّه محمد العسكر مع(4/532)
جنقر التركي [1] فهرب هندوخان، ولحق بغياث الدين مستنجدا به على عمّه فأكرمه ووعده. ودخل جنقر إلى مرو، وحمل منها ولد خان وأمّه مكرّمين إلى خوارزم.
وأرسل غيّاث الدين إلى صاحب الطالقان محمد بن خربك [2] بأن يتهدد جنقر، فسار من الطالقان واستولى على مروالروذ [3] وبعث إلى جنقر يأمره بالخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارقها، فأساء الجواب ظاهرا، واستأمن إلى غيّاث الدين سرا، ولما علم غيّاث الدين بذلك قوي طمعه في البلاد، وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان، فسار من غزنة في عساكره في منتصف سنة ست وتسعين وخمسمائة ولما انتهى إلى الطالقان استحثّه جنقر صاحب مرو للبلد، وأخبره بطاعته حتى إذا وصل إليه خرج في العساكر فقاتله، وهزمه شهاب الدين، وزحف بالفيلة إلى السور فاستأمن جنقر وخرج إليه، وملك شهاب الدين مرو وبعث بالفتح إلى غياث الدين فجاء إلى مرو، وبعث جنقر إلى هراة مكرّما، وسلّم مرو إلى هندوخان ابن ملك شاه المستنجد به، وأوصاه بالإحسان إلى أهلها. وسار إلى سرخس فحاصرها ثلاثا وملكها على الأمان، وأرسل إلى علي شاه نائب علاء الدين محمد بنيسابور، وينذره الحرب إن امتنع من الطاعة فاستعدّ للحصار، وخرّبوا العمائر بظاهرها وقطعوا الأشجار، وحمل محمود بن غيّاث الدين فضايق البلد، وملك جانبها ورفع راية أبيه على السور. وحمل شهاب الدين من الناحية الأخرى، فسقط السور بين يديه وملك البلد ونهب الجند عامتها. ثم نادوا بالأمان ورفع النهب، واعتصم الخوارزميّون بالجامع فأخرجهم أهل البلد إلى غيّاث الدين. ثم سار إلى قهستان، فذكر له عن قرية في نواحيها أنّ أهلها إسماعيلية فدخلها وقتل المقاتلة وسبى الذريّة، وخرّب القرية. ثم سار إلى مدينة أخرى [4] ذكر له عنها مثل ذلك، وأرسل صاحب قهستان إلى غيّاث الدين يستغيثون من شهاب الدين ويذكرونه العهد، فأرسل غيّاث الدين إلى أخيه شهاب الدين بالرجوع عنهم طوعا أو كرها.
__________
[1] جقر التركي: ابن الأثير ج 12 ص 157
[2] محمد بن جربك: المرجع السابق.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 158: «فأخذ مروالروذ، والخمس قرى وتسمّى بالفارسية بنج ده، وأرسل الى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين.»
[4] هي مدينة كناباد وكان جميع أهلها من الإسماعيلية(4/533)
ووصل الرسول بذلك فامتنع، فقطع طنب خيمته ورحل العسكر فرحل شهاب الدين كرها ورجع إلى غزنة.
(فتح نهر واكد [1] من الهند)
لما رجع شهاب الدين من خراسان غاضبا من فعل أخيه، لم يعرّج على غزنة، ودخل بلاد الهند غازيا سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وبعث في مقدّمته مملوكه قطب الدين أيبك، ولقيه عساكر الهند دون نهر واكد [1] فهزمهم أيبك، واستباحهم وتقدّم إلى نهر واكد فملكها عنوة، وفارقها ملكها وجمع، ورأى شهاب الدين أنه لا يقوم بحمايتها إلا مقامه فيها، فصالح ملكها على مال يؤدّيه إليه عنها، ورجع إلى غزنة.
(اعادة علاء الدين محمد صاحب خوارزم ما أخذه الغورية من خراسان)
لما فصل الغورية عن خراسان وملكوا ما ملكوه منها، وسار شهاب الدين إلى الهند غازيا، بعث علاء الدين محمد صاحب خوارزم إلى غيّاث الدين يعاتبه على ما فعل في خراسان، ويطلب إعادة بلده، ويهدّده باستدعاء عساكر الخطا، فصانعه في الخطا حتى قدم شهاب الدين فطمع بالمصانعة. وبعث إلى نائبهم بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور، ويتهدّده، فكتب إلى غيّاث الدين بذلك، وبميل أهل نيسابور إلى عدوّهم، فوعده النصر. وسار إليه علاء الدين صاحب خوارزم آخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة. فلما انتهى إلى نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخيه، ولحق بغيّاث الدين في فيروزكوه وملك علاء الدين مدينة مرو وسار إلى نيسابور وحاصرها شهرين، فلما أبطأ عن نائبها المدد من غيّاث الدين استأمن لصاحب خوارزم، وخرج إليه هو وأصحابه فأحسن إليهم، وطلب علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه
__________
[1] نهر واله: ابن الأثير ج 12 ص 169.(4/534)
وبين غيّاث الدين وأخيه، فوعده بذلك، وسار إلى هراة فأقام بها ولم يمض إلى غياث الدين سخطه لتأخر المدد عنه. واختصّ صاحب خوارزم الحسن بن حرميل [1] من أعيان الغوريّة، واستحلفه أن يكون معه عند غيّاث الدين. ثم سار إلى سرخس وبها الأمير زنكي، فحاصره أربعين يوما، وتعدّدت بينهما حروب. ثم بعث ابنه زنكي بأن يتأخّر عن البلد قليلا حتى يخرج هو وأصحابه، فتأخّر بأصحابه، وخرج زنكي فشحن البلد بالأقوات والحطب، وأخرج من ضاق به الحصار. وتحصّن فندم صاحب خوارزم على تأخره، وجهّز عسكرا لحصاره ورجع. فلمّا بعد سار محمد بن خربك من الطالقان، وأرسل إلى زنكي بأن يكبس العسكر الّذي عليه. ونذر بذلك أهل العسكر، فأفرجوا عن سرخس. وخرج زنكي ولقي محمد بن خربك في مرو، وجبوا خراج تلك الناحية، وبعث إليهم صاحب خوارزم عسكرا من الثلاثة آلاف فارس فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فهزمهم، وغنم معسكرهم، وعاد صاحب خوارزم إلى بلده وأرسل إلى غيّاث الدين في الصلح فأجابه مع أمير من أكابر الغوريّة اسمه الحسن بن محمد المرغنيّ فقبض عليه صاحب خوارزم وحبسه. ومرغن من قرى الغور.
(حصار هراة)
لما بعث صاحب خوارزم إلى غياث الدين في الصلح وجاء عند الحسن المرغني تبين عنه المغالطة فحبسه، وسار إلى هراة وحاصرها، وكان بها أخوان من خدمة السلطان شاه تكش، فكتبا إلى صاحب خوارزم ووعداه بالثورة له في البلد، وكانا يليان مفاتح الأبواب وأمور الحصار في داخل، فأطلع الأمير الحسن المرغني المحبوس عند صاحب خوارزم على أمرهما، فبعث إلى أخيه بذلك عمر صاحب هراة [2] فاعتقلهما. وبعث غيّاث الدين العساكر مددا لهراة مع ابن أخته ألب غازي فنزل على خمسة فراسخ منها، ومنع المسيرة عن عسكر صاحب خوارزم فبعث صاحب
__________
[1] الحسين بن خرميل: ابن الأثير ج 12 ص 174.
[2] هكذا بالأصل وتصويب العبارة: فبعث بذلك إلى أخيه عمر صاحب هراة فاعتقلهما.(4/535)
خوارزم عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها، فقاتلهم الحسن بن خربك فظفر بهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم سار غيّاث الدين في عساكره ونزل قريبا من هراة، فاعتزم صاحب خوارزم على الرحيل بعد حصار أربعين يوما لهزيمة أصحابه بالطالقان، ومسير العساكر مع ألب غازي، ثم مسير غيّاث الدين. ثم توقعه عود شهاب الدين من الهند. وكان قد وصل إلى غزنة منتصف ثمان وتسعين وخمسمائة فراسل أمير هراة وصالحه على مال حمله إليه، وارتحل عن البلد وبلغ الخبر شهاب الدين، وجاء إلى طوس وشتّى بها عازما على حصار خوارزم، فجاء الخبر بوفاة أخيه غيّاث الدين، فأثنى عزمه وسار إلى هراة.
(وفاة غياث الدين وانفراد شهاب الدين بالملك)
ثم توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام صاحب غزنة وبعض خراسان وفيروزكوه ولهاوور ودهلي [1] من الهند وكان أخوه شهاب الدين بطوس كما ذكرنا فسار إلى هراة، وأظهر وفاة أخيه، وجلس للعزاء، وخلف غيّاث الدين ابنا اسمه محمود، فلقّب غيّاث الدين. ولما سار شهاب الدين عن طوس استخلف مرو الأمير محمد بن خربك، وبعث إليه صاحب خوارزم العساكر، فبيّتهم ولم ينج منهم إلا القليل، وأنفذ بالأسارى والرءوس إلى هراة وأعاد إليه صاحب خوارزم الجيوش مع منصور التركيّ، فلقيهم على عشرة فراسخ من مرو فهزموه وحاصروه خمسة عشر يوما حتى استأمن إليهم وخرج فقتلوه. وتردّدت الرسل بين شهاب الدين وصاحب خوارزم في الصلح فلم يتفق بينهما أمر. ولما اعتزم شهاب الدين على العود إلى غزنة ولّى على هراة ابن أخته ألب غازي وقلّد علاء الدين محمد الغوري مدينة فيروز كوه وبلد الغور، وجعل إليه حرب خراسان وأمور المملكة. وجاءه محمود ابن أخيه غيّاث الدين فولّاه على بست وأسفراين [2] وتلك الناحية وبعده عن الملك جملة. وكانت لغياث الدين
__________
[1] لهاور ولوهور: معجم البلدان وتعرف اليوم باسم لاهور. أما دهلي فلا وجود لها وهي مدينة دلهي الشهيرة. وقد يكون هذا تحريف من الناسخ.
[2] أسفرار: ابن الأثير ج 12 ص 181 وفي معجم البلدان: أسفرايين، وقد مرّ ذكرها معنا من قبل.(4/536)
زوجة مغنّية شغف بها وتزوّجها، فقبض عليها شهاب الدين وضربها ضربا مبرحا وضرب ولدها غيّاث الدين وزوّج أختها واستصفاهم وغرّبهم إلى بلاد الهند. وكانت بنت مدرسة ودفنت فيها أباها [1] ، فخرّبها ونبش قبورهم ورمى بعظامهم. وكان غيّاث الدين ملكا عظيما مظفرا على قلّة حروبه، فإنه كان قليل المباشرة للحروب، وكان ذا هيبة جوادا حسن العقيدة، كثير الصدقة، بنى بخراسان وغيرها المساجد والمدارس للشافعيّة، وبنى الخوانك في الطرق، وبنى على ذلك الأوقاف الكثيرة، وأسقط المكوس، وكان لا يتعرّض إلى مال أحد، ومن مات ووارثه غائب دفعه إلى أمناء التجّار من أهل بلده ليوصلوه إلى ورثته، فإن لم يجد تاجرا ختم عليه القاضي إلى أن يصل مستحقّه. وإن كان لا وارث له تصدّق عنه بماله. وكان يحسن إلى أهل البلد إذا ملكها، ويفرض الأعطيات للفقهاء كل سنة من خزائنه، ويفرّق الأموال على الفقراء، ويصل العلويّة والشعراء. وكان أديبا بليغا بارع الخطّ ينسخ المصاحف ويفرّقها في المدارس التي بناها. وكان شافعيّ المذهب من غير تعصّب لهم، ويقول التعصّب في المذاهب هلاك.
فتنة الغورية مع محمد بن تكش صاحب خوارزم وحصار هراة ثم حصارهم خوارزم وحروب شهاب الدين مع الخطا
لما هلك غياث الدين ملك أخوه شهاب الدين بعده، فطمع محمد بن تكش صاحب خوارزم في ارتجاع هراة. وكان قد راسل شهاب الدين في الصلح فلم يتم.
وسار شهاب الدين عن غزنة إلى لهاور غازيا، فسار حينئذ محمد بن تكش إلى هراة منتصف سنة ستمائة، وحاصرها وكان بها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين. وطال حصارها إلى سلخ شعبان، وقتل بين الفريقين خلق منهم رئيس خراسان المقيم يومئذ بمشهد طوس. وكان الحسين بن حرميل من أعيان الغوريّة بجوربان [2] وهو إقطاعه، فمكر بصاحب خوارزم، وأظهر له الموالاة وأشار بأن يبعث إليه فوارس يعطيهم بعض
__________
[1] دفنت فيها أباها وأمها وأخاها فهدمها ونبش قبور الموتى ورمى بعظامهم منها: ابن الأثير ج 12 ص 181.
[2] كرزبان: ابن الأثير ج 12 ص 185.(4/537)
الفيلة. وقعد لهم هو والحسين بن محمد المرغني بالمراصد، فاستلحموهم. ثم مات ألب غازي وضجر صاحب خوارزم من الحصار. فارتحل إلى سرخس وحاصرها، وبلغت هذه الأخبار شهاب الدين ببلاد الهند، فكرّ راجعا وقصد مدينة خوارزم، فأغذ محمد بن تكش السير من سرخس، ونزل أثقاله وسبقه إليها وقاتله الخوارزميّة قتالا شديدا وفتكوا فيه. وهلك من الغوريّة جماعة منهم الحسين بن محمد المرغنيّ وأسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم. ثم بعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم أن يخالفوا شهاب الدين إلى بلاد الغوريّة فساروا إليها. ولما سمع شهاب الدين كرّ راجعا إلى البلاد، فلقي مقدّمة عسكرهم بصحراء أيدخوي [1] في صفر سنة إحدى وستمائة، فأوقع بهم وأثخن فيهم، وجاءت ساقتهم على أثر ذلك، فلم يكن له بهم قبل فانهزم، ونهبت أثقاله، وقتل الكثير من أصحابه، ونجا في الفلّ إلى أيدخوي وحاصروه حتى أعطاهم بعض الفيلة وخلص. وكثر الإرجاف في بلاد الغور بمهلكه، ووصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد لحق بها نائبها الحسين بن حرميل ناجيا من الوقعة، فاستكثر له من الزاد والعلوفة وكفاه مهمه. وكان مستوحشا مع من استوحش من الأمراء بسبب انهزامهم عن شهاب الدين، فحمله شهاب الدين إلى غزنة تأنيسا له، واستحجبه، ولما وقع الإرجاف بموت شهاب الدين جمع مولاه تاج الدين العسكر وجاء إلى قلعة غزنة طامعا في ملكها، فمنعه مستحفظها فرجع إلى إقطاعه، وأعلن بالفساد، وأغرى بالخلخ من الترك فكثر عيثهم. وكان له مولى. آخر اسمه أيبك فلحق بالهند عند نجاته من المعركة، وأرجف بموت السلطان واستولى على الملتان، وأساء فيها السيرة. فلما وصل خبر شهاب الدين جمع تاج الدين الذّر- وهو مملوك اشتراه شهاب الدين- الناس من سائر النواحي ثم جمع شهاب الدين لغزو الخطا والثأر منهم.
(حروب شهاب الدين مع بني كوكر والتفراهية [2] )
كان بنو كوكر هؤلاء موطنين في الجبال بين لهاور والملتان معتصبين بها لمنعتها، وكانوا
__________
[1] أندخوي: ابن الأثير ج 12 ص 186
[2] التيراهية: ابن الأثير ج 12 ص 211(4/538)
في طاعة شهاب الدين، يحملون إليه الخراج، فلمّا وقع الإرجاف بموته، انتقضوا وداخلوا صاحب جبل الجودي وغيره من أهل الجبال في ذلك وجاهروا بالعيث والفساد وقطع السابلة ما بين غزنة ولهاور وغيرها. وبعث شهاب الدين إلى محمد بن أبي علي بلهاوز والملتان يأمره بحمل المال بعد أن قتل مملوكه أيبك. قال: ومهّد البلاد فاعتذر بنو كوكر فبعث شهاب الدين مملوكه أيبك إلى بني كوكر يتهددهم على الطاعة، فقال كبيرهم: لو كان شهاب الدين حيّا لكان هو المرسل إلينا، واستخفوا أمر أيبك، فعاد الرسول بذلك، فأمر شهاب الدين بتجهيز العساكر في قرى سابور. ثم عاد إلى غزنة في شعبان سنة إحدى وستمائة ونادى بالمسير إلى الخطا. ورجع بنو كوكر الى حالهم من اخافة السابلة ودخل معهم كثير من الهنود في ذلك وخشي على انتقاض البلاد فأثنى عزمه عن الخطا وسار إلى غزنة، وزحف إلى جبال بني كوكر في ربيع الأوّل سنة اثنتين وستمائة ولما انتهى إلى قرى سابور أغذّ السير وكبس بني كوكر في محالهم، وقد نزلوا من الجبال إلى البسيط يرومون اللقاء، فقاتلوه يوما إلى الليل، وإذا بقطب الدين أيبك في عساكره منادين بشعار الإسلام فحملوا عليهم، وانهزموا وقتلوا بكل مكان. واستنجوا بأجمة فأضرمت عليهم نارا، وغنم المسلمون أهاليهم وأموالهم حتى بيع المماليك خمسة بدينار. وقتل كبير بني كوكر الّذي كان مملكا عليهم، وقصد دانيال صاحب الجند الجودي، وسار إليها فأقام بها منتصف رجب، وهو يستنفر الناس. ثم عاد نحو غزنة وأرسل بهاء الدين سام صاحب باميان بالنفير إلى سمرقند، وأن يتّخذ الجسر لعبور العساكر. وكان أيضا ممن دعاه هذا الإرجاف إلى الانتقاض التتراهية [1] وهم قوم من أهل الهند بنواحي قرى سابور، دينهم المجوسية ويقتلون بناتهم بعد النداء عليهنّ للتزويج، فإذا لم يتزوّجها أحد قتلوها، وتزوّج المرأة عندهم بعدّة أزواج. وكانوا يفسدون في نواحي قرى سابور، ويكثرون الغارة عليها، وأسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوريّ. ثم انتقضوا عند هذا الإرجاف وخرجوا إلى حدود سوران ومكران، وشنّوا الغارة على المسلمين فسار إليهم الخلخي [2] نائب
__________
[1] هي التيراهية. وقد مرّت من قبل التفراهية وهنا التتراهية وكل هذا تحريف. وكذلك بالنسبة الى باقي الأعلام فمعظمها يختلف من مرجع إلى آخر وهكذا يتعذر علينا ضبطها.
[2] الحلحي: ابن الأثير ج 12 ص 211(4/539)
تاج الدين الّذي بتلك الجهة، فأوقع بهم وأثخن فيهم وبعث برءوس الأعيان منهم فعلّقت ببلاد الإسلام وصلح أمر البلاد.
(مقتل شهاب الدين الغوري وافتراق المملكة بعده)
لما قضى شهاب الدين شأنه من بلاد الغور وأصلح ما كان بها من الفساد، ارتحل من لهاور عائدا إلى غزنة عازما على قصد الخطا بعد أن استنفر أهل الهند وأهل خراسان، فلما نزل بدميل قريبا من لهاور طرق خيمته جماعة من الدعّار فقتلوا بعض الحرس، وثار بهم الناس وذهل باقي الحرس بالهيعة فدخل منهم البعض على شهاب الدين وضربوه في مصلّاه وقتلوه ساجدا، وقتلوا عن آخرهم أوّل شعبان سنة اثنتين وستمائة.
فيقال إنّ هذه الجماعة من الكوكريّة الذين أحفظهم ما فعل بهم، ويقال من الإسماعيلية لأنهم كانوا غلّوا منه، وكانت عساكره تحاصر قلاعهم. ولما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيّد الدين خواجاسحتا [1] ، واتفقوا على حفظ المال إلى أن يقوم بالأمر من يتولّاه من أهله، وتقدّم الوزير إلى أمير العسكر بضبط العسكر، وحملت جنازة شهاب الدين في المحفّة، وحملوا خزائنه، وكانت ألفين ومائتي حمل. وتطاول الموالي مثل صونج صهر الذر [2] وغيره إلى نهب المال، فمنعهم الأمراء الكبار، وصرفوا الجند الذين أقطاعهم عند قطب الدين أيبك ببلاد الهند أن يعودوا إليه، وساروا إلى غزنة متوقّعين البيعة على الملك بين غيّاث الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وبين بهاء الدين سام صاحب باميان ابن أخت شهاب الدين فيملك الخزانة والأتراك يريدون طريق سوران ليقربوا من فارس. وكان هوى الوزير مؤيد الملك مع الأتراك، فلم يزل بالغوريّة حتى إذا وصلوا طريق كرمان ساروا عليها، ولقوا بها مشقة من غارات التتراهية واقعان وغيرهم. ولما وصلوا إلى كرمان استقبلهم تاج الدين الذر ونزل عن فرسه، وقبّل الأرض بين يدي المحفّة. ثم كشف عن وجهه فمزّق ثيابه وأجدّ بالبكاء حتى رحمه الناس. وكان شهاب الدين شجاعا قرما عادلا كثير الجهاد،
__________
[1] مؤيد الملك بن خوجا سجستان: ابن الأثير ج 12 ص 213.
[2] صونج صهر الدز: ابن الأثير ج 12 ص 214(4/540)
وكان القاضي بغزنة يحضر داره أربعة أيام في كل أسبوع، فيحكم بين الناس وأمراء الدولة ينفذون أحكامه، وإن رافع أحد خصمه إلى السلطان سمع كلامه وردّه إلى القاضي، وكان شافعيّ المذهب.
(قيام الذر بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين)
كان تاج الدين الذر من موالي شهاب الدين وأخصّهم به، فلما قتل طمع في ملك غزنة وأظهر القيام بدعوة غيّاث الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وأنه كتب إليه بالنيابة عنه بغزنة لشغله بأمر خراسان. وتسلّم الخزائن من الوزير وسار إلى غزنة فدفن شهاب الدين بتربته في المدرسة التي أنشأها، وذلك في شعبان من سنة اثنتين وستمائة وأقام بغزنة.
(مسير بهاء الدين سام الى غزنة وموته وملك بهاء الدين ابنه بعده غزنة)
كان بهاء الدين قد أقطع باميان ابن عمّه شمس الدين محمد بن مسعود عند ما ملكها، وأنكحه أخته فولدت ابنا وهو سام، وكان له ابن آخر من امرأة تركيّة اسمه عبّاس، فلما مات ملك ابنه الأكبر عبّاس، فغضب غيّاث الدين وشهاب الدين لابن أختهما، وعزلوا عبّاسا وولّوه مكانه على باميان، فعظم شأنه، وجمع الأموال، وترشّح للملك بعد أخواله لميل أمراء الغزّ إليه بعد أخواله. فلما قتل شهاب الدين كان في قلعة غزنة نائب اسمه أمير دان فبعث ابنه إلى بهاء الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وابن حرميل عامل هراة بحفظ أعمالها، وإقامة الخطبة له بها. والغوريّة والأتراك على ما ذكرناه من الاختلاف فسار في عساكره إلى غزنة ومعه ابنا علاء الدين وأمرهما جميعا بالمسير إلى غزنة، وبلاد الهند. فلما مات ثار ابناه في غزنة وخرج أمراء الغوريّة لغياث الدين وتلقوهما والأتراك معهم مغلبين فملكوا البلد، ونزلوا دار السلطنة مستهل رمضان من سنة اثنتين وستمائة، واعتزم الأتراك على(4/541)
منعهم، وعادلهم الأمير مؤيد الملك لاشتغال غيّاث الدين منهم بابن حرميل عامل هراة فلم يرجعوا، ونبذوا إلى علاء الدين وأخيه العهد وآذنوهما بالحرب إن لم يرجعا، فبعثا إلى تاج الدين الذر، وهو بإقطاعه يستدعيانه ويرغّبانه بالأموال والمراتب السلطانية والترغيب في الدولة.
(استيلاء الذر على غزنة)
كان الذر بكرمان لما بلغه مقتل شهاب الدين، تسلّم الأموال والخزائن من الوزير وأظهر دعوة غيّاث الدين ابن مولاه السلطان غيّاث الدين، وسار بهاء الدين سام من باميان كما ذكرنا، ومات في طريقه، وملك ابنه علاء الدين غزنة كما ذكرنا.
واستعطف الأتراك وبعث إلى الذر يرغّبه ويسترضيه فأبى من طاعته، وأساء الردّ عليه. وسار عن كرمان في عساكر كثيفة من الترك والخلخ والغزّ وغيرهم، وبعث إلى علاء الدين وأخيه بالنذير، فأرسل علاء الدين وزيره ووزير ابنه صلة إلى باميان وبلخ وترمذ ليحشد العساكر، وبعث الذر إلى الأتراك الذين بغزنة بأنّ مولاهم غيّاث الدين. واجتمعت جماعة الغوريّة والأتراك فالتقوا في رمضان، ونزع الأتراك إلى الذر فانهزم محمد بن حدرون وأسر. ودخل عسكر الذر المدينة فنهبوا بيوت الغوريّة والباميانيّة. واعتصم علاء الدين بالقلعة، وخرج جلال الدين في عشرين فارسا إلي باميان، وحاصر الذر القلعة حتى استأمن علاء الدين في المسير من غزنة إلى باميان.
ولما نزل من القلعة تعرّض له بعض الأتراك فأرجلوه عن فرسه وسلبوه، فبعث إليه الذر بالمال والمركب والثياب، فوصل إلى باميان، فشرع في الاحتشاد. وأقام الذر بغزنة يظهر طاعة غيّاث الدين، ويترحّم على شهاب الدين، ولم يخطب له ولا لأحد. وقبض على داود والي القلعة بغزنة، وأحضر القضاة والفقهاء، وكان رسول الخليفة مجد الدين أبو عليّ بن الربيع الشافعيّ مدرّس النظاميّة ببغداد، وفد على شهاب الدين رسولا من قبل الخليفة، وأحضره الذر ذلك اليوم، وشاورهم بالجلوس على التخت والمخاطبة بالألقاب السلطانية، وأمضى ذلك. واستوحش الترك حتى بكى الكثير منهم، وكان هناك جماعة من ولد ملوك الغور وسمرقند فأنفوا من خدمته، وانصرفوا إلى علاء الدين وأخيه في باميان، وأرسل غيّاث الدين محمود(4/542)
أن يصهر إليه في بنته بابنه فأبى من ذلك. ثم جاء في عسكر من الغوريّين من باميان، وأرسل غيّاث الدين وفرّق في أهلها الأموال، واستوزر مؤيد الملك فوزر له على كره.
(أخبار غياث الدين بعد مقتل عمه)
لما قتل السلطان شهاب الدين، كان غيّاث الدين محمود ابن أخيه السلطان غيّاث الدين في أقطاعه ببست. وكان شهاب الدين قد ولّى على بلاد الغور علاء الدين محمد بن أبي علي من أكابر بيوت الغوريّة، وكان إماميا غاليا، فسار إلى بيروزكوه [1] يسابق إليها غيّاث الدين. وكان الأمراء الغوريّة أميل إلى غيّاث الدين، وكذا أهل بيروزكوه، فلما دخل خوارزم دعا محمد المرغنيّ ومحمد بن عثمان من أكابر الغوريّة، واستحلفهم على قتال محمد بن تكش صاحب خوارزم. وأقام غيّاث الدين بمدينة بست ينتظر مآل الأمر لصاحب باميان لأنهما كان بينهما العهد من أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين، وغزنة والهند لبهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين، فلمّا بلغه موت شهاب الدين دعا لنفسه، وجلس على الكرسي في رمضان سنة ثلاث وستمائة، واستخلف الأمراء الذين في أثره فأدركوه وجاءوا به، وملك بيروزكوه وقبض على جماعة من أصحاب علاء الدين، ولما دخل بيروزكوه جاء إلى الجامع فصلّى فيه. ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها وأعاد الرسوم، وقدم عليه عبد الجبّار محمد بن العشير الى وزير أبيه فاستوزره، واقتفى بابيه في العدل والإحسان. ثم كاتب ابن حرميل بهراة ولاطفه في الطاعة، وكان ابن حرميل لما بلغه مقتل السلطان بهراة خشي عادية خوارزم شاه، فجمع أعيان البلد وغيرهم، واستحلفهم على الإنجاز والمساعدة. وقال القاضي وابن زياد: يحلف كل الناس إلّا ابن غيّاث الدين، وينتظر عسكر خوارزم شاه، وشعر غيّاث الدين بذلك من بعض عيونه، فاعتزم على المسير إلى هراة. واستشار ابن حرميل القاضي وابن زياد، فأشارا عليه بطاعة غيّاث الدين على مكر ابن حرميل، وميله إلى خوارزم شاه، وحثّه على
__________
[1] فيروز كوه هكذا عند ابن الأثير وقد مرّت معنا في السابق.(4/543)
قصد هراة ليكون ذلك حجّة عليه ففعل، وبعث به مع ابن زياد. ثم كاتب غيّاث الدين صاحب الطالقان وصاحب مرو يستدعيهما فتوقفوا عن إجابته. فقال أهل مرو لصاحبها: إن لم تسلّم البلد إلى غيّاث الدين وتتوّجه وإلّا سلّمناك وقعّدناك وأرسلنا إليه فاضطر إلى المجيء إلى فيروز كوه. فخلع عليه غيّاث الدين ووفر له الأقطاع، وأقطع الطالقان لسونج مولى أبيه المعروف بأمير شكار.
(استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان)
كان الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة منتقضا عليهم كما ذكرنا، ومداخلا لخوارزم شاه في الباطن، واستدعى العساكر من عنده، وبعث ابن زياد يستوثق له من غيّاث الدين، وأقام يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. ووصل ابن زياد بالولاية والخلع، فلم يثنه ذلك عمّا هو فيه من المكاذبة لهم. ثم وصل عسكر خوارزم شاه فتلقّاهم وأكرمهم. وبلغه أنّ خوارزم شاه في أثرهم على أربع فراسخ من بلخ، فندم في أمره وردّ إليه عسكره، وبلغ غيّاث الدين عسكر خوارزم شاه ووصولهم إلى هراة، فاستدعى ابن حرميل فقبض على أملاكه، ونكب أصحابه. وردّ أقطاعه فاعتزم أهل هراة على القبض عليه. وكتب القاضي وابن زياد بذلك إلى غيّاث الدين. ونمي الخبر إلى ابن حرميل فخشي على نفسه منهم، وأوهمهم أنه يكاتب غيّاث الدين وطلبهم في الكتاب مع رسوله، وأوصى الرسول أن يعدل إلى طريق خوارزم شاه. ولحق بهم فردّهم وأصبحوا على البلد لرابعة يوم من سفر الرسول فأدخلهم ابن حرميل البلد، وأمكنهم من أبوابها. وقبض على ابن زياد وسمله، وأخرج القاضي فلحق بغيّاث الدين في بيروز كوه، ونمي الخبر بذلك إلى غيّاث الدين فاعتزم على المسير بنفسه، فبلغه سير علاء الدين صاحب باميان إلى غزنة فاقتصر عن ذلك وأقام ينتظر شأنه مع الذر. وأمّا بلخ فإنّ خوارزم شاه لما بلغه مقتل شهاب الدين أطلق أسرى الغوريّين الذين كانوا عنده، وخلع عليهم واستألفهم، وبعث أخاه علي شاه في العساكر إلى بلخ فقاتله عمر بن الحسين الغوريّ نائبها. ونزل منها على أربعة فراسخ. وجاءه خوارزم شاه مددا بنفسه اخر سنة اثنتين وستمائة فحاصرها، فاستمدّ(4/544)
عمر بن الحسين علاء الدين وجلال الدين من باميان، وشغلوا عنه بغزنة، فأقام خوارزم شاه محاصرا له أربعين يوما، وكان عنده محمد بن عليّ بن بشير، وأطلقه في أسرى الغورية وأقطعه، فبعثه إلى عمر بن الحسين صاحب بلخ في الطاعة فأبى من ذلك، واعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة، ثم بلغه ما وقع بين الذر وبين علاء الدين وجلال الدين، وأن الذر أسرهما، وأنّ عمر بن الحسين صاحب بلخ أبى ذلك، فأعاد عليه ابن بشير، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى أطاع صاحب خوارزم، وخطب له. وخرج إليه فخلع عليه وأعاده إلى بلده في سلخ ربيع سنة ثلاث وستمائة ثم سار إلى جورقان ليحاصرها، وبها عليّ بن أبي عليّ فوقعت المراوضة بينهما. ثم انصرف عن جورقان [1] وتركها لا بن حرميل، واستدعى عمر بن الحسين الغوريّ وصاحب بلخ فقبض عليه، وبعثه إلى خوارزم، ومضى إلى بلخ فملكها، وولّى عليها جعفرا التركيّ ورجع إلى خوارزم.
(استيلاء علاء الدين ثانيا على غزنة ثم انتزاع الذر إياها من يده)
قد تقدّم لنا استيلاء الذر على غزنة وإخراجه علاء الدين وجلال الدين منها إلى باميان، فأقاما بها شهرين، ولحق كثير من الجند بعلاء الدين صاحبهم، وأقام الذر بغزنة متوقفا عن الخطبة لغياث الدين يروم الاستبداد، وهو يعلّل الأتراك برجوع رسوله من عند غيّاث الدين مخافة أن ينفضّوا عنه. فلمّا ظفر بعلاء الدين وملك القلعة أظهر الاستبداد وجلس على الكرسيّ وجمع علاء الدين وجلال الدين العساكر وساروا من باميان الى غزنة، وسرّح الذر عساكره للقائهما فهزماها وأثخناها [2] .
وهرب الذر إلى بلد كرمان واتبعه بعض العسكر فقاتلهم ودفعهم. وسار علاء الدين وأخوه إلى غزنة وملكوها، وأخذوا خزانة شهاب الدين التي كان الذر أخذها من يد الوزير مؤيد الدين عند مقدمه بجنازة شهاب الدين الى كرمان كما مرّ. ثم اعتزم علاء
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 230: «ثم سار خوارزم الى كرزبان ليحاصرها، وبها عليّ بن أبي عليّ ... »
[2] الضمير عائد الى عساكر الذر.
ابن خلدون م 35 ج 4(4/545)
الدين وأخوه على العود إلى غزنة [1] وأهلها متوقعون النهب من عسكرهم والفيء.
وكان بينهم رسول الخليفة مجد الدين بن الربيع مدرّس النظامية، جاء إلى شهاب الدين فقتل وهو عنده. وأقام بغزنة فقصده أهل غزنة أن يشفع فيهم، فشفع وسكن الناس. وعاد علاء الدين وأخوه إلى غزنة. ثم وقع بينهما تشاجر على اقتسام الخزانة، وعلى وزارة مؤيد الملك فندم الناس على طاعتهما. وسار جلال الدين ومعه عبّاس الى باميان، وبقي علاء الدولة بغزنة، وأساء وزيره السيرة في الجند والرعيّة، ونهب الأموال حتى باعوا أمّهات أولادهم. ويشكون فلا يشكيهم أحد، فسار الذر في جموع الأتراك والغزّ والغوريّة، فكبسهم إيدكز [2] الشر في مولى شهاب الدين في ألفين وملك كرمان. وجاء الذر إثر ذلك وأنكر على إيدكز وملك كرمان، وأحسن إلى أهلها. وبلغ الخبر إلى علاء الدين بغزنة، فبعث وزيره إلى أخيه جلال الدين في باميان، وكانت عساكر الغوريّة قد فارقوه ولحقوا بغيّاث الدين، ووصل الذر آخر سنة اثنتين وستمائة إلى غزنة فملكها، وامتنع علاء الدين بالقلعة، فسكّن الذر الناس وأمّنهم، وحاصروا القلعة. وجاء الخبر إلى الذر بأنّ جلال الدين قادم عليك بعساكره، ولحق سليمان بن بشير بغيّاث الدين ببيروز كوه فأكرمه، وجعله أمير داره، وذلك في صفر سنة ثلاث وستمائة وسار الذر فلقي جلال الدين وهزمه، وسيق أسيرا إليه، ورجع إلى غزنة وتهدّد علاء الدين بقتل الأسرى إن لم يسلّم القلعة.
وقتل منهم أربعمائة أسير فبعث علاء الدين يستأمنه، فأمّنه. ولما خرج قبض على وزيره عماد الملك وقتله، وبعث إلى غيّاث الدين بالفتح.
(انتقاض عباس في باميان ثم رجوعه الى الطاعة)
لما أسر علاء الدين وجلال الدين كما قلناه في غزنة وصل الخبر إلى عمّهما عباس في باميان ومعه وزير أبيهما. وسار الوزير الى خوارزم شاه يستنجده على الذر ليخلّص
__________
[1] قبل قليل تحدث ابن خلدون عن ملك غزنة من قبل علاء الدين وأخيه، ثم يذكر ان علاء الدين وأخيه يعتزمان على العود الى غزنة! وكيف يكون هذا؟ وربما يقصد ابن خلدون ان علاء الدين وجلال الدين يودان جعل غزنة قاعدة لهما حسب مقتضى السياق.
[2] وفي نسخة اخرى ايدكن وفي مكان آخر من هذا الكتاب ايدكين.(4/546)
صاحبيه، فاغتنم عبّاس غيبته وملك القلعة، وكان مطاعا، وأخرج أصحاب علاء الدين وجلال الدين، فرجع الوزير من طريقه فحاصره بالقلعة، وكان مطاعا في تلك الممالك من لدن بهاء الدين ومن بعده. فلما خلّص جلال الدين من أسر الذر، وصل إلى مدينة باميان واجتمع مع الوزير، وبعثوا إلى عبّاس ولاطفوه حتى نزل عمّا كان استولى عليه من القلاع، وقال: إنما أردت حفظها من خوارزم شاه.
(استيلاء خوارزم شاه على ترمذ ثم الطالقان من يد الغورية)
كان خوارزم شاه لما ملك بلخ من يد عمر بن الحسين الغوريّ سار منها إلى ترمذ وبها ابنه. وقدم إليه محمد بن بشير بما كان من نزول أبيه عن بلخ، وأنه انتظم في أهل دولته. وبعثه إلى خوارزم مكرّما، ورغّبه بالأقطاع والمواعيد، وكان قد ضاق ذرعه من الخطا ووهن من أسر الذر أصحابه بغزنة، فأطاع واستأمن وملك خوارزم شاه ترمذ ورأى أن يسلّمها للخطأ ليتمكن بذلك من خراسان، ثم يعود عليهم فينتزعها منهم. ولما فرغ من ذلك سار إلى الطالقان وبها سونج نائبا عن غيّاث الدين محمود، وأرسل من يستميله، فلجّ وسار لحربه حتى إذا التقيا نزل عن فرسه وسأل العفو فذمّه بذلك، وأخذ ما كان بالطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كاكوير [1] وسوار، فخرج إليه حسام الدين عليّ بن أبي عليّ صاحب كالوين وقاتله، وطالبه في تسليم البلاد فأبى، وسار خوارزم شاه إلى هراة ونزل بظاهرها وابن حرميل في طاعته، فكفّ عساكره عن أهل هراة، ولقيه لك رسول غيّاث الدين بالهدايا. ثم سار ابن حرميل إلى أسفزار [2] في صفر، وقد كان صاحبها سار إلى غيّاث الدين فحاصرها حتى استأمن إليه وملك البلد. ثم أرسل إلى صاحب سجستان بطاعة خوارزم والخطبة له، فأجاب إلى ذلك بعد أن طلبه في ذلك غيّاث الدين فامتنع. وعند مقام خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الّذي كان ابن حرميل
__________
[1] وفي نسخة أخرى كاكوين. ثم يذكرها ابن خلدون كالوين وهو اسمها الحقيقي، كما في الكامل ج 12 ص 245.
[2] وفي نسخة اخرى: أسفراين.(4/547)
أخرجه منها فلحق بشهاب الدين. ثم رجع من عنده إلى خوارزم شاه فسعى به ابن حرميل عنده حتى سجنه بقلعة زوزن، وولّى على القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد بن السرخسي.
(خبر غياث الدين مع الذر وايبك مولى أبيه)
لما ملك الذر غزنة وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين كتب إليه غيّاث الدين يأمره بالخطبة، وطاول في ذلك فبعث إليه يستحثّه بأمر الخطيب بالترحّم على شهاب الدين والخطبة لنفسه، فاستراب الأتراك به، وبعث هو يشترط على غيّاث الدين العتق فأجابه الى ذلك بعد توقف. وكان عزمه على أن يصالح خوارزم شاه ويستمدّه على الذر، فلما طلب العتق أعتقه، وأعتق قطب الدين أيبك مملوك عمّه شهاب الدين ونائبة ببلاد الهند. وأرسل إلى كلّ منهما هدية وردّ الخبر [1] واستمرّ الذر على مراوغته وأيبك على طاعته، فاستمدّ غيّاث الدين خوارزم شاه على الذر فأمدّه على أن يردّ ابن حرميل صاحب هراة إلى طاعته، وأن يقسّم الغنيمة أثلاثا بينهما وبين العسكر. وبلغ الخبر إلى الذر فسار إلى بكتاباد فملكها، ثم إلى بست وأعمالها كذلك، وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان بقطع خطبة خوارزم شاه، وإلى ابن حرميل كذلك ويتهددهما، وأطلق جلال الدين صاحب باميان وزوّجه بنته، وبعث معه خمسة آلاف فارس مع أيدكين مملوك شهاب الدين ليعيدوا جلال الدين الى ملكه بباميان. وينزلوا ابن عمّه. فلما سار معه أيدكين أغراه بالعود إلى غزنة وأعلمه أنّ الأتراك مجمعون على خلاف الذر، فلم يجبه جلال الدين إلى ذلك فرجع عنه أيدكين إلى إقطاعه بكابل، ولقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الذر يتهدده على عصيانه على غيّاث الدين، ويأمره بالخطبة له، ووصّل معه الهدايا والألطاف إلى غياث الدين. وأشار عليه أيبك بإجابة خوارزم إلى جميع ما طلب حتى يفرغ من أمر غزنة. وكتب إلى أيبك يستأذنه في المسير إلى غزنة ومحاربة
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 248: «وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء وألف قلنسوة ومناطق الذهب وسيوفا كثيرة وجترين ومائة رأس من الخيل، وأرسل الى كل واحد منهما رسولا، فقبل الذر الخلع وردّ الجتر وقال: نحن عبيد ومماليك والجتر له أصحاب، وسار رسول ايبك إليه» .(4/548)
الذر فأذن له بمحاربته، ووصل ايدكين في رجب سنة ثلاث وستمائة وخطب لغياث الدين بغزنة، وامتنعت عليه القلعة فنهب البلد، ووصل الخبر إلى الذر بشأن ايدكين في غزنة ومراسلة أيبك له ففتّ ذلك في عضده، وخطب لغياث الدين في بكتاباد وأسقط اسمه ورحل إلى غزنة فرحل ايدكين عنها إلى بلد الغور، وأقام في تمواز، وكتب إلى غيّاث الدين بالخبر وأنفذ إليه أموالا، فبعث إليه غيّاث الدين بالخلع وأعتقه وخاطبه بملك الأمراء. وسار غيّاث الدين إلى بست وأعمالها فاستردّها وأحسن إلى أهلها وأقام الذر بغزنة.
(مقتل ابن حرميل واستيلاء خوارزم شاه على هراة)
كان ابن حرميل كما قدّمناه استدعى عسكر خوارزم شاه إلى هراة وأنزلهم معه بهراة، فساء أمرهم في الناس وكثر عيثهم فحبسهم، وبعث إلى خوارزم شاه بصنيعهم ويعدّده، وكان مشتغلا بقتال الخطا، فكتب إليه يحسّن فعله ويستدعي الجند الذين حبسهم. وبعث إلى عزّ الدين خلدك [1] أن يحتال في القبض على ابن حرميل، فسار في ألفي فارس، وكان خلدك أيام السلطان سنجر واليا على هراة، فلما قدم خرج ابن حرميل لتلقّيه، فنزل كل واحد منهما إلى صاحبه، وأمر خلدك أصحابه بالقبض على ابن حرميل فقبضوا عليه، وانفضّ عنه أصحابه إلى المدينة، فأمر الوزير خواجه الصاحب بغلق الأبواب والاستعداد للحصار، ونادى بشعار غيّاث الدين محمود فحاصره خلدك وبذل له الأمان وتهدّده بقتل ابن حرميل، وخاطبه بذلك ابن حرميل ففعل، وكتب بالخبر إلى خوارزم شاه فبعث ولاته بخراسان يأمرهم بحصار هراة، فسار في عشرة آلاف وامتنعت هراة عليهم. وكان ابن حرميل قد حصّنها بأربعة أسوار محكمة وخندق، وشحنها بالميرة، وصار يعدهم إلى حضور خوارزم شاه، وأسروه أياما حتى فادى نفسه ورجع إلى خوارزم كما يذكر في أخبار دولته، وأرجف بموته في خراسان فطمع أخوه علي شاه في طبرستان، وكزلك خان في نيسابور الى الاستبداد بالملك، فلما وصل خوارزم شاه هرب أخوه علي شاه ولحق
__________
[1] جلدك: ابن الأثير ج 12 ص 261.(4/549)
بشهاب الدين في بيروز كوه، فتلقّاه وأكرمه، وسار خوارزم شاه إلى نيسابور وأصلح أمرها واستعمل عليها، وسار إلى هراة وعسكره على حصارها، وقيل للوزير قد وصل خوارزم شاه لما وعدته. وتحدّث في ذلك جماعة من أهل البلد فقبض عليهم، ووقعت بذلك هيعة وشعر بها خوارزم شاه فزحف إلى السور وخرّب برجين منه، ودخل البلد فملكه وقتل الوزير وولّى على هراة من قبله، وذلك سنة خمس وستمائة ورجع إلى قتال الخطا.
(مقتل غياث الدين محمود)
لما ملك خوارزم شاه مدينة هراة وولّى عليها خاله أمير ملك، وأمره أن يسير إلى بيروز كوه ويقبض على صاحبها غيّاث الدين محمود بن غيّاث الدين الغوريّ، وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، فسار أمير ملك واستأمن له محمود فأمّنه وخرج إليه هو وعلي شاه فقبض عليهما أمير ملك وقتلهما، ودخل فيروز كوه سنة خمس وستمائة وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه.
(استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها)
ولما استولى خوارزم شاه على عامّة خراسان وملك باميان وغيرها أرسل إلى تاج الدين الذر صاحب غزنة في الخطبة والسكة وأن يقرّر الصلح على غزنة بذلك فشاور أهل دولته، وفيهم قطلوتكين من موالي شهاب الدين، وهو النائب عن الذر بغزنة، فأشار عليه بطاعته، وأعاد الرسول بالإجابة، وخطب له وسار عن غزنة متصدّيا، وبعث قطلوتكين الى خوارزم شاه سرّا أن يبعث إليه من يسلّمه غزنة، فجاء بنفسه وملك غزنة. وهرب الذر إلى لهاور. ثم أحضر خوارزم شاه قطلوتكين وقتله بعد أن استصفاه وحصل منه على أموال جمّة، وولّى على غزنة ابنه جلال الدين، وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة ورجع الى بلده.(4/550)
(استيلاء الذر على لهاور ومقتله)
لما هرب الذر من غزنة أمام خوارزم شاه لحق بلهاور، وكان صاحبها ناصر الدين قباجة من موالي شهاب الدين وله معها ملتان وآجر والدبيل إلى ساحل البحر، وله من العسكر خمسة عشر ألف فارس، وجاء الذر في ألف وخمسمائة فقاتله على التعبية ومعه الفيلة، فانهزم الذر أوّلا، وأخذت فيوله. ثم كانت له الكرّة وحمل فيل له على علم قباجة بإغراء الفيال، وصدق هو الحملة فانهزم قباجة وعسكره، وملك الذر مدينة لهاور، ثم سار إلى الهند ليملك مدينة دهلي وغيرها من بلاد المسلمين، وكان قطب الدين أيبك صاحبها قد مات، ووليها بعده مولاه شمس الدين فسار إليه، والتقيا عند مدينة سمابا واقتتلا، فانهزم الذر وعسكره وأسر فقتل. وكان محمود السيرة في ولايته كثير العدل والإحسان إلى الرعيّة لا سيما التجّار والغرباء. وكان بملكه انقراض دولة الغورية والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان في ملة الإسلام ودولة بني بويه منهم المتغلبين على الخلفاء على العباسيين ببغداد وأولية ذلك ومصايره)
قد تقدّم لنا نسب الديلم في أنساب الأمم وأنهم من نسل ماذاي بن يافث، وماذاي معدود في التوراة من ولد يافث. وذكر ابن سعيد ولا أدري عمن نقله: أنهم من ولد سام بن باسل بن أشور بن سام، وأشور مذكور في التوراة من ولد سام.
وقال: إنّ الموصل من جرموق بن اشور، والفرس والكرد والخزر من إيران بن أشور، والنبط والسوريان من نبيط بن أشور. هكذا ذكر ابن سعيد والله أعلم.
والجيل عند كافة النسّابين إخوانهم على كل قول من هذه الأقوال، وهم أهل جيلان جميعا عصبية واحدة من سائر أحوالهم. ومواطن هؤلاء الديلم والجيل بجبال طبرستان وجرجان إلى جبال الريّ وكيلان وحفافي البحيرة المعروفة ببحيرة طبرستان من لدن أيام الفرس وما قبلها، ولم يكن لهم ملك فيما قبل الإسلام. ولما جاء الله(4/551)
بالإسلام وانقرضت دولة الأكاسرة واستفحلت دولة العرب وافتتحوا الأقاليم بالمشرق والمغرب والجنوب والشمال كما مرّ في الفتوحات، وكان من لم يدخل من الأمم في دينهم دان لهم بالجزية، وكان هؤلاء الديلم والجيل على دين المجوسيّة، ولم تفتح أرضهم أيام الفتوحات، وإنما كانوا يؤدّون الجزية. وكان سعيد بن العاص قد صالحهم على مائة ألف في السنة، وكانوا يعطونها وربما يمنعونها، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، وكانوا يمنعون الطريق من العراق إلى خراسان على قومس. ولما ولي يزيد بن المهلّب خراسان سنة ست وثمانين للهجرة، ولم يفتح طبرستان ولا جرجان، وكان يزيد بن المهلّب يعيّره بذلك إذا قصّت عليه أخباره في فتوحات بلاد الترك ويقول: ليست هذه الفتوح بشيء، والشأن في جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور، فلمّا أولاه سليمان بن عبد الملك خراسان سنة تسع وتسعين، أجمع على غزوها ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومحاصر، يقوم الرجل على باب منها فيمنعه، وكانت طبرستان مدينة وصاحبها الأصبهبذ. ثم سار إلى جرجان مولاه فراسة، وسار الهادي إليهما وحاصرهما حتى استقاما على الطاعة. ثم بعث المهدي سنة ثمان وتسعين يحيى الحرسيّ في أربعين ألفا من العساكر فنزل طبرستان وأذعن الديلم. ثم لحق بهم أيام الرشيد يحيى ابن عبد الله بن حسن المثنّى فأجاروه، وسرّح الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي لحربهم، فسار إليهم سنة خمس وتسعين ومائة فأجابوه إلى التمكين منه على مال شرطوه وعلى أن يجيء بخط الرشيد وشهادة أهل الدولة من كبار الشيعة وغيرهم، فبذل لهم المال، وكتب الكتاب. وجاء الفضل بيحيى فحبسه عند أخيه جعفر حسبما هو مذكور في أخباره. وفي سنة تسع وثمانين ومائة كتب الرشيد وهو بالريّ كتاب الأمان لسروين بن أبي قارن ورنداهرمز بارخشان صاحب الديلم، وبعث بالكتاب مع حسن الخادم إلى طبرستان فقدم بارخشان ورنداهرمز وأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما، وضمن رنداهرمز الطاعة والخراج عن سروين بن أبي قارن. ثم مات سروين وقام مكانه ابنه شهريار، ثم زحف سنة إحدى وثمانين ومائة عبد الله بن أبي خرداذبه وهو عامل طبرستان إلى البلاد والسيزر من بلاد الديلم، فافتتحها وافتتح سائر بلاد طبرستان، وأنزل شهريار بن سروين عنها. وأشخص مازيار بن قارن ورنداهرمز إلى المأمون وأسر أبا ليلى. ثم مات شهريار بن سروين سنة عشر ومائتين وقام مكانه ابنه(4/552)
سابور، فحاربه مازيار بن قارن بن رنداهرمز وأسره، ثم قتله. ثم انتقض مازيار على المعتصم وحمل الديلم وأهل تلك الأعمال على بيعته كرها، وأخذ رهنهم وجبى خراجهم، وخرّب أسوار آمل وسارية، ونقل أهلها إلى الجبال وبنى على حدود جرجان سورا من طميس إلى البحر مسافة ثلاثة أميال وحصّنه بخندق. وكانت الأكاسرة بنته سدّا على طبرستان من الترك. وقد نقل أهل جرجان إلى نيسابور وأملى له في انتقاضه الأفشين مولى المعتصم كبير دولته، طمّعه في ولاية خراسان بما كان يضطغن ابن طاهر صاحب خراسان، فدسّ إليه بذلك كتابا ورسالة حتى امتعض. وجهّز عبد الله بن طاهر العساكر لحربه مع عمّه الحسن ومولاه حيّان بن جبلة. وسرّح المعتصم العساكر يردف بعضها بعضا حتى أحاطوا بجباله من كل ناحية، وكان قارن بن شهريار أخو مازيار على سارية فدسّ إلى قوّاد ابن طاهر بالرجوع من كل ناحية، وكان قارن قد أتى إلى الطاعة والنزول لهم عن سارية على أن يملّكوه جبال آبائه، وأسجل له ابن طاهر بذلك، فقبض على عمّه قارن في جماعة من قوّاد مازيار، وبعث بهم فدخل قوّاد ابن طاهر جبال قارن وملكوا سارية. ثم استأمن إليهم قوهيار أخو مازيار ووعدهم بالقبض على أخيه على أن يولّوه مكانه، فأسجل له ابن طاهر بذلك، فقبض على أخيه مازيار، وبعث به إلى المعتصم ببغداد فصلبه، واطلع منه على دسيسة الأفشين مولاه فنكبه وقتله. ووثب مماليك مازيار بقوهيار فثاروا منه بأخيه وفرّوا إلى الديلم، فاعترضتهم العساكر وأخذوا جميعا، ويقال إنّ الّذي كان غدر بمازيار هو ابن عمّه، كان يضطغن عليه عزله عن بعض جبال طبرستان، وكان مولاه ورأيه عن رأيه. ثم تلاشت الدعوة العبّاسيّة بعد المتوكّل وتقلّص ظلّها. واستبدّ أهل الأطراف بأعمالهم وظهرت دعاة العلوية في النواحي إلى أن ظهر بطبرستان أيام المستعين الحسن بن زيد الداعي العلويّ من الزيديّة، وقد مرّ ذكره. وكان على خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وقد ولّى على طبرستان عمّه سليمان بن عبد الله بن طاهر فكان محمد بن أوس ينوب عنه مستبدا عليه فأساء السيرة، وانتقض لذلك بعض عمّال أهل الأعمال ودعوا جيرانهم الديلم إلى الانتقاض. وكان محمد بن أوس قد دخل بلادهم أيام السلم وأثخن فيها بالقتل والسبي، فلمّا استنجدهم أولئك الثوّار لحرب سليمان ونائبة محمد بن أوس نزعوا لإجابتهم واستدعوا الحسن بن زيد مكانه، وبايعوه جميعا وزحفوا به إلى آمل(4/553)
فملكوها. ثم ساروا الى سارية فهزموا عليها سليمان وملكوها. ثم استولى الحسن الداعي على طبرستان وكانت له ولأخيه بعده الدولة المعروفة، كما هو معروف في أخبارهم، أقامت قريبا من أربعين سنة، ثم انقرضت بقتل محمد بن زيد. ودخل الديلم الحسن الأطروش من ولد عمر [1] بن زين العابدين وكان زيديّ المذهب فنزل فيما وراء السعيد دوى [2] إلى آمل، ولبث في الديلم ثلاث عشرة سنة وملكهم يومئذ حسّان بن وهشوذان وكان يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر ويدافع عنهم ملكهم ما استطاع، فأسلم على يديه منهم خلق كثير، وبنى لهم المساجد، وزحف بهم إلى قزوين فملكها، وسالوس من ثغور المسلمين فأطاعوه، وملك آمل ودعاهم إلى غزو طبرستان وهي في طاعة ابن سامان فأجابوه وساروا إليها سنة إحدى وثلاثمائة. وبرز إليها عاملها ابن صعلوك فهزمه الأطروش واستلحم سائر أصحابه، ولحق ابن صعلوك بالريّ، ثم إلى بغداد، واستولى الأطروش على طبرستان وأعمالها، وقد ذكرنا دولته وأخبارها في دول العلويّة، وكان استظهاره على أمره بالديلم وقوّاده في حروبه وولاته على أعماله منهم. ثم قتلته جيوش السعيد بن سامان سنة أربع وثلاثمائة، ودال الأمر بين عقبه قوّاد الديلم كما هو مذكور في أخبارهم.
(الخبر عن قواد الديلم وتغلبهم على اعمال الخلفاء بفارس والعراقين)
كان للديلم جماعة من القوّاد بهم استظهر الأطروش وبنوه على أمرهم منهم: سرخاب بن وهشوذان أخو حسّان، وهو معدود في ملوكهم، وكان صاحب جيش أبي الحسين بن الأطروش. ثم أخوه علي، ولّاه المقتدر على أصفهان. ثم ليلى بن النعمان من ملوكهم أيضا وكان قائدا للأطروش وولّاه بعده صهره الحسن المعروف بالداعي الصغير على جرجان. ثم ما كان بن كالي، وهو ابن عمّ سرخاب وحسّان ابني
__________
[1] قوله من ولد عمر ... إلخ عبارة المسعودي الأطروش الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن أبي طالب انتهى.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 81: «وكان الحسن بن على الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام» .(4/554)
وهشوذان، وولّاه أبو الحسين بن الأطروش مدينة أستراباذ وأعمالها. ثم كان دون هؤلاء جماعة أخرى من القوّاد فمنهم من أصحاب ماكان بن كالي أسفار بن شيرويه ومرداويج بن زيار بن بادر وأخوه وشمكير ولشكري. ومن أصحاب مرداويج بنو بويه الملوك الأعاظم ببغداد والعراقين وفارس. ولما تلاشت دولة العلوية واستفحل هؤلاء القوّاد بالاستبداد على أعقابهم في طبرستان وجرجان، وكانت خراسان عند تقلّص الدولة العبّاسيّة على الأطراف قد غلب عليها الصفّار وملكها من يد بني طاهر. ثم نازعه فيها بنو سامان والداعي العلويّ فأصبحت مشاعا بينهم. ثم انفرد بها ابن سامان وكل منهم يعطي طاعة معروفة للخلفاء. ومركز ابن سامان وراء النهر وخراسان في أطراف مملكتهم. وزاد تقلّص الخلافة عمّا وراءها، فتطاول ملوك الديلم هؤلاء قوّاد الدولة العلويّة بطبرستان إلى ممالك البلاد، وتجافوا عن أعمال ابن سامان لقوّة سورته واستفحال ملكه. وساروا في الأرض يرومون الملك وانتشروا في النواحي، وتغلّب كل منهم على ما دفع إليه من البلاد. وربما تنازعوا بعضها فكانت لهم دون طبرستان وجرجان بلاد الريّ، وظفر بنو بويه منهم بملك فارس والعراقين. وحجر الخلفاء ببغداد فذهبوا بفضل القديم والحديث، وكانت لهم الدولة العظيمة التي باهى الإسلام بها سائر الأمم حسبما نذكر ذلك كله في أخبار دولتهم.
(أخبار ليلى بن النعمان ومقتله)
كان ليلى بن النعمان من قوّاد الديلم وكان أولاد الأطروش ينعتونه في كتابهم إليه المؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان كريما شجاعا قد ولّاه الحسن بن القاسم الداعي الصغير على جرجان بعد الأطروش سنة ثمان وثلاثمائة، فسار من جرجان إلى الدّامغان وهي في طاعة ابن سامان، وعليها مولاه قراتكين، فبرزوا إليه وقاتلوه فهزمهم وأثخن فيهم، وعاد إلى جرجان، فابتنى أهل الدامغان حصنا يمتنعون به. وسار قراتكين إلى ليلى فبرز إليه من جرجان وقاتله على عشرة فراسخ فانهزم قراتكين وأثخن في عسكره، وسار إليه فارس مولى قراتكين فأكرمه وزوّجه أخته وكثرت أجناده، وضاقت أمواله فأغراه أبو حفص القاسم بن حفص بنيسابور،(4/555)
وأمره الحسن الداعي بالمسير إليها فسار وملكها آخر ثمان وثلاثمائة وخطب بها للداعي.
وأنفذ السعيد نصر بن سامان عساكره من بخارى مع قوّاده حمويه بن عليّ ومحمد ابن عبد الله البلغميّ وأبو حفص بنيسابور وأبو الحسن صعلوك وسيجور الدواني، فقاتلوا ليلى بن النعمان عن طوس وهزموه، فلحق بآمل واختفى فيها، وجاءه بقراخان وأخرجه من الاختفاء وأنفذ بالخبر إلى حمويه، فأمره بقتله وتأمين أصحابه، فقتل وحمل رأسه إلى بغداد، وذلك في ربيع سنة تسع وثلاثمائة، وبقي فارس غلام قراتكين بجرجان، وعاد قراتكين إلى جرجان فاستأمن إليه مولاه فارس فقتله قراتكين وانصرف عن جرجان.
(أخبار سرخاب بن وهشوذان ومهلكه وقيام ما كان بن كالي بمكانه)
كان سرخاب بن وهشوذان الديلميّ من قوّاد الأطروش وبنيه، وبايع لأبي الحسن بن الأطروش الناصر بعد مهلك أبيه بطبرستان وأستراباذ وكان صاحب جيشه، ولمّا انصرف قراتكين عن جرجان بعد مهلك ليلى بن النعمان، سار إليها أبو الحسن بن الأطروش وسرخاب فملكوها، وأنفذ السعيد نصر بن سامان سنة عشر سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لقتاله، ونزل على فرسخين من جرجان وحاصرها أشهرا، ثم برزوا إليه، وأكمن لهم سيجور كمينا فتباطأ الكمين وانهزم سيجور واتبعه سرخاب.
ثم خرج الكمين بعد حين وانهزم أبو الحسن إلى أستراباذ وترك جرجان، واتبعه سرخاب في الفل بمخلفه ومخلف أصحابه ورجع سيجور إلى جرجان فملكها. ثم مات سرخاب ولحق ابن الأطروش بسارية فأقام بها واستخلف ماكان بن كالي وهو ابن عمّ سرخاب، فسار محمد بن عبيد الله البلغمي وسيجور لحصاره وأقاموا عليه طويلا. ثم بذلوا له مالا على أن يخرج لهم عنها فتقوم لهم بذلك حجّة عند ابن سامان ثم يعود ففعل ذلك، وخرج إلى سارية ثم نزل إلى الشمانية عن أستراباذ، وولّوا عليها بقراخان فعاد إليها ما كان وملكها ولحق بقراخان بأصحابه في نيسابور
.(4/556)
(بداية أسفار بن شيرويه وتغلبه على جرجان ثم طبرستان)
كان أسفار هذا من الديلم من أصحاب ما كان بن كالي، وكان سيّئ الخلق صعب العشرة وأخرجه ما كان من عسكره فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع في نيسابور وهو عامل عليها من قبل ابن سامان فأكرمه واختصه في العساكر سنة خمس عشرة وثلاثمائة لفتح جرجان وكان ما كان بن كالي يومئذ بطبرستان، وولّى على جرجان أبا الحسن بن كالي، واستراب بأبي علي بن الأطروش فحبسه بجرجان فجعله عنده في البيت، وقام ليلة إليه ليقتله فأظفر الله العلويّ به وقتله، وتسرّب من الدار وأرسل من الغد إلى جماعة من القوّاد فجاءوا إليه وبايعوه وألبسوه القلنسوة، وولّى على جيشه علي بن خرشية [1] وكاتبوا أسفار بن شيرويه بذلك وهو في طريقه إليهم، واستدعوه فاستأذن بكر بن محمد وسار إليهم، وسار على ابن خرشية في القيام بأمر جرجان بدعوة العلويّ الّذي معهم وضبط ناحيتها. وسار إليهم ما كان بن كالي في العساكر من طبرستان وقاتلوه فهزموه واتبعوه إلى طبرستان فملكوها من يده وقاموا بها. ثم هلك أبو علي الأطروش وعلي بن خرشية صاحب الجيش وانفرد أسفار بطبرستان وسار بكر بن محمد بن أليسع إلى جرجان فملكها وأقام فيها دعوة نصر بن سامان. ثم رجع ماكان إلى طبرستان وبها أسفار فحاربه وغلبه، وملك طبرستان من يده ولحق أسفار بجرجان فأقام بها عند بكر بن أليسع إلى أن توفي بكر، فولّاه السعيد على جرجان سنة خمس عشرة وثلاثمائة ثم ملك نصر بن سامان الري بولاية المقتدر وولّى عليها محمد بن عليّ بن صعلوك فطرقه المرض في شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة وكاتب الحسن الداعي أسفار ملك جرجان بولاية نصر بن سامان، فاستدعى مرداويج بن زيار من ملوك الجبل وجعله أمير جيشه وسار إلى طبرستان فملكها.
__________
[1] على بن خرشيد: ابن الأثير ج 8 ص 176.(4/557)
(استيلاء أسفار على الري واستفحال أمره)
لما استولى أسفار على طبرستان ومرداويج معه، وكان يومئذ على الريّ وملكها من يد صعلوك كما ذكرناه. واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ ومعه الحسن بن القاسم الداعي الصغير [1] وهو قائم بدعوته. فلما خالفه أسفار إلى طبرستان وملكها واستضافها إلى جرجان سار إليه ما كان والداعي والتقوا بسارية واقتتلوا، وانهزم ما كان وقتل الداعي، وكانت هزيمته بتخاذل الديلم عنه فإنّ الحسن كان يشتدّ عليهم في النهي عن المنكر فنكروه، واستقدموا خال مرداويج من الجبل واسمه هزرسندان [2] وكان مع أحمد الطويل بالدّامغان، فمكروا بالداعي واستقدامه للاستظهار به، وهم يضمرون تقديمه عوض ما كان، ونصّب أبي الحسن بن الأطروش عوض الحسن الداعي، ودسّ إليه بذلك أحمد الطويل صاحب الدّامغان بعد موت صعلوك، فحذّرهم حتى إذا قدم هزرسندان أدخله مع قوّاد الديلم إلى قصره بجرجان. ثم قبض عليهم وقتلهم جميعا، وأمر أصحابه بنهب أموالهم، فامتعض لذلك سائر الديلم وأقاموا على مضيض حتى إذا كان يوم لقائه أسفار خذلوه فقتل. وفرّ ما كان واستولى أسفار على ما كان لهم من الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ واستضافها إلى طبرستان وجرجان، وأقام فيها دعوة السعيد بن سامان. ونزل سارية واستعمل على الريّ هارون بن بهرام صاحب جناح، وكان يخطب فيها لأبي جعفر العلويّ، فاستدعاه إليه وزوجه من آمل. وجاء أبو جعفر لوليمته مع جماعة من العلويّين فكبسهم أسفار وبعث بهم إلى بخارى فحبسهم بها إلى أن خلّصوا مع يحيى أخي السعيد، وكانوا في فتية حسبما ذكرناه. ولما فرغ أسفار من الريّ تطاول إلى قلعة ألموت ليحصّن بها عياله وذخيرته، وكانت لسياه جشم بن مالك الديلميّ ومعناه الأسود العين، فاستقدمه أسفار وولّاه قزوين، وسأله في ذلك فأجابه فنقل عياله إليها
__________
[1] العبارة مشوشة والضمائر مبهمة وفي الكامل ج 8 ص 189: «استيلاء أسفار بن شيرويه الديلميّ على طبرستان ومعه مرداويج، فلما استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالريّ، واستولى عليها، وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ وكان معه ماكان بن كالي الديلميّ، فسار نحو طبرستان، والتقوا هم واسفار عند سارية ... » .
[2] هروسندان: المرجع السابق.(4/558)
وسرّب الرجال إليهم لخدمتهم حتى كملوا مائة. ثم استدعاه فقبض عليه، وثار أولئك بالقلعة فملكوها، وكان في طريقه إلى الريّ استأمن إليه صاحب جبلي نهاوند وقم ابن أمير كان فملكها، ومرّ بسمنان فامتنع منه صاحبها محمد بن جعفر، وبعث إليه من الريّ بعض أصحابه فاستأمن إليه وخدعه حتى قتله وتدلى من ظهر القلعة. ثم استفحل أمر أسفار وانتقض على السعيد بن سامان، وأراد أن يتتوّج ويجلس على سرير الذهب، واعتزم على حرب ابن سامان والخليفة، فبعث المقتدر العساكر إلى قزوين مع هارون بن غريب الحال فقاتله أسفار وهزمه. ثم سار ابن سامان إلى نيسابور لحربه، فأشار على أسفار وزيره مطرّف بن محمد الجرجاني بمسالمته وطاعته، وبذل الأموال له فقبل إشارته. وبعث بذلك إلى ابن سامان وتلطّف أصحابه في رجوعه إلى ذلك فرجع وشرط عليه الخطبة والطاعة فقبل، وانتظم الحال بينهما ورجع إلى السطوة بأهل الريّ. ولما كانوا عابوا عليه عسكر القتال ففرض عليهم الأموال وعسف بهم، وخصّ أهل قزوين بالنهب لمّا تولّوا من ذلك، وسلّط عليهم الديلم فضاقت بهم الأرض.
(مقتل اسفار وملك مرداويج)
كان مرداويج بن زيار من قوّاد أسفار وكان قد سئم عسفه وطغيانه كما سئمه الناس، وبعثه أسفار إلى صاحب سميران الطر الّذي ملك أذربيجان بعد ذلك يدعوه إلى طاعته، ففاوضه في أمر أسفار وسوء سيرته في الناس، واتفقا على الوثوب عليه به فأجابوه وفيهم مطرّف بن محمد وزيره فسار هو وسلّار إليه، وبلغه الخبر فثار به الجند فهرب إلى الريّ، وكتب إلى ماكان بن كالي بطبرستان يستألفه على أسفار فسار إليه ما كان فهرب أسفار من بيهق إلى بست، ثم دخل مفازة الريّ قاصدا قلعة ألموت التي حصّن بها أهله وذخيرته. وتخلّف عنه بعض أصحابه في المفازة، وجاء إلى مرداويج يخبره، فسار إليه وتقدّم بين يديه بعض القوّاد فلقي أسفار وساءله عن قوّاده، فأخبره أنّ مرداويج قتلهم فسرّ بذلك. ثم حمله القائد إلى مرداويج فأراد أن يحبسه بالريّ فحذّره بعض أصحابه غائلته، فأمر بقتله ورجع إلى الريّ. ولما قتل(4/559)
أسفار تنقّل مرداويج في البلاد يملكها، فملك قزوين، ثم الريّ، ثم همذان، ثم كنكور، ثم الدّينور، ثم دجرد [1] ، ثم قم، ثم قاشان، ثم أصفهان، ثم جرباد [2] . واستفحل ملكه وعتا وتكبّر، وجلس على سرير الذهب، وأجلس أكابر قوّاده على سرير الفضّة، وتقدّم لعسكره بالوقوف على البعد منه، ونودي بالخطّاب بينهم وبين حاجبه.
(استيلاء مرداويج على طبرستان وجرجان)
قد ذكرنا أنّ الألفة الواقعة بين مرداويج وما كان وتظاهرهما على أسفار حتى قتل وثبت مرداويج في الملك، واستفحل أمره فتطاول إلى ملك طبرستان وجرجان.
وسار إليهما سنة ست عشرة وثلاثمائة فانهزم ما كان أمامه واستولى مرداويج على طبرستان، وولّى عليها أسفهسلان، وأمّر على عسكره أبا القاسم [3] ، وكان حازما شجاعا. ثم سار إلى جرجان فهرب عامل ما كان عنها وملكها مرداويج، وولّى عليها صهره أبا القاسم المذكور خليفة عنه، ورجع إلى أصفهان ولحق أبو القاسم وهزمه، فرجع السائر إلى الديلم ولحق ما كان بنيسابور، واستمدّ أبا علي بن المظفّر صاحب جيوش ابن سامان، فسار معه في عساكره إلى جرجان فهزمهما أبو القاسم ورجعا إلى نيسابور. ثم سار ما كان إلى الدّامغان فدفعه عنها أبو القاسم فعاد إلى خراسان.
(استيلاء مرداويج على همذان والجبل وحروبه مع عساكر المقتدر)
لما ملك مرداويج بلاد الريّ أقبلت الديلم إليه، فأفاض فيهم العطاء وعظمت عساكره، فلم تكفه جباية أعماله، وامتدّت عينه إلى الأعمال التي تجاوره، فبعث إلى
__________
[1] هي بروجرد.
[2] جرباذقان: ابن الأثير ج 8 ص 196.
[3] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 197: «واستولى على طبرستان ورتّب فيها بلقاسم بن بانجين وهو أسفهسلار عسكره، وكان حازما، شجاعا، جيّد الرأي» .(4/560)
همذان سنة تسع عشرة جيشا كثيفا مع ابن أخته، وبها محمد بن خلف وعسكر المقتدر، فاقتتلوا وأعان على همذان عسكر الخليفة فظفروا بعسكر مرداويج، وقتلوا ابن أخته، فسار إليهم مرداويج من الريّ وهرب عسكر الخليفة من همذان ودخلها عنوة، فأثخن فيهم واستلحمهم وسباهم، ثم أمّنهم. وزحفت إليه عساكر المقتدر مع هارون بن غريب الحال فهزمهم بنواحي همذان، وملك بلاد الجبل وما وراء همذان، وبعث قائدا من أصحابه إلى الدينور ففتحها عنوة، وبلغت عساكره نحو حلوان، وامتلأت أيديهم من الذهب والسبي ورجعوا.
(خبر لشكري في أصفهان)
كان لشكري من الديلم ومن أصحاب أسفار، واستأمن بعد قتله إلى المقتدر، وصار في جند هارون بن غريب الحال. ولما انهزم هارون أمام مرداويج سنة تسع عشرة وثلاثمائة، أقام في قرقلنين [1] ينتظر مدد المقتدر، وبعث لشكري هذا إلى نهاوند يجيئه بمال منها، فتغلّب عليها وجمع بها جندا، ثم مضى إلى أصفهان في منتصف السنة وبها أحمد بن كيغلغ فحاربه وهزمه، وملك أصفهان، ودخل إليها عسكره، وأقام هو بظاهرها، فرأى لشكري فقصده يظنّه من بعض جنده أي أحمد، فلما تراءى دافع أحمد بن كيغلغ عن نفسه فقتل وهرب أصحابه ورجع ابن كيغلغ إلى أصفهان [2]
__________
[1] قرميسين: ابن الأثير ج 8 ص 228.
[2] العبارة مشوشة وغير واضحة، فقد سبق ان لشكري احتل أصفهان وأن أحمد هزم، ثم يعود أحمد الى أصفهان! وبمقتضى ذلك ينبغي ان تكون قتل عائدة الى لشكري وليس الى أحمد بن كيغلغ. وحسب مقتضى السياق ينبغي ان يكون العكس تماما. والواضح أن أكثر من عبارة سقطت أثناء النسخ مما سبب اضطراب العبارة والمعنى بشكل عام. وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 228 «ولما انهزم أحمد نجا الى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارسا، وركب لشكري يطوف بسور أصبهان من ظاهره، فنظر إلى أحمد في جماعته فسأل عنه فقيل: لا شك أنه من أصحاب أحمد بن كيغلغ، فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم، وكانوا عدة يسيرة، فلما قرب منهم تعارفوا فاقتتلوا فقتل لشكري، قتله أحمد بن كيغلغ، ضربه بالسيف على رأسه فقدّ المغفر والخوذة، ونزل السيف حتى خالط دماغه فسقط ميتا. وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين. فلما قتل لشكري انهزم من معه فدخلوا أصبهان واعلموا أصحابهم فهربوا على وجوههم وتركوا اثقالهم وأكثر رحالهم، ودخل أحمد الى أصبهان» .
ابن خلدون م 36 ج 4(4/561)
(استيلاء مرداويج على أصفهان)
ثم بعث مرداويج [1] عسكرا آخر إلى أصفهان سنة تسع عشرة فملكوها وجدّدوا له مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فنزلها وعسكره يومئذ أربعون أو خمسون الفا، ثم بعث عسكرا إلى الأهواز وخوزستان فملكوها وجبوا أعمالها، وبعث إلى المقتدر وضمن هذه البلاد بمائتي ألف دينار في كل سنة فقرّرت عليه، وأقطعه المقتدر همذان وماه الكوفة.
(قدوم وشمكير على أخيه مرداويج)
وفي سنة ستّ عشرة وثلاثمائة بعث مرداويج رسوله من الجند ليأتيه بأخيه وشمكير، فبعث إليه وأبلغه رسالة أخيه وأعلمه بمقامه في الملك، فاستبعد ذلك، ثم استغربه ونكر على أخيه مشايعته للمسودة، لأن الديلم والجيل كانوا شيعة للعلويّة بطبرستان، فلم يزل الرسول به حتى سار به إلى أخيه، فخرج به إلى قزوين وألبسه السواد بعد مراوضة. وقدم على أخيه بدويا حافيا مستوحشا فلم يكن إلا أن رهف الملك أعطافه فأصبح أرقّ الناس حاشية وأكثر الناس معرفة بالسياسة.
(خبر مرداويج مع ابن سامان على جرجان)
كان أبو بكر المظفّر صاحب جيوش ابن سامان بخراسان قد غلب على جرجان وانتزعها من ملكه مرداويج، فلما فرغ مرداويج من أمر خوزستان والأهواز رجع إلى الري وسار منها إلى جرجان، فخرج ابن المظفّر عن جرجان إلى نيسابور وبها يومئذ
__________
[1] قوله مرداويج هو بالحاء المهملة في النسخ التي بين أيدينا. وفي تاريخ ابن الوردي مرداويج بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملتين ثم ألف وواو محالة وياء مثناة تحت وجيم فارسية معناها معلّق الرجال انتهى- وفي المسعودي أنه يقال بالزاي أيضا بدل الراء ولكنه في نسخة بالحاء المهملة انتهى. مصححه.(4/562)
السعيد نصر بن سامان، فسار لمدافعة مرداويج عن جرجان، وكاتب محمد بن عبد الله البلغمي من قوّاد ابن سامان مطرّف بن محمد وزير مرداويج واستماله. وشعر بذلك فقتل وزيره وبعث إليه البلغمي يعذله في قصد جرجان، ويطوّق ذلك بالوزير مطرّف، ويذكّره حقوق السعيد بن سامان قبله وقصور قدرته عنه، ويشير عليه بالنزول له عن جرجان وتقرير المال عليه بالريّ، فقبل مرداويج إشارته وعاد عن جرجان وانتظم الحال بينهما.
(بداية أمر بني بويه)
وكانوا إخوة ثلاثة أكبرهم عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسن أحمد. لقّبهم بهذه الألقاب الخلفاء عند ما ملكوا الأعمال، وقلّدوهم إيّاها على ما نذكر بعد. وهم الذين تولّوا حجر الخلفاء بعد ذلك ببغداد كما يأتي. وأبوهم أبو شجاع بويه بن قناخس وللناس في نسبهم خلاف، فأبو نصر بن ماكولا ينسبهم إلى كوهي بن شيرزيك الأصغر ابن شير كوه بن شيرزيك الأكبر ابن سران شاه بن سيرقند بن سيسان شاه بن سير بن فيروز بن شروزيل بن سنساد بن هراهم جور، وبقيّة النسب مذكور في ملوك الفرس. وابن مسكويه قال: يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس. والحق أنّ هذا النسب مصنوع تقرّب إليهم به من لا يعرف طبائع الأنساب في الوجود، ولو كان نسبهم ذا خلل في الديلم لم تكن لهم تلك الرئاسة عليهم، وإن كانت الأنساب قد تتغيّر وتخفى وتنتقل من شعب إلى شعب ومن قوم إلى قوم فإنما هو بطول الأعصار وتناقل الأجيال واندراس الأزمان والأحقاب. وأمّا هؤلاء فلم يكن بينهم وبين يزدجرد وانقطاع الملك من الفرس إلا ثلاثمائة سنة، فيها سبعة أجيال أو ثمانية أجيال ميّزت فيها أنسابهم وأحصيت أعقابهم. فكيف يدرك مثل هذه الأنساب الخفاء في مثل هذه الاعصار. وإن قلنا كان نسبهم إلى الفرس ظاهرا منع ذلك من رياستهم على الديلم فلا شك في هذه التقادير في ضعة هذا النسب والله أعلم. وأمّا بدايتهم فإنّهم كانوا من أوسط الديلم نسبا وحالا. وفي أخبارهم أنّ أباهم أبا شجاع كان فقيرا، وأنه رأى في(4/563)
منامه أنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها، فاستطالت وارتفعت الى السماء. ثم افترقت ثلاث شعب ومن كل شعب عدّة شعب فاستضاءت الدنيا بها والناس خاضعون لتلك النيران. وان عابرا عبّر له الرؤيا بأنه يكون له ثلاثة أولاد يملكون الأرض، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت النار، ويولد لهم ملوك بقدر الشعب. وأنّ أبا شجاع استبعد ذلك واستنكره لما كانوا عليه من توسّط الحال في المعيشة، فرجع المعبر إلى السؤال عن وقت مواليدهم فأخبروه بها، وكان منّجما فعدل طوالعهم وقضى لهم جميعا بالملك فوعدوه وانصرف. ولما خرج قوّاد الديلم لملك البلاد وانتشروا في الأعمال مثل ليلى وما كان وأسفار ومرداويج خرج مع كل واحد منهم جموع من الديلم رءوس وأتباع، وخرج بنو أبي شجاع هؤلاء في جملة قوّاد ما كان، فلمّا اضطرب أمره وغلبه مرداويج عن طبرستان وجرجان مرّة بعد مرّة لحق آخرا بنيسابور مهزوما فاعتزم بنو بويه على فراقه واستأذنوه في ذلك، وقالوا إنما نفارقك تخفيفا عليك فإذا صلح أمرك عدنا إليك. وساروا إلى مرداويج، وتبعتهم جماعة من قوّاد ما كان فقبلهم مرداويج. وقلّد كل واحد منهم ناحية من نواحي الجبل. وقلّد علي بن بويه كرمس وكتب لهم العهود بذلك. وساروا إلى الريّ وبها يومئذ أخوه وشمكير ومعه وزيره الحسين بن محمد العميد والد أبي الفضل. ثم بدا لمرداويج في ولاية هؤلاء القوّاد المستأمنة فكتب إلى أخيه وشمكير ووزيره العميد بردّهم عن تلك الأعمال. وكان عليّ بن بويه قد أسلف عند العميد يدا في بغلة فارهة عرضها للبيع، واستامها العميد فوهبها له فرعى له العميد هذه الوسيلة. فلمّا قرأ كتاب مرداويج دسّ إلى ابن بويه بأن يغذّ السير إلى عمله فسار من حينه. وغدا وشمكير على بقيّة القوّاد، فاستعاد العهود من أيديهم، وأمر ابن بويه فأشار عليه أصحابه بترك ذلك لما فيه من الفتنة فتركه.
(ولاية عماد الدولة بن بويه على كرج وأصفهان)
ولما وصل عماد الدولة إلى كرج ضبط أمورها وأحسن السياسة في أهلها وأعمالها، وقتل جماعة من الخرّمية كانوا فيها وفتح قلاعهم، وأصاب فيها ذخائر كثيرة فأنفقها في(4/564)
جنده فشاع ذكره وحمدت سيرته. وكتب أهل الناحية إلى مرداويج بالنبإ فغصّ.
وجاء من طبرستان إلى الريّ وأطلق مالا لجماعة من قوّاده على كرج فاستمالهم عماد الدولة وأحسن إليهم، فأقاموا عنده. واستراب مرداويج فكتب إلى عماد الدولة في استدعائهم، فدافعه وحذّرهم منه فحذروا. ثم استأمن إليه سيراذ [1] من أعيان قوّاد مرداويج، فكثف به جمعه وسار إلى أصفهان وبها المظفّر بن ياقوت من قبل القاهر، في عشرة آلاف مقاتل، وعلى خراجها ابو علي بن رستم، فاستاذنهما في الانحياز إليهما، والدخول في طاعة الخليفة، فأعرضا عنه، ومات خلال ذلك ابن رستم وبرز ابن ياقوت من أصفهان لمدافعته، واستأمن إليه من كان مع ابن ياقوت من الجيل والديلم، ثم لقيه عماد الدولة في تسعمائة فهزمه وملك أصفهان.
(استيلاء ابن بويه على أرجان وأخواتها ثم على شيراز وبلاد فارس)
ولما بلغ خبر أصفهان إلى مرداويج اضطرب، وكتب إلى عماد الدولة بن بويه يعاتبه ويستميله، ويطلب منه إظهار طاعته، ويمدّه بالعساكر في البلاد والأعمال، ويخطب له فيها. وجهّز له أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبسه وهو مطمئن إلى تلك الرسالة، وشعر ابن بويه بالمكيدة فرحل عن أصفهان بعد أن جباها شهرين، وسار إلى أرّجان وبها أبو بكر بن ياقوت من أصفهان واليا عليها، ففصل عنها. ولما ملك ابن بويه أرّجان كاتبه أهل شيراز يستدعونه إليهم، وعليهم يومئذ ياقوت عامل الخليفة، وثقلت وطأته عليهم وكثر ظلمه، فاستدعوا ابن بويه وخام عن المسير إليهم، فأعادوا إليه الكتاب بالحثّ على ذلك، وأنّ مرداويج طلب الصلح من ياقوت فعاجل الأمر قبل أن يجتمعا، فسار إلى النوبندجان في ربيع سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وسبقته إليها مقدّمة ياقوت في ألفين من شجعان قومه. فلما وافاهم ابن بويه انهزموا إلى كرمان وجاءهم ياقوت هنالك في جميع أصحابه. وأقام عماد الدولة بالنّوبندجان، وبعث أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس،
__________
[1] شيرزاد: ابن الأثير ج 8 ص 269.(4/565)
فلقي هنالك عسكرا لياقوت فهزمهم وجبى تلك الأعمال ورجع إلى أخيه بالأموال.
ثم وقعت المراسلة بين مرداويج وياقوت في الصلح وسار وشمكير إليه عن أخيه فخشيهما عماد الدولة وسار من نوبندجان إلى إصطخر، ثم إلى البيضاء وياقوت في اتباعه. وسبقه ياقوت إلى قنطرة على طريق كرمان فصدّه عن عبوره، واضطرّه للحرب، فتحاربوا واستأمن جماعة من أصحاب ابن بويه إلى ياقوت فقتلهم، فخشيه الباقون واستماتوا. وقدّم ياقوت أمام عسكره رجاله بقوار النفط، فلما أشعلوها وقذفت أعادتها الريح عليهم فعلقت بهم، فاضطربوا، وخالطهم أصحاب ابن بويه في موقفهم وكانت الدبرة على ياقوت. ثم صعد إلى ربوة ونادى في أصحابه بالرجوع، فاجتمع إليه نحو اربعة آلاف فارس، وأراد الحملة عليهم لاشتغالهم بالنهب ففطنوا له، وتركوا النهب وقصدوه فانهزم واتبعوهم فأثخنوا فيهم. وكان معزّ الدولة أحمد بن بويه من أشدّ الناس بلاء في هذه الحرب، ابن تسع عشرة سنة لم يطرّ شاربه. ثم رجعوا إلى السواد فنهبوه وأسروا جماعة منهم، فأطلقهم ابن بويه وخيّرهم، فاختاروا المقام عنده فأحسن إليهم. ثم سار إلى شيراز فأمّنها ونادى بالمنع من الظلم، واستولى على سائر البلاد وعرفوه بذخائر في دار الإمارة وغيرها من ودائع ياقوت وذخائر بني الصفار. فنادى في الجند بالعطاء وأزاح عللهم، وامتلأت خزائنه، وكتب إلى الراضي وقد أفضت إليه الخلافة، وإلى وزيره أبي علي بن مقلة تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك، وبعثوا إليه بالخلع واللواء، وكان محمد بن ياقوت قد فارق أصفهان عند خلع القاهر وولاية الراضي، وبقيت عشرين يوما دون أمير، فجاء إليها وشمكير وملكها، فلما وصل الخبر إلى مرداويج باستيلاء ابن بويه على فارس سار إلى أصفهان للتدبير عليه، وبعث أخاه وشمكير إلى الريّ.
(استيلاء ما كان بن كالي على الريّ)
قد ذكرنا في دولة بني سامان أنّ أبا علي محمد بن الياس كان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بكرمان منتقضا على السعيد، فبعث إليه في هذه السنة جيشا كثيفا فاستولى على كرمان، وأقام فيها الدعوة لابن سامان، وكان أصل محمد بن الياس من(4/566)
أصحاب السعيد فسخطه وحبسه ثم أطلقه بشفاعة البلغميّ. وبعث مع صاحب خراسان محمد بن المظفّر إلى جرجان حتى إذا خرج أخوه السعيد من محبسهم، وبايعوا ليحيى منهم، كان محمد بن الياس معهم حتى تلاشى أمرهم، ففارقه ابن الياس من نيسابور إلى كرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله عنها ماكان ولحق بالدّينور وأقام ماكان واليا بكرمان بدعوة بني سامان.
(مقتل مرداويج وملك أخيه وشمكير من بعده)
لما استفحل أمر مرداويج كما قلنا عتا وتجبّر وتتوج بتاج مرصّع على هيئة تاج كسرى، وجلس على كرسي الذهب وأجلس أكابر قوّاده على كراسي الفضّة، واعتزم على قصد العراق، وبنى المدائن وقصور كسرى وأن يدعى بشاه. وكان له جند من الأتراك، كان كثير الإساءة إليهم، ويسمّيهم الشياطين والمردة فثقلت وطأته على الناس، وخرج ليلة الميلاد من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، إلى جبال أصفهان وكانوا يسمونها ليلة الوقود لما يضرم فيها من النيران. فأمر بجمع الحطب على الجبل من أوّله إلى آخره أمثال الجبال والتلال، وجمع ألفي طائر من الغربان والحدءات، وجعل النفط في أرجلها ليضرم الجبل نارا حتى يضيء الليل. واستكثر من أمثال هذا اللعب، ثم عمل سماطا للأكل بين يديه فيه مائة فرس ومائتا بقرة وثلاثة آلاف كبش وعشرة آلاف من الدجاج وأنواع الطير، وما لا يحصى من أنواع الحلوى، وهيّأ ذلك كله ليأكل الناس، ثم يقوموا إلى مجلس الشرب والندمان فتشعل النيران. ثم ركب آخر النهار ليطوف على ذلك كلّه بنفسه، فاحتقره وسخط من تولّى ترتيبه، ودخل خيمته مغضبا ونام، فأرجف القوّاد بموته فدخل إليه وزيره العميد وأيقظه، وعرّفه بما الناس فيه، فخرج وجلس على السماط وتناول لقمتين ثم ذهب، وعاد إلى مكانه، فقام في معسكره بظاهر أصفهان ثلاثا لا يظهر للناس. ثم قام في اليوم الرابع ليعود إلى قصره بأصفهان فاجتمعت العساكر ببابه، وكثر صهيل الخيل ومراحها فاستيقظ لكثرة الضجيج، فازداد غضبه وسأل عن أصحاب الدواب، فقيل إنها للأتراك نزلوا للخدمة وتركوها بين يدي الغلمان، فأمر أن تحل عنها(4/567)
السروج، وتجعل على ظهور الأتراك ويقودونهم إلى اصطبلات الخيل، ومن امتنع من ذلك ضرب، فأمسكوا ذلك على أقبح الهيئات، واصطنعوا [1] ذلك عليه، واتفقوا على الفتك به في الحمّام. وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمّامه، فسخطه ذلك اليوم وطرده، فلم يتقدّم إلى الحرس لمراعاته وداخلوا الخادم الّذي يتولى خدمته في الحمام في أن يفقده سلاحه، وكان يحمل خنجرا فكسر حديد الخنجر وترك النصاب لمرداويج، فلم يجد له حدّا فأغلق باب الحمام ودعمه من ورائه بسرير الخشب الّذي كان صاعدا عليه، فصعدوا إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالسهام فانحجر في زوايا الحمّام وكسروا الباب عليه وقتلوه. وكان الّذي تولى كبر ذلك جماعة من الأتراك، وهم توزون الّذي صار بعد ذلك أمير الأمراء ببغداد، ويارق بن بقراخان ومحمود بن نيال الترجمان [2] ويحكم [3] الّذي ولي إمارة الأمراء قبل توزون. ولما قتلوه خرجوا إلى أصحابهم فركبوا ونهبوا قصر مرداويج وهربوا. وكان الديلم والجيل بالمدينة فركبوا في أثرهم فلم يدركوا منهم إلّا من وقفت دابته فقتلوهم، وعادوا لنهب الخزائن، فوجدوا العميد قد أضرمها نارا. ثم اجتمع الديلم والجيل وبايعوا أخاه وشمكير بن زيار وهم بالريّ، وحملوا معهم جنازة مرداويج، فخرج وشمكير وأصحابه لتلقيهما على أربع فراسخ حفاة، ورجع العسكر الّذي كان بالأهواز إلى وشمكير واجتمعوا عليه، وتركوا الأهواز لياقوت فملكها، وقام وشمكير بملك أخيه مرداويج في الديلم والجيل، وأقام بالريّ، وجرجان في ملكه. وكتب السعيد بن سامان إلى محمد بن المظفر صاحب خراسان، وإلى ماكان بن كالي صاحب كرمان بالمسير إلى جرجان والريّ، فسار ابن المظفّر إلى قومس ثم إلى بسطام، وسار ماكان على المفازة إلى الدّامغان واعترضه الديلم من أصحاب وشمكير في جيش كثيف فهزموهم ولحق بنيسابور آخر ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وجعلت ولايتها لما كان بن كالي فأقام بها. وسار أبو عليّ بن الياس إلى كرمان بعد انصراف ماكان عنها فملكها وصفت له بعد حروب شديدة طويلة مع جيوش السعيد بن سامان. وكان له الظفر آخرا. وأمّا الأتراك الذين قتلوا مرداويج فافترقوا في هزيمتهم
__________
[1] حسب مقتضى السياق ينبغي ان تكون: اضطغنوا وقد تكون محرفة أثناء النسخ.
[2] ياروق وابن بغرا ومحمد بن ينال الترجمان: ابن الأثير ج 8 ص 301.
[3] بجكم: المرجع السابق.(4/568)
فرقتين. فسارت فرقة إلى عماد الدولة بن بويه وهم الأقل، وفرقة إلى الجيل مع يحكم وهم الأكثر فجبوا خراج الدينور وغيره. ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد فأذن لهم واستراب الحجرية بهم، فردّهم الوزير ابن مقلة إلى بلد الجيل [1] وأطلق لهم مالا فلم يرضوا به، فكاتبهم ابن رائق وهو يومئذ صاحب واسط والبصرة فلحقوا به، وقدم عليهم يحكم، فكاتب الأتراك من أصحاب مرداويج فقدم عليه منهم عدّة وافرة، واختص يحكم وتولّاه ونعته بالرائقي نسبة إليه، وأمره أن يرسمها في كتابه.
(مسير معز الدولة بن بويه الى كرمان وهزيمته)
لما ملك عماد الدولة بن بويه وأخوه ركن الدولة بلاد فارس والجيل، بعثا أخاهما الأصغر معز الدولة إلى كرمان خالصة له، فسار في العسكر إليها سنة أربع وعشرين وثلاثمائة واستولى على السيرجان وكان إبراهيم بن سيجور الدواني [2] قائد ابن سامان يحاصر محمد بن الياس ابن أليسع في قلعته هنالك. فلما بلغه خبر معزّ الدولة سار من كرمان إلى خراسان، وخرج محمد بن الياس من القلعة التي كان محاصرا بها إلى مدينة قمّ [3] على طرف المفازة بين كرمان وسجستان فسار إلى جيرفت وهي قصبة كرمان.
وجاء رسول علي بن أبي الزنجي المعروف بعلي بن كلونة [4] أمير القفص والبلوص، كان هو وسلفه متغلّبين على تلك الناحية ويعطون طاعتهم للأمراء والخلفاء على البعد ويحملون إليهم المال. فلما جاء رسوله بالمال امتنع معزّ الدولة من قبوله إلّا بعد دخول جيرفت، فلمّا دخل جيرفت صالحه وأخذ رهنه على الخطبة له. وكان عليّ بن كلونة قد نزل بمكان صعب المسلك على عشرة فراسخ من جيرفت، فأشار على معزّ الدولة
__________
[1] ترد هذه الكلمة عدة مرات الجيل ومرارا الجبل وفي معجم البلدان: الجبل «اسم جامع لهذه الأعمال التي يقال لها الجبال في بلاد العجم. وهو اسم علم للبلاد المعروفة اليوم باضطلاع العجم بالعراق، ونسبة العجم له بالعراق غلط» وقد تكون محرفة عن الجيلان وهي بلاد كثيرة وراء بلاد طبرستان، ويقطن بلاد جيلان قبيلة تسمى الجيل.
[2] إبراهيم بن سيمجور الدواتي: ابن الأثير ج 8 ص 324.
[3] هي مدينة بمّ وليست قمّ كما في الكامل.
[4] علي بن كالويه المرجع السابق.(4/569)
بعض أصحابه أن يغدر به ويكبسه ففعل ذلك، وأتى لعليّ بن كلونة عيونه بالخبر، فأرصد جماعة لمعز الدولة بمضيق في طريقه، فلمّا مر بهم ساريا ثاروا به من جوانبه وقتلوا من أصحابه وأسروا وأصابته جراح كثيرة، وقطعت يده اليسرى من نصف الذراع، وأصابع يده اليمنى وسقط بين القتلى، وبلغ الخبر إلى جيرفت فهرب أصحابه منها، وجاء علي بن كلونة فحمله من بين القتلى إلى جيرفت وأحضر الأطباء لعلاجه، وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعتذر ويبذل الطاعة فأجابه وأصلحه، وسار محمد بن الياس من سجستان إلى بلد خبابة [1] فتوجه إليه معز الدولة وهزمه وعاد ظافرا، ومرّ بابن كلونة فقاتله وهزمه وأثخن في أصحابه، وكتب إلى أخيه عماد الدولة بخبره مع ابن الياس وابن كلونة، فبعث قائدا من قوّاده واستقدمه إليه بفارس فأقام عنده بإصطخر إلى أن قدم عليهم أبو عبد الله البريدي منهزما من ابن رائق ويحكم المتغلّبين على الخلافة ببغداد، فبعث عماد الدولة أخاه معز الدولة وجعل له ملك العراق عوضا عن ملك كرمان كما يذكر بعد.
(استيلاء ماكان على جرجان وانتقاضه على ابن سامان)
قد ذكرنا انهزام ما كان على جرجان أيام بانجين الديلميّ ورجوعه إلى نيسابور، فأقام بها ثم بلغ الخبر بمهلك بانجين بجرجان فاستأذن ماكان محمد بن المظفّر في الخروج لاتباع بعض أصحابه هرب عنه وطالبه به عارض الجيش فأذن له، وسار إلى أسفراين [2] وبعث معه جماعة من عسكره إلى جرجان فاستولى عليها. ثم أظهر لوقته الانتقاض على ابن المظفّر وسار إليه بنيسابور، فتخاذل أصحابه وهرب عنها الى سرخس، وعاد عنها ماكان خوفا من اجتماع العساكر عليه. وذلك في رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
__________
[1] جنّابة: ابن الأثير ج 8 ص 327.
[2] أسفرايين: المرجع السابق.(4/570)
الخبر عن دولة بني بويه من الديلم المتغلبين على العراقين وفارس والمستبدين على الخلفاء ببغداد من خلافة المستكفي الى أن صاروا في كفالتهم وتحت حجرهم الى انقراض دولتهم وأولية ذلك ومصايره
قد تقدّم لنا التعريف ببني بويه وذكر نسبهم وهم من قوّاد الديلم الذين تطاولوا للاستيلاء على أعمال الخلفاء العباسيّين، ولمّا لم يروا عنها مدافعا ولا لها حامية فتنقّلوا في نواحيها، وملك كل واحد منهم أعمالا منها. واستولى بنو بويه على أصفهان والريّ، ثم انعطفوا على بلاد فارس فملكوا أرّجان وما إليها. ثم استولوا على شيراز وأعمالها وأحاطوا بأعمال الخلافة بنواحي بغداد من شرقها وشمالها، وكانت الخلافة قد طرقها الإعلال، وغلب عليها الموالي والصنائع، وقد كان ابو بكر محمد بن رائق عاملا بواسط، واضطرب حال الراضي ببغداد فاستقدمه وقلّده إمارة الجيوش، ونعته أمير الأمراء. وكان بنو البريديّ في خوزستان والأهواز فغصّوا به، ووقعت الوحشة بينه وبينهم فبعث ابن رائق بدرا الخرشنيّ ويحكم الّذي نزع إليه أتراك مرداويج، فساروا في العسكر لقتال ابن البريديّ، واستولوا على الأهواز سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولحق ابن البريديّ بعماد الدولة بن بويه لما ملك العراق، وسهّل عليه أمره. وذلك عند رجوع أخيه معز الدولة من كرمان وامتناعها عليه كما ذكرناه فبعث معه العساكر.
(استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز)
لما لحق أبو عبد الله البريدي بعماد الدولة ناجيا من الأهواز، مستنجدا له، بعث أخاه معزّ الدولة في العساكر بعد أن أخذ منه ابنيه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفياض رهنا. وسار معزّ الدولة سنة ست وعشرين وثلاثمائة فانتهى إلى أرّجان ويحكم جاء للقائهم، وانهزم أمامهم إلى الأهواز فأقام بها، وأنزل بها بعض عسكره في عسكر(4/571)
مكرم، فقاتلوا معزّ الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انهزموا الى تستر، فرحل معزّ الدولة إلى عسكر مكرم، وأنفذ ابن البريدي خليفته إلى الأهواز. ثم بعث إلى معزّ الدولة بأن ينتقل الى السوس، ويبعد عنه فيؤمن له الأهواز فعزله وزيره أبو جعفر الصيمريّ وغيره من أصحابه، وأروه أنّ البريديّ يخادعه، فامتنع معزّ الدولة من ذلك، وبلغ اختلافهم إلى يحكم، فبعث عسكرا من قبله فاستولى على الناس وجنّد نيسابور وبقية الأهواز بيد ابن البريدي وعسكر مكرم بيد معز الدولة. وضاق حال جنده وتحدّثوا في الرجوع إلى فارس فواعدهم لشهر، وكتب إلى أخيه عماد الدولة بالخبر، فبعث إليه مددا من العسكر، فعادوا واستولوا على الأهواز. وسار يحكم من واسط فاستولى على بغداد وقلّده الراضي إمارة الأمراء، وهرب ابن رائق فاختفى ببغداد.
انتزاع وشمكير أصفهان من يد ركن الدولة ومسيره الى واسط ثم استرجاعه أصفهان
قد ذكرنا أن وشمكير المستولي بعد أخيه مرداويج على الريّ، كان عماد الدولة استولى على أصفهان ودفعها إلى أخيه ركن الدولة فبعث إليها وشمكير سنة سبع وعشرين وثلاثمائة جيشا كثيفا من الريّ فملكوها من يده وخطبوا فيها لوشمكير. ثم سار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها، ورجع فلحق ركن الدولة بإصطخر، وجاءه لك رسول أخيه معز الدولة من الأهواز بأنّ ابن البريدي أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدها من الديلم، وأنّ الوزير أبا جعفر الصيمري كان على خراجها محتصرا بقلعة السوس، فسار ركن الدولة إلى السوس وهرب عساكر ابن البريدي بين يديه. ثم سار إلى واسط ليستولي عليها لأنه قد خرج عن أصفهان وليس له ملك يستقل به، فنزل بالجانب الشرقي وسار الراضي ويحكم من بغداد لحربه، فاضطرب أصحابه، واستأمن جماعة منهم لابن البريدي فخام ركن الدولة عن اللقاء، ورجع إلى الأهواز فسار إلى أصفهان، وهزم عسكر وشمكير بها وملكها. وكان هو وأخوه عماد الدولة بعثا لابن محتاج صاحب خراسان يحرّضانه على ماكان ووشمكير، واتصلت بينهم مودّة
.(4/572)
(مسير معز الدولة الى واسط والبصرة)
كان ابن البريدي بالبصرة وواسط قد صالح يحكم [1] أمير الأمراء ببغداد، وحرّضه على المسير إلى الجبل ليرجعها من يد ركن الدولة بن بويه، ويسير هو إلى الأهواز فيرتجعها من يد معز الدولة. واستمدّ يحكم فأمدّه بخمسمائة رجل، وسار إلى حلوان في انتظاره. وأقام ابن البريدي يتربّص به، وينتظر أن يبعد عن بغداد فيهجم هو عليها، وعلم يحكم بذلك فرجع إلى بغداد، ثم سار إلى واسط فانتزعها من يد ابن البريدي، وذلك لسنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وولي الخلافة المتّقي، وكان ظلّ الدولة العبّاسيّة قد تقلّص حتى قارب التلاشي والاضمحلال وتحكّم على الدولة بعد مولاه ابن رائق وابن البريدي الّذي كان يزاحمه في التغلب على الدولة، فبعث عساكره من البصرة إلى واسط، فسرّح إليه يحكم العساكر مع مولاه توزون فهزمهم، وجاء يحكم على أثره، ولقيه خبر هزيمتهم، فاستقام أمره، وطفق يتصدّق في تلك النواحي إلى أن عرض له بعض الأكراد ممن له عنده ثأر وهو منفرد عن عسكره فقتله، وافترق أصحابه فلحق جماعة من الأتراك بالشام، ومقدّمهم توزون وولّى الباقون عليهم يكسك مولى يحكم، وكان الديلم عند مقتله قد ولّوا عليهم باسوار بن ملك بن مسافر بن سلّار [2] وسلّار جدّه صاحب شميران الطرم الّذي داخل مرداويج في قتل أسفار وملك ابنه محمد بن مسافر بن سلّار أذربيجان، فكانت له ولولده بها دولة. ووقعت الفتنة بين الديلم والأتراك فقتله الأتراك، وولّى الديلم مكانه كورتكين، ولحقوا بابن البريديّ فزحف بهم إلى بغداد. ثم تنكّروا واتفقوا مع الأتراك على طرده فلحقوا بواسط، واستفحل الديلم وغلبوا الأتراك وقتل كورتكين كثيرا من الديلم، واستبدّ بإمرة الأمراء ببغداد. ثم جاء توزون من الشام بابن رائق وهزم كورتكين الديلم وقتل أكثرهم، وانفرد ابن رائق بإمرة الأمراء ببغداد سنة اثنتين وثلاثمائة. وكان ابن البريدي في هذه الفترة بعد يحكم قد استولى على واسط، فبعث
__________
[1] هو بجكم كما مر معنا من قبل.
[2] بلسواز بن مالك بن مسافر: ابن الأثير ج 8 ص 372.(4/573)
إليه ابن رائق واستوزره ففعل على أن يقيم بمكانه ويستخلف ابن شيرزاد ببغداد. ثم سار إليهم إلى واسط فهرب ابن رائق والمقتفي إلى الموصل، وتخلّف عنهم توزون، وعاث أصحاب ابن البريدي في بغداد، فشكا له الناس. ولما وصل المقتفي ولي ابن حمدان إمرة الأمراء بمكانه، وقصدوا بغداد فهرب، وخالفه توزون إلى المقتفي وابن حمدان وملكوا بغداد. وسار سيف الدولة أمام ابن البريديّ وخرج ناصر الدولة في اتباعه، فنزل المدائن وانكشف سيف الدولة أمام ابن البريديّ حتى انتهوا إلى أخيه ناصر الدولة بالمدائن، فأمدّه ورجع فهزم ابن البريدي وغلبه على واسط فملكها، ولحق ابن البريدي بالبصرة وأقام سيف الدولة بواسط ينتظر المدد ليسير إلى البصرة.
وجاءه أبو عبد الله الكوفي بالأموال، فشغب عليه الأتراك في طلب المال وثاروا به، ومقدّمهم توزون، فهرب إلى بغداد وهم في اتباعه، وكان أخوه قد انصرف إلى بغداد، ثم إلى الموصل فلحق به. ودخل توزون بغداد وولي الأمر بها. ثم استوحش من المقتفي وتربّص مسيره إلى واسط لقتال ابن البريدي، وسار إلى الموصل سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ومعزّ الدولة بن بويه في أثناء هذا كلّه مقيم بالأهواز، مطلّ على بغداد وأعمال الخليفة يروم التغلّب عليها، وأخوه عماد الدولة بفارس، وركن الدولة بأصفهان والريّ، فلمّا سار المقتفي من الرقّة إلى توزون خلعه وسمله ونصّب المكتفي.
وقد قدمنا هذه الأخبار كلها مستوعبة في أخبار الدولة العبّاسية وإنما أعددناها توطئة لاستيلاء بني بويه على بغداد واستبدادهم على الجلالقة. ثم عاد معزّ الدولة إلى واسط سنة ثلاث وثلاثين فسار توزون والمستكفي لدفاعه، ففارقها وعاد إلى الأهواز.
(استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد واندراج أحكام الخلافة في سلطانه)
ثم إنّ توزون في فاتح سنة أربع وثلاثين عقد الأتراك الرئاسة عليهم لابن شيرزاد، وولّاه المستكفي إمرة الأمراء في الأرزاق، فضاقت الجبايات على العمّال والكتّاب والتجّار، وامتدّت الايدي إلى أموال الرعايا، وفشا الظلم وظهرت اللصوص، وكبسوا المنازل وأخذ الناس في الجلاء عن بغداد. ثم استعمل ابن شيرزاد على واصل نيال كوشه، وعلى تكريت الفتح اليشكري فانتقضا، وسار الفتح لابن حمدان(4/574)
فولّاه على تكريت من قبله وبدعوته، وبعث نيال كوشه إلى معزّ الدولة وقام بدعوته.
واستدعاه لملك بغداد فزحف إليها في عساكر الديلم، ولقيه ابن شيرزاد والأكراد فهزمهم، ولحقوا بالموصل وأخفي المستكفي وقدّم معز الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلّبيّ إلى بغداد فدخلها، وظهر الخليفة من الاختفاء، وحضر عند المهلّبيّ فبايع له عن معزّ الدولة أحمد بن بويه، وعن أخويه عماد الدولة وركن الدولة الحسن.
وولّاهم المستكفي على أعمالهم ولقّبهم بهذه الألقاب ورسمها على سكّته. ثم جاء معزّ الدولة إلى بغداد فملكها وصرف الخليفة في حكمه، واختصّ باسم السلطان، وبعث إليه أبو القاسم البريدي صاحب البصرة فضمن واسط وأعمالها وعقد له عليها.
(خلع المستكفي وبيعة المطيع وما حدث في الجباية والاقطاع)
وبعد أشهر قلائل من استيلاء معزّ الدولة على بغداد نمي إليه أن المستكفي يريد الادالة منه فتنكّر له، وأجلسه في يوم مشهود للقاء وافد من أصحاب خراسان، وحضر معزّ الدولة في قومه وعشيرته، وأمر رجلين من نقباء الديلم بالفتك بالخليفة، فتقدّما ووصلاه ليقبّلا يد المستكفي، ثم جذباه عن سريره وقاداه ماشيا واعتقلاه بداره، وذلك في منتصف أربع وثلاثين وثلاثمائة فاضطرب الناس وعظم النهب، ونهبت دار الخلافة. وبايع معزّ الدولة للفضل بن المقتدر ولقبه المطيع للَّه، وأحضر المستكفي فأشهد على نفسه بالخلع، وسلّم على المطيع بالخلافة، وسلب الخليفة من معاني الأمر والنهي وصيّرت الوزارة إلى معزّ الدولة يولى فيها من يرى. وصار وزير الخليفة مقصور النظر على إقطاعه ومقتات داره، وتسلّم عمّال معز الدولة وجنده من الديلم وغيرهم أعمال العراق وأراضيه ولاية وإقطاعا حتى كان الخليفة يتناول الإقطاع بمراسم معزّ الدولة، وإنما ينفرد بالسرير والمنبر والسكّة والختم على الرسائل والصكوك، والجلوس للوفد وإجلال التحيّة والخطاب، ومع ذلك بأوضاع القائم على الدولة وترتيبه، وكان القائم منهم على الدولة تفرّد في دولة بني بويه والسلجوقيّة بلقب السلطان ولا يشاركه فيه غيره، ومعاني الملك من القدرة والأبهة والعزّ وتصريف الأمر والنهي حاصل للسلطان دون الخليفة. وكانت الخلافة حاصلة للعبّاسي(4/575)
المنصوب لفظا مسلوبة عنه معنى. ثم طلب الجند أرزاقهم بأكثر من العادة لتجدّد الدولة فاضطر إلى ضرب المكوس، ومدّ الأيدي إلى أموال الناس، وأقطعت جميع القرى والضياع للجند، فارتفعت أيدي العمّال وبطلت الدواوين لأنّ ماكان منها بأيدي الرؤساء لا يقدرون على النظر فيها، وماكان بأيدي الأتباع خرّب بالظلم والمصادرات والحيف في الجباية وإهمال النظر في إصلاح القناطر وتعديل المشارب، وما خرّب منها عوّض صاحبه عنه بآخر، فيخرّبه كما يخرّب الآخر. ثم إنّ معزّ الدولة أفرد جمعها من المكوس والظلامات وعجز السلطان عن ذخيرة يعدّها لنوائبه. ثم استكثر من الموالي ليعتزّ بهم على قومه، وفرض لهم الأرزاق والأقطاع فحدثت غيرة قومه من ذلك، وآل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في الدول.
(مسير ابن حمدان إلى بغداد وانهزامه أمام معز الدولة)
ولما بلغ استيلاء معزّ الدولة على بغداد، وخلعه المستكفي إلى ناصر الدولة بن حمدان امتعض لذلك وسار من الموصل إلى بغداد في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فقدّم معز الدولة عساكره فأوقع بها ابن حمدان بعكبرا. ثم سار معزّ الدولة ومعه المطيع إلى مدافعته ولحق به ابن شيرزاد فاستحثّه إلى بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وخالفه معزّ الدولة إلى تكريت ونهبها، وتسابقوا جميعا إلى بغداد، فنزل معزّ الدولة والمطيع بالجانب الشرقي وابن حمدان بالجانب الغربي، فقطع الميرة عن معسكر معزّ الدولة فغلت الأسعار وعزّت الأقوات. ونهب عسكره مرارا فضاق به الأمر واعتزم على العود إلى الأهواز فأمر وزيره أبا جعفر الصيمريّ بالعبور في العساكر لقتال ابن حمدان فظفر به الصيمريّ وغنم الديلم أموالهم وظهرهم. ثم أمّن معز الدولة الناس وأعاد المطيع إلى داره في محرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ورجع ابن حمدان إلى عكبرا، وأرسل في الصلح سرا فنكر عليه الأتراك التورونية وهمّوا بقتله، وفرّ إلى الموصل ومعه ابن شيرزاد، ثم صالحه معز الدولة كما طلب. ولما فرّ عن الأتراك التورونية أعلمهم تكين الشيرازي فقبضوا على من تخلّف من أصحابه، وساروا في اتباعه وقبض هو في طريقه على ابن شيرزاد، وتجاوز الموصل إلى نصيبين فملكها تكين، وسار في اتباعه(4/576)
إلى السّند، فلحقه هنالك عسكر من معزّ الدولة كما طلب، وأمدّه به مع وزيره أبي جعفر الصيمريّ، وقاتل الأتراك فهزمهم، وسار إلى الموصل هو والصيمريّ فدفع ابن شيرزاد إلى الصيمريّ وحمله إلى معز الدولة، وذلك سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
(استيلاء معز الدولة على البصرة والموصل وصلحه مع ابن حمدان)
وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة انتقض أبو القاسم بن البريدي بالبصرة، فجهّز معزّ الدولة الجيش إلى واسط ولقيهم جيش ابن البريدي في الماء وعلى الظهر، فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة. ثم سار معزّ الدولة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى البصرة ومعه المطيع كارها من قتال أبي القاسم البريدي، وسلكوا إليها البرّية وبعث القرامطة يعزلون في ذلك معزّ الدولة، فكتب يتهدّدهم. ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم، وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه وملك معزّ الدولة البصرة.
ثم سار هو منها إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة، وترك المطيع وأبا جعفر الصيمري بالبصرة، وانتقض على معزّ الدولة كوكير من أكابر الديلم، فقاتله الصيمريّ وهزمه وأسره، وحبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز. ثم لقي أخاه معزّ الدولة بأرّجان في شعبان من السنة، وسلك في تعظيمه وإجلاله من وراء الغاية. وكان عماد الدولة يأمره بالجلوس في مجلسه فلا يفعل. ثم عاد معزّ الدولة والمطيع إلى بغداد، ونودي بالمسير إلى الموصل فتردّدت الرسل من ابن حمدان في الصلح وحمل المال. ثم سار إليه سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة في شهر رمضان واستولى على الموصل، وأراد الإثخان في بلاد ابن حمدان فجاءه الخبر عن أخيه ركن الدولة بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان، واضطرّ إلى الصلح. واستقرّ الصلح بينهما على أن يعطي ابن حمدان عن الموصل والجزيرة والشام ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، ويخطب لعماد الدولة ومعزّ الدولة في بلاده، وعاد إلى بغداد.
ابن خلدون م 37 ج 4(4/577)
(استيلاء ركن الدولة على الريّ ثم طبرستان وجرجان ومسير عساكر ابن سامان اليها)
قد تقدّم لنا استيلاء ركن الدولة على أصفهان من يد وشمكير حين بعث عساكره مددا لما كان بن كالي، وكان ركن الدولة وأخوه عماد الدولة بعثا إلى أبي علي بن محتاج قائد بني سامان يحرّضانه على ماكان ووشمكير، ويعدانه المظاهرة عليهما، فسار أبو علي إلى وشمكير بالريّ ولقيه ركن الدولة بنفسه. واستمدّ وشمكير ماكان فجاءه في عساكره والتقوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان. ثم سار بعساكره إلى بلد الجيل فاقتحمها واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقمّ وكرج وهمدان ونهاوند والدّينور إلى حدود حلوان، ورتّب فيها العمّال وجبى أموالها. ثم وقع خلاف بين وشمكير والحسن بن الفيرزان ابن عم ماكان، واستنجد الحسن بأبي علي بن محتاج فأنجده حتى وقع بينهما صلح، وعاد أبو علي إلى خراسان وصحبه الحسن بن الفيرزان، ولقيه في طريقه رسل السعيد بن سامان، وأمر أبا علي بن محتاج سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بغدر الحسن بأبي علي [1] ونهب سواده وعاد إلى جرجان فملكها وملك معها الدّامغان وسمنان، وسار وشمكير من طبرستان إلى الريّ فاستولى عليها أجمع، وكان في فلّ من العسكر لفناء رجاله في حروبه مع أبي علي بن محتاج والحسن بن الفيرزان، فتطاول حينئذ ركن الدولة إلى الاستيلاء على الريّ، وسار إلى الريّ وقاتل وشمكير فهزمه، فلحق بطبرستان واستولى ركن الدولة على الريّ. وأجمع مخالصة الحسن بن الفيرزان وزوّجه ابنته، وتمسّك بمواصلته ومودّته واستفحل بذلك ملك بني بويه وامتنع وصارت لهم أعمال الريّ والجيل وفارس والأهواز والعراق. ويحمل إليهم ضمان الموصل
__________
[1] العبارة غير واضحة ومبهمة وفي الكامل تصويب لهذه العبارة في الجزء الثامن ص 444: «فوضع أعداء أبي عليّ جماعة من الغوغاء والعامة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوّابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور وعاد عنها إلى بخارى في رمضان، وكان مرادهم بذلك أن يقطعوا طمع أبي علي عن خراسان ليقيم بالريّ وبلاد الجبل، فاستوحش ابو عليّ لذلك، فإنه كان يعتقد أنه يحسن إليه بسبب فتح الريّ وتلك الأعمال. فلمّا عزل شقّ ذلك عليه، ووجّه أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمد إلى كور الجبال، وولّاه همذان، وجعله خليفة على من معه من العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها» .(4/578)
وديار بكر. ثم سار ركن الدولة بن بويه إلى بلاد وشمكير سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومعه الحسن بن الفيرزان مددا، ولقيهما وشمكير فانهزم أمامهما، ولحق بخراسان مستنجدا بابن سامان، وملك ركن الدولة طبرستان وسار منها إلى جرجان فأطاعه الحسن بن الفيرزان وولّاه ركن الدولة عليها، واستأمن إليه قوّاد وشمكير ورجع إلى أصفهان.
(بداية بني شاهين ملوك البطيحة أيام بني بويه)
كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة وكان يتصرّف في الجباية، وحصل منها بيده مال فصرفه وهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة. وأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسمك الماء وطيره، ويأخذ الرفاق التي تمرّ به، واجتمع إليه لصوص الصيّادين فقوي وامتنع على السلطان وتمسّك بطاعة أبي القاسم بن البريدي بالبصرة فقلّده حماية الجامدة وحماية البطائح ونواحيها، فعزّ جانبه وكثر جمعه وسلاحه، واتّخذ معاقل على التلال بالبطيحة وغلب على تلك النواحي. وأهمّ معزّ الدولة أمره وبعث وزيره أبا جعفر الصيمريّ في العساكر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وحصره، وأيقن بالهلاك وما نفس عن مخنقه إلا وصول الخبر بوفاة عماد الدولة بن بويه، ومبادرة الوزير الصيمريّ إلى شيراز، فعاد عمران إلى حاله وقوي أمره كما يأتي في أخبار دولته.
(وفاة عماد الدولة بن بويه وولاية عضد الدولة ابن أخيه على بلاد فارس مكانه)
ثم توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بمدينة شيراز كرسي مملكة فارس في منتصف سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد أن كان طلب من أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة، فتأخر ليوليه عهده إذ لم يكن له ولد ذكر، فأنفذه إليه ركن الدولة في جماعة من أصحابه لسنة بقيت من حياته. وركب عماد الدولة للقائه ودخل(4/579)
به إلى داره في يوم مشهود، وأجلسه على السرير وأمر الناس أن يحيّوه بتحية الملك.
وكان في قوّاد عماد الدولة جماعة أكابر لا يستكينون لعماد الدولة فضلا عن عضد الدولة مكانه بفارس، واختلف عليه أصحابه، فجاء إليه ركن الدولة أبوه من الريّ بعد أن استخلف عليها علي بن كتامة، وكتب معزّ الدولة إلى وزيره الصيمريّ بأن يترك محاربة ابن شاهين ويسير إلى شيراز مددا لعضد الدولة. وأقام ركن الدولة في شيراز تسعة أشهر، وبعث إلى أخيه معزّ الدولة بهدية من الأموال والسلاح، وكان عماد الدولة هو أمير الأمراء وإنما كان معزّ الدولة نائبا عنه في كفالة الأموال وولاية أعمال العراق، فلما مات عماد الدولة وانقلبت إمرة الأمراء إلى ركن الدولة. وبقي معزّ الدولة نائبا عنه كما كان عن عماد الدولة لأنه كان أصغر منهما.
(وفاة الصيمري ووزارة المهلبي)
كان أبو جعفر أحمد الصيمري وزير معز الدولة قد عاد من فارس إلى أعمال الجامدة، وأقام يحاصر عمران بن شاهين إلى أن هلك منتصف تسع وثلاثين وثلاثمائة وكان يستخلف بحضرة معزّ الدولة في وزارته أبا محمد الحسن بن محمد المهلبيّ، فباشره معزّ الدولة وعرف كفايته واضطلاعه، فاستوزره مكان الصيمريّ فحسن أثره في جمع الأموال وكشف الظلامات وتقريب أهل العلم والأدب والإحسان إليهم.
(مسير عساكر ابن سامان إلى الري ورجوعها)
لما سار ركن الدولة إلى بلاد فارس بعث الأمير نوح بن سامان إلى منصور بن قراتكين صاحب جيوشه بخراسان أن يسير إلى الريّ، فسار إليها سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وكان بها عليّ بن كتامة خليفة ركن الدولة، ففارقها إلى أصفهان وملك منصور الري، وبث العساكر في البلاد فملكوا الجيل إلى قرميس، واستولوا على همذان، وبعث ركن الدولة من فارس إلى أخيه معزّ الدولة بإنفاذ العساكر إلى مدافعتهم، فبعث سبكتكين الحاجب في جيش كثيف من الديلم وغيرهم، فكبسهم وأسر(4/580)
مقدّمهم فأعادوا إلى همذان. ثم سار إليهم ففارقوها، وملكها وورد عليه ركن الدولة بهمذان، فعدل منصور بن قراتكين إلى أصفهان فملكها، وسار إليها ركن الدولة وسبكتكين في مقدّمته، وشغب عليه بعض الأتراك فأوقع بهم وتردّدوا في تلك الناحية. وكتب معزّ الدولة إلى ابن أبي الشوك الكرديّ يتبعهم فقتل منهم وأسر، ونجا بعض إلى الموصل. وترك ركن الدولة قريبا من أصفهان، وجرت بينه وبين منصور حروب، وضاقت الميرة على الفريقين إلّا أنّ الديلم كانوا أصبر على الجوع وشظف العيش من أهل خراسان لقرب عهدهم بالبداوة. ومع ذلك فهمّ ركن الدولة بالفرار لولا وزيره ابن العميد كان يثبته ويريه أنه لا يغني عنه، وأنّ الاستماتة أولى به، فصبر وشغب على منصور بن قراتكين جنده وانفضّوا جميعا إلى الريّ وتركوا مخلفهم بأصفهان، فاحتوى عليه ركن الدولة، وذلك فاتح سنة أربعين وثلاثمائة ومات منصور بن قراتكين بالريّ في ربيع الأوّل من السنة، ورجعت العساكر إلى نيسابور.
(استيلاء ركن الدولة ثانيا على طبرستان وجرجان)
قد كنا قدّمنا استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وأنه استخلف على جرجان الحسن بن الفيرزان. وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان، فسار معه صاحب جيوش خراسان منصور بن قراتكين، وحاصر جرجان، فصالحه الحسن بن الفيرزان بغير رضا من وشمكير لانحرافه عنه وعن الأمير نوح.
ورجع إلى نيسابور وأقام وشمكير بجرجان والحسن بزوزن. ثم سار ركن الدولة سنة أربعين وثلاثمائة من الريّ إلى طبرستان وجرجان ففارقها وشمكير إلى نيسابور، واستولى ركن الدولة عليها، واستخلف بجرجان الحسن بن الفيرزان وعليّ بن كتامة، وعاد إلى الريّ فقصدهما وشمكير وانهزما منه، واستردّ البلاد من ركن الدولة، وكتب الأمير نوح يستنجده على ركن الدولة، فأمر أبا عليّ بن محتاج بالمسير معه في جيوش خراسان، فسار في ربيع سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وامتنع ركن الدولة ببعض معاقلة، وحاربه أبو عليّ بن محتاج في جيوش خراسان حتى ضجرت عساكره(4/581)
وأظلهم فصل الشتاء، فراسل ركن الدولة في الصلح على أن يعطيهم ركن الدولة مائتي ألف دينار في كل سنة، وعاد إلى خراسان. وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأنّ ابن محتاج لم ينصح في أمر ركن الدولة، وأنه ممالئ، فسخطه من أجل ذلك وعزله عن خراسان. ولما عاد ابن محتاج عن ركن الدولة سار هو إلى وشمكير فانهزم وشمكير إلى أسفراين، واستولى ركن الدولة على طبرستان.
(اقامة الدعوة لبني بويه بخراسان)
ولما عزل الأمير نوح أبا علي بن محتاج عن خراسان استعمل مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فانتقض حينئذ وخطب لنفسه بنيسابور، وتحيّز عنه ابن الفيرزان مع وشمكير إلى الأمير نوح، فخام ابن محتاج عن عداوتهم، واستأذن ركن الدولة في المسير إليه. ثم سار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه بأنواع الكرامات وسأل منه ابن محتاج أن يقتضي له عهد الخليفة بولاية خراسان، فبعث ركن الدولة في ذلك إلى أخيه معزّ الدولة ببغداد، وجاءه العهد والمدد، فسار إلى خراسان فخطب بها للخليفة وركن الدولة. ثم مات نوح خلال ذلك وولي ابنه عبد الملك فبعث بكر بن مالك من بخارى إلى خراسان لإخراج ابن محتاج منها، فسار إليه وهرب ابن محتاج إلى الريّ فآواه ركن الدولة وأقام عنده، واستولى بكر بن مالك على خراسان. ثم سار ركن الدولة إلى جرجان ومعه ابن محتاج فتركها [1] وملكها، ولحق وشمكير بخراسان.
(مسير عساكر ابن سامان الى الري وأصفهان)
ولما فرغ بكر بن مالك من أمر خراسان وأخرج منها ابن محتاج، سار منها سنة أربع وأربعين وثلاثمائة في أتباعه الى الري وأصفهان، وكان ركن الدولة غائبا بجرجان فملكها ورجع إلى الريّ في المحرّم من السنة، وكتب إلى أخيه معز الدولة يستمدّه فأمده
__________
[1] حسب مقتضى السياق دخلها وليس تركها.(4/582)
بالعساكر مع ابن سبكتكين، وجاء مقدّمة العساكر من خراسان إلى أصفهان من طريق المفازة وبها الأمير منصور بن بويه بن ركن الدولة، ومقدّم العساكر محمد بن ماكان فملك أصفهان وخرج في طلب ابن بويه [1] ، واتفق وصول الوزير أبي الفضل بن العميد فلقيه محمد بن ماكان فهزمه، وعاد أولاد ركن الدولة وحرمه إلى أصفهان. وراسل ركن الدولة بكر بن مالك صاحب العساكر بخراسان في الصلح على مال يحمله إليه، وتكون الريّ وبلد الجيل في ضمانه، فأجابه بكر بن مالك إلى ذلك وصالحه عليه، وكتب ركن الدولة إلى أخيه معزّ الدولة بأن يبعث إلى بكر بن مالك خلعا ولواء لولاية خراسان فبعث بها في ذي القعدة من السنة.
(خروج روزبهان على معز الدولة وميل الديلم اليه)
كان روزبهان ونداد خرسية [2] من كبار قوّاد الديلم، وكان معزّ الدولة قد رفعه ونوّه بذكره، فخرج سنة خمس وأربعين بالأهواز ومعه أخوه أسفار، وخرج أخو بلكا بشيراز. ولمّا خرج روزبهان زحف إليه الوزير المهلّبيّ لقتاله فنزع الكثير من أصحابه إلى روزبهان فانحاز عنه، وبعث بالخبر إلى معزّ الدولة فسار إليهم واختلف عليه الديلم ومالوا مع روزبهان وفصل معزّ الدولة من بغداد خامس شعبان من السنة قاصدا لحربه، وبلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان، فبعث ابنه أبا الرجال في العساكر للاستيلاء على بغداد، فخرج الخليفة عنها منحدرا، وأعاد معزّ الدولة سبكتكين الحاجب وغيره لمدافعة ابن حمدان عن بغداد. وسار إلى أن قارب الأهواز
__________
[1] المعنى غير واضح والضمائر متداخلة والجمل معقدة وهذا الأسلوب كثيرا ما يلجأ إليه ابن خلدون مما يجعل القارئ امام حيرة وتتحول المعاني البسيطة الى الغاز. وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 511 «وفي هذه السنة- 344- خرج عسكر خراسان إلى الريّ، وبها ركن الدولة وكان قد قدمها من جرجان أول المحرّم، فكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده، فأمدّه بعسكر مقدّمهم الحاجب سبكتكين، وسيّر من خراسان عسكرا آخر إلى أصبهان على طريق المفازة، وبها الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة. فلما بلغه خبرهم سار عن أصفهان بالخزائن والحرم التي لأبيه فبلغوا خان لنجان، وكان مقدّمهم العسكر الخراساني محمد بن ماكان، فوصلوا إلى أصبهان، فدخلوها، وخرج ابن ماكان منها في طلب بويه ... » .
[2] روزبهان بن ونداد خرشيد الديلميّ: ابن الأثير ج 8 ص 514.(4/583)
والديلم في شغب عليه وعلى عزم اللحاق بروزبهان إلّا نفرا يسيرا من الديلم كانوا خالصة، فكان يعتمد عليهم وعلى الأتراك، وكان يفيض العطاء في الديلم فيمسكون عما يهمون به. ثم ناجز روزبهان الحرب سلخ رمضان فانهزم وأخذ أسيرا، وعاد إلى بغداد إلى أبي الرجال بن حمدان، وكان بعكبرا فلم يجده لأنه بلغه خبر روزبهان فأسرع العود الى الموصل ودخل معز الدولة بغداد وغرق روزبهان وكان أخوه بلكا الخارج بشيراز أزعج عنها عضد الدولة، وسار إليه أبو الفضل بن العميد وقاتله فظفر به، وعاد عضد الدولة إلى ملكه وانمحى أثر روزبهان وإخوته، وقبض معز الدولة على جماعة منهم ممن ارتاب بهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم وأقطع لهم فاعتزوا وامتدّت أيديهم.
(استيلاء معز الدولة على الموصل ثم عودها)
كان ناصر الدولة بن حمدان قد صالح معز الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة، ثم لم يحمل، فسار إليه معزّ الدولة منتصف سبع وأربعين وثلاثمائة ففارق الموصل إلى نصيبين، وحمل معه سائر أهل دولته من الوكلاء والكتّاب ومن يعرف وجوه المال، وأنزلهم في قلاعه كقلعة كواشي والزعفران وغيرهما. وقطع الميرة عن عسكر معزّ الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فسار معز الدولة إلى نصيبين للميرة، وبلغه أنّ أبا الرجاء وهبة الله في عسكر سنجار، فبعث إليهم بعض عساكره وكبسوهم فهربوا، واستولى العسكر على مخلّفهم، ونزلوا في خيامهم، وكرّ عليهم أولاد ناصر الدولة وهم غارّون فأثخنوا فيهم وأقاموا بسنجار. وسار معزّ الدولة إلى نصيبين فلحق ناصر الدولة بميافارقين، واستأمن الكثير من أصحابه إلى معز الدولة فلحق بأخيه سيف الدولة بحلب، فبالغ في تكرمته وخدمته، وتوسّط في الصلح بينه وبين معزّ الدولة بثلاثة آلاف ألف فأجابه معزّ الدولة وتم ذلك بينهما. ورجع معزّ الدولة العراق في محرّم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة
.(4/584)
(العهد لبختيار)
وفي سنة خمس [1] وأربعين وثلاثمائة طرق معزّ الدولة مرض استكان له وخشي على نفسه، فأراد العهد لابنه بختيار، وعهد إليه بالأمر وسلّم له الأموال، وكان بين الحاجب سبكتكين والوزير المهلّبيّ منافرة فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وعهد إليه بالأمور واعتزم على العود إلى الأهواز مستوحشا هواء بغداد، فلما بلغ كلواذا اجتمع به أصحابه وسفّهوا رأيه في الانتقال من بغداد على ملكه، وأشاروا عليه بالعود إليها وأن يستطيب الهواء في بعض جوانبها المرتفعة ويبني بها دورا لسكنه ففعل، وأنفق فيها ألف ألف دينار وصادر فيها جماعة من أصحابه.
(استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان)
وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة سار ركن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير فحاصره بمدينة سارية وملكها، ولحق وشمكير بجرجان وترك طبرستان فملكها ركن الدولة وأصلح أمرها. ثم سار إلى جرجان فخرج عنها وشمكير واستولى عليها ركن الدولة، واستأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد بهم قوة، ودخل وشمكير بلاد الجيل مسلوبا واهنا.
(ظهور البدعة ببغداد)
وفي هذه السنة كتب الشيعة على المساجد بأمر معزّ الدولة لعن معاوية بن أبي سفيان صريحا، ولعن من غصب فاطمة فدك، ومن منع أن يدفن الحسن عند جدّه، ومن نفى أبا ذرّ الغفاريّ ومن أخرج العبّاس من الشورى، ونسب ذلك كلّه لمعزّ الدولة لعجز الخليفة. ثم أصبح ممحوّا وأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير المهلّبيّ بأن يكتب مكانه لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يذكر أحدا باللعن إلّا معاوية رضي الله عنه.
__________
[1] وفي الكامل ج 8 ص 510: سنة 344.(4/585)
(وفاة الوزير المهلبي)
وفي سنة اثنتين وخمسين سار المهلبّي وزير معز الدولة إلى عمان ليفتحها، فلما ركب البحر طرقه المرض فعاد إلى بغداد، ومات في طريقه في شعبان من السنة، ودفن ببغداد. وقبض معزّ الدولة أمواله وذخائره وقبض على حواشيه وحبسهم، ونظر في الأمور بعده أبو الفضل بن العبّاس بن الحسن الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العبّاس بن نساقجر، ولم يتسمّوا باسم الوزارة.
(استيلاء معز الدولة ثالثا على الموصل)
كان ناصر الدولة بن حمدان قد ضمن الموصل كما تقدّم، وأجابه معزّ الدولة إلى ضمانه، فبذل له ناصر الدولة زيادة على أن يدخل معه في الضمان أبو ثعلب فضل الله الغضنفر، ويحلف لهما معزّ الدولة فأبى من ذلك، وسار إلى الموصل منتصف ثلاث وخمسين وثلاثمائة ففارقها ابن حمدان الى نصيبين وملكها معز الدولة. ثم خرج إلى طلب ابن حمدان منتصف شعبان واستخلف على الموصل بكتوزون [1] وسبكتكين العجميّ وسار ابن حمدان عن نصيبين وملكها معزّ الدولة، وخالفه ابن حمدان إلى الموصل وحارب عسكر معز الدولة فيها فهزموه، وجاء الخبر إلى معزّ الدولة، فظفر أصحابه بابن حمدان، وسار ونزل جزيرة ابن عمر، فسار في اتباعه، فوصل سادس رمضان فوجده قد جمع أولاده وعساكره إلى الموصل، فأوقع بأصحاب معز الدولة وأسر الأميرين اللذين خلفا بها، واستولى على ما خلّفوه من مال وسلاح، وحمل الجميع مع الأسرى إلى قلعة كواشى، فأعيا معزّ الدولة أمره وهو من مكان إلى مكان في اتباعه، فأجابه إلى الصلح وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة بمال قرّره، فاستقرّ الصلح على ذلك، وأطلق ابن حمدان الأسرى، ورجع معز الدولة إلى بغداد.
__________
[1] بكتوزون: ابن الأثير ج 8 ص 553.(4/586)
(استيلاء معز الدولة على عمان)
قد تقدّم لنا أن عمان كانت ليوسف بن وجيه وأنه حارب بني البريديّ بالبصرة حتى قارب أخذها حتى عملوا الحيلة في إضرام النار في سفنه فولّى هاربا في محرّم سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وأنه ثار عليه مولاه في هذه السنة فغلبه على البلد وملكها من يده. ولما استوحش معزّ الدولة من القرامطة، كتب إليهم ابن وجيه صاحب عمان يطمعهم في البصرة، واستمدّهم في البرّ وسار هو في البحر سنة إحدى وأربعين، وسابقه الوزير المهلّبيّ من الأهواز إليها، وأمدّه معزّ الدولة بالعساكر والمال فاقتتلوا أياما، ثم ظفر المهلّبيّ بمراكبه وما فيها من سلاح وعدّة. ولم يزل القرامطة يثاورونها حتى غلبوا عليها سنة أربع وخمسين وثلاثمائة واستولوا عليها وهرب رافع عنها. وكان له كاتب يعرف بعليّ بن أحمد ينظر في أمور البلد، والقرامطة بمكانهم من هجر، فاتفق قاضي البلد وكان ذا مشير وعصابة على أن ينصبّوا للنظر في أمورهم أحد قوّادهم، فقدّموا لذلك ابن طغان ففتك بجميع القوّاد الذين معه، وثأر منه بعض قرابتهم فقتلوه، فاجتمع الناس على تقديم عبد الوهاب بن أحمد بن مروان من قرابة القاضي مكانه فولّوه، واستكتب عليّ بن أحمد كاتب القرامطة قبله من الجند فامتعضوا لذلك فدعاهم إلى بيعته فأجابوه وسوّاهم في العطاء مع البيض فسخط البيض ذلك [1] ، ودارت بينهم حرب سكنوا آخرها واتفقوا وأخرجوا عبد الوهاب من البلد، واستقرّ عليّ بن أحمد الكاتب أميرا فيها، ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وقدّم إليه نافع مولى ابن أخيه الّذي كان ملكها بعد مولاه، فأحسن إليه وأقام عنده حتى فرغ من أمر عمران بن شاهين، وانحدر إلى الأبلّة في
__________
[1] المعنى غير واضح ومبتور وربما سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وتصويب هذه العبارة في الكامل ج 8 ص 567: «واستكتب عليّ بن أحمد الّذي كان مع الهجريين، فأمر عبد الوهاب كاتبه عليّا أن يعطي الجند أرزاقهم صلة، ففعل ذلك، فلما انتهى الى الزنج، وكانوا ستة آلاف رجل، ولهم بأس وشدّة، قال لهم عليّ: إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا، وأمر لكم بنصف ذلك فاضطربوا وامتنعوا، فقال لهم: هل لكم ان تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد؟
فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، وأعطاهم مثل البيض من الجند، فامتعض البيض من ذلك ووقع بينهم حرب، فظهر الزنج عليهم فسكنوا» .(4/587)
رمضان من السنة، وجهّز المراكب إلى عمان مائة قطعة، وبعث فيها الجيوش بنظر أبي الفتوح محمد بن العبّاس، وتقدّم إلى عضد الدولة بفارس أن يمدّهم بالعساكر من عنده فوافاهم المدد بسيراف وساروا إلى عمان فملكوها يوم الجمعة يوم عرفة من السنة، وفتكوا فيها بالقتل، وأحرقوا لهم تسعين مركبا، وخطب لمعز الدولة وصارت من أعماله.
(وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار)
كان معز الدولة قد سار سنة خمس وخمسين وثلاثمائة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين فطرقه المرض سنة ست وخمسين وثلاثمائة فسار إلى بغداد، وخلّف أصحابه بواسط على أن يعود إليهم فاشتدّ مرضه ببغداد، وجدّد العهد لابنه بختيار. ثم مات منتصف ربيع الآخر من السنة فقام ابنه عزّ الدولة بختيار مكانه، وكتب إلى العساكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا وعادوا. وكان فيما أوصى به معزّ الدولة ابنه بختيار طاعة عمّه ركن الدولة والوقوف عند إشارته وابن عمّه عضد الدولة لعلوّ سنّه عليه وتقدّمه في معرفة السياسة، وأن يحفظ كاتبيه أبا الفضل العبّاس بن الحسن وأبا الفرج بن العبّاس والحاجب سبكتكين، فخالف جميع وصاياه وعكف على اللهو وعشرة النساء والمغنّين والصفّاعين، فأوحش الكاتبين والحاجب، فانقطع الحاجب عن حضور داره. ثم طرد كبار الديلم عن مملكته طمعا في أقطاعاتهم، فشغب عليه الصغار واقتدى بهم الأتراك في ذلك، وطلبوا الزيادات، وركب الديلم الى الصحراء وطلبوا إعادة من أسقط من كبارهم، ولم يجد بدّا من إجازتهم لانحراف سبكتكين عنه، فاضطربت أموره وكان الكاتب أبو الفرج العبّاس في عمان منذ ملكها، فلمّا بلغه موت معزّ الدولة خشي أن ينفرد عنه صاحبه أبو الفضل العبّاس بن الحسين بالدولة، فسلّم عمان لعضد الدولة، وبادر إلى بغداد فوجد أبا الفضل قد انفرد بالوزارة ولم يحصل على شيء.(4/588)
(مسير عساكر ابن سامان الى الري ومهلك وشمكير)
كان أبو علي بن الياس قد سار من كرمان إلى بخارى مستنجدا بالأمير منصور بن نوح بن سامان، فتلقّاه بالتكرمة فأغراه ابن الياس بممالك بني بويه وأشار له [1] قوّاده في أمرهم فصدق ذلك عند ما كان يذكر وشمكير عنهم. وتقدّم إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان بالمسير مع عساكره إلى الري. ثم جهّز العساكر مع صاحب خراسان أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور الدواني وأمره بطاعة وشمكير وقبول إشارته فسار لذلك سنة ست وخمسين وثلاثمائة وأنزل ركن الدولة أهله بأصفهان، وكتب إلى ابنه عضد الدولة بفارس وإلى ابن أخيه عزّ الدين بختيار ببغداد يستنجدهما، فأنفذ عضد الدولة العساكر على طريق خراسان ليخالفهم إليها، فأحجموا وتوقّفوا وساروا إلى الدّامغان، وقصدهم ركن الدولة في عساكره من الريّ، وبينما هم كذلك هلك وشمكير، استعرض خيلا واختار منها واحدا وركب للصيد، واعترضه خنزير فرماه بحربة، وحمل الخنزير عليه فضرب الفرس فسقط إلى الأرض وسقط وشمكير ميتا وانتقض جميع ما كانوا فيه ورجعوا الى خراسان.
(استيلاء عضد الدولة على كرمان)
كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة من بني سامان، واستبدّ بها كما مرّ في أخبارهم، ثم أصابه فالج وأزمن به وعهد الى ابنه أليسع ثم لإلياس من بعده، وأمرهما بإجلاء أخيهما سليمان إلى أرضهم ببلاد الروم يقيم لهم ما هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان وأليسع فلم يرض سليمان ذلك، وخرج فوثب على السيرجان فملكها، فسار إليه أخوه أليسع فحبسه. وهرب من محبسه واجتمع إليه العسكر
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 577: «فلما ورد عليه أكرمه وعظمه، فأطمعه في ممالك بني بويه، وحسّن له قصدها، وعرّفه أن نوّابه لا يناصحونه، وانهم يأخذون الرشى من الديلم، فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير» .(4/589)
وأطاعوه، ومالوا إليه مع أبيه. ثم إنّ أبا عليّ همّ أن يلحق بخراسان فلحق، ثم سار إلى الأمير أبي الحرث ببخارى وأغراه بالريّ كما مرّ، وتوفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وصفت كرمان لأليسع. وكان عضد الدولة مزاحما لأليسع في بعض حدود عمله، مدلّا بجهل الشباب، فاستحكمت القطيعة بينهما وهرب بعض أصحاب عضد الدولة إليه، فزحف إليه واستأمن إليه أصحابه، وبقي في قلّ من أصحابه فاحتمل أهله وأمواله، ولحق ببخارى. وسار عضد الدولة إلى كرمان فملكها وأقطعها ولده أبا الفوارس الّذي ملك العراق بعد، ولقّب شرف الدولة. واستخلف عليها كورتكين بن خشتان [1] وعاد إلى فارس وبعث إليه صاحب سجستان الطاعة وخطب له. ولما وصل أليسع إلى بخارى أنذر بني سامان على تقاعدهم عن نصره فوثبوا عليه فنفوه إلى خوارزم، وكان قد خلّف أثقاله بنواحي خراسان فاستولى عليها أبو علي بن سيجور، وأصاب أليسع رمد اشتدّ به بخوارزم فضجر منه وقطع عرقه بيده. وكان ذلك سبب هلاكه، ولم يعد لبني إلياس بكرمان بعده ملك.
(مسير ابن العميد الى حسنويه ووفاته)
كان حسنويه بن الحسن الكرديّ من رجالات الكرد، واستولى على نواحي الدّينور واستفحل أمره، وكان يأخذ الخفارة من القفول التي تمرّ به ويخيف السابلة، إلّا أنه كان فئة للديلم على عساكر خراسان متى قصدتهم [2] . وكان ركن الدولة يرعى له ذلك ويغضى عن إساءته. ثم وقعت بينه وبين سلار بن مسافر بن سلار [3] فتنة وحرب فهزمه حسنويه وحصره وأصحابه من الديلم في مكان، ثم جمع الشوك وطرحه بقربهم وأضرمه نارا حتى نزلوا على حكمه فأخذهم، وقتل كثيرا منهم، فلحقت ركن الدولة النفرة لعصبية الديلم، وأمر وزيره أبا الفضل بن العميد بالمسير إليه فسار في محرّم سنة
__________
[1] جستان: ابن الأثير ج 8 ص 587.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 605: «وكان سبب ذلك ان حسنوي ابن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه، ولأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم» .
[3] سهلان بن مسافر: المرجع السابق.(4/590)
تسع وخمسين وثلاثمائة وقعد ابنه أبو الفتح، وكان شابا مليحا قد أبطره العزّ والدالة على أبيه، وكان يتعرّض كثيرا لما يغضبه. وكانت بأبي الفضل علّة النقرس فتزايدت عليه وأفحشت عليه، ولمّا وصل إلى همذان توفي بها لأربع وعشرين سنة من وزارته، وأقام ابنه أبا الفتح مقامه وصالح حسنويه على مال أخذه منه، وعاد إلى الريّ إلى مكانه من خدمة ركن الدولة. وكان أبو الفضل بن العميد كاتبا بليغا، وعالما في عدة فنون مجيدا فيها ومطّلعا على علوم الأوائل، وقائما بسياسة الملك مع حسن الخلق ولين العشرة والشجاعة المعروفة بتدبير الحروب، ومنه تعلّم عضد الدولة السياسية وبه تأدّب.
(انتقاض كرمان على عضد الدولة)
ولما ملك عضد الدولة كرمان كما قلناه اجتمع القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد وأولاده واتفقوا على الانتقاض والخلاف. واستمدّ عضد الدولة كورتكين بن حسّان بعابد بن عليّ، فسارا في العساكر إلى جيرفت وحاربوا أولئك الخوارج فهزموهم وأثخنوا فيهم وقتلوا من شجعانهم، وفيهم ابن لأبي سعيد. ثم سار عابد بن عليّ في طلبهم وأوقع بهم عدّة وقائع وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرمز فملكها واستولى على بلاد التّيز ومكران وأسر منهم ألف أسير [1] حتى استقاموا على الطاعة وإقامة حدود الإسلام. ثم سار عائدا إلى طائفة أخرى يعرفون بالحروميّة والجاسكيّة [2] يخيفون السبيل برّا وبحرا، وكانت قد تقدّمت لهم إعانة سليمان بن أبي عليّ بن إلياس، فلمّا أوقع بهم أثخن فيهم حتى استقاموا على الطاعة وصلحت تلك البلاد مدّة. ثم عاد البلوص إلى ما كانوا عليه من إخافة السبيل بها، فسار عضد الدولة إلى كرمان في القعدة اثنتين وانتهى إلى السّيرجان وسرّح عابد بن عليّ في العساكر لاتباعهم، فأوغلوا في الهرب ودخلوا إلى مضايق يحسبونها تمنعهم، فلما زاحمتهم العساكر كربها آخر ربيع الأوّل من سنة إحدى وستين وثلاثمائة صابروا يوما، ثم انهزموا آخره فقتلت مقاتلتهم وسبيت
__________
[1] يذكر ابن الأثير ان ابنين لأبي سعيد البلوصي قد قتلا، وان عابد بن علي قد اسر من الخوارج الفين:
ج 8 ص 613.
[2] الحاسكيّة: المرجع السابق.(4/591)
ذراريهم ونساؤهم، ولم ينج منهم إلّا القليل. ثم استأمنوا فأمّنوا ونقلوا من تلك الجبال، وأنزل عضد الدولة في تلك البلاد أكرة وفلاحين، ثم شملوا الأرض بالعمل وتتبّع العابد أثر تلك الطوائف حتى بدّد شملهم، ومحا ما كان من الفساد منهم.
(عزل أبي الفضل ووزارة ابن بقية)
كان أبو الفضل العبّاس بن الحسين وزيرا لمعزّ الدولة ولابنه بختيار من بعده، وكان سيّئ التصرّف وأحرق في بعض أيامه الكرخ ببغداد فاحترق فيه عشرون ألف إنسان وثلاثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا، ومن الأموال ما لا يحصى، وكان الكرخ معروفا بسكنى الشيعة، وكان هو يزعم أنه يتعصّب لأهل السنّة، وكان كثير الظلم للرعيّة غصّابا للأموال مفرّطا في أمر دينه، وكان محمد بن بقية وضيعا في نفسه من الفلّاحين في أوانا من ضياع بغداد. واتصل ببختيار وكان يتولى الطعام بين يديه، ويتولى الطبخ ومنديل الخوان على كتفه، فلما ضاقت الأحوال على الوزير أبي الفضل وكثرت مطالبته بالأرزاق والنفقات عزله بختيار وصادره وسائر أصحابه على أموال عظيمة أخذت منهم، واستوزر محمد بن بقيّة فاستقامت أموره ونمت أحواله بتلك الأموال، فلما نفدت عاد إلى الظلم، ففسدت الأحوال وخرّبت تلك النواحي، وظهر العيّارون وتزايد شرّهم وفسادهم. وعظم الاختلاف بين بختيار والأتراك، ومقدّمهم يومئذ سبكتكين، وتزيادت نفرته. ثم سعى ابن بقيّة في إصلاحه وجاء به إلى بختيار ومعه الأتراك فصالحه بختيار، ثم قام غلام ديلميّ فرمى وتينه بحربة في يده فأثبته، فصاح سبكتكين بغلمانه فأخذوه يظنّ أنه وضع على قتله، وقرّره فلم يعترف، فبعث إلى بختيار فأمر به فقتل، فعظم ارتيابه وأنه إنما قتل حذرا من إفشاء سرّه، فعظمت الفتنة، وقصد الديلم قتل سبكتكين، ثم أرضاهم بختيار بالمال فسكنوا.(4/592)
(استيلاء بختيار على الموصل ثم رجوعه عنها)
فلما قبض أبو ثعلب بن ناصر الدولة بن حمدان على أبيه وحبسه، واستقل بملك الموصل وعصى عليه إخوته من سائر النواحي غلبهم، ولحق أخوه أحمد وإبراهيم ببختيار فاستصرخاه فوعدهما بالمسير معهما، وأن يضمن حمدان البلاد. ثم أبطأ عليهما فرجع إبراهيم إلى أخيه أبي ثعلب، وقارن ذلك وزارة ابن بقيّة، وقصّر أبو ثعلب في خطابه فأغرى به بختيار فسار إليه، ونزل الموصل، وفارقها أبو ثعلب إلى سنجار وأخلاها من الميرة والكتّاب والدواوين. ثم سار من سنجار إلى بغداد فحاربها، ولم يحدث في سوادها حدثا. وبعث بختيار إثره العساكر مع ابن بقيّة والحاجب سبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد، وأقام سبكتكين بجدي. وثار العيّارون واضطربت الفتنة بين أهل السنّة والشيعة، وضربوا الأمثال (لنشتدّ على الوزير بحرب الجمل) ، وهذا كلّه في الجانب الغربي. ونزل أبو ثعلب حذاء سبكتكين بجدي واتفقا في سرّ على خلع الخليفة ونصب غيره والقبض على الوزير وعلى بختيار وتكون الدولة لسبكتكين ويعود أبو ثعلب إلى الموصل ليتمكّن من بختيار. ثم قصر سبكتكين عن ذلك وخشي سوء المغبّة، واجتمع به الوزير ابن بقيّة وصالحوا أبا ثعلب على ضمان أعماله كما كانت، وزيادة ثلاثة آلاف كرّ من الغلّة لبختيار، وأن يردّ على أخيه حمدان أملاكه وأقطاعه إلّا ماردين. وأرسلوا إلى بختيار بذلك. ودخل أبو ثعلب إلى الموصل، فلمّا نزل الموصل وبختيار بالجانب الآخر فغضب أهل الموصل لأبي ثعلب لما نالهم من عسف بختيار، فتراسلوا في الصلح ثانيا، وسأل أبو ثعلب لقبا سلطانيا وتسليم زوجته ابنة بختيار فأبى ذلك، ورحل عنه إلى بغداد.
وبلغه في طريقه أن أبا ثعلب قتل مخلّفين من أصحاب بختيار، فأقام بالكحيل وبعث بالوزير وابن بقية وسبكتكين فجاءوه في العساكر، ورجع إلى الموصل وفارقها أبو ثعلب، وبعث إلى الوزير كاتبه ابن عرس وصاحبه ابن حوقل معتذرا وحلفا عنه عن العلم بما وقع، فاستحكم بينهم صلح آخر. وانصرف كل منهم إلى بلده، وبعث بختيار إليه زوجته واستقرّ أمرهما على ذلك.
ابن خلدون م 38 ج 4(4/593)
(الفتنة بين الديلم والأتراك وانتقاض سبكتكين)
كان جند بختيار وأبيه معزّ الدولة طائفتين من الديلم عشيرتهم والأتراك المستنجدين عندهم، وعظمت الدولة وكثرت عطاياها وأرزاق الجند حتى ضاقت عنها الجباية وكثر شغب الجند، وساروا إلى الموصل لسدّ ذلك فلم يقع لهم ما يسدّه، فتوجّهوا إلى الأهواز صحبة بختيار ليظفروا من ذلك بشيء، واستخلف سبكتكين على بغداد، فلمّا وصلوا إلى الأهواز صحبة بختيار حمل إليه حملين من الأموال والهدايا ما ملأ عينه، وهو مع ذلك يتجنّى عليه. ثم تلاحى خلال ذلك عاملان ديلميّ وتركي وتضاربا ونادى كل منهما بقومه فركبوا في السلاح بعضهم على بعض، وسالت بينهما الدماء، وصاروا إلى النزاع، واجتهدوا في تسكين الناس فلم يقدروا. وأشار عليه الديلم بالقبض على الأتراك، فأحضر رؤساءهم واعتقلهم، وانطلقت أيدي الديلم على الأتراك فافترقوا، ونودي في البصرة بإباحة دمائهم، واستولى بختيار على أقطاع سبكتكين، ودسّ بأن يرجفوا بموته، فإذا جاء سبكتكين للعزاء قبضوا عليه. وقيل كان وطأهم على ذلك قبل سفره، وجعل موعده قبضه على الأتراك، فلما أرجفوا بموته ارتاب سبكتكين بالخبر، وعلم أنها مكيدة ودعاه الأتراك للأمر عليهم فأبى، ودعا ابن معزّ الدولة أبا إسحاق إليها فمنعته أمّه، فركب سبكتكين في الأتراك وحاصروا بختيار يومين. ثم أحرقها وبعث لأبي إسحاق وأبي ظاهر ابني معزّ الدولة، وسار بهما إلى واسط فاستولى عليها على ماكان لبختيار، وأنزل الأتراك في دور الديلم، وثار العامّة بنصر سبكتكين وأوقعوا بالشيعة وقتلوهم وأحرقوا الكرخ.
(مسير بختيار لقتال سبكتكين وخروج سبكتكين الى واسط ومقتله)
ولما انتقض سبكتكين انتقض الأتراك في كل جهة حتى اضطرب على بختيار غلمانه الذين بداره، وعاتبه مشايخ الأتراك على فعلته، وعذله الديلم أصحابه وقالوا: لا بدّ(4/594)
لنا من الأتراك ينصحون عنّا، فأطلق المعتقلين عنهم ورجع، وجعل أردويه [1] صاحب الجيش مكان سبكتكين، وكتب إلى عمّه ركن الدولة وابنه عضد الدولة يستنجدهما، وإلى أبي ثعلب بن حمدان يستمدّه بنفسه، ويسقط عنه مال الضمان، وإلى عمران بن شاهين بأن يمدّه بعسكر، فبعث عمّه ركن الدولة العساكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وأمر ابنه عضد الدولة بالمسير معهم، فتربّص به ابن العميد. وأنفذ أبو ثعلب بن حمدان أخاه أبا عبد الله الحسين بن حمدان إلى تكريت، وأقام ينتظر خروج سبكتكين والأتراك عن بغداد فيملكها، وانحدر سبكتكين ومعه الأتراك إلى واسط وحمل معه الخليفة الطائع الّذي نصّبه وأباه المطيع مكانه أفتكين [2] وساروا إلى بختيار ونازلوه بواسط خمسين يوما والحرب بينهم متّصلة والظفر للأتراك في كلّها، وهو يتابع الرسل إلى عضد الدولة ويستحثه.
(استيلاء عضد الدولة على العراق واعتقال بختيار ثم عوده إلى ملكه)
ولما بلغ عضد الدولة ما فعله الأتراك مع بختيار اعتزم على المسير إليه بعد أن كان يتربّص به فسار في عساكر فارس وسار معه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه من الأهواز في عساكر الري وقصدوا واسط ورجع أفتكين والأتراك إلى بغداد وكان أبو ثعلب عليها فأجفل، وكتب بختيار إلى طبة الأسديّ صاحب عين التمر، وإلى بني شيبان بمنع الميرة عن بغداد وإفساد سابلتها، فعدمت الأقوات وسار عضد الدولة إلى بغداد، ونزل في الجانب الشرقي وبختيار في الجانب الغربيّ. وخرج أفتكين والأتراك لعضد الدولة فلقيهم بين دبانى والمدائن منتصف جمادى سنة أربع وستين وثلاثمائة فهزمهم وغرق كثير منهم. وساروا إلى تكريت، ودخل عضد الدولة بغداد ونزل دار الملك، واستردّ الخليفة الطائع من أفتكين والأتراك، وكانوا أكرهوه على
__________
[1] آزادرويه: ابن الأثير ج 8 ص 643.
[2] المفهوم ان أفتكين قد خلع المطيع وولّى الخلافة بعده ابنه الطائع. وقد ورد اسمه في الكامل ج 8 ص 148: الفتكين.(4/595)
الخروج معهم، وخرج للقائه في دجلة وأنزله بدار الخلافة وحدّثته نفسه بملك العراق، واستضعف بختيار ووضع عليه الجند يطالبونه بأرزاقهم، ولم يكن عنده في خزانته شيء. وأشار عليه بالزهد في إمارتهم يتنصّح له بذلك سرّا، والرسل تتردّد إلى بختيار والجند فلا يقبل عضد الدولة تقرّبهم. ثم تقبّض عليه آخرا ووكّل به، وجمع الجند ووعدهم بالإحسان والنظر في أمورهم فسكنوا، وبعث عضد الدولة عسكره إلى ابن بقيّة ومعه عسكر ابن شاهين فهزموا عسكر عضد الدولة، وكاتبوا ركن الدولة، فكتب إليه بالثبات على شأنهم. فلمّا علم أهل النواحي بأفعال عضد الدولة اضطربوا عليه وانقطعت عنه موادّ فارس، وطمع فيه الناس حتى عامّة بغداد، فحمل الوزير أبا الفتح بن العميد إلى أبيه ركن الدولة الرسالة بما وقع، وبضعف بختيار وأنه إن عاد إلى الأمر خرجت المملكة والخلافة عنه، وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم في كل سنة، ويبعث إليه بختيار بالريّ وإلّا قتلت بختيار وأخويه وجميع شيعتهم وأترك البلاد، فخشي ابن العميد من هذه الرسالة، وأشار بأن يبعث بها غيره ويمضي هو إلى ركن الدولة فيحاول على مقاصد عضد الدولة، فمضى الرسول إلى ركن الدولة فحجبه أولا، ثم أحضره وذكر له الرسالة فهمّ بقتله، ثم ردّه وحمّله من الإساءة في الخطاب فوق ما أراد. وجاء ابن العميد فحجبه ركن الدولة وأنفذ إليه بالوعيد. وشفع إليه أصحابه واعتذر بأنه إنما جعل رسالة عضد الدولة طريقا الى الخلاص منه فأحضره، وضمن له ابن العميد إطلاق بختيار. ثم سار إلى عضد الدولة وعرفه بغضب أبيه فأطلق بختيار من محبسه وردّه إلى ملكه على أن يكون نائبا عنه ويخطب له، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعفه عن الملك. وخلّف أبا الفتح بن العميد لقضاء شئونه فتشاغل هو مع بختيار فيما كان فيه من اللذّات عن ركن الدولة. وجاء ابن بقيّة فأكّد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة وجبى الأموال واختزنها، وأساء التصرّف واحترز من بختيار
.(4/596)
(أخبار عضد الدولة في ملك عمان)
لما توفي معز الدولة كان أبو الفرج [1] بعمان، فسار عنها لبغداد وبعث إلى عضد الدولة بأن يتسلّمها فوليها عمر بن نبهان الطائي بدعوة عضد الدولة. ثم قتلته الزنج وملكوا البلد. وبعث عضد الدولة إليها جيشا من كرمان مع قائده أبي حرب طغان، وساروا في البحر وأرسوا على صحار وهي قصبة عمان، ونزلوا إلى البرّ فقاتلوا الزنج وظفروا بهم، واستولى طغان على صحار سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. ثم اجتمع الزنج إلى مدين رستان [2] على مرحلتين من صحار، فأوقع بهم طغان واستلحمهم وسكنت البلاد.
ثم خرج بجبال عمان طوائف الشّراة مع ورد بن زياد منهم، وبايعوا لحفص بن راشد، واشتدّت شوكتهم، وبعث عضد الدولة المظفّر بن عبد الله في البحر فنزل في أعمال عمان وأوقع بأهل خرخان [3] . ثم سار إلى دما على أربع مراحل، وقاتل الشّراة فهزمهم وهرب أميرهم ورد بن حفص إلى يزوا [4] ، وهي حصن تلك الجبال، ولحق حفص باليمن فصار فيه معلّما، واستقامت البلاد ودانت لطاعة عضد الدولة.
(اضطراب كرمان على عضد الدولة)
كان ظاهر بن الصنمد من الحرومية [5] ، وهي البلاد الحارة، قد ضمن من عضد الدولة ضمانات واجتمعت عليه أموال. ولما سار عضد الدولة إلى العراق وبعث وزيره المظهر بن عبد الله [6] إلى عمان خلت كرمان من العساكر، فطمع فيها ظاهر وجمع الرجال الحروميّة. وكان بعض موالي بني سامان من الأتراك واسمه مؤتمر [7] استوحش
__________
[1] هو ابو الفرج بن العبّاس وكان نائبا لمعز الدولة في عمان.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 646: «ثم إن الزنج اجتمعوا الى بريم وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان» .
[3] حرفان: المرجع السابق.
[4] نزوى: المرجع السابق ص 647.
[5] طاهر بن الصّمّة من الجروميّة: ابن الأثير ج 8 ص 655.
[6] المطهّر بن عبد الله: المرجع السابق.
[7] يوزتمر: المرجع السابق.(4/597)
من ابن سيجور [1] صاحب خراسان فكاتبه ظاهر وأطمعه في أعمال كرمان، فسار إليه وجعله ظاهر أميرا. ثم شغب عليه بعض أصحاب ظاهر، فارتاب به مؤتمر وقاتله فظفر به وبأصحابه، وبلغ الخبر إلى الحسين بن علي بن الياس بخراسان فطمع في البلاد وسار إليها، واجتمعت عليه جموع. وكتب عضد الدولة إلى المظهر بن عبد الله وقد فرغ من أمر عمان بالمسير إلى كرمان، فسار إليه سنة أربع وستين وثلاثمائة ودوّخ البلاد في طريقه. وكبس مؤتمرا بنواحي مدينة قمّ [2] فلحق بالمدينة وحصره فيها حتى استأمن، وخرج إليه ومعه ظاهر فقتله المظهّر وحبس مؤتمرا ببعض القلاع، وكان آخر العهد به. ثم سار إلى ابن إلياس وقاتله على باب جيرفت وأخذه أسيرا وضاع بعد ذلك خبره، ورجع المظهر ظافرا وصلّحت كرمان لعضد الدولة.
(وفاة ركن الدولة وملك ابنه عضد الدولة)
كان ركن الدولة ساخطا على ابنه عضد الدولة كما قدّمناه وكان ركن الدولة بالريّ فطرقه المرض سنة خمس وستين وثلاثمائة فسار إلى أصفهان، وتلطّف الوزير أبو الفتح بن العميد إليه في الرضا عن ابنه عضد الدولة، وأن يحضره ويعهد إليه، فأحضره من فارس وجمع سائر ولده. وكان ركن الدولة قد خفّ من مرضه فعمل الوزير ابن العميد بداره صنيعا وأحضرهم جميعا. فلما قضوا شأن الطعام خاطب ركن الدولة بولاية أصفهان وأعمالها نيابة عن أخيه عضد الدولة، وخلع عضد الدولة في ذلك اليوم على سائر الناس الأقبية والأكسية بزيّ الديلم. وحيّاه إخوته والقوّاد بتحيّة الملك المعتاد لهم، وأوصاهم أبوهم بالاتّفاق وخلع عليهم من الخاص، وسار عن أصفهان في رجب من السنة. ثم اشتدّ به المرض في الريّ فتوفي في محرّم سنة ست وستين وثلاثمائة لأربع وأربعين سنة من ولايته. وكان حليما كريما واسع المعروف حسن السياسة لجنده ورعيته، عادلا فيهم، متحرّيا من الظلم عفيفا عن الدماء، بعيد الهمّة عظيم الجدّ والسعادة، محسنا لأهل البيوتات، معظّما للمساجد متفقدا لها في المواسم، متفقدا أهل البيت بالبرّ والصلات، عظيم الهيبة ليّن الجانب مقرّبا للعلماء محسنا إليهم، معتقدا للصلحاء برّا بهم رحمه الله تعالى.
__________
[1] ابن سيمجور وهو صاحب خراسان وقد مرّ معنا من قبل عدة مرات.
[2] هي مدينة بم وليس قم.(4/598)
(مسير عضد الدولة الى العراق وهزيمة بختيار)
ولما توفي ركن الدولة ملك عضد الدولة بعده، وكان بختيار وابن بقيّة يكاتبان أصحاب القاصية مثل فخر الدولة أخيه وحسنويه الكرديّ وغيرهم للتظافر على عضد الدولة، فحرّكه ذلك لطلب العراق، فسار لذلك وانحدر بختيار إلى واسط لمدافعته، وأشار عليه ابن بقيّة بالتقدّم إلى الأهواز، واقتتلوا في ذي القعدة من سنة ست وستين وثلاثمائة ونزع بعض عساكر بختيار إلى عضد الدولة فانهزم بختيار ولحق بواسط، ونهب سواده ومخلفه، وبعث إليه ابن شاهين بأموال وسلاح وهاداه وأتحفه، فسار إليه إلى البطيحة وأصعد منها إلى واسط، واختلف أهل البصرة فمالت مضر إلى عضد الدولة وربيعة مع بختيار، صوبت [1] مضر عند انهزامه، وكاتبوا عضد الدولة فبعث إليهم عسكرا واستولوا على البصرة، وأقام بختيار بواسط، وقبض الوزير ابن بقيّة لاستبداده واحتجازه الأموال، وليرضى عضد الدولة بذلك.
وتردّدت الرسل بينهم في الصلح، وتردّد بختيار في إمضائه. ثم وصله ابنا حسنويه الكرديّ في ألف فارس مددا فاعتزم على محاربة عضد الدولة. ثم بدا له وسار إلى بغداد فأقام بها، ورجع ابنا حسنويه إلى أبيهما، وسار عضد الدولة إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهما مائة وعشرين سنة.
(نكبة أبي الفتح بن العميد)
كان عضد الدولة يحقد على أبي الفتح بن العميد مقامه عند بختيار ببغداد ومخالطته له، وما عقده معه من وزارته بعد ركن الدولة. وكان ابن العميد يكاتب بختيار بأحواله وأحوال أبيه، وكان لعضد الدولة عين على بختيار يكاتبه بذلك ويغريه.
فلمّا ملك عضد الدولة بعد أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة بالريّ بالقبض على ابن العميد وعلى أهله وأصحابه، واستصفيت أموالهم ومحيت آثارهم، وكان أبو
__________
[1] هكذا بالأصل ومقتضى السياق. وقويت مضر عند انهزامه، والضمير عائد إلى بختيار.(4/599)
الفضل [1] بن العميد ينذرهم بذلك لما يرى من مخايل أبي الفتح وإنكاره عليه.
(استيلاء عضد الدولة على العراق ومقتل بختيار وابن بقية)
ولما دخلت سنة سبع وستين سار عضد الدولة إلى بغداد، وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته، وأن يسير عن العراق إلى أيّ جهة أراد فيمدّه بما يحتاج إليه من مال وسلاح، فضعفت نفسه فقلع عينه وبعثها إليه، وخرج بختيار عن بغداد متوجّها إلى الشام. ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها، ولم يكن خطب لأحد قبله، وضرب على بابه ثلاث نوبات ولم يكن لمن تقدّمه، وأمر أن يلقى ابن بقيّة بين أرجل الفيلة فضربته حتى مات وصلب على رأس الجسر في شوّال سنة سبع وستين وثلاثمائة، ولما انتهى بختيار إلى عكبرا وكان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فزيّن له قصد الموصل، واستماله إليه عن الشام، وقد كان عقد معه عضد الدولة أن لا يقصد الموصل لموالاة بينه وبين أبي ثعلب [2] ، فسار هو إلى الموصل ونقض عهده، وانتهى إلى تكريت فبعث إليه أبو ثعلب يعده المسير معه لقتال عضد الدولة، وإعادة ملكه على أن يسلّم إليه أخاه حمدان، فقبض بختيار عليه وسلّمه إلى سفرائه وحبسه أبو ثعلب، وسار بختيار إلى الحديثة، ولقيه أبو ثعلب في عشرين ألف مقاتل، ورجع معه إلى العراق ولقيهما عضد الدولة بنواحي تكريت فهزمهما، وجيء ببختيار أسيرا، فأشار أبو الوفاء طاهر بن إسماعيل كبير أصحاب عضد الدولة بقتله فقتل لاثنتي عشرة سنة من ملكه. واستلحم كثير من أصحابه، وانهزم أبو ثعلب بن حمدان إلى الموصل.
(استيلاء عضد الدولة على أعمال بني حمدان)
ولما انهزم أبو ثعلب سار عضد الدولة في أثره فملك الموصل منتصف ذي القعدة سنة
__________
[1] ابو الفضل هو والد أبي الفتح بن العميد.
[2] هو ابو تغلب بن حمدان.(4/600)
ست وستين وثلاثمائة وكان حمل معه الميرة والعلوفات خوفا أن يقع به مثل ما وقع بسلفه، فأقام بالموصل مطمئنا وبثّ السرايا في طلب أبي ثعلب، ولحق بنصيبين ثم بميّافارقين، فبعث عضد الدولة في أثره سريّة عليها أبو ظاهر بن محمد إلى سنجار، وأخرى عليها الحاجب أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، فترك أبو ثعلب أهله بميّافارقين وسار إلى تدلس [1] ووصل أبو الوفاء في العساكر إلى ميّافارقين فامتنعت عليه، فسار في اتباع أبي ثعلب إلى أرزن الروم ثم إلى الحسنيّة من أعمال الجزيرة، وصعد أبو ثعلب إلى قلعة كواشى فأخذ أمواله منها وعاد أبو الوفاء وحاصره بميّافارقين، وسار عضد الدولة وقد افتتح سائر ديار بكر. وسار أبو ثعلب إلى الرحبة ورجع أصحابه إلى أبي الوفاء فأمّنهم وعاد إلى الموصل، فتسلّم ديار مضر من يده.
وكان سعد الدولة على الرحبة وتقرّى أعمال أبي ثعلب وحصونه، مثل هوا والملاسي وفرقى والسفياني وكواشى [2] بما فيها من خزائنه وأمواله، واستخلف أبو الوفاء على الموصل وجميع أعمال بني ثعلب وعاد إلى بغداد، وسار أبو ثعلب إلى الشام فكان فيه مهلكه كما مرّ في أخباره.
(إيقاع العساكر ببني شيبان)
كان بنو شيبان قد طال إفسادهم للسابلة، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا يمتنعون بجبال شهرزور لما بينهم وبين أكرادها من المواصلة، فبعث عضد الدولة العساكر سنة تسع وستين وثلاثمائة فنازلوا شهرزور واستولوا عليها وعلى ملكها رئيس بني شيبان، فذهبوا في البسيط، وسار العسكر في طلبهم فأوقعوا بهم واستباحوا أموالهم ونساءهم، وجيء منهم إلى بغداد بثلاثمائة أسير، ثم عاودوا الطاعة وانحسمت علّتهم.
__________
[1] بدليس: ابن الأثير ج 8 ص 692.
[2] هي: هرور والملاسي وبرقي والشّعباني وكواشى: ابن الأثير ج 8 ص 696(4/601)
(وصول ورد بن منير البطريق الخارج على ملك الروم الى ديار بكر والقبض عليه)
كان أرمانوس ملك الروم لما توفي خلّف ولدين صغيرين ملكا بعده، وكان نقفور وهو يومئذ الدمستق غائبا ببلاد الشام، وكان نكاء فيها، فلمّا عاد حمله الجند وأهل الدولة على النيابة عن الولدين فامتنع. ثم أجاب وأقام بدولة الولدين وتزوّج أمّهما ولبس التاج، ثم استوحشت منه فراسلت ابن الشمسيق [1] في قتله، وبيّته في عشرة من أصحابه فقتلوا نقفور واستولى ابن الشمسيق على الأمر، واستولى على الأولاد وعلى ابنه ورديس واعتقلهم في بعض القلاع، وسار في أعمال الشام فعاث فيها وحاصر طرابلس فامتنعت عليه. وكان لوالد الملك أخ خصي [2] وهو الوزير يومئذ فوضع عليه من سقاه السمّ، وأحسّ به فأسرع العود إلى القسطنطينية ومات في طريقه، وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة فطمع في الملك، وكاتب أبا ثعلب بن حمدان عند خروجه بين يدي عضد الدولة وظاهره، واستجاش بالمسلمين بالثغور وساروا إليه وقصد القسطنطينية، وبرزت إليه عساكر الملكين فهزمهم مرّة بعد أخرى، فأطلق الملكان ورديس بن لاوون وبعثاه في العساكر لقتال ورد فهزمهم بعد حروب صعبة، ولحق ورد ببلاد الإسلام ونزل ميّافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة ببذل الطاعة وبطلب النصرة. وبعث إليه ملك [3] الروم واستمالاه فجنح إليهما، وكتب إلى عامله بميّافارقين بالقبض على ورد وأصحابه، فيئسوا منه، وتسلّلوا عنه، فبعث أبو عليّ الغنمي [4] عنه إلى داره للحديث معه، ثم قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه، واعتقلهم بميّافارقين، ثم بعث بهم إلى بغداد فحبسوا بها.
__________
[1] ابن الشمشقيق: ابن الأثير ج 8 ص 703 وقد مرّ معنا في مكان سابق من هذا الكتاب.
[2] هو خال الملكين اي شقيق والدتهما الملكة. كما عند ابن الأثير ج 8 ص 703.
[3] حسب مقتضى السياق: ملكا الروم.
[4] ابو علي التميمي: ابن الأثير ج 8 ص 704.(4/602)
(دخول بني حسنويه في الطاعة وبداية أمرهم)
كان حسنويه بن حسن الكرديّ من جنس البرز [1] فكان من الأكراد من طائفة منهم يسمّون الذولنية [2] وكان أميرا على البرز مكان خاله ونداد، وكان ابنا أحمد بن علي من طائفة أخرى من البرز، فكانوا يسمون العيشائية [3] وغلبا على أطراف الدّينور وهمذان ونهاوند والدّامغان وبعض أطراف أذربيجان إلى حدّ شهرزور، وبقيت في أيديهم خمسين سنة. وكانت تجتمع عليها من الأكراد جموع عظيمة. ثم توفي عام ست وخمسين وثلاثمائة. وكانت له قلعة بسنان [4] وغانم أبار [5] وغيرها، فملكها بعده ابنه أبو سالم غنم [6] إلى أن غلبه الوزير أبو الفتح بن العميد. وتوفي ونداد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وقام ابنه عبد الوهاب أبو الغنائم مقامه، وأراد الشاذنجان، وأسلمه إلى حسنويه فاستولى على أملاكه وقلاعه. وكان حسنويه عظيم السياسة حسن السيرة، وبنى أصحابه حصن التلصّص، وهي قلعة سرماج بالصخور المهندسة، وبنى بالدّينور جامعا كذلك، وكان كثير الصدقة بالحرمين. ثم توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة وافترق أولاده من بعده، فبعضهم صار إلى طاعة فخر الدولة صاحب همذان وأعمال الجيل، والآخرون صاروا إلى عضد الدولة، وكان بختيار منهم بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فكاتب عضد الدولة بالطاعة، ثم انتقض. فبعث عضد الدولة عسكرا فحاصروه وملكوا القلعة من يده والقلاع الأخرى من إخوته. واستولى عضد الدولة على أعمالهم واصطنع من بينهم أبا النجم بن حسنويه، وأمدّه بالعسكر فضبط تلك النواحي، وكفّ عادية الأكراد بها واستقام أمرها.
__________
[1] من جنس البرزيكاني: ابن الأثير ج 8 ص 705.
[2] البرزينيّة: المرجع السابق.
[3] العيشانية: المرجع السابق.
[4] هي قلعة قسان أو سنان.
[5] هي قلعةآباد.
[6] هو ابو سالم ديسم بن غانم.(4/603)
(استيلاء عضد الدولة على همذان والريّ من يد أخيه فخر الدولة وولاية أخيهما مؤيد الدولة عليها)
قد تقدّم أنّ ركن الدولة عهد إلى ابنه فخر الدولة، وكان يكاتب بختيار، وعلم بذلك عضد الدولة فأغضى، فلمّا فرغ من شأن بختيار وابن حمدان وحسنويه، وعظم استيلاؤه أراد إصلاح الأمر بينه وبين أخيه وقابوس بن وشمكير، فكاتب مؤيد الدولة وفخر الدولة يعاتبه ويستميله [1] ، وكان الرسول خواشادة من أكبر أصحاب عضد الدولة، فاستمال أصحاب فخر الدولة وضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، واعتزم عضد الدولة على المسير إلى الريّ وهمذان، وسرّب العساكر إليها مسالمة، فأبو الوفاء طاهر في عسكر، وخواشادة في عسكر، وأبو الفتح المظفّر بن أحمد في عسكر. ثم سار عضد الدولة في أثرهم من بغداد، ولما أطلّت عساكره استأمن قوّاد فخر الدولة وبنو حسنويه ووزيره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه، ولحق فخر الدولة ببلاد الديلم، ثم بجرجان، ونزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير مستجيرا، فأمّنه وآواه وحمل إليه فوق ما أمّله، وشاركه فيما بيده من الملك وغيره. وملك عضد الدولة همذان والريّ وما بينهما من الأعمال، وأضافها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه صاحب أصفهان وأعمالها. ثم عطف على ولاية حسنويه الكردي وفتح نهاوند والدّينور وسرماج، وأخذ ما كان فيها لبني حسنويه، وفتح عدّة من قلاعهم، وخلع على بدر بن حسنويه وأحسن إليه وولّاه رعاية الأكراد، وقبض على إخوته عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان. ولمّا لحق فخر الدولة بجرجان وأجاره قابوس بعث إليه أخوه عضد الدولة في طلبه، فأجاره وامتنع من إسلامه. فجهّز إليه عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة صاحب أصفهان بالعساكر والأموال والسلاح، فسار إلى جرجان، وبرز قابوس للقائه، والتقوا بنواحي أستراباذ في منتصف إحدى وسبعين وثلاثمائة فانهزم قابوس ومرّ ببعض قلاعه
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 8 ص 707: «فراسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس بن وشمكير. فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة فيشكره على طاعته وموافقته، فأنه كان مطيعا له غير مخالف. وأما الى فخر الدولة فيعاتبه ويستميله» .(4/604)
فاحتمل منها ذخيرته ولحق بنيسابور. وجاء فخر الدولة منهزما على أثره، وكان ذلك لأوّل ولاية حسام الدولة تاش خراسان من قبل أبي القاسم بن منصور من بني سامان، فكتب بخبرهما إلى الأمير نوح ووزيره العتبيّ أبي العبّاس تاش، فجاءه الجواب بنصرهما، فجمع عساكر خراسان وسار معهما إلى جرجان فحاصروا بها مؤيد الدولة شهرين حتى ضاقت أحوال مؤيد الدولة، واعتزم هو وأصحابه على الخروج والاستماتة بعد أن كاتب فائقا الخاصة الساماني، ورغّبه، فوعده بالانهزام عند اللقاء. وخرج مؤيّد الدولة، وانهزم فائق وتبعه العسكر وثبت تاش وفخر الدولة وقابوس إلى آخر النهار. ثم انهزموا ولحقوا بنيسابور، وبعثوا بالخبر إلى الأمير نوح، فبعث إليهم بالعساكر ليعود إلى جرجان، ثم قتل الوزير العتبي كما تقدّم في أخبار دولتهم وانتقض ذلك الرأي.
(استيلاء عضد الدولة على بلاد الهكارية وقلعة سندة)
كان عضد الدولة قد بعث عساكره الى بلاد الأكراد الهكاريّة من أعمال الموصل، فحاصر قلاعهم وضيّق عليهم، وكانوا يؤمّلون نزول الثلج فترحل عنهم العساكر، وتأخّر نزوله فاستأمنوا ونزلوا من قلاعهم إلى الموصل، واستولت عليها العساكر وغدر بهم مقدّم الجيش فقتلهم جميعا. وكانت قلعة بنواحي الجبل لأبي عبد الله المرّيّ مع قلاع أخرى، وله فيها مساكن نفيسة، وكان من بيت قديم، فقبض عليه عضد الدولة وعلى أولاده واعتقلهم وملك القلاع. ثم أطلقهم الصاحب بن عبّاد فيما بعد واستخدم أبا طاهر من ولده واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ.
(وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة)
ثم توفي عضد الدولة ثامن شوّال سنة اثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من ولايته العراق، وجلس ابنه صمصام الدولة أبو كليجار المرزبان للعزاء، فجاءه الطائع معزّيا، وكان عضد الدولة بعيد الهمّة شديد الهيبة حسن السياسة ثاقب الرأي محبّا(4/605)
للفضائل وأهلها، وكان كثير الصدقة والمعروف ويدفع المال لذلك إلى القضاة ليصرفوه في وجوهه. وكان محبّا للعلم وأهله مقرّبا لهم محسنا إليهم، ويجلس معهم ويناظرهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنّفت الكتب باسمه كالإيضاح في النحو والحجّة في القراءات والملكي في الطلب والتاجي في التواريخ وعمل البيمارستانات وبنى القناطر. وفي أيامه حدثت المكوس على المبيعات، ومنع من الاحتراف ببعضها، وجعلت متجرا للدولة. ولمّا توفي عضد الدولة اجتمع القوّاد والأمراء على ابنه أبي كليجار المرزبان وولّوه الملك مكانه، ولقّبوه صمصام الدولة، فخلع على أخيه الحسن أحمد وأبي ظاهر فيروز شاه وأقطعهما فارس وبعثهما إليها.
(استيلاء شرف الدولة بن عضد الدولة على فارس واقتطاعها من أخيه صمصام الدولة)
كان شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك [1] قد ولّاه أبوه عضد الدولة قبل موته كرمان وبعث إليه، فلمّا بلغه وفاة أبيه سار إلى فارس فملكها وقتل نصر بن هارون النصراني وزير أبيه لأنه كان يسيء عشرته، وأطلق الشريف أبا الحسن محمد بن عمر العلويّ، كان أبوه حبسه بما قال عنه وزيره المظهر بن عبد الله عند قتله نفسه على البطيحة.
وأطلق النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي والقاضي أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشادة، وكان أبوه حبسهم وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة وخطب لنفسه، وتلقّب بأخي الدولة ووصل أخوه أبو الحسن أحمد وأبو ظاهر فيروز شاه اللذان أقطعهما صمصام الدولة بشيراز فبلغهما خبر شرف الدولة بشيراز فعاد إلى الأهواز. وجمع شرف الدولة وفرّق الأموال، وملك البصرة وولّى عليها أخاه أبا الحسين. ثم بعث صمصام الدولة العساكر مع ابن تتش حاجب أبيه، وأنفذ مشرف الدولة مع أبي الأغرّ دبيس بن عفيف الأسديّ، والتقيا بظاهر قرقوب، وانهزم عسكر صمصام الدولة وأسر ابن تتش الحاجب واستولى حينئذ الحسين بن عضد الدولة على الأهواز ورامهرمز وطمع في الملك.
__________
[1] شرف الدولة ابو الفوارس شيرزيل: ابن الأثير ج 9 ص 22.(4/606)
(وفاة مؤيد الدولة صاحب أصفهان والري وجرجان وعود فخر الدولة الى ملكه)
ثم توفي مؤيد الدولة يوسف بن بويه بن ركن الدولة صاحب أصفهان والريّ بجرجان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة واجتمع أهله للشورى فيمن يولّونه، فأشار الصاحب إسماعيل بن عبّاد بإعادة فخر الدولة إلى ملكه لكبر سنه. وتقدّم إمارته بجرجان وطبرستان، فاستدعوه من نيسابور، وبعث ابن عبّاد من استخلفه لنفسه، وتقدّم إلى جرجان فتلقّاه العسكر بالطاعة وجلس عليّ كرسيّه وتفادى ابن عبّاس من الوزارة فمنعه واستوزره، والتزم الرجوع إلى إشارته في القليل والكثير. وأرسل صمصام الدولة وعاهده على الاتحاد والمظاهرة. ثم عزل الأمير نوح أبا العبّاس تاش عن خراسان، وولّى عليها ابن سيجور، فانتقض تاش ولقيه ابن سيجور فهزمه فلحق بجرجان، فكافأه فخر الدولة وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ وسار عنها إلى الريّ وأمدّه بالأموال والآلات، وطلب خراسان فلم يظفر بها فأقام بجرجان ثلاث سنين. ثم مات سنة سبع وتسعين وثلاثمائة [1] كما ذكرنا في أخبار بني سامان.
(انتقاض محمد بن غانم على فخر الدولة)
قد تقدّم لنا ذكر غانم البرزنكاني خال حسنويه، وأنهم كانوا رؤساء الأكراد، وأنه مات سنة خمسين وثلاثمائة وكان ابنه دلسيم مكانه في قلاعه قستتان وغانم أبا. وملكها منه أبو الفتح بن العميد. ولما كانت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة انتقض محمد بن غانم بناحية كردون من أعمال قمّ على فخر الدولة، ونهبت غلّات السلطان وامتنع بحصن الفهجان واجتمع إليه البرزنكان [2] . وسارت العساكر لقتاله في شوّال فهزمها مرّة بعد
__________
[1] يذكر ابن الأثير وفاته سنة 377 وقال إنه مات مسموما.
[2] التحريف في أسماء الأعلام والأمكنة يثير العجب وهذه الأسماء تختلف في مصادر عديدة، حتى عند ابن خلدون تجد تحريف الأسماء بين صفحة واخرى، وربما يعود هذا الأمر الى الناسخ. وفي الكامل ج 9 ص 31: «وفيها- 373- عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر من أعمال قمّ على فخر الدولة، وأخذ بعض غلات السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكانيّ الى نفسه» . أما دلسيم فهو دسيم بن غانم وأما قلعة قستتان فهي قلعة قستان.(4/607)
أخرى إلى أن بعث فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه بالنكير في ذلك، فصالحه أوّل أربع وسبعين وثلاثمائة ثم سارت إليه العساكر سنة خمس وسبعين وثلاثمائة فقاتلها وأصيب بطعنة، ثم أخذ أسيرا ومات بطعنته.
(تغلب باد الكردي على الموصل من يد الديلم ثم رجوعها اليهم)
قد تقدّم لنا استيلاء عضد الدولة على الموصل وأعمالها، وتقدّم لنا ذكر باد الكرديّ خال بني مروان، وكيف خان عضد الدولة لما ملك الموصل، وطلبه فصار يخيف ديار بكر ويغير عليها حتى استفحل أمره وملك ميافارقين كما ذكرنا ذلك كله في أخبار بني مروان، وأنّ صمصام الدولة جهّز إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير، فهزمه باد وأسر أصحابه، فأعاد صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد الحاجب، وفتك باد في الديلم بالقتل والأسر. ثم اتبع سعيد خانور الحسينية من بلد كواشى [1] فانهزم سعيد الحاجب إلى الموصل وثارت العامّة بالديلم. وملك باد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الموصل، وحدّث نفسه بملك بغداد، وأخرج [2] الديلم عنها. واهتم صمصام الدولة بأمره، وبعث زياد بن شهراكونه [3] من أكبر قوّاد الديلم لقتاله، واستكثر له من الرجال والعدد والمال، وسار إلى باد فلقيه في صفر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وانهزم باد وأسر أكثر أصحابه، ودخل زياد بن شهراكونه الموصل، وبعث سعيد الحاجب في طلب باد فقصد جزيرة ابن عمر وعسكر آخرا إلى نصيبين. وجمع باد الجموع بديار بكر، وكتب صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بتسليم ديار بكر له، فبعث إليها عساكره من حلب وحاصروا ميّافارقين وخاموا عن لقاء باد فرجعوا عن حلب، ووضع سعيد الحاجب رجلا لقتل باد، فدخل عليه وضربه في خيمته فأصابه وأشرف على الموت منها، فطلب الصلح على أن يكون له ديار بكر والنصف من طور عبدين، فأجابه الديلم إلى ذلك، وانحدروا إلى
__________
[1] هكذا بالأصل في الكامل ج 9 ص 35: «فالتفوا بباجلايا على خابور الحسنيّة من بلد كواشى» .
[2] حسب مقتضى السياق وإخراج الديلم عنها.
[3] زيار بن شهراكويه: ابن الأثير ج 9 ص 38.(4/608)
بغداد وأقام سعيد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة أيام مشرف الدولة فتجرّد الكرديّ وطمع في الموصل، وولّى شرف الدولة عليها أبا نصر خواشاده، وجهّزه بالعساكر، ولما زحف إليه باد الكرديّ كتب إلى مشرف الدولة يستمد العساكر والأموال، فأبطأ عليه المدد، فاستدعى العرب من بني عقيل وبني نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها، وانحدر باد واستولى على طور عبدين ولم يقدر على النزول على الصحراء، وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فهزموه وقتلوه. ثم أتاهم الخبر بموت مشرف الدولة، فعاد خواشاده إلى الموصل وأقامت العرب بالصحراء يمنعون باد من النزول وينتظرون خروج خواشاده لمدافعة باد وحربه، وبينما هم في ذلك جاء إبراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فملكا الموصل كما ذكرنا في أخبار دولتهم.
(استيلاء صمصام الدولة على عمان ورجوعها لمشرف الدولة)
كان مشرف الدولة استولى على فارس وخطب له بعمان، وولّى عليها أستاذ هرمز فانتقض عليه وصار مع صمصام الدولة، وخطب له بعمان فبعث مشرف الدولة إليه عسكرا فهزموا أستاذ هرمز وأسروه، وحبس ببعض القلاع وطولب بالأموال، وعادت عمان إلى مشرف الدولة.
(خروج نصر بن عضد الدولة على أخيه صمصام الدولة وانهزامه وأسره)
كان أسفار بن كردويه من أكابر قوّاد الديلم واستوحش من صمصام الدولة فمال عن طاعته إلى أخيه مشرف الدولة وهو بفارس، وداخل رجال الديلم في صمصام الدولة وأن ينصبّوا بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه مشرف الدولة حتى يقدم من فارس، وتمكّن أسفار من الخوض في ذلك، فمرض صمصام الدولة وتأخر ابن خلدون م 39 ج 4(4/609)
عن حضور الدار وراسله صمصام الدولة [1] أنه لا ذنب له لأنه كان صبيا، فاعتقله مكرّما، وسعي إليه بابن سعدان وزيره ارهواه كان معهم [2] فعزله وقتله ومضى أسفار إلى أبي الحسن بن عضد الدولة بالأهواز ومضى بقية العسكر إلى مشرف الدولة بفارس.
(استيلاء القرامطة على الكوفة بدعوة مشرف الدولة ثم انتزاعها منهم)
كان للقرامطة محل من البأس والهيبة عند أهل الدول، وكانوا يدافعونهم في أكثر الأوقات بالمال، وأقطعهم معزّ الدولة وابنه بختيار ببغداد وأعمالها، وكان يأتيهم ببغداد أبو بكر بن ساهويه يحتكم بحكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة وكان على القرامطة في هجر ونيسابور مشتركان في إمارتهما، وهما إسحاق وجعفر. فلما بلغهما الخبر سارا إلى الكوفة فملكاها وخطبا لمشرف الدولة، وكاتبهما صمصام الدولة بالعتب فذكرا أمرهما ببغداد، وانتشر القرامطة في البلاد وجبوا الأموال، ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر من أكابرهم إلى الجامعين فسرّح صمصام الدولة العسكر ومعهم العرب، فعبروا الفرات وقاتلوه فهزموه وأسروه، وقتلوا جماعة من قوّاد القرامطة. ثم عاودوا عسكرا آخر ولقيتهم عساكر صمصام الدولة بالجامعين فانهزم القرامطة وقتل مقدّمهم وغيره، وأسروا منهم العساكر وساروا في اتباعهم إلى القادسية فلم يدركوهم.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 41: «وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكّنه، فما زاده إلا تماديا، فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه، وكان صمصام الدولة أبلّ من مرضه، فامتنع الطائع من ذلك، فشرع صمصام الدولة، واستمال فولاذ زماندار، وكان موافقا لأسفار إلّا أنه كان يأنف من متابعته لكبر شأنه. فلما راسله صمصام الدولة أجابه، واستحلفه على ما أراد، وخرج من عنده، وقاتل أسفار، فهزمه فولاذ، وأخذ الأمير ابو نصر أسيرا، وأحضر عند أخيه صمصام الدولة، فرقّ له، وعلم أنه لا ذنب له، فاعتقله مكرّما، وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة» .
[2] العبارة غير واضحة وفي الكامل: «وسعي إليه بابن سعدان الّذي كان وزيره، فعزله، وقيل إنه كان هواه معهم» . ص 42.(4/610)
(استيلاء مشرف الدولة على الأهواز ثم على بغداد واعتقال صمصام الدولة)
ثم سار مشرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس لطلب الأهواز، وقد كان أخوه أبو الحسين تغلّب عليها عند انهزام عساكر صمصام الدولة سنة اثنتين وسبعين، وكان صمصام الدولة عند ما ملك بعث أبا الحسين وأبا ظاهر أخويه على فارس كما قدّمناه، فوجدا أخاهما مشرف الدولة قد سبقهما إلى ملكها. وعند ما ملك فارس والبصرة ولّاهما على البصرة، فلما انهزمت عساكر صمصام الدولة امام عسكر مشرف الدولة بعث أبا الحسين على الأهواز فملكها وأقام بها، واستخلف على البصرة أخاه أبا ظاهر، فلما سار مشرف الدولة هذه السنة إلى الأهواز قدّم إليه الكتّاب بأن يسير إلى العراق، وأنه يقرّه على عمله، فشقّ ذلك على أبي الحسين، وتجهّز للمدافعة، فعاجله مشرف الدولة عن ذلك. وأغذّ السير إلى أرّجان فملكها، ثم رامهرمز، وانتقض أجناده ونادوا بشعار مشرف الدولة، فهرب إلى عمّه فخر الدولة بالريّ، وأنزلها بأصفهان ووعده بالنصر، وأبطأ عليه فثار في أصفهان بدعوة أخيه مشرف الدولة فقبض عليه جندها وبعثوا به إلى الريّ، فحبسه فخر الدولة إلى أن مرض واشتدّ مرضه فأرسل من قتله في محبسه. ولمّا هرب أبو الحسين من الأهواز سار إليها مشرف الدولة، وأرسل إلى البصرة قائدا فملكها، وقبض على أخيه أبي ظاهر وبعث إليه صمصام الدولة في الصلح، وأن يخطب له ببغداد، وسارت إليه الخلع والألقاب من الطائع، وجاء من قبل صمصام الدولة من يستخلفه، وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر الكوفيّ، فكان يستحثّه إلى بغداد. وفي خلال ذلك جاءته كتب القوّاد من بغداد بالطاعة، وبعث أهل واسط بطاعتهم فامتنع من إتمام الصلح، وسار إلى واسط فملكها وأرسل صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بالسلافة فلم يعطف عليه. وشغب الجند على صمصام الدولة فاستشار صمصام الدولة أصحابه في طاعة أخيه فنهوه. وقال بعضهم: نصعد الى عكبرا ونتبين الأمر، وإن دهمنا ما لا نقوى عليه سرنا إلى الموصل وننتصر بالديلم، وقال آخرون: نقصد فخر الدولة بأصفهان، ثم نخالفه إلى فارس فنحتوي على خزائن مشرف الدولة وذخائره(4/611)
فيصالح كرها فأعرض عنهم، وركب صمصام الدولة إلى أخيه مشرف الدولة في خواصّه فتلقّاه بالمبرة. ثم قبض عليه وسار إلى بغداد فدخلها في رمضان سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله بعد أربع سنين من إمارته بالعراق.
(أخبار مشرف الدولة في بغداد مع جنده ووزرائه)
لما دخل مشرف الدولة بغداد كان الديلم معه في قوّة وعدد، تنتهي عدّتهم الى خمسة عشر ألفا، والأتراك لا يزيدون على ثلاثة آلاف، فاستطال الديلم بذلك وجرت بين اتباعهم لأوّل دخولهم بغداد مصاولة آلت إلى الحرب بين الفريقين، فاستظهر الديلم على الترك وتنادوا بإعادة صمصام الدولة إلى ملكه، فارتاب بهم مشرف الدولة ووكّل بصمصام الدولة من يقتله إن همّوا بذلك. ثم أتيحت الكرة للأتراك على الديلم وفتكوا فيهم، وافترقوا واعتصهم بعضهم بمشرف الدولة. ثم دخل من الغد إلى بغداد فتقبّله الطائع وهنّأه بالسلامة. ثم أصلح بين الطائفتين واستحلفهم جميعا، وحمل صمصام الدولة إلى قلعة ورد بفارس فاعتقل بها، وكان نحرير الخادم يشير بقتله فلا يجيبه أحد، واعتقل سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وأشرف على الهلاك، ثم أشار نحرير في قتله أو سمله، فبعث لذلك من يثق به فلم يقدم على سمله حتى استشار ابا القاسم بن الحسن الناظر هناك فأشار به فسمله. وكان صمصام الدولة يقول: إنما أعماني العلاء لأنه في معنى حكم سلطان ميت [1] . ولما فرغ مشرف الدولة من فتنة الجند صرف نظره إلى تهذيب ملكه، فردّ على الشريف محمد بن عمر الكوفي جميع أملاكه، وكانت تغلّ في كل سنة ألفي ألف وخمسمائة ألف درهم، وردّ على النقيب أبي أحمد والد الرضي جميع أملاكه. وأقرّ الناس على مراتبهم، وكان قبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس وأفرج عن أبي منصور الصاحب، واستوزره فأقرّه على وزارته ببغداد. وكان قراتكين قد أفرط في الدولة والضرب على أيدي الحكّام فرأى أن يخرجه الى بعض الوجوه، وكان حنقا على بدر بن حسنويه لميله مع عمّه فخر الدولة، فبعثه إليه في العساكر سنة سبع وسبعين وثلاثمائة فهزمهم بدر بوادي
__________
[1] وفي الكامل ج 9 ص 61: «ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات» .(4/612)
قرمسين بعد أن هزمه قراتكين أوّلا. ونزل العسكر فكرّ عليهم بدر فهزمهم وأثخن فيهم ونجا قراتكين في الفلّ إلى جسر النهروان حتى اجتمع إليه المنهزمون، ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل. ولما رجع قراتكين أغرى الجند بالشغب على الوزير أبي منصور بن صالحان، فأصلح مشرف الدولة بينه وبين قراتكين. وحقدها له فقبض عليه بعد أيام وعلى جماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم وشغب الجند من أجله فقتله، وقدّم عليهم مكانه طغان الحاجب. ثم قبض سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على شكر الخادم خالصة أبيه عضد الدولة وخالصته، وكان يحقد عليه من أيام أبيه من سعاياته فيه منها إخراجه من بغداد إلى كرمان تقرّبا إلى أخيه صمصام الدولة بإخراجه. فلما ملك مشرف الدولة بغداد اختفى شكر فلم يعثر عليه، وكان معه في اختفائه جارية حسناء فعلقت بغيره، وفطن لها فضربها فخرجت مغاضبة له.
وجاءت إلى مشرف الدولة فدلّت عليه فأحضره وهمّ بقتله، وشفع فيه نحرير الخادم حتى وهبه له. ثم استأذن في الحجّ وسار من مكّة إلى مصر فاختصّه خلفاء الشيعة وأنزلوه عندهم بالمنزلة الرفيعة.
(وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه بهاء الدولة)
ثم توفي مشرف الدولة أبو الفوارس سرديك بن عضد الدولة ملك العراق في منتصف تسع وسبعين وثلاثمائة لثمانية أشهر وسنتين من ملكه، ودفن بمشهد عليّ عليه السلام. ولما اشتدّت علته بعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس بالخزائن والعدد مع أمّه وجواريه في جماعة عظيمة من الأتراك، وسأله أصحابه أن يعهد فقال: أنا في شغل عن ذلك، فسألوه نيابة أخيه بهاء الدولة ليسكن الناس إلى أن يستفيق من مرضه، فولّاه نيابته.
ولما جلس بهاء الدولة في دست الملك، ركب إليه الطائع فعزّاه وخلع عليه خلع السلطنة، وأقرّ بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته.
(وثوب صمصام الدولة بفارس وأخباره مع أبي علي ابن أخيه مشرف الدولة)
قد تقدّم لنا أن صمصام الدولة اعتقله أخوه مشرف الدولة بقلعة ورد قرب شيراز من(4/613)
أعمال فارس عند ما ملك بغداد سنة ست وسبعين وثلاثمائة. فلما مات مشرف الدولة وكان قد بعث ابنه أبا علي إلى فارس، ولحقه موت أبيه بالبصرة فبعث ما معه في البحر إلى أرّجان، وسار إليها في البرّ مخفا. والتفّ عليه الجند الذين بها، وكاتبه العلاء بن الحسن من شيراز بخبر صمصام الدولة، فسار إلى شيراز واختلف عليه الجند، وهمّ الديلم بإسلامه إلى صمصام الدولة، فتحرّك الأتراك وقاتل الديلم أياما، ثم سار إلى نسا والأتراك معه، فأخذوا ما بها من المال وقتلوا الديلم ونهبوا أموالهم وسلاحهم. وسار أبو علي إلى أرّجان، وبعث الأتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة والديلم ونهبوا البلد، وعادوا إليه بأرّجان. وجاءه رسول عمّه بهاء الدولة من بغداد بالمواعيد الجميلة، ودسّ مع رسوله إلى الأتراك واستمالهم فحسّنوا لأبي عليّ المسير إلى عمّه بهاء الدولة، فسار إليه ولقيه بواسط منتصف ثمانين وثلاثمائة وقد أعدّ له الكرامة والنزول، ثم قبض عليه لأيام وقتله، وتجهّز للمسير إلى فارس.
(مسير فخر الدولة صاحب الريّ وأصفهان وهمذان الى العراق وعوده)
كان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة بن ركن الدولة يحب العراق ويريد بغداد، لما كان بها من الحضارة واستئثار الفضائل. فلمّا توفي مشرف الدولة سلطان بغداد رأى أنّ الفرصة قد تمكنت فدسّ إلى فخر الدولة من يغريه بملك بغداد، حتى استشاره في ذلك، فتلطّف في الجواب بأن أحاله على سعادته فقبل إشارته، وسار إلى حمدان ووفد عليه بدر بن حسنويه ودبيس بن عفيف الأسديّ، وشاوروا في المسير فسار الصاحب بن عبّاد وبدر في المقدمة على الجادة، وفخر الدولة على خوزستان. ثم ارتاب فخر الدولة بالصاحب بن عبّاد خشية من ميله مع أولاد عضد الدولة فاستعاده، وساروا جميعا إلى الأهواز فملكها فخر الدولة وأساء السيرة في جندها وجنده، وحبس عنهم العطاء فتخاذلوا وكان الصاحب منذ اتهمه وردّه عن طريقه معرضا عن الأمور ساكتا، فلم تستقم الأمور بإعراضه. ثم بعث(4/614)
بهاء الدولة عساكره إلى الأهواز فقاتلوهم وزادت دجلة إلى الأهواز، وانفتقت أنهارها فتوهّم الجند وحسبوها مكيدة فانهزموا، وأشار عليه الصاحب بإطلاق الأموال فلم يفعل، فانفضّت عنه عساكر الأهواز، وعاد إلى الريّ وقبض في طريقه على جماعة من قوّاد الديلم والريّ، وعادت الأهواز الى دعوة بهاء الدولة.
(مسير بهاء الدولة إلى أخيه صمصام الدولة بفارس)
ثم سار بهاء الدولة سنة ثمانين وثلاثمائة إلى خوزستان عازما على قصد فارس، وخلّف ببغداد أبا نصر خواشاده من كبار قوّاد الديلم، ومرّ بالبصرة فدخلها، وسار منها الى خوزستان، وأتاه نعي أخيه أبي ظاهر فجلس لعزائه، ودخل أرّجان وأخذ جميع ما فيها من الأموال، وكانت ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، وهرعت إليه الجنود ففرّقت فيهم تلك الأموال كلها. ثم بعث مقدّمته أبا العلاء بن الفضل إلى النوبندجان فهزموا بها عسكر صمصام الدولة، فأعاد صمصام الدولة العساكر مع فولاد بن ماندان فهزموا أبا العلاء بمراسلة وخديعة من فولاذ، كبسه في أثرها، فعاد إلى أرّجان مهزوما. ولحق صمصام الدولة من شيراز بفولاذ. ثم تردّدت الرسل في الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرّجان ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، ويكون لكلّ منهما أقطاع في بلد صاحبه، فتمّ ذلك بينهما وتحالفا عليه، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز. وبلغه ما وقع ببغداد من العيّارين وبين الشيعة وأهل السنّة وكيف نهبت الأموال وخرجت المساكين فأعاد السير إلى بغداد وصلحت الأحوال.
(القبض على الطائع ونصب القادر للخلافة)
قد ذكرنا أنّ بهاء الدولة قد شغب الجند عليه لقلّة الأموال، وقبض وزيره فلم يغن عنه. وكان أبو الحسن بن المعلّم غالبا على هواه، فأطمعه في مال الطائع، وزيّن له القبض عليه. فأرسل إليه بهاء الدولة في الحضور عنده، فجلس على العادة، ودخل(4/615)
بهاء الدولة في جمع كبير وجلس على كرسيّه، وأهوى بعض الديلم إلى يد الطائع ليقبّلها، ثم جذبه عن سريره. وهو يستغيث ويقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 واستصفيت خزائن دار الخلافة فمشى بها الحال أياما ونهب الناس بعضهم بعضا. ثم أشهد على الطائع بالخلع ونصّبوا للخلافة عمّه القادر أبا العبّاس أحمد المقتدر، استدعوه من البطيحة وكان فرّ إليها أمام الطائع كما تقدّم في أخبار الخلفاء. وهذا كلّه سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
(رجوع الموصل الى بهاء الدولة)
كان أبو الرواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل قتل أبا طاهر بن حمدان آخر ملوك بني حمدان بالموصل وغلب عليها، وأقام بها طاعة معروفة لبهاء الدولة، وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة كما مرّ في أخبار بني حمدان وبني المسيب. ثم بعث بهاء الدولة أبا جعفر الحجّاج بن هرمز من قوّاد الديلم في عسكر كبير إلى الموصل فملكها آخر إحدى وثمانين فاجتمعت عقيل مع أبي الرواد على حربه وجرت بينهم عدّة وقائع، وحسن فيها بلاء أبي جعفر بالقبض عليه، فخشي اختلاف أمره هناك وراجع في أمره، وكان بإغراء ابن المعلّم وسعايته. ولما شعر الوزير بذلك صالح أبا الروّاد وأخذ رهنه، وأعاده الى بغداد فوجد بهاء الدولة قد نكب ابن المعلم.
(أخبار ابن المعلم)
هو أبو الحسن بن المعلم قد غلب على هوى بهاء الدولة وتحكّم في دولته، وصدر كثير من عظائم الأمور بإشارته، فمنها نكبة أبي الحسن محمد بن عمر العلويّ، وكان قد عظم شأنه مع مشرف الدولة وكثرت أملاكه. فلما ولي بهاء الدولة سعى به عنده وأطمعه في ماله، فقبض عليه واستصفى سائر أملاكه، ثم حمله على نكبة وزيره(4/616)
أبي منصور بن صالحان سنة ثمان [1] واستوزر أبا النصر سابور بن أردشير قبل مسيره إلى خوزستان، ثم حمله على خلع الطائع واستصفى أمواله وحمل ذخائر الخلافة إلى داره، ثم حمله على نكبة وزيره أبي نصر سابور واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، وبعد مرجعه من خوزستان قبض على أبي خواشاده وأبي عبد الله بن ظاهر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأنهما لم يوصلا لابن المعلّم هداياهما، فحمل بهاء الدولة على نكبتهما. ولما استطال على الناس وكثر الضجر منه شغب الجند على بهاء الدولة وطالبوه بإسلامه إليهم، وراجعهم فلم يقبلوا، فقبض عليه وعلى سائر أصحابه ليسترضيهم بذلك فلم يرضوا إلّا به، فأسلمه إليهم وقتلوه. ثم اتّهم الوزير أبا القاسم بمداخلة الجند في الشغب على الوزير، فقبض عليه واستوزر مكانه أبا نصر سابور وأبا نصر بن الوزير الأوّلين وأقاما شريكين في الوزارة.
(خروج أولاد بختيار وقتلهم)
كان عضد الدولة قد حبس أولاد بختيار فأقاموا معتقلين مدّة أيامه وأيام صمصام الدولة من بعده. ثم أطلقهم مشرف الدولة وأحسن إليهم وأنزلهم بشيراز وأقطعهم.
فلما مات مشرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا الموكّل الّذي عليهم والجند الّذي معه من الديلم، فأفرجوا عنهم وذلك سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
واجتمع إليهم أهل تلك النواحي وأكثرهم رجّالة، وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة فبعث أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر، فافترقت تلك الجموع وتحصّن بنو بختيار ومن معهم من الديلم، وحاصرهم أبو علي، وأرسل أحد الديلم معهم فأصعدهم سرّا وملكوا القلعة وقتلوا أولاد بختيار.
(استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ورجوعها منه)
ثم انتقض الصلح سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة بين بهاء الدولة صاحب بغداد وأخيه
__________
[1] هكذا بالأصل، والصحيح ان بهاء الدولة قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان سنة 380 كما في الكامل ج 9 ص 77.(4/617)
صمصام الدولة صاحب خوزستان، وذلك أنّ بهاء الدولة بعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز، وأسرّ إليه أن يبعث العساكر متفرّقة، فإذا اجتمعوا عنده صدم بهم بلاد فارس. فسار أبو العلاء، وتشاغل بهاء الدولة عن ذلك، وظهر الخبر فجهّز صمصام الدولة عسكره إلى خوزستان، واستمدّ أبو العلاء بهاء الدولة فتوافت عساكره، والتقى العسكران وانهزم أبو العلاء وأخذ أسيرا، فأطلقته أم صمصام الدولة. وقلق بهاء الدولة لذلك، وافتقد الأموال فأرسل وزيره أبا نصر سابور إلى واسط، وأعطاه جواهر واعلاقا يسترهنها [1] عند مهذّب الدولة صاحب البطيحة فاسترهنها، ولما هرب الوزير أبو نصر استعفى ابن الصالحان من الانفراد بالوزارة فأعفي. واستوزر بهاء الدولة أبا القاسم علي بن أحمد، ثم عجز وهرب. وعاد أبو نصر سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم. ثم بعث بهاء الدولة طغان التركي إلى الأهواز في سبعمائة من المقاتلة فملكوا السوس، ورحل أصحاب صمصام الدولة عن الأهواز، وانتشرت عساكر طغان في أعمال خوزستان، وكان أكثرهم من الترك، فغصّ الديلم بهم الذين في عسكر طغان، فضلّ الدليل وأصبح على بعد منهم، ورآهم الأتراك فركبوا إليهم وأكمن ألوفا، واستأمن كثير منهم وأمّنهم طغان حتى نزلوا بأمر الأتراك فقتلوهم كلهم، وانتهى الخبر إلى بهاء الدولة بواسط، وسار إلى الأهواز وسار صمصام الدولة إلى شيراز وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وأمر صمصام الدولة بقتل الأتراك في جميع بلاد فارس سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فقتل منهم جماعة وهرب الباقون، فعاثوا في البلاد ولحقوا بكرمان، ثم ببلاد السند حتى توسّطهم الأتراك [2] فأطبقوا عليهم واستلحموهم.
__________
[1] مقتضى السياق: يرهنها.
[2] معنى العبارة ان الأتراك اطبقوا على الأتراك، وحسب مقتضى السياق ان المعركة وقعت بين الديلم والأتراك. وفي الكامل ج 9 ص 111: «أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون فعاثوا في البلاد، وانصرفوا الى كرمان، ثم منها الى بلاد السند، واستأذنوا ملكها في دخول بلاده، فأذن لهم وخرج الى تلقّيهم، ووافق أصحابه على الإيقاع بهم، فلما رآهم جعل أصحابه صفّين: فلما حصل الأتراك في وسطهم اطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل» .(4/618)
(استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ثم على البصرة)
ثم بعث صمصام الدولة عساكره الديلم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة إلى الأهواز، وكان نائب بهاء الدولة قد توفي وعزم الأتراك على العود إلى بغداد، فبعث بهاء الدولة مكانه أبا كاليجار المرزبان بن سفهيعون [1] ، وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى رامهرمز مددا لنائبها لفتكين [2] ، وقد انهزم إليها أمام عسكر صمصام الدولة، فترك أبا محمد بن مكرم بها. ومضى إلى الأهواز وسار إلى خوزستان، فكاتبه العلاء بن الحسن يخادعه. ثم سار إلى رامهرمز وحارب ابن مكرم ولفتكين وبعث بهاء الدولة ثمانين من الأتراك يأتون من خلف الديلم، فشعروا بهم وقتلوهم أجمعين. وخام بهاء الدولة عن اللقاء، فرجع إلى الأهواز. ثم سار إلى البصرة ونزل بها، وانتهى خبره إلى ابن مكرم، فعاد إلى عسكر مكرم واتبعه العلاء والديلم فأجلوه عنها إلى قرب تستر.
وتكرّرت الوقائع بين الفريقين، فكان بيد الأتراك من تستر إلى رامهرمز، وبيد الديلم من رامهرمز [3] ، ورجع الأتراك واتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فرجع عنهم، وأقام بعسكر مكرم. ورجع بهاء الدولة إلى بغداد، وكان مع العلاء قائد من قوّاد الديلم اسمه شكراستان، فاستأمن إليه من الديلم الذين مع بهاء الدولة نحو من أربعمائة رجل فاستكثر بهم، وسار إلى البصرة وحاصرها، ومال إليهم أبو الحسن بن جعفر العلويّ من أهل البصرة، وكانوا يحملون الميرة. وعلم بهاء الدولة فأنفذ من يقبض عليهم فهربوا إلى ذلك القائد وقوي بهم، وجمعوا له السفن فركبها إلى البصرة، وقاتل أصحاب بهاء الدولة وهزمهم وملك البصرة واستباحها. وكتب بهاء الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة بأن يرتجعها من يد الديلم ويتولّاها، فأمدّه عبد الله بن مرزوق، وأجلى الديلم عنها، ثم رجع للقاء شكراستان. وهجم
__________
[1] المرزبان بن شهفيروز: ابن الأثير ج 9 ص 112.
[2] ورد اسمه من قبل افتكين وفي الكامل الفتكين وهذا ربما تحريف من الناسخ.
[3] هكذا بالأصل والعبارة مبتورة ولعله سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 113:
«وكان بيد الأتراك، أصحاب بهاء الدولة من تستر الى رامهرمز ومع الديلم منها الى أرجان، وأقاموا ستة أشهر ثم رجعوا الى الأهواز، ثم عبر بهم النهر الى الديلم واقتتلوا نحو شهرين، ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء فوجد قد سلكوا طريق واسط» .(4/619)
عليها في السفن فملكها وكاتب بهاء الدولة بالطاعة والضمان فأجابه وأخذ ابنه رهينة، وكان يظهر طاعة بهاء الدولة وصمصام الدولة.
(وفاة الصاحب بن عباد)
وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة توفي أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة بالريّ، وكان أوحد زمانه علما وفضلا ورياسة ورأيا وكرما وعرفا بأنواع العلوم، عارفا بالكتابة ورسائله مشهورد مدوّنه. وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد حتى يقال: كانت تنقل في أربعمائة حمل. ووزر بعده لفخر الدولة أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم الضبّي الملقّب بالكافي. ولمّا توفي استصفى فخر الدولة أمواله بعد أن أوصاه عند الموت، فلم ينفّذ وصيته. وكان الصاحب قد أحسن إلى القاضي عبد الجبّار المعتزلي وقدّمه وولّاه قضاء الريّ وأعمالها. فلمّا مات قال عبد الجبّار لا أرى الترحّم عليه لأنه مات على غير توبة ظهرت منه، فنسب إليه قلّة الوفاء بهذه المقالة. ثم صادر فخر الدولة عبد الجبّار فباع في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب من الصوف الرفيع. ثم تتبّع فخر الدولة آثار ابن عبّاد وأبطل ما كان عنده من المسامحات، وقبض على أصحابه والبقاء للَّه وحده.
(وفاة فخر الدولة صاحب الريّ وملك ابنه مجد الدولة)
ثم توفي فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه صاحب الريّ وأصفهان وهمذان في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة بقلعة طبرك، ونصّب للملك من بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين، نصّبه الأمراء وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميس إلى حدود العراق. وكان زمام الدولة بيد أمّ رستم مجد الدولة وإليها تدبير ملكه، وبين يديها في مباشرة الأعمال أبو ظاهر صاحب فخر الدولة، وأبو العبّاس الضبيّ الكافي
.(4/620)
(وفاة العلاء بن الحسن صاحب خوزستان)
ثم توفي العلاء بن الحسن عامل خوزستان لصمصام الدولة بعسكر مكرم، فبعث صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز بالمال ففرّقه في الديلم، ودفع أصحاب بهاء الدولة عن جند نيسابور بعد وقائع كان الظفر فيها له، ثم دفعهم عن خوزستان إلى واسط واستمال بعضهم فنزعوا إليه، ورتّب العمّال في البلاد وجبى الأموال سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ثم سار أبو محمد بن مكرم من واسط مع الأتراك فدافعهم، وكانت بينه وبينهم وقائع. ثم سار بهاء الدولة في أثرهم من واسط، وكان لحق بهم في واسط أبو عليّ بن إسماعيل الّذي كان نائبا ببغداد عند مسيره إلى الأهواز سنة ست وثمانين وثلاثمائة وجاء المقلّد بن المسيّب من الموصل للعيث في جهات بغداد، فبرز أبو علي لقتاله، فنكر ذلك بهاء الدولة مغالطة، وبعث من يصالحه ويقبض على أبي عليّ، فهرب أبو علي إلى البطيحة، ثم لحق بهاء الدولة وهو بواسط فوزر له وزير أمره وأشار عليه بالمسير لانجاد أبي محمد بن مكرم في قتال أبي عليّ بن أستاذ هرمز بخوزستان، فسار بهاء الدولة ونزل القنطرة البيضاء، وجرت بينه وبين أبي علي بن استاذ هرمز وقائع، وانقطعت الميرة عن عسكر بهاء الدولة، فاستمدّ بدر بن حسنويه فأمدّه ببعض الشيء، وكثرت سعاية الأعداء في أبي علي بن إسماعيل فكاد ينكبهم، وبينما هم على ذلك بلغهم مقتل صمصام الدولة فصلحت الأحوال واجتمعت الكلمة.
(مقتل صمصام الدولة)
كان أبو القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين كما تقدّم، فخدعا المتوكّلين بهما في القلعة، وخرجا فاجتمع إليهما لفيف من الأكراد، وكان صمصام الدولة قد عرض جنده وأسقط منهم نحوا من ألف لم يثبت عنده نسبهم في الديلم فبادروا إلى ابني بختيار والتقوا عليهما في أرّجان. وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما، فثار به الجند ونهبوا داره فاختفى، ثم انتقضوا على صمصام الدولة ونهبوه، وهرب إلى الرودمان(4/621)
على مرحلتين من شيراز فقبض عليه صاحبها، وجاء أبو نصر بن بختيار فأخذه منه وقتله في ذي الحجّة سنة ثمان لتسع سنين من إمارته بفارس، وأسلمت أمّه إلى بعض قوّاد الديلم فقتلها ودفنها بداره حتى ملك بهاء الدولة فارس، فنقلها الى تربة بني بويه.
(استيلاء بهاء الدولة على فارس وخوزستان)
ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار فارس بعثا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز يستميلانه، ويأمرانه بأخذ العهد لهما على الذين معه من الديلم، ومحاربة بهاء الدولة.
وكتب إليه بهاء الدولة يستميله ويؤمّنه ويؤمّن الديلم الذين معه ويرغّبهم، واضطرب رأي أبي علي لخوفه من ابني بختيار لما أسلف من قتل إخوتهما وحبسهما فمال عنهما، ومال الديلم عن بهاء الدولة خوفا من الأتراك الذين معه، فما زال أبو علي بهم حتى بعثوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة، واستوثقوا يمينه ونزلوا إلى خدمته، وساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز وأرّجان. واستولى بهاء الدولة على سائر بلاد خوزستان وبعث وزيره أبا علي بن إسماعيل إلى فارس، فنزل بظاهر شيراز وبها ابنا بختيار فحاربهما، ومال بعض أصحابهما إليه. ثم انفضّوا عنهما إلى أبي علي وأطاعوه، واستولى على شيراز ولحق أبو نظر ابن بختيار ببلاد الديلم وأخوه أبو القاسم ببدر بن حسنويه ثم بالبطيحة. وكتب الوزير أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إلى شيراز وأمر بنهب قرية الرودمان فملكها، وأقام بهاء الدولة بالأهواز، واستخلف ببغداد أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز ولقّبه عميد العراق. وبقي ملوك الديلم بعد ذلك يقيمون بفارس الأهواز ويستخلفون على العراق مدّة طويلة.
(مقتل ابن بختيار بكرمان واستيلاء بهاء الدولة عليها)
لما استقرّ أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم كاتب جند الديلم بفارس وكرمان واستمالهم، فاستدعوه إلى فارس، فاجتمع إليه كثير من الربض والديلم والأكراد. ثم سار إلى(4/622)
كرمان وبها أبو جعفر بن السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وملك أكثر كرمان، فبعث بهاء الدولة وزيره الموفّق أبا علي بن إسماعيل في العساكر، ولما وصل جيرفت استأمن إليه أهلها وملكها، وهرب ابن بختيار فاختار الوزير من أصحابه ثلاثمائة رجل وسار في أتباعه، وترك باقي العسكر بجيرفت. ولما أدركه أوقع به وغدر بابن بختيار بعض أصحابه فقتله، وجاء برأسه الى الموفّق، واستلحم الباقين، وذلك سنة تسعين وثلاثمائة. واستولى الموفّق على كرمان، وولّى عليها أبا موسى سياه جشم، وعاد إلى بهاء الدولة فقبض عليه واستصفاه، وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على أنسابه وأصحابه، فدسّ إليهم سابور بذلك وهربوا. ثم قتل بهاء الدولة الموفّق سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، ثم استعمل بهاء الدولة على خوزستان وأعمالها أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز، ولقّبه عميد الجيوش، وعزل عنها أبا جعفر الحجّاج بن هرمز لسوء سيرته، وفساد أحوالها بولايته، وكثرة مصادراته، فصلحت حالها بولاية أبي علي، وحصّل إلى بهاء الدولة منها الأموال مع كثرة العدل.
(مسير ظاهر بن خلف الى كرمان واستيلاؤه عليها ثم ارتجاعها)
قد تقدّم لنا أنّ ظاهر بن خلف خرج عن طاعة أبيه خلف بن أحمد السجستاني، وحاربه فظفر به أبوه، فسار إلى كرمان يروم التوثّب عليها، وتكاسل عاملها عن أمره، فكثر جمعه واجتمع إليه بحيالها كثير من المخالفين، فنزل بهم إلى جيرفت فملكها وملك غيرها سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وكان بكرمان أبو موسى سياه جشم، فسار إليه بمن معه من الديلم فهزمه ظاهر وأخذ ما بقي بيده، فبعث بهاء الدولة أبا جعفر استاذ هرمز في العساكر إلى كرمان فهزم ظاهرا إلى سجستان وملك كرمان وعادت الديلم.
(حروب عساكر بهاء الدولة مع بني عقيل)
كان قرواش بن المقلّد قد بعث جمعا من بني عقيل سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة(4/623)
فحاصروا المدائن، وبعث أبو جعفر الحجّاج بن هرمز وهو ببغداد نائب لبهاء الدولة عساكره فدفعوهم عنها، فاجتمع بنو عقيل وأبو الحسن بن مزيد من بني أسد، وبرز إليهم الحجّاج، واستدعى خفاجة من الشام وقاتلهم فانهزم واستبيح عسكره، وانهزم ثانيا، وبرز إليهم فالتقوا بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن فيهم ونهب من حلل بني يزيد ما لا يعبر عنه من العين والمصاغ والثياب.
(الفتنة بين أبي علي وأبي جعفر)
لما غاب أبو جعفر الحجّاج عن بغداد قام بها العيّارون واشتدّ فسادهم وكثر القتل والنهب، فبعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز لحفظ العراق، فانهزم أبو جعفر بنواحي الكوفة مغضبا. ثم جمعوا الجموع من الديلم والأتراك والعرب، فانهزم أبو جعفر وأمن أبو علي جانبه، فسار إلى خوزستان وبلغ السوس.
فأتاه الخبر بأنّ أبا جعفر عاد إلى الكوفة فكرّ راجعا، وعاد الحرب بينهم، وبينما هم على ذلك أرسل بهاء الدولة إلى أبي علي يستدعيه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لحرب ابن واصل بالبصرة فسار إليه، وكانت الحرب بينه وبين ابن واصل كما يأتي في اخبار ملوك البطيحة، ورجع إلى بغداد ونزل أبو جعفر على فلح حامي طريق خراسان وأقام هنالك، وكان فلح مباينا لعميد الجيوش أبي علي. وتوفي سلخ سنة سبع وتسعين وثلاثمائة فولّى أبو عليّ مكانه أبا الفضل بن عنّان، وكان بهاء الدولة في محاربة ابن واصل بالبصرة، فأتاهم الخبر بظهور بهاء الدولة عليه، فأوهن ذلك منهم وافترقوا ولحق ابن مزيد ببلده، وسار أبو جعفر وابن عيسى إلى حلوان. وأرسل أبو جعفر في إصلاح حاله عند بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، وحضر عنده بتستر، فأعرض عنه خوفا أن يستوحش أبو علي. وحقد بهاء الدولة لبدر بن حسنويه فسار إليه، وبعث إليه بدرا في المصالحة فقبله وانصرف، وتوفي أبو جعفر الحجّاج بن هرمز بالأهواز سنة إحدى وأربعمائة
.(4/624)
(الفتنة بين مجد الدولة صاحب الريّ وبين أمّه واستيلاء ابن خالها علاء الدين بن كاكويه على أصفهان)
قد تقدّم لنا ولاية مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة على همذان وقرميس إلى حدود العراق، وتدبير الدولتين لأمّه وهي متحكّمة عليهما، فلمّا وزر لمجد الدولة الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء عنها وخوّف مجد الدولة عنها، فاسترابت وخرجت من الريّ إلى القلعة، فوضع عليها من يحفظها فأعملت الحيلة حتى لحقت ببدر بن حسنويه مستنجدة به. وجاءها ابنها شمس الدولة في عساكر همذان وسار معهما بدر، وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة فحاصروا أصفهان وملكوها عنوة. وعاد إليها الأمر فاعتقلت مجد الدولة ونصبت شمس الدولة للملك، ورجع بدر إلى بلده ثم بعد سنة استرابت بشمس الدولة، فأعادت مجد الدولة إلى ملكه.
وسار شمس الدولة إلى همذان، وانتقض بدر بن حسنويه لذلك، وكان في شغل بفتنة ولده هلال. واستمدّ شمس الدولة فأمدّه بعسكر وحاصر قمّ فاستصعبت عليه، وكان علاء الدين أبو حفص بن كاكويه ابن خال هذه المرأة، وكاكويه هو الخال بالفارسية، فلذلك قيل له ابن كاكوي، وكانت قد استعملته على أصفهان، فلما فارق أمرها فسد حاله، فسار هو إلى بهاء الدولة بالعراق، وأقام عنده. فلما عادت إلى حالها هرب أبو حفص إليها من العراق، فأعادته إلى أصفهان، ورسخ فيها ملكه وملك بنيه كما يأتي في أخبارهم.
(وفاة عميد العراق وولاية فخر الملك)
كان أبو جعفر أستاذ هرمز من حجّاب عضد الدولة وخواصه، وصيّر ابنه أبا علي في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلمّا قتل صمصام الدولة رجع إلى بهاء الدولة، وبلغه ما وقع ببغداد في مغيبه من الهرج وظهور العيّارين، فبعث بهاء الدولة مكانه على العراق فخر الملك أبا غالب، وأصعد إلى بغداد فلقيه الكتّاب والقوّاد والأعيان في ابن خلدون م 40 ج 4(4/625)
ذي الحجّة من السنة، وبعث العساكر من بغداد لقتال أبي الشوك حتى استقام.
وكانت الفتنة قد وقعت بين بدر بن حسنويه وابنه هلال، واستنجد بدر ببهاء الدولة فأنجده [1] من يده وأخذ ما فيها من الأموال، وفتح دير العاقول، وجاء سلطان وعلوان ورجب بنو ثمال الخفاجي في أعيان قومهم، وضمنوا حماية سقي الفرات من بني عقيل، وساروا معه إلى بغداد فبعثهم مع ذي السعادتين الحسن بن منصور للأنبار فعاثوا في نواحيها، وحبس ذو السعادتين نفرا منهم. ثم أطلقهم فهمّوا بقبضه، وشعر بهم فحاول عليهم حتى قبض على سلطان منهم وحبسهم ببغداد. ثم شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد فأطلقهم، فاعترضوا الحاج سنة اثنتين وأربعمائة ونهبوهم فبعث فخر الملك إلى أبي الحسن بن مزيد بالانتقام منهم، فلحقهم بالبصرة فأوقع بهم وأثخن فيهم، واستردّ من أموال الحاج ما وجد وبعث به وبالأسرى إلى فخر الملك. ثم اعترضوا الحاج مرّة أخرى ونهبوا سواد الكوفة فأوقع بهم أبو الحسن بن مزيد مثل ذلك، وبعث بأسراهم إلى بغداد.
__________
[1] هكذا بياض بالأصل في الكامل ج 9 ص 215: «وأرسل بدر الى الملك بهاء الدولة يستنجده، مجهّز فخر الملك أبا غالب في جيش، وسيّره الى بدر، فسار حتى وصل الى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيّق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنّهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظنّ هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإنّ أولئك ذلّلهم أبوك على ممرّ السنين.
فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة ان يقوى أبي وأضعف أنا، وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلا. فلما وصل اليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم الى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة للأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل الى فخر الملك يقول له: إنّني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريبا منك، وأنزل على حكمك، فتردّ العسكر عن الحرب، فإنّني أدخل في الطاعة.
فمال فخر الملك الى هذا القول، وأرسل الرسول الى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبّه وطرده، وأرسل الى فخر الملك يقول له: إنّ هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي ان لا تنفّس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتّهم بدرا بالميل الى ابنه، وتقدّم الى الجيش بالحرب، فقاتلوا فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيرا، فقبّل الأرض، وطلب ان لا يسلّمه إلى أبيه، فأجابه الى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمّه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمّنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلّمها الى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها» .(4/626)
(وفاة بهاء الدولة وولاية ابنه سلطان الدولة)
ثم توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه هلك بالعراق منتصف ثلاث وأربعمائة بأرّجان، وحمل إلى تربة أبيه بمشهد عليّ فدفن بها لأربع وعشرين سنة من ملكه، وملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع، وسار من أرّجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة أبا ظاهر على البصرة وأخاه أبا الفوارس على كرمان.
(استيلاء شمس الدولة على الريّ من يد أخيه مجد الدولة ورجوعه عنها)
قد تقدّم لنا أنّ شمس الدولة بن فخر الدولة كان ملك همذان وأخوه مجد الدولة ملك الريّ بنظر أمّه، وكان بدر بن حسنويه أمير الأكراد وبينه وبين ولده هلال فتنة وحروب نذكرها في أخبارهم. واستولى شمس الدولة على كثير من بلادهم وأخذ ما فيها من الأموال كما يذكر في أخبارهم. ثم سار إلى الريّ يروم ملكها ففارقها أخوه مجد الدولة ومعه أمّه إلى دنباوند واستولى شمس الدولة على الريّ وسار في طلب أخيه وأمّه فشغب الجند عليه وطالبوه بأرزاقهم، فعاد إلى همذان وعاد أخوه مجد الدولة وأمّه إلى الريّ.
(مقتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان)
ثم قبض سلطان الدولة على نائبة بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب وقتله في سلخ ربيع الأول سنة ست وأربعمائة لخمس سنين ونصف من ولايته، واستصفى أمواله، وكانت ألف ألف دينار سوى العروض وما نهب. وولّى مكانه بالعراق أبا محمد الحسن بن سهلان ولقّبه عميد الجيوش، واستوزر مكانه الرجّحي بعد أن كان ابن سهلان هرب إلى قرواش فأقامه عنده بهيت، وولّى سلطان الدولة مكانه في الوزارة أبا(4/627)
القاسم جعفر بن فسانجس. ثم رجع ابن سهلان الى سلطان الدولة. فلما قتل فخر الملك ولّاه مكانه، فسار إلى العراق في محرّم سنة تسع وأربعمائة، ومرّ في طريقه ببني أسد فرأى أن يثأر منهم من مضر بن دبيس بما كان قبض عليه قديما بأمر فخر الملك، فأسرى إليه وإلى أخيه مهارش، وفي جملته أخوهم طراد، واتبعهما حتى أدركهما، وقاتله رجال الحيّ فقتل جماعة من الديلم والأتراك. ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم وسبى حريمهم، وبذل الأمان لمضر ومهارش وأشرك بينهما وبين طراد في الجزيرة. ونكر عليه سلطان الدولة ذلك، ورحل هو إلى واسط والفتن بها فقتل جماعة منهم وأصلحها، وبلغه ما ببغداد من الفتنة فسار إليها ودخلها في ربيع من السنة، وهرب منه العيّارون ونفى جماعة من العبّاسيّين وأبا عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم بأطراف البلد فكثر فسادهم وفساد الأتراك، وساروا إلى سلطان الدولة بواسط شاكين من ابن سهلان فوعدهم وأمسكهم، وبعث عن ابن سهلان فارتاب وهرب إلى بني خفاجة، ثم إلى الموصل، ثم استقرّ بالبطيحة. وبعث سلطان الدولة العساكر في طلبه فأجاره واليها الشرابي وهزم العساكر وكان ابن سهلان سار إلى جلال الدولة بالبصرة ثم أصلح الرجّحي حاله مع سلطان الدولة ورجع إليه.
وضعف أمر الديلم في هذه السنة ببغداد وواسط، وثارت لهم العامّة فلم يطيقوا مدافعتهم.
ثم قبض سلطان الدولة على وزيره فسانجس وأخويه، واستوزر أبا غالب ذا السعادتين الحسن بن منصور، وقبض جلال الدولة صاحب البصرة على وزيره أبي سعد عبد الواحد علي بن ماكولا.
(انتقاض أبي الفوارس على أخيه سلطان الدولة)
كان سلطان الدولة قد ولّى أخاه أبا الفوارس على كرمان فاجتمع إليه بعض الديلم، وداخلوه في الانتقاض فانتقض، وسار إلى شيراز فملكها سنة سبع وأربعمائة. وسار سلطان الدولة فهزمهم إلى كرمان، وسار في اتباعه فلحق بمحمود بن سبكتكين ببست ووعده بالنصرة، وبعث معه أبا سعيد الطائي في العساكر إلى كرمان، وقد(4/628)
انصرف عنها سلطان الدولة إلى بغداد فملكها أبو الفوارس وسار إلى بلاد فارس فملكها، ودخل إلى شيراز فسار سلطان الدولة إليه فهزمه فعاد إلى كرمان سنة ثمان وأربعمائة. وبعث سلطان الدولة في أثره فملكوا عليه كرمان، ولحق بشمس الدولة صاحب همذان لأنه كان أساء معاملة أبي سعيد الطائي، فلم يرجع إلى محمود بن سبكتكين. ثم فارق شمس الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة فبالغ في تكرمته وأنزله بداره. وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مالا، وعرض عليه المسير إليه فأبى. ثم تردّدت الرسل بينه وبين أخيه سلطان الدولة، فعاد إلى كرمان وبعث إليه التقليد والخلع.
(وثوب مشرف الدولة على أخيه سلطان الدولة ببغداد واستبداده آخرا بالملك)
ثم شغب الجند على سلطان الدولة ببغداد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ونادوا بولاية مشرف الدولة أخيه فهمّ بالقبض عليه فلم يتمكّن من ذلك، ثم أراد الانحدار إلى واسط لبعض شئون الدولة فطلب الجند أن يستخلف فيهم أخاه مشرف الدولة فاستخلفه، ورجع من واسط إلى بغداد. ثم اعتزم على قصد الأهواز فاستخلف أخاه مشرف الدولة ثانيا على العراق بعد أن كانا تحالفا أن لا يستخلف أحد منهما ابن سهلان. فلما بلغ سلطان الدولة تستر استوزر ابن سهلان فاستوحش من مشرف الدولة.
ثم بعث سلطان الدولة إلى الأهواز فنهبوها، فدافعهم الأتراك الذين بها، وأعلنوا بدعوة مشرف الدولة، فانصرف سلطان الدولة عنهم. ثم طلب الديم من مشرف الدولة المسير إلى بيوتهم بخوزستان فأذن لهم وبعث معهم وزيره أبا غالب، ولحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس الأسدي بجزيرة بني دبيس وذلك لسنة ونصف من ولايته الوزارة، وصودر ابنه أبو العبّاس على ثلاثة ألف دينار وسرّ سلطان الدولة بقتل أبي غالب، وبعث أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها. ثم تراسل سلطان الدولة ومشرف الدولة في الصلح، وسعى فيه بينهما أبو محمد بن مكرم صاحب سلطان الدولة ومؤيد الملك الرجّحي وزير مشرف الدولة، على أن يكون العراق(4/629)
لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة، وتم ذلك بينهما سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
(استيلاء ابن كاكويه على همذان)
كان شمس الدولة بن بويه صاحب همذان قد توفي ووليّ مكانه ابنه سماء الدولة، وكان فرهاد بن مرداويج مقطع يزدجرد، فسار إليها سماء الدولة وحاصره، فاستنجد بعلاء الدولة بن كاكويه، فأنجده بالعساكر، ودفع سماء الدولة عن فرهاد. ثم سار علاء الدولة وفرهاد إلى همذان وحاصراها، وخرجت عساكر همذان مع عساكر تاج الملك الفوهي قائد سماء الدولة فدفعهم، ولحق علاء الدولة بجرباذقان فهلك الكثير من عسكره بالبرد. وسار تاج الملك الفوهي إلى جرباذقان فحاصر بها علاء الدولة حتى استمال بها قوما من الأتراك الذين مع تاج الملك. وخلص من الحصار وعاود المسير إلى همذان، فهزم عساكرها وهرب القائد تاج الملك، واستولى علاء الدولة على سماء الدولة فأبقى عليه رسم الملك، وحمل إليه المال، وسار فحاصر تاج الملك في حصنه حتى استأمن اليه فأمّنه وسار به وبسماء الدولة إلى همذان فملكها، وملك سائر أعمالها، وقبض على جماعة من أمراء الديلم فحبسهم وقتل آخرين وضبط الملك، وقصد أبا الشوك الكردي فشفع فيه مشرف الدولة فشفعه وعاد عنه، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة.
(وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة ثم عزله)
كان عنبر الخادم مستوليا على دولة مشرف الدولة بما كان حظي أبيه وجدّه، وكان يلقّب بالأثير، وكان حاكما في دولة بني بويه مسموع الكلمة عند الجند. وعقد الوزير مؤيد الملك الرجّحي على بعض اليهود من جواشيه مائة ألف دينار، فسعى الأثير الخادم وعزله في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة واستوزر لناصر الدولة بن حمدان، ونزع عنه إلى خلفاء العبيديّين، وولّاه الحاكم بمصر. وولد له بها ابنه(4/630)
أبو القاسم الحسين، ثم قتله الحاكم فهرب ابنه أبو القاسم إلى مفرّج بن الجرّاح أمير طيِّئ بالشام، وداخله في الانتقاض على العبيديّين بأبي الفتوح أمير مكة فاستقدمه وبايع له بالرملة. ثم صونع مع مصر بالمال فانحلّ ذلك الأمر ورجع أبو الفتوح إلى مكة، وقصد أبو القاسم العراق واتصل بالعميد فخر الملك أبي غالب، فأمره القادر بإبعاده، فقصد الموصل واستوزره صاحبها، ثم نكبه وعاد الى العراق، وتقلّب به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرجّحي، فساء تصرّفه في الجند وشغب الأتراك عليه وعلى الأثير عنبر بسببه، فخرجا إلى السّندية، وخرج معهما مشرف الدولة فأنزلهم قرواش. ثم ساروا إلى أوانا، وندم الأتراك فبعثوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي يسألون الإقالة، وكتب إليهم أبو القاسم المغربي بأنّ أرزاقكم عند الوزير مكرا به.
وشعر بذلك فهرب إلى قرواش لعشرة أشهر من وزارته، وجاء الأتراك إلى مشرف الدولة والأثير عنبر فردّهما إلى بغداد.
(وفاة سلطان الدولة بفارس وملك ابنه أبي كليجار وقتل ابن مكرم)
ثم توفي سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة صاحب فارس بشيراز، وكان محمد بن مكرم صاحب دولته، وكان هواه مع ابنه أبي كليجار، وهو يومئذ أمير على الأهواز، فاستقدمه للملك بعد أبيه وكان هوى الأتراك مع عمّه أبي الفوارس صاحب كرمان فاستقدموه. وخشي محمد بن مكرم جانبه وفرّ عنه أبو المكارم إلى البصرة، وسار العادل أبو منصور بن مافنّة إلى كرمان لاستقدام أبي الفوارس وكان صديقا لابن مكرم [1] فحسن أمره عند أبي الفوارس، وأحال الأجناد بحق البيعة على ابن مكرم فضجر وماطلهم، فقبض عليه أبو الفوارس وقتله. ولحق ابنه القاسم بأبي كليجار بالأهواز فتجهّز إلى فارس، وقام بتربيته بابن مزاحم [2] صندل
__________
[1] يبدو ان أبا منصور بن مافنة كان صديقا لابن مكرم هكذا يقتضي السياق وفي الكامل ج 9 ص 337:
«فقال له العادل أبو منصور بن مافنة: الصلحة أن تقصد سيراف، وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك. فركب سفينة ليمضي اليها، فأصابه برد فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس» .
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 9 ص 338: «وقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم، وكان مربيه» .(4/631)
الخادم.
وسار في العساكر إلى فارس ولقيهم أبو منصور الحسن بن علي النّسويّ وزير أبي الفوارس فهزموه وغنموا معسكره وهرب أبو الفوارس إلى كرمان وملك أبو كليجار شيراز واستولى على بلاد فارس. وتنكّر للديلم الذين بها، فبعثوا الى من كان منهم بمدينة نسا فتمسّكوا بطاعة أبي الفوارس. ثم شغب عسكر أبي كليجار عليه، وطالبوه بالمال فظاهرهم الديلم، فسار إلى النوبندجان ثم الى شعب بوّان، وكاتب الديلم بشيراز أبا الفوارس يستحثّونه. ثم أصلحوا بينهما على أن تكون لأبي الفوارس كرمان، ويعود أبو كيجار لفارس لما فارقه بها من نعمته. وكان الديلم يطيعونه فساروا في العساكر وهزموا أبا الفوارس، فلحق بدارابجرد واستولى أبو كليجار على فارس.
ثم زحف إليه أبو الفوارس في عشرة آلاف من الأكراد فاقتتلوا بين البيضاء، وإصطخر فانهزم أبو الفوارس ولحق بكرمان، واستولى أبو كليجار على فارس واستقرّ ملكه بها سنة سبع عشرة وأربعمائة.
(وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة)
ثم توفي مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بن بويه سلطان بغداد في ربيع الأوّل سنة ست عشرة وأربعمائة، لخمس سنين من ملكه. ولما توفي خطب ببغداد لأخيه جلال الدولة وهو بالبصرة، واستقدم فلم يقدم، وانتهى إلى واسط فأقام بها يخطب لأبي كليجار ابن أخيه سلطان الدولة، وهو يومئذ بخوزستان مشغول بحرب عمّه أبي الفوارس كما قدّمناه. فحينئذ أسرع جلال الدولة من واسط إلى بغداد، فسار الجند ولقوة بالنهروان وردّوه كرها بعد أن نهبوا بعض خزائنه، وقبض على وزيره أبي سعيد بن ماكولا واستوزر ابن عمّه أبا علي، واستحثّ الجند أبا كليجار فعلّلهم بالوعد وشغل بالحرب، وكثر الهرج ببغداد من العيّارين، وانطلقت أيديهم وأحرقوا الكرخ، ونهاهم الأمير عنبر عن ذلك فلم ينتهوا، فخافهم على نفسه، فلحق بقرواش في الموصل وعظمت الفتن ببغداد
.(4/632)
(استيلاء جلال الدولة على ملك بغداد)
ولما عظم الهرج ببغداد ورأى الأتراك أنّ البلاد تخرب وأنّ العرب والأكراد والعامّة قد طمعوا فيهم، ساروا جميعا إلى دار الخلافة مستعتبين ومعتذرين عمّا صدر منهم من الانفراد باستقدام جلال الدولة، ثم ردّه واستقدام أبي كليجار مع أنّ ذلك ليس لنا وإنما هو للخليفة، ويرغبون في استدعاء جلال الدولة لتجتمع الكلمة ويسكن الهرج، ويسألون أن يستخلف فأجابهم الخليفة القادر، وبعث إلى جلال الدولة، فسار من البصرة، فبعث الخليفة القاضي أبا جعفر السّمنانيّ لتلقّيه، ويستخلفه لنفسه، فسار ودخل بغداد سنة ثمان عشرة وأربعمائة وركب الخليفة لتلقّيه، ثم سار إلى مشهد الكاظم ورجع، ودخل دار الملك وأمر بضرب النوب الخمس، فراسله القادر في قطعها فقطعها غصبا، ثم أذن له في إعادتها، وبعث جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرجحي [1] إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش بالتأنيس والمحبّة والعذر عن فعل الجند.
(أخبار ابن كاكويه صاحب أصفهان مع الأكراد ومع الأصبهبذ)
كان علاء الدولة بن كاكويه قد استعمل أبا جعفر عليّا ابن عمه على نيسابور خوست ونواحيها، وضمّ إليه الأكراد الجودرقان [2] ومقدّمهم أبو الفرج البابوني. فجرت بين أبي جعفر وأبي الفرج البابوني مشاجرة، وترافعا إليه فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما. ثم قتل أبو جعفر أبا الفرج فانتقض الجودرقان وعظم فسادهم، فبعث علاء الدولة عسكرا وأقاموا أربعة أيام ثم فقدوا الميرة، وجاء علاء الدولة وأعطاهم المال فافترقوا واتبعهم. وجاء إليه بعض الجودرقان وانتهى في اتباعهم إلى وفد وقاتلوه عندها فهزمهم وقتل ابني ولكين في المعركة، ونجا هو في الفلّ إلى جرجان، وأسر
__________
[1] هو أبو علي الرخّجي: ابن الأثير ج 9 ص 362
[2] الجوزقان: المرجع السابق ص 357(4/633)
الأصبهبذ وابنان له ووزيره، وهلك في الأسر منتصف سنة تسع عشرة وأربعمائة وتحصّن علي بن عمران بقلعة كنكور فحاصره بهاء الدولة، وصار [1] ولكين إلى صهره منوجهر قابوس وأطمعه في الدخس [2] . وكان ابنه صهر علاء الدولة على ابنته وأقطعه مدينة قمّ فعصى عليه وبعث إلى أبيه ولكين. فسار بعساكره وعساكر منوجهر ونازلوا مجد الدولة بن بويه بالريّ وجرت بينهم وقائع فصالح علاء الدولة عليّ بن عمران ليسير إليهم فارتحلوا عن الريّ. وجاء علاء الدولة إليها وأرسل إلى منوجهر يوبخه ويتهدّده فسار منوجهر وتحصّن بكنكور وقتل الذين قتلوا أبا جعفر ابن عمّه وقبل الشرط [3] ، وخرج إلى علاء الدولة فأقطعه الدينور عوضا عن كنكور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة في الصلح فصالحه.
(دخول خفاجة في طاعة أبي كليجار)
كان هؤلاء خفاجة وهم من بني عمرو بن عقيل موطنين بضواحي العراق ما بين بغداد والكوفة وواسط والبصرة. وأميرهم بهذه العصور منيع بن حسّان، وكانت بينه وبين صاحب الموصل منافسات جرّتها المناهضة والجوار، فتردّدت الرسل بين السلم والحرب. وسار منيع بن حسّان سنة سبع عشرة وأربعمائة إلى الجامعين من أعمال دبيس فهبها، وسار دبيس في طلبه ففارق الكوفة وقصد الأنبار من أعمال قرواش فحاصرها أيام، ثم افتتحها وأحرقها، وجاء قرواش لمدافعته ومعه غريب بن معن فلم يجدوه فمضوا إلى القصر فخالفهم منيع إلى الأنبار فعاث فيها ثانية. فسار قرواش إلى الجامعين واستنجد دبيس بن صدقة فسار معه في بني أسد، ثم خاموا عن لقاء منيع فافترقوا ورجع قرواش إلى الأنبار فأصلحها، ورمّ أسوارها. وكان دبيس وقرواش في
__________
[1] مقتضى السياق: سار
[2] وفي نسخة اخرى الدخكث وفي الكامل ج 9 ص 358: «وأطمعه في الريّ وملكها.»
[3] المعنى مضطرب ولا يخلو من التشويش وفي الكامل ج 9 ص 358: «وجمع عنده الذخائر بكنكور، وقصده علاء الدولة وحصره وضيّق عليه، فغنى ما عنده، فأرسل يطلب الصلح، فاشترط علاء الدولة أن يسلّم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر عمه، والقائد الّذي سيّره إليه منوجهر، فأجابه الى ذلك وسيّرهم إليه، فقتل قتلة ابن عمّه، وسجن القائد وتسلّم القلعة، وأقطع عليّا عوضا عنها مدينة الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه.»(4/634)
طاعة جلال الدولة، فسار منيع بن حسّان إلى أبي كليجار بالأهواز فأطاعه وخلع عليه ورجع إلى بلده يخطب له بها.
(شغب الأتراك على جلال الدولة)
ولما استقل جلال الدولة بملك بغداد وكثر جنده من الأتراك واتسعت أرزاقهم من الديوان، وكان الوزير أبو علي بن ماكولا فطالبوه بأرزاقهم فعجز عنها، وأخرج جلال الدولة صياغات وباعها وفرّقها في الجند. ثم ثاروا عليه وطالبوه بأرزاقهم وحصروه في داره حتى فقد القوت والماء. وسأل الإنزال إلى البصرة وخرج بأهله ليركب السفن إلى البصرة وقد ضرب سرادقا على طريقهم ما بين داره والسفن، فقصد الأتراك السرادق فامتعض جلال الدولة لحريمه، ثم نادى في الناس وخرج الجند ونادوا بشعاره ثم شغبوا عليه بعد أيام قلائل في طلب أرزاقهم، واضطرّ جلال الدولة إلى بيع ملبوسه وفرشه وخيامه، وفرّق أثمانها فيهم. وعزل جلال الدولة وزيره أبا علي واستوزر أبا طاهر، ثم عزله بعد أربعين يوما وولّى سعيد بن عبد الرحيم وذلك سنة تسع عشرة وأربعمائة.
(استيلاء أبي كليجار على البصرة ثم على كرمان)
ولما أصعد جلال الدولة إلى بغداد استخلف على البصرة ابنه الملك العزيز أبا منصور، وكان بين الأتراك وبين الديلم من الفتنة ما ذكرناه، فتجدّدت بينهم الفتنة فغلب الأتراك، وأخرجوا الديلم إلى الأبلة مع بختيار بن علي، فسار إليهم الملك العزيز ليرجعهم فحاربوه ونادروا بشعار أبي كليجار بن سلطان الدولة وهو بالأهواز فعاد منهزما. ونهب الديلم الأبلة ونهب الأتراك البصرة.
وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فبعث من الأهواز عسكرا إلى بختيار والبصرة والديلم، فقاتلوا الملك العزيز وأخرجوه، فلحق بواسط وملكوا البصرة ونهبوا أسواقها سنة تسع عشرة وأربعمائة وهمّ جلال الدولة بالمسير إليهم وطلب المال للجند وشغل بمصادرة(4/635)
أرباب الأموال، وبلغ خبر استيلاء أبي كليجار على البصرة إلى كرمان وكان بها عمه قوام الدولة أبو الفوارس، وقد تجهّز لقصد بلاد فارس فأدركه أجله فمات، فنادى أصحابه بشعار أبي كليجار واستدعوه، فسار ملك بلاد كرمان، وكان أبو الفوارس سيّئ السيرة في رعيته وأصحابه.
(قيام بني دبيس بدعوة أبي كليجار)
كانت جزيرة بني دبيس بنواحي خوزستان لطراد بن دبيس، وغلب عليه فيها منصور وخطب فيها لأبي كاليجار، ومات طراد فسار إلى منصور ابنه علي، واستنجد جلال الدولة عليه فأمدّه بعسكر من الأتراك وسار عجلا. واتفق أنّ أبا صالح كوكين هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأراد أن يفتتح طاعته باعتراض أصحاب جلال الدولة فسار إلى منصور بالجزيرة. وخرجوا لقتال علي بن طراد ولقوة بمبرود فهزموه وقتلوه، واستقرّ منصور بالجزيرة على طاعة أبي كليجار.
(استيلاء أبي كليجار على واسط ثم انهزامه وعودها لجلال الدولة)
ثم انّ نور الدولة دبيس [1] على صاحب حلب والنيل، خطب لأبي كليجار في أعماله لما بلغه أن ابن عمّه المقلّد بن الحسن ومنيع بن حسّان أمير خفاجة سارا مع عساكر بغداد إليه، فخطب هو لأبي كليجار واستدعاه فسار من الأهواز إلى واسط، وقد كان لحق بها الملك العزيز بن جلال الدولة ومعه جماعة من الأتراك.
فلما وصل أبو كليجار فارقها الملك العزيز إلى النعمانيّة، واستولى أبو كليجار على واسط. ووفد عليه دبيس وبعث إلى قرواش صاحب الموصل والأثير عنبر عنده،
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 374: «وكان ابتداء ذلك ان نور الدين دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل ولم تكن الحلّة بنيت ذلك الوقت، خطب لأبي كاليجار في أعماله» وهكذا تكون حلب محرّفة ربما من الناسخ.(4/636)
وأمرهما أن ينحدرا إلى العراق فانحدرا، ومات الأثير عنبر بالكحيل. ورجع قرواش وجمع جلال الدولة العساكر واستنجد أبا الشوك وغيره وسار إلى واسط، وضاقت عليه الأمور لقلّة المال.
وأشار عليه أصحابه بمخالفة أبي كليجار إلى الأهواز لأخذ أمواله، وأشار أصحاب أبي كليجار بمخالفة جلال الدولة إلى العراق. وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر من أبي الشوك بمسير عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق. ويشير بإجماع الكلمة.
وبعث أبو كليجار بكتابه إلى جلال الدولة فلم يعرج عليه، وسار إلى الأهواز ونهبها وأخذ من دار الإمارة خاصة مائتي ألف دينار سوى أموال الناس، وأخذت والدة أبي كليجار وبناته وعياله وحملن إلى بغداد. وسار جلال الدولة لاعتراضه وتخلّف عنه دبيس بن مزيد خشية على أحيائه من خفاجة، والتقى أبو كليجار وجلال الدولة في ربيع سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فاقتتلوا ثلاثا، ثم انهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه نحو من ألفين ورجع إلى الأهواز. وأتاه العادل بن مافنّة بمال أنفقه في جنده، ورجع جلال الدولة إلى واسط واستولى عليها وأنزل ابنه العزيز بها ورجع.
(استيلاء محمود بن سبكتكين صاحب خراسان على بلاد الريّ والجيل وأصفهان)
كان مجد الدولة بن فخر الدولة متشاغلا بالنساء والعلم، وتدبير ملكه لأمّه. وتوفيت سنة تسع عشرة وأربعمائة فاختلفت أحواله، وطمع فيه جنده، فكتب إلى محمود بن سبكتكين يشكو إليه، فبعث إليه عسكرا مع حاجبه، وأمره بالقبض عليه، فركب مجد الدولة لتلقّيه فقبض عليه وعلى ابنه أبي دلف وطيّر بالخبر إلى محمود فجاء إلى الريّ ودخلها في ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة، وأخذ منها مال مجد الدولة ألف ألف دينار، ومن الجواهر قيمة خمسمائة ألف دينار، وستة آلاف ثوب، ومن الحرير والآلات ما لا يحصى. وبعث بمجد الدولة إلى خراسان فاعتقل بها. ثم ملك قزوين وقلاعها ومدينة ساوة وآوة ويافت، وقبض على صاحبها ولكين وبعث به إلى خراسان، وقتل من الباطنية خلقا ونفي المعتزلة الى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة(4/637)
والاعتزال والنجامة، وملك حدود أرمينية وخطب له علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان، واستخلف على الريّ ابنه مسعودا فافتتح زنجان وأبهر، ثم ملك أصفهان من يد علاء الدولة، واستخلف عليها بعض أصحابه فثار به أهل أصفهان وقتلوه، فسار إليها وفتك فيهم، يقال قتل منهم خمسة آلاف قتيل وعاد إلى الريّ فأقام بها.
(اخبار الغز بالريّ وأصفهان وأعمالها وعودهما إلى علاء الدولة)
قد تقدّم لنا في غير موضع بداية هؤلاء الغزّ، وأنهم كانوا بمفازة بخارى وكانوا فريقين: أصحاب أرسلان بن سلجوق وأصحاب بني أخيه ميكائيل بن سلجوق، وأن يمين الدولة محمود بن سبكتكين لما ملك بخارى وما وراء النهر قبض على أرسلان ابن سلجوق، وسجنه بالهند ونهب أحياءه. ثم نهض إلى خراسان ولحق بعضهم بأصفهان، وبعث محمود في طلبهم الى علاء الدولة بن كاكويه فحاول على أخذهم، وشعروا ففرّوا الى نواحي خراسان، وكثر عيثهم فأوقع بهم تاش الفوارس قائد مسعود ابن سبكتكين فساروا الى الري قاصدين أذربيجان، وكانوا يسمّون العراقية، وكان أمراء هذه الطائفة كوكتاش ويرفأ وقزل ويعمر وناصفلي [1] ، فلما انتهوا إلى الدّامغان خرج إليهم عسكرها فلم يطيقوا دفاعهم فتحصنوا بالجبل.
ودخل الغز البلد ونهبوه، ثم فعلوا في سمنان مثل ذلك، ثم في جوار الريّ وفي إسحاقاباذ وما جاورها من القرى، ثم ساروا إلى مسكويه من أعمال الري فنهبوها. وكان تاش الفوارس قائد بني سبكتكين بخراسان ومعه أبو سهل الحمدونيّ من قوّادهم فاستنجدوا مسعود بن سبكتكين وصاحب جرجان وطبرستان فأنجداهم وقاتلا الغز فانهزما وقتل تاش الفوارس. وسار إلى الريّ أبو سهل الحمدونيّ فهزموه وتحصن بقلعة طبرك، ودخل الغز الريّ ونهبوه. ثم قاتلوه ثانيا فأسر منهم ابن أخت لعمر من قوادهم فبذلوا فيه ثلاثين ألف دينار واعادة ما أخذوا من عسكر تاش من المال والأسرى فأبى أبو سهل من إطلاقه، وخرج الغز من الرقّ ووصل عسكر جرجان وقاتلوا الغز عند ما
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 379: «كوكتاش وبوقا وقزل ويغمر وناصغلي.»(4/638)
قاربوا الريّ وأسروا قائدهم وألفين معه، وساروا إلى أذربيجان وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
ولما سار الغز إلى أذربيجان سار علاء الدولة إلى الريّ فدخلها بدعوة مسعود بن سبكتكين، وأرسل الى أبي سهل الحمدونيّ أن يضمنه على البلد مالا فأبى [1] فأرسل علاء الدولة يستدعي الغز فرجع إليه بعضهم وأقام عنده. ثم استوحشوا منه وعادوا الى العيث بنواحي البلاد، فكرّر علاء الدولة مراسلة أبي سهل في الضمان ليكون في طاعة مسعود بن سبكتكين. وكان أبو سهل بطبرستان فأجابه وسار إلى نيسابور وملك علاء الدولة الريّ. ثم اجتمع أهل أذربيجان لمدافعة الغز الذين طرقوا بلادهم وانتقموا من الغز، فافترقوا فسارت طائفة الى الري ومقدّمهم يرقأ وطائفة الى همذان ومقدّمهم منصور وكوكتاش فحاصروا بها أبا كليجار بن علاء الدولة، وأنجده أهل البلاد على دفاعهم وطال حصارهم لهمذان حتى صالحهم أبو كليجار وصاهر كوكتاش. وأما الذين قصدوا الريّ فحاصروا بها علاء الدولة بن كاكويه وانضم اليهم فناخسرو بن مجد الدولة وكامد صاحب ساوة، فطال حصارهم وفارق البلد في رجب ليلا إلى أصفهان، وأجفل أهل البلد وتمزقوا ودخلها الغز من الليل واستباحوها. واتبع علاء الدولة جماعة منهم فلم يدركوه فعدلوا الى كرج ونهبوها، ومضى ناصفلي منهم إلى قزوين فقاتلهم حتى صالحوه على سبعة آلاف دينار وصاروا الى طاعته. ولما ملكوا الريّ رجعوا إلى حصار همذان ففارقها أبو كليجار وصحبه الوجوه والأعيان وتحصّنوا بكنكون [2] ، وملك الغز همذان ومقدّمهم كوكتاش ومنصور ومعهم فناخسرو بن مجد الدولة في عدد من الديلم فاستباحوها، وبلغت سراياهم إلى أستراباذ وقرى الدينور
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 381: «فأرسل الى أبي سهل الحمدونيّ يطلب منه ان يقرر الّذي عليه بمال يؤدّيه، فامتنع من إجابته مخافة علاء الدولة، فأرسل الى الغز يستدعيهم ليعطيهم الأقطاع، ويتقوّى بهم على الحمدونيّ، فعاد منهم نحو ألف وخمسمائة مقدّمهم قزل، وسار الباقون الى أذربيجان.
فلما وصل الغز الى علاء الدولة أحسن اليهم وتمسّك بهم، وأقاموا عنده، ثم ظهر على بعض القواد الخراسانية الذين عنده انه دعا الغز الى موافقته على الخروج عليه والعصيان، فأرسل اليه علاء الدولة وأحضره وقبض عليه، وسجنه في قلعة طبرك، فاستوحش الغز لذلك ونفروا، فاجتهد علاء الدولة في تسكينهم، فلم يفعلوا، وعاودوا الفساد والنهب وقطع الطريق، وعاد علاء الدولة فراسل أبا سهل الحمدونيّ وهو بطبرستان، وقرّر معه أمر الريّ ليكون في طاعة مسعود، فأجابه إلى ذلك وسار إلى نيسابور وبقي علاء الدولة بالريّ.
[2] كنكور: ابن الأثير ج 9 ص 384.(4/639)
وقاتلهم صاحبها أبو الفتح ابن أبي الشوك فهزمهم وأسر منهم حتى صالحوه على إطلاقهم فأطلقهم. ثم راسلوا أبا كليجار بن علاء الدولة في المتقدّم عليهم يدبّر ملكهم بهمذان، فلما جاءهم وثبوا به فنهبوا ماله وانهزم وخرج علاء الدولة من أصفهان فوقع في طريقه بطائفة من الغز فظفر بهم ورجع إلى أصفهان منصورا. ولما أجاز الفريق الثاني من الغز السلجوقيّة من وراء النهر، وهم أصحاب طغرلبك وداود وجغربيك وبيقو وأخوهم إبراهيم نيال في العسكر لاتباع هؤلاء الذين بالريّ وهمذان ساروا إلى أذربيجان وديار بكر والموصل، وافترقوا عليها وفعلوا فيها الأفاعيل كما تقدّم في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر، وكما يأتي في أخبار ابن وهشودان.
(استيلاء مسعود بن سبكتكين على همذان وأصفهان والريّ ثم عودها الى علاء الدولة بن كاكويه)
ولما فارق الغز همذان بعث إليها مسعود بن سبكتكين عسكرا فملكوها وسار هو إلى أصفهان فهرب عنها علاء الدولة واستولى على ما كان له بها من الذخائر، ولحق علاء الدولة إلى أبي كاليجار بتستر يستنجده عقب انهزامه أمام جلال الدولة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة كما قدّمنا فوعده بالنصر إذا اصطلح مع عمّه جلالا الدولة. ثم توفي محمود بن سبكتكين ورجع مسعود من خراسان، وكان فناخسرو بن مجد الدولة معتصما بعمران، فطمع في الريّ وجمع جمعا من الديلم والأكراد وقصدها فهزمه نائب مسعود بها. وقتل جماعة من عسكره وعاد إلى حصنه. وعاد علاء الدولة من عند أبي كليجار، وقد كان خائفا من مسعود أن يسير إليهم ولا طاقة لهم به، فجاء بعد موت محمود، وملك أصفهان وهمذان والريّ وتجاوز إلى أعمال أنوشروان وسروا إليه بالريّ واشتدّ القتال وغلبوه على الريّ ونهبوها ونجا علاء الدولة جريحا إلى قلعة فردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان فاعتصم بها، وخطب بالريّ وأعمال أنوشروان لمسعود بن سبكتكين، وولّى عليها تاش الفوارس فأساء السيرة فولّى علاء الدولة.(4/640)
(استيلاء جلال الدولة على البصرة ثم عودها لأبي كليجار)
كنا قدّمنا أنّ جلال الدولة خالف أبا كليجار إلى الأهواز واتبعه أبو كليجار من واسط فهزمه جلال الدولة، ورجع إلى واسط فارتجعها. وبعث أبو منصور بختيار بن علي نائبا لأبي كليجار فبعث أربعمائة سفينة للقائهم مع عبد الله السراني [1] الزركازي صاحب البطيحة فانهزموا وعزم بختيار على الهرب، ثم ثبت وأعاد السفن لقتالهم والعسكر في البرّ، وجاء الوزير أبو علي لحربهم في سفينة، فلما وصل نهر أبي الخصيب وبه عساكر بختيار رجع مهزوما، وتبعه أصحاب بختيار. ثم ركب بختيار بنفسه وأخذوا سفن أبي علي كلّها وأخذوه أسيرا وبعثه بختيار الى أبي كاليجار فقتله بعض غلمانه اطلع له على ريبة وخشيه فقتله. وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة من المكوس، ويعيّن فيها [2] ، ولما بلغ خبره إلى جلال الدولة استوزر مكانه ابن عمّه أبا سعيد عبد الرحيم، وبعث الأجناد لنصرة الذين كانوا معه فملكوا البصرة في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ولحق بختيار بالأبلّة في عساكره واستمدّ أبا كليجار فبعث إليه العساكر مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس فقاتلوا عساكر جلال الدولة بالبصرة، فانهزم بختيار أوّلا وأخذ كثير من سفنه. ثم اختلف أصحاب جلال الدولة بالبصرة وتنازعوا وافترقوا واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات فركبوا إلى البصرة وملكوها، وعادت لأبي كليجار كما كانت.
(وفاة القادر ونصب القائم للخلافة)
وفي ذي الحجّة سن اثنتين وعشرين وأربعمائة توفي الخليفة القادر لإحدى وأربعين سنة من خلافته، وكان مهيبا عند الديلم والأتراك. ولما مات نصب جلال الدولة للخلافة
__________
[1] ابو عبد الله الشرابي: ابن الأثير ج 9 ص 406.
[2] عين تعيينا الشيء: خصّصه من الجملة وأفرده. (قاموس) .
ابن خلدون م 41 ج 4(4/641)
ابنه القائم بأمر الله أبا جعفر عبد الله بعد أبيه ولقّبه القائم، وبعث القاضي أبا الحسن الماورديّ إلى أبي كاليجار في الطاعة، فبايع وخطب له في بلاده وأرسل إليه بهدايا جليلة وأموال، ووقعت الفتنة ببغداد في تلك الأيام بين السنّة والشيعة، ونهب دور اليهود وأحرقت من بغداد أسواق، وقتل بعض جباة المكس، وثار العيّارون. ثم همّ الجند بالوثوب على جلال الدولة وقطع خطبته، ففرّق فيهم الأموال فسكتوا، ثم عاودوا، فلزم جلال الدولة الأصاغر فشكا من قوّاده الأكابر وهما بارسطعان وبلدوك [1] ، وأنهما استأثرا بالأموال فاستوحشا لذلك، وطالبهما الغلمان بعلوفتهم وجراياتهم فسارا إلى المدائن، وندم الأتراك على ذلك. وبعث جلال الدولة مؤيّد الملك الرجحي [2] فاسترضاهما ورجعا. وزاد شغب الجند عليه ونهبوا دوابه وفرشه، وركب إلى دار الخليفة متغضبا من ذلك وهو سكران، فلاطفه وردّه الى بيته. ثم زاد شغبهم وطالبوه في الدواب لركوبهم فضجر وأطلق ما كان في إسطبله من الدواب، وكانت خمس عشرة وتركها عائرة، وصرف حواشيه وأتباعه لانقطاع خزائنه فعوتب بتلك الفتنة، وعزل وزيره عميد الملك، ووزر بعده أبو الفتح محمد بن الفضل أياما ولم يستقم أمره فعزله، ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين السهيليّ وزير مأمون صاحب خوارزم وهرب لخمسة وعشرين يوما.
وثوب الأتراك ببغداد بجلال الدولة بدعوة أبي كاليجار ثم رجوعهم الى جلال الدولة
ثم تجدّدت الفتنة بين الأتراك وجلال الدولة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة في ربيع الأوّل فأغلق بابه، ونهب الأتراك داره وسلبوا الكتّاب وأصحاب الدواوين، وهرب الوزير أبو إسحاق السهيليّ [3] إلى حيّ غريب بن محمد بن معن. وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا لأبي كاليجار واستدعوه من الأهواز فمنعه العادل بن ماقته [4] إلى أن يحضره بين قوّادهم فعادوا إلى جلال الدولة وتطارحوا عليه، فعاد
__________
[1] بارسطغان ويلدرك: ابن الأثير ج 9 ص 420
[2] الرخجيّ وقد مرّ معنا من قبل
[3] ابو إسحاق السهلي: ابن الأثير ج 9 ص 421
[4] العادل بن مافنّة: المرجع السابق.(4/642)
لثلاث وأربعين يوما من مغيبه. واستوزر أبا القاسم بن ماكولا ثم عزله لفتنة الأتراك به، وإطلاق بعض المصادرين من يده.
(استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا ثم عودها لابي كاليجار)
ثم توفي أبو منصور بختيار بن علي نائب أبي كاليجار بالبصرة منتصف أربع وعشرين وأربعمائة فقام مكانه صهره أبو القاسم لاضطلاعه وكفايته، واستبدّ بها ونكر أبو كاليجار استبداده، وبعث بعزله فامتنع وخطب لجلال الدولة، وبعث لابنه يستدعيه من واسط فجاء وملك البصرة وطرد عساكر أبي كاليجار. ثم فسد ما بين أبي القاسم والعزيز واستجار منه بعض الديلم بالعزيز، وشكوا منه فأخرجه العزيز عن البصرة وأقام بالأبلّة، ثم عاد إلى محاربة العزيز حتى أخرجه عن البصرة ورجع أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.
(إخراج جلال الدولة من دار الملك ثم عوده)
وفي رمضان من سنة أربع وعشرين وأربعمائة استقدم جلال الدولة الوزير أبا القاسم فاستوحش الجند، واتهموه بالتعرّض لأموالهم فهجموا عليه في دار الملك وأخرجوه إلى مسجد في داره، فاحتمل جلال الدولة الوزير أبا القاسم وانتقل إلى الكرخ، وأرسل إليه الجند بأن ينحدر عنهم إلى واسط على رسمه، ويقيم لإمارتهم بعض ولده الأصاغر فأجاب، وبعث إليهم واستمالهم فرجعوا عن ذلك واستردّوه إلى داره، وحلفوا له على المناصحة.
واستوزر عميد الدولة أبا سعد سنة خمس وعشرين وأربعمائة عوضا من ابن ماكولا فاستوحش ابن ماكولا، وسار إلى عكبرا فردّه إلى وزارته، وعزل أبا سعد فبقي أياما. ثم فارقها إلى أوانا فأعاد أبا سعد عبد الرحيم إلى وزارته. ثم خرج أبو سعد هاربا من الوزارة ولحق بأبي الشوك، ووزر بعده أبو القاسم فكثرت مطالبات الجند(4/643)
له وهرب لشهرين فحمل إلى دار الخلافة مكشوف الرأس، وأعيد أبو سعد إلى الوزارة، وعظم فساد العيّارين ببغداد وعجز عنهم النوّاب، فولّى جلال الدولة البساسيري من قوّاد الديلم حماية الجانب الغربي ببغداد فحسن فيه غناؤه، وانحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد حتى أغار الأكراد والجند على بستان الخليفة، ونهبوا ثمرته وطلب أولئك الجند جلال الدولة فعجز عن الانتصاف منهم أو إسلامهم للخليفة، فتقدّم الخليفة الى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل رسومهم فوجم جلال الدولة، وحمل أولئك الجند بعد غيبتهم أياما إلى دار الخليفة فاعترضهم أصحابهم وأطلقوهم، وعجز النوّاب عن إقامة الأحكام في العيّارين ببغداد، وانتشر العرب في ضواحي بغداد وعاثوا فيها حتى سلبوا النساء في المقابر عند جامع المنصور، وشغب الجند سنة سبع وعشرين وأربعمائة بجلال الدولة فخرج متنكرا في سيما بدويّ إلى دار المرتضى بالكرخ، ولحق منها برافع بن الحسين بن معن [1] بتكريت، ونهب الأتراك داره وخرّبوها. ثم أصلح القائم أمر الجند وأعاده.
(فتنة بادسطفان ومقتله)
قد قدّمنا ذكر بادسطفان [2] هذا وأنه من أكابر قوّاد الديلم ويلقّب حاجب الحجّاب، وكان جلال الدولة ينسبه لفساد الأتراك والأتراك ينسبونه إلى إحجاز الأموال فاستوحش واستجار بالخليفة منتصف سبع وعشرين وأربعمائة فأجاره وكان يراسل أبا كاليجار ويستدعيه، فبعث أبو كاليجار عسكرا إلى واسط وثار معهم العسكر الذين بها وأخرجوا العزيز بن جلال الدولة إلى بغداد، وكشف بادسطفان القناع في الدعاء لأبي كاليجار وحمل الخطباء على الخطبة لامتناع الخليفة منها.
وجرت بينه وبين جلال الدولة حرب. وسار إلى الأنبار وفارقه قرواش إلى الموصل، وقبض بادسطفان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده. ثم جاء الخبر بأنّ أبا كاليجار سار إلى فارس فانتقض عن بادسطفان الديلم الذين كانوا معه،
__________
[1] الحسين بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 446
[2] بارسطغان. وقد مرّ معنا من قبل في هذا الكتاب بارسطعان.(4/644)
وترك ماله وخدمه وما معه بدار الخليفة القائم وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغداد وبعث البساسيري وبني خفاجة في طلب بادسطفان، وسار هو ودبيس في اتباعهم فلحقوه بالخزرانية فقاتلوه وهزموه، وجاءوا به أسيرا إلى جلال الدولة ببغداد، وطلب من القائم أن يخطب له ملك الملوك فوقف عن ذلك إلا أن يكون بفتوى الفقهاء فأفتاه القضاة أبو الطيب الطبري وأبو عبد الله الصيمري وأبو القاسم الكرخي بالجواز ومنع أبو الحسن الماوردي، وجرت بينهم مناظرات حتى رجحت فتواهم وخطب له بملك الملوك. وكان الماوردي من أخصّ الناس بجلال الدولة فخجل وانقطع عنه ثلاثة أشهر، ثم استدعاه وشكر له إيثار الحق وأعاده إلى مقامه.
(مصالحه جلال الدولة وأبي كاليجار)
ثم تردّدت الرسل بين جلال الدولة وأبي كاليجار ابن أخيه، وتولى ذلك القاضي أبو الحسن الماورديّ وأبو عبد الله المردوسي، فانعقد بينهما الصلح والصهر لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنه جلال الدولة، وأرسل القائم إلى أبي كاليجار بالخلع النفيسة.
(عزل الظهير أبي القاسم عن البصرة واستقلال أبي كاليجار بها)
قد قدّمنا حال الظهير أبي القاسم في ملك البصرة بعد صهره أبي منصور بختيار، وأنه عصى على أبي كاليجار بدعوة جلال الدولة. ثم عاد إلى طاعته واستبدّ بالبصرة، وكان ابن أبي القاسم بن مكرّم صاحب عمان يكاتب أبا الجيش وأبا كاليجار بزيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة فأجيب إلى ذلك، وجهّز له أبو كاليجار العساكر مع العادل أبي منصور بن ماقته [1] . وجاء أبا الجيش بعساكره في البحر من عمان وحاصروا البصرة برّا وبحرا وملكوها، وقبض على الظهير واستصفيت
__________
[1] ابن مافنّة كما مرّ معنا(4/645)
أمواله، وصودر على تسعين ألفا فحملها في عشرة أيام، ثم على مائة ألف وعشرة آلاف فحملها كذلك، ووصل الملك أبو كاليجار إلى البصرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وأنزل بها ابنه عزّ الملوك والأمير أبا الفرج فسانجس وعاد إلى الأهواز ومعه الظهير أبو القاسم.
(أخبار عمان وابن مكرم)
قد قدّمنا خبر أبي محمد بن مكرم وأنه كان مدبّر دولة بهاء الدولة وقبله ابنه أبو الفوارس، وأنّ ابنه أبا القاسم كان أميرا بعمان منذ سنة خمس عشرة وأربعمائة ثم توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وخلّف بنين أربعة وهم: أبو الجيش والمهذّب وأبو محمد وآخر صغير لم يذكر اسمه. وكان علي بن هطال صاحب جيش أبي القاسم فأقرّه أبو الجيش وبالغ في تعظيمه حتى كان يقوم له إذا دخل عليه في مجلسه فنكر ذلك المهذّب على أخيه، وحقدها له ابن هطال فعمل دعوة واستأذن أبا الجيش في إحضار أخيه المهذّب لها، وأحضره وبالغ في خدمته حتى إذا طعموا وشربوا وانتشوا فاوضه ابن هطال في التوثّب بأخيه أبي الجيش واستكتبه بما يوليه من المراتب ويعطيه من الأقطاع على مناصحته في ذلك. ثم وقف أبا الجيش على خطة أخبره أنه لم يوافقه ثم قال له: وبسبب ذلك كان نكيره عليك في شأني، فقبض أبو الجيش على أخيه واعتقله ثم خنقه. ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير وهمّ ابن هطال بتولية أخيه محمد فأخفته أمّه حذرا عليه، ورفعت الأمر إلى ابن هطال فولي عمان وأساء السيرة وصادر التجّار، وبلغ ذلك إلى أبي كاليجار فأمر العادل أبا منصور بن ماقته أن يكاتب المرتضى نائب أبي القاسم بن مكرّم بجبال عمان، ويأمره بقصد ابن هطال في عمان، وبعث إليه العساكر من البصرة، فسار إلى عمان وحاصرها واستولى على أكثر أعمالها. ثم دس إلى خادم كان لابن مكرم وصار لابن هطال وأمره باغتياله فاغتاله وقتله. ومات العادل أبو منصور بهرام بن ماقته وزير أبي كاليجار سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ووزر بعده مهذّب الدولة وبعث لمدافعتهم عنها، وكانوا يحاصرون جيرفت فأجفلوا عنها، ولم يزل في اتباعهم حتى دخلوا المفازة ورجع مهذّب الدولة إلى كرمان فأصلح فسادهم
.(4/646)
(وفاة جلال الدولة سلطان بغداد وولاية أبي كاليجار)
ثم توفي جلال الدولة ببغداد في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة سنة من ملكه، وقد كان بلغ في الضعف وشغب الجند عليه واستبداد الأمراء والنوّاب فوق الغاية. ولما توفي انخذل الوزير كمال الملك عبد الرحيم وأصحاب السلطان الأكابر إلى حريم دار الخلافة خوفا من الأتراك والعامّة، واجتمع قوّاد العسكر فمنعوهم من النهب، وكان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط فكاتبه الجند بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة فأبطأ عنهم، وبادر أبو كاليجار صاحب الأهواز فكاتبهم ورغّبهم في المال وتعجيله فعدلوا عن الملك العزيز إليه. وأصعد بعد ذلك من الأهواز فلما انتهى إلى النعمانيّة غدر به أصحابه فرجع إلى واسط، وخطب الجند ببغداد لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد، ثم الى قرواش بن المقلّد بالموصل. ثم فارقه إلى أبي الشوك لصهر بينهما فغدر به. وألزمه على طلاق بنته، فسار إلى إبراهيم نيال أخي طغرلبك، ثم قدم بغداد مختفيا يروم الثورة بقتل [1] بعض أصحابه ففرّ ولحق بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين، وقدم أبو كاليجار بغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وخطب له بها واستقر سلطانه فيها بعد أن بعث بأموال فرّقت على الجند ببغداد وبعشرة آلاف دينار وهدايا كثيرة للخليفة، وخطب له فيها أبو الشوك ودبيس بن مزيد كل بأعماله، ولقبه الخليفة بمحيي الدولة، وجاء في قلّ من عساكره خوفا أن يستريب به الأتراك فدخل بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره أبو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن فسانجس، واستعفى القائم من الركوب للقائه، وتقدّم بإخراج عمّيه من بغداد، فمضيا إلى تكريت وخلع على أصحاب الجيوش وهم البساسيري والساري والهمّام أبو اللقاء وثبت قدمه في الملك.
__________
[1] مقتضى السياق: وقدم بغداد متخفّيا يروم الثورة فقتل بعض أصحابه.(4/647)
(أخبار ابن كاكويه مع عساكر مسعود وولايته على أصفهان ثم ارتجاعه منها)
قد تقدّم انهزام علاء الدولة بن كاكويه من الريّ ومسيره جريحا ومعه فرهاد بن مرداويج جاءه إلى قلعة فردخان مددا وساروا منها إلى يزدجرد، واتبعهم عليّ بن عمران قائد تاش قرواش. وافترقوا من يزدجرد فمضى أبو جعفر الى نيسابور عند الأكراد الجردقان [1] وصعد فرهاد إلى قلعة سمكيس واستمال الأكراد الذين مع عليّ بن عمران وحملهم على الفتك به، فشعر وسار الى همذان، واتبعه فرهاد والأكراد فحصروه في قرية بطريقة فامتنع عليهم بكثرة الأمطار ورجعوا عنه، وبعث علي بن عمران إلى الأمير تاش يستمدّه وعلاء الدولة إلى ابن أخيه بأصفهان يستمدّ المال والسلاح فاعترضه علي بن عمران من همذان وكبسه بجردقان وغنم ما معه وأسره [2] ، وخلفه علاء الدولة وأقرّه على أصفهان على ضمان معلوم وكذلك قابوس في جرجان وطبرستان وولّى على الري أبا سهل الحمدونيّ.
وأمرتاش قرواش صاحب خراسان بطلب شهربوس بن ولكين صاحب ساوة، وكان يفسد السابلة ويعترض الحاج، وسار إلى الريّ وحاصرها بعد موت محمود، فبعث تاش العساكر في أثره وحاصروه ببعض قلاع قمّ وأخذوه أسيرا فأمر بصلبه على ساوة، ثم اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن مرداويج على قتال أبي سهل الحمدونيّ وقد زحف في العساكر من خراسان فقاتلاه وقتل فرهاد وانهزم علاء الدولة إلى جبل بين أصفهان وجرجان فاعتصم به. ثم لحق بأيدج وهي للملك أبي كاليجار،
__________
[1] هكذا بالأصل ويوجد تحريف كثير في الأسماء وبالمقارنة مع الكامل ج 9 ص 424: «فلما وصل الى قلعة فردجان اقام بها لتندمل جراحة، ومعه مرهاذ بن مرداويج، كان قد جاءه مددا له، وتوجهوا الى بروجرد، فسيّر تاش فرّاش مقدّم عسكر خراسان جيشا الى علاء الدولة ... ونزل عند الأكراد الجوزقان» .
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 9 ص 425: «وراسل علي بن عمران الأمير تاش فرّاش يستنجده ويطلب العسكر الى همذان، ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة الى أصبهان وبها ابن أخيه يطلبه، وأمره بإحضار السلاح والمال، ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران، فسار إليه من همذان جريدة، فكبسه بجرباذقان وأسره وأسر كثيرا من عسكره وقتل منهم، وغنم ما معه من سلاح ومال وغير ذلك» .(4/648)
واستولى أبو سهل على أصفهان ونهب خزائن علاء الدولة وحملت كتبه الى غزنة الى أن أحرقها الحسين بن الحسين الغوري، وذلك سنة خمس وعشرين وأربعمائة ثم سار علاء الدولة سنة سبع وعشرين وأربعمائة وحاصر أبا سهل في أصفهان وغدرته الأتراك فخرج إلى يزدجرد ومنها إلى الطرم فلم يقبله ابن السلّار خوفا من ابن سبكتكين، فسار عنه، ثم غلبه طغرلبك على خراسان سنة تسع وعشرين وأربعمائة وارتجعها مسعود سنة ثلاثين وأربعمائة كما ذكرناه ونذكره.
(وفاة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه)
ثم توفي علاء الدولة شهربان بن كاكويه في محرّم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وقد كان عاد إلى أصفهان عند شغل بن سبكتكين بفتنة طغرلبك فملكها. ولما توفي قام مكانه بأصفهان ابنه الأكبر ظهير الدين أبو منصور قرامرد [1] وسار ولده الآخر أبو كاليجار كرساسف [2] إلى نهاوند فملكها، وضبط البلد وأعمال الجبل. وبعث أبو منصور قرامرد إلى مستحفظ قلعة نظير [3] التي كان فيها ذخائر أبيه وأمواله فامتنع بها وعصى، وسار أبو منصور لحصاره ومعه أخوه أبو حرب فلحق أبو حرب بالمستحفظ، ورجع أبو منصور إلى أصفهان. وبعث أبو حرب إلى السلجوقيّة بالريّ يستنجدهم، فسار طائفة منهم إلى جرجان فنهبوها وسلموها لأبي حرب. فسيّر أبو منصور العساكر وارتجعها، فجمع أبو حرب فهزموه، وحاصروا أبا حرب بالقلعة فأسرى من القلعة ولحق بالملك أبي كاليجار صاحب فارس، واستنجده على أخيه أبي منصور فأنجده بالعساكر وحاصروا أبا منصور وأوقعوه عدّة وقائع، ثم اصطلحوا آخرا على مال يحمله أبو منصور إلى أبي كاليجار، وعاد أبو حرب إلى قلعة نظير واشتدّ الحصار عليه. ثم صالح أخاه أبا منصور على أن يعطيه بعض ما في القلعة وتبقى له فاتفقا على ذلك.
ثم سار إبراهيم نيّال [4] إلى الريّ وطلب الموادعة من أبي منصور فلم يجبه، فسار إلى
__________
[1] ظهير الدين أبو منصور قرامرز: ابن الأثير ج 9 ص 495
[2] كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكاويه: المرجع السابق. تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 168
[3] قلعة نطنز: المرجع السابق
[4] إبراهيم ينّال وقد مرّ ذكره من قبل كذا في الكامل(4/649)
همذان ويزدجرد فملكهما وسعى الحسن الكيا [1] في اتفاقه مع أخيه أبي حرب فاتفقا، وخطب أبو حرب لأخيه أبي منصور في بلاده، وأقطعه أبو منصور همذان. ثم ملك طغرلبك البلاد من يد ابن سبكتكين واستولى على خوارزم وجرجان وطبرستان. وكان إبراهيم نيال عند ما استولى طغرلبك على خراسان وهو أخوه لأمّه تقدّم في عساكر السلجوقية إلى الريّ فاستولى عليها. ثم ملك يزدجرد، ثم قصد همذان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ففارقها صاحبها [2] ابن علاء الدولة إلى نيسابور، وجاء إبراهيم إلى همذان بطلب طاعتهم فشرطوا عليه استيلاءه على عسكر كرشاسف، فسار إليها وتحصّن في سابورخواست وملك عليه البلاد وعاث في نواحيها، وتحصّن هو بالقلعة وعاد هو إلى الريّ. وقد صمّم طغرلبك على قصدها، فسار إليه وترك همذان ورجع كرشاسف وملك طغرلبك الري من يد إبراهيم.
وبعث إلى سجستان وأمر بعمارة ما خرّب من الري، ووجد بدار الإمارة مراكب ذهب مرصّعة بالجواهر، وبرنيتين من النحاس مملوءتين جواهر وذخائر مما سوى ذلك وأموالا كثيرة. ثم ملك قلعة طبرك من يد مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرما وملك قزوين فصالحه صاحبها بثمانين ألف دينار وصار في طاعته. ثم بعث إلى كركتاش وموقا من الغزّ العراقيّة الذين تقدّموا إلى الريّ واستدعاهم من نواحي جرجان فارتابوا وشرّدوا خوفا منه. ثم بعث إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة ويطلب منه المال، فأجاب وحمل، وبعث إلى سلّار الطرم بمثل ذلك فأجاب وحمل مائتي ألف دينار وقرّر عليه ضمانا معلوما. ثم بعث السرايا إلى أصفهان وخرج من الريّ في اتباعها فصانعه قرامرد بالمال فرجع عنه. وسار إلى همذان فملكها، وقد كان سار إليه كرشاسف بن علاء الدولة وهو بالري فأطاعه، وسار معه إلى ابروزنجان فملكهما، وأخذ منه همذان وتفرّق عنه أصحابه.
وطلب منه طغرلبك قلعة كشكور فأرسل إلى مستحفظها بنزولهم عنها فامتنعوا، واتبعه طغرلبك إلى الريّ واستخلف على همذان ناصر الدين العلويّ، وكان كرشاسف قد قبض عليه فأخرجه طغرلبك وجعله رديفا للذي ولّاه البلد من السلجوقيّة، ثم نزل كرشاسف على كنكور سنة ست وثلاثين وأربعمائة وجاء إلى همذان فملكها وطرد عنها
__________
[1] هو الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله
[2] بياض بالأصل وحسب مقتضى السياق كرشاسف بن علاء الدولة.(4/650)
عمال طغرلبك وخطب للملك أبي كاليجار فبعث طغرلبك أخاه إبراهيم نيال سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى همذان، ولحق كرشاسف بشهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين صاحب جزيرة بني دبيس، وارتاع الناس بالعراق لوصول إبراهيم نيال إلى حلوان، وبلغ الخبر إلى أبي كاليجار فأراد التجمّع لإبراهيم نيال فمنعه قلة الظهر.
وحدثت فتنة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم نيال وأخذ الري وبلاد الجيل من يده. ثم سار إلى أصفهان فحاصرها في محرّم سنة اثنين وأربعين، وبعث السرايا فبلغت البيضاء، وأقام يحاصرها حولا كاملا حتى جهدهم الحصار، وعدموا الأقوات وحرقوا السقف لوقودهم حتى سقف الجامع، ثم استأمنوا وخرجوا إليه وملك أصفهان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وأقطع صاحبها أبا منصور وأجناده في بلاد الجبل ونقل أمواله وسلاحه من الريّ إليها وجعلها كرسيا لملكه، وانقرضت دولة فخر الدولة بن بويه من الريّ وأصفهان وهمذان، وبقي منهم بالعراق وفارس أبو كاليجار والبقاء للَّه وحده.
(موت أبي كاليجار)
ولما رأى أبو كاليجار استيلاء طغرلبك على البلاد، وأخذه الريّ وأصفهان وهمذان والجيل من قومه، وإزالة ملكهم راسله في الصهر والصلح، بأن يزوّجه ابنته، وزوّج داود أخو طغرلبك ابنته من أبي منصور بن أبي كاليجار، وانعقد ذلك بينهما في منتصف تسع وثلاثين وأربعمائة وكتب طغرلبك إلى أخيه إبراهيم نيال عن العراق وأعماله [1] ابن سكرستان من الديلم، وقرّر عليه مالا فطاول في حمله،
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 536: «وكتب طغرلبك الى أخيه ينّال يأمره بالكف عما وراء ما بيده» . والظاهر من متابعة النص ان بعض العبارات قد سقطت أثناء النسخ حيث يظهر عدم الانسجام في السياق. وفي الكامل أيضا ص 547 عند ذكر موت الملك أبي كاليجار يذكر ابن الأثير:
«في هذه السنة- 440- توفي الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان. وكان سبب مسيره إليها انه كان قد عوّل في ولاية كرمان حربا وخرابا على بهرام بن لشكرستان الديلميّ وقرّر عليه مالا:» وفي تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 169: «وكان الملك أبو كاليجار سار الى بلاد كرمان لخروج عامله بهرام الديلميّ عن طاعته» .(4/651)
ورافع [1] فشكر له أبو كاليجار، وانتزع من يده قلعة يزدشير وهي تعلقه [2] ثم استمال أجناده فقتلهم بهرام، واستوحش فسار إليه أبو كاليجار، وانتهى إلى قصر مجامع [3] من خراسان فطرقه المرض وضعف عن الركوب فرجعوا به إلى مدينة خبايا وتوفي بها في جمادى الأولى سنة أربعين وأربعمائة، لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه العراق.
ولما توفي نهب الأتراك خزائنه وسلاحه ودوابه وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور وكانت منفردة عن العسكر فأقام عنده، واختلف الأتراك والديلم وأراد الأتراك نهب الأمير والوزير فمنعهم الديلم، واختلفوا إلى شيراز فملكها الأمير أبو منصور وامتنع الوزير بقلعة حزقه، وبلغ وفادة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ابنه أبو نصر، فاستخلف الجند وأمر القائم بالخطبة على عادة قومه. وسأل أن يلقّب بالرحيم فمنع الخليفة من ذلك أدبا ولقّبه به أصحابه واستقرّ بالعراق وخوزستان والبصرة.
وكان بالبصرة أخوه أبو علي فأقرّه عليها. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر في شوّال من السنة إلى شيراز فملكها وخطبوا له بها وقبضوا على أخيه أبي منصور وأمّه وجاءوا بهما إليه. وكان الملك العزيز بن جلال الدولة عند إبراهيم نيّال لحق به بعد مهلك أبيه. فلما مات أبو كاليجار زحف إلى البصرة طامعا في ملكها فدافعه الجند الذين بها، وبلغه استقامة الملك ببغداد للرحيم فأقطع وذهب إلى ابن مروان فهلك عنده كما مرّ.
(ملك الملك الرحيم بن أبي كاليجار ومواقعة)
قد تقدّم لنا أن أبا منصور فلاستون بن أبي كاليجار سار إلى فارس بعد موت أبيه فملكها، وأنه بعث أخاه أبا سعيد بالعساكر فقبضوا عليه وعلى أمه، ثم انطلق ولحق بقلعة إصطخر ببلاد فارس، فسار الملك الرحيم من الأهواز في اتباعه سنة إحدى وأربعين وأطاعه أهل شيراز وجندها، ونزل قريبا منها. ثم وقع الخلاف بين جند شيراز وبين جند بغداد، وعادوا إلى العراق فعاد معهم الملك الرحيم لارتيابه بجند
__________
[1] مقتضي السياق ورفع، اي رفع المال الى أبي كاليجار
[2] هي قلعة بردسير، ومقتضى السياق وهي معقلة اي الّذي يحتمي به ويعوّل عليه.
[3] قصر مجاشع: ابن الأثير ج 9 ص 547.(4/652)
شيراز، وبعث الجند والديلم جميعا ببلاد فارس إلى أخيه فلاستون ولما عاد استخلف العساكر وسار إلى أرّجان عازما على قصد الأهواز. وعاد الملك الرحيم للقائه من الأهواز في ذي القعدة من السنة واقتتلوا وانهزم الملك الرحيم، وعاد إلى واسط منهزما. وسار بعض الى الملك الرحيم يستجيشون به للرجوع إلى فارس، فأرسل إلى بغداد واستنفر الجند وسار إلى الأهواز فبلغه طاعة أهل فارس وأنهم منتظرون قدومه، فأقام بالأهواز ينتظر عساكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ثم اجتمع جمع من العرب والأكراد مقدّمهم طراد بن منصور ومذكور بن نزار فقصدوا سرف [1] فنهبوها ونهبوا درق [2] . وبعث الملك الرحيم بعساكره في محرّم سنة ثلاث وأربعين فهزموا العرب والأكراد وقتل مطارد وأسر ابنه واستردّ النهب. وبلغ الخبر إلى الملك الرحيم وهو بعسكر مكرم فتقدّم إلى قنطرة أربق ومعه دبيس بن مزيد والبساسيريّ وغيرهما. ثم سار هزارشب بن تنكر [3] ومنصور بن الحسين الأسدي بمن معهما من الديلم والأتراك من أرّجان إلى تستر، فسابقهم الملك الرحيم فكان الظفر له. ثم زحف في عسكر إلى رامهرمز وبها أصحاب هزارشب فهزموهم وأثخنوا فيهم، وتحيّزوا إلى رامهرمز في طاعة الملك الرحيم. ثم قبض هزارشب عليهم وأرسل إلى الملك الرحيم بطاعته، فبعث أخاه أبا سعيد إليه فملك إصطخر، وخدمه أبو نصر بعسكره وماله، وأطاعته جموع من عساكر فارس من الديلم والترك والعرب والأكراد وحاصروا قلعة بهندر فخالفه هزارشب ومنصور بن الحسين الأسدي إلى الملك الرحيم فهزموه.
وفارق الأهواز إلى واسط وعاد إلى سعد بشيراز فقاتلهم وهزمهم. ثم عاودوا القتال فهزمهم وأثخن فيهم واستأمن إليه كثير منهم، وصعد فلاستون إلى قلعة بهندر فامتنع بها، وأعيدت الخطبة للملك الرحيم بالأهواز. ثم مضى فلاستون وهزارشب إلى إيدج وبعثوا بطاعتهم إلى السلطان طغرلبك واستمدّوه، وبعث إليهم العساكر والملك الرحيم بعسكر مكرم وقد انصرف عنه البساسيريّ إلى العراق، ودبيس بن مزيد والعرب والأكراد، وبقي معه ديلم الأهواز، وأنزل بغداد فسار من عسكر مكرم إلى الأهواز
__________
[1] سرّف: ابن الأثير ج 9 ص 572
[2] دورق: ابن الأثير ج 9 ص 572
[3] هزارسب بن بنكير: المرجع السابق.(4/653)
وحاصروه بها فبعث أخاه أبا سعد صاحب فارس حين طلبه صاحب إصطخر ليفتّ في عضد فلاستون وهزارشب ويرجعوا عنه. فلم يهجهم ذلك وساروا إلى الأهواز وقاتلوه فهزموه، ولحق في الفلّ بواسط ونهبت الأهواز. وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم وكانت السلجوقية قد ساروا إلى فارس، فاستولى آلب أرسلان ابن أخي طغرلبك على مدينة نسا وعاثوا فيها وذلك سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. ثم ساروا سنة أربع وأربعين وأربعمائة إلى شيراز ومعهم العادل بن ماقته [1] وزير فلاستون فقبضوا عليه وملكوا منه ثلاث قلاع وسلّموها إلى أبي سعد أخي الملك الرحيم، واجتمعت عساكر شيراز فهزموا الغز الذين ساروا إليها وأسروا بعض مقدّميهم. ثم ساروا إلى نسا وقد كان تغلّب عليها بعض السلجوقيّة فأخرجوهم عنها وملكوها.
(الفتنة بين البساسيري وبني عقيل واستيلاؤه على الأنبار)
لما سار الملك الرحيم إلى شيراز سنة إحدى وأربعين ثار بعض بني عقيل باردوقا [2] فنهبوها وعاثوا فيها وكانت من أقطاع البساسيري، فلما عاد من فارس سار إليهم من بغداد فأوقع بأبي كامل بن المقلّد، واقتتلوا قتالا شديدا. ثم تحاجزوا ورفع إلى البساسيري أن قرواش أساء السيرة في أهل الأنبار، وجاء أهلها متظلّمين منه، فبعث معهم عسكرا فملكوها، وجاء على أثرهم فأصلح أحوالها. وزحف قريش [3] إليها سنة ست وأربعين فملكها وخطب فيها لطغرلبك، ونهب ما كان فيها للبساسيري، ونهب حلل أصحابه بالخالص، وجمع البساسيري وقصد الأنبار وجرى فاستعاد من يد قريش ورجع إلى بغداد.
__________
[1] العادل بن مافنّة وقد مرّ معنا من قبل
[2] بادوريا: ابن الأثير ج 9 ص 555
[3] هو ابو المعالي قريش بن بدران(4/654)
(استيلاء الخوارج على عمان)
كان أبو المظفّر بن أبي كاليجار أميرا على عمان، وكان له خادم مستبدّ عليه فأساء السيرة في الناس ومدّ يده إلى الأموال فنفروا منه، وعلم بذلك الخوارج في جبالها فجمعهم ابن رشد منهم وسار إلى المدينة فبرز إليه أبو المظفّر وظفر بالخوارج. ثم جمع ثانية وعاد لقتال أبي المظفّر والديلم وأعانه عليهم أهل البلد لسوء سيرتهم فهزمهم ابن رشد وملك البلد، وقتل الخادم وكثيرا من الديلم والعمّال، وأخرب دار الإمارة وأسقط المكوس، واقتصر على ربع العشر من أموال التجّار والواردين. وأظهر العدل ولبس الصوف وبنى مسجدا لصلاته، وخطب لنفسه وتلقّب الراشد باللَّه. وقد كان أبو القاسم بن مكرم بعث إليه من قبل ذلك من حاصره في جبله وأزال طمعه.
(الفتنة بين العامّة ببغداد)
وفي صفر من سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة تجدّدت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة، وعظمت، وتظاهر الشيعة بمذاهبهم وكتبوا بعض عقائدهم في الأبواب، وأنكر ذلك أهل السنّة، واقتتلوا وأرسل القائم نقيبي العبّاسيّة والعلويّة لكشف الحال فشهدوا للشيعة، ودام القتال وقتل رجل من الهاشميّة من أهل السنّة، فقصدوا مشهد باب النصر ونهبوا ما فيه وأحرقوا ضريح موسى الكاظم وحاقده محمد المتقي وضرائح بني بويه وبعض خلفاء بني العباس، وهموا بنقل شلو الكاظم إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال دون ذلك جهلهم بعين الجدث. وجاء نقيب العبّاسيّة فمنع من ذلك، وقتل أهل الكرخ من الشيعة أبا سعيد السرخسي مدرّس الحنفيّة. وأحرقوا محال الفقهاء ودورهم، وتعدّت الفتنة إلى الجانب الشرقيّ، وبلغ إحراق المشهد إلى دبيس فعظم عليه، وقطع خطبة القائم لأنه وأهل ناحيته كانوا شيعة، وعوتب في ذلك فاعتذر بأنّ أهل الناحية تغري القائم بأهل السنّة، وأعاد الخطبة بحالها. ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين وأربعمائة واطرحوا مراقبة السلطان ودخل معهم(4/655)
طوائف من الأتراك وقتل بعض العلويّة فصرخ النساء بثأره، واجتمع السواد الأعظم، وركب القوّاد لتسكين الفتنة فقاتلهم أهل الكرخ قتالا شديدا، وحرقت أسواق الكرخ ثم منع الأتراك من الدخول بينهم فسكنوا قليلا.
(استيلاء الملك الرحيم على البصرة)
قد كنا قدّمنا أن الملك الرحيم لما تولّى بغداد بعد أبيه أقرّ أخاه أبا علي على إمارة البصرة، ثم بدا منه العصيان، فبعث إليه العساكر مع البساسيري القائم بدولته، فزحف إلى البصرة وبرزوا إليه في الماء فقاتلهم عدّة أيام ثم هزمهم وملك عليهم الأنهار، وسارت العساكر في البرّ إلى البصرة، واستأمنت ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم بخوزستان يعتذرون، ومضى أبو علي فتحصّن بشطّ عثمان وخندق عليه فمضى الملك الرحيم إليه وملكه، ومضى أبو علي وابنه إلى عبادان ولحق منها إلى جرجان متوجّها إلى السلطان طغرلبك. فلما وصل إليه بأصفهان لاقاه بالتكرمة وأنزله بعض قلاع جرباذقان، وأقطع له في أعمالها وأقام الملك الرحيم بالبصرة أياما واستبدل من أجناد أخيه أبي عليّ بها، واستخلف عليها البساسيريّ، وسار إلى الأهواز وتردّدت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارشب فدخلوا في طاعته، وصارت تستر إليه، وأنزل بأرّجان فولاد بن خسرو الديلميّ، فسار في أعمالها وحمل المتغلّبين هناك على طاعة الملك الرحيم حتى أذعنوا.
(استيلاء فلاستون على شيراز بدعوة طغرلبك)
قد قدّمنا أنه كان بقلعة إصطخر أبو نصر بن خسرو مستوليا عليها، وأنه أرسل بطاعته سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة إلى الملك الرحيم عند ما ملك رامهرمز، واستدعى منه أخاه أبا سعيد ليملّكه بلاد فارس، فسار إليه في العساكر وملك البلاد، ونزل شيراز، وكان معه عميد الدولة أبو نصر الظهير قد استبدّ في دولته، وساءت سيرته في جنده، وأوحش أبا نصر مستدعيهم للملك فانتقض عليهم، وداخل الجند في(4/656)
الانتقاض فشغبوا وقبضوا على عميد الدولة، ونادوا بدعوة أبي منصور فلاستون، واستدعوه وأخرجوا أبا سعيد عنهم إلى الأهواز، ودخل أبو منصور إلى الأهواز فملكها وخطب لطغرلبك وللملك الرحيم ثم لنفسه بعدهما.
(وقائع البساسيري مع الاعراب والأكراد لطغرلبك)
لما استولى طغرلبك على النواحي وأحاط بأعمال بغداد من جهاتها، وأطاعه أكثر الأكراد إلى حلوان وكثر فسادهم وعيثهم، والتفت عليهم الأعراب وأهمّ الدولة شأنهم سار إليهم البساسيري واتبعهم إلى البوازيج فظفر بهم وقتل وغنم، وعبروا الزاب، وجاء الديلم فتمكّن من العبور إليهم وذلك سنة خمس وأربعين وأربعمائة ثم دعاه دبيس صاحب الحلّة إلى قتال خفاجة، وقد عاثوا في بلاده، فاستنجد به وسار إليهم فأجلاهم عن الجامعين، ودخلوا المفازة واتبعهم فأدركهم بخفان فأوقع بهم وغنم أموالهم وأنعامهم، وحاصر حصن خفّان وفتحه وخرّبه. وأراد تخريب القائم الّذي به، وهو بناء في غاية الارتفاع كالعلم يهتدى به. قيل إنه وضع لهداية السفن لمّا كان البحر إلى النجف، فصانع عنه ربيعة بن مطاعم بالمال وترك له، وعاد إلى بغداد فصلب من كان معه من أسرى العرب. ثم سار إلى خويّ فحصرها وقرّر عليها سبعة آلاف دينار.
(فتنة الأتراك واستيلاء عساكر طغرلبك على النواحي)
كان الأتراك من جند بغداد قد استفحل أمرهم على الدولة، واشتطوا وتطاولوا إلى الفتنة عند ما هبّت ريحها بظهور طغرلبك واستيلائه على النواحي، فطالبوا الوزير في محرّم سنة ست وأربعين وأربعمائة بمبلغ كبير من أرزاقهم ورسومهم وأرهقوه، واختفى في دار الخلافة فاتبعوه وطلبوه من أهل الدار فجحدوه فشغبوا على الديوان، وتعدّوا إلى الشكوى من الخليفة، وساء الخطاب بينهم وبين أهل الديوان وانصرفوا، وشاع بين الناس أنهم محاصرون دار الخلافة فانزعجوا، وركب البساسيري وهو النائب يومئذ ابن خلدون م 42 ج 4(4/657)
ببغداد إلى دار الخلافة، وطلب الوزير وكبس الدور من أجله، فلم يوقف له على خبر. وشغب الجند ونهبوا دار الروم وأحرقوا البيع، وكبسوا دار ابن عبيد وزير البساسيريّ، ووقف أهل الدروب لمنع بيوتهم من الأتراك فنهبوا الواردين، وعدمت الأقوات، والبساسيري في خلال ذلك مقيم بدار الخلافة إلى أن ظهر الوزير، وقام بهم بما عليهم من أثمان دوابه وقماشه.
واتصل الهرج وعاد الأعراب والأكراد إلى العيث والإغارة والنهب والقتل، وجاءت أصحاب قريش صاحب الموصل فكبسوا حلل كامل ابن عمّه بالبردوان، ونهبوا منها دوابّ وجمالا من البخاتي. كانت هناك للبساسيري فتضاعف الهرج وانحل نظام الملك. ووصل عساكر الغز إلى الدسكرة مع إبراهيم بن إسحاق من أمراء طغرلبك ورستبارد فاستباحوها. ثم تقدّموا إلى قلعة البردوان وقد عصى صاحبها سعدي على طغرلبك فامتنعت عليهم، فعاثوا في نواحيها وخربت تلك الأعمال وانجلى أهلها.
وسارت طائفة أخرى إلى الأهواز فخرّبوا نواحيها، وقوي طمع السلجوقيّة في البلاد وخافت الديلم ومن معهم من الأتراك وضعفت نفوسهم، ثم بعث طغرلبك أبا علي بن أبي كاليجار الّذي كان صاحب البصرة في عساكر السلجوقيّة إلى خوزستان، فانتهى إلى سابور خواست، وكاتب الديلم بالوعد والوعيد فنزع إليه أكثرهم واستولى على الأهواز، ونهبها عساكر السلجوقيّة وصادروا أهلها وهرب أهلها منهم.
(الوحشة بين القائم والبساسيري)
قد قدّمنا ما وقع من قريش بن بدران في نهب حلل البساسيري أصحابه سنة ست وأربعين وأربعمائة ثم وصل إلى بغداد أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المحلبان صاحب [1] قريش ودخلا في خفية، فهمّ البساسيري بأخذهما، فأجارهما الوزير رئيس الرؤساء عليه، فغضب وسار إلى جرى والأنبار فملكهما ورجع ولم يعرج على دار الخلافة وأسقط مشاهرات القائم والوزير وحواشي الدار من دار الضرب، ونسب إلى الوزير مكاتبته طغرلبك. ثم سار في ذي الحجّة من سنة ست وأربعين وأربعمائة إلى الأنبار
__________
[1] حسب مقتضى السياق صاحبي قريش.(4/658)
وبها أبو الغنائم بن المحلبان، ونصب عليها المجانيق ودخلها عنوة وأسر أبا الغنائم في خمسمائة من أهلها، ونهب البلاد وعاد إلى بغداد وقد شهر أبا الغنائم وهمّ بصلبه، فشفع فيه دبيس بن صدقة، وكان قد جاء مددا له على حصار الأنبار فشفعه وصلب جماعة من الأسرى.
(وثوب الأتراك بالبساسيري ونهب داره)
كان هذا البساسيري مملوكا لبعض تجّار بسا من مدائن فارس فنسب إليها. ثم صار لبهاء الدولة بن عضد الدولة، ونشأ في دولته وأخذت النجابة بضبعه. وتصرّف في خدمة بيته إلى أن صار في خدمة الملك الرحيم. وكان يبعثه في المهمات ومدافعة هذه الفتن. فدافع الأكراد من جهة حلوان، ودافع قريش بن بدران من الجانب الغربي وهما قائمان بدعوة طغرلبك. ثم سار إلى الملك الرحيم بواسط وقد تأكدت الوحشة بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء كما تقدّم. وبعث إليه وزيره أبو سعد النصراني بجرار خمر، فدسّ عليها الوزير قوما ببغداد كانوا يقومون في تغيير المنكر فكسروها. وأراقوا خمرها فتأكدت الوحشة بذلك، واستفتى البساسيري الفقهاء الحنفيّة في ذلك فأفتوه باحترام مال النصراني، ولا يجوز كسرها عليه ويغرم من أتلفها. وتأكدت الوحشة بين الوزير وبين البساسيري وكانت الوحشة بينه وبين الأتراك كما مرّ. فدسّ الوزير بالشغب على البساسيري فشغبوا، واستأذنوا في نهب دوره، فأذن لهم من دار الخلافة فانطلقت أيدي النهب عليها، وأشاع رئيس الرؤساء أنه كاتب المستنصر العلويّ صاحب مصر، واتسع الخرق، وكاتب القائم الملك الرحيم بإبعاد البساسيري، وأنه خلع الطاعة وكاتب المستنصر العلويّ فأبعده الملك الرحيم.
(استيلاء طغرلبك على بغداد والخليفة ونكبة الملك الرحيم وانقراض دولة بني بويه)
كان طغرلبك قد سار غازيا إلى بلاد الروم فأثخن فيها. ثم رجع إلى الري فأصلح فسادها. ثم وصل همذان في المحرّم سنة سبع وأربعين وأربعمائة عاملا على الحجّ، وأن(4/659)
يمرّ بالشام ويزيل دولة العلويّة بمصر. وتقدّم إلى أهل الدينور وقرميس وغيرهما باعداد العلوفات والزاد في طريقه، وعظم الإرجاف بذلك في بغداد وكثر شغب الأتراك، وقصدوا ديوان الخلافة يطلبون القائم في الخروج معهم لمدافعة، وعسكروا بظاهر البلد. فوصل طغرلبك إلى حلوان وانتشر أصحابه في طريق خراسان وأجفل الناس إلى غربي بغداد، وأصعد الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد عنه البساسيري بأمر القائم، فلحق بدبيس بن صدقة صاحب الحلّة لصهر بينهما.
وبعث طغرلبك إلى القائم بطاعته والى الأتراك بالمواعيد الجميلة، فردّ الأتراك كتابه وسألوا من القائم ردّه عنهم فأعرض، وجاء الملك الرحيم يعرض نفسه فيما يختاره فأمر بتقويض الأتراك خيامهم، وأن يبعثوا بالطاعة لطغرلبك ففعلوا وأمر القائم الخطباء بالخطبة لطغرلبك، فبعث إلى طريقهم الوزير أبا نصر الكندري، وأمر الأجناد ثم دخل طغرلبك بغداد يوم الخميس ليومين من رمضان، ونزل بباب الشمناسية، ووصل قريش صاحب الموصل وكان في طاعته قبل ذلك. ثم انتشرت عساكر طغرلبك في البلد وأسواقها فوقعت الهيعة، وظنّ الناس أنّ الملك الرحيم أذن بقتال طغرلبك فأقبلوا من كل ناحية، وقتلوا الغزّ في الطرقات إلا أهل الكرخ فإنهم أمّنوهم، وأجاروهم وشكر الخليفة لهم ذلك، وتمادى العامّة في ثورتهم وخرجوا إلى معسكر طغرلبك. ودخل الملك الرحيم بأعيان أصحابه إلى دار الخلافة تفاديا من الظنّة به، وركبت عساكر طغرلبك فهزموا العامّة وكسروهم، ونهبوا بعض الدروب ودروب الخلفاء والرصافة ودرب الدروب. وكانت هذه الدروب قد نقل الناس إليها أموالهم ثقة باحترامها، وفشا النهب واتسع الخرق، وأرسل طغرلبك من الغد إلى القائم بالعتب على ما وقع، ونسبه إلى الملك الرحيم ويطلب حضوره وأعيان أصحابه فيكون براءة لهم، فأمرهم الخليفة بالركوب إليه، وبعث معهم رسوله ليبرّثهم فساروا في ذمامه، وأمر طغرلبك بالقبض عليهم ساعة وصولهم.
ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وذلك لست سنين من ولايته، وانقرض أمر بني بويه ونهب في الهيعة حلّة قريش صاحب الموصل. ونجا سليمان إلى خيمة بدر بن مهلهل فأجاره، ثم خلع عليه طغرلبك وردّه إلى حلله. ونقم القائم على طغرلبك ما وقع، وبعث في إطلاق المحبوسين فاتهم في ذمامه، وهدّده بالرحيل عن بغداد فأطلق بعضهم ومحا عسكر الرحيم من الدواوين، وأذن لهم في السعي في(4/660)
معاشهم، فلحق كثير منهم بالبساسيري فكثر جمعه. واستصفى طغرلبك أموال الأتراك ببغداد من أجله، وبعث إلى دبيس بابعاده، فلحق بالرّحبة وكاتب المستنصر صاحب مصر بالطاعة.
وخطب دبيس لطغرلبك في بلاده وانتشر الغزّ في سواد بغداد فنهبوه، وفشا الخراب فيه، وانجلى أهله، وولّى طغرلبك البصرة والأهواز هزارشب فخطب لنفسه بالأهواز فقط، وأقطع الأمير أبا علي ابن الملك أبي كاليجار قرميس وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم في نداء الصبح الصلاة خير من النوم، وأمر بعمارة دار الملك فعمرت على ما اقترحه، وانتقل إليها في شوّال سنة سبع وأربعين وأربعمائة واستقرّت قدمه في الملك والسلطان، وكانت له الدولة التي ورثها بنوه وقومه السلجوقية ولم يكن للإسلام في العجم أعظم منها. والملك للَّه يؤتيه من يشاء.
(الخبر عن دولة وشمكير وبنيه من الجيل اخوة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان بجرجان وطبرستان وأوّلية ذلك ومصايره)
قد تقدّم لنا ذكر مرداويج بن زيار، وأنه كان من قوّاد الديلم للأطروش، وأنه من الجيل إخوة الديلم، وكانت حالهم واحدة. وكان منهم قوّاد للعلويّة استظهروا بهم على أمرهم حتى إذا انقرضت دولة الأطروش وبنيه على حين فشل الدولة العبّاسية، ومحي أعمالها من السلطان، ساروا في النواحي لطلب الملك متفرّقين فيها فملكوا الريّ وأصفهان وجرجان وطبرستان والعراقين وفارس وكارمان، كل منهم في ناحية وتغلّب بنو بويه على الخليفة وحجروه إلى آخر أيامهم. وذكرنا أنّ مرداويج عند ما استفحل ملكه بعث عن أخيه وشمكير من بلاد كيلان سنة عشرين وأربعمائة فاستظهر به على أمره، وولّاه على الأعمال الجليلة، وكان قد استولى على أصفهان والري وأصبح من أعظم الملوك، وكان له موال من الأتراك تنكروا له لشدّته عليهم فاغتالوه، وقتلوه في محرّم سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فاجتمعت العساكر بعده على أخيه وشمكير بالريّ، وبعث إلى ما كان بن كالي وهو بكرمان بعد ما ملكها من أبي عليّ بن إلياس(4/661)
بالمسير إليه بالريّ مع ابن محتاج. وسار ما كان على المفازة إلى الدّامغان وبعث وشمكير قائده تاتجيز الديلميّ مع جيش كثيف لاعتراضه، ومع ما كان عسكر ابن مظفّر مددا له، فتقاتلوا وهزمهم تاتجيز فعادوا إلى نيسابور، وجعلت ولايتها لما كان وقد مرّ ذكر ذلك كله. ثم سار تاتجيز إلى جرجان وأقام بها، ثم هلك آخر السنة من سقطة عن فرسه، فاستولى عليها ما كان وحاصره ابن محتاج سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة فملكها وسار ما كان إلى طبرستان فأقام بها. وكان ركن الدولة بن بويه غلب على أصفهان فبعث وشمكير عساكره إلى ما كان مددا له في حروبه مع ابن محتاج، فاغتنم ركن الدولة خلوّ [1] وشمكير من العساكر فسار إلى أصفهان فملكها، واتصل ما بينه وبين صاحب خراسان وانفرد وشمكير بملك الريّ.
(استيلاء عساكر خراسان على الري والجيل وملك وشمكير طبرستان)
لما ملك ركن الدولة أصفهان وصل يده بأبي علي بن محتاج صاحب خراسان، هو وأخوه عماد الدولة صاحب فارس، وحرّضاه على أخذ الريّ من وشمكير رجاء أن يكون طرفا لعمله فيتمكّن به من ملكها، فسار أبو علي لذلك، واستمدّ وشمكير ما كان للمدافعة فجاء بنفسه. وبعث ركن الدولة مددا لابن محتاج فلقوه بإسحاق آباد وتقاتلوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان فملكها، وقتل ما كان بالمعركة واستولى أبو عليّ على الريّ. ثم بعث أبو علي العساكر إلى بلد الجيل فاستولى على زنكان وأبهر وقزوين وكرج وهمذان ونهاوند والدّينور إلى حلوان.
(استيلاء الحسن بن القيرزان [2] على جرجان)
كان الحسن بن القيرزان ابن عمّ ما كان، وكان مناهضه في الصرامة، فلما قتل ما كان
__________
[1] معنى السياق فاغتنم ركن الدولة عدم وجود عساكر مع وشمكير ... لان كلمة خلو لا تعطي المعنى المقصود.
[2] الحسن بن الفيرزان وقد مرّ معنا من قبل.(4/662)
وملك وشمكير طبرستان بعث إليه بالدخول في طاعته فأبى، ونسبه إلى المواطأة على قتل ما كان فقصده وشمكير ففارق سارية وسار إلى ابن محتاج صاحب خراسان.
واستنجده فسار معه ابن محتاج وحاصر وشمكير بسارية حولا كاملا حتى رجع إلى طاعة ابن سامان، وأعطى ابنه سلّار رهينة بذلك ورجع هو والحسن إلى خراسان وهو مكابده للصلح، ولقيهما موت سعيد بن سامان فثار الحسن بأبي عليّ بن محتاج ونهب سواده وأخذ ابن وشمكير الّذي كان عنده، ورجع فملكها من يد إبراهيم بن سيجور الدواني [1] ولحق ابن سيجور بنيسابور فعصى عليّ بن محتاج كما مرّ في أخبارهم.
(رجوع الري لوشمكير واستيلاء ابن بويه عليها)
لما انصرف ابو علي إلى خراسان وفعل به الحسن ما ذكرناه، سار وشمكير إلى الريّ فملكها وراسله ابن القيرزان يستميله، وردّ عليه ابنه سلّار فصانعه ولم يبالغ محافظة على عهد ابن محتاج. ثم طمع ركن الدولة بن بويه في ملك الريّ لخلوّ يده وقلّة عسكره فسار إليه وهزمه، واستأمن كثير من عسكره إليه وملك الريّ، ورجع وشمكير إلى طبرستان فاعترضه الحسن وهزمه فلحق بخراسان، وراسل ابن القيرزان ركن الدولة بن بويه وواصله.
(استيلاء وشمكير على جرجان)
لما ملك ابن بويه الريّ من يد وشمكير ولحق طبرستان واعترضه ابن القيرزان وهزمه، ولحق بخراسان سار إلى نوح بن سامان مستنجدا به، وبعث معه عسكرا، وأرسل إلى ابن محتاج صاحب خراسان بمظاهرته، فبعثه فيمن معه إلى جرجان وبها الحسن بن القيرزان فهزمه وشمكير وملك جرجان.
__________
[1] إبراهيم بن سيمجور الدواتي وقد مرّ ذكره معنا من قبل.(4/663)
(استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان)
لما ملك وشمكير جرجان من يد الحسن بن القيرزان سار إلى ركن الدولة بن بويه، وأقام عنده بالريّ ثم سار سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى بلاد وشمكير ولقيهم فهزموه وملك ركن الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجان، واستأمن إليه قوّاد وشمكير وولّى الحسن بن القيرزان على جرجان ورجع إلى الريّ، وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان، فأمر منصور بن قراتكين صاحب خراسان أن يستوفد العساكر لإنجاده فسار معه، وكان مصطنعا عليه، وكتب وشمكير إلى ابن سامان يشكو من ابن قراتكين، ثم كتب الأمير نوح إلى أبي عليّ بن محتاج أن يسير معه إلى الريّ فسار معه وقاتلوا ركن الدولة فلم يظفروا به حتى صالحهم كما تقدّم، ورجع إلى وشمكير فانهزم أمامه إلى أسفراين، وملك ابن بويه طبرستان وحاصر سارية وملكها، ولحق وشمكير بجرجان وسار [1] إلى جرجان في طلب وشمكير إلى بلد الجيل واستولى ابن بويه عليها.
(وفاة وشمكير وولاية ابنه بهستون)
لما غلب بنو بويه على كرمان من يد أبي عليّ بن إلياس لحق وشمكير بالأمير منصور بن نوح ببخارى مستنصرا به، وأطمعه في ممالك بني بويه. وأسرّ إليه أنّ قوّاده بخراسان لا يناصحونه في شأنه فكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب خراسان بالمسير إلى الريّ بطاعة وشمكير والتصرّف عن رأيه، واستعدّ ركن الدولة للقائهم واستنجد ابنه عضد الدولة وخالفهم إلى خراسان وبلغهم الخبر فتوقّفوا بالدّامغان يستطلعون الأخبار. وركب وشمكير للصيد فاعترضه خنزير فرماه بحربة من يده فحمل عليه الخنزير فشبّ الفرس وسقط وشمكير إلى الأرض ومات من سقطته
__________
[1] الضمير المستتر يعود الى ابن بويه وليس الى وشمكير حسب الظاهر.(4/664)
في محرّم سنة سبع وخمسين وأربعمائة وانتقض جميع ما كانوا فيه [1] ، ولما مات وشمكير قام ابنه بهستون مقامه، وراسل ركن الدولة وصالحه فأمدّه بالعساكر والأموال.
(وفاة بهستون وولاية أخيه قابوس)
ثم توفي بهستون بن وشمكير بجرجان سنة ست وستين وثلاثمائة لسبع سنين من ولايته، وكان أخوه قابوس عند خاله رستم بجبل شهريار، وترك بهستون ابنا صغيرا بطبرستان في كفالة جدّه لأمّه فطمع له جدّه في الملك وبادر به إلى جرجان وقبض على من كان عنده ميل إلى قابوس من القوّاد، وفي خلال ذلك وصل قابوس فخرج الجيش إليه واجتمعوا عليه وملكوه، وهرب أصحاب ابن منصور فكفله عمه قابوس وجعله إسوة بنيه، وقام بملك جرجان وطبرستان.
(استيلاء عضد الدولة على جرجان وطبرستان)
لما توفي ركن الدولة سنة ست وستين وثلاثمائة وعهد لابنه عضد الدولة وولّى ابنه فخر الدولة على همذان وأعمال الجيل، وابنه مؤيد الدولة على أصفهان. وكان بختيار بن معزّ الدولة ببغداد فاستولى عليه. ثم سار إلى أخيه فخر الدولة بهمذان فهرب إلى قابوس ونزل عضد الدولة الريّ. وبعث إلى قابوس في طلب أخيه فخر الدولة فأبى، فأمر أخاه مؤيد الدولة بخراسان أن يسير إليه، وأمدّه بالأموال والعساكر. وسار إلى جرجان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ولقيه فخر الدولة بخراسان عند ما وليها حسام الدولة أبو العبّاس تاش من قبل الأمير أبي القاسم بن نوح، وكتب إلى العبّاس تاش يأمره بإنجاد قابوس بن وشمكير وفخر الدولة على مؤيد الدولة، وإعادة قابوس إلى بلده، فزحف في العساكر إلى جرجان وحاصرها شهرين حتى ضاقت أحوالهم.
__________
[1] مقتضى السياق جميع من كانوا معه.(4/665)
وكاتب مؤيد الدولة فائقا الخاصة من قوّاد خراسان واستماله فوعده أن ينهزم بمن معه يوم اللقاء.
وخرج مؤيد الدولة فقاتلهم وانهزم فائق بمن معه كما وعد، ووقف حسام الدولة وفخر الدولة قليلا، ثم اتبعوه منهزمين إلى خراسان. ثم استدعى تاش لتدبير الدولة ببخارى بعد قتل الوزير العتبي، فسار إليه سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة مؤيد الدولة وكان من خبر وفاته ما قدّمناه. ووقعت الفتنة بين تاش وابن سيجور وانهزم تاش إلى جرجان وقابله، فخر الدولة من الكرامة والنصرة بما لم يعهد مثله حسبما مرّ في أخبارهم. ولما ملك فخر الدولة جرجان وطبرستان والريّ اعتزم على ردّ جرجان وطبرستان إلى قابوس رغبا لما كان بينهما بدار الغربة، وأنه الّذي جرّ على قابوس الخروج عن ملكه فشاور عن ذلك وزيره الصاحب بن عبّاد فلم يوافقه، وبقي مقيما بخراسان، وأنجده بنو سامان بالعساكر المرّة بعد المرّة فلم يقدر له الظفر حتى كان استيلاء سبكتكين.
(عود قابوس الى جرجان وطبرستان)
ولما ولي سبكتكين خراسان وعد قابوس بردّه إلى ملكه جرجان وطبرستان. ثم مضى إلى بلخ فمات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فأقام قابوس إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فبعث الأصبهبذ إلى جبل شهريار وعليه رستم بن المرزبان خال مجد الدولة. وجمع له فقاتله وانهزم رستم واستولى أصبهبذ على الجيل. وخطب فيه لشمس المعالي قابوس. وكان نائب ابن سعيد بناحية الاستنداويه وكان يميل إلى شمس المعالي فسار إلى آمد وطرد عنها عسكر مجد الدولة واستولى عليها، وخطب فيها القابوس وكتب إليه بذلك. ثم كتب أهل جرجان إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور، وسار أصبهبذ، وباتي بن سعيد إليها من مكانهما فخرج إليهما عساكر جرجان فقاتلوهما فانهزم العسكر، ورجعوا إلى جرجان فلقوا مقدّمة قابوس عندها فانهزموا ثانية إلى الريّ.
ودخل شمس المعالي قابوس جرجان في شعبان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وجاءت العساكر من الريّ لحصاره فأقاموا ودخل فصل الشتاء وتوالت عليهم الامطار وعدمت الأقوات فارتحلوا وتبعهم قابوس وقاتلهم فهزمهم وأسر جماعة من أعيانهم. وملك ما بين جرجان وأستراباذ. ثم أنّ الأصبهبذ حدّث نفسه بالملك، واغترّ بما اجتمع له من(4/666)
الأموال والذخائر فسارت إليه العساكر من الريّ مع المرزبان خال مجد الدولة فهزموه وأسروه، وأظهروا دعوة شمس المعالي بالجيل لأنّ المرزبان كان مستوحشا من مجد الدولة، فانضافت مملكة الجيل جميعا الى مملكة جرجان وطبرستان، وولّى عليها قابوس ابنه منوجهر ففتح الريّ وآيات وشالوش [1] وقارن ذلك استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان، فراسله قابوس وهاداه وصالحه على سائر أعماله.
(مقتل قابوس وولاية ابنه منوجهر)
كان شمس المعالي قابوس قد استفحل ملكه، وكان شديد السطوة مرهف. الحدّ فعظمت هيبته على أصحابه وتزايدت حتى انقلبت إلى العتوّ، فأجمعوا على خلعه، وكان ببعض القلاع فساروا إليه ليمسكوه بها فامتنع عليهم فانتهبوا موجودة، ورجعوا إلى جرجان وجاهروا بالخلعان، واستدعوا ابنه من طبرستان فأسرع إليهم مخافة أن يولّوا غيره، واتفقوا على طاعته بأن يخلع أباه فأجاب إلى ذلك كرها. وسار قابوس من حصنه إلى بسطام يقيم بها حتى تضمحل الفتنة فساروا إليه، وأكرهوا منوجهر على المسير معهم وينفرد هو للعبادة بقلعة ابخيا [2] وأذن له أبوه بالقيام بالملك حذرا من خروجه عنهم، وبقي المتولّون لكبر تلك الفتنة من الجند مرتابين من قابوس، وكتبوا من جرجان إلى منوجهر يستأذنونه في قتله، ولم ينتظروا ردّ الجواب وساروا إليه فدخلوا عليه البيت وجرّدوه من ثيابه، فما زال يستغيث حتى مات من شدّة البرد، وذلك سنة ثلاث وأربعمائة لخمس عشرة سنة من استيلائه، وقام بالملك ابنه منوجهر
__________
[1] الرّويان وسالوس: ابن الأثير ج 9 ص 141
[2] هكذا بالأصل والمعنى مبتور وغير واضح ولعله سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 239: «فأخذوا منوجهر معهم، عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطرا، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره، فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه، وعرض عليه منوجهر ان يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم وإن ذهبت نفسه. فرأى شمس المعالي ضد ذلك، وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده، فسلّم إليه خاتم الملك، ووصّاه بما يفعله، واتفقا على ان ينتقل هو الى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة الى ان يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك.»(4/667)
وخطب له على منابره ولم يزل في التدبير على الرهط الذين قتلوا أباه حتى أباد كثيرا منهم وشرّد الباقين.
(وفاة منوجهر وولاية ابنه أنوشروان)
ولما سار محمود بن سبكتكين سنة عشرين وأربعمائة عند ما قبض حاجبه على مجد الدولة، وملك الريّ بدعوة محمود. وسار إليه محمود فهرب منوجهر بن قابوس من جرجان، وبعث إليه بأربعمائة ألف دينار ليصلحه، وتحصّن منه بجبال وعرة. ثم أبعد المذهب ودخل في الغياض الملتفة، وأجابه محمود فبعث إليه منوجهر بالمال ونكب عنه في رجوعه إلى نيسابور. ثم توفي منوجهر إثر ذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة وولي بعده ابنه أنوشروان، فأقرّه محمود على ولايته وقرّر عليه خمسمائة ألف أميري، وخطب لمحمود في بلاد الجيل إلى حدود أرمينية. ثم استولى مسعود بن محمود أعوام الثلاثين على جرجان وطبرستان، ومحا دولة بني قابوس كأن لم تكن والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة مسافر من الديلم بآذربيجان ومصايره)
كانت أذربيجان عند ظهور الديلم وانتشارهم في البلاد واستيلائهم على الأعمال أعوام الثلاثين والثلاثمائة بيد رستم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج.
وكان من خبره أنّ أباه إبراهيم من الخوارج من أصحاب هارون الشادي [1] الخارج بالموصل هرب بعد مقتله إلى أذربيجان. وأصهر في الأكراد إلى بعض رؤسائهم، فولد له ابنه رستم ونشأ في أذربيجان. ولما كبر استضافه ابن أبي الساج، وتنقّل في الأطوار إلى أن استولى على أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج، وكان معظم جيوشه الأكراد. ولما استولى الديلم على البلاد وملك وشمكير الريّ ولّى أعمال الجيل لشكري
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 385: «كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي، وكان قد صحب يوسف بن أبي الساج، وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان وكان يقول بمذهب السراة هو وأبوه، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري.»(4/668)
وجمع الأموال والرجال، وسار لشكري الى أذربيجان ليملكها سنة ست وعشرين وثلاثمائة وحاربه دسيم في بعض جهات أذربيجان، واستولى لشكري على سائر بلاد أذربيجان إلّا أردبيل، فإنّ أهلها امتنعوا ثقة بحصن بلادهم.
وراسلهم فلم يجيبوه وحاصرها وشدّ حصارها، وثلم سورها وملكها أياما يدخل نهارا ويخرج إلى عساكره ليلا. ثم ثدّوا ثلم السور وامتنعوا وعادوا إلى الحصان. واستدعوا دسيما فجاء لقتال لشكري من ورائه، وناشبته أهل أردبيل القتال من أمامه فانهزم وقتل عامّة أصحابه، وتحيزوا إلى موقان. واستنجد أصبهبذ بن دوالة فجمعوا وساروا إلى دسيم فانهزم أمامهم، وعبر نهر أرس، وقصد وشمكير في الري واستنجده، وضمن له مالا كل سنة، فبعث معه عسكرا واستمال عسكر لشكري فداخلوه وكاتبوا وشمكير بالطاعة.
وعلم بذلك لشكري فتأخر إلى الزوزن عازما على الموصل أن يملكها، ومرّ بأرمينية فنهب وسبى، ولما انتهى إلى الزوزن لقيه بعض الرؤساء من الأرمن وصانعه بالمال على بلده حتى كفّ عنها وأكمن له في مضيق بطريقة، ودسّ لبعض الأرمن أن ينهبوا شيئا من ثقله، ويسلكوا المضيق، وركب لشكري في أثرهم فقتله الكمين ومن معه، وقدّم أهل العسكر عليهم ابنه الشكرستان، ورجعوا إلى بلد الطرم الأرميني ليثأروا من الأرمن بصاحبهم. وكان أكثر بلده مضايق فقاتلهم الأرمن عليها وفتكوا فيهم، ولحق العسكر والشكرستان في الفلّ بالموصل فأقام بها عند ناصر الدولة بن حمدان، وكانت له معادن أذربيجان وولّى عليها ابن عمّه أبا عبد الله الحسين ابن سعيد بن حمدان. وبعث الشكرستان وأصحابه فقاتلهم دسيم على المعادن، وغلبهم عليها ورجعوا واستولى دسيم على أذربيجان.
(استيلاء المرزبان بن محمد بن مسافر على آذربيجان)
كان محمد بن مسافر من كبار الديلم وكان صاحب الطرم وكان له أولاد كثيرون منهم سلّار ومنهم صعلوك ومنهم وهشودان والمرزبان أمّه بنت حسّان ووهشودان ملك الديلم وقد مرّ خبره، وكان دسيم بن إبراهيم الكردي بعد مدافعة لشكري وابنه عن(4/669)
أذربيجان أقام عنده بعض الديلم من عسكر وشمكير الذين أنجدوه على شأنه. ثم إنّ قومه من الأكراد استبدّوا عليه بأطراف أعماله، وملكوا بعض القلاع فاستظهر عليهم بأولئك الديلم وغلبهم، واستدعى صعلوك بن محمد من قلعة أبيه الطرم فجاء إليه جماعة من الديلم وسار بهم إلى التي تغلّب عليها الأكراد فانتزعها منهم، وقبض على جماعة منهم. ثم استوحش منه وزيره أبو القاسم عليّ بن جعفر من أهل أذربيجان فهرب إلى الطرم ونزل على محمد بن مسافر عند ما استوحش منه ابناه وهشودان والمرزبان، وغلبا على بعض قلاعه.
ثم قبضا عليه وانتزعا منه أمواله وذخائره فتقرّب الوزير عليّ بن جعفر إلى المرزبان وكان يشاركه في دين الباطنية، وأطمعه في أذربيجان فاستوزره المرزبان، وكانت الديلم الذين عند دسيم وغيره من جنده واستمالهم فأجابوه، وسار المرزبان إلى أذربيجان وبرز دسيم للقائه فنزع الديلم إلى المرزبان، واستأمن إليه كثير من الأكراد، وهرب دسيم إلى أرمينية ونزل على صاحبها حاجيق بن الديراني. وملك المرزبان أذربيجان سنة ثلاثين وثلاثمائة، وأساء وزيره عليّ بن جعفر السيرة مع أصحابه فتظافروا عليه وشرعوا في السعاية فيه، فأطمع المرزبان في أموال تبريز يضمنها له.
وسار إليها في عسكر من الديلم وأسرّ لأهلها أنه جاء لمصادرتهم، فوثبوا بمن معه من الديلم وقتلوهم، واستدعوا دسيم بن إبراهيم فجاء إلى تبريز وملكوه، ولحق به الأكراد الذين استأمنوا إلى المرزبان، فسار المرزبان في عساكره وحاصرهم دسيم بتبريز، وكاتب عليّ بن جعفر وحلف له على الوفاء بما يرومه منه فطلب منه السلامة، وترك العمل فأجابه واشتدّ الحصار على دسيم فهرب من تبريز إلى أردبيل، وخرج الوزير إليه فوفّى له المرزبان. ثم طلب دسيم أن ينزله بأهله بقلعة من قلاع الطرم ففعل وأقام المرزبان فيها.
(استيلاء الروس على مدينة بردعة وظفر المرزبان بهم)
هؤلاء الروس من طوائف الترك ويجاورون الروم في مواطنهم، وأخذوا بدين النصرانية معهم منذ أزمان متطاولة، وبلادهم تجاور بلاد أذربيجان، فركبت طائفة منهم(4/670)
البحر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ثم صعدوا من البحر في نهر اللكنهر، وانتهوا إلى مدينة بردعة من بلاد أذربيجان وبها المرزبان فخرج إليهم في نحو خمسة آلاف مقاتل من الديلم وغيرهم فهزمهم الروس، وقتلوا الديلم وتبعوهم إلى البلد فملكوه ونادوا بالأمان، وأحسنوا السيرة، وجاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية فلم يقدروا عليهم. وظاهرهم العوامّ والرعاع، فلما انصرفت العساكر غدرت الروسية بهم فقتلوهم، ونهبوا أموالهم واستعبدوهم.
وأحزن المسلمين ذلك واستنفر المرزبان الناس وسار لهم وأكمن لهم كمينا، وزحف إليهم، وخرجوا إليه واستطرد لهم حتى جاوزوا موضع الكمين، فاستمرّ أصحابه على الهزيمة ورجع هو مع أخيه وصاحب له مستميتين، وخرج الكمين من ورائهم واستلحم الروسية وأميرهم، ونجا فلّهم إلى البلد فاعتصموا بحصنه، وكانوا قد نقلوا إليه السبي والأموال، وحاصرهم المرزبان وصابروه. ثم إن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل بعث إلى ابن عمّه الحسين بن سعد بن حمدان في هذه السنة إلى أذربيجان ليملكها، فبلغ الخبر إلى المرزبان بأنه انتهى إلى سلماس، فجهّز عسكرا إلى الروس وسار لقتال ابن حمدان، فقاتله أياما ثم استدعاه ابن عمّه ناصر الدولة من الموصل وأخبره بموت توزون وأنه سائر إلى بغداد، وأمره بالرجوع فرجع. وأمّا الروس فحاصرهم العسكر أياما واشتدّ فيهم الوباء فانقضوا من الحصن ليلا وحملوا ما قدروا عليه من الأموال ولحقوا باللكن [1] فركبوا سفنهم ومضوا إلى بلادهم، وطهر الله البلاد منهم.
(مسير المرزبان الى الري وهزيمته وحبسه)
ولما سارت عساكر خراسان إلى الريّ وظنّ المرزبان أنّ ذلك يشغل ركن الدولة بن بويه عنه، وكان قد بعث رسوله إلى معزّ الدولة ببغداد فصرفه مذموما مدحورا، فاعتزم على غزو الريّ، وطمع في ملكه واستأمن إليه بعض قوّاد الري وأغراه بذلك.
وراسله ناصر الدولة بن حمدان يستحثّه لذلك، ويشير عليه ببغداد قبل الريّ.
__________
[1] الكرّ: ابن الأثير ج 8 ص 414.(4/671)
وكتب ركن الدولة إلى أخويه عماد الدولة ومعزّ الدولة يستنجدهما، فبعثوا إليه بالعساكر، وسار بها من بغداد سبكتكين الحاجب. ولما انتهى إلى الدّينور انتقض عليه الديلم ووثبوا به، فركب في الأتراك فتخاذل الديلم وأعطوه الطاعة. وكان المرزبان قبل وصول العساكر زحف إلى الريّ وهزمه ركن الدولة وحبسه، ورجع الفلّ إلى أذربيجان ومعهم محمد بن عبد الرزاق. واجتمع أصحاب المرزبان على أبيه محمد بن مسافر، وأساء السيرة فهمّوا بقتله، وكان ابنه وهشودان قد هرب منه واعتصم بحصن له فلحق به أبوه محمد فقبض عليه وهشوذان وضيّق عليه حتى مات. ثم استدعى دسيم الكرديّ من مكانه بقلعة الطرم حيث أنزله المرزبان عند ظفره به، وبعثه إلى محمد بن عبد الرزاق، وأقام بنواحي أذربيجان. ثم رجع إلى الريّ سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة واستعتب إلى سلطانه نوح بن سامان فأعتبه وعاد إلى طوس.
واستولى دسيم على أذربيجان لوالي القلعة حتى تمكّنوا من قتله فقتله المرزبان، ولحق بأخيه وهشوذان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. وكان عليّ بن منسلى [1] من قوّاد ركن الدولة قد لحق بوهشودان، وأغراه بدسيم، فبعثه وهشودان في العساكر، وكاتب الديلم واستمالهم، وسار إليه دسيم وخلّف وزيره أبا عبد الله النعيمي بأردبيل فجمع مالا كان صادره عليه، وهرب بما معه من المال إلى عليّ بن منسلى.
وبلغ الخبر إلى دسيم عند أذربيجان، فعاد الى أردبيل، وشغب عليه الديلم ففرّق فيهم ما كان معه من المال، وسار للقاء عليّ بن منسلى فالتقيا. وهرب الديلم الذين معه إلى علي بن منكلى، وانهزم هو إلى أرمينية. ثم جاءه الخبر بأنّ المرزبان تخلّص من محبسه بقلعة سيرم وملك أردبيل، واستولى على أذربيجان. وأنفذ العساكر في طلبه فهزم دسيم إلى بغداد فأكرمه معز الدولة وأقام عنده. ثم استدعاه شيعته بأذربيجان سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فسار إليهم وطلب من معزّ الدولة المدد لأنّ أخاه ركن الدولة كان قد صالح المرزبان، فسار دسيم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، واستنجد به فلم ينجده، فسار إلى سيف الدولة، فأقام عنده بالشام. فلما كان سنة أربع وأربعين خرج على المرزبان خارج باب الأبواب فسار إليه، وخالفه دسيم إلى أذربيجان فاستدعاه مقدّم من الأكراد وملك سلماس فبعث اليه المرزبان
__________
[1] وفي نسخة ثانية منكلى وفي الكامل: علي بن ميسكي: ابن الأثير ج 8 ص 500(4/672)
قائدا من قوّاده فهزمه دسيم. ولما فرغ المرزبان من أمر الخارج وعاد إلى أذربيجان هرب دسيم إلى أرمينية واستجاش بابن الديراني، وكتب إليه المرزبان بحمل دسيم إليه، فسلّمه وحبسه حتى إذا توفي المرزبان قتله بعض أصحابه حذرا من فتنته.
(وفاة المرزبان وولاية ابنه خستان)
ثم توفي المرزبان صاحب أذربيجان سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وعهد بالملك إلى أخيه وهشودان وبعده لابنه خستان [1] ، وكان قد أوصى نوّابه بالقلاع أن يسلّموها لابنه خستان، ثم لأخويه إبراهيم وناصر، ثم إلى أخيه وهشودان عند ما عهد بالعهد الثاني إلى أخيه عرّفه بإمارات بينه وبين نوّابه يرجعون إليها في ذلك. وبعث إلى النوّاب عبد الله النعيمي. وهرب وهشودان من أردبيل فلحق بالطّرم وجاء قوّاد المرزبان إلى خستان بن شرمول [2] فإنه كان مقيما على أرمينية فانتقض بها.
(مقتل خستان واخوته واستيلاء عمهم وهشودان على آذربيجان)
ولما ولي خستان بن المرزبان انغمس في لذّاته وعكف على اللهو، وقبض على وزيره أبي عبد الله النعيمي، وكان خستان بن برسموه منتقضا بأرمينية وقد ملكها، وكان وزيره أبو الحسن عبد الله بن محمد بن حمدويه صهرا للوزير النعيمي فاستوحش لنكبته، وحمل صاحبه ابن سرمدن [3] على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان، فأطمعه في الملك وسار به إلى مراغة فملكها فراسله أخوه خستان، وسار إلى موقان وكان
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 519: وفي هذه السنة- 346- في رمضان توفي السلّار المرزبان بأذربيجان وهو صاحبها، فلما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان بالملك، وبعده لابنه جستان بن المرزبان» .
[2] جستان بن شرمزن: المرجع السابق.
[3] التحريف ظاهر لقد كان اسمه خستان بن شرمول وهنا ابن سرمدن وفي الكامل جستان بن شرمزن وفي بعض النسخ شرمون.
ابن خلدون م 43 ج 4(4/673)
بأذربيجان رجل من ولد المكتفي متنكرا يدعو للرضا من آل محمد ويأمر بالعدل، ويلقب بالمجير، وكثرت جموعه، فبعث إليه النعيمي من موقان وأطمعه في الخلافة، وأن يملّكه أذربيجان على أن يقصد بغداد ويترك لهم أذربيجان، فسارا إليه خستان وإبراهيم ابنا المرزبان فهزماه وقتلاه فلما رأى وهشودان الخلاف بين بني أخيه المرزبان استمال إبراهيم، وسار ناصر إلى موقان وطمع الجند في المال فساروا إلى ناصر وملكوا بهم أردبيل.
وطالبه الجند بالمال فعجز وقعد عمّه وهشودان عن نصره وتبين له أنه كان يخادعه، فاجتمع مع أخيه خستان واضطربت عليهما الأمور وانتقضت أصحاب الأطراف فاضطرهما الحال إلى طاعة عمّهما وهشودان وراسلاه في ذلك، واستحلفاه وقدما عليه مع أمّهما، فغدر وقبض عليهم، وعقد الإمارة على أذربيجان لابنه إسماعيل، وسلّم له أكثر قلاعه. ولحق إبراهيم بن المرزبان بمراغة، وجمع لاستنقاذ أخويه ومنازعة إسماعيل فقتل وهشودان أخويه وأمّهما، وأمر خستان بن سرمدن بقتال إبراهيم بمراغة وبعث اليه بالمدد. وانضمّ إبراهيم إلى نواحي أرمينية سنة تسع وأربعين فاستولى ابن سرمدن على مراغة واستضافها إلى أرمينية. وجمع إبراهيم. وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد، وأصلح خستان بن سرمدن. ثم جاء الخبر بوفاة إسماعيل ابن عمّه فسار إلى أردبيل فملكها، وانصرف ابن منسلى إلى وهشودان، وزحف إليهما إبراهيم وهزمهما، فلحقا ببلاد الديلم، واستولى إبراهيم على أعمال وهشودان. ثم جمع وهشودان وعاد إلى قلعته بالطرم، وبعث أبو القاسم بن منسلى العساكر لقتال إبراهيم فهزموه، ونجا إلى الريّ مستنجدا بركن الدولة لصهر بينهما.
(استيلاء إبراهيم بن المرزبان ثانيا على آذربيجان)
قد تقدّم هزيمة إبراهيم بن المرزبان أمام عساكر ابن منسلى، وأنه لحق بركن الدولة مستنجدا به، فبعث معه الأستاذ أبا الفضل بن العميد في العساكر فاستولى على أذربيجان، وحمل أهلها على طاعة إبراهيم، وقاد له خستان بن سرمدن وطوائف الأكراد فتمكّن من البلاد وكتب ابن العميد إلى ركن الدولة أن يعطيه ملكها. ولعله(4/674)
يعوض إبراهيم عنها لكثرة جبايتها وقلّة معرفة إبراهيم بالجباية، وأن يشهد فيها بالخروج عن ملكه فأبى من ذلك، وقال لا أفعل ذلك بمن استجار بي فسلّم له ابن العميد البلاد ورجع.
(تنبيه) أخبار بني مسافر المعروفين ببني السلّار ملوك أذربيجان نقلتها من كتاب ابن الأثير وإلى هاهنا انتهى في أخبارهم وأحال على ما بعده فقال بعد ذلك: وكان الأمير كما ذكر ابن العميد قد أخذ إبراهيم وحبسه على ما ذكره، ولم نقف على ذكر شيء من أخبار إبراهيم بعد ذلك ولا من خبر قومه. وذكر أن محمود بن سبكتكين بعد خبر استيلائه على الريّ سنة عشرين وأربعمائة أنه بعث إلى المرزبان بن الحسين بن حرابيل [1] من أولاد ملوك الديلم، والتجأ الى محمود فبعثه إلى بلاد السلّار، وهو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل بن وهشودان بن محمد بن مسافر الديلميّ، وكان له من البلاد شهرخان [2] وزنجان وشهرزور وغيرها فقصدها واستمال الديلم. وعاد محمود إلى خراسان فسار السلّار إبراهيم إلى قزوين فملكها وقتل من عساكر محمود الذين بها وتحصّن بقلعة الريّ، وكان بينهما وقائع ظهر فيها السلّار، ثم استمال مسعود بن محمود طوائف من عسكره وجاءوا إليه ودلّوه على عورة الحصن الّذي فيه السلّار وسلكوا بعسكره من طرق غامضة. وبعث إليه العسكر في رمضان سنة ست وعشرين وأربعمائة فانهزم، وقبض عليه مسعود وحمله الى سرجهار وبها ولده [3] ، وطالب أن يسلّم إليه القلعة فأبي، وعاود عنه. وتسلّم بقية قلاعه، وأخذ أمواله وقرّر على ابنه بسرجهار مالا وعلى الأكراد الذين في جواره. وعاد إلى الريّ، وهذا السلّار الّذي ذكر غير السلّار الأوّل، ولم يتّصل الخبر بالخبر المتقدّم. ثم ذكر أخبار الغز الذين تقدّموا بين يديّ السلجوقية وانتشروا في بلاد الريّ وملكوها وكثيرا من بلادها، ووصلت طائفة منهم إلى أذربيجان الذين كان مقدّمهم بوقا وكوكتاش ومنصور ودانا.
(دخول الغز آذربيجان)
يقال دخل هؤلاء الغزّ إلى أذربيجان وسمّر صاحبها يومئذ وهشودان بن غلاك،
__________
[1] الحسن بن خراميل: ابن الأثير ج 9 ص 373
[2] سرجهان: المرجع السابق.
[3] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 420 حيث يذكر انه قبض على السلار وحمل الى سرجهان وبها ولده.(4/675)
فأكرمهم وصاهرهم يدافع شرّهم بذلك، ويستميلهم لنصرته فلم يحصل من ذلك بطائل. وعاثوا في البلاد أشدّ العيث ودخلوا مراغة سنة تسع وعشرين وأربعمائة فقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها. وفعلوا كذلك بالأكراد الهمذانية [1] ، فاتفق أهل البلاد على مدافعتهم. وأصلح أبو الهيجاء ابن ربيب الدولة ووهشوذان صاحبا أذربيجان، واتفقت كلمتهما واجتمع معهما أهل همذان فانصرفت تلك الطائفة عن أذربيجان، وافترقوا على الريّ كما تقدّم في أخبارهم. وبقي الغزّ الذين تقدّموا قبلهم، فقاسى منهم أهل أذربيجان شدّة، وفتك فيهم وهشوذان بتبريز سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فتكة أوهنت منهم. ودعا منهم جمعا كثيرا إلى صنيع، وقبض على ثلاثين من مقدّميهم فقتلهم، وفرّ الباقون من أرمينية إلى بلاد الهكّارية من أعمال الموصل، وكانت بينهم وبين الأكراد وقائع ذكرناها في أخبار الغزّ بالموصل، ولم يعد ابن الأثير لبني المرزبان ملوك أذربيجان ذكرا إلى أن ذكر استيلاء طغرلبك على البلاد، والمفهوم من فحوى الأخبار أنّ الأكراد استولوا عليها بعد بني المرزبان والله أعلم.
(استيلاء طغرلبك على آذربيجان)
قال ابن الأثير وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة سار طغرلبك إلى أذربيجان وقصد تبريز، وصاحبها الأمير منصور بن وهشوذان بن محمد الرواديّ فأطاعه وخطب له وحمل إليه، ورهن عنده ولده، فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار صاحب جنزة فأطاع وخطب، وكذلك سائر النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة والخطبة، وانقاد العساكر إليه فأبقى عليهم بلادهم، وأخذ رهنهم وسار إلى أرمينية كذلك، وقصد ملازكرد وهي للنصرانية، فعاث في بلادها وخرّب أعمالها، وغزا من هنالك بلاد الروم وانتهى إلى أرزن الروم فأثخن في بلادهم ودوّخها، وعاد ابن السلّار وذكر ابن الأثير خلال هذا غزوة فضلون الكردي إلى الخزر من التركمان على ما مرّ أوّل الكتاب فقال: كان بيد فضلون الكردي قطعة كبيرة من أذربيجان فغزا إلى الخزر
__________
[1] هم الأكراد الهذبانية وليس الهمذانية.(4/676)
سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ودوّخ البلاد وقفل، فجاءوا في أثره وكبسوه وقتلوا أيضا بخطط ملك الإنجاز إلى مدينة تفليس فقال: وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف ملك الأنجاز إلى أذربيجان ليتعرّف المسلمين على حين وصول الغز إلى أذربيجان وما فعلوه فيها، وسمع الأنجاز بأخبارهم فأجفلوا عن مخلفهم، ووصل وهشوذان صاحب أذربيجان وصرف نظره إلى ملاطفة الغزّ ومصاهرتهم ليستعين بهم كما مرّ [1] . هذا آخر ما وجدناه من أخبار ملوك أذربيجان، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(الخبر عن بني شاهين ملوك البطيحة ومن ملكها من بعدهم من قرابتهم وغيرهم وابتداء ذلك ومصايره)
كان عمران بن شاهين من الجامدة، وكان يتصرّف في الجباية، وحصل بيده منها مال فتخوّف وألحّ عليه الطلب فهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة. وكان له نجدة وبأس وصبر على الشظف فأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسمك الماء والطير، ويتعرّض للرفاق التي تمرّ بالطريق فيأخذها. واجتمع إليه لصوص الصيّادين فقوي وامتنع على السلطان، وتمسك بخدمة أبي القاسم بن البريديّ صاحب البصرة فأمّنه، ووصل حبل الطاعة بيده وقلّده حماية تلك النواحي إلى الجامدة دفعا لضرره عن السابلة، فعزّ جانبه وكثر جمعه وسلاحه، واتخذ معاقل على التلال بالبطائح وغلب على تلك النواحي، ولما استولى معزّ الدولة على بغداد، وقام بكفالة الخلافة والنظر في أمورها، أهمه شأن عمران هذا وامتناعه في معاقلة في نواحي بغداد، فجهّز إليه وزيره أبا جعفر الصيمريّ في العساكر، وسار إليه سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وتعدّدت بينهما الحروب والوقائع، ثم هزمه الصيمريّ. ثم أتاه الخبر بمسيره إلى شيراز كما تقدّم في أخبار دولتهم.
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 9 ص 457: «في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس، وامتنع أهلها عليه، فأقام محاصرا ومضيقا فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها الى أذربيجان يستفرون المسلمين ويسألونهم اعانتهم، فلما وصل الغز الى أذربيجان وجمع الإنجاز بقربهم، وبما فعلوا بالأرمن، ورحلوا عن تفليس مجفلين خوفا، ولما رأى وهشوذان صاحب أذربيجان قوة الغز وأنه لا طاقة له بهم لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم»(4/677)
(مسير العساكر الى عمران بن شاهين وانهزامها)
ولما انصرف الصيمري عن عمران عاد إلى حاله فبعث معزّ الدولة لقتاله روزبهان من أعيان الديلم في العساكر، فتحصّن منه في مضايق البطائح، فطاوله فضجر روزبهان واستعجل قتاله فهزمه عمران وغنم ما معهم، فاستفحل وقوي وأفسد السابلة. وكان أصحابه يطلبون الخفارة من جند السلطان إذا مرّوا بهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة، فبعث معزّ الدولة بالعساكر مع المهلّبيّ، وزحف إلى البطائح سنة أربعين وثلاثمائة ودخل عمران في مضايقه، وأشاروا عليه بالهجوم فلم يفعل، فكتب إليه معز الدولة بذلك بإشارة روزبهان فدخل المهلبي المضايق بجميع عسكره، وقد أكمن لهم عمران، فخرج عليهم الكمين وتقسّموا بين القتل والغرق والأسر، ونجا المهلّبيّ سابحا في الماء. وكان روزبهان متأخّرا في الزحف فسلم، وأسر عمران كثيرا من قوّادهم الأكابر ففاداه معزّ الدولة بمن في أسره من أهله وأصحابه، وقلّده ولاية البطائح فاستفحل أمره.
ثم انتقض سنة أربع وأربعين وثلاثمائة لخبر بلغه عن مرض طرق معز الدولة، وأرجف أهل بغداد بموته، ومرّ به مال من الأموال يحمل إلى معز الدولة ومعه جماعة من التجّار فكبسهم وأخذ جميع ما معهم. ثم ردّ ذلك بعد إبلال معز الدولة من مرضه، وفسد ما بينهما من الصلح! ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فبعث العساكر من هنالك لقتال عمران مع أبي الفضل العبّاس بن الحسن، وقدم عليه نافع مولى ابن وجيه صاحب عمان يستنجده عليها، فانحدر إلى الأبلة، وبعث معه المراكب إلى عمان، وسارت عساكره إلى البطائح، فنزلوا الجامدة وسدّوا الأنهار التي تصبّ إليها.
ثم رجع معز الدولة من الأبلة وطرقه المرض فجهّز العساكر لقتال عمران، وعاد إلى بغداد فهلك، وولي بعده ابنه عز الدولة بختيار فأعاد العساكر المجمّرة على عمران، وعقد معه الصلح فاستمرّ حاله. ثم زحف بختيار إليه سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وأقام بواسط يتصيّد شهرا. ثم بعث وزيره إلى الجامدة وطرق البطيحة فسدّ مجاري المياه وقلبها إلى أنهارها، وهي الجسور إلى العراق. ثم جاء المدّ من دجلة وخرّب جميع(4/678)
ذلك. ثم انتقل عمران إلى معقل آخر ونقل ماله إليه حتى إذا حسر المياه وانتهجت الطرق فقدوا عمران من مكانه، وطال عليهم الأمر وشغب الجند على الوزير فأمر بختيار بمصالحته على ألف ألف درهم، ولما رحل العسكر عنه ثار أصحابه في أطراف الناس فنهبوا كثيرا من العساكر ووصلوا إلى بغداد سنة إحدى وستين وثلاثمائة
(وفاة عمران بن شاهين وقيام ابنه الحسن مقامه ومحاربته عساكر عضد الدولة)
ثم توفي عمران بن شاهين فجأة في محرّم سنة تسع وستين وثلاثمائة لأربعين سنة من ثورته بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وردّدوا عليه العساكر فلم يقدروا عليه. ولما هلك قام بعده ابنه الحسن فطمع عضد الدولة فيه، وجهّز العساكر مع وزيره وسدّوا عليه المياه وأنفق فيها أموالا وجاء المدّ فأزالها، وبقوا كلما سدّوا فوهة فتق الحسن أخرى وفتح الماء أمثالا لها، ثم وافقهم في الماء فاستظهر عسكر الحسن وكان معه [1] المظفّر أبو الحسن ومحمد بن عمر العلويّ الكوفي، فاتهمه [2] بمراسلة الحسن وإفشاء سرّه إليه، وخاف أن تنقص منزلته عند عضد الدولة فطعن نفسه فمات، وأدرك بآخر رمق فقال:
محمد بن عمر حملني على هذا، وحمل إلى ولده بكازرون فدفن هنالك، وأرسل عضد الدولة إلى العسكر من رجعه إليه وصالح الحسن بن عمران على مال يحمله وأخذ رهنه بذلك.
(مقتل الحسن بن عمران وولاية أخيه أبي الفرج)
كان الحسن بن عمران آسفا على أخيه أبي الفرج وحنقا عليه، ولم يزل يتحيّل عليه إلى أن دعاه إلى عيادة أخت لهما مرضت، وأكمن في بيتها جماعة أعدّها لقتله، فدخل الحسن منفردا عن أصحابه، فأغلقوا الباب دونهم وقتلوه، وصعد أبو الفرج
__________
[1] وزير عضد الدولة هو المطهّر بن عبد الله، وكان معه- اي مع وزير عضد الدولة وليس مع الحسن بن عمران حسب ظاهر النص- أبو الحسن محمد بن عمر العلويّ الكوفي.
[2] الضمير يعود الى أبي الحسن محمد بن عمر وقد اتهم المطهّر وزير عضد الدولة بمراسلة الحسن بن عمران.(4/679)
إلى السطح فأعلمهم بقتله ووعدهم فسكتوا. ثم بذل لهم المال فأقرّوه، وكتب إلى بغداد بالطاعة، فكتب له بالولاية، وذلك لثلاث سنين من ولاية الحسن.
(مقتل أبي الفرج وولاية أبي المعالي بن الحسن)
ثم إنّ أبا الفرج لما قتل أخاه الحسن قدّم الجماعة الذين قتلوه على أكبار القوّاد، وكان الحاجب المظفّر بن علي كبير قوّاد عمران والحسن، فاجتمع إليه القوّاد وشكوا إليه فسكّنهم فلم يرضوا وحملوه على قتل أبي الفرج فقتله، ونصّب أبا المعالي ابن أخيه الحسن مكانه لأشهر من ولايته. ثم تولّى تدبيره بنفسه لصغره، وقتل من كان يخافه من القوّاد واستولى على أموره كلها.
(استيلاء المظفّر وخلع أبي المعالي)
ثم إنّ المظفّر بن علي الحاجب القائم بأمر أبي المعالي طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فصنع كتابا على لسان صمصام الدولة سلطان بغداد بولايته، وجاء به ركابي عليه أثر السفر وهو بدست إمارته فقرأه بحضرتهم، وتلقّاه بالطاعة وعزل أبا المعالي وأخرجه مع أمّه إلى واسط وكان يصلهما بالنفقة. وأحسن السيرة بالناس، وانقرض بيت عمران بن شاهين. ثم عهد إلى ابن أخته عليّ بن نصر ويكنّى أبا الحسن، وتلقّب بالأمير المختار، وبعده إلى ابن أخته الأخرى ويكنى أبا الحسن ويسمّى عليّ بن جعفر.
(وفاة المظفر وولاية مهذب الدولة)
ثم توفي الحاجب المظفّر صاحب البطيحة سنة ست وسبعين وثلاثمائة لثلاث سنين من ولايته، وولي بعده ابن أخيه أبو الحسن علي بن نصر بعهده إليه كما مرّ. وكتب إلى شرف الدولة سلطان بغداد بالطاعة، فقلّده ولقّبه مهذّب الدولة، فأحسن السيرة(4/680)
وبذل المعروف وأجار الخائف، فقصده الناس وأصبحت البطيحة معقلا. واتخذها الأكابر وطنا، وبنوا فيها الدور والقصور. وكاتب ملوك الأطراف وصاهره بهاء الدولة بابنته، وعظم شأنه واستجار به القادر عند ما خاف من الطائع، وهرب إليه فأجاره، ولم يزل عنده بالبطيحة ثلاث سنين إلى أن استدعي منها للخلافة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
(بعث ابن واصل على البطيحة وعزل مهذب الدولة)
كان من خبر أبي العبّاس بن واصل هذا أنه كان ينوب عن رزبوك الحاجب، وارتفع معه ثم استوحش منه ففارقه وسار إلى شيراز، واتصل بخدمة فولاد وتقدّم عنده. ثم قبض على فولاد فعاد إلى الأهواز. ثم أصعد إلى بغداد، ثم خرج منها وخدم أبا محمد ابن مكرم، ثم انتقل إلى خدمة مهذّب الدولة بالبطيحة وتقدّم عنده. ولمّا استولى السكرستان [1] على البصرة بعثه مهذّب الدولة في العساكر لحربه فقتله وغلبه، ومضى إلى شيراز فأخذ سفن محمد بن مكرّم وأمواله، ورجع إلى أسافل دجلة فتغلّب عليها، وخلع طاعة مهذّب الدولة، فأرسل إليه مائة سميرية مشحونة بالمقاتلة فغرق بعضها وأخذ ابن واصل الباقي وعاد إلى الأبلة فبعث إليه أبا سعيد بن ماكولا فهزمه ثانية، واستولى على ما معه وأصعد إلى البطيحة وخرج مهذّب الدولة إلى شجاع بن مروان وابنه صدقة فغدروا به، وأخذوا أمواله، ولحق بواسط، واستولى ابن واصل على البطيحة وعلى أموال مهذّب الدولة، وجمع ما كان لزوج له ابنة بهاء الدولة.
وبعث به إلى أبيها وكانت قد لحقت ببغداد. ثم اضطرب عليه أهل البطائح وبعث سبعمائة فارس إلى البلاد المجاورة فقاتلهم أهلها وظفروا بهم، وخشي ابن واصل على نفسه فعاد إلى البصرة وترك البطائح فوضى، ونزل البصرة في قوّة واستفحال. وخشي أهل النواحي عاديته فسار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليتلافى أمره، واستدعى عميد الجيوش من بغداد وسيّره في العساكر إليه فجاء إلى واسط، واستكثر من السفن
__________
[1] لشكرستان: ابن الأثير ج 9 ص 180(4/681)
وسار إلى البطائح وسار إليه ابن واصل من البصرة فهزمه وغنم ثقله وخيامه ورجع ابن واصل مفلولا [1]
(عود مهذب الدولة الى البطيحة)
ولما انهزم عميد الجيوش أقام بواسط فجمع عساكره لمعاودة ابن واصل، ثم بلغه أنّ نائب بن واسط بالبطائح قد خرج منها مجفلا، فبعث إلى بغداد وبعث بالعساكر، وهمّ بالانتقاض فاستدعى عميد الجيوش مهذّب الدولة من بغداد، وبعثه بالعساكر في السفن إلى البطيحة سنة خمس وستين [2] وثلاثمائة فاستولى عليها. واجتمع عليه أهل الولايات وأطاعوه، وقرّر عليها بهاء الدولة خمسين ألف دينار في كل سنة، وشغل عن ابن واصل بتجهيز العساكر إلى خوزستان وطمع في الملك واجتمع عنده كثير من الديلم وأصناف الأجناد. وسار إلى الأهواز وسيّر بهاء الدولة عسكرا للقائه فهزمهم، ودخل دار الملك وأخذ ما كان فيها. وبعث إلى بهاء الدولة في الصلح فصالحه وزاد في أقطاعه. ثم بعث بهاء الدولة العساكر للقائه وسار إلى الأهواز وزحف إليها ابن واصل ومعه بدر بن حسنوية، فبعث بهاء الدولة الوزير بالبطيحة فهزمه الوزير ثانية، فمضى مع حسّان بن محال الخفاجي الكوفي وملك إلى الكوفة، وملك البصرة. وسار ابن واصل إلى دجلة قاصدا بدر بن حسنوية فبلغ جامعين فأنزله أصحاب بدر، وكان أصحاب أبي الفتح بن عنّان قريبا منه فكبسه، وجاء به إلى بغداد فبعثه عميد الجيوش إلى بهاء الدولة فقتله سنة ست وتسعين وثلاثمائة كما مرّ في أخبار الدولة.
__________
[1] مفلولا أي مهزوما والمعلوم ان عميد الجيوش هو المهزوم وليس ابن واصل حسب ظاهر المعنى والواضح انه سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 181: «ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد، فسار من فارس الى الأهواز لتلافي أمره وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد، وجهّز معه عسكرا كثيفا، وسيرهم الى أبي العباس فأتى الى واسط، وعمل ما يحتاج اليه من سفن وغيرها وسار الى البطائح وسمع ابو العباس (ابن واصل) بمسيره اليه فاصعد اليه من البصرة. ووصل الى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه فلقيه فيمن معه بالصليق فانهزم عميد الجيوش ووقع من معه بعضهم على بعض، ولقي عميد الجيوش شدة الى ان وصل الى واسط وذهب ثقله وخيامه وخزائنه.»
[2] الصحيح ان عودة مهذّب الدولة الى البطيحة كان سنة 395 وليس 365 كما ذكر ابن خلدون ولعل هذا الخطأ عائد الى الناسخ.(4/682)
(وفاة مهذب الدولة وولاية ابن أخته عبد الله بن نسي)
ثم توفي مهذّب الدولة عبد الله بن علي بن نصر في جمادى سنة ثمان وأربعمائة، وكان ابن أخته أبو عبد الله محمد بن نسي [1] قائما بأموره ومرشحا للولاية مكانه. وقد اجتمع عليه الجند واستحلفهم لنفسه. وبلغه قبل وفاة خاله أنّ ابنه أبا الحسن أحمد داخل بعض الجند في البيعة له بعد أبيه فاستدعاه، وحمله إليه الجند فقبض عليه، ودخلت إليه أمّه فخبرته الخبر فلم يزد على الأسف له. وتوفي مهذّب الدولة من الغد، وولي أبو محمد بن نسي مكانه وقتل أبو الحسين ابن خاله الثلاث من وفاة أبيه.
(وفاة ابن نسي وولاية السراني)
ثم توفي أبو عبد الله محمد بن نسي [2] لثلاثة أشهر من ولايته، واتفق الجند على ولاية أبي محمد الحسين بن بكر السراني [3] من خواص مهذّب الدولة فولّوه عليهم، وبذل لسلطان الدولة ملك بغداد مالا فأقرّه على ولايته.
(نكبة السراني وولاية صدقة المازياري)
وأقام أبو محمد السراني على البطيحة إلى سنة عشر وأربعمائة، وبعث سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياريّ فنكبه وملك البطيحة، وبقي عنده أسيرا إلى أن توفي صدقة وخلص على ما يذكر.
__________
[1] هو أبو محمد عبد الله بن ينيّ: ابن الأثير ج 9 ص 303
[2] هو أبو محمد عبد الله بن ينيّ كما مرّ معنا من قبل.
[3] هو أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي: ابن الأثير ج 9 ص 303(4/683)
(وفاة صدقة وولاية سابور بن المرزبان)
ثم توفي صدقة بن فارس المازياري في محرم لاثنتي عشرة سنة من ولايته، وكان سابور ابن المرزبان بن مردان قائد جيشه. وكان أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين قد تنقل بعد موت أبيه في البلاد بمصر، وعند بدر بن حسنويه حتى استقرّ عند الوزير أبي غالب، ونفق عنده بما كان لديه من الأدب.
(عزل سابور وولاية أبي نصر)
ثم إنّ أبا نصر بن مردان زاد في المقاطعة ولم يبلغها سابور، وتخلّى عن الولاية وفارق البطيحة إلى جزيرة بني دبيس، واستقرّ أبو نصر في ولايتها. ثم عادت إلى أبي عبد الله الحسين بن بكر السراني.
(عصيان أهل البطيحة على أبي كاليجار)
وبعث أبو كاليجار سنة ثمان عشرة وأربعمائة وزيره أبا محمد بن نابهشاد [1] إلى البطيحة، ومقدّمها يومئذ أبو عبد الله الحسين بن بكر السراني فعسف بالناس في أموالهم، وقسط عليهم مقادير تؤخذ منهم فانجلوا إلى البلاد. وعزم الباقون على قتل السراني، ونما الخبر إلى السراني فجاء إليهم واعتذر إليهم، وأوعدهم بالمساعدة وأشار عليه الوزير بإصلاح السفن حتى زحزحها بحيث لا يتمكن منها. ثم وثبوا به فأخرجوه، وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة محبوسين فأخرجوهم، واستعانوا بهم وعادوا إلى الامتناع الّذي كانوا عليه أيام مهذّب الدولة فتمّ لهم ذلك.
ثم جاء ابن المعبراني فغلب على البطيحة وأخرج منها السراني فلحق بيزيد بن مزيد،
__________
[1] هو محمد بن بابشاذ: ابن الأثير ج 9 ص 359(4/684)
وأقام بها ابن المعبراني سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فزحف إليه أبو نصر بن الهيثم فغلبه عليه ونهبها واستقرّ في ملكها على مال يؤدّيه لجلال الدولة.
(استيلاء أبي كاليجار على البطيحة)
ولما كانت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة بعث أبو كاليجار أبا الغنائم أبا السعادات الوزير في عسكر لحصار البطيحة فحاصرها، وبها أبو منصور بن الهيثم حتى جنح إلى الصلح، واستأمن نفر من أصحابه إلى أبي الغنائم وأخبروه بضعفه وعزمه على الهرب، فحفظ عليه الطرق ولما كان شهر صفر من السنة واقعهم أبو الغنائم فظفر بهم، وقتل من أهل البطيحة خلقا كثيرا وغرقت منهم سفن متعدّدة وتفرّقوا في الآجام، وركب ابن الهيثم السفن ناجيا بنفسه وأحرقت داره ونهب ما فيها.
(ولاية مهذب الدولة بن أبي الخير على البطيحة)
ثم كان بعد ذلك لبني أبي الخير ولاية على البطيحة فيما قبل المائة الخامسة وما بعدها ولا أدري ممن هؤلاء بنو أبي الخير، إلا أنّ ابن الأثير قال: كان إسماعيل ولقبه المصطنع، ومحمد ولقبه المختص، هما ابنا أبي الخير، ولهما رياسة قومهما. وهلك المختص وقام مكانه ابنه مهذب الدولة. ونازع ابن الهيثم صاحب البطيحة إلى أن غلبه مهذّب الدولة أيام كوهوايين الشحنة ببغداد. وكان بنو عمّه وعشيرته تحت حكمه. وأقطع السلطان محمد سنة خمس وتسعين وخمسمائة مدينة واسط لصدقة بن مزيد صاحب البطيحة والحلّة فضمنها منه مهذّب الدولة أحمد بن أبي الخير صاحب البطيحة، وفرّق أولاده في الأعمال وطالبه صدقة بالأموال وحبسه وضمن حمّاد ابن عمّه واسط. وكان مهذّب الدولة يصانع حمّاد ابن عمّه إسماعيل ويداريه، وحمّاد يطمح إلى رياسته، فلمّا هلك كوهوايين نازع حماد مهذّب الدولة ابن عمه، واجتهد مهذّب الدولة في إصلاحه فلم يقدر، فجمع النفيس بن مهذّب الدولة فهرب حمّاد إلى صدقة مستجيشا به، فعاد بالجيش وحاربه مهذّب الدولة(4/685)
وزاده صدقة المدد، فانهزم مهذّب الدولة وهلك أكثر عسكره وقوي طمع حماد.
واستمدّ صدقة فأمدّه بالعساكر مع مقدّم جيشه حميد بن سعيد. وبعث مهذب الدولة لصاحب الجيش بالإقامات والصلات فمال إليه، وأصلح ما بينه وبين صدقة. وبعث مهذّب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فأصلح بينهم وبين حماد ابن عمّهم، وكان ذلك أعوام الثلاثين.
(ولاية نصر بن النفيس والمظفر بن حماد من بعده على البطيحة)
ثم كان انتقاض دبيس بن صدقة أيام المسترشد والسلطان محمود، وكان البرسقي شحنة ببغداد فانتزع السلطان البطيحة من يد دبيس وأقطعها إلى سحان الخادم مولاه، فولّى عليها نصر بن النفيس بن مهذّب الدولة أحمد بن محمد بن أبي الخير. وأمر السلطان محمود البرسقي بالمسير لقتال دبيس فاحتشد وسار لذلك ومعه نصر بن النفيس صاحب البطيحة، وابن عمه المظفر بن حماد بن إسماعيل بن أبي الخير، وبينهما من العداوة المتوارثة ما كان بين سلفهما. والتقى البرسقي ودبيس وهزمه دبيس وجاءت العساكر منهزمة، وبقي نصر بن النفيس وابن عمه حمّاد عند ساباط النهر فقتله، ولحق بالبطيحة فملكها، وبعث إلى دبيس بطاعته، وبعث دبيس إلى الخليفة يصانعه بالطاعة على البعد، وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فقبض على منصور بن صدقة أخي دبيس وولده فكحلهما فاستشاط دبيس وساء أثره في البلاد، وبعث إلى أحيائه بواسط فمنعهم الأتراك الذين بها، فبعث مهلهل بن أبي العسكر مقدّم عساكره في جيش، وكتب إلى المظفّر بن حمّاد صاحب البطيحة بمعاضدته على قتال واسط فتجهز وأصعد، وعاجل مهلهل الحرب قبل وصوله فهزمه أهل واسط وغنموا ما معه، وكان في جملتها بخط دبيس وصار معهم، وساءت آثار دبيس في البلاد، ولم يزل حال البطيحة على ذلك. ثم صار أمرها لبني معروف وأجلاهم الخلفاء عنها
.(4/686)
(اجلاء بني معروف من البطيحة)
كان بنو معروف هؤلاء أمراء بالبطيحة في آخر المائة السادسة، ولا أدري ممن هم. فلما استجمع للخلفاء أمرهم وخرجوا عن استبداد ملوك السلجوقية واقتطعوا الأعمال من أيديهم شيئا فشيئا فصار لهم الحلّد والكوفة وواسط والبصرة وتكريت وهيت والأنبار والحديثة. وجاءت دولة الناصر وبنو معروف على البطيحة وكبيرهم معلّى. قال ابن الأثير وهم قوم من ربيعة، كانت بيوتهم غربي الفرات تحت سوراء وما يتصل بها من البطائح، وكثرت أذاياتهم وإفسادهم في النواحي. وبلغت الشكوى بهم إلى الديوان فأمر الخليفة الناصر مغذا [1] الشريف متولّي بلاد واسط أن يسير إلى قتالهم فاستعدّ لذلك. وجمع من سائر تلك الأعمال، فسار إليهم سنة ست عشرة وستمائة العير من بلاد البطيحة وفشا القتل بينهم. ثم انهزم بنو معروف، وتفرّقوا بين القتل والأسر والغرق، واستبيحت أموالهم وانتظمت البطيحة في أعمال الناصر، ولم يبق بها ملك ولا دولة.
(الخبر عن دولة بني حسنويه من الأكراد القائمين بالدعوة العباسية بالدينور والصامغان ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان حسنويه بن الحسين الكردي من طائفة الأكراد يعرفون بالريزنكاس، وعشيرة منهم يسمّون الدويلتية، وكان مالكا قلعة سرياج وأميرا على البررفكان. وورث الملك عن خاليه ونداد وغانم ابني أحمد بن عليّ، وكان صنفهما من الأكراد يسمون العبابيّة [2] وغلبا على أطراف الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان، وبعض نواحي
__________
[1] معدا: ابن الأثير ج 12 ص 356
[2] هكذا بالأصل وهناك تحريف في الأسماء وفي الكامل ج 8 ص 705: «في هذه السنة- 369- توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج، وكان أميرا على جيش من البرزيكان يسمّون البرزينية، وكان خالاه: ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمّون العيشانية» .(4/687)
أذربيجان إلى حدود شهرزور فملكاها نحوا من خمسين سنة، ولكل واحد منهما ألوف من العساكر، وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وقام مقامه ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنجان من طوائف الأكراد، وسلّموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه وأملاكه.
وتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة فقام ابنه أبو سالم دسيم مكانه بقلعة فتنان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد، واستصفى قلاعه المسمّاة بستان وغانم أفاق وغيرهما [1] . وكان حسنويه حسن السيرة ضابطا لأمره، وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندسة وبنى بالدينور جامعا كذلك، وكان كثير الصدقة للحرمين. ولما ملك بنو بويه البلاد واختصّ ركن الدولة بالريّ وما يليه كان شيعة ومددا على عدوه فكان يرعى ذلك.
ويغضي عن أموره إلى أن وقعت بين ابن مسافر من قوّاد الديلم وكبارهم وقعة هزمه فيها حسنويه، وتحصّن بمكان فحاصره فيه وأضرمه عليه نارا فكاد يهلك. ثم استأمن له فغدر به وامتعض لذلك ركن الدولة وأدركته نغرة العصبية، وبعث وزيره أبا الفضل بن العميد في العساكر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة فنزل همذان وضيّق على حسنويه، ثم مات أبو الفضل فصالحه ابنه أبو الفتح على مال ورجع عنه.
(وفاة حسنويه وولاية ابنه بدر)
ثم توفي حسنويه سنة تسع وستين وثلاثمائة وافترق ولده على عضد الدولة لقتال أخيه محمد وفخر الدولة. وكانوا جماعة أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك. وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته، ثم رغب عنه فسيّر إليه عضد الدولة جيشا وملك قلعته وغيرها من قلاعهم. ولما سار عضد الدولة لقتال أخيه فخر الدولة وملك همذان والريّ وأضافهما إلى أخيه مؤيّد الدولة، ولحق فخر الدولة بقابوس بن وشمكير
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 705: «وتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة، فكان ابنه ابو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان إلى ان ازاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسمّاة قسنان وغانم آباد وغيرهما.»(4/688)
عرّج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي فافتتح نهاوند والدّينور وسرماج وأخذ ما فيها من ذخائره، وكانت جليلة المقدار وملك معها عدّة من قلاع حسنويه ووفد عليه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان، واصطنع من بينهم أبا النجم بدر بن حسنويه وخلع عليه وولّاه على الأكراد وقوّاه بالرجال فضبط ملك النواحي وكفّ عادية الأكراد بها. واستقام أمره فحسده أخواه، وأظهر عاصم وعبد الملك منهم العصيان، وجمعا الأكراد المخالفين وبعث عضد الدولة العساكر فأوقعوا بعاصم وهزموه وجاءوا به أسيرا إلى همذان، ولم يوقف له بعد ذلك على خبر، وذلك سنة سبعين وثلاثمائة وقتل جميع أولاد حسنويه وأقرّ بدرا على عمله.
(حروب بدر بن حسنويه وعساكر مشرف الدولة)
ولما توفي عضد الدولة وملك ابنه صمصام الدولة ثار عليه أخوه مشرف الدولة بفارس، ثم ملك بغداد. وكان فخر الدولة بن ركن الدولة قد عاد من خراسان إلى مملكة أصفهان والريّ بعد وفاة أخيه مؤيد الدولة، ووقع بينه وبين مشرف الدولة فكان مشرف الدولة يحقد عليه. فلما استقرّ ببغداد وانتزعها من يد صمصام الدولة، وكان قائده قراتكين الجهشياري مدلا عليه متحكّما في دولته، وكان ذلك يثقل على مشرف الدولة، جهّزه في العساكر لقتال بدر بن حسنويه يروم إحدى الراحتين، فسار إلى بدر سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ولقيه على وادي قرميسين. وانهزم بدر حتى توارى ولم يتلقوه ونزلوا في خيامه، ثم كرّ بدر فأعجلهم عن الركوب، وفتك فيهم واحتوى على ما معهم. ونجا قراتكين في فلّ إلى جسر النهروان فلحق به المنهزمون، ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل وقويت شوكته واستفحل أمره. ولم يزل ظاهرا عزيزا وقلّد من ديوان الخلافة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أيام السلطان بهاء الدولة ولقّب ناصر الدولة. وكان كثير الصدقات بالحرمين، وكثير الطعام للعرب بالحجاز لخفارة الحاج، وكفّ أصحابه من الأكراد عن إفساد السابلة فعظم محله وسار ذكره.
ابن خلدون م 44 ج 4(4/689)
(مسير ابن حسنويه لحصار بغداد مع أبي جعفر بن هرمز)
كان أبو جعفر الحجّاج بن هرمز نائبا بالعراق عن بهاء الدولة، ثم عزله فدال منه بأبي عليّ بن أبي جعفر أستاذ هرمز، وتلقّب عميد الجيوش فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة، وقاتل عميد الجيوش فهزمه العميد. ثم جرت بينهما حروب سنة ثلاث وستين [1] وثلاثمائة وأقاما على الفتنة والاستنجاد بالعرب من بني عقيل وخفاجة وبني أسد، وبهاء الدولة مشتغل بحرب ابن واصل في البصرة. واتصل ذلك إلى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وكان ابن واصل قد قصد صاحب طريق خراسان وهو قلج، ونزل عليه واجتمعا على فتنة عميد الجيوش. وتوفي قلج هذه السنة فولّى عميد الجيوش مكانه أبا الفتح محمد بن عنّان عدوّ بدر بن حسنويه. وفحل الأكراد المسامي لبدر في الشؤون وهو من الشاذنجان من طوائف الأكراد، وكانت حلوان له فغضب لذلك بدر ومال إلى أبي جعفر، وجمع له الجموع من الأكراد مثل الأمير هندي بن سعدي، وأبي عيسى سادي بن محمد وورام بن محمد وغيرهم. واجتمع له معهم علي بن مزيد الأسدي. وزحفوا جميعا إلى بغداد ونزلوا على فرسخ منها. ولحق أبو الفتح بن عنّان بعميد الجيوش، وأقام معه ببغداد حاميا ومدافعا إلى أن وصل الخبر بهزيمة ابن واصل وظهور بهاء الدولة عليه، فأجفلوا عن بغداد. وسار أبو جعفر إلى حلوان ومعه أبو عيسى، وراسل بهاء الدولة، ثم سار ابن حسنويه إلى ولاية رافع بن معن من بني عقيل يجتمع مع بني المسيب في المقلّد، وعاث فيها لأنه كان آوى أبا الفتح بن عنّان حين أخرجه بدر من حلوان وقرميسين، واستولى عليها فأرسل بدر جيشا إلى أعمال رافع بالجناب ونهبوها وأحرقوها. وسار أبو الفتح بن عنّان إلى عميد الجيوش ببغداد فوعده النصر حتى إذا فرغ بهاء الدولة من شأن ابن واصل وقتله، أمر عميد الجيوش بالمسير إلى بدر بن حسنويه لإعانته على بغداد وإمداده ابن واصل [2] فسار لذلك،
__________
[1] الصحيح ان هذه الحروب وقعت سنة 393 وليس 363.
[2] العبارة مشوشة والمقصود ان بدرا كان عونا لابن واصل وهو عدو بهاء الدولة!(4/690)
ونزل جنديسابور وبعث إليه بدر في الصلح على أن يعطيه ما أنفق على العساكر فحمل إليه ورجع عنه.
(انتقاض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه وحروبهما)
كانت أمّ هلال هذا من الشاذنجان رهط أبي الفتح بن عنّان وأبي الشوك بن مهلهل، واعتزلها أبوه لأوّل ولادته فنشأ مبعدا عن أبيه، واصطفى بدر ابنه الآخر أبا عيسى وأقطع هلالا الصامغان، فأساء مجاورة ابن المضاضي [1] صاحب شهرزور وكان صديقا لبدر فنهاه عن ذلك فلم ينته وبعث ابن المضاضي يتهدّده فبعث إليه أبوه بالوعيد فجمع وقصد ابن المضاضي وحاصره في قلعة شهرزور حتى فتحها، وقتل ابن المضاضي واستباح بيته. فاتسع الخرق بينه وبين أبيه، واستمال أصحاب أبيه بدر، وكان بدر نسيكا فاجتمعوا إلى هلال وزحف لحرب أبيه والتقيا على الدّينور، وانهزم بدر وحمل أسيرا إلى ابنه هلال فردّه في قلعته للعبادة، وأعطاه كفايته بعد أن ملك الحصن الّذي تملكه بما فيه. فلما استقرّ بدر بالقلعة حصّنها وأرسل إلى أبي الفتح بن عنّان وإلى أبي عيسى سادي بن محمد بأسترآباذ [2] وأغراهما بأعمال هلال، فسار أبو الفتح إلى قرميسين وملكها.
وأساء [3] الديلم فاتبعه هلال إليها ووضع السيف في الديلم. وأمكنه ابن رافع من أبي عيسى فعفا عنه وأخذه معه، وأرسل بدر من قلعته يستنجد بهاء الدولة فبعث إليه الوزير فخر الملك في العساكر، وانتهى إلى سابور خواست. واستشار هلال أبا عيسى بن سادي فأشار عليه بطاعة بهاء الدولة وإلّا فالمطاولة وعدم العجلة باللقاء فاتهمه وسار العسكر ليلا فكبسه. وركب فخر الملك في العسكر وثبت، فبعث إليه هلال بأني إنما جئت للطاعة. ولما عاين بدر رسوله طرده وأخبر الوزير أنها خديعة فسرّ بذلك، وانتفت عنه الظنة ببدر، وأمر العساكر بالزحف فلم يكن بأسرع من مجيء
__________
[1] ابن الماضي: ابن الأثير ج 9 ص 214
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل: وراسل أبا الفتح بن عنّاز، وأبا عيسى شاذي بن محمد وهو بأسادآباذ.
[3] ومقتضى السياق واستمال الديلم.(4/691)
هلال أسيرا فطلب منه تسليم القلعة لبدر فأجاب على أن لا يمكن أبوه منه، واستأمنت أمّه ومن معها بالقلعة فأمّنهم الوزير وملك القلعة، وأخذ ما فيها من الأموال يقال أربعون ألف بدرة دنانير، وأربعمائة ألف بدرة دراهم سوى الجواهر والثياب والسلاح، وسلّم الوزير فخر الملك القلعة لبدر وعاد إلى بغداد.
(استيلاء ظاهر بن هلال على شهرزور)
كان بدر بن حسنويه قد نزل عن شهرزور لعميد الجيوش ببغداد، وأنزل بها نوبة، فلمّا كانت سنة أربع وأربعمائة، وكان هلال بن بدر معتقلا سار ابنه ظاهر الى شهرزور، وقاتل عساكر فخر الملك منتصف السنة وملكها من أيديهم. وأرسل إليه الوزير يعاتبه ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه ففعل، وبقيت شهرزور بيده.
(مقتل بدر بن حسنويه وابنه هلال)
ثم سار بدر بن حسنويه أمير الجيل الى الحسن بن مسعود الكردي [1] ليملك عليه بلاده، وحاصره بحصن كوسجة [2] ، وأطال حصاره فغدر أصحاب بدر وأجمعوا قتله. وتولّى ذلك الجورقان من طوائف الأكراد فقتلوه وأجفلوا فدخلوا في طاعة شمس الدولة بن فخر الدولة صاحب همذان وتولّى الحسين بن مسعود تكفين بدر ومواراته في مشهد عليّ. ولما بلغ ظاهر بن هلال مقتل جدّه وكان هاربا منه بنواحي شهرزور، جاء لطلب ملكه، فقاتله شمس الدولة فهزمه وأسره وحبسه بهمذان، واستولى على بلاده، وصار الكرية والشاذنجان من الأكراد في طاعة أبي الشوك [3] .
وكان أبوه هلال بن بدر محبوسا عند سلطان الدولة ببغداد فأطلقه وجهّز معه العساكر ليستعيد بلاده من شمس الدولة، فسار ولقيه شمس الدولة فهزمه وأسره وقتله،
__________
[1] الحسين بن مسعود الكردي وقد مرّ معنا من قبل.
[2] حصن كوسحد: ابن الأثير ج 9 ص 248.
[3] هكذا بالأصل وفي الكامل: «وسار اللّريّة والشاذنجان الى أبي الشوك فدخلوا في طاعته»(4/692)
ورجعت العساكر منهزمة إلى بغداد. وكان في ملك بدر سابورخواست والدّينور وبروجرد ونهاوند وأستراباذ [1] وقطعة من أعمال الأهواز وما بين ذلك من القلاع والولايات. وكان عادلا كثير المعروف عظيم الهمّة. ولما هلك هو وابنه هلال بقي حافده ظاهر محبوسا عند شمس الدولة بهمذان.
(مقتل ظاهر بن هلال واستيلاء أبي الشوك على بلادهم ورياستهم)
كان أبو الفتح محمد بن عنّان [2] أمير الشاذنجان من الأكراد، وكانت بيده حلوان وأقام عليها أميرا وعلى قومه عشرين سنة. وكان يزاحم بدر بن حسنويه وبنيه في الولايات والأعمال بالجيل. وهلك سنة إحدى وأربعمائة وقام مكانه ابنه أبو الشوك، وطلبته العساكر من بغداد فقاتلهم وهزموه، فامتنع بحلوان إلى أن أصلح حاله مع الوزير فخر الملك لمّا قدم العراق بعد عميد الجيوش من قبل بهاء الدولة. ثم إنّ شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه أطلق ظاهر بن هلال بن بدر من محبسه بعد أن استحلفه على الطاعة، وولّاه على قومه وعلى بلاده بالجيل، وأبو الشوك صاحب حلوان والسهل، وبينهما المنافسة القديمة، فجمع ظاهر وحارب أبا الشوك فهزمه وقتل سعدي بن محمد أخاه. ثم جمع ثانية فانهزم أبو الشوك أيضا وامتنع بحلوان وملك ظاهر عامّة البسيط، وأقام بالنهروان. ثم تصالحا وتزوّج ظاهر أخت أبي الشوك فلمّا أمّنه ظاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي ودفنه أصحابه بمقابر بغداد، وملك سائر الأعمال ونزل الدّينور.
ولما استولى علاء الدولة بن كاكويه على همذان سنة أربع عشرة وأربعمائة عند ما هزم عساكر شمس الدولة بن بويه واستبدّ عليه، سار الى الدّينور فملكها من يد أبي الشوك، ثم إلى سابور خواست وسائر تلك الأعمال. وسار في طلب أبي الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة سلطان بغداد وشفع فيه فعاد عنه علاء الدولة. ولمّا زحف الغز إلى
__________
[1] اسادآباذ وقد مرّت معنا من قبل.
[2] هو ابو الفتح محمد بن عنّاز وقد مرّ معنا من قبل.(4/693)
بلاد الريّ سنة عشرين وأربعمائة وملكوا همذان وعاثوا في نواحيها إلى أستراباذ وقرى الدّينور، خرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك وقاتلهم فهزمهم وأسر منهم جماعة. ثم عقد الصلح معهم على إطلاق أسراهم ورجعوا عنه. ثم استولى أبو الشوك سنة ثلاثين وأربعمائة على قرميسين من أعمال الجيل، وقبض على صاحبها من الأكراد الترهية وسار اخوه إلى قلعة أرمينية فاعتصم بها من أبي الشوك، وكانت لهم مدينة خولنجان، فبعث إليها عسكرا فلم يظفروا وعادوا عنها. ثم جهّز آخر وبعثهم ليومهم يسابقون جندهم، ومرّوا بأرمينية فنهبوا ربضها، وقاتلوا من ظفروا به، وانتهوا إلى خولنجان فكبسوها على حين غفلة واستأمن إليهم أهلها وتحصّن الحامية بقلعة وسط البلد فحاصروها وملكوها عليهم في ذي القعدة من السنة.
(الفتنة بين أبي الفتح بن أبي الشوك وعمه مهلهل)
كان أبو الفتح بن أبي الشوك نائبا عن أبيه بالدّينور، واستفحل بها وملك قلاعا عدة، وحمى أعماله من الغزّ فأعجب بنفسه ورأى التفوّق على أبيه. وسار في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة إلى قلعة بكورا [1] من قلاع الأكراد وصاحبها غائب وبها زوجته فراسلت مهلهلا لتسلم له القلعة نكاية لأبي الفتح، وكانت حلّة مهلهل في نواحي الصّامغان فانتظر حتى عاد أبو الفتح عن القلعة وجمعا العساكر لحصارها، وسار إليها أبو الفتح فوري له عن قصده، ورجع فأتبعه أبو الفتح فقاتله عمّه مهلهل، ثم ظفر به وأسره وحبسه. وجمع أبو الشوك وقصد شهرزور وحاصرها. ثم قصد بلاد مهلهل وطال الأمر ولجّ مهلهل في شأنه وأغرى علاء الدولة بن كاكويه ببلد أبي الفتح فملك عليه الدّينور وقرميسين سنة اثنتين وثلاثين.
ثم سار أبو الشوك إلى دقوقا وقدم إليها ابنه سعدي فحاصرها وجاء على أثره فنقبوا سورها وملكها عنوة، ونهب بعض البلد وأخذت أسلحة الأكراد وثيابهم، وأقام أبو الشوك بها ليله. ثم بلغه أنّ أخاه سرخاب بن محمد قد أغار على مواضع من ولايته فخاف على البندنجين. ورجع وبعث إلى جلال الدولة سلطان بغداد يستنجده،
__________
[1] قلعة بلوار: ابن الأثير ج 9 ص 470.(4/694)
فبعث إليه العساكر وأقاموا عنده، وسار مهلهل إلى علاء الدولة بن كاكويه يستصرخه على أخيه أبي الشوك على الاعتصام بقلعة السّيروان. ثم بعث الى علاء الدولة يعرض له بالرجوع إلى جلال الدولة صاحب بغداد فصالحه على أن يكون الدّينور لعلاء الدولة ورجع عنه. ثم سار أبو الشوك إلى شهرزور فحاصرها وعاث في سوادها، وحصر قلعة بيزاز شاه فدافعه أبو القاسم بن عيّاض عنها، ووعده بخلاص ابنه أبي الفتح من أخيه مهلهل، فسار من شهرزور إلى نواحي سند من أعمال أبي الشوك، ولما بعث إليه ابن عيّاض بالصلح مع أخيه أبي الشوك امتنع فسار أبو الشوك من حلوان إلى الصّامغان. ونهب ولاية مهلهل كلّها وأجفل مهلهل بين يديه. ثم تردّد الناس بينهما في الصلح وعاد عنه أبو الشوك.
(استيلاء نيال أخي طغرلبك على ولاية أبي الشوك)
ثم سار إبراهيم نيّال [1] بأمر أخيه طغرلبك من كرمان إلى همذان فملكها، ولحق كرساشف [2] بن علاء الدولة بالأكراد الجورقان [3] وكان أبو الشوك حينئذ بالدّينور ففارقها إلى قرميسين وملكها نيال. وسار في اتباعه إلى قرميسين ففارقها إلى حلوان وترك كل من في عسكره من الديلم والأكراد الشاذنجان. وسار إليها نيال وملكها عليهم عنوة واستباحها وفتك في العسكر ولحق فلّهم بأبي الشوك في حلوان فقدّم أهله وذخيرته إلى قلعة السّيروان وأقام. ثم سار نيال إلى الصيمرة فملكها ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لها في الجورقان فانهزموا. وكان عندهم كرساشف بن علاء الدولة فلحق ببلد شهاب الدولة وشرد أهلها في البلاد، ووصل إليها نيال آخر شعبان فملكها وأحرقها، وأحرق دار أبي الشوك. وسارت طائفة من الغزّ في أثر جماعة منهم فأدركوهم بخانقين فغنموا ما معهم، وانتشر الغزّ في تلك النواحي. وتراسل أبو الشوك وأخوه مهلهل وكان ابنه أبو الفتح قد مات في سجن مهلهل. فبعث مهلهل
__________
[1] إبراهيم ينال: ابن الأثير ج 9 ص 506.
[2] كرشاسف: المرجع السابق.
[3] الجوزقان: المرجع السابق.(4/695)
ابنه وحلف له أنه لم يقتله، وإن ثبت فاقتل أبا الغنائم بثأره فقبل ورضي، واصطلحا على دفاع نيال عن أنفسهما. وكان أبو الشوك قد أخذ سرخاب أخوه ما عدا قلعة دور بلونه، وتقاطعا لذلك، فسار سرخاب إلى البندنجين وبها سعدي بن أبي الشوك، ففارقها سعدي إلى أبلة ونهبها سرخاب.
(وفاة أبي الشوك وقيام أخيه مهلهل مقامه)
ثم توفي أبو الشوك فارس بن محمد سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقلعة السيروان من حلوان وقام مقامه أخوه مهلهل واجتمع إليه الأكراد مائلين إليه عن ابن أخيه سعدي بن أبي الشوك فلحق سعدي بنيال أخي طغرلبك يستدعيه لملك البلاد. ولما استولى مهلهل بعد موت أخيه أبي الشوك وكان نيال عند ما غدا من حلوان ولّى على قرميسين بدر بن ظاهر بن هلال بن بدر بن حسنويه، فسار إليها مهلهل سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فهرب بدر عنها وملكها وبعث ابنه محمدا إلى الدّينور وبها عساكر نيال فهزمهم وملكها.
(استيلاء سعدي بن أبي الشوك على أعمالهم بدعوة السلجوقية)
ولما ملك مهلهل بعد أخيه أبي الشوك تزوّج بأمّ سعدي وأهله وأساء معاملة الأكراد الشاذنجان فراسل سعدي نيال. وسار إليه بالشاذنجان فبعث معهم عسكرا من الغزّ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة فملك حلوان وخطب فيها لإبراهيم نيال. ورجع إلى مايدشت، فخالفه عمه مهلهل إلى حلوان فملكها، وقطع منها خطبة نيال فعاد سعدي إلى عمّه سرخاب فكبسه ونهب حلله وسيّر إلى البندنجين جمعا فقبضوا على نائب سرخاب ونهبوها، وصعد سرخاب الى قلعة دور بلونة [1] ، وعاد سعدي إلى قرميسين، وبعث مهلهل ابنه بدرا إلى حلوان فملكها، فجمع سعدي وأكثر من الغزّ، وسار فملك
__________
[1] دزديلوية: ابن الأثير ج 9 ص 532(4/696)
حلوان، وتقدّم إلى عمّه مهلهل فلحق بتيرازشاه [1] من قلاع شهرزور واستباح الغزّ سائر تلك النواحي. وحاصر سعدي تيراز شاه ومعه أحمد بن ظاهر قائد نيال، ونهب الغزّ حلوان وأراد مهلهل أن يسير إلى ابن أخيه فتكاسلوا، ثم قطع سعدي البندنجين لأبي الفتح بن دارم على أن يحاصر معه عمّه سرخاب بقلعة دور بلونة، فساروا إليها وكانت ضيّقة المسلك، فدخلوا المضيق فلم يخلصوا، وأسر سعدي وأبو الفتح وغيرهما من الأعيان، ورجع الغزّ عن تلك النواحي بعد أن كانوا ملكوها.
(نكبة سرخاب واستيلاء نيال على أعمالهم كلها)
ثم إنّ سرخاب لما قبض سعدي ابن أخيه أبي الشوك غاضبه ابنه أبو العسكر واعتزله، وكان سرخاب قد أساء السيرة في الأكراد فاجتمعوا وقبضوا عليه وحملوه إلى نيال، فاقتلع عينه وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فأطلقه أبو العسكر ابنه واستحلفه على السعي في خلاص أبيه سرخاب، فانطلق سعدي، واجتمع عليه كثير من الأكراد، وسار إلى نيال فاستوحش منه، وسار إلى الدسكرة وكاتب أبا كاليجار بالطاعة. ثم سار إبراهيم نيال إلى قلعة كلجان وامتنعت عليهم. ثم حاصروا قلعة دور بلونة فتقدّمت طائفة إلى البندنجين فنهبوها، وسار إبراهيم فيها بالنهب والقتل والعقوبة في المصادرة حتى يموتوا.
وتقدّمت طائفة إلى الفتح فهرب وترك حلله، فعرجوا عليها واتبعوه فقاتلهم وظفر بهم، وبعث مستنجدا فلم ينجدوه، فعبر وأمر بنزول حلله إلى جانب الغزّ. وكان سعدي بن أبي الشوك نازلا على فرسخين من باجس فكبسه الغز فهرب وترك حلله وغنمها الغزّ ونهبوا تلك الأعمال والدسكرة والهارونية وقصر سابور، وتقسّم أهلها بين القتل والغرق والهلاك بالبرد. ووصل سعدي الى دبال ولحق منها بأبي الأغرّ دبيس بن مزيد، فأقام عنده وحاصر نيال قلعة السّيروان وضيّق عليها وضربت سراياه في البلاد وانتهت إلى قرب تكريت. ثم استأمن أهل قلعة السّيروان إلى نيال فلمكها وأخذ منها ذخيرة سعدي، وولّى عليها من أصحابه. ثم مات صاحب قلعة السّيروان وبعث
__________
[1] قلعة تيران شاه: ابن الأثير ج 9 ص 533.(4/697)
وزيره إلى شهرزور فملكها، وهرب مهلهل وأبعد في الهرب، وحاصر عسكر نيال قلعة هوازشاه [1] .
ثم راسل مهلهل أهل شهرزور بالتوثّب بالغزّ الذين عندهم فقتلوهم ورجع قائد نيال ففتك فيهم. ثم سار الغزّ المقيمون بالبندنجين إلى نهر سليلي [2] ، وقاتلوا أبا دلف القاسم بن محمد الجاوانيّ فهزمهم وظفر بهم وغنم ما معهم. وسار في ذي الحجّة جمع من الغزّ إلى بلد عليّ بن القاسم فعاثوا فيها، فأخذ عليهم المضيق فأوقع بهم واستردّ ما غنموه. ولم يزل أحمد بن ظاهر قائد نيال محاصرا قلعة تيراز شاه في شهرزور إلى أن دخلت سنة أربعين وأربعمائة، ووقع الموتان في عسكره واستمدّ نيال فلم يمدّه، فرحل عنها إلى مايدشير [3] ، وبلغ ذلك مهلهلا فبعث أحد أولاده إلى شهرزور فملكها، وأجفل الغزّ من السّيروان، وسارت عساكر بغداد إلى حلوان وحاصروا قلعتها ولم يظفروا فنهبوا مخلّف الغزّ وخرّبوا الأعمال، وسار مهلهل إلى بغداد فأنزل أهله وأمواله بها، وأنزل حلله على ستة فراسخ منها، فسار عسكر من بغداد إلى البندنجين وقاتلوا الغزّ الذين بها فهزمهم الغزّ وقتلوهم جميعا.
(بقية أخبار مهلهل وابن أبي الشوك وانقراض أمرهم)
ثم سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة فأحسن إليه وأقرّه على أقطاعه السّيروان ودقوقا وشهرزور والصّامغان، وسعى في أخيه سرخاب وكان محبوسا عنده فأطلقه وسوّغه قلعة الماهكي، وكانت له فسار إليها، وأقطع سعدي بن أبي الشوك الرادندبين [4] ثم بعثه سنة ست وأربعين في عسكر من الغزّ إلى نواحي العراق، فنزل بمايدشت وسار منها إلى أبي دلف الجاوانيّ، فهرب بين يديه وأدركه فنهب أمواله وفلت بنفسه. وكان خالد ابن عمه مع الوزير ومطر ابني
__________
[1] هي قلعة تيران شاه. وهي أيضا مدينة في نواحي شهرزور (معجم البلدان) .
[2] السّليل: ابن الأثير ج 9 ص 540.
[3] مايدشت: ابن الأثير ج 9 ص 545. وهي قلعة وبلد في ضواحي خانقين بالعراق (معجم البلدان) .
[4] الراوندين: ابن الأثير ج 9 ص 570. ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان ولعلها الراوندان وهي قلعة حصينة وكورة طيبة معشبة مشجرة من نواحي حلب. (معجم البلدان) .(4/698)
عليّ بن معن العقيليّ، فوفد أولادهم على سعدي يشكون مهلهلا فوعدهم النصر، ورجعهم من عنده فاعترضهم أصحاب مهلهل فأسرهم بنو عقيل ففداهم مهلهل وأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم، فساروا إلى سعدي وهو بسامرّا. وأتبع عمه مهلهلا وظفر به وأسره وأسر مالكا ابنه، وردّ غنائم بني عقيل ورجع إلى حلوان.
واضطربت بغداد واجتمعت عساكر الملك الرحيم ومعهم أبو الأغرّ دبيس بن مزيد يسعى عند سعدي في أبيه. وكان ابن سعدي عنه السلطان طغرلبك رهينة فردّه على أبيه عوضا عن مهلهل، وأمره بإطلاق مهلهل، فامتعض لذلك سعدي وعصى على طغرلبك. وسار إلى حلوان فامتنعت عليه، وأقام يتردّد بين رشقباد والبردان [1] .
وأظهر مخالفة طغرلبك، ورجع إلى طاعة الملك الرحيم، فبعث طغرلبك العساكر مع بدران بن مهلهل إلى شهرزور، ووجد إبراهيم بن إسحاق من قوّاده فأوقعوا به، ومضى إلى قلعة رشقباد.
وسار بدر بن مهلهل الى شهرزور ورجع إبراهيم بن إسحاق إلى حلوان فأقام بها. ثم نهض سنة ست وأربعين إلى الدسكرة فنهبها واستباحها، وسار إلى رشقباد وهي قلعة سعدي وفيها ذخيرته، وفي القلعة البردان فامتنعت عليه فخرّب أعماله ووهن الديلم في كل ناحية. وبعث طغرلبك أبا عليّ بن أبي كاليجار صاحب البصرة في عسكر من الغزّ إلى الأهواز فملكها، ونهبها الغز ولقي الناس منهم عيثا بالنهب والمصادرة، وأحاطت دعوة طغرلبك ببغداد من كل ناحية. وانقرض الأكراد من أعمالهم واندرجوا في جملة السلطان طغرلبك. (وتلك الأيام نداولها بين الناس، والله يؤتي ملكه من يشاء والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين) لا رادّ لأمره.
(تم طبع الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس أوّله الخبر عن دولة السلجوقية)
__________
[1] قلعة روشنقباذ والبردان: ابن الأثير ج 9 ص 595. «والبردان مواضع كثيرة منها بردان من قرى بغداد على سبعة فراسخ منها قرب صريفين، وهي من نواحي دجيل. وبرده بالفارسية الرقيق المجلوب في أول إخراجه من بلاد الكفر ولعل هذه القرية كانت منزل الرقيق فسميت بذلك، لانهم يلحقون الدال والألف والنون في ما يجعلونهم وعاء للشيء» . (معجم البلدان) .(4/699)
[المجلد الخامس]
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
[تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ]
الخبر عن دولة السلجوقية من الترك المستولين على ممالك الإسلام ودوله بالمشرق كلها الى حدود مصر مستبدّين على الخليفة ببغداد من خلافة القائم الى هذا الزمان وما كان لهم من الملك والسلطان في أقطار العالم وكيف فعلوا بالعلماء وحجروهم وما تفرّع عن دولتهم من الدول
قد تقدم لنا ذكر أنساب الأمم والكلام في أنساب الترك وأنهم من ولد كومر بن يافث أحد السبعة المذكورين من بني يافث في التوراة وهم ماواق وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش [1] وعدّ ابن إسحاق منهم ستة ولم يذكر ماذاي وفي التوراة أيضا انّ ولد كومر ثلاثة توغرما وأشكان وريعات ووقع في الإسرائيليات أنّ الافرنج من ريعات والصقالبة من أشكان والخزر من توغرما والصحيح عند نسّابة الإسرائيليين أنّ الخزر هم التركمان وشعوب
__________
[1] قوله: وهم ماواق وماذاي ... إلخ. وكذا في النسخ التي بأيدينا ووقع في أول الجزء الثاني ما يخالفه. وقد ذكرنا أسماءهم هناك. في أول الجزء الثاني، كما هي مذكورة في التوراة.(5/3)
الترك كلهم من ولد كومر ولم يذكر من أيّ ولده الثلاثة والظاهر أنهم من توغرما وزعم بعض النسابة أنهم من طيراش بن يافث ونسبهم ابن سعيد الى ترك بن عامور بن سويل والظاهر أنه غلط وأنّ غامور تصحيف كما مرّ وأمّا سويل فلم يذكر أحد أنه من بني يافث وقد مرّ ذكر ذلك كله (والترك أجناس) كثيرة وشعوب فمنهم الروس والإعلان ويقال إبلان والخفشاخ وهم القفجق والهياطلة والخلج والغزّ الذين منهم السلجوقية والخطا وكانوا بأرض طمعاج ويمك والقور وتزكس واركس والططر ويقال الطغرغر وأنكر وهم مجاورون للروم وأعلم أنّ هؤلاء الترك أعظم أمم العالم وليس في أجناس البشر أكثر منهم ومن العرب في جنوب المعمور وهؤلاء في شماله قد ملكوا عامة الأقاليم الثلاثة من الخامس والسادس والسابع في نصف طوله مما يلي المشرق فأوّل مواطنهم من الشرق على البحر بلاد الصين وما فوقها جنوبا الى الهنك وما تحتها شمالا الى سدّ يأجوج ومأجوج وقد قيل انهم من شعوب الترك وآخر مواطنهم من جهة الغرب بلاد الصقالبة المجاورين للافرنج مما يلي رومة الى خليج القسطنطينية وأوّل مواطنهم من جهة الجنوب بلاد القور المجاورة للنهر ثم خراسان وآذربيجان وخليج القسطنطينية وآخرها من الشمال بلاد فرغانة والشاش وما وراءها من البلاد الشمالية المجهولة لبعدها وما بين هذه الحدود من بلاد غزنة ونهر جيحون وما بحفافيه من البلاد وخوارزم ومفاوز الصين وبلاد القفجق والروس حفافي خليج القسطنطينيّة من جهة الشمال الغربي قد اعتمر لهذه البسائط منهم أمم لا يحصيهم الا خالقهم رحّالة متنقلون فيها مستنجعين مساقط الغيث في نواحيه يسكنون الخيام المتخذة من اللبود لشدّة البرد في بلادهم فقروا عليها ومرّ بديار بكر [1] وخرج اليه صاحبها نصر بن مروان وحمل مائة ألف دينار لنفقته فلما سمع أنه قبضها من الرعايا ردّها عليه ثم مرّ بناهرو وأمنها وأطاف على السور وجعل يمسحه بيده ويمرّ بها على خدوده تبركا بثغر المسلمين ثم مرّ بالرها وحاصرها فامتنعت عليه ثم سار الى حلب فبعث اليه صاحبها محمود ريعول القائد الّذي عنده يخبر بطاعته وخطبته ويستعفيه من الخروج اليه منكرا منه الأذى ويحيّ على خير العمل فقال لا بدّ من خروجه واشتدّ الحصار فخرج محمود ليلا مع أمّه بنت وثاى الهني متطارحا على السلطان فأكرم مقدمها وخلع عليه وأعاده الى بلده.
__________
[1] قوله ومر بديار بكر ... إلخ. غير ملتئم مع ما قبله. فلعل المصنف ترك هنا بياضا، ولم يلتفت اليه الناسخ كما يظهر لمن تأمل النص.(5/4)
غزاة السلطان آلب أرسلان الى خلاط واسر ملك الروم
كان ملك الروم بالقسطنطينية لهذا العهد اسمه أرمانوس وكان كثيرا ما يخيف ثغور المسلمين وتوجه في سنة اثنتين وستين في عساكر كثيرة الى الشام ونزل على مدينة منبج واستباحها وجمع له محمود بن صالح بن مرداس الكلابي وابن حسان الطائي قومهما ومن اليهم من العرب فهزمتهم الروم ثم رجع أرمانوس الى القسطنطينية واحتشد الروم والفرنج والروس والكرخ ومن يليهم من العرب والطوائف وخرج الى بلاد كرد من أعمال خلاط وكان السلطان آلب أرسلان بمدينة حوف من أذربيجان منقلبا من حلب فبعث بأهله وأثقاله الى همدان مع وزير نظام الملك وسار هو في خمسة عشر ألف مقاتل وتوجه نحوهم متهيئا ولقيت مقدمته الروس فهزموهم وجاءوا بملكهم أسيرا الى السلطان فجدعه وبعث اسلابهم الى نظام الملك ثم توجّه الى سمرقند ففارقها ألتكير وأرسل في الصلح ويعتذر عن تومق فصالحه ملك شاه وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين مكين الى خراسان ثم الى الريّ.
(فتنة قاروت بك صاحب كرمان ومقتله)
كان بكرمان قاروت [1] بك أخو السلطان البارسلان أميرا عليها فلما بلغه وفاة أخيه سار الى الريّ لطلب الملك فسبقه اليها السلطان ملك شاه ونظام الملك ومعهما مسلم بن قريش ومنصور بن دبيس وأمراء الأكراد والتقوا على نهرمان فانهزم قاروت بك وجيء به الى أمام سعد الدولة كوهراس [2] فقتله خنقا وأمر كرمان بسير بنيه وبعث اليهم بالخلع وأقطع العرب والأكراد مجازاة لما أبلوا في الحرب وقد كان السلطان البارسلان شافعا فيه على الخليفة فلقيهم خبر وفاة البارسلان في طريقهم فرّوا الى ملك شاه وسبق اليه مسلم بطاعته وأمّا بهاء الدولة منصور بن دبيس فانّ أباه أرسله بالمال الى ملك شاه فلقيه سائرا للحرب فشهدها معه ثم توفي أياز أخو السلطان ملك شاه ببلخ سنة خمس وستين فكفله ابنه ملك شاه الى سنة سبع وستين وتوفي القائم منتصف شعبان منها لخمس وأربعين سنة من خلافته ولم يكن له يومئذ ولد وانما كان له حافد وهو المقتدي عبد الله بن محمد وكان أبوه محمد بن القائم ولي عهده
__________
[1] كذا، واسمه في الكامل: قاروت بك ج 9 ص 645.
[2] كوهراس هو كوهرابين، كما في نسخة أخرى أو كوهرائين كما في الكامل لابن الأثير.(5/5)
وكان يلقب ذخيرة الدين ويكنى ابا العباس وتوفي سنة [1] وعهد القائم لحافده فلما توفي اجتمع أهل الدولة وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقيب النقباء طراد وقاضي القضاة الدامغانيّ فبايعوه بالخلافة لعهد جدّه اليه بذلك وأقرّ فخر الدولة بن جهير على الوزارة وبعث ابنه عميد الدولة الى السلطان ملك شاه لأخذ بيعته والله الموفق للصواب.
استيلاء السلجوقية على دمشق وحصارهم مصر ثم استيلاء تتش ابن السلطان آلب أرسلان على دمشق
قد تقدم لنا ملك انسز [2] الرملة وبيت المقدس وحصاره دمشق سنة احدى وستين ثم عاد عنها وجعل يتعاهد نواحيها بالعيث والإفساد كل سنة ثم سار اليها في رمضان سنة سبع وستين وحاضرها ثم عاد عنها وهرب منها أميرها من قبل المستنصر العلويّ صاحب مصر المعلى بن حيدرة لأنه كثر عسفه بالجند والرعية وظلمه فثاروا به فهرب الى بانياس ثم الى صور ثم الى مصر فحبس ومات بها محبوسا واجتمعت المصامدة بدمشق وولي عليهم أنصار بن يحيى المصمودي ويلقب نصير الدولة وغلت الأقوات عندهم واضطربوا فعاد اليها انسز في شعبان سنة ثمان وستين فاستأمنوا اليه وعوض انتصارا منها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل ودخلها في ذي القعدة وخطب بها للمقتدي ومنع من النداء بحيّ على خير العمل وتغلب على كثير من مدن الشام ثم سار سنة تسع وستين الى مصر وحاصرها وضيق عليها واستنجد المنتصر بالبوادي من نواحيها فوعدوه بالنصر وخرج بدر الجمالي في العساكر التي كانت بالقاهرة وجاء أهل البلاد لميعادهم فانهزم أنسز وعساكره ونجا الى بيت المقدس فوجدهم قد [3] بمخلفه فتحصنوا منه بالمعاقل فافتتحها عليهم عنوة واستباحها حتى قتلهم في المسجد وقد تقدم ضبط هذا الاسم وأنه عند أهل الشأم انسيس والصحيح انسز وهو اسم تركي ثمّ انّ السلطان ملك شاه أقطع أخاه تتش بن آلب أرسلان بلاد الشأم وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فقصد حلب أولا وحاصرها ومعه جموع من
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي لدينا على سنة وفاته.
[2] اسمه في الكامل: انسز، ج 10 ص 99.
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 103، وأتى البيت المقدس فرأى أهله قد قحوا على أصحابه ومخلفيه، وحصروهم في محراب داود عليه السلام.(5/6)
التركمان وكان بدر الجمالي المستولي على مصر قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها أنسز فبعث الى تتش وهو على حلب يستنجده فسار اليه وأخرت عساكر مصر عنه منهزمين ولما وصل الى دمشق قعد انسز على لقائه وانتظر قدومه فلقيه عند السور وعاتبه على ذلك فتساهل في العذر فقتله لوقته وملك البلد واستولى على الشام أجمع كما سيأتي وكان يلقب تاج الدولة ثم سار في سنة اثنتين وسبعين الى حلب فحاصرها أياما وأفرج عنها وملك مراغة والبيرة وعاد الى دمشق وخالفه مسلم بن قريش الى حلب فملكها كما تقدم في أخباره وضمنها للسلطان ملك شاه فولاه إياها وسار مسلم بن قريش فحاصرها آخر سنة أربع وسبعين ثم أفرج عنها فخرج تتش وقصد طرسوس من الساحل فافتتحها ورجع [1] ثم حاصرها مسلم ثانية سنة تسع وسبعين وبلغه أن تاج الدولة تتش سار الى بلاد الروم غازيا فخالفه الى دمشق وحاصرها معه العرب والأكراد وبعث اليه العلويّ صاحب مصر بعده بالمدد وبلغ الخبر الى تتش فكرّ راجعا وسبقه الى دمشق فحاصرها أياما ثم خرج اليه تتش في جموعه فهزمه واضطرب أمره ووصله الخبر بانتقاض أهل حرّان فرحل من مرج الصّفر راجعا الى بلاده ثم سار أمير الجيوش من مصر في العساكر الى دمشق سنة ثمان وسبعين وحاصرها فامتنعت عليه ورجع فلحقوا بأخيه تكش في [2] فقوي به وأظهر العصيان واستولى على مروالرّوذ ومره الساهجان وغيرهما وسار الى نيسابور طامعا في ملك خراسان وبلغ الخبر الى السلطان فسبقه الى نيسابور فرجع تتش وتحصن بترمذ وحاصره السلطان حتى سأل الصلح وأطلق من كان في أسره من عسكر السلطان ونزل عن ترمذ وخرج اليه فأكرمه ثم عاود العصيان سنة سبع وسبعين [3] وملك مروالرّوذ ووصل قريبا من سرخس وحاصر قلعة هناك لمسعود ابن الأمير فاخر وتحيل أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام وهو بنيسابور على ملطفة وضعوها على شبه خط نظام الملك يخاطب فيها صاحب القلعة بأنه واصل في ركاب السلطان ملك شاه وأنه مصالح للقلعة وتعرّض حاملها لأهل المعسكر حتى أخذوا كتابه بعد الضرب والعرض على القتل وحدّثهم بمثل ما في الصحيفة وانّ السلطان وعساكره في الريّ فأجفلوا لوقتهم الى قلعة
__________
[1] وكذا في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 145: وفي هذه السنة (478) في ربيع الأول وصل أمير الجيوش في عساكر مصر الى الشام فحصر دمشق وبها صاحبها تاج الدولة تتش فضيّق عليه، وقاتله فلم يظفر منها بشيء، فرحل عنها عائدا الى مصر.
[2] كذا بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي لدينا على اسم الموقع الّذي التقوا فيه.
[3] كذا بالأصل ويظهر أن تنسيق العبارات والحوادث غير وطرد. وان خطأ وقع أثناء النسخ لأن عصيان تكش على أخيه السلطان ملك شاه كان سنة 477 ومسير أمير الجيوش من مصر الى دمشق وقع سنة 478.(5/7)
ربح وخرج أهل الحصن فأخذوا ما في العسكر وجاء السلطان بعد ثلاثة أشهر فحاصره في قلعته حتى افتتحها وحده ودفعه الى ابنه أحمد فتسلمه وحبسه فخرجا من يمينه معه.
(سفارة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن الخليفة)
كان الخليفة المقتدي وكان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث يسيء معاملة الخليفة فبعث المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي الى السلطان ملك شاه وزيره نظام الملك بأصفهان شاكيا من العميد فسار الشيخ لذلك ومعه الإمام أبو بكر الشاشي وغيره من الأعيان ورأى الناس عجبا في البلاد التي يمرّ بها من إقبال الخلق عليه وازدحامهم على محفته يتمسحون بها ويلثمون أذيالها وينشرون موجودهم عليها من الدراهم والدنانير لأهلها والمصنوعات لأهل الصنائع والبضائع للتجار والشيخ في ذلك يبكي وينتحب ولما حضر عند السلطان أظهر المحرمة وأجابه الى جميع ما طلبه ورفعت يد العميد عن كل ما يتعلق بالخليفة وحضر الشيخ مجلس نظام الملك فجرت بينه وبين إمام الحرمين مناظرة خبرها معروف.
اتصال بني جهير بالسلطان ملك شاه ومسير فخر الدولة لفتح ديار بكر
كان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير المقتدي قد عزل سنة احدى وسبعين على يد نظام الملك ولحق به ابنه عميد الدولة واسترضاه فرضي نظام الملك وشفع الى الخليفة فاعتمد عميد الدولة دون أبيه كما تقدم في أخبار الخلفاء ثم أرسل المقتدي سنة أربع وسبعين فخر الدولة الى ملك شاه يخطب له ابنته فسار الى أصبهان وعقد له نكاحها على خمسين ألف دينار معجلة وعاد الى بغداد ثم عزل المقتدي ابنه عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين وكانوا قد علقوا بخطة من نظام الملك فبعث عن نفسه وعن ملك شاه يطلب حضور بني جهير عندهم فساروا بأهليهم فعظمت حظوظهم عند السلطان وعقد لفخر الدولة على ديار بكر وبعث معه العساكر لفتحها من يد بني مروان وأذن له في اتخاذ الآلة وأن يخطب لنفسه ويكتب اسمه على السّكة فسار في العساكر السلطانيّة.
(استيلاء ابن جهير على الموصل)
ولما سار فخر الدولة ابن جهير لفتح ديار بكر استنجد ابن مروان مسلم بن قريش وشرط له(5/8)
أمرا وتحالفا على ذلك واجتمعا لحرب ابن جهير وبعث السلطان الأمير ارتق بن أكسك في العساكر مددا لابن جهير فجنح ابن جهير الى الصلح وبادر أرتق الى القتال فهزم العرب والأكراد وغنم معسكرهم ونجا مسلم بن قريش الى آمد وأحاطت به العسكر فلما اشتدّ مخنقه راسل الأمير أرتق في الخروج على مال بذله له فقبله وكانت له حراسة الطريق فخرج الى الرقة وسار ابن جهير الى ميافارقين وفارقه منصور بن مزيد وابنه صدقة فعاد منها الى خلاط ولما بلغ السلطان انحصار مسلم في آمد بعث عميد الدولة في جيش كثيف الى الموصل ومعه آقسنقر قسيم الدولة الّذي أقطعه بعد ذلك حلب وساروا الى الموصل فلقيهم أرتق ورجع معهم ولما نزلوا على الموصل بعث عميد الدولة الى أهلها بالترغيب والترهيب فأذعنوا واستولى عليها وجاء السلطان في عساكره الى بلاد مسلم بن قريش وقد خلص من الحصار وهو مقيم قبالة الرحبة فبعث اليه مؤيد الكتاب ولا طف السلطان واسترضاه ووفد اليه بالقوارح وردّه السلطان الى أعماله وعاد لحرب أخيه تتش الّذي ذكرناه آنفا.
فتح سليمان بن قطلمش انطاكية والخبر عن مقتله ومقتل مسلم ابن قريش واستيلاء تتش على حلب
كان سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق قد ملك قرسة واقتصروا أعمالها من بلاد الروم الى الشأم وكانت انطاكية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وكان ملكها لعهده الفردروس فأساء السيرة الى جنده ورعاياه وتنكر لابنه وحبسه فداخل الشحنة في تمكين سلمان من البلد فاستدعوه سنة سبع وسبعين فركب إليها البحر وخرج الى البرّ في أقرب السواحل اليها في ثلاثمائة ألف فارس ورجل كثير وسار في جبال واوعار فلما انتهى الى السور وأمكنه الشحنة من تسلم السور دخل البلد وقاتل أهلها فهزمهم وقتل كثيرا منهم ثم عفا عنهم وملك القلعة وغنم من أموالهم ما لا يحصى وأحسن الى أهلها وأمر لهم بعمارة ما خرب وأرسل الى السلطان ملك شاه بالفتح ثم بعث اليه مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمل اليه الفردروس ملك انطاكية من المال ويخوفه معصية السلطان فأجابه بتقرير الطاعة للسلطان وبأنّ الجزية لا يعطيها مسلم فسار مسلم ونهب نواحي انطاكية فنهب سليمان نواحي حلب ثم جمع سليمان العرب والتركمان وسار لنواحي انطاكية ومعه جماهير التركمان وجمع سليمان كذلك والتقيا آخر صفر سنة ثمان وسبعين وانحاز جقّ الى سليمان فانهزمت العرب وقتل مسلم وسار سليمان بن قطلمش الى حلب وحاصرها فامتنعت عليه وأرسل اليه ابن الحثيثي(5/9)
العباسي كبير حلب بالأموال وطالبه أن يمهل حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودس الى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعيه لملكها فجاء لذلك ومعه أرسوس أكسك وكان خائفا على نفسه من السلطان ملك شاه لفعلته في أمر فاستجار بتتش وأقطعه المورس وسار معه لهذه الحرب وبادر سليمان بن قطلمش الى اعتراضهم وهم على تعبية وأبلى أرتق في هذه الحروب وانهزم سليمان وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره وبعث الى ابن الحثيثي العباسي فيما استدعاه اليه فاستمهله الى مشورة السلطان ملك شاه وأغلظ في القول فغضب تتش وداخله بعض أهل البلد فتسوّرها وملكها واستجار ابن الحثيثي بالأمير أرتق فأجاره وسمع له.
(استيلاء ابن جهير على ديار بكر)
ثم بعث ابن جهير سنة ثمان وسبعين ابنه زعيم الرؤساء ابا القاسم الى حصار آمد ومعه جناح الدولة اسلار فحاصرها واقتلع شجرها وضيق عليها حتى جهدهم الجوع وغدر بعض العامة في ناحية من سورها ونادى بشعار السلطان واجتمع اليه العامة لما كانوا يلقون من عسف العمال النصارى فبادر زعيم الرؤساء الى البلد وملكها وذلك في المحرّم وكان أبوه فخر الدولة محاصرا لميافارقين ووصل اليه سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد بمدد العساكر فاشتدّ الحصار وسقطت من السور ثلمة في سادس جمادى فنادوا بشعار السلطان ومنعوا ابن جهير من البلد واستولى على أموال بني مروان وبعثها مع ابنه زعيم الرؤساء الى السلطان فسار مع كوهراس الى بغداد ثم فارقه الى السلطان بأصبهان ولما انقضى أمر ميافارقين بعث فخر الدولة جيشا الى جزيرة ابن عمر فحاصرها وقام بعض أهلها بدعوة السلطان وفتحوا مما يليهم بابا قريبا دخل منه العسكر فملكوا البلد وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر والبقاء للَّه ثم أخذ السلطان ديار بكر من فخر الدولة بن جهير وسار الى الموصل فأقام بها الى أن توفي سنة ثلاث وثمانين.
(استيلاء السلطان ملك شاه على حلب وولاية آقسنقر عليها)
لما ملك تاج الدولة تتش مدينة حلب وكان بها سالم بن ملك بن مروان ابن عم مسلم بن قريش وامتنع بالقلعة وحاصره تتش سبعة عشر يوما حتى وصل الخبر بمقدم أخيه السلطان ملك شاه وقد كان ابن الحثيثي كتب اليه يستدعيه لما خاف من تتش فسار من أصبهان(5/10)
منتصف تسع وسبعين وفي مقدمته برسق وبدران وغيرهما من الأمراء ومرّ بالموصل في رجب ثم سار الى هراة وبها ابن الشاطي فملكها وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وأقطعه معها مدينة الرحبة وأعمالها. حرّان وسروج والرّقة وخابور وزوّجه أخته زليخا خاتون ثم سار الى الرها وافتتحها من الروم وكانوا اشتروها من ابن عطيّة كما مرّ وسار الى قلعة جعفر فملكها وقتل من كان بها من بني قشير وكان صاحبها جعفر أعمى وكان يخيف السابلة هو وولده فأزال ضررهم ثم ملك منبج وعبر الفرات الى حلب فأجفل تتش عن المدينة ودخل [1] ومعه الأمير أرتق ورجع الى دمشق فلما وصل السلطان الى حلب ملكها ثم الى القلعة فملكها من سالم بن ملك على أن يعطيه قلعة جعفر فلم تزل بيد عقبه الى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد ثم بعث اليه نصر بن علي بن منقذ الكناني بالطاعة فأقره على شيراز [2] وتسلم منه اللاذقية وبعرطاف وجامية [3] ورجع ثم رجع السلطان بعد أن ولى على حلب قسيم الدولة آق سنقر ورغب اليه أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فأخرجه عنهم الى ديار بكر وتوفي بها ثم رجع السلطان الى بغداد فدخلها في ذي الحجة من سنته ونزل بدار المملكة وأهدى للخليفة هدايا كثيرة واجتمع بالخليفة ليلا ثم دخل اليه في مجلسه نهارا وأفيضت عليه الخلع وسلم أمراء السلجوقية على الخليفة ونظام الملك قائم يقرّ بهم واحدا واحدا ويعرف بهم ثم صرّح المقتدي للسلطان ملك شاه بالتفويض وأوصاه بالعدل فقبل يده ووضعها على عينيه وخلع الخليفة على نظام الملك وجاء الى مدرسته التي فيها الحديث وأملى.
(خبر الزفاف)
قد قدّمنا أنّ السلطان ملك شاه زوّج ابنته من الخليفة المقتدي سنة أربع وسبعين بخطبة الوزير ابن جهير فلما كان سنة ثمانين في المحرّم نقل جهازها للزفاف الى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي أكثرها ذهب وفضة ومعه ثلاث عماريات ومعها أربع وسبعون بغلا مجللة بأنواع الديباج المكيّ وقلائدها الذهب وعلى ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة مملوءة بالحليّ والجواهر ومهد عظيم من ذهب وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 147: وسار منها يسلك البرية ومعه الأمير أرتق.
[2] وفي بعض النسخ شيزر.
[3] وفي بعض النسخ افامية.(5/11)
كوهراس والأمير أرتق وغيرهما من الأمراء والناس ينثرون عليهم الدنانير والثياب وبعث الخليفة وزيره أبا شجاع الى زوجة السلطان تركمان خاتون ومعه خادمه ظفر بمحفة لم ير مثلها ومعهم ثلاثمائة من الشمع الموكف ومثلها مشاعل وأوقدت الشموع في دكاكين الحريم الخلافيّ وقال الوزير لخاتون سيدنا أمير المؤمنين يقول أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة الى داره فقالت سمعا وطاعة ومشى بين يديها أعيان الدولة مع كل واحد الشمع والمشاعل يحملها الفرسان ثم جاءت المأمون من بعدهم في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر ما لا يحدّ ويحيط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك على مراكب رائعة وأولم الخليفة وليمة لم يسمع بمثلها ثم أطلع للناس من الغد سماط مائدة عليها أربعون ألفا من السكر وخلع على أعيان العسكر وعلى جميع الحواشي.
(استيلاء السلطان ملك شاه على ما وراء النهر)
كان صاحب سمرقند لهذا العهد من الخانية أحمد خان بن خضر خان أخى شمس الملك الّذي كان أميرا عليها وعمته خاتون زوجة ملك شاه وكان رديء السيرة فبعثوا الى السلطان يسألونه الرجوع الى ايالته وجاء بذلك مفتي سمرقند أبو طاهر الشافعيّ قدم حاجا وأسر ذلك الى السلطان فسار من أصبهان سنة اثنتين وثمانين ومعه رسول الروم بالخراج المقدر عليهم فاستعجم وأحضر للفتح ولما انتهى الى خراسان جمع العساكر وعبر النهر بجيوش لا تحصى وأخذ ما في طريقه من البلاد ثم انتهى الى بخارى فملكها وما جاورها ثم سار الى سمرقند فحاصرها وأخذ بهجتها ثم رماها بالمنجنيق وثلم سورها ودخل من الثلمة وملك البلد واختفى أحمد خان ثم جيء به أسيرا فأطلقه وبعث به الى أصبهان وولى على سمرقند أبا طاهر عميد خوارزم وسار الى كاشغر فبلغ الى نور وكمن وبعث الى كاشغر بالخطبة وضرب السكة فأطاع وحضر عند السلطان فأكرمه وخلع عليه وأعاده الى بلده ورجع السلطان الى خراسان وكان بسمرقند عساكر يعرفون بالحكليّة فأرادوا الوثوب بالعميد نائب السلطان فلاطفهم ولحق ببلده خوارزم.
(عصيان سمرقند وفتحها ثانيا)
كان مقدّم الحكلية بسمرقند اسمه عين الدولة وخاف السلطان لهذه الحادثة فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر وكانت مملكته تعرف بارياسي فاستحضره وملكه ثم شكر له يعقوب وحمل أعداءه من الرعية على طلب الثأر منه وقتله بفتاوى الفقهاء واستبدّ بسمرقند وسار السلطان ملك شاه اليها سنة اثنتين وثمانين لما انتهى(5/12)
الى بخارى هرب يعقوب الى فرغانة ولحق بولايته وجاء بعسكره مستأمنين الى السلطان فلقوه بالطواويس من قرى بخارى ووصل السلطان الى سمرقند وولى عليها الأمير انز [1] وأرسل العساكر في طلب يعقوب وأرسل الى ملك كاشغر بالجدّ في طلبه وشعب على يعقوب عساكره ونهبوا خزائنه ودخل على أخيه كاشغر مستجيرا به وبعث السلطان في طلبه منه فتردّد بين المخافة والأنفة ثم غلب عليه الخوف فقبض على أخيه يعقوب وبعثه مع ابنه وأصحابه الى السلطان وأمرهم أن يسملوه في طريقه فان قنع السلطان بذلك والا أسلموه اليه فلما قربوا على السلطان وعزموا على تسليمه بلغهم الخبر بأن طغرل بن نيال أسرى من ثمانين فرسخا بعساكر لا تحصى فكبس ملك كاشغر وأسره فأطلقوا يعقوب ثم خشي السلطان شأن طغرل بن نيال وكثرة عساكره فرجع على البلد ودس تاج الملك في استصلاح يعقوب فشفع له وردّ الى كاشغر وردّ الطغرل ورجع هو الى خراسان ثم قدم الى بغداد سنة أربع وثمانين العزمة الثانية ووجد عليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب الشام وقسيم الدولة آق سنقر صاحب حلب وبوران صاحب الرها وعمال الأطراف وأقام صنيع الميلاد ببغداد وتأنق بما لم يعهد مثله وأمر وزيره نظام الملك وأمراءه ببناء الدور ببغداد لنزلهم ورجع الى أصبهان.
(استيلاء تتش على حمص وغيرها من سواحل الشام)
لما قدم السلطان سنة أربع وثمانين وفد عليه أمراء الشام كما قدّمنا فلما انصرفوا من عنده أمر أخاه تاج الدولة تتش أن يذهب دولة العلويين من ساحل الشام ويفتح بلادهم وأمر آق سنقر وبوران أن يسيرا لانجاده فلما رجعوا الى دمشق سار الى حمص وبها صاحبها ابن ملاعب وقد عظم ضرره وضرر ولده على الناس فحاصرها وملكها ثم سار الى قلعة عرفة فملكها عنوة ثم الى قلعة افامية فاستأمن اليه خادم كان بها فأرسل الى أمراء تتش في إصلاح حاله فسدّوا عليه المذاهب فأرسل الى وزير آقسنقر يسعى له عند صاحبه وعمل له على ثلاثين ألف دينار ومثلها عروضا فجنح الى مصالحته واختلف مع تتش على ذلك وأغلظ كل منهما لصاحبه في القول فرحل آق سنقر مغاضبا واضطرّ الباقون الى الرحيل وانتقض أمرهم.
__________
[1] انز: ورد اسمه آنر في كتاب العلاقات الاجتماعية (للدكتور زكي النقاش) ص 40. وفي الكامل ج 10 ص 214 أنر.(5/13)
(ملك اليمن)
كان فيمن حضر عند السلطان ببغداد كما قدّمناه عثمان حق أمير التركمان صاحب قرمسيس وغيرها فأمره السلطان أن يسير في جموع التركمان للحجاز واليمن فيظهر أمرهم هناك وفوّض الى سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد فولى عليهم أمير اسمه ترشك وسار الى الحجاز فاستولى عليه وأساء السيرة فيه حتى جاء أمير الحجاز محمد بن هاشم مستغيثا منهم ثم ساروا سنة خمس وثمانين الى اليمن وعاثوا في نواحيه وملكوا عدن وأساءوا السيرة في أهلها وأهلكوا ترشك سابع دخولها وأعاده أصحابه الى بغداد فدفنوه بها.
(مقتل الوزير نظام الملك)
ثم ارتحل السلطان ملك شاه الى بغداد سنة خمس وثمانين فانتهى الى أصبهان في رمضان وخرج نظام الملك من بيته بعد الإفطار عائدا الى خيمته فاعترضه بعض الباطنيّة في صورة متظلّم فلما استدناه لسماع شكواه طعنه بخنجر فأشواه وعثر الباطني في أطناب الخيام ودخل نظام الملك الخيمة فمات لثلاثين سنة من وزارته واهتاج عسكره فركب اليه السلطان وسكن الناس ويقال أن السلطان ملك شاه وضع الباطني على قتله لما وقع منه ومن بنيه من الدالة والتحكم في الدولة وقد كان السلطان دس على ابنه جمال الدين من قتله سنة خمس وسبعين كان بعض حواشي السلطان سعى به فسطا به جمال الدين وقتله فأحقد السلطان بذلك وأخذ عميد خراسان فقتله خنقا فدس لخادم من خدم جمال الدين بذلك وأنهم إذا تولوا قتله بأنفسهم كان أحفظ لنعمتهم فسقاه الخادم سما ومات وجاء السلطان الى نظام الملك وأغراه به وما زال بطانة السلطان يغضون منه ويحاولون السعاية فيه الى أن ولى حافده عثمان بن جمال الملك على مرو وبعث السلطان اليها كردن من أكابر المماليك والأمراء شحنة ووقعت بينه وبين عثمان منازعة في بعض الأيام فأهانه وحبسه ثم أطلقه وجاء الى السلطان شاكيا فاستشاط غضبا وبعث فخر الملك البارسلان الى نظام الملك وأغراه به وما زال يقول إن كنت تابعا فقف عند حدّك وان كنت شريكي في سلطاني فافعل ما بدا لك وقرّر عليه فعل حافده وسائر بنيه في ولايتهم وأرسل معه نكبرذ من خواصه ثقة على ما يؤدّيه من القول ويجيبه الآخر فانبسط لسان نظام الملك يعدّد الوسائل منه والمدافعة عن السلطان وجمع الكلمة وفتح الأمصار في كلام طويل حملته عليه الدالة وقال في آخره ان شاء فله مؤيد مرو آتي ومتى(5/14)
أطعت هذه زالت تلك فليأخذ حذره ثم زاد في انبساطه وقال قولوا عني ما أردتم فان توبيخكم نتأ في عضدي ومضى نكبرذ فصدّق السلطان الخبر وجاء الآخرون وحاولوا الكتمان فلم يسعهم لما وشي نكبرذ بجلية القول فصدّقوه كما صدّقه ومات نظام الملك بعدها بقليل ومات السلطان بعده بنحو شهر وكان أصل نظام الملك من طوس من أبناء الدهاقين اسمه أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق ذهبت نعمة آبائه وماتوا فنشأ يتيما ثم تعلم وحذق في العلوم والصنائع وعلق بالخدم السلطانية في بلاد خراسان وغزنة وبلخ ثم لازم خدمة أبي علي بن شاذان وزير البارسلان ومات ابن شاذان فأوصى به السلطان البارسلان وعرّفه كفايته فاستخدمه فقام بالأمور أحسن قيام فاستوزره ثم هلك السلطان البارسلان وهو في وزارته ثم استوزره ملك شاه بعد أبيه وكان عالما جوادا صفوحا مكرما للعلماء وأهل الدين ملازما لهم في مجلسه شيّد المدارس وأجرى فيها الجرايات الكثيرة وكان يملي الحديث وكان ملازما للصلوات محافظا على أوقاتها وأسقط في أيامه كثيرا من المكوس والضرائب وأزال لعن الأشعريّة من المنابر بعد أن فعله الكندوي من قبله وحمل عليه السلطان طغرلبك وأجراهم مجرى الرافضة وفارق امام الحرمين وأبو القاسم القشيري البلاد من أجل ذلك فلما ولى آلب أرسلان حمله نظام الملك على ازالة ذلك ورجع العلماء الى أوطانهم ومناقبه كثيرة وحسبك من عكوف العلماء على مجلسه وتدوينهم الدواوين باسمه فعل ذلك أمام الحرمين وأشباهه وأمّا مدارسه فقد بنى النظاميّة ببغداد وناهيك بها ورتب الشيخ أبا إسحاق الشيرازي للتدريس بها وتوفي سنة ست وسبعين فرتب ابنه مؤيد الملك مكانه أبا سعيد المتولي فلم يرضه نظام الملك وولى فيها الإمام أبا نصر الصباغ صاحب الشامل ومات أبو نصر في شعبان من تلك السنة فولى أبو سعيد من سنة ثمان وسبعين ومات فدرس بعده الشريف العلويّ أبو القاسم الدبوسي وتوفي سنة اثنتين وثمانين وولى تدريسه بعدها أبو عبد الله الطبري والقاضي عبد الوهاب الشيرازي بالنوبة يوما بيوم ثم ولى تدريسها الإمام أبو حامد الغزالي سنة أربع وثمانين واتصل حكمها على ذلك وفي أيامه عكف الناس على العلم واعتنوا به لما كان من حسن أثره في ذلك والله أعلم.
وفاة السلطان ملك شاه وولاية ابنه محمود
ثم لما سار السلطان بعد مقتل نظام الملك الى بغداد ودخلها آخر رمضان وكان معه في الدولة أبو الفضل الهروستماني وزير زوجته الخاتون الجلالية من الملوك الخانية فيما وراء النهر وكان(5/15)
أشدّ الناس سعاية في نظام الملك وعزم السلطان أن يستوزره لأوّل دخوله بغداد فعاقت المنيّة عن ذلك وطرقه المرض ثالث الفطر وهلك منتصف شوّال سنة خمس وثمانين وكانت زوجته تركمان خاتون الجلالية عنده في بغداد وابنها محمود غائبا في أصبهان فكتمت موته وسارت بشلوه الى أصبهان وتاج الملك في خدمتها وقدّمت بين يديها قوام الدين كربوقا الّذي ولى الموصل من بعد وأرسلته بخاتم السلطان الى مستحفظ القلعة فملكها وجاءت على أثره وقد أفاضت الأموال في الأمراء والعساكر ودعتهم الى بيعة ولدها محمود وهو ابن أربع سنين فأجابوا الى ذلك وبايعوه وأرسلت الى المقتدر في الخطبة له فأجابها على أن يكون الأمير أنز قائما بتدبير الملك ومجد الملك مشيرا وله النظر في الأعمال والجباية فنكرت ذلك أمّه خاتون وكان السفير أبا حامد الغزالي فقال لها أنّ الشرع لا يجيز ولاية ابنك فقبلت الشرط وخطب له آخر شوّال سنة خمس وثلاثين وأرسلت تركمان خاتون الى أصبهان في القبض على بركيارق فحبس بأصبهان وكان السلطان ملك شاه من أعظم ملوك السلجوقية ملك من الصين الى الشام ومن أقصى الشام الى اليمن وحمل اليه ملوك الروم الجزية ومناقبه عظيمة مشهورة.
منازعة بركيارق لأخيه محمود وانتظام سلطانه
كان بركيارق أكبر أولاد السلطان ملك شاه وكانت أمّه زبيدة بنت ياقوتي بن داود وياقوتي عمّ ملك شاه ولما حبس بركيارق وخافت عليه أمّه زبيدة دست لمماليك نظام الملك فتعصبوا له وكانت خاتون غائبة ببغداد مع ابنها محمود لفقد سلطانه فوثب المماليك النظامية على سلاح لنظام الملك بأصبهان وأخرجوا بركيارق من محبسه وخطبوا له وبلغ الخبر الى خاتون فسارت من بغداد وطلب العسكر تاج الملك في عطائهم فهرب الى قلعة بوجين لينزل منها الأموال وامتنع فيها ونهب العسكر خزائنه وساروا الى أصبهان وقد سار بركيارق والنظامية الى الري فأطاعه أرغش النظامي في عساكره وفتحوا قلعة طغر عنوة وبعثت خاتون العساكر لقتال بركيارق فنزع اليه سبكرد وكمستكن الجاندار وغيرهما من أمراء عساكره ولقيهم بركيارق فهزمهم وسار في أثرهم الى أصفهان فحاصرهم بها وكان عز الملك بن نظام الملك بأصبهان وكان واليا على خوارزم فحضر عند السلطان قبل مقتل أبيه وبقي هناك بعد وفاة السلطان فخرج الى بركيارق ومعه جماعة من إخوانه فاستوزره بركيارق وفوّض اليه الأمور كما كان أبوه.(5/16)
(مقتل تاج الملك) وهو أبو الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز كان وزيرا لخاتون وابنها ولما هرب الى قلعة بوجين خوفا من العسكر كما قدمنا وملكت خاتون أصبهان عاد اليها واعتذر بأن صاحب القلعة حبسه فقبلت عذره وبعثته مع العساكر لقتال بركيارق فلما انهزموا حل أسيرا عنده وكان يعرف كفاءته فأراد أن يستوزره وكان النظامية ينافرونه ويتهمونه بقتل نظام الملك وبذل فيهم أموالا فلم يغنه ووشوا به فقتلوه في المحرّم سنة ست وثمانين وكان كثير الفضائل جمّ المناقب وانما غطى على محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك وهو الّذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي والمدرسة بإزائها ورتب بها أبا بكر الشاشي مدرّسا.
(مهلك محمود) ثم هلك السلطان محمود وهو محاصر بأصبهان لسنة من ولايته واستقل بركيارق بالملك.
(منازعة تتش بن آلب أرسلان وأخباره الى حين انهزامه
كان تاج الدولة تتش أخو السلطان ملك شاه صاحب الشام وسار الى لقاء أخيه ملك شاه ببغداد قبيل موته فلقيه خبر موته بهيت فاستولى عليها وعاد الى دمشق فجمع العساكر وبذل الأموال وأخذ في طلب الملك فبدأ بحلب ورأى صاحبها قسيم الدولة آق سنقر اختلاف ولد ملك شاه وحقرهم فأطاع تاج الدولة تتش وتبعه في طاعته وبعث الى باغي يسار صاحب انطاكية وإلى مران صاحب الرها وحرّان يشير عليهما بمثل ذلك فأجابا وخطبوا لتاج الدولة تتش في بلادهم وساروا معه الى الرحبة فملكها ثم الى نصيبين فملكها واستباحها وسلمها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وساروا الى الموصل وقدم عليه الكافي بن فخر الدولة ابن جهير من جزيرة ابن عمر فاستوزره وكانت الموصل قد ملكها علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش وأمّه صفيّة عمة ملك شاه وأطلقت تركمان خاتون عمه إبراهيم فجاء وملك الموصل من يده كما تقدم في أخبار بني المقلّد فبعث اليه تتش في الخطبة وأن يهيئ له الطريق الى بغداد فامتنع وزحف لحربه فانهزم العرب وسيق إبراهيم أسيرا الى تتش في جماعة من أمراء العرب فقتلوا صبرا ونهبت أموالهم واستولى تتش على الموصل وغيرها واستناب عليها علي بن مسلم وهو ابن صفيّة عمة أبيه وبعث الى بغداد في الخطبة ووافقه كوهراس [1] الشحنة وحزر الجواب بانتظار الرسل من العسكر فسار تتش الى ديار بكر
__________
[1] وفي بعض النسخ كوهرائن.(5/17)
فملكها ثم سار الى آذربيجان وزحف بركيارق يعتذر من سعيه مع تتش فعزله بركيارق بسعاية كمستكن الجاندار بقسيم الدولة وأقام عوضه شحنة ببغداد الأمير مكرد وأعطاه أقطاعه وسار الى بغداد ثم ردّه من دقوقا لكلام بلغه عنه وقتله وولى على شحنة بغداد فتكين حب.
مقتل إسماعيل بن ياقوتي
كان إسماعيل بن ياقوتي بن داود بن عمّ ملك شاه وخال بركيارق أميرا على أذربيجان فبعثت تركمان خاتون اليه فأطمعته في الملك وأنها تتزوج به فجمع جموعا من التركمان وغيرهم وسار لحرب بركيارق فلقيه عند كرخ ونزع عنه مكرد الى بركيارق فانهزم إسماعيل الى أصبهان فخطبت له خاتون وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود وأرادت العقد معه فمنعها الأمير أنز مدبر الدولة وصاحب العسكر وخوفهم وفارقهم ثم أرسل أخته زبيدة أمّ بركيارق فأصلحت حاله مع ابنها وقدم عليه فأكرمه واجتمع به رجال الدولة كمستكن الجاندار وآق سنقر وبوران وكشفوا سرّه في طلب الملك ثم قتلوه وأعلموا بركيارق فأهدر دمه.
(مهلك توران شاه بن قاروت بك) كان توران شاه بن قاروت بك صاحب فارس وأرسلت خاتون الجلالية الأمير أنز لفتح فارس سنة سبع وثمانين فهزمه أولا ثم أساء السيرة مع الجند فلحقوا بتوران شاه وزحف الى أنز فهزمه واستردّ البلد من يده وأصاب توران شاه في المعركة بسهم هلك معه بعد شهرين.
(وفاة المقتدي وخلافة المستظهر وخطبته لبركيارق) ثم توفي المقتدي منتصف محرّم سنة سبع وثمانين وكان بركيارق قد قدم بغداد بعد هزيمة عمه تتش فخطب له وحملت اليه الخلع فلبسها وعرض التقليد على المقتدي فقرأه وتدبره وعلم فيه وتوفي فجأة وبويع لابنه المستظهر بالخلافة فأرسل الخلع والتقليد الى بركيارق وأخذت عليه البيعة للمستظهر.
استيلاء تتش على البلاد بعد مقتل آق سنقر ثم هزيمة بركيارق
لما عاد تتش منهزما من أذربيجان جمع العساكر واحتشد الأمم وسار من دمشق الى حلب سنة سبع وثمانين واجتمع قسيم الدولة آق سنقر وبوران [1] وجاء كربوقا مددا من عند
__________
[1] كذا واسمه في الكامل ج 10 ص 148 بوزان.(5/18)
بركيارق وساروا لحرب تتش ولقوة على ستة فراسخ من حلب فهزمهم وأخذ آق سنقر أسيرا فقتله ولحق كربوقا وبوران بحلب واتبعهما تتش فحاصرهما وملك حلب وأخذهما أسيرين وبعث الى حرّان والرها في الطاعة فامتنعوا فبعث اليهم برأس بوران وملك البلدين وبعث بكربوقا الى حمص فحبسه بها وسار الى الجزيرة فملكها ثم الى ديار بكر وخلاط فملكها ثم الى أذربيجان ثم سار الى همدان ووجد بها فخر الدولة ابن نظام الملك جاء من خراسان الى بركيارق فلقيه الأمير قماج من عسكر محمود بأصبهان فنهب ماله ونجا الى همذان فصادف بها تتش فأراد قتله وشفع فيه باغي يسار وأشار بوزارته لميل الناس الى بيته واستوزره وكان بركيارق قد سار الى أقسيس فحالفه تتش الى أذربيجان وهمذان فسار بركيارق من نصيبين وعبر دجلة من فوق الموصل الى أربل فلما تقارب العسكران أشرف الأمير يعقوب بن أنق [1] من عسكر تتش فكبس بركيارق وهزمه ونهب سواده ولم يبق معه الا برسق وكمستكن الجاندار والبارق من أكابر الأمراء فلجئوا الى أصبهان وكانت خاتون أم محمود قد ماتت فمنعه محمود وأصحابه من الدخول ثم خرج اليه محمود وأدخله الى أصبهان واحتاطوا عليه وأرادوا أن يسلموه فرفض محمود فأبقوه.
مقتل تتش واستقلال بركيارق بالسلطان
ثم مات محمود منسلخ شوّال سنة سبع وثمانين واستولى بركيارق على أصبهان وجاء مؤيد الملك الأمراء واستمالهم فرجعوا الى بركيارق وكشف جمعه وبعث تاج الملك تتش بعد هزيمة بركيارق يوسف بن أنق التركماني شحنة الى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخول بغداد وزحف اليه صدقة بن مزيد صاحب الحلّة فقاتله في يعقوب وانهزم صدقة الى الحلّة ودخل يوسف بن أنق بغداد وأقام بها وكان تتش لما هرم بركيارق سار الى همذان وقد تحصن بها بعض الأمراء فاستأمن اليه واستولى على همذان وسار في نواحي أصبهان وإلى مرو وراسل الأمراء بأصبهان يستميلهم بالمقاربة والوعد وبركيارق مريض فلما أفاق من مرضه خرج الى جرباذقان واجتمع اليه من العسكر ثلاثون ألفا ولقيه تتش فهزمه بركيارق وقتله بعض أصحاب آق سنقر بثأر صاحبه وكان فخر الملك بن نظام الملك أسيرا عنده فانطلق عند هزيمته واستقامت أمور بركيارق وبلغ الخبر الى يوسف يوسف بن أبق التركماني الكامل 10/ 244) .(5/19)
استيلاء كربوقاالموصل
قد كناأنّ تاج الدولة تتش أسر قوام الدولة أباكربوقا وحبسه بعد ما قتل آق سنقر بوران فأقام محبوسا بحلب الى أن قتل تتش واستولى رضوان ابنه على حلب فأمره السلطان بركيارق بإطلاقه لأنه كان من جهة الأمير أنز [1] فأطلقه رضوان وأطلق أخاه التوسطاش [2] فاجتمعت عليهما العساكر وكان بالموصل علي بن شرف الدولة مسلم منذ ولاه عليها تتش بعد وقعة المضيع وكان بنصيبين أخوه محمد بن مسلم ومعه مروان بن وهب [3] وأبو الهيجاء الكردي وهو يريد الزحف الى الموصل فكاتب كربوقا واستدعاه للنصرة ولقيه على مرحلتين من نصيبين فقبض عليه كربوقا وسار الى نصيبين وحاصرها أربعين يوما وملكها ثم سار الى الموصل فامتنعت عليه فتحوّل عنها الى بلد [4] وقتل بها محمد بن شرف الدولة تغريقا وعاد الى حصار الموصل ونزل منها على فرسخ واستنجد علي بن مسلم بالأمير مكرس [5] صاحب جزيرة ابن عمر فجاء لانجاده واعترضه التوسطاش فهزمه ثم سار الى طاعة كربوقا وأعانه على حصار الموصل ولما اشتدّ بصاحبه علي بن مسلم الحصار بعد تسعة أشهر هرب عنها ولحق بصدقة بن مزيد ودخل كربوقا الى الموصل وعاث التوسطاش في أهل البلد ومصادرتهم واستطال على كربوقا فأمر بقتله ثالثة دخوله سنة تسع وثمانين وسار كربوقا الى الرحبة فملكها وعاد فأحسن السيرة في أهل الموصل ورضوا عنه واستقامت أموره.
استيلاء أرسلان أرغون اخي السلطان ملك شاه على خراسان ومقتله
كان أرسلان أرغون مقيما عند أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فلما مات وبويع ابنه محمود سار الى خراسان في سبعة من مواليه واجتمعت عليه جماعة وقصد نيسابور فامتنعت عليه فعاد الى مرو وكان بها شحنة الأمير قودر [6] من موالي السلطان ملك شاه وكان أحد الساعين في قتل
__________
[1] كذا في الأصل: وكذا في الكامل لابن الأثير، واسمه في الكتب الحديثة آنز (كتاب العلاقات الاجتماعية للدكتور زكي النقاش) طبع دار الكتاب اللبناني- بيروت ص 42.
[2] اسمه في الكامل ج 10 ص 259: التونتاش.
[3] اسمه في الكامل ثروان بن وهيب.
[4] اسم بلدة في العراق.
[5] كذا وهو جكرمش.
[6] ورد اسمه في الكامل قودن.(5/20)
نظام الملك فمال الى طاعة أرغون وملكه البلد وسار الى بلخ وكان بها فخر الملك بن نظام الملك ففرّ عنها ووصل الى همدان ووزر لتاج الدولة تتش كما مرّ وملك ارسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وسائر خراسان وأرسل الى السلطان بركيارق وزيره مؤيد الملك في تقرير خراسان عليه بالضمان كما كانت لجدّه داود ما عدا نيسابور فأعرض عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش ثم عزل بركيارق مؤيد الملك عن الوزارة بأخيه فخر الملك واستولى فخر الملك البارسلان على الأمور فقطع ارسلان مراسلة بركيارق فبعث حينئذ عمه بورسوس [1] في العساكر لقتاله فانهزم ارسلان الى بلخ وأقام بورسوس بهراة وسار أرسلان الى مرو وفتحها عنوة وخرّبها واستباحها وسار اليه بورسوس من هراة سنة ثمان وثمانين وكان معه مسعود بن تأخر [2] الّذي كان أبوه مقدّم عساكر داود ومعه ملك شاه من أعاظم الأمراء فبعث اليه ارسلان واستماله فمال اليه ووثب لمسعود بن تأخر وابنه فقتلهما في خيمته فضعف أمر بورسوس وانفض الناس عنه وجيء به أسيرا الى أخيه أرسلان أرغون فحبسه بترمذ ثم قتله في محبسه بعد سنة وقتل أكابر خراسان وخرب أسوارها مثل سودان ومرو الشاهجان وقلعة سرخس ونهاوند ونيسابور وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك على ثلاثمائة ألف دينار ثم قتله واستبدّ بخراسان وكان مرهف الحدّ كثير العقوبة لمواليه وأنكر على بعضهم يوما بعض فعلاته وهو في خلوة وضربه فطعنه الغلام بخنجر معه فقتله وذلك في المحرّم من سنة تسعين.
ولاية سنجر على خراسان
ولما قتل ارسلان أرغون ملّك أصحابه من بعده صبيا صغيرا من ولده وكان السلطان بركيارق قد جهز العساكر لخراسان للقتال ومعه الأتابك قماج ووزيره علي بن الحسن الطغرائي وانتهى اليه مقتل أرسلان بالدامغان فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا الى نيسابور فملكها في جمادى سنة تسعين وأربعمائة وملك سائر خراسان وسار الى بلخ وكان أصحاب أرسلان قد هربوا بابنه الّذي نصبوه للملك الى جبل طخارستان وبعثوا يستأمنون له ولهم فأمنهم السلطان وجاءوا بالصبي في آلاف من العساكر فأكرمه السلطان وأقطعه ما
__________
[1] ورد اسمه في الكامل ج 10 ص 75 بوري برش.
[2] ورد اسمه في الكامل ج 10 ص 263 مسعود بن تاجر.(5/21)
كان لأبيه أيام ملك شاه وانفض عنه العسكر الذين كانوا معه وافترقوا على أمراء السلطان وأفردوه فضمته أم السلطان اليها وأقامت من يتولى رتبته وسار السلطان الى ترمذ فملكها وخطب له بسمرقند ودانت له البلاد وأقام على بلخ سبعة أشهر ثم رجع وترك أخاه سنجر نائبا بخراسان.
ظهور المخالفين بخراسان
لما كان السلطان بخراسان خالف عليه محمود بن سليمان من قرابته ويعرف بأمير أميران وسار إلى بلخ واستمدّ صاحب غزنة من بني سبكتكين فأمدّه بالعساكر والخيول على أن يخطب له فيما يفتحه من خراسان فقويت شوكته فسار اليه الملك سنجر وكبسه فانهزم وجيء به أسيرا فسلمه ولما انصرف السلطان عن خراسان سار نائب خوارزم واسمه أكنجي في اتباعه وسبق الى مرو فتشاغل بلذاته وكان بها الأمير تورد قد تشاغل عن السلطان واعتذر بالمرض فداخل بارقطاش من الأمراء في قتل أكنجي صاحب خوارزم فكبسه في طائفة من أصحابه وقتلوه وساروا الى خوارزم فملكوها مظهرين أنّ السلطان ولاهما عليها وبلغ الخبر الى السلطان وكان قد بلغه في طريقه خروج الأمير أنز بفارس عن طاعته فمضى الى العراق وأعاد داود الحبشي ابن التونطاق في العساكر لقتالهما فسار الى العراق من هراة وأقام في انتظار العسكر فعاجلاه فهرب أمامهما وهرب جيحون وتقدّم بارقطاش قبل تودن وقاتله فهزمه داود وأسره وبلغ الخبر الى تودن فثار به عسكره ونهبوا أثقاله ولحق بسنجار فقبض عليه صاحبها ثم أطلقه فلحق بالملك سنجر ببلخ فقتله وأفرغ هو طاعته في نظمه وجمع العساكر على طاعته ثم مات قريبا وبقي بارقطاش أسيرا عند داود الى أن قتل.
بداية دولة بني خوارزم شاه
كان أبو شكين مملوكا لبعض أمراء السلجوقية واشتراه من بعض أهل غرشفان فدعى أبا شكين غرشه [1] ونشأ على حال مرضية وكان مقدما وولد له ابنه محمد فأحسن تأديبه وتقدّم هو بنفسه ولما سار الأمير داود الحبشي الى خراسان كما مرّ سار محمد في جملته فلما مهد
__________
[1] ورد اسمه في الكامل ج 10 ص 267: نوشتكين غرشجه.(5/22)
خراسان وأزال الخوارج نظر فيمن يوليه خوارزم وكان نائبها أكنجي قد قتله كما مرّ فوقع اختياره على محمد بن أبي شكين فولاه ولقبه خوارزم شاه فحسنت سيرته وارتفع محله وأقرّه السلطان سنجر وزاده عناية بقدر كفايته واضطلاعه وغاب في بعض الأيام عن خوارزم فقصدها بعض ملوك الأتراك وكان طغرلتكين محمد الّذي كان أبوه أكنجي نائبا بخوارزم وبادر محمد بن أبي شكين الى خوارزم بعد أن استمدّ السلطان سنجر وسار بالعساكر مددا له وتقدم محمد بن أبي شكين فتأخر الأتراك الى منقشلاع ورحل طغرلتكين الى جرجان وازداد محمد بذلك عناية عند سنجر ولما توفي ولى ابنه بعده أقسر وأحسن السيرة وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاع ولما توفي اختصه السلطان سنجر وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه واتصل الملك في بني محمد أبي شكين خوارزم شاه وكانت لهم الدولة وتمت دولة بني ملك شاه وعليها كان ظهور الططر [1] بعد المائة السادسة ومنهم أخذوا الملك كما سيأتي في أخبارهم.
استيلاء الافرنج على انطاكية وغيرها من سواحل الشام
كان الافرنج قد ظهر أمرهم في هذه السنين وتغلبوا على صقلّيّة واعتزموا على قصد الشام وملك بيت المقدس وأرادوا المسير اليها في البرّ فراسلوا ملك الروم بالقسطنطينية أن يسهل لهم الطريق الى الشام فأجابهم على أن يعطوه انطاكية فعبروا خليج القسطنطينية سنة تسعين وأربعمائة وسار ارسلان بن سليمان بن قطلمش صاحب مرقيه وبلاد الروم لمدافعتهم فهزموه ثم مرّوا ببلاد ابن لبون الارمني ووصلوا الى انطاكية فحاصروها تسعة أشهر وصاحبها يومئذ باغي سيان فأحسن الدفاع عنها ثم تبوّءوا البلد بمداخلة بعض الحامية أصعدهم السور بعد أن رغبوه بالأموال والاقطاع وجاءوا الى السور فدلهم على بعض المخادع ودخلوا منه ونفخوا البوق فخرج باغي سيان هاربا حتى إذا كان على أربعة فراسخ راجع نفسه وندم فسقط مغشيا عليه ومرّ به أرمني فحمل رأسه الى انطاكية وذلك سنة احدى وتسعين وأربعمائة واجتمعت عساكر المسلمين وزحفوا الى انطاكية من كل ناحية ليرتجعوها من الافرنج وجاء قوام الدين كربوقا الى الشام واجتمعت عليه العساكر بمرج دابق فكان معه دقاق بن تتش وطغرلتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وارسلان تاش صاحب سنجار وسقمان بن أرتق
__________
[1] وهي التتر أو التتار، كما في كتب التاريخ.(5/23)
وغيرهم وساروا الى انطاكية فنازلوها واستوحش الأمراء من كربوقا وأنفوا من ترفعه عليهم وضاق الحصار بالافرنج لعدم الأقوات لأنّ المسلمين عاجلوهم عن الاستعداد فاستأمنوا كربوقا فمنعهم الأمان وكان معهم من الملوك بردويل وصخبل وكمدمري والقمط صاحب الرها وسمند [1] صاحب انطاكية وهو مقدم العساكر فخرجوا مستأمنين وضربوا مصافّ وتخاذل الناس لما كان في قلوبهم من الاضغان لكربوقا فتمت الهزيمة عليهم وآخر من انهزم سقمان بن أرتق واستشهد منهم العرب وغنم العدوّ سوادهم بما فيه وساروا الى معرة النعمان فملكوها وأفحشوا في استباحتها ثم ساروا الى غزة فحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم وصالحهم ابن منقذ على بلده شيراز وحاصروا حمص فصالحهم صاحبها جناح الدولة ثم ساروا الى عكا فامتنعت عليهم وكان هذا بداية الافرنج بسواحل الشام ويقال انّ المصريين استنابوا رجلا يعرف بافتخار الدولة من خلفاء العميد بن نصر لما خشوا من السلجوقية عند استيلائهم على الشام الى غزة وزحف الاقسيس من أمرائهم الى مصر وحاصرها فراسلوا الى الافرنج واستدعوهم لملك الشام لينشلوهم عن أنفسهم ويحولوا بينهم وبين مصر والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتقاض الأمير انز وقتله
لما سار السلطان بركيارق الى خراسان ولى على بلاد فارس الأمير انز وكانت قد تغلبت الشوانكار واستظهروا بإيران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان فلما سار اليهم انز قاتلوه فهزموه ورجع الى أصبهان فاستأذن السلطان فأمره بالمقام هناك وولاه امارة العراق وكانت العساكر في جواره بطاعته وجاءه مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد على الحلة فأغراه بالخلاف وخوّفه غائلة بركيارق وأشار عليه بمكاتبة محمد بن ملك شاه وهو في كنجه وشاع عنه ذلك فازداد خوفه وجمع العساكر وسار من أصبهان الى الريّ وجاهر السلطان بالخلاف وطلب منه أن يسلم اليه فخر الملك البارسلان وبينما هو في ذلك إذ هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم من جنده فطعنوه فقتلوه واهتاج عسكره فنهبوا خزائنه وحمل شلوه الى أصبهان فدفن بها وأشهر خبر قتله الى السلطان في أحواز الريّ وهو سائر لقتاله فسرّ بذلك هو وفخر الملك البارسلان وذلك في سنة ثنتين وتسعين وكان محمود المذاهب كبير المناقب ولما
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 276 وكان معهم من الملوك بردويل. صنجيل وكندفري والقمّص صاحب الرها وبيمنت صاحب انطاكية وهو القدم عليهم.(5/24)
قتل هرب اصهنر صبار [1] الى دمشق فأقام بها مدّة ثم قدم على السلطان محمد سنة احدى وخمسمائة فأكرمه وأقطعه رحبة مالك بن طوق.
استيلاء الافرنج على بيت المقدس
كان بيت المقدس لتاج الدولة تتش وأقطعه الأمير سقمان بن أرتق التركماني وكان تتش ملكه من يد العلويين أهل مصر فلما وهن الأتراك بواقعة انطاكية طمع المصريون في ارتجاعه وسار صاحب دولتهم الأفضل بن بدر الجمالي وحاصر الأمير سقمان وأخاه ايلغاري وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج ونصب المجانيق فثلموا سوره ثم ملكوه بالأمان لأربعين يوما من حصاره في شعبان سنة تسع وثمانين وأحسن الأفضل الى سقمان وايلغاري ومن معهما وأطلقهم فأقام سقمان ببلد الرها وسار ايلغاري الى العراق وولى الأفضل على بيت المقدس افتخار الدولة من أمرائهم ورجع الى مصر فلما رجع الافرنج من عكا جاءوا الى بيت المقدس فحاصروه أربعين يوما واقتحموه من جهة الشمال آخر شعبان من سنة اثنتين وتسعين وعاثوا في أهله واعتصم فلهم بمحراب داود عليه السلام ثلاثا حتى استأمنوا وخرجوا ليلا الى عسقلان وقتل بالمسجد سبعون ألفا أو يزيدون من المجاورين فيهم العلماء والزهاد والعباد وأخذوا نيفا وأربعين قنديلا من الفضة زنة كل واحد ثلاثة آلاف وستمائة درهم ومائة وخمسين قنديلا من الصغار وتنورا من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي وغير ذلك مما لا يحصى ووصل الصريخ الى بغداد مستغيثين فأمر المقتدي أن يسير الى السلطان بركيارق أبو محمد الدامغانيّ وأبو بكر الشاشي وأبو القاسم الزنجاني وأبو الوفاء بن عقيد وأبو سعد الحلواني وأبو الحسين بن السماك فساروا الى بركيارق يستصرخونه للمسلمين فانتهوا الى حلوان وبلغهم مقتل مجد الملك الباسلاني [2] وفتنة بركيارق مع أخيه محمد فرجعوا وتمكن الافرنج من البلاد ونحن عازمون على افراد أخبارهم بالشام وما كان لهم فيه من الدولة على حكم أخبار الدول في كتابنا.
ظهور السلطان محمد بن ملك شاه والخطبة له ببغداد وحروبه مع أخيه بركيارق
كان محمد وسنجر شقيقين وكان بركيارق استعمل سنجر على خراسان ثم لحق به محمد
__________
[1] وهو الاصيهبذ صباوو (الكامل في التاريخ ج 10 ص 239)
[2] مجد الملك البلاساني (الكامل في التاريخ 9/ 591.(5/25)
بأصبهان وهو يحاصرها سنة ثمان وثمانين فأقطعه كنجة وأعمالها وأنزل معه الأمير قطلغ تكين أتابك وكانت كنجة من أعمال ارّان وكانت لقطون فانتزعها ملك شاه وأقطعه أستراباذ وولى على ارّان سرهنك ساوتكين الخادم ثم ضمن قطون بلاده وأعيد اليها فلما قوي رجع الى العصيان فسرّح اليه ملك شاه الأمير بوزان فغلبه على البلاد وأسره ومات ببغداد سنة أربع وثمانين وأقطع ملك شاه بلاد ارّان لأصحاب باغي سيان صاحب انطاكية ولما مات باغي سيان رجع ابنه الى ولاية أبيه ثم أقطع السلطان بركيارق كنجة وأعمالها لمحمد كما قلناه سنة ست وثمانين ولما اشتدّ واستفحل قتل أتابك قطلغ تكين واستولى على بلاد ارّان كلها ولحق مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك بعد مقتل صاحبه أنز فاستخلصه وقرّبه وأشار عليه مؤيد الملك فطلب الأمر لنفسه فخطب له بأعماله واستوزر مؤيد الملك وقارن ذلك مقتل مجد الملك الباسلانيّ المتغلب في دولة بركيارق فاستوحش أصحابه لذلك ونزعوا الى محمد وساروا جميعا الى الريّ وكان بركيارق قد سبقهم اليها واجتمع اليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي [1] من أكابر الأمراء وعز الملك بن نظام الملك ولما بلغه مسير أخيه محمد اليه رجع الى أصبهان فمنعوه من الدخول فسار الى خوزستان وملك محمد الريّ في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ووجد بها زبيدة أم بركيارق قد تخلفت عن ابنها فحبسها مؤيد الملك وصادرها ثم قتلها خنقا بعد ان تنصح له أصحابه في شأنها فلم يقبل وكان سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد قد استوحش من بركيارق فاتفق هو وكربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر وسرخاب بن بدر صاحب كنكسون وساروا الى السلطان محمد بقمّ فخلع عليهم وردّ كوهراس الى بغداد في شأن الخطبة فخطب له بالخليفة ولقبه حياة الدين والدنيا وسار كربوقا وجكرمش مع السلطان محمد الى أصبهان والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل الباسلاني
كان أبو الفضل سعد الباسلاني ويلقب مجد الملك متحكما عند السلطان بركيارق ومتحكما في دولته ولما فشا القتل في أمرائه من الباطنية استوحشوا ونسبوا ذلك للباسلاني وكان من أعظم من قتل منهم الأمير برسق فأتهم ابنه زنكي وأقبورني الباسلاني في قتله ونزعوا عن بركيارق الى السلطان محمد فاجتمع الأمراء ومقدّمهم أمير الحيرة لكابك وطغايرك من الروز وبعثوا
__________
[1] ينال بن انوشتكين الحسامي: ابن الأثير ج 10/ 288.(5/26)
الى بني برسق يستدعونهم للطلب بثار أبيهم فجاءوا واجتمعوا قريبا من همدان ووافقهم العسكر جميعا على ذلك وبعثوا الى بركيارق يطلبون الباسلاني فامتنع وأشار عليه الباسلاني بإجابتهم لئلا يفعلوا ذلك بغير رأي السلطان فيكون وهنا على الدولة فاستحلفهم السلطان فدفعه اليهم فقتله الغلمان قبل أن يتصل بهم وسكنت الفتنة وحمل رأسه الى مؤيد الملك واستوحش الأمراء لذلك من بركيارق وأشاروا عليه بالعود الى الريّ ويكفونه قتال أخيه محمد فعاد متشاغلا ونهبوا سرادقه وساروا الى أخيه محمد ولحق بركيارق بأصبهان ثم لحق رستاق كما تقدّم.
اعادة الخطبة ببغداد لبركيارق
ولما سار بركيارق الى خوزستان ومعه نيال بن أبي شكين الحسامي مع عسكره سار من هنالك الى واسط ولقيه صدقة بن مزيد صاحب الحلة ثم سار الى بغداد وكان سعد الدولة كوهراس الشحنة على طاعة محمد فخرج عن بغداد ومعه أبو الغازي بن بن ارتق وغيره وخطب لبركيارق ببغداد منتصف صفر سنة ثلاث وتسعين بعد ان فارقها كوهراس وأصحابه وبعثوا الى السلطان محمد ومؤيد الملك يستحثونهما فأرسلا اليهم كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر يستكثرون بهم في المدافعة وطلب جكرمش من كوهراس السير لبلده خشية عليها فأذن له ثم يئس كوهراس وأصحابه من محمد فبعثوا الى بركيارق بطاعتهم فخرج اليهم واسترضاهم ورجع الى بغداد وقبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة وطالبه بما أخذ هو وأبوه من الموصل وديار بكر أيام ولايتهم عليها فصادرهم على مائة وستين ألف دينار واستوزر الأغر أبا المحاسن عند الجليل ابن علي بن محمد الدهستاني وخلع الخليفة على بركيارق.
المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد ومقتل كوهراس وهزيمة بركيارق والخطبة لمحمد
ثم سار بركيارق من بغداد لحرب أخيه محمد ومر بشهرزور فاجتمع اليه عسكر كثير من التركمان وكاتب رئيس همدان يستحثه فركب وسار للقاء أخيه على فراسخ من همذان في أوّل رجب من سنة ثلاث وتسعين وفي ميمنته كوهراس وعزّ الدولة بن صدقة بن مزيد وسرحاب(5/27)
ابن بدر وفي ميسرته كربوقا وفي ميمنته محمد بن أضر وابنه أيار [1] وفي ميسرته مؤيد الملك والنظامية ومعه في القلب أمير سرخو شحنة أصبهان فحمل كوهراس من الميمنة على مؤيد الملك والنظامية فهزمهم وانتهى الى خيامهم فنهبها وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزموا وحمل محمد على بركيارق فهزمه ووقف محمد مكانه وعاد كوهراس من طلب المنهزمين فكبا به فرسه فقتل وجيء بالاغر أبي المحاسن يوسف وزير بركيارق أسيرا فأكرمه مؤيد الملك ونصب له خيمة وبعثه الى بغداد في الخطبة لمحمد فخطب له منتصف رجب من السنة وكانت أوليّة سعد الدولة كوهراس انه كان خادما للملك أبي كلينجار بن بويه وجعله في خدمة ابنه أبي نصر ولما حبسه طغرلبك مضى معه الى قلعة طغرل فلما مات انتقل الى خدمة السلطان البارسلان وترقّى عنده وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد وحضر يوم قتله فوقّاه بنفسه ثم أرسله ملك شاه الى بغداد في الخطبة وجاء بالخلع والتقليد وحصل له من نفوذ الأمر واتباع الناس ما لم يحصل لغيره الى أن قتل في هذه المعركة وولى شحنة بغداد بعده ايلغازي بن أرتق.
مسير بركيارق خراسان وانهزامه من أخيه سنجر ومقتل الأمير داود حبشي أمير خراسان
لما انهزم بركيارق من أخيه محمد خلص في الفلّ الى الريّ واجتمع له جموع من شيعته فسار الى خراسان وانتهى الى أسفراين وكتب الأمير داود حبشي [2] الى التونطاق يستدعيه من الدامغان وكان أميرا على معظم خراسان وعلى طبرستان وجرجان فأشار عليه بالمقام بنيسابور فقصدها وقبض على عميدها أبي محمد وأبي القاسم بن امام الحرمين ومات أبو القاسم في محبسه مسموما ثم زحف سنجر الى الأمير داود فبعث الى بركيارق يستدعيه لنجدته فسار اليه والتقى الفريقان بظاهر بوشنج وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته الأمير كوكر [3] ومعه في القلب الأمير رستم فحمل بركيارق على رستم فقتله وانقضّ الناس على سنجر وكاد ينهزم وأخذ بركيارق أمّ سنجر أسيرة وشغل أصحاب بركيارق بالنهب فحمل عليهم برغش وكوكر فانهزموا واستمرّت الهزيمة على بركيارق وهرب الأمير داود فجيء به الى برغش أسيرا
__________
[1] وكان محمد في القلب ومعه الأمير سرمز وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز الكامل ج 10 ص 295.
[2] الأمير دازحبشي (الكامل ج 10 ص 296) .
[3] كندكز (الكامل ج 10 ص 297)(5/28)
فقتله وسار بركيارق الى جرجان ثم الى الدامغان ودخل البرية ثم استدعاه أهل أصبهان وجاءه جماعة من الأمراء منهم جاول سقاوو وسبقه محمد الى أصبهان فعدل عنها الى عسكر مكرم.
المصاف الثاني بين بركيارق ومحمد وهزيمة محمد وقتل وزيره مؤيد الملك والخطبة لبركيارق
لما انهزم بركيارق أمام سنجر سنة ثلاث وتسعين وسار الى أصبهان فوجد أخاه محمدا قد سبقه اليها فعدل عنها الى خوزستان ونزل الى عسكر مكرم وقدم عليه هناك الأميران زنكي والبكي ابنا برسق سنة أربع وتسعين وساروا معه الى همذان وهرب اليه الأمير أياز في خمسة آلاف من عسكر محمد لأنّ صاحب أميرا ضر [1] مات في تلك الأيام وظنوا أن مؤيد الملك دسّ عليه وزيره فسمه وكان أياز في جملة أمير أضر فقتل الوزير المتهم ولحق بركيارق ثم وصل اليه سرحاب بن كنجر وصاحباه فاجتمع له نحو من خمسين ألف فارس ولقيه محمد في خمسة عشر ألفا واستأمن أكثرهم إلى بركيارق يوم أوّل جمادى الأخيرة سنة أربع وتسعين واستولت الهزيمة على محمد وجيء بمؤيد الملك أسيرا فوبخه ثم قتله بيده لانه كان سيّئ السيرة مع الأمراء كثير الحيل في تدبير الملك ثم بعث الاغرّ أبو المحاسن وزير بركيارق أبا إبراهيم الأستراباذيّ لاستقصاء أحوال مؤيد الملك وذخائره ببغداد فحمل منها ما لا يسعه الوصف يقال انه وجد في ذخائره ببلاد العجم قطعة بلخش زنتها أربعون مثقالا واستوزر محمد بعده خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين ثم سار السلطان بركيارق الى الريّ ووفد عليه هنالك كربوقا [2] صاحب الموصل ودبيس بن صدقة وأبوه يومئذ صاحب الحلة وسار السلطان قافلا الى جرجان وبعث الى أخيه سنجر يستجديه فبعث اليه ما أقامه ثم طلبه في المدد فسار اليه سنجر من خراسان ثم سارا جميعا الى الدامغان فخرباها وسار الى الري
__________
[1] أمير أضر: ورد في الكامل أمير آخر وهو الصحيح وآخر: (بضم الخاء المعجمة والراء: قصبة ناحية دهستان، بين جرجان وخوارزم وقيل آخر قرية بدهستان نسب اليها جماعة من أهل العالم، منهم أبو الفضل العباس بن احمد بن الفضل الزاهد وكان فقيها، فاضلا، معتزليا، أديبا، لغويا ومنهم أبو الفتيان عمر بن عبد الكريم الروّاسي ونيرار بن عبد الواحد الدهستاني وغيرهم. وآخر قرية بين سمنان ودامغان، بينها وبين سمنان تسعة فراسخ، سمع بها الحافظ أبو عبد الله بن النّجّار نقلته من خطّة وأخبرني به من لفظة) معجم البلدان.
[2] وفي الكتب الحديثة اسمه كريوخا (العلاقات الاجتماعية، نقاش ص 21)(5/29)
واجتمعت عليه النظامية وغيرهم فكثرت جموعهم وكان بركيارق بعد الظفر قد فرق عساكره لضيق الميرة ورجع دبيس بن صدقة الى أبيه وخرج بآذربيجان داود بن إسماعيل ابن ياقوتي فبعث لقتاله قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف واستأذنه أياز في المسير الى ولايته بهمدان ويعود بعد الفطر فبقي في قلة من العساكر فلما بلغه قرب أخيه محمد وسنجر اضطرب حاله وسار الى همذان ليجتمع مع أياز فبلغه انه قد راسل أخاه محمدا وأطاعه فعاد الى خوزستان ولما انتهى الى تستر استدعى ابن برسق وكان من جملة أياز فلم يحضر وتأخر فآمنه فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان لحق به أياز وكان راسل محمدا فلم يقبله وبعث عساكره الى همدان فلحق بهمدان أياز وأخذ محمد محلة [1] أياز بهمدان وكانت كثيرا من كل صنف وصودر أصحابه [2] بهمدان بمائة ألف دينار وسار بركيارق وأياز الى بغداد فدخلها منتصف ذي القعدة من سنة أربع وتسعين وطلب من الخليفة المال للنفقة فبعث اليه بعد المراجعة بخمسين ألف دينار وعاث أصحاب بركيارق في أموال الناس وضجروا منه ووفد عليه أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية [3] قاضي جبلة من سواحل الشام منهزما من الافرنج بأموال جليلة المقدار فأخذها بركيارق منه وقد تقدّم خبر ابن المصلحية في دولة العباسيين ثم بعث وزير بركيارق الأغر [4] بالمحاسن الى صدقة بن مزيد صاحب الحلة في ألف ألف دينار يزعم أنها تخلفت عنده من ضمان البلاد وتهدده عليها فخرج عن طاعة بركيارق وخطب لمحمد أخيه وبعث اليه بركيارق في الحضور والتجاوز عن ذلك وضمن له أياز جميع مطالبه فأبي الا ان يدفع الوزير واستمرّ على عصيانه وطرد عامل بركيارق عن الكوفة واستضافها اليه.
مسير بركيارق عن بغداد ودخول محمد وسنجر اليها
ولما استولى السلطان محمد وأخوه سنجر على همذان سار في اتباع بركيارق الى حلوان فقدم عليه هنالك أبو الغازي ابن ارتق في عساكره وخدمه وكثرة جموعه فسار الى بغداد وبركيارق عليل بها فاضطرب أصحابه وعبروا به الى الجانب الغربي ووصل محمد الى بغداد آخر سنة
__________
[1] وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير أياز بهمذان (الكامل ج 10 ص 307)
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ونهبوا داره وصادروا جماعة من أصحابه وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار.
[3] ورد اسمه في الكامل ابن صليحة
[4] وهو الأغر أبو المحاسن الدهستاني(5/30)
أربع وتسعين وتراءى الجمعان بشاطئ دجلة وجرت بينهم المراماة والنشاب وكان عسكر محمد ينادون عسكر بركيارق يا باطنية ثم سار بركيارق الى واسط ونهب عسكره جميع ما مرّوا عليه ودخل محمد الى دار المملكة ببغداد وجاءه توقيع المستظهر بالاستبشار بقدومه وخطب له ونزل الملك سنجر بدار كوهراس ووفد على السلطان محمد ببغداد صدقة صاحب الحلة في محرّم سنة خمس وسبعين [1] .
قتل بركيارق الباطنية
كان هؤلاء الباطنية قد ظهروا بالعراق وفارس وخراسان وهم القرامطة والدعوة بعينها دعوتهم الا أنهم سمعوا في هذه الأجيال بالباطنية والإسماعيلية والملاحدة والفداوية وكل اسم منها باعتبار فالباطنية لانهم يبطنون دعوتهم والإسماعيلية لانتساب دعوتهم في أصلها لإسماعيل الامام بن جعفر الصادق والملاحدة لان بدعتهم كلها الحاد والفداوية لانهم يفادون أنفسهم بالمال على قتل من يسلطون والقرامطة نسبة الى قرمط منشئ دعوتهم وكان أصلهم من البحرين في المائة الثالثة وما بعدها ثم نشأ هؤلاء بالمشرق أيام ملك شاه فأوّل ما ظهروا بأصبهان واشتدّ في حصار بركيارق وأخيه محمود وأمه خاتون فيها ثم ثارت عامة أصبهان بهم بإشارة القضاة وأهل الفتيا فقتلوهم في كل جهة وحرقوهم بالنار ثم انتشروا واستولوا على القلاع ببلاد العجم كما تقدّم في أخبارهم ثم أخذ بمذهبهم نيران شاه بن بدران شاه بن قارت بك [2] صاحب كرمان حمله عليه كاتب من أهل خوزستان يسمى أبا زرعة وكان بكرمان فقيه من الحنفية يسمى أحمد بن الحسين البلخي مطاع في الناس فخشي من نكيره فقتله فهرب عنه صاحب جيشه وكان شحنة البلد ولحق بالسلطان محمد ومؤيد الملك بأصبهان وثار الجنا بعده بنيران شاه الى مدينة كرمان فمنعه أهلها ونهبوه فقصد قلعة سهدم [3] واستجار بصاحبها محمد بهستون وبعث أرسلان شاه عساكر لحصارها فطرده بهستون وبعث مقدم العساكر في طلبه فجيء به أسيرا وبأبي زرعة الكاتب معه فقتلهما أرسلان شاه واستولى على بلاد كرمان وكان بركيارق كثيرا ما يسلطهم على من يريد قتله من الأمراء مثل انز شحنة أصبهان وأرغش وغيرهم فامنوا جانبه وانتشروا في عسكره وأغروا الناس ببدعتهم
__________
[1] ذكرت هذه الحادثة في الكامل ج 10 ص 308: من حوادث سنة اربع وتسعين واربعمائة.
[2] نيران شاه بن توران شاه بن قاروت بك الكامل ج 10 ص 320 وورد اسمه في نسخة اخرى نيران شاه.
[3] وفي الكامل: قلعة سجرم.(5/31)
وتجاوزوا الى التهديد عليها حتى خافهم أعيان العسكر وصار بركيارق يصرفهم على أعدائه والناس يتهمونه بالميل اليهم فاجتمع أهل الدولة وعذلوا بركيارق في ذلك فقبل نصيحتهم وأمر بقتل الباطنية حيث كانوا فقتلوا وشردوا كل مشرد وبعث الى بغداد بقتل أبي إبراهيم الأستراباذيّ الّذي بعثه أبو الأغر لاستقصاء أموال مؤيد الملك وكان يتهم بمذهبهم فقتل وقتل بالعسكر الأمير محمد من ولد علاء الدين بن كاكويه وهو صاحب مدينة تيرد وكان يتهم بمذهبهم وسعى بالكيا الهراسي مدرس النظامية انه باطني فأمر السلطان محمد بالقبض عليه حتى شهد المستظهر ببراءته وعلو درجته في العلم فاطلقه وحسمت علة الباطنية بين الجمهور وبقي أمرهم في القلاع التي ملكوها الى ان انقرضوا كما تقدّم في اخبارهم مستوفي.
(المصاف الثالث بين بركيارق ومحمد والصلح بينهما) ولما رحل بركيارق عن بغداد الى واسط ودخل اليها السلطان محمد اقام بها الى منتصف المحرم من سنة خمس وتسعين ثم رحل الى همدان وصحبه السلطان سنجر لقصد خراسان موضع إمارته وجاءت الاخبار الى المستظهر باعتزام بركيارق على المسير الى بغداد ونقل له عنه قبائح من أقواله وأفعاله فاستدعى السلطان محمدا من همدان وقال أنا أسير معك لقتاله فقال محمد أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين ورجع ورتب ببغداد أبا المعالي شحنة وكان بركيارق لما سار من بغداد الى واسط هرب أهلها منه الى الزبيدية ونزل هو بواسط عليلا فلما أفاق أراد العبور الى الجانب الشرقي فلم يجد سفنا ولا نواتية وجاءه القاضي أبو علي الفارسيّ الى العسكر واجتمع بالأمير أياز والوزير فاستعطفهما لأهل واسط وطلب اقامة الشحنة بينهم فبعثاه وطلبا من القاضي من يعبر فأحضر لهم رجالا عبروا بهم فلما صاروا في الجانب الشرقي نهب العسكر البلد فجاء القاضي واستعطفهم فمنعوا النهب واستأمن اليهم عسكر واسط فأمنوهم وسار بركيارق الى بلاد بلخ وبرسق في الأهواز وساروا معه ثم بلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار في اتباعه على نهاوند الى أن أدركه وتصافوا ولم يقتتلوا لشدّة البرد ثم عاودوا في اليوم الثاني كذلك وكان الرجل يخرج لقريبه من الصف الأخر فيتصافحان ويتساءلان ويفترقان ثم جاء الأمير بكراج وعبر من عسكر محمد الى الأمير أياز والوزير الأغر فاجتمعوا وعقدوا الصلح بين الفريقين على ان السلطان بركيارق والملك محمد ويضرب له ثلاث نوب ويكون له من البلاد حرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل ويمده بركيارق بالعساكر على من يمتنع عليه منها وتحالفا على ذلك وافترقا وكان العقد في ربيع الأوّل سنة خمس وتسعين وسار بركيارق الى ساوة ومحمد الى أستراباذ وكل أمير على أقطاعه والله سبحانه وتعالى أعلم
.(5/32)
انتقاض الصلح والمصاف الرابع بين السلطانين وحصار محمد بأصبهان
لما انصرف السلطان محمد الى أستراباذ وكان اتهم الأمراء الذين سعوا في الصلح بالخديعة فسار الى قزوين ودس الى رئيسها لان يصنع صنيعا ويدعوه اليه مع الأمراء ففعل وجاء السلطان الى الدعوة وقد تقدم الى أصحابه بحمل السلاح ومعه يشمك وافتكين من أمرائه فقبض عليهما وقتل يشمك وسمل افتكين وورد عليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي نازعا عن أخيه بركيارق.
ولما التقى الفريقان حمل سرخاب بن كشمر [1] الديليّ صاحب ساوة على نيال الحسامي فهزمه واتبعه عامّة العسكر واستولت الهزيمة على عسكر محمد ومضى بعضهم الى طبرستان وبعضهم الى قزوين وذلك في جمادى من سنة خمس وتسعين لاربعة أشهر من المصاف قبله ولحق محمد في الفل بأصبهان ومعه نيال الحسامي وأصبهان في حكمه فحصنها وسدّ ما ثلم من سورها وأعمق الخندق وفرّق الأمراء في الأسوار وعلى الأبواب ونصب المجانيق وجاء بركيارق في خمسة عشر ألف مقاتل فأقام محاصرا للبلد حتى اشتدّ الحصار وعدمت الأقوات واستقرض محمد المال للجند من أعيان البلدة مرّة بعد أخرى فلما جهده الحصار خرج من البلد ومعه الأمير نيال وترك باقي الأمراء وبعث بركيارق الأمير أياز في عسكر لطلبه فلم يدركه وقيل بل أدركه وذكره العهد فرجع عنه بعد ان أخذ رايته وجشره [2] وثلاثة أحمال من المال ولما خرج محمد عن أصبهان طمع المفسدون والسودية في نهبها فاجتمع منهم ما يزيد على مائة ألف وزحفوا بالسلالم والذبابات وطموا الخندق وصعدوا في السلالم بإشارة أهل البلد وجدّوا في دفاعهم وعادوا خائبين ورحل بركيارق آخر ذي القعدة من سنة خمس وتسعين واستخلف على البلاد القديم الّذي يقال له شهرستان مرشد الهراس في ألف فارس مع ابنه ملك شاه وسار الى همدان وفي هذا الحصار قتل وزير بركيارق الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني عرض له يوما بعض الباطنية عند ما ركب من خيمته لباب السلطان طعنه طعنات
__________
[1] وفي بعض النسخ سرخاب بن كيخسرو الديلميّ وفي الكامل ج 10 ص 303، وحضر الدعوة ومعه الأمير افتكين وبسمل فقتل الأمير بسمل، وهو من أكابر الأمراء، وكحل الأمير افتكين، وكان الأمير نيال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق، وأقام مجاهدا للباطنية الذين في القلاع والجبال فقصد الآن السلطان محمد وسار معه الى الريّ يضرب النوب الخمس
[2] وفي الكامل: وأخذ علمه والجنز(5/33)
وتركه بآخر رمق وقتل غلام من غلمان بعض المكوس للوزير ثار فيه بمولاه وكان كريما واسع الصدر وولى الوزارة على حين فساد القوانين وقلة الجباية فكان يضطرّ لاخذ أموال الناس بالإضافة فنفرت الصفوة منه ولما مات استوزر بركيارق بعده الخطير أبا منصور الميبذي كان وزيرا لمحمد وقد وكله في الحصار ببعض الأبواب فبعث اليه محمد نيال بن أبي شكين يطالبه بالأموال لإقامة العسكر فخرج من الباب ليلا ولحق ببلده وامتنع بقلعتها فأرسل السلطان بركيارق اليها عساكر وخاصروها حتى استأمن وجاء عند قتل وزيره الأغر فاستوزره بركيارق مكانه والله تعالى أعلم بغيبه.
مسير صاحب البصرة الى واسط
كان صاحب البصرة لهذا العهد إسماعيل بن ارسلان حين كان السلطان ملك شاه شحنة بالريّ وولاه عليها عند ما اضطرّ أهلها وعجز الولاة عنهم فحسنت كفايته وأثخن فيهم وأصلح أمورها ثم عزل عنها وأقطع السلطان بركيارق البصرة للأمير قماج وكان ممن لا يفارقه فاختار إسماعيل لولاية البصرة ثم نزع قماج عن بركيارق وانتقل الى خراسان فحدّثت إسماعيل نفسه بالاستبداد بالبصرة وانتقض وزحف اليه مهذب الدولة بن أبي الخير من البطيحة ومعقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الاسدي من الجزيرة في العساكر والسفن فقاتلوه في مطاري وقتل معقل بسهم أصابه فعاد ابن أبي الخير الى البطيحة فأخذ إسماعيل السفن وذلك سنة احدى وتسعين وأسرهما واستفحل أمره بالبصرة وبنى قلعة بالايلة وقلعة بالشاطئ قبالة مطاري وأسقط كثيرا من المكوس واتسعت إمارته لشغل السلاطين بالفتنة وملك المسبار وأضافها الى ما بيده ولما كان سنة خمس وتسعين طمع في واسط وداخل بعض أهلها وركب اليها السفن الى نعماجار وخيم عليها بالجانب الشرقي أياما ودافعوه فارتحل راجعا حتى ظنّ خلاء البلد من الحامية فدس اليها من يضرم النار بها ليرجعوا فرجع عنهم فلما دخل أصحابه البلد فتك أهل البلد فيهم وعاد الى البصرة منهزما فوجد الأمير أبا سعيد محمد بن نصر بن محمود صاحب الأعمال لعمان وجنايا وشيراز وجزيرة بني نفيس محاصرا للبصرة وكان أبو سعيد قد استبدّ بهذه الأعمال منذ سنين وطمع إسماعيل في الاستيلاء على أعماله وبعث اليها السفن في البحر فرجعوا خائبين فبعث أبو سعيد خمسين من سفنه في البحر فظفروا بأصحاب إسماعيل معهم الى الصلح ولم يقع منه وفاء به فسار أبو سعيد بنفسه في مائة سفينة وأرسى بفوهة نهر الأبلة ووافق دخول إسماعيل من واسط فتزاحفوا برّا وبحرا فلما رأى إسماعيل(5/34)
عجزه عن المقاومة كتب الى ديوان الخليفة بضمان البلد ثم تصالحا ووقعت بينهما المهاداة وأقام إسماعيل مستبدّا بالبصرة الى أن ملكها من يده صدقة بن مزيد في المائة الخامسة كما مرّ في اخباره وهلك برامهرمز.
وفاة كربوقا صاحب الموصل واستيلاء جكرمش عليها واستيلاء سقمان بن ارتق على حصن كيفا
كان السلطان بركيارق أرسل كربوقا الى أذربيجان لقتال مودود بن إسماعيل بن ياقوتي الخارج بها سنة أربع وتسعين فاستولى على أكثر أذربيجان من يده ثم توفي منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين وكان معه أصهر صباوة بن خمار تكين وسنقرجه من بعده وأوصى الترك بطاعته فسار سنقرجه الى الموصل واستولى عليها وكان أهل الموصل لما بلغهم وفاة كربوقا قد استدعوا موسى التركماني من موضع نيابته عن كربوقا بحصن كيفا للولاية عليهم فبادر اليهم وخرج سنقرجه للقائه فظنّ انه جاء اليه وجرت بينهما محاورات وردّ سنقرجه الأمر الى السلطان فآل الأمر بينهما الى المطاعنة وكان مع موسى منصور بن مروان بقية أمراء ديار بكر وضرب سنقرجه فأبان رأسه وملك موسى البلد ثم زحف جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر الى نصيبين فملكها وخالفه موسى الى الجزيرة فبادر اليه جكرمش وهزمه واتبعه الى الموصل فحاصره بها فبعث موسى الى سقمان بن أرتق بديار بكر يستنجده على أن يعطيه حصن كيفا [1] فسار سقمان اليه وأفرج عنه جكرمش وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه ورجع سقمان الى كيفا وجاء جكرمش الى الموصل فحاصرها وملكها صلحا واستلحم قتلة موسى ثم استولى بعد ذلك على الخابور وأطاعه العرب والأكراد وأمّا سقمان بن أرتق فسار بعد مقتل موسى الى حصن كيفا واستمرّ بيده قال ابن الأثير وصاحبها الآن في سنة خمس وعشرين وستمائة محمود بن الفراء ارسلان بن داود بن سقمان بن أرتق والله تعالى أعلم.
(أخبار نيال بالعراق) كان نيال بن أبي شكين الحسامي مع السلطان محمد بأصبهان لما حاصرها بركيارق بعد المصاف الرابع سنة خمس وتسعين فلما خرج محمد من الحصار الى أذربيجان ومعه نيال استأذنه في قصد الريّ ليقيم بها دعوتهم وسار هو وأخوه علي وعسف بأهل الريّ وصادرهم وبعث السلطان بركيارق الأمير برسق بن برسق في ربيع من سنة ست
__________
[1] وفي بعض النسخ حصن كبيفا وهو تحريف.(5/35)
وتسعين فقاتله وهزمه واستولى برسق على الريّ وأعاده على ولاية بقزوين وسلك نيال على الجبال وهلك كثير من أصحابه وخلص الى بغداد فأكرمه المستظهر وأظهر طاعة السلطان محمد وتحالف هو وأبو الغازي وسقمان بن أرتق على مناصحة السلطان محمد وساروا الى صدقة بن مزيد بالحلة فاستخلفوه على ذلك ثم انّ نيال بن أبي شكين عسف بأهل بغداد وتسلط عليهم وصادر العمال فاجتمع الناس الى أبي الغازي بن أرتق وكان نيال صهره على أخته التي كانت زوجا لتتش وطلبوا منه أن يشفع لهم عنده وبعث المستظهر اليه قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ بالنهي عما يرتكبه فأجاب وحلف ثم نكث فأرسل المستظهر الى صدقة بن مزيد يستدعيه فوصل في شوّال من السنة واتفق مع نيال على الرحيل من بغداد ورجع الى حلته وترك ولده دبيسا يزعج نيال للخروج فسار نيال الى أوان، وعاث في السابلة وأقطع القرى لأصحابه وبعث الى صدقة فأرسل اليه العساكر وخرج فيها أبو الغازي بن أرتق وأصحاب المستظهر فسار نيال الى أذربيجان ورجعوا عنه.
ولاية كمستكين النصيري شحنة بغداد وفتنته مع أبي الغازي وحربه
كان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد ولاه عليها السلطان محمد عند مقتل كوهراس ولما ظهر الآن بركيارق على محمد وحاصره بأصبهان ونزل بركيارق همذان وأرسل الى بغداد كمستكين النصيري في ربيع سنة ست وتسعين وسمع أبو الغازي بمقدمة فاستدعى أخاه سقمان بن أرتق من حصن كبيعا [1] يستنجده وسار الى صدقة بن مزيد فحالفه على النصرة والمدافعة ورجع الى بغداد ووصل اليه أخوه سقمان بعد أن نهب في طريقه ووصل كمستكين الى قرقيسيا ولقيه شيعة بركيارق وخرج أبو الغازي وسقمان عن بغداد ونهب قرى دجيل واتبعتهما العساكر ثم رفعت عنهما وأرسل كمستكين الى صدقة صاحب الحلة فامتنع من طاعة بركيارق وسار من الحلة الى صرصر وقطع خطبة بركيارق وعبر بغداد واقتصر على الدعاء للخليفة وبعث صدقة الى أبي الغازي وسقمان يعرفهما بوصوله وهما بالحرني [2] وجاء الى دجيل ونهب القرى واشتدّ فسادهم وأضرّ ذلك بحال بغداد في غلاء الأسعار وجاء أبو الغازي وسقمان ومعهما دبيس بن
__________
[1] وفي بعض النسخ حصن كيفا.
[2] وفي الكامل ج 10 ص 357 وكان بحربي يعرفهما انه أتى لنصرتهما(5/36)
صدقة فخيموا بالرملة وقاتلهم العامّة ففتكوا فيهم وبعث المستظهر قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ وتاج الرؤساء بن الرحلات الى صدقة بن مزيد بمراجعة الطاعة فشرط خروج كمستكين عن بغداد فأخرجه المستظهر الى النهروان وعاد صدقة الى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ثم سار كمستكين النصيري الى واسط وخطب فيها لبركيارق ونهب عسكره سوادها فسار صدقة وأبو الغازي اليه وأخرجاه من واسط وتحصن بدجلة فقصده صدقة فانفض عنه أصحابه ورجع الى صدقة بالأمان فأكرمه وعاد الى بركيارق وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط وبعده لصدقة وأبي الغازي وولى كل واحد فيها ولده وعاد أبو الغازي الى بغداد وعاد صدقة الى الحلة وبعث ابنه منصورا مع أبي الغازي يطلب الرضا من المستظهر لانه كان سخطه من أجل هذه الحادثة.
المصاف الخامس بين بركيارق ومحمد
كان السلطان محمد لما سار عن كنجة وبلاد ارّان استخلف بها الأمير غزغلي وأقام بها في طائفة من عسكره مقيما خطبة السلطان محمد في جميع أعماله الى زنجان من آخر أذربيجان فلما انحصر محمد بأصبهان سار غزغلي لانجاده ومعه منصور بن نظام الملك ومحمد ابن أخيه مؤيد الملك فانتهوا الى الريّ وملكوها آخر خمس وتسعين ولقوا السلطان محمدا بهمدان عند ما خرج من أصبهان ومعه نيال بن أبي شكين وأخوه علي وأقاموا معه بهمدان ثم جاء الخبر بمسير بركيارق اليهم فتوجه السلطان محمد قاصدا شروان وانتهى الى أذربيجان فبعث اليه مودود بن إسماعيل بن ياقوتي الّذي كان بركيارق قتل أباه إسماعيل وكانت أخت مودود هذا تحت محمد وكان له طائفة من أعمال أذربيجان فاستدعى محمدا ليظاهره على بركيارق فسار اليه وانتهى الى سقمان وتوفي مودود في ربيع سنة ست وتسعين واجتمع عساكره على السلطان محمد وفيهم سقمان [1] القبطي ومحمد بن باغي بركيارق وقاتلهم على خراسان وسار أياز من عسكر بركيارق وجاء من خلف السلطان محمد فانهزم محمد وأصحابه ولحق بارقيش من أعمال خلاط ولقيه الأمير علي صاحب ارزن الرومي فمضى الى أصبهان وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي ثم سار الى هرمز وأمّا محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك فنجا من الوقعة الى ديار بكر ثم الى جزيرة ابن عمر ثم الى بغداد وكان أيام أبيه مقيما ببغداد في جوار المدرسة النظامية فشكى الى أبيه وخاطب كوهراس بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة
__________
[1] وفي الكامل ج 10 ص 360 سكمان القبطي(5/37)
ولحق سنة اثنتين وتسعين بمجد الملك؟ الباسلّاني وأبوه بكنجة عند السلطان محمد فلما خطب السلطان محمد لنفسه واستوزر أباه مؤيد الملك لحق محمد هذا بأبيه ثم قتل أبوه وبقي في جملة السلطان محمد.
استيلاء ملك بن بهرام على مدينة غانة
كان ملك بن بهرام بن ارتق ابن أخي أبي الغازي بن ارتق مالكا مدينة سروج فملكها الفرنج من يده فسار عنها الى غانة وغلب عليها بني العيش بن عيسى بن خلاط كانت لهم فقصدوا صدقة بن مزيد مستنجدين به فأنجدهم وجاء معهم فرحل ملك بن بهرام والتركمان عنها ودخلها بنو العيش وأخذ صدقة رهائنهم وعاد الى الحلة فرجع ملك إليها في ألفي رجل من التركمان وحار بها قليلا ثم عبر المخاضة وملكها واستباح أهلها ومضى الى هيت ورجع عنها.
(الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد) ثم استقر الأمر أخيرا بالسلطان بركيارق في الريّ وكان له الجبال وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين ولمحمد آذربيجان وبلاد أران وارمينية وأصبهان والعراق جميعا غير تكريت والبطائح بعضها وبعضها والبصرة لهما جميعا وخراسان لسنجر من جرجان الى ما وراء النهر يخطب فيها لأخيه محمد وله من بعده والعساكر كلهم يتحكمون عليهم بسبب الفتنة بينهما وقد تطاول الفساد وعمّ الضرر واختلفت قواعد الملك فأرسل بركيارق الى أخيه محمد في الصلح مع فقيهين من أماثل الناس ورغباه في ذلك وأعاد معهما رسلا آخرين وتقرّر الأمر بينهما أن يستقر محمد على ما بيده سلطانا ولا يعارضه بركيارق في الطول ولا يذكر اسمه في أعمال محمد وأن المكاتبة تكون بين الوزيرين والعساكر بالخيار في خدمة من شاءوا منهما ويكون للسلطان محمد من النهر المعروف باسترد الى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام والعراق بلاد صدقة بن مزيد وبقية الممالك الإسلامية لبركيارق وتحالفا على ذلك وانتظم الأمر وأرسل السلطان محمد الى أصحابه بأصبهان بالخروج عنها لأخيه بركيارق واستدعاهم إليه فأبوا وجنحوا الى خدمة بركيارق وساروا إليه بحريم السلطان محمد الّذي كانوا معهم فأكرمهم بركيارق ودلهم الى صاحبهم وحضر أبو الغازي بالديوان ببغداد وسار المستظهر في الخطبة لبركيارق فخطب له سنة سبع وتسعين وكذلك بواسط وكان أبو الغازي قبل ذلك في طاعة محمد فأرسل صدقة الى المستظهر يعذله في شأنه ويخبره بالمسير لإخراجه من بغداد ثم سار(5/38)
صدقة ونزل عند الفجاج وخرج أبو الغازي الى عقربا وبعث لصدقة بأنه انما عدل عن طاعة محمد للصلح الوقع بينه وبين أخيه وأنهما تراضيا على أن بغداد لبركيارق وانا شحنة بها واقطاعي حلوان فلا يمكنني التحوّل عن طاعة بركيارق فقبل منه ورجع الى الحلة وبعث المستظهر في ذي القعدة سنة سبع وتسعين بالخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والوزير الخطير واستخلفهم جميعا وعاد الى بغداد والله سبحانه ولىّ التوفيق.
(حرب سقمان وجكرمس [1] الافرنج)
قد تقدم لنا استيلاء الافرنج على معظم بلاد الشام وشغل الناس عنهم بالفتنة وكانت حرّان لقراجا من مماليك ملك شاه وكان غشوما فخرج منها لبعض مذاهبه وولى عليها الأصبهاني من أصحابه فعصى فيها وطرد أصحاب قراجا منها ما عدا غلاما تركيا اسمه جاولى جعله مقدم العسكر وأنس به فقرّره وتركه وملك حرّان وسار الافرنج إليها وحاصروها وكان بين جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وسقمان صاحب كيفا حروب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه فانتدبا لنصر المسلمين واجتمعا على الخابور وتحالفا وسار سقمان في سبعة آلاف من التركمان وجكرمس في ثلاثة آلاف من الترك والعرب والأكراد والتقوا بالافرنج على نهر بلخ فاستطرد لهم المسلمون نحو فرسخين ثم كرّوا عليهم فغنموا فيهم وقتلوا سوادهم وأخذ القمص بردويل صاحب الرها أسره تركمانيّ من أصحاب سقمان في نهر بلخ وكان سمند صاحب انطاكية من الافرنج ونيكري [2] صاحب الساحل منهم قد كمنا وراء الجبل ليأتيا المسلمين من ورائهم عند المعركة فلما عاينوا الهزيمة كمنوا بقية يومهم ثم هربوا فاتبعهم المسلمون واستلحموهم وأسروا منهم كثيرا وفلت سمند ونيكري بدماء أنفسهم ولما حصل الظفر للمسلمين عصى أصحاب جكرمس باختصاص سقمان بالقمّص وحملوه على أخذه لنفسه فأخذ جكرمس من خيام سقمان وشق ذلك عليه وأراد أصحابه [3] فأبى حذرا من افتراق المسلمين ورحل وفتح في طريقه عدّة حصون وسار جكرمس الى حران ففتحها ثم سار الى الرها فحاصرها خمس عشرة ليلة وعاد الى الموصل وقاد من القمص
__________
[1] وفي بعض النسخ جكرمش.
[2] وفي بعض النسخ: وكان بيمنر صاحب انطاكية من الافرنج وطنكري صاحب الساحل.
[3] كذا بياض في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 375: فلما عاد سكمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمّهم باختلافنا.(5/39)
بخمسة وثلاثين ألف دينارا ومائة وستين أسيرا من المسلمين.
(وفاة بركيارق وولاية ابنه ملك شاه) ثم توفي السلطان بركيارق بن ملك شاه بنردجرد [1] في أوائل ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين لاثنتي عشرة سنة ونصف من ملكه جاء إليها عليلا من أصبهان واشتدّ مرضه بنردجرد فولى عهد لابنه ملك شاه وعمره نحو من خمس سنين وخلع عليه وجعل الأمير أياز كافلة وأوصى أهل الدولة بالطاعة والمساعدة وبعثهم الى بغداد فأدركهم خبر وفاته بالطريق ورجع أياز حتى دفنه بأصبهان وجمع السرادقات والخيام والجثر والسمسمة لابنه ملك شاه وكان بركيارق قد لقي في ملكه من الرخاء والشدّة والسلم ما لم يلقه أحد فلما استقر [2] واستقامت سعادته أدركته المنية ولما توفي خطب لابنه ملك شاه ببغداد وكان أبو الغازي قد سار من بغداد إليه وهو بأصبهان يستحثه الى بغداد وجاء معه فلما مات سار مع ابنه ملك شاه والأمير أياز الى بغداد وركب الوزير أبو القاسم علي بن جهير فلقيهم به [3] ما لي وحضر أبو الغازي والأمير طغلبرك بالديوان وطلبا الخطبة لملك شاه فخطب له ولقب بألقاب جده ملك شاه.
حصار السلطان محمد الموصل
لما انعقد الصلح بين بركيارق ومحمد واختص كل منهما اعماله وكانت آذربيجان في قسمة محمد رجع محمد الى أذربيجان ولحق به سعد الملك أبو المحاسن الّذي كان نائبا بأصبهان بعد أن أبلى في المدافعة عنها ثم سلمها بعد الصلح الى نواب بركيارق واستوزره فأقام محمد الى صفر من سنة ثمان وتسعين ثم سار يريد الموصل على طريق مراغة ورحل وبلغ الخبر الى جكرمس فاستعد للحصار وأدخل أهل الضاحية الى البلد وحاصره محمد ثم بعث له يذكره ما استقر عليه بينه وبين أخيه وأن الموصل والجزيرة له وعرض عليه خط بركيارق بذلك وبإيمانه عليه ووعده أن يقرّها في عمالته فقال له جكرمس انّ السلطان كتب إلي بعد الصلح بخلاف ذلك فاشتدّ في حصاره واشتدّ أهل البلد في المدافعة ونفس الله عنهم برخص الأسعار وكان عسكر جكرمس مجتمعين قريبا من الموصل وكانوا يغزون على أطراف العسكر
__________
[1] وفي بعض النسخ بترجرد وفي الكامل بروجرد وهو الصحيح.
[2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 381: ولما قوي أمره في هذا الوقت وأطاعه المخالفون وانقادوا له أدركته منيته.
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 382: فلقيهم من ديالى وكانوا خمسة آلاف فارس، وحضر ايلغازي والأمير طغا بدك بالديوان.(5/40)