وأمر هرثمة ببناء هرطوس [1] وتولّى ذلك، فخرج الخادم بأمر الرشيد وبعث إليها جندا من خراسان ثلاثة أيام، وأشخص ألفا من أهل المصيصة وألفا من أنطاكية فتمّ بناؤها سنة اثنتين وتسعين. وفي هذه السنة تحرّكت الخرميّة بناحية أذربيجان فبعث إليهم عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر، ووافاه بقرملين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي. وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن مالك الخزاعيّ فافتتح مطمورة وكان الفداء على يديه بالبرذون. ثم كان الفداء الثاني وكان عدّة أسرى المسلمين فيه ألفين وخمسمائة.
الولاية على النواحي
كان على إفريقية مزيد بن حاتم كما قدّمناه ومات سنة إحدى وسبعين بعد أن استخلف ابنه داود فبعث الرشيد على إفريقية أخاه روح بن حاتم فاستقدمه من فلسطين وبعثه إلى إفريقية. وعزل أبا هريرة محمد بن فروج عن الجزيرة وقتله وولى مكانه [2] وفي سنة ست وسبعين ولّى الرشيد على الموصل الحكم بن سليمان، وقد كان خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين وغنم وسار إلى داريا وآمد وأرزق وخلاط فقفل لذلك ورجع إلى نصيبين، فأتى الموصل وخرج إليه الفضل في عساكرها فهزمهم على الزاب. ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه. وفي سنة ست وسبعين مات روح بن حاتم بإفريقية واستخلف حبيب بن نصر المهلّبيّ فسار الفضل إلى الرشيد فولّاه على إفريقية، وعاد إليها فاضطرب عليه الخراسانية من جند إفريقية ولم يرضوه، فولّى مكانه هرثمة بن أعين وبعث في العساكر فسكن الاضطراب، ورأى ما بإفريقية من الاختلاف فاستعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه، وقدم إلى العراق بعد سنتين ونصف من مغيبه. وفي هذه ولّى الفضل بن يحيى على مصر مكان أخيه جعفر مضافا إلى ما بيده من الريّ وسجستان وغيرهما. ثم عزله عن مصر وولّى عليها إسحاق بن سليمان فثارت به الجوقيّة من مصر وهم جموع من قيس وقضاعة فأمدّه بهرثمة بن أعين فأذعنوا وولّاه عليهم شهرا، ثم عزله وولى عبد الملك بن
__________
[1] هي مدينة طرسوس.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 114: «وفيها- 171- قتل الرشيد ابا هريرة محمد ابن فروخ، وكان على الجزيرة، فوجّه إليه الرشيد ابا حنيفة حرب بن قيس، فأحضره إلى بغداد وقتله» .(3/285)
صالح مكانه، وفيها فوّض أمر دولته إلى يحيى بن خالد. وفي سنة ثمانين بعث جعفر ابن يحيى إلى الشام في القوّاد والعساكر ومعه السلاح والأموال والعصبية التي كانت بها فسكنت الفتنة ورجع، فولّاه خراسان وسجستان فاستعمل عليها عيسى بن جعفر، وولّى جعفر بن يحيى المريس وقدم هرثمة بن أعين من إفريقية فاستخلفه جعفر على الحرد [1] وعزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرّويان وولّاها عبد الله بن حازم، وولّى على الجزيرة سعيد بن مسلم وولّى على الموصل يحيى بن سعيد الحريشيّ فأساء السيرة وطالبهم بخراج سنين ماضية، فانجلا أكثر أهل البلد، وعزله الرشيد وولّى عليها يحيى بن خالد. وفي سنة إحدى وثمانين ولّى على إفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكّيّ وكان أبوه من قوّاد الشيعة ومحمد رضيع الرشيد وتلاده فلما استعفى هرثمة ولّاه مكانه، واضطربت عليه إفريقية، وكان إبراهيم بن الأغلب بها واليا على الزاب، وكان جند إفريقية يرجعون إليه فأعانه وحمل الناس على طاعته بعد أن أخرجوه فكرهوا ولاية محمد بن مقاتل وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب ولاية إفريقية على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت تحمل من مصر معونة إلى والي إفريقية ويحمل هو كل سنة أربعين ألف دينار فاستشار الرشيد بطانته فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب، وولّاه الرشيد في محرّم سنة أربعة وثمانين، فضبط الأمور وقبض على المؤمنين وبعث بهم إلى الرشيد فسكنت البلاد. وابتنى مدينة بقرب القيروان وسماها العباسية وانتقل إليها بأهله وخاصّته وحشمه، وصار ملك إفريقية في عقبه كما يذكر في أخبارها إلى أن غلبهم عليها الشيعة العبيديّون.
وكان يزيد بن مزيد على أذربيجان فولّاه الرشيد سنة ثمان وثمانين على أرمينية مضافة إليها، وولّى خزيمة بن خازم على نصيبين. وولّى الرشيد سنة أربع وثمانين على اليمن ومكّة حمادا البربريّ وعلى السّند داود بن يزيد بن حاتم وعلى الجبل يحيى الحريشيّ، وعلى طبرستان مهرويّة الزاي، وقتله أهل طبرستان سنة خمس وثمانين، فولّى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشيّ. وفيها توفي يزيد بن زائدة الشيطاني [2] ببردعة وكان على أذربيجان وأرمينية فولّى مكانه ابنه أسد بن يزيد بن حاتم. وفي سنة تسع وثمانين سار الرشيد إلى الري وولّى على طبرستان والريّ ودنباوند
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 152: أنه ولّى جعفر بن يحيى الحرس.
[2] يزيد بن مزيد بن زائدة الشيبانيّ: ابن الأثير ج 6 ص 169.(3/286)
وقوس [1] وهمذان عبد الملك بن مالك. وفي سنة تسعين ولّى على الموصل خالد بن يزيد بن حاتم وقد تقدّم لنا ولاية هرثمة على سليمان ونكبة علي بن عيسى. في سنة إحدى وتسعين ظفر حمّاد البربري بهيصيم اليماني [2] وجاء به إلى الرشيد فقتله، وولّى في هذه السنة على الموصل محمد بن الفضل ابن سليمان وكان على مكة الفضل بن العبّاس أخي المنصور والسفّاح.
خلع رافع بن الليث بما وراء النهر
كان رافع بن نصر [3] بن سيّار من عظماء الجند فيما وراء النهر وكان يحيى بن الأشعث قد تزوّج ببعض النساء المشهورات الجمال وتسرّى عليها وأكثر ضرارها وتشوّقت إلى التخلّص منه، فدسّ إليها رافع بن الليث بأن تحاول من يشهد عليها بالكفر لتخلص منه وتحل للأزواج ثم ترجع وتتوب، فكان وتزوّجها وشكا يحيى بن الأشعث إلى الرشيد وأطلعه على جلّ الأمر، فكتب إلى علي بن عيسى أن يفرّق بينهما ويقيم الحدّ على رافع ويطوف به في سمرقند مقيّدا على حمار ليكون عظة لغيره، ففعل ذلك ولم يجده [4] رافع وحبس بسمرقند فهرب من الحبس ولحق بعلي بن عيسى في بلخ فهمّ بضرب عنقه، فشفع فيه ابنه عيسى فأمره بالانصراف إلى سمرقند فرجع إليها ووثب بعاملها فقتله وملكها وذلك سنة تسعين. فبعث عليّ لحربه ابنه عيسى فلقيه رافع وهزمه وقتله، فخرج علي بن عيسى لقتله وسار من بلخ إلى مرو مخافة عليها من رافع ابن الليث. ثم كانت نكبة علي بن عيسى وولاية هرثمة بن أعين على خراسان وكان مع رافع بن الليث جماعة من القوّاد ففارقوه إلى هرثمة منهم عجيف بن عنبسة وغيره. وحاصر هرثمة رافع بن الليث في سمرقند وضايقه، واستقدم طاهر ابن الحسين من خراسان فحضر عنده وعاث حمزة الخارجي في نواحي خراسان لخلائها من الجند، وحمل إليه عمال هراة وسجستان الأموال. ثم خرج عبد الرحمن إلى نيسابور سنة أربع وتسعين وجمع نحوا من عشرين ألفا، وسار إلى حمزة فهزمه وقتل من أصحابه خلقا وأتبعه إلى هراة حتى كتب المأمون إليه وردّه عن
__________
[1] قومس: المرجع السابق.
[2] هيصم اليماني: المرجع السابق.
[3] رافع بن الليث بن نصر: ابن الأثير ج 6 ص 195.
[4] مقتضى السياق: ولم يحدّه.(3/287)
ذلك. وكانت سنة ثلاث وتسعين بين هرثمة وبين أصحاب رافع وقعة كان الظفر فيها لهرثمة وأسر بشرا أخا رافع وبعث به إلى الرشيد وافتتح بخارى. وكان الرشيد قد سار من الرقّة بعد مرجعه من الصائفة التي بني فيها طرسوس على اعتزام خراسان لشأن رافع، وكان قد أصابه المرض، فاستخلف على الرقّة ابنه القاسم وضمّ إليه خزيمة بن خازم، وجاء إلى بغداد، ثم سار منها إلى خراسان في شعبان سنة اثنتين وتسعين واستخلف عليها ابنه الأمين، وأمر المأمون بالمقام معه فأشار عليه الفضل بن سهل بأن يطلب المسير مع الرشيد، وحذّره البقاء مع الأمين فأسعفه الرشيد بذلك وسار معه.
وفاة الرشيد وبيعة الأمين
ولما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في سفر سنة ثلاث وتسعين وقد اشتدّت عليه، فبعث ابنه المأمون إلى مرو ومعه جماعة من القوّاد عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن خزيمة [1] والعبّاس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسديّ والحريشيّ [2] ونعيم بن خازم، ثم سار الرشيد إلى موسى واشتدّ به الوجع وضعف عن الحركة وثقل فأرجف الناس بموته، وبلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم يطق النهوض فقال: ردّوني. ووصل إليه وهو بطوس بشير أخو رافع أسيرا بعث به هرثمة بن أعين فأحضره وقال: لو لم يبق من أجلي إلا حركة شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم أمر قصّابا ففصل أعضاءه ثم أغمي عليه وافترق الناس. ولما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان فيها وأنزل فيه قوما قرءوا فيه القرآن حتى ختموه وهو في محفة على شفيره ينظر إليه وينادي وا سوأتاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مات وصلّى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة أو تزيد وترك في بيت المال تسعمائة ألف ألف دينار. ولما مات الرشيد بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه، والمأمون يومئذ بمرو وكتب حمويّة مولى المهدي صاحب البريد إلى نائبة ببغداد وهو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد وهنأه بالخلافة فكان أوّل من فعل ذلك. وكتب صالح إلى أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد، وبعث معه بالخاتم والبردة
__________
[1] أسد بن يزيد: ابن الأثير ج 6 ص 212.
[2] السندي الحرشيّ: ابن الأثير ج 6 ص 212.(3/288)
والقضيب، فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة وصلّى بالناس الجمعة وخطب ثم نعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، وبايعته جملة أهله ووكّل سليمان بن المنصور وهم [1] عم أبيه وأمّه بأخذ البيعة على القوّاد وغيرهم. ووكّل السّنديّ بأخذ البيعة على الناس سواهم، وفرّق في الجند ببغداد رزق سنين. وقدمت أمّه زبيدة من الرقّة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد، وكان قد كتب إلى معسكر الرشيد وهو حيّ مع بكر بن المعتمر لما اشتدت علّة الرشيد وإلى المأمون بأخذ البيعة لهم وللمؤتمن أخيهما، وإلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر والخزائن والأموال برأي الفضل. وإلى الفضل بالاحتفاظ على ما معه من الحرم والأموال، وأقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة والحرس والحجابة. وكان الرشيد قد سمع بوصول بكر بالكتاب فدعاه ليستخرجها سنه فجحدها فضربه وحبسه. ثم مات الرشيد وأحضره الفضل فدفعها إليه ولما قرءوا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين وارتحل الفضل بالناس لهواهم في وطنهم وتركوا عهود المأمون. فجمع المأمون من كان عنده من قوّاد أبيه وهم عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى الرشيد وكان على حجابته والعبّاس بن المسيّب بن زهير وكان على شرطته وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته وعبد الرحمن بن عبد الملك ابن صالح وذو الرئاستين الفضل بن سهل وهو أخصهم به وأحظاهم عنده، فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم ويردّهم ومنعه الفضل من ذلك وقال: أخشى عليك منهم ولكن تكتب وترسل رسولك إليهم تذكّرهم البيعة والوفاء، وتحذّرهم الحنث، فبعث سهل بن صاعد ونوفلا الخادم بكتابه إليهم بنيسابور فقرأ الفضل كتابة وقال:
أنا واحد من الجند. وشدّ عبد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح وقال: لو كان صاحبك حاضرا لوضعته فيه وسبّ المأمون وانصرفوا، ورجع سهل ونوفل بالخبر إلى المأمون فقال له الفضل بن سهل: هؤلاء أعداء استرحت منهم وأنت بخراسان، وقد خرج بها المقنّع وبعده يوسف البر فتضعضعت لهما الدولة ببغداد، وأنت رأيت عند خروج رافع بن الليث كيف كان الحال، وأنت اليوم نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة. فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقال: إنّ عبد الله بن مالك والقوّاد أنفع مني لشهرتهم وقوّتهم وأنا خادم
__________
[1] لعلها هو عم.(3/289)
لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك. وجاءهم الفضل في منازلهم وعرض عليهم البيعة للمأمون، فمنهم من امتنع ومنهم من طرده، فرجع إلى المأمون وأخبره فقال أنت بالأمر وأشار عليه الفضل أن يبعث على الفقهاء ويدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السّنة وردّ المظالم ويعقد على الصفوف ففعل جميع ذلك، وأكرم القوّاد. وكان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى ابن كعب وللربعيّ مكان أبي داود وخالد بن إبراهيم، ولليماني مكان قحطبة ومالك بن الهيثم، وكل هؤلاء نقباء الدولة. ووضع عن خراسان ربع الخراج فاغتبط به أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عم نبيّنا. وأقام المأمون يتولّى ما كان بيده من خراسان والريّ وأهدى إلى الأمين وكتب إليه وعظّمه. ثم إنّ الأمين عزل لأوّل ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة واستعمل عليها خزيمة بن خازم وأقرّ المؤتمن على قنّسرين والعواصم. وكان على مكّة داود بن عيسى بن موسى ابن محمد، وعلى حمص إسحاق بن سليمان فخالف عليه أهل حمص وانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين وولّى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشيّ، فقتل عدّة منهم وحبس عدّة، واضرم النار في نواحيها، وسألوا الأمان فأجابهم، ثم انتقضوا فقتل عدّة منهم ثم ولّى عليهم إبراهيم بن العبّاس.
أخبار رافع وملوك الروم
وفي سنة ثلاث وتسعين دخل هرثمة بن أعين سمرقند وملكها وقام بها ومعه طاهر ابن الحسين فاستجاش رافع بالترك فأتوه وقوي بهم. ثم انصرفوا وضعف أمره، وبلغه الحسن سيرة المأمون فطلب الأمان وحضر عند المأمون فأكرمه. ثم قدم هرثمة على المأمون فولّاه الحرس وأنكر الأمين ذلك كله. وفي هذه السنة قتل يقفور [1] ملك الروم في حرب برجان لسبع سنين من ملكه، وملك بعده ابنه استبراق وكان جريا فمات لشهرين وملك بعده صهره على أخته ميخاييل بن جرجيس، ووثب عليه الروم سنة أربع وتسعين بعد اثنتين من ملكه فهرب وترهّب وولّوا بعده إليوق [2] القائد.
__________
[1] هو نقفور وقد مرّ في مكان آخر من هذا الكتاب.
[2] أليون القائد: ابن الأثير ج 6 ص 236.(3/290)
الفتنة بين الأمين والمأمون
ولما قدم الفضل بن الربيع على الأمين ونكث عهد المأمون خشي غائلته، فأجمع قطع علائقه من الأمور وأغرى الأمين بخلعه والبيعة للعهد لابنه موسى، ووافقه في ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسّنديّ وغيرهما ممن يخشى المأمون. وخالفهم خزيمة بن خازم وأخوه عبد الله وناشدوا الأمين في الكفّ عن ذلك وأن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم لنكث عهده. ولجّ الأمين في ذلك، وبلغه أنّ المأمون عزل العبّاس بن عبد الله بن مالك عن الريّ وأنه ولىّ هرثمة بن أعين على الحرس وأنّ رافع بن الليث استأمن له فآمنه وسار في جملته فكتب إلى العمّال بالدعاء لموسى ابنه بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فبلغ ذلك المأمون فأسقط اسم الأمين من الطرد وقطع البريد عنه. وأرسل الأمين إليه العبّاس بن موسى بن عيسى وخاله عيسى بن جعفر بن المنصور وصالحا صاحب الموصل، ومحمد بن عيسى بن نهيك يطلب منه تقديم ابنه موسى عليه في العهد ويستقدمه. فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان فقالوا: إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان فأحضر الوفد وأعلمهم بامتناعه مما جاءوا فيه. واستعمل الفضل بن سهل العبّاس بن موسى ليكون عينا لهم عند الأمين ففعل، وكانت كتبه تأتيهم بالأخبار. ولما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان وأن يكون له بخراسان صاحب بريد يكاتبه، فامتنع المأمون من ذلك وأوعد إلى قعوده بالريّ ونواحيها يضبط الطرق وينقذها من غوائل الكتب والعيون، وهو مع ذلك يتخوّف عاقبة الخلاف. وكان خاقان ملك التبت قد التوى عليه وجيفونة فارق الطاعة، وملوك الترك منعوا الضريبة، فخشي المأمون ذلك وحفظ عليه الأمر بأن يولّى خاقان وجيفونة بلادهما، ويوادع ملك كابل، ويترك الضريبة لملوك الترك الآخرين. وقال له بعد ذلك ثم أضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال فان ظفرت وإلا لحقت بخاقان مستجيرا فقبل إشارته وفعلها، وكتب إلى الأمين يخادعه بأنه عامله على هذا الثغر الّذي أمره الرشيد بلزومه وأنّ مقامه به أشدّ غناء ويطلب إعفاء من الشخوص إليه، فعلم الأمين أنه لا يتابعه على مراده فخلعه وبايع لولده في أوائل سنة خمس وتسعين وسمّاه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن من المنابر وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك(3/291)
وعلى حرسه أخوه عيسى، وعلى رسائله صاحب القتلى. وكان يدعى له على المنابر ولابنه الآخر عبد الله ولقبه القائم بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين والمأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك، وسارت الكتب من ذلك إلى المأمون ببغداد من عيونه بها، فقال المأمون: هذه أمور أخبر الرائي عنها وكفاني أنا أن أكون مع الحق وبعث الفضل بن سهل إلى جند الريّ بالأقوات والإحسان، وجمع إليهم من كان بأطرافهم. ثم بعث على الريّ طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق أسعد الخزاعيّ أبا العباس أميرا وضمّ إليه القوّاد والأجناد فنزلها ووضع المسالح والمراصد، وبعث الأمين عصمة بن حمّاد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وأمره أن يقيم بهمذان ويبعث مقدمته إلى ساوة.
خروج ابن ماهان لحرب طاهر ومقتله
ثم جهّز الأمين علي بن ماهان إلى خراسان لحرب المأمون، يقال دسّ بذلك الفضل ابن سهل العين له عند الفضل بن الربيع، فأشار به عليهم لما في نفوس أهل خراسان من النفرة عن ابن ماهان فجدّوا في حربه. ويقال حرّض أهل خراسان على الكتب إلى ابن ماهان ومخادعته إن جاء. فأمره الأمين بالمسير وأقطعه نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وسائر كور الجبل حربا وخراجا، وحكّمه في الخزائن وأعطاه الأموال وجهّز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجليّ وهلال بن عبد الله الحضرميّ في الانضمام، وركب إلى باب زبيدة ليودّعها فأوصته بالمأمون بغاية ما يكون أن يوصى به، وأنه بمنزلة ابنها في الشفقة والموصلة وناولته قيدا من فضة وقالت له: إن سار إليك فقيّده به مع المبالغة في البرّ والأدب معه. ثم سار عليّ بن عيسى من بغداد في شعبان وركب الأمين يشيعه في القوّاد والجنود ولم ير عسكر مثل عسكره. ولقي السفر بالسابلة فأخبروه أنّ طاهرا بالريّ يعرض أصحابه، وهو مستعدّ للقتال. وكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان يعدهم ويمنّيهم، وأهدى لهم التيجان والأسورة على أن يقطعوا الطرق عن خراسان فأجابوا، ونزل أوّل بلاد الريّ فأشار عليه أصحابه باذكاء العيون والطلائع، والتحصن بالخندق فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له، وهو إمّا أن يتحصن بالريّ فيثب إليه أهلها، وإمّا أن يفرّ إذا قربت منه خيلنا. ولما كان من الريّ على عشرة فراسخ استشار أصحاب طاهر في لقائه فمالوا إلى التحصّن بالريّ فقال: أخاف أن يثب بنا أهلها. وخرج فعسكر على خمسة فراسخ(3/292)
منها في أقل من أربعة آلاف فارس. وأشار عليه أحمد بن هشام كبير جند خراسان أن ينادي بخلع الأمين وبيعة المأمون لئلا يخادعه عليّ بن عيسى بطاعة الأمين وأنه عامله ففعل، وقال عليّ لأصحابه بادروهم فإنّهم قليل ولا يصبرون على حدّ السيوف وطعن الرماح، وأحكم تعبية جنده وقدّم بين يديه عشر رايات مع كل راية ألف رجل، وبين كل رايتين غلوة سهم ليقاتلوا نوبا. وعبّى طاهر أصحابه كراديس وحرّضهم وأوصاهم، وهرب من أصحاب طاهر جماعة فجلدهم عليّ وأهانهم، فأقصر الباقون وجدّوا في قتاله. وأشار أحمد بن هشام على طاهر بأن يرفع كتاب البيعة على رمح ويذكّر علي بن عيسى بها نكثه. ثم اشتدّ القتال وحملت ميمنة عليّ فانهزمت ميسرة طاهر وكذلك ميسرته على ميمنة طاهر فأزالوها، واعتمد طاهر القلب فهزموهم ورجعت المجنبتان منهزمة وانتهت الهزيمة إلى علي وهو ينادي بأصحابه فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله وجاء برأسه إلى طاهر، وحمل شلوه على خشبة وألقي في بئر بأمر طاهر. وأعتق طاهر جميع غلمانه شكرا للَّه وتمت الهزيمة. واتبعهم أصحاب طاهر فرسخين واقفوهم فيها اثنتي عشرة مرّة يقتلونهم في كلها ويأسرونهم حتى جنّ الليل بينهم. ورجع طاهر إلى الريّ وكتب إلى الفضل: كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بين يدي وخاتمة في إصبعي، وجنده متصرّفون تحت أمري والسلام. وورد الكتاب على البريد في ثلاثة أيام فدخل الفضل على المأمون وهنّأه بالفتح ودخل الناس فسلّموا عليه بالخلافة ووصل رأس عليّ بعدها بيومين وطيف به في خراسان، ووصل الخبر إلى الأمين بمقتل علي وهزيمة العسكر فأحضر الفضل بن الربيع وكيل المأمون ببغداد وهو نوفل الخادم فقبض ما بيده من ضياعه وغلّاته وخمسين ألف ألف درهم كان الرشيد وصّاه بها وندم الأمين على فعله، وسعت الجند والقوّاد في طلب الأرزاق فهمّ عبد الله بن حاتم بقتالهم فمنعه الأمين وفرّق فيهم أموالا.
مسير ابن جبلة إلى طاهر ومقتله
ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلى همذان، وولّاه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسان وأمدّه بالمال، فسار إلى همذان وحصّنها وجاءه طاهر فبرز إليه ولقيه، فهزمه طاهر إلى البلد. ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى المدينة وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهر وخرج من همذان. وكان طاهر عند نزوله عليها قد خشي من(3/293)
صاحب قزوين أن يأتيه من ورائه فجهّز العسكر على همذان وسار إلى قزوين في ألف فارس ففرّ عاملها وملكها ثم ملك همذان وسار أعمال الجبل وأقام عبد الرحمن بن جبلة في أمانه. ثم أصاب منه بعض الأيام غرّة فركب وهجم عليه في عسكر فقاتله طاهر أشدّ القتال حتى انهزم أصحابه وقتل ولحق فلّهم بعبد الله وأحمد ابني الحريشيّ في عسكر عظيم بعثهما الأمين مددا لعبد الرحمن فانهزموا جميعا إلى بغداد. وأقبل طاهر نحو البلاد وحده وأخذه إلى حلوان فخندق بها وجمع أصحابه.
بيعة المأمون
وأمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر ويخاطب بأمير المؤمنين وعقد للفضل بن سهل على المشرق كلّه من جبل همذان إلى البيت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضا وحمل له عمّاله ثلاثة آلاف ألف درهم. وعقد له لواء ذا شعبتين ولقّبه ذا الرئاستين يعني الحرب والعلم، وحمل اللواء علي بن هشام، وحمل العلم نعيم بن حازم وولّى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج.
ظهور السفياني
هو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ويلقّب أبا العميطر لأنه زعم أنها كنية الحردون فلقّبوه بها، وكانت أمّه نفيسة بنت عبد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب وكان يقول أنا ابن شيخي صفّين يعني عليا ومعاوية، وكان من بقايا بني أمية بالشام وكان من أهل العلم والرواية فادّعى لنفسه بالخلافة آخر سنة خمس وتسعين وأعانه الخطّاب بن وجه العلس [1] مولى بني أمية، كان متغلّبا على صيدا فملك دمشق من يد سليمان بن المنصور، وكان أكثر أصحابه من كلب. وكتب إلى محمد بن صالح بن بيهس يدعوه ويتهدّده فأعرض عنه وقصد السفيانيّ القيسية فاستجاشوا بمحمد بن صالح فجاءهم في ثلاثمائة فارس من الصبات [2] ومواليه. وبعث السفيانيّ يزيد بن هشام للقائهم في اثني عشر ألفا فانهزم يزيد وقتل من أصحابه ألفان وأسر ثلاثة آلاف أطلقهم ابن بيهس وحلقهم. ثم جمع جمعا مع ابنه القاسم وخرجوا
__________
[1] الخطاب بن وجه الفلس: ابن الأثير ج 6 ص 249.
[2] الضباب ومواليه: المرجع السابق.(3/294)
إلى ابن بيهس فانهزموا وقتل القاسم وبعث برأسه إلى الأمين. ثم جمع جمعا آخر وخرجوا مع مولاه المعتمر فانهزموا وقتل المعتمر فوهن أمر السفيانيّ وطمعت فيه قيس. ثم إنّ ابن بيهس مرض فجمع رؤساء بني نمير وأوصاهم بيعة مسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعد بن مسلمة عبد الملك بالخلافة. وقال لهم:
تولوه وكيدوا به السفيانيّ فإنكم لا تتقون بأهل بيته. وعاد ابن بيهس إلى حوران واجتمعت نمير على مسلمة فبايعوه فقتل منهم وجمع مواليه ودخل على السفيانيّ فقيّده وحبس رؤساء بني أمية، وأدنى القيسيّة وجعلهم بطانة. وأفاق ابن بيهس من مرضه فجاء إلى دمشق وحاصرها وسلّمها له القيسية في محرّم سنة ثمان وتسعين وهرب مسلمة والسفيانيّ إلى المزّة وملك ابن بيهس دمشق إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق وسار إلى مصر ثم عاد إليها فاحتمل ابن بيهس معه إلى العراق ومات بها.
مسير الجيوش إلى طاهر ورجوعهم بلا قتال
ولما قتل عبد الرحمن بن جبلة أرسل الفضل بن الربيع إلى أسد بن يزيد بن مزيد ودعاه لحرب طاهر بعد أن ولي الأمين الخلافة، وشكر لأسد فضل الطاعة والنصيحة وشدّة البأس ويمن التقيّة، وطلب منه أرزاق الجند من المال لسنة، وألف فرس تحمل من معه بعد إزاحته عللهم بالأموال، وأن لا يطلب بحسبان ما يفتتح. فقال قد أشططت ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب ودخل على الأمين فأمر بحبسه، وقيل إنه طلب ولدي المأمون كانا عند أمّهما ابنة الهادي ببغداد بحملهما معه، فإن أطاعه المأمون وإلّا قتلهما. فغضب الأمين لذلك وحبسه، واستدعى عبد الله بن حميد بن قحطبة فاشتط وكذلك فاستدعى أحمد بن مزيد واعتذر له عبس أسد وبعثه لحرب طاهر، وأمر الفضل بأن يجهّز له عشرين ألف فارس وشفع في أسد ابن أخيه فأطلقه. ثم سار وسار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفا أخرى، وانتهوا إلى حلوان وأقاموا [1] وطاهر بموضعه ودس المرجفين في عسكرهم بأنّ العطاء والمنع ببغداد والجند يقبضون أرزاقهم. حتى مشى الجند بعضهم إلى بعض، واختلفوا واختلفوا واقتتلوا ورجعوا من غير لقاء. وتقدّم طاهر فنزل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 256: «واقام أحمد وعبد الله بخانقين واقام طاهر بموضعه، ودس الجواسيس والعيون، وكانوا يرجفون في عسكر أحمد وعبد الله» .(3/295)
حلوان وجاءه هرثمة في جيش من عند المأمون ومعه كتاب بأن يسلّم إلى هرثمة ما ملكه من المدن ويتقدّم إلى الأهواز ففعل ذلك.
أمر عبد الملك بن صالح وموته
قد تقدّم لنا حبس عبد الملك بن صالح إلى أن مات الرشيد وأخرجه الأمين، ولما كان أمر طاهر جاء عبد الملك إلى الأمين وأشار عليه بأن يقدّم أهل الشام لحربه، فهم أجرأ من أهل العراق وأعظم نكاية في العدوّ، وضمن طاعتهم بذلك، فولّاه الأمين أهل الشام والجزيرة وقرّ له بالمال والرجال واستحثه، فسار إلى الرقّة وكاتب أهل الشام فتسالموا إليه فأكرمهم وخلع عليهم وكثرت جموعه. ثم مرض واشتدّ مرضه ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيّين وأهل الشام بسبب دابة أخذت لبعضهم في وقعة سليمان بن أبي جعفر وعرفها عند بعض أهل الشام، فاقتتلوا وأرسل إليهم عبد الملك بالقتل فلم يقتلوا، وكثر القتل وأظهر عبد الملك النصرة للشاميّين وانتقض الحسين ابن عليّ للخراسانيين، وتنادى الناس بالرجوع إلى بلادهم فمضى أهل حمص وقبائل كلب فانهزم أهل الشام وأقام عبد الملك بن صالح بالرقّة، توفي بها.
خلع الأمين وإعادته
ولما مات عبد الملك بن صالح نادى الحسين بن عليّ في الجند بالرحيل إلى بغداد وقدمها فلقيه القوّاد ووجوه الناس ودخل منزله واستدعاه الأمين من جوف الليل فامتنع وأصبح، فوافى باب الجسر وأغراهم بخلع الأمين وحذّرهم من نكثة ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا ولقيه أصحاب الأمين فانهزموا، وذلك منتصف رجب سنة ست، وأخذ البيعة للمأمون من الغد ووثب العبّاس بن عيسى بن موسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور ومعه أمّه زبيدة، فلما كان من الغد طلب الناس أرزاقهم من الحسين وماج بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد فنكر استبداد الحسين بخلع الأمين وليس بذي منزلة ولا حسب ولا نسب ولا غنائم.
وقال أسد الحربي قد ذهب أقوام بخلع الأمين فاذهبوا أنتم بفكّه يا معشر الحربيّة، فرجع الناس على أنفسهم باللائمة وقالوا ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف. ثم نهضوا إلى الحسين وتبعهم أهل الأرض فقاتلوه قتالا شديدا وأسروه ودخل(3/296)
أسد الحربي إلى الأمين وكسر قيوده وأجلسه على أريكته، وأمرهم الأمين بلبس السلاح فانتهبه الغوغاء وجيء بالحسين إليه أسيرا، فاعتذر إليه وأطلقهم وأمره بجمع الجند والمسير إلى طاهر وخلع عليه ما وراء بابه ووقف الناس يهنئونه بباب الجسر حتى إذا خف عنه الناس قطع الجسر وهرب. وركب الجند في طلبه وأدركوه على فرسخ من بغداد وقتلوه وجاءوا برأسه إلى الأمين واختفى الفضل بن الربيع عند ذلك فلم يوقف له على خبر.
استيلاء طاهر على البلاد
ولما جاء كتاب المأمون بالمسير إلى الأهواز قدم إليها الحسين بن عمر الرستميّ وسار في أثره وأتته عيونه بأنّ محمد بن يزيد بن حاتم قد توجّه من قبل الأمين في جند ليحمي الأهواز من أصحاب طاهر، فبعث من أصحابه محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعبّاس بن بخاراخذاه مددا للرستمي. ثم أمدّهم بقريش بن شبل ثم سار بنفسه حتى كان قريبا منهم وأشرفوا على محمد بن يزيد مكرم وقد أشار إليه أصحابه بالرجوع إلى الأهواز والتحصّن بها حتى تأتيه قومه الأزد من البصرة، فرجع وأمر طاهر قريش شبل باتّباعه قبل أن يتحصّن بالأهواز، فخرج لذلك وفاته محمد بن يزيد إلى الأهواز وجاء على أثره فاقتتلوا قتالا شديدا، وفرّ أصحاب محمد واستمات هو ومواليه حتى قتلوا. وملك طاهر الأهواز وولّى على اليمامة والبحرين وعمان ثم سار إلى واسط وبها السّنديّ بن يحيى الحريشيّ والهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن حازم، فهربا عنها وملكها طاهر وبعث قائدا من قوّاده إلى الكوفة وبها العبّاس بن الهادي، فخلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب بذلك إلى طاهر وكذلك فعل المنصور بن المهدي بالبصرة والمطّلب بن عبد الله بن مالك بالموصل، وأقرّهم طاهر على أعمالهم. وبعث الحرث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة وأقام بجرجابا [1] ولما بلغ الخبر بذلك إلى الأمين بعث محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري إلى قصر ابن هبيرة فقاتلهم الحرث وداود قتالا شديدا وهزموهم إلى بغداد. وبعث الأمين أيضا الفضل بن موسى على الكوفة، فبعث إليه طاهر بن العلاء في جيش فلقيه في طريقه فأراد مسالمته بطاعة المأمون كيادا ثم قاتله فانهزم إلى بغداد. ثم سار طاهر إلى المدائن
__________
[1] جرجرايا: ابن الأثير ج 6 ص 264، طرنايا: الطبري ج 10 ص 168.(3/297)
وعليها البرمكي والمدد متصل له كل يوم، فقدم قريش بن شبل، فلما أشرف عليهم وأخذ البرمكي في التعبية فكانت لا تتمّ له، فأطلق سبيل الناس وركب بعضهم بعضا نحو بغداد، وملك طاهر لمدائن ونواحيها ثم نزل صرصر وعقد بها جسرا.
بيعة الحجاز للمأمون
ولما أخذ الأمين كتب العهد من مكة وأمر داود بن عيسى، وكان على مكة والمدينة بخلع المأمون قام في الناس ونكر نقض العهد، وذكّرهم ما أخذ الرشيد عليهم من الميثاق لابنيه في المسجد الحرام أن يكونوا على الظالم، وأنّ محمدا بدأ بالظلم والنكث وخلع أخويه وبايع لطفل صغير رضيع، وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظلما ثم دعا إلى خلعه والبيعة للمأمون فأجابوه، ونادى بذلك في شعاب مكّة وخطبهم.
وكتب إلى ابنه سليمان بالمدينة بمثل ذلك ففعله، وذلك في رجب سنة ست وتسعين.
وسار من مكة على البصرة وفارس وكرمان إلى المأمون وأخبره فسرّ بذلك وولّاه مكانه وأضاف إليه ولاية عكّ وأعطاه خمسمائة ألف درهم وسيّر معه ابن أخيه العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى على الموسم ويزيد بن جرير بن مزيد بن خالد القسريّ في جند كثيف عاملا على اليمن ومرّوا بطاهر وهو محاصر بغداد فأكرمهم وأقام يريد اليمن فبايعوه للمأمون وأطاعوه.
حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها ومقتل الأمين
ولما اتصلت بالأمين هذه الأحوال وقتل الحسين بن علي بن عيسى، شمّر لحرب طاهر واستعدّ له وعقد في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة [1] شتى وأمر عليهم عليّ بن محمد بن عيسى نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة فساروا إليه والتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموا وأسر قائدهم عليّ بن محمد فبعث به هرثمة إلى المأمون وترك النهروان، وأقام طاهر بصرصر والجيوش تتعاقب من قبل الأمين فيهزمها. ثم بذل الأمين الأموال ليستفسد بها عساكرهم فسار إليه من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف ففرّق فيهم الأموال وقوّد جماعة من الحربيّة ودسّ إلى رؤساء
__________
[1] بياض في الأصل وفي الكامل ج 6 ص 267: «وفي هذه السنة اي سنة ست وتسعين ومائة عقد محمد الأمين في رجب وشعبان، نحوا من اربعمائة لواء لقوّاد شتى، وأمّر عليهم عليّ بن محمّد بن عيسى بن نهيك ... »(3/298)
الجند في عسكر طاهر ورغّبهم فشغبوا على طاهر وسار كثير منهم إلى الأمين، وانضموا إلى قوّاد الحربية وقوّاد بغداد وساروا إلى صرصر. فعبّى أصحابه كراديس وحرّضهم ووعدهم.
ثم تقدّم فقاتلهم مليّا من النهار وانهزم أصحاب الأمين، وغنم أصحاب طاهر عسكرهم.
ولما وصلوا إلى الأمين فرّق فيهم الأموال وقوّد منهم جماعة ولم يعط المنهزمين شيئا ودس إليهم طاهر واستمالهم فشغبوا على الأمين فأمر هؤلاء المحدثين بقتالهم وطاهر يراسلهم وقد أخذ رهائنهم على الطاعة، وأعطاهم الأموال. فسار فنزل باب الأنبار بقوّاده وأصحابه واستأمن إليه كثير من جند الأمين، وثارت العامّة وفتقت السجون، ووثب الشطّار على الأخيار ونزل زهير بن مسيّب الضبيّ من ناحية، ونصب المجانيق والعرّادات، وحفر الخنادق ونزل هرثمة بناحية أخرى وفعل مثل ذلك. ونزل عبيد الله بن الوضّاح بالشماسيّة ونزل طاهر بباب الأنبار فضيّق على الأمين بمنزله ونفد ما كان بيد الأمين من الأموال، وأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب والفضة ليفرّقها في الجند، وأحرق الحديثة فمات بها خلق، واستأمن سعيد ابن مالك بن قادم إلى طاهر فولّاه الأسواق وشاطئ دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان وكل ما غلب عليه من الدروب، وأمده بالرجال والأموال. ووكّل الأمين بقصر صالح وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلة بعض قوّاده فألحّ في إحراق الدور والرمي بالمجانيق وفعل طاهر مثل ذلك. وكثر الخراب ببغداد وصار طاهر يخندق على ما يمكنه من النواحي ويقاتل من لم يجبه، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقوّاد وعجز الأجناد عن القتال. وقام به الباعة والعيّارون وكانوا ينهبون أموال الناس. واستأمن إليه القائد الموكّل بقصر صالح فأمّنه وسلّم إليه ما كان بيده من تلك الناحية في جمادى الأخيرة من سنة سبع. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب الشرطة فوهن الأمين. واجتمع العيّارون والباعة والأجناد وقاتلوا أصحاب طاهر في قصر صالح، وقتلوا منهم خلقا وكاتب طاهر القوّاد بالأمان وبيعة المأمون فأجابه بنو قحطبة كلّهم ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العبّاس الطائي وغيرهم. وفشل الأمين وفوّض الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الحسن الهرش، ومعهم الغوغاء يتولون أمر تلك الفتنة. وأجفل الناس من بغداد وافترقوا في البلاد. ولما وقع بطاهر في قصر صالح ما وقع بأصحابه شرع في هدم المباني وتخريبها ثم قطع الميرة عنهم وصرف السفن التي تحمل فيها إلى الفرات. فغلت الأسعار(3/299)
وضاق الحصار واشتدّ كلب العيّارين فهزموا عبيد الله بن الوضّاح وغلبوه على الشماسية. وجاء هرثمة ليعينه فهزموه أيضا وأسروه ثم خلصه أصحابه. وعقد طاهر جسرا فوق الشماسية وعبر إليهم وقاتلهم أشدّ قتال فردّهم على أعقابهم، وقاتل منهم بشرا كثيرا وعاد ابن الوضّاح إلى مركزه وأحرق منازل الأمين بالخيزرانيّة، وكانت النفقة فيها بلغت عشرين ألف درهم. وأيقن الأمين بالهلاك وفرّ منه عبد الله بن حازم ابن خزيمة إلى المدائن لأنه اتّهمه وحمل عليه السفلة والغوغاء. ويقال بل كاتبه طاهر وقبض ضياعه فخرج عن الأمين وقصد الهرش ومن معه جزيرة العبّاس من نواحي بغداد فقاتلهم بعض أصحاب طاهر وهزموهم وغرق منهم خلق كثير وضجر الأمين وضعف أمره وسار المؤتمن بن الرشيد إلى المأمون فولّاه جرجان وكاتب طاهر خزيمة بن حازم ومحمد بن علي بن موسى بن ماهان وأدخلهما في خلع الأمين فأجاباه ووثبا آخر محرّم من سنة ثمان وتسعين فقطعا جسر دجلة وخلع الأمين وبعث إلى هرثمة وكان بإزائهما فسار إليهما من ناحيته ودخل عسكر المهدي وملكه وقدم طاهر من الغد إلى المدينة والكرخ فقاتلهم وهزمهم وملكها عنوة ونادى بالأمان ووضع الجند بسوق الكرخ وقصر الوضّاح وأحاط بمدينة المنصور وقصر زبيدة وقصر الخلد من باب الجسر إلى باب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة ونصب عليها المجانيق. واعتصم الأمين في أمّه وولده بمدينة المنصور، واشتدّ عليه الحصار وثبت معه حاتم بن الصقر والحريشيّ والأفارقة. وافترق عامّة الجنود والخصيان والجواري في الطرق وجاء محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي إلى الأمين وقالا له بقي من خيلك سبعة آلاف فرس نختار سبعة آلاف فنجعلهم عليها ونخرج على بعض الأبواب ولا يشعر بنا أحد ونلحق بالجزيرة والشام فيكون ملك جديد، وربما مال إليك الناس ويحدث الله أمرا فاعتزم على ذلك وبلغ الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك يتهدّدهم إن لم يصرفوه عن ذلك الرأي. فدخلوا على الأمين وحذّروه من ابن الصقر وابن الأغلب أن يجعل نفسه في أيديهم فيتقرّبوا به إلى طاهر وأشاروا عليه بطلب الأمان على يد هرثمة بن أعين والخروج إليه وخالفهم إليه ابن الصقر وابن الأغلب. وقالوا له إذا ملت إلى الخوارج فطاهر خير لك من هرثمة فأبى وتطيّر من طاهر وأرسل إلى هرثمة يستأمنه. فأجابه أنه يقاتل في أمانة المأمون فمن دونه(3/300)
وبلغ ذلك طاهرا فعظم عليه أن يكون الفتح لهرثمة واجتمع هو وقوّاده لهرثمة وقوّاده في منزل خزيمة بن حازم، وحضر سليمان والسنديّ وابن نهيك وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا وأنه يخرج إلى هرثمة ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة فرضي. ثم جاء الهرش وأسرّ إليه أنهم يخادعونه وأنهم يحملونها مع الأمين إلى هرثمة فغضب وأعدّ رجالا حول قصور الأمين، وبعث إليه هرثمة لخمس بقين من محرّم سنة ثمان وتسعين بأن يتربص ليلة لأنه رأى أولئك الرجال بالشط فقال: قد افترق عني الناس ولا يمكنني المقام لئلا يدخل عليّ طاهر فيقتلني.
ثم ودّع ابنيه وبكى وخرج إلى الشط وركب حراقة هرثمة. وجعل هرثمة يقبل يديه ورجليه وأمر بالحراقة أن تدفع وإذا بأصحاب طاهر في الزواريق فشدّوا عليها ونقبوها ورموهم بالآجر والنشّاب فلم يرجعوا ودخل الماء إلى الحراقة فغرقت. قال أحمد بن سالم صاحب المظالم: فسقط الأمين وهرثمة وسقطنا فتعلق الملاح بشعر هرثمة وأخرجه وشق الأمين ثيابه. قال: وخرجت إلى الشطّ فحملت إلى طاهر فسألني عن نفسي فانتسبت وعن الأمين فقلت غرق فحملت إلى بيت وحبست فيه حتى أعطيتهم مالا فاديتهم به على نفسي. فبعد ساعة من الليل فتحوا عليّ الباب وأدخلوا عليّ الأمين عريان في سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة فاسترجعت وبكيت. ثم عرفني فقال:
ضمّني إليك فإنّي أجد وحشة شديدة، فضممته وقلبه يخفق فقال: يا أحمد ما فعل أخي؟ فقلت: حيّ قال: قبح الله بريدهم كان يقول قد مات، يريد بذلك العذر عن محاربته فقلت: بل قبّح الله وزراءك، فقال: تراهم يفون لي بالأمان؟
قلت: نعم إن شاء الله. ثم دخل محمد بن حميد الطاهري فاستثبتنا حتى عرفه وانصرف، ثم دخل علينا منتصف الليل قوم من العجم منتضين سيوفهم فدافع عن نفسه قليلا ثم ذبحوه ومضوا برأسه إلى طاهر ثم جاءوا من السحر فأخذوا جثته. ونصب طاهر الرأس حتى رآه الناس ثم بعث به إلى المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن بن مصعب ومعه الخاتم والبردة والقضيب وكتب معه بالفتح فلما رآه المأمون سجد. ولما قتل الأمين نادى طاهر بالأمان ودخل المدينة يوم الجمعة فصلّى بالناس وخطب للمأمون وذمّ الأمين، ووكّل بحفظ القصور الخلافيّة، وأخرج زبيدة أمّ الأمين وابنيه موسى وعبد الله إلى بلاد الزاب الأعلى. ثم أمر بحمل الولدين إلى المأمون وندم الجند على قتله وطالبوا طاهر بالأموال فارتاب بجند بغداد وبجنده أنهم تواطئوا عليه(3/301)
وثاروا به لخمس من قتل الأمين. فهرب إلى عقرقوبا [1] ومعه جماعة من القوّاد ثم تعبّى لقتالهم فجاءوا واعتذروا وأحالوا على السفهاء والأحداث فصفح عنهم وتوعّدهم أن يعودوا لمثلها، وأعطاهم أربعة أشهر. واعتذر إليه مشيخة بغداد وحلفوا أنهم لم يدخلوا الجند في شيء من ذلك، فقبل منهم ووضعت أهل الحرب أوزارها واستوسق [2] لأمر للمأمون في سائر الأعمال والممالك. ثم خرج الحسن الهرش في جماعة من السفلة واتبعه كثير من بوادي الأعراب ودعا إلى الرضا من آل محمد وأتى النيل فجبى الأموال ونهب القرى وولّى المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما افتتحه طاهر من كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، فقدم سنة تسعة وتسعين وفرّق العمّال وولّى طاهرا على الجزيرة والموصل والشام والمغرب وأمره أن يسير إلى قتال نصر بن شبيب، وأمر هرثمة بالمسير إلى خراسان وكان نصر بن شبيب من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر في كيسوم شمالي حلب، وكان له ميل إلى الأمين.
فلما قتل أظهر الوفاء له بالبيعة وغلب على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وعبر إلى شرقي العراق وحصر حرّان. وسأل منه شيعة الطالبيّين أن يبايعوا لبعض آل عليّ لما رأوه من بني العبّاس ورجالهم وأهل دولتهم وقال: والله لا أبايع أولاد السوداوات، فيقول: إنه خلقني ورزقني. قالوا:
فبعض بني أمية قال قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل ولو سلم عليّ رجل مدبر لأعداني بإدباره، وإنما هو اي في بني العباس، وإنما حاربتهم لتقديمهم العجم على العرب. ولما سار إليه طاهر نزل الرقّة وأقام بها وكتب إليه يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف فلم يجبه وجاء الخبر إلى طاهر في الرقّة وفاة أبيه الحسين بن زريق بن مصعب بخراسان وأنّ المأمون حضر جنازته، ونزل الفضل قبره وجاءه كتاب المأمون يعزّيه فيه. وبعد قتل الأمين كانت الوقعة بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان عليّ بن الحسن الهمدانيّ متغلّبا على الموصل فعسف بالنزارية وسار عثمان بن نعيم البرجميّ إلى ديار مصر وشكا إلى أحيائهم واستنفرهم فسار معه من مصر عشرون ألفا وأرسل إليهم عليّ بن الحسن بالرجوع إلى ما يريدون، فأبى عثمان فخرج عليّ في أربعة آلاف فهزمهم وأثخن فيهم وعادا إلى البلد.
__________
[1] عقرقوف: ابن الأثير ج 6 ص 296.
[2] لعلها استوثق.(3/302)
ظهور ابن طباطبا العلويّ
لما بعث المأمون الحسن بن سهل إلى العراق وولّاه على ما كان افتتحه طاهر من البلاد والأعمال تحدّث الناس أنّ الفضل بن سهل غلب على المأمون واستبدّ عليه وحجبه عن أهل بيته وقوّاده، فغضب بنو هاشم ووجوه الناس واجترءوا على الحسن بن سهل وهاجت الفتنة وكان أبو السرايا السريّ بن منصور يذكر أنه من بني شيبان من ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وقيل من بني تميم بالجزيرة وطلب فعبر إلى شرقي الفرات وأقام هنالك يخيف السابلة، ثم لحق بيزيد بن مزيد بأرمينية في ثلاثين فارسا فقوّده وقاتل معه الحرمية [1] وأسر منهم وأخذ منهم غلامه أبا الشوك. ومات يزيد بن مزيد فكان مع ابنه أسد وعزل أسد فسار إلى أحمد بن مزيد. ولما بعث الأمين أحمد بن مزيد لحرب هرثمة بعثه طليعة إلى عسكره، فاستماله هرثمة فمال إليه ولحق به وقصد بني شيبان مع الجزيرة واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة واجتمع إليه أزيد من ألفي فارس. فلما قتل الأمين تعصى هرثمة عن أرزاقهم فغضب واستأذن في الحج فأذن له وأعطاه عشرين ألف درهم ففرّقها في أصحابه ومضى وأوصاهم باتباعه، فاجتمع له منهم نحو مائتين وسار إلى عين التمر فأخذوا عاملها وقسّموا ماله ولقوا عاملا آخر بمال موقور على ثلاثة أنفار فاقتسموه وأرسل هرثمة عسكرا خلفه فهزمهم ودخل البرية ولحق به من تخلّف من أصحابه فكثر جمعه وسار نحو دقوقا وعليها أبو ضرغامة في سبعمائة فارس فخرج وقاتله فهزمه ورجع إلى القصر فحاصره أبو السرايا حتى نزل على الأمان وأخذ أمواله. وسار إلى الأنبار وعليها إبراهيم الشّرويّ مولى المنصور، فقتله وأخذ ما فيها وعاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها. ثم قصد الرقّة ومرّ بطوق بن مالك الثعلبي فاستجاشه على قيس فأقام عنده أربعة أشهر يقاتل قيسا بعصبية ربيعة حتى انقادت قيس إلى طوق. وسار أبو السرايا إلى الرقّة فلقي محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن عليّ وتلقّب أبوه إبراهيم طباطبا فدعاه إلى الخروج، وأنفذ إلى الكوفة فدخلاها وبايعهم أهلها على بيعة الرضا من آل محمد، ونهب أبو السرايا قصر العبّاس بن موسى بن عيسى، وأخذ ما فيه من الأموال والجواهر ما لا يحصى، وذلك منتصف جمادى الأخيرة سنة تسعة
__________
[1] الخرّميّة: ابن الأثير ج 6 ص 303.(3/303)
وتسعين، وقيل إنّ أبا السرايا مطله هرثمة بأرزاق أصحابه فغضب ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا. ولما ملك الكوفة هرع إليه الناس والأعراب من النواحي فبايعوه، وكان عليها سليمان بن المنصور من قبل الحسن بن سهل فبعث إليه زهير بن المسيّب الضبّي في عشرة آلاف وخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه واستباحوا عسكره وأصبح محمد بن طباطبا من الغد ميتا فنصب أبو السرايا مكانه غلاما من العلويّة، وهو محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين واستبد عليه، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام به وبعث الحسن بن سهل عبدوس ابن محمد بن خالد المروروذي في أربعة آلاف فلقيه أبو السرايا منتصف رجب وقتله ولم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل وأسير، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وبعث جيوشا إلى البصرة وواسط، وولّى على البصرة العبّاس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري، وعلى مكة الحسين الأفطس بن الحسين بن عليّ بن زين العابدين وجعل إليه الموسم. وعلى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى الأهواز زيد بن موسى الصادق، فسار إلى البصرة وأخرج عنها العبّاس بن محمد بن داود بن الحسن المثنّى إلى المدائن وأمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقيّ ففعل. وكان بواسط عبد الله بن سعد الخرشي من قبل الحسن بن سهل ففرّ أمامهم وبعث الحسن بن سهل إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا، وكان قد سار إلى خراسان مغاضبا له، فرجع بعد امتناع، وسار إلى الكوفة في شعبان وبعث الحسن إلى المدائن وواسط عليّ بن أبي سعيد وأبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة فوجه جيشا إلى المدائن فملكوها في رمضان. وتقدّم فنزل نهر صرصر وعسكر هرثمة بإزائه غدوة. وسار عليّ بن أبي سعيد في سؤال المدائن فحاصر بها أصحاب أبي السرايا، ورجع هو من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وهرثمة وأتباعه، ثم حصره وقتل جماعة من أصحابه فانجاز إلى الكوفة ووثب الطالبيّون على دور بني العبّاس وشيعتهم فنهبوها وخرّبوها وأخرجوهم واستخرجوا ودائعهم عند الناس، وكان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ، فلما بلغه قدوم حسين الأفطس جمع شيعة بني العبّاس. وكان مسرور الكبير قد حجّ في مائة فارس فتعبّى للحرب ودعا داود إلى حربهم فقال: لا أستحلّ ذلك في الحرم وخرج إلى العراق وتبعه مسرور وكان حسين الأفطس بسرف يخاف دخول مكة فبلغه(3/304)
الخبر ان مكة قد خلت من بني العبّاس عنها فدخل في عشرة أنفس وطاف وسعى ووقف بعرفة ليلا وأتم الحجّ. وأقام هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها، واستدعى منصور بن المهدي وكاتب رؤساء الكوفة وسار عليّ بن سعيد من المدائن إلى واسط فملكها، ثم توجه إلى البصرة واشتدّ الحصار على أبي السرايا بالكوفة فهرب عنها في ثمانمائة فارس ومعه صاحبه الّذي نصبه وهو محمد بن جعفر بن محمد ودخلها هرثمة منتصف محرم فأقام بها يوما وولّى عليها غسّان صاحب الحرس بخراسان وعاد وقصد أبو السرايا القادسية وسار منها إلى السوس ولقي بخراسان مالا حمل من الأهواز فقسّمه في أصحابه. وكان على الأهواز الحسن بن علي المأموني، فخرج إليه فقاتله فهزمه وافترق أصحابه وجاء إلى منزله برأس عين من جلولاء ومعه صاحبه محمد وغلامه أبو الشوك فظفر بهم حمّاد الكندغوش وجاء بهم إلى الحسن بن سهل في النهروان فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إلى المأمون، وبصاحبه محمد معه، ونصب شلوه على جسر بغداد. وسار عليّ بن أبي سعيد إلى البصرة فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يسمّى زيد النار لكثرة ما أحرق من دور العبّاسيين وشيعتهم فاستأمن إليه زيد فأمّنه وأخذه، وبعث الجيوش إلى مكّة والمدينة واليمن لقتال من بها من العلويين، وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر بمكة فلما بلغه خبر أبي السرايا ومقتله ولّى وسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى فهرب إلى مكة، واستولى إبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزّار لكثرة قتله وفتكه. ثم بعث رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحجّ بالناس وقد جاء لذلك أبو الحسن المعتصم في جماعة من القوّاد فيهم حدوية بن علي بن عيسى بن ماهان، واليا على اليمن من قبل الحسن بن سهل، فخام العقيلي عن لقائهم واعترض قافلة الكسوة فأخذها ونهب أموال التجّار ودخل الحجاج إلى مكة عراة فبعث الخلودي من القوّاد فصبحهم وهزمهم وأسر منهم وتفقد أموال التجّار وكسوة الكعبة وطيبها وضرب الأسراء عشرة أسواط لكل واحد وأطلقهم وحجّ المعتصم بالناس.
بيعة محمد بن جعفر بمكة
هو محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ بن زين العابدين ويلقّب الديباجة، وكان عالما زاهدا ويروى عن أبيه وكان الناس يكتبون عنه. ولما ملك الحسين الأفطس(3/305)
مكة كما ذكرناه عاث فيها ونزع كسوة الكعبة وكساها بأخرى من الغد أنفذها أبو السرايا من الكوفة وتتبع ودائع بني العباس وجعلها ذريعة لأخذ أموال الناس فخرجوا من مكة. وقلع أصحابه شبابيك الحرم وقلع ما على الأساطين من الذهب واستخرج ما كان في الكعبة من المال فقسمه في أصحابه وساء أثره في الناس. فلما قتل أبو السرايا تنكروا له فخشي على نفسه فجاء إلى محمد بن جعفر ليبايع له بالخلافة فلم يزل به هو وابنه حسن واستعانا عليه بابنه علي حتى بايعوه ودعوه بأمير المؤمنين. واستبدّ عليه ابنه عليّ وابن الأفطس بأسوا مما كان قبل، وأفحشوا في الزنا واللواط واغتصاب النساء والصبيان، فاجتمع الناس على خلع محمد بن جعفر أو يردّ إليهم ابن القاضي كان مغتصبا ببيت ابنه عليّ، فاستأمنهم حتى ركب إلى بيت ابنه وسلّم إليهم الغلام.
وجاء إسحاق بن موسى بن عيسى من اليمن فاجتمع الناس وخندقوا مكة وقاتلهم إسحاق وامتنعوا عليه فسار نحو العراق ولقي الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة مع الجلودي ورجاء بن جميل، وهو ابن عم الحسين بن سهل. فرجع بهم وقاتل الطالبيّين فهزمهم وافترقوا، واستأمن إليه محمد بن جعفر فأمّنه وملك مكة وسار محمد ابن جعفر إلى الجحفة، ثم إلى بلاد جهينة فجمع وقاتل هارون بن المسيّب والي المدينة، فانهزم محمد وفقئت عينه وقتل خلق من أصحابه ورجع إلى موضعه. ولما انقضى الموسم استأمن الجلودي ورجاء بن جميل فأمّناه ودخل مكة وخطب واعتذر عما فعله بأنه بلغه موت المأمون ثم صح أنه حيّ، وخلع نفسه وسار إلى الحسن والي المأمون بمرو فلم يزل عنده إلى أن سار المأمون إلى العراق فمات بجرجان في طريقه.
مقتل هرثمة
لما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع، وكان الحسن بن سهل بالمدائن فلم يعرج عليه وسار على عقرقوبا إلى النهروان قاصدا خراسان، ولقيته كتب المأمون متلاحقة أن يرجع إلى الشام والحجاز، فأبى إلّا لقاءه دالة عليه بما سبق له من نصحه له ولآبائه.
وكان قصد أن يطلع المأمون على حال الفضل بن سهل في طيّه الأخبار عنه وما عند الناس من القلق بذلك، وباستبداده عليه ومقامه بخراسان وعلم الفضل بذلك فأغرى به المأمون وألقى إليه انه سلّط أبا السرايا وهو من جنده وقد خالف كتبك وجاء معاندا سيّئ القالة، وإن سومح في ذلك اجترأ غيره فسخطه المأمون وبقي في(3/306)
انتظاره، ولما بلغ مرو قرع طبوله يسمعها لئلا يطوى خبره عن المأمون، وسأل المأمون عنها فقيل هرثمة أقبل يرعد ويبرق، فاستدعاه وقال هرثمة [1] مالأت العلويين وأبا السرايا ولو شئت إهلاكهم جميعا لفعلت، فذهب يعتذر فلم يمهله وأمر فربس [2] بطنه وشدخ أنفه وسحب إلى السجن ثم دسّ إليه من قتله.
انتقاض بغداد على الحسن بن سهل
ولما بلغ خبر هرثمة إلى العراق كتب الحسن بن سهل إلى عليّ بن هشام والي بغداد من قبله أن يتعلّل على الجند الحربية والبغداديين في أرزاقهم، لأنه كان بلغه عنهم قبل مسير هرثمة أنهم عازمون على خلعه وطرد عمّاله، وولوا عليهم إسحاق بن الهادي خليفة المأمون. فلم يزل الحسين يتلطّف إليهم ويكاتبهم حتى اختلفوا فأنزل عليّ بن هشام ومحمد ابن أبي خالد في أحد جانبيها، وزهير بن المسيّب في الجانب الآخر، وقاتلوا الحربية ثلاثة أيام، ثم صالحهم على العطاء وشرع فيه. وكان زيد بن موسى ابن جعفر قد أخذه عليّ بن أبي سعيد من البصرة وحبسه كما ذكرناه قبل، فهرب من محبسه وخرج بناحية الأنبار ومعه أخ لأبي السرايا. ثم تلاشى أمره وأخذوا [3] إلى عليّ بن هشام ثم جاء خبر هرثمة وقد انتقض محمد بن أبي خالد على عليّ بن هشام بما كان يستحق به، وغضب يوما مع زهير بن المسيّب فقنعه بالسوط، فسار إلى الحربية ونصب لهم الحرب، وانهزم عليّ بن هشام إلى صرصر.
وقيل إنّ ابن هشام أقام الحدّ على عبد الله بن علي بن عيسى فغضب الحربية وأخرجوه. واتصل ذلك بالحسن بن سهل وهو بالمدائن كما قلناه فانهزم إلى واسط أوّل سنة إحدى ومائتين، والفضل بن الربيع وقد ظهر من اختفائه من لدن الأمين. وجاء عيسى بن محمد بن أبي خالد من الرقّة من عند طاهر، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن وهزموا كل من تعرّض للقائهم من أصحابه. وكان زهير بن المسيّب عاملا للحسن على جوخى من السواد وكان يكاتب بغداد فركب إليه محمد بن أبي خالد
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 315: « ... فظنّ هرثمة ان قوله المقبول فأمر المأمون بإدخاله، فلما دخل عليه قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة العلويين، ووضعت أبا السرايا ولو شئت ان تأخذهم جميعا لفعلت» .
[2] فديس: المرجع السابق.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 316: «فبعثوا إليه فأتي به إلى علي بن هشام» .(3/307)
وأخذه أسيرا وانتهب ماله وحبسه ببغداد عند ابنه جعفر. ثم تقدّم إلى واسط وبعثه ابنه هارون إلى النيل فهزم نائب الحسن بها إلى الكوفة فلحق بواسط ورجع هارون إلى أبيه وتقدّم نحو واسط فسار الحسن عنها. واقام الفضل بن الربيع مختفيا بها واستأمن لمحمد وبعثه إلى بغداد. وسار إلى الحسن على البقية ولقيتهم عساكر الحسن وقوّاده، وانهزم محمد وأصحابه وتبعهم الحسن إلى تمام الصلح، ثم لحقوا بجرجايا. ووجه محمد ابن ابنه هارون إلى [1] فأقام بها وسار محمد ابن ابنه أبو رتيل وهو جريح إلى بغداد فمات بها ودفن في داره سرّا. ومحمد أبو رتيل إلى زهير بن المسيّب فقتله من ليلته [2] . وقام خزيمة بن خازم بأمر بغداد، وبعث إلى عيسى بن محمد بأن يتولّى حرب الحسن مكان أبيه، وبلغ الحسن موت محمد فبعث عسكره إلى هارون بالنيل فغلبوا وانتهبوها، ولحق هارون بالمدائن. ثم اجتمع أهل بغداد وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق انحرافا عن الحسن ابن سهل. وقيل إنّ الحسن لما ساعد أهل بغداد عيسى بن محمد بن أبي خالد على حربه خام [3] عنه فلاطفه ووعده بالمصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية النواحي [4] ، فقبل وطلب خط المأمون بذلك، وكتب إلى أهل بغداد إني شغلت بالحرب عن جباية الخراج فولّوا رجلا من بني هاشم، فولّوا المنصور بن المهدي وأحصى عيسى أهل عسكره فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا. وبعث منصور غسّان بن الفرج إلى ناحية الكوفة فغزاه حميد الطوسي من قوّاد الحسن بن سهل وأخذ أسيرا ونزل النيل. فبعث منصور بن محمد يقطين في العساكر إلى حميد فلقيه حميد بكونا [5] فهزمه وقتل من أصحابه ونهب ما حول كوثا ورجع إلى النيل وأقام ابن يقطين بصرصر.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 322: «ووجه محمد ابنه عيسى إلى عرنايا فأقام بها، وأقام محمد بجرجرايا، فاشتدت جراحات محمد فحمله ابنه أبو زنبيل إلى بغداد» .
[2] المعنى غير واضح وفي الطبري ج 10 ص 239: «وأقام محمد بجرجرايا فلما اشتدت الجراحات خلف قواده في عسكره وحمله ابنه أبو زنبيل حتى ادخله بغداد، ومات محمد بن أبي خالد من ليلية من تلك الجراحات، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيّب فأخرجه من حبسه فضرب عنقه» .
[3] خام: نكص وجبن.
[4] وولاية أي النواحي أحبّ: ابن الأثير ج 6 ص 323 والطبري ج 10 ص 241.
[5] كوثى: ابن الأثير ج 6 ص 324.(3/308)
أمر المطوعة
ولما كثر الهرج ببغداد وامتدّت أيدي الدعاوي [1] باذاية الناس في أموالهم وأفشى المناكير فيهم وتعذر ذلك، فخرجوا إلى القرى فانتهبوها. «واستعدى الناس أهل الأمر فلم يغدوا عليهم فتمشّى الصلحاء من عمل ريظ وكل بينهم ورأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة إلى خيارهم فاعتزموا على مدافعتهم واشتدّ خالد المدريوش من أهل، بغداد فدعا جيرانه وأهل محلته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن يغيروا على السلطان. فشدّ على من كان عندهم من أدعار وحبسهم ورفعهم إلى السلطان وتعدّى ذلك إلى غير محلته. ثم قام بعده سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشيّة من أهل خراسان ويكنّى أبا حاتم فدعا إلى مثل ذلك وإلى العمل بالكتاب والسنة وعلق في عنقه مصحفا وعبر على العامّة وعلى أهل الدولة فبايعوه على ذلك وعلى قتال من خالف» . [2] وبلغ خبرهما إلى منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد فنكروا ذلك لأنّ أكثر الدعّار كانوا يشايعونهم على أمرهم، فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له ولأهل بغداد، وانتظروا كتاب المأمون ورضي أهل البلد بذلك، فسهل عليهم أمر المدريوش وسهل.
__________
[1] وفي الكامل ج 6 ص 324: وفي هذه السنة (201) تجردت المتطوعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان سبب ذلك ان فسّاق بغداد والشطّار آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق، وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية ... »
[2] العبارات بين القوسين مبهمة والأسماء محوّرة، وفي الكامل ج 6 ص 325: فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب، ومشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنّما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفسّاق، ولعجزوا عن الّذي يفعلونه، فقام رجل يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته، على ان يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفأجابوه إلى ذلك، فشد على من يليه من الفسّاق وحبسهم، ورفعهم إلى السلطان إلا أنه كان لا يرى ان يغيّر على السلطان شيئا. ثم قام بعده رجل من الحربيّة يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ويكنّى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بالكتاب والسنّة، وعلّق مصحفا في عنقه، وأمر أهل محلّته ونهاهم، فقبلوا منه، ودعا الناس جميعا، الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم، فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك، وعلى القتال معه لمن خالفه، وطاف ببغداد وأسواقها، وكان قيام سهل لأربع خلون من رمضان، وقيام الدريوش قبله بيومين أو ثلاثة» .(3/309)
العهد لعليّ الرضا والبيعة لإبراهيم بن مهدي
ولما بلغ أهل بغداد أنّ المأمون قد بايع بالعهد لعليّ بن موسى الكاظم ولقبه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح السواد ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد ببغداد يعلمه بذلك في رمضان من سنة إحدى ومائتين، وأمره أن يأخذ من عنده من الجند وبني هاشم بذلك، فأجاب بعض وامتنع بعض، وكبر عليهم إخراج الخلافة من بني العبّاس.
وتولى كبر ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي وشايعهم عليه المطّلب بن عبد الله بن مالك والسدّي ونصر الوصيف وصالح صاحب المصلّى ومنعوا [1] يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدي ومن بعده لإسحاق بن الهادي. ثم بايعوه في المحرم سنة اثنتين ومائتين ولقبوه المبارك ووعد الجند بأرزاق ستة أشهر، واستولى على الكوفة والسواد، وخرج فعسكر بالمدائن وولّى بها على الجانب الغربيّ العباس بن الهادي، وعلى الجانب الشرقيّ إسحاق بن الهادي. وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل، ومعه القوّاد سعيد بن الساحور وأبو البطّ وغسّان بن الفرج [2] ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب كانوا منحرفين عن حميد فداخلوا إبراهيم بن الهادي في أن يهلكوه في قصر ابن هبيرة وشعر بذلك الحسن بن سهل فاستقدم حميدا وخلا لهم الجوّ منه فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى ابن محمد بن أبي خالد وملك قصر ابن هبيرة وانتهب عسكر حميد ولحق به ابنه بجواريه. ثم عاد إلى الكوفة فاستعمل عليها العبّاس بن موسى الكاظم وأمره أن يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعة من إجابته وقالوا: لا حاجة لنا بذكر المأمون وقعدوا عنه.
وبعث إبراهيم بن المهدي من القوّاد سعيدا وأبا البطّ لقتاله، فسرّح إليهم العبّاس بن عمه وهو عليّ بن محمد الديباجة فانهزم، ونزل سعيد وأبو البطّ الحيرة ثم تقدّموا لقتال أهل الكوفة، وقاتلهم شيعة بني العبّاس ومواليهم. ثم سألوا الأمان للعبّاس وخرجوا من داره. ثم قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم وأحرقوا دور عيسى بن موسى، وبلغ الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العبّاس قد نقض ورجع عن الأمان فركب وجاء إلى
__________
[1] لعلها وجهوا.
[2] غسان بن أبي الفرج: ابن الأثير ج 6 ص 342.(3/310)
الكوفة وقتل من ظفر به ولقيه أهله فاعتذروا إليه بأنّ هذا فعل الغوغاء، وأنّ العبّاس باق على عهده. ودخل سعيد وأبو البطّ ونادوا بالأمان وولّوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصبّاح الكنديّ، ثم عزلوه وولّوا مكانه غسّان بن الفرج فقتل أخا السرايا.
ثم عزلوه وولّوا الهول ابن أخي سعيد القائد وقدم حميد بن عبد الحميد لحربهم بالكوفة، فهرب الهول وبعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل وكان الحسن متحصّنا بالمدينة، فسرّح أصحابه لقتالهم فانهزموا وغنم عسكرهم، ورجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة المطوّع حتى غلبه على منزله فاختفى في غمار النظّار وأخذوه بعد ليال وأتوا به إسحاق فقال: كل ما كنت أدعو إليه باطل فقالوا: أخرج فأعلم الناس بذلك فخرج وقال: قد كنت أدعوكم إلى الكتاب والسّنّة ولم أزل على ذلك فضربوه وقيّدوه وبعثوا به إلى إبراهيم المهدي فضربه وحبسه، وظهر أنه قتل في محبسه خفية لسنة من قيامه.
ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم. وزحف حميد بن عبد الحميد سنة ثلاث ومائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي وأصحابه وكان عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولّي لقتالهم بأمر إبراهيم، فداخلهم في الغدر بإبراهيم وصار يتعلّل عليه في المدافعة عنه، ونمي ذلك إلى إبراهيم بن هارون أخي عيسى فتنكر له، ونادى عيسى في الناس بمسالمة حميد فاستدعاه إبراهيم وعاتبه بذلك فأنكر واعتذر، فأمر به فضرب وحبس عدّة من قوّاده وأفلت العبّاس خليفته، فمشى بعض الناس إلى بعض ووافقوا العبّاس على خلع إبراهيم وطردوا عامله من الجسر والكرخ. وثار الرعاع والغوغاء.
وكتب العبّاس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد ونزل صرصر وخرج إليه العبّاس والقوّاد وتواعدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم العطاء. وبلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى وإخوته، وسأله قتال حميد فامتنع. ودخل حميد فصلّى الجمعة وخطب للمأمون وشرع في العطاء ثم قطعه عنهم فغضب الجند. وعاود إبراهيم سؤال عيسى في قتال حميد ومدافعته فقاتل قليلا، ثم استأسر لهم وانفض العسكر راجعين إلى إبراهيم. وارتحل حميد فنزل في وسط المدينة وتسلّل أصحاب إبراهيم إلى المدائن فملكوها وقاتل بقيّتهم حميد، وكان الفضل بن الربيع مع إبراهيم فتحوّل إلى حميد وكاتب المطّلب بن عبد الله بن مالك بأن يسلّموه إليه. وكان سعيد بن الساحور والبطّ وغيرهم من القوّاد يكاتبون عليّ بن هشام بمثل ذلك. ولما علم إبراهيم بما اجتمعوا(3/311)
عليه أقبل على مداراتهم إلى أن جنّ الليل. ثم تسرّب في البلد واختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث، وبلغ الخبر إلى حميد وعليّ بن هشام، فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه، وذلك لسنتين من بيعته. وأقام عليّ بن هشام على شرقي بغداد وحميد على غربيها وأظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقرّبه حميد ووصله.
قدوم المأمون إلى العراق
لما وقعت هذه الفتن بالعراق بسبب الحسن بن سهل ونفور الناس من استبداده وأخيه على المأمون ثم من العهد لعليّ الرضا بن موسى الكاظم وإخراج الخلافة من بني العبّاس، وكان الفضل بن سهل يطوي ذلك عن المأمون ويبالغ في اخفائه حذرا من أن يتغيّر رأي المأمون فيه وفي أخيه. ولما جاء هرثمة للمأمون وعلم أنه يخبره بذلك وأنّ المأمون يثق بقوله، أحكم السعاية فيه عند المأمون حتى تغيّر له فقتله ولم يصغ إلى كلامه، فازدادت نفرة الشيعة وأهل بغداد وكثرت الفتن وتحدث القوّاد في عسكر المأمون بذلك، ولم يقدروا على إبلاغه، فجاءوا إلى عليّ الرضا وسألوه إنهاء ذلك إلى المأمون، فأخبره بما في العراق من الفتنة والقتال، وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي فقال المأمون: إنما جعلوه أميرا يقوم بأمرهم! فقال: ليس كذلك وإنّ الحرب الآن قائمة بين ابن سهل وبينه، وإنّ الناس ينقمون عليك مكان الفضل والحسن ومكاني وعهدك لي، فقال له المأمون: ومن يعلم هذا غيرك؟ فقال يحيى بن معاذ وعبد العزيز ابن عمران وغيرهما من وجوه قوّادك. فاستدعاهم فكتموا حتى استأمنوا إليه ثم أخبروه بما أخبره به الرضا، وأنّ الناس بالعراق يتّهمونه بالرفض لعهده لعلي الرضا وأنّ طاهر ابن الحسين مع علم أمير المؤمنين ببلائه قد دفع إلى الرقّة وضعف أمره، والبلاد تفتّقت من كل جانب، وإن لم يتدارك الأمر ذهبت الخلافة منهم. فاستيقن المأمون ذلك وأمر بالرحيل واستخلف على خراسان غسّان بن عبّاد وهو ابن عم الفضل بن سهل، وعلم الفضل بن سهل بذلك فشرع في عقاب أولئك القوّاد فلم يغنه. ولما نزل المأمون شرحبيل وثب بالفضل أربعة نفر فقتلوه في الحمام وهربوا، وجعل المأمون جعلا لمن جاء بهم، فجاء بهم العبّاس بن الهيثم الدينَوَريّ. فلما حضروا عند المأمون قالوا له:
أنت أمرتنا بقتله! وقيل بل اختلفوا في القول فقال بعضهم: أمرنا بقتله ابن أخيه، وقال آخرون بل عبد العزيز بن عمران من القوّاد وعلي وموسى وغيرهم، وأنكر(3/312)
آخرون. فأمر المأمون بقتلهم وقتل من أقرّوا عليه من القوّاد، وبعث إلى الحسن بن سهل وسار إلى العراق. وجاءه الخبر بأنّ الحسن بن سهل أصابته الماليخوليا واختلط فبعث دينارا مولاه ووكّله بأمور العسكر وكان إبراهيم بن المهدي وعيسى بالمدائن وأبو البطّ وسعيد بالنيل والحرب متصلة بينهم. والمطّلب بن عبد الله بن مالك قد اعتلّ بالمدائن فرجع إلى بغداد وجعل يدعو إلى المأمون سرّا وإلى خلع إبراهيم وأن يكون منصور بن المهدي خليفة للمأمون وداخله في ذلك خزيمة بن خازم وغيره من القوّاد. وكتب إلى عليّ بن هشام وحميد أن يتقدّما فنزل حميد نهر صرصر وعليّ النهروان، وعاد إبراهيم بن المهدي من المدائن إلى بغداد منتصف صفر، وقبض على منصور وخزيمة ومنع المطّلب مواليه، فأمر إبراهيم بنهب داره ولم يظفر، ونزل حميد وعلي بن هشام المدائن وأقاما بها. وزوّج المأمون في طريقه ابنته من علي الرضا وبعث أخاه إبراهيم بن موسى الكاظم على الموسم، وولّاه اليمن وكان به حمدويه بن عليّ ابن عيسى بن ماهان قد غلب عليه. ولما نزل المأمون مدينة طوس مات عليّ الرضا فجأة آخر صفر من سنة ثلاث من عنب أكله، وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل بذلك، وإلى أهل بغداد وشيعته يعتذر من عهده إليه، وأنه قد مات ويدعوهم إلى الرجوع لطاعته. ثم سار إلى جرجان وأقام بها أشهرا وعقد على جرجان لرجاء بن أبي الضحّاك قاعدا وراء النهر، ثم عزله سنة أربع وعقد لغسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن سهل على خراسان وجرجان وطبرستان وسجستان وكرمان وروبان ودهارير، ثم عزله بطاهر كما نذكره. ثم سار إلى النهروان فلقيه أهل بيته وشيعته والقوّاد ووجوه الناس وكان قد كتب إلى طاهر أن يوافيه بها، فجاء من الرقّة ولقيه هنالك. وسار المأمون فدخل بغداد منتصف صفر من سنة أربعة فنزل الرصافة ثم نزل قصره بشاطئ دجلة، وبقي القوّاد في العسكر وانقطعت الفتن وبقي الشيعة يتكلّمون في لبس الخضرة، وكان المأمون قد أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه فأوّل شيء سأل لبس السواد فأجابه، وقعد للناس وخلع عليه وعليهم الثياب السود واستقامت الأمور [1] كانت الفتنة قد وقعت بالموصل بين بني شامة وبني ثعلبة وكان علي بن الحسن الهمدانيّ متغلبا عليها في قومه فاستجارت ثعلبة بأخيه محمد فأمرهم بالخروج إلى البرية ففعلوا، وتبعهم بنو شامة في ألف رجل وحاصروهم بالقوجاء
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 357: وذلك لسبع بقين من صفر.(3/313)
ومعهم بنو ثعلب، وبعث علي ومحمد إليهم بالمدد فقتلوا جماعة من بني شامة وأسروا منهم، ومن بني ثعلب، فجاء أحمد بن عمر بن الخطّاب الثعلبي إلى عليّ فوادعه وسكنت الفتنة. ثم إنّ عليّ بن الحسين سطا بمن كان في الموصل من الأزد عسفا في الحكم عليهم، وقال لهم يوما: ألحقوا بعمان. فاجتمعت الأزد إلى السيد بن أنس كبيرهم وقاتلوه. وكان في تلك النواحي مهدي بن علوان من الخوارج فادخله عليّ ابن الحسين وبايعه وصلّى بالناس، واشتدّت الحرب. ثم كانت اصرا [1] على عليّ وأصحابه وأخرجهم الأزد عن البلد إلى الحديثة ثم اتبعوهم فقتلوا عليّا وأخاه أحمد في جماعة، ولجأ محمد إلى بغداد وملك السيد بن أنس والأزد الموصل وخطب للمأمون.
ولما قدم المأمون بغداد وفد عليه السيّد بن أنس فشكاه محمد بن الحسين بن صالح واستعداءه عليه بقتل أخويه وقومه، فقال: نعم يا أمير المؤمنين! أدخلوا الخارجي بلدك وأقاموه على منبرك وأبطلوا دعوتك فأهدر المأمون دماءهم.
ولاية طاهر على خراسان ووفاته
كان المأمون بعد وصوله إلى العراق قد ولّى طاهر بن الحسين الجزيرة والشرطة بجانبي بغداد والسواد، ودخل عليه يوما في خلوته فأذن له بالجلوس وبكى ففداه. فقال المأمون أبكي لأمر ذكره ذلّ وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن، وقضى طاهر حديثه وانصرف. وكان حسين الخادم حاضرا فدسّ إليه على يد كاتبه محمد بن هارون أن يسأل المأمون عن مكاتبته على مائة ألف درهم ومثلها للكاتب، وخلا حسين بالمأمون وسأله ففطن وقال له: إنّ الثناء مني ليس برخيص، والمعروف عندي ليس بضائع فعيبي عن غير المأمون [2] . فأجابه وركب إلى المأمون وفاوضه في أمر خراسان وأنها يخشى عليها من الترك وأنّ غسّان بن عبّاد ليس بكفء لها. فقال: لقد فكّرت في ذلك فمن ترى يصلح لها؟ قال: طاهر بن الحسين قال: هو خالع، قال: أنا ضامنه. فاستدعاه وعقد له من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق من حلوان إلى خراسان، وعسكر من يومه خارج بغداد وأقام شهرا تحمل إليه كل يوم عشرة آلاف ألف درهم عادة صاحب خراسان. وولّى المأمون مكانه بالجزيرة ابنه عبد الله، وكان
__________
[1] الإصر: الكسر.
[2] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 361: « ... فركب طاهر إلى احمد بن أبي خالد فقال له:
ان الثناء مني ليس برخيص، وان المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبني عن عينه (أي عين المأمون) » .(3/314)
ينوب عن أبيه بالشرطة، فحملها إلى ابن عمه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وخرج إلى عمله ونزل الرقّة لقتال نصر بن شيث. ثم سار طاهر إلى خراسان آخر ذي القعدة سنة خمس ومائتين. وقيل في سبب ولاية طاهر خراسان أنّ عبد الرحمن المطوّع جمع جموعا كثيرة بنيسابور لقتال الحروريّة، ولم يستأذن غسّان بن عبّاد وهو الوالي على خراسان، فخشي أن يكون ذلك من المأمون فاضطرب وتعصّب له الحسن بن سهل. وخشي المأمون على خراسان فولّى طاهرا وسار إلى خراسان فأقام بها إلى سنة سبع، ثم اعتزم على الخلاف وخطب يوما فأمسك عن الدعاء للمأمون ودعا بصلاح الأمّة، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون بخلعه، فدعا بأحمد بن أبي خالد فقال: أنت ضمنته! فسر وائتني به ثم جاء من الغد الخبر بموته فقال المأمون للبريد ونعم الحمد للَّه الّذي قدّمه وأخّرنا، وولّى طلحة من قبله وبعث إليه المأمون أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر أحمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشر وسنة وأسر كاووس بن خالد حدّد وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون ووهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألف ألف ولمكاتبته خمسمائة ألف درهم. ثم خالف الحسين بن الحسين بن مصعب بكرمان فسار إليه أحمد بن أبي خالد وأتى به إلى المأمون فعفا عنه.
ولاية عبد الله بن طاهر الرقة ومصر ومحاربته نصر بن شيث
وفي سنة ست ومائتين بلغ الخبر بوفاة يحيى بن معاذ عامل الجزيرة، وأنه استخلف ابنه أحمد، فولّى المأمون عبد الله بن طاهر مكانه وجعل له ما بين الرقّة ومصر، فأمره بحرب نصر بن شيث وقيل ولّاه سنة خمس، وقيل سنة سبع، واستخلف على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب وهو ابن عمّه، وكتب إليه أبو طاهر كتابا بالوصية جمع فيه محاسن الآداب والسياسة ومكارم الأخلاق، وقد ذكرناه في مقدّمة كتابنا، فسار عبد الله بن طاهر لذلك وبعث الجيوش لحصار نصر ابن شيث بكيسوم في نواحي جانب، ثم سار إليه بنفسه سنة تسع ومائتين، وأخذ بمخنقه. وبعث إليه المأمون محمد بن جعفر العامري يدعوه إلى الطاعة، فأجاب على شرط أن لا يحضر عنده. فتوقف المأمون وقال: ما باله ينفر مني؟ فقال أبو جعفر: لما(3/315)
تقدّم من ذنبه. فقال: أفتراه أعظم ذنبا من الفضل بن الربيع وقد أخذ جميع ما أوصى له به الرشيد من الأموال والسلاح وذهب مع القوّاد إلى أخي، وأسلمني وأفسد عليّ حتى كان ما كان، ومن عيسى بن أبي خالد وقد خالف عليّ ببلدي وأخرب داري، وبايع لإبراهيم دوني فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين هؤلاء لهم سوابق ودالّة يبقون بها، ونصر ليست له في دولتكم سابقة وإنما كان من جند بني أمية، وأنا لا أجيب إلى هذا الشرط، ولحّ نصر في الخلاف حتى جهده الحصار واستأمن فأمّنه عبد الله بن طاهر وخرج إليه سنة عشرة وبعث به إلى المأمون وأخرب حصن كيسوم لخمس سنين من حصاره ورجع عبد الله بن طاهر إلى الرقّة ثم قدم بغداد سنة إحدى عشرة فتلقّاه العبّاس بن المأمون والمعتصم وسائر الناس.
الظفر بابن عائشة وبإبراهيم بن المهدي
كان إبراهيم بن محمد بن عبد الوهّاب بن إبراهيم الإمام ويعرف بابن عائشة ممن تولّى كبر البيعة لإبراهيم بن المهدي ومعه إبراهيم بن الأغلب ومالك بن شاهين وكانوا قد اختفوا عند قدوم المأمون في نواحي بغداد. ولما وصل نصر بن شيث وخرجت النظارة أنفذوا للخروج في ذلك اليوم ثم غلبهم بعض الناس فأخذوا في صفر من سنة عشرة، ثم ضربوا حتى أقرّوا على من كان معهم في الأمر فلم يعرض لهم المأمون وحبسهم فضاق عليهم المحبس وأرادوا أن ينقبوه، فركب المأمون بنفسه وقتلهم وصلب ابن عائشة ثم صلّى عليه ودفنه. ثم أخذ في هذه السنة إبراهيم بن المهدي وهو متنقب في زيّ امرأة يمشي بين امرأتين واستراب به بعض العسس وقال أين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت في يده فازداد ريبة ورفعهنّ إلى صاحب المسلحة، وجاء بهنّ إلى صاحب الجسر فذهب به إلى المأمون، وأحضره والغل في عنقه والملحبة [1] على صدره ليراه بنو هاشم والناس. ثم حبسه عند أحمد بن أبي خالد، ثم أخرجه معه عند ما سار الحسن بن سهل ليغنم الصلح، فشفع فيه الحسن وقيل ابنته بوران، وقيل إنّ إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار المعتصم وكان عند المأمون فأدخله عليه وأنّبه فيما كان منه. واعتذر بمنظوم من الكلام ومنثور أتى فيه من وراء الغاية وهو منقول في كتب التاريخ فلا نطيل بنقله.
__________
[1] الملحبة: كل ما يقطع به.(3/316)
انتقاض مصر والاسكندرية
كان السريّ بن محمد بن الحكم واليا على مصر وتوفي سنة خمس ومائتين، وبقي ابنه عبد الله، فانتقض وخلع الطاعة وأنزل بالإسكندرية جالية من الأندلس أخرجهم الحكم بن هشام من ربضي قرطبة وغرّبهم إلى المشرق. ولما نزلوا بالإسكندرية ثاروا وملكوها وولّوا عليهم أبا حفص عمر البلوطي. وفشل عبد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شيث، فلما فرغ منه ثار من الشام إليهم، وقدّم قائدا من قوّاده ولقيه ابن السريّ وقاتله وأغذّ ابن طاهر المسير فلحقهم وهم في القتال، وانهزم ابن السريّ إلى مصر وحاصره عبد الله بن طاهر حتى نزل على الأمان، وذلك سنة عشرة. ثم بعث إلى الجالية الذين ملكوا الاسكندرية بالحرب، فسألوا الأمان على أن يرتحلوا إلى بعض الجزائر في بحر الروم مما يلي الاسكندرية ففعل. ونزلوا جزيرة أقريطش واستوطنوها وأقامت في مملكة المسلمين من أعقابهم دهرا إلى أن غلب عليها الإفرنجة.
العمّال بالنواحي
لما استقرّ المأمون ببغداد وسكن الهيج وذلك سنة أربع، ولّى على الكوفة أخاه أبا عيسى، وعلى البصرة أخاه صالحا، وعلى الحرمين عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب، وعلى الموصل السيّد بن أنس الأزدي، وولّى على الشرطة ببغداد ومعاون السواد طاهر بن الحسين استقدمه من الرقّة، وكان الحسن بن سهل ولّاه عليها فقدم واستخلف ابنه عبد الله عليها. ثم ولّاه المأمون سنة خمس خراسان وأعمال المشرق كلّها واستقدم ابنه عبد الله فجعله على الشرطة ببغداد مكان أبيه. وولّى يحيى بن معاذ على الجزيرة وعيسى بن محمد بن أبي خالد على أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. ومات عامل مصر السري بن محمد بن الحكم فولّى ابنه عبيد الله مكانه. ومات داود بن يزيد عامل السند فولّى بشر بن داود مكانه على أن يحمل ألف ألف درهم كل سنة. ثم مات يحيى بن معاذ سنة ست واستخلف ابنه أحمد فعزله المأمون وولّى مكانه عبد الله بن طاهر وضاف إليه مصر، وسيّره لمحاربة نصر بن شيث وولّى عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزطّ سنة خمس، ثم عزله سنة ست وولّى داود بن منحور [1] مع أعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين، وولّى
__________
[1] داود بن ماسحور: ابن الأثير ج 6 ص 379، وفي الطبري ج 10 ص 258 داود بن ماسجور.(3/317)
في سنة سبع محمد بن حفص على طبرستان والرويان ودنباوند. وفيها أوقع السيد بن أنس بجماعة من عرب بني شيبان ووديعة بما فشا من إفسادهم في البلاد، فكبسهم بالدسكرة واستباحهم بالقتل والنهب. وفي سنة تسع ولّى صدقة بن عليّ ويعرف بزريق على أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك، وقام بأمره أحمد بن الجنيد الاسكافي فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل أذربيجان. وكان على جبال طبرستان شهريار بن شروين فمات سنة عشر وقام مكانه ابنه سابور، فقتله مازيار بن قارن في حرب أسره فيها وملك جبال طبرستان وفي سنة إحدى عشرة قتل زريق بن عليّ بن صدقة الأزدي السيد بن أنس صاحب الموصل، وقد كان زريق تغلّب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان وولّاه المأمون عليها، فجمع وقصد الموصل لحرب السيد فخرج إليه أربعة آلاف فاشتدّ القتال بينهم وقتل السيد في المعركة فغضب المأمون لقتله، وولّى محمد بن حميد الطوسي على الموصل وأمره بحرب زريق وبابك الخرّمي فسار إلى الموصل واستولى عليها سنة اثنتي عشرة. ومات موسى بن حفص عامل طبرستان فولّى المأمون مكانه ابنه، وولّى حاجب بن صالح على الهند فوقعت بينه وبين بشر بن داود صاحب السند حرب، وانهزم بشر إلى كرمان ثم قتل محمد بن حميد الطوسي سنة أربع عشرة قتله بابك الخرّمي وذلك أنه لما فرغ من أمر المتغلبين بالموصل سار إلى بابك في العساكر الكاملة الحشد وتجاوز إليه المضايق ووكل بحفظها حتى انتهى إلى الجبل، فصعد وقد أكمن بابك الرجال في الشعراء فلما جاز ثلاثة فراسخ خرجت عليهم الكمائن فانهزموا وثبت محمد بن حميد حتى إذا لم يبق معه إلّا رجل واحد فتسلل يطلب النجاة فعثر في جماعة من الحربية يقاتلون طائفة من أصحابه فقصدوه وقتلوه، وعظم ذلك على المأمون واستعمل عبد الله بن طاهر على خراسان لأنه كان بلغه أن أخاه طلحة بن طاهر مات وقام عليّ أخوه مكانه خليفة لعبد الله، وعبد الله بالدينور يجهّز العساكر إلى بابك فولّى على نيسابور محمد بن حميد فكثر عيث الخوارج بخراسان فأمره المأمون بالمسير إليها فسار ونزل نيسابور وسأل عن سيرة محمد بن حميد فسكتوا فعزله لسكوتهم وفي سنة اثنتي عشرة خلع أحمد بن محمد العمريّ، يعرف بالأحمر العين باليمن، فولّى المأمون ابنه العبّاس على الجزيرة والثغور والعواصم وأخاه أبا إسحاق المعتصم على الشام ومصر وسيّر عبد الله بن طاهر إلى خراسان وأعطى لكل واحد منهم خمسمائة ألف درهم، وبعث المعتصم أبا عميرة(3/318)
الباذغيسي عاملا على مصر فوثب به جماعة من القيسية واليمانية فقتلوه سنة أربع عشرة، فسار المعتصم إلى مصر فقاتلهم وافتتح مصر وولّى عليها واستقامت الأمور.
وفي سنة ثلاث عشرة ولّى المأمون غسّان بن عبّاس على السند لما بلغه خلاف بشر بن داود. وفي سنة أربع عشرة استقدم المأمون أبا دلف وكان بالكرخ من نواحي همذان منذ سار مع عيسى بن ماهان لحرب طاهر، وقتل عيسى فعاد إلى همذان وراسله طاهر يدعوه إلى البيعة فامتنع. وقال له ولا أكون مع أحد وأقام بالكرخ. فلما خرج المأمون إلى الريّ أرسل إليه يدعوه فسار نحوه وجلا بعد أن أغرى عليه أصحابه الامتناع. وفي سنة أربع عشرة قتل باليمن. وفيها ولّى المأمون عليّ بن هشام الجبل وقمّ وأصبهان وأذربيجان وخلع أهل قم وكانوا سألوا الحطيطة من خراجهم وهو ألف ألف درهم لأنّ المأمون لما جاء من العراق أقام بالريّ أياما وخفّف عنهم من الخراج فطمع أهل قم في مثلها فأبى فامتنعوا من الأداء فسرّح إليهم عليّ بن هشام وعجيف بن عنبسة وظفروا بهم وقتلوا يحيى بن عمران وهدموا سورها وجبوها على سبعة آلاف ألف. وفي سنة ست عشرة ظهر عبدوس الفهريّ بمصر وقتل بعض عمّال المعتصم، فسار المأمون إلى مصر وأصلحها وأتى بعبدوس فقتله وقدم من برقة وأقام بمصر وفيها غضب المأمون على علي بن هشام ووجّه عجيفا وأحمد بن هشام لقبض أمواله وسلامه لما بلغه من عسفه وظلمه وأراد قتل عجيف واللحاق ببابك فلم يقدر وظفر به عجيف وجاء به إلى المأمون فأمر بقتله وطيف برأسه في الشام والعراق وخراسان ومصر ثم ألقي في البحر. وقدم غسّان بن عبّاد من السند ومعه بشر بن داود مستأمنا، فولّى على السند عمران بن موسى العكيّ وهرب جعفر بن داود القمي إلى قم فخلع وكان محبوسا بمصر منذ عزله المأمون عن قمّ فهرب الآن وخلع فغلبه عليّ بن عيسى القميّ وبعث به إلى المأمون فقتل.
الصوائف
وفي سنة مائتين قتل الروم ملكهم إليون لسبع سنين ونصف من ملكه، وأعادوا ميخاييل بن جرجس المخلوع، وبقي عليهم تسع سنين. ثم مات سنة خمس عشرة وملك ابنه نوفل وفتح عبد الله بن حرداويه والي طبرستان البلاد والسيرن من بلاد الديلم وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون وأسرا ياليل ملك الديلم وذلك سنة إحدى ومائتين. وفيها ظهر بابك الخرّمي في(3/319)
الجاوندانيّة أصحاب جاوندان سهل، وتفسيره الدائم الباقي وتفسير خرم فرح، وكانوا يعتقدون مذاهب المجوس وفي سنة أربع عشرة خرج أبو بلال الصابي الشاري، فسرّح إليه المأمون ابنه العبّاس في جماعة من القوّاد وقتلوه. وفي سنة خمس عشرة دخل المأمون بلاد الروم بالصائفة وسار عن بغداد في المحرّم واستخلف عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وهو ابن عم طاهر، وولّاه السواد وحلوان وكور دجلة، ولما وصل تكريت لقيه محمد بن عليّ الرضا فأجازه وزفّ إليه ابنته أمّ الفضل، وسار إلى المدينة فأقام بها وسار المأمون على الموصل إلى منبج ثم دابق، ثم أنطاكية ثم المصيصة وطرطوس. ودخل من هناك فافتتح حصن قرّة عنوة وهدمه.
وقيل بل فتحه على الأمان، وفتح قبله حصن ماجد كذلك. وبعثه أشناس إلى حصن سدس، ودخل ابنه العبّاس ملطية ووجه المأمون عجيفا وجعفر الخيّاط إلى حصن سنان فأطاع. وعاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل الموصل، ولقيه العبّاس ابنه برأس عين. وجاء المأمون منصرفه من العراق إلى دمشق، ثم بلغه أنّ الروم أغاروا على طرطوس والمصيصة وأثخنوا فيهم بالقتل. وكتب إليه ملك الروم فيه بنفسه فرجع إليهم وافتتح كثيرا من معاقلهم وأناخ على هرقلة حتى استأمنوا وصالحوه، وبعث المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا منها مطمورة، وبعث يحيى بن أكثم فأثخن في البلاد وقتل وحرق وسبى. ثم رجع المأمون إلى كيسوم فأقام بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق.
وفي سنة سبع عشرة رجع المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة فحاصرها مائة يوم، ثم رحل عنها وخلّف عجيفا على حصارها. وجاء نوفل ملك الروم فأحاط به فبعث إليه المأمون بالمدد فارتحل نوفل واستأمن أهل لؤلؤة إلى عجيف، وبعث نوفل في المهادنة والمأمون على سلوين فلم يجبه. ثم رجع المأمون سنة ثمان عشرة وبعث ابنه العبّاس إلى بناء طوانة فبنى بها ميلا في ميل ودورها أربعة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب ونقل إليها الناس من البلدان.
وفاة المأمون وبيعة المعتصم
ثم مرض المأمون على نهر البربرون واشتدّ مرضه ودخل العراق وهو مريض فمات بطرسوس وصلّى عليه المعتصم وذلك لعشرين سنة من خلافته، وعهد لابنه المعتصم وهو أبو إسحاق محمد فبويع له بعد موته، وذلك منتصف رجب من سنة ثمان عشرة(3/320)
ومائتين. وشغب الجند وهتفوا باسم العبّاس بن المأمون فأحضره وبايع فسكتوا وخرّب لوقته ما كان بناه من مدينة طوانة وأعاد الناس إلى بلادهم وحمل ما أطاق حمله من الآلة وأحرق الباقي.
ظهور صاحب الطالقان
وهو محمد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ زين العابدين بن الحسين، كان ملازما للمسجد بالمدينة فلزمه شيطان من أهل خراسان وزيّن له أنه أحق بالإمامة، وصار يأتيه بحجّاج خراسان يبايعونه. ثم خرج به إلى الجوزجان وأخفاه وأقبل على الدعاء له، ثم حمله على إظهار الدعوة للرضا من آل محمد على عادة الشيعة في هذا الإبهام كما قدّمناه. وواقعه قوّاد عبد الله بن طاهر بخراسان المرّة بعد المرّة فهزموه وأصحابه، وأخرج ناجيا بنفسه ومرّ بنسا، فوشي به إلى العامل فقبض عليه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر، فبعثه إلى المعتصم منتصف ربيع أوّل سنة تسع عشرة، فحبسه عند الخادم مسرور الكبير، ووكّل بحفظه فهرب من محبسه ليلة الفطر من سنته ولم يوقف له على خبر.
حرب الزطّ
وهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد وولّوا عليهم رجلا منهم اسمه محمد بن عثمان، وقام بأمره آخر منهم اسمه سماق. وبعث المعتصم لحربهم في هذه السنة عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة فسار إلى واسط وحاربهم، فقتل منهم في معركة ثلاثمائة وأسر خمسمائة، ثم قتلهم وبعث برءوسهم إلى باب المعتصم وأقام قبالتهم سبعة أشهر. ثم استأمنوا إليه في ذي الحجة آخر السنة وجاءوا بأجمعهم في سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا فعبّاهم عجيف في السفن على هيئتهم في الحرب ودخل بهم بغداد في عاشوراء سنة عشرين، وركب المعتصم إلى الشماسة في سفينة حتى رآهم، ثم غرّبهم إلى عين زربة فأغارت عليهم الروم فلم يفلت منهم أحد.
بناء سامرا
كان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحرف بمصر وسمّاهم المطاربة وقوما من(3/321)
سمرقند وأشر وسنّة وفرغانة وسمّاهم الفرغانة، وأكثر من صبيانهم، وكانوا يركضون الدواب في الطرق ويختلفون بها ركضا، فيصدمون النساء والصبيان فتتأذى العامة بهم، وربما انفرد بعضهم فقتلوه وتأذى الناس من ذلك ونكروه وربما أسمعوا النكير للمعتصم، فعمد إلى بناء القاطون، وكانت مدينة بناها الرشيد ولم يستتمها وخربت، فجدّدها المعتصم وبناها سنة عشرين وسماها سرّ من رأى فرخّمها الناس سامرا وسارت دارا لملكهم من لدن المعتصم ومن بعده واستخلف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق.
نكبة الفضل بن مروان
كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقاني [1] ، واتصل به الفضل بن مروان وهو من البردان، وكان حسن الخط. فلما هلك الجرمقاني استكتبه المعتصم وسار معه إلى الشام فأثرى. ولما استخلف المعتصم استولى على هواه واستتبع الدواوين واحتجر الأموال ثم صار يرد أوامر المعتصم في العطايا ولا ينفّذها، واختلفت فيه السعايات عند المعتصم ودسّوا عليه عنده من ملأ مجلسه ومساخره من يعيّر المعتصم باستبداده عليه وردّ أوامره فحقد له ذلك. ثم نكبه سنة عشرين وصادره وجميع أهل بيته، وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات وغرّب الفضل إلى بعض قرى الموصل [2] قد تقدّم لنا حديث بابك الخرّمي (محاربة بابك الخرمي) وظهوره سنة اثنتين ومائتين بدعوة جاوندان بن سهل، واتّخذ مدينة البرّ [3] لامتناعه وولى المأمون حروبه، فهزم عساكره وقتل جماعة من قوّاده وخرب الحصون فيما بين أردبيل وزنجان، فلما ولي المعتصم بعث أبا سعيد محمد بن يوسف فبنى الحصون التي خرّبها وشحنها بالرجال والأقوات، وحفظ السابلة لجلب الميرة. وبينما هو في ذلك أغارت بعض سرايا بابك بتلك النواحي فخرج في طلبهم واستنقذ ما أخذوه، وقتل كثيرا وأسر أكثر، وبعث بالرءوس والأسرى إلى المعتصم. وكان ابن البعيث أيضا في قلعة له حصينة من كور أذربيجان ملكها من يد
__________
[1] الجرمقاني: ابن الأثير ج 6 ص 453.
[2] بياض في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 454: «فنفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسنّ وصار محمد وزيرا كاتبا.»
[3] وفي نسخة اخرى مدينة البذّ (وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 457.)(3/322)
ابن الرواد، وكان يصانع بابك ويضيف سراياه إذا مرّوا به. ومرّ به في هذه الأيام قائده عصمة، وأضافه على العادة، ثم قبض عليه وقتل أصحابه وبعث به إلى المعتصم، فسأله عن عورات بلاد بابك فدلّه عليها. ثم حبسه وعقد لقائده الأفشين حيدر بن كاوس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك، فسار إليها ونزل بساحتها وضبط الطرقات ما بينه وبين أردبيل، وأنزل قوّاده في العساكر ما بينه وبين أردبيل يتلقّون الميرة من أردبيل من واحد إلى الآخر حتى تصل عسكر الأفشين. وكان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن إحسان بابك إليه فيضاعفه ويطلقه. ثم إنّ المعتصم بعث بغا الكبير بمدد الأفشين بالنفقات وسمع بابك فاعتزم على اعتراضه وأخبر الأفشين بذلك بعض جواسيسهم، فكتب إلى بغا أن يرتحل من حصن النهر قيلا [1] ثم يرجع إلى أردبيل ففعل ذلك. وجاءت الأخبار إلى بابك وركب الأفشين في يوم مواعدته لبغا واغذّ المسير، وخرجت سريّة بابك فلقيت قافلة النهر ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم المال. ولقوا في طريقهم الهيثم من قوّاد الأفشين فهزموه وامتنع بحصنه، ونزل بابك عليه يحاصره وإذا بالأفشين قد وصل، فأوقع بهم وقتل الكثير من جنده، ونجا بابك إلى موقان وأرسل إلى عسكره في البرّ فلحقت به، وخرج معهم من موقان إلى البذّ. ولما رجع الأفشين إلى عسكره استمرّ على حصار بابك وانقطعت عنه الميرة من سائر النواحي، ووجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك فأخذوها، ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرّقه في العساكر، وأمر الأفشين قوّاده فتقدّموا ليضيّقوا الحصار على بابك في حصن البذّ، ونزل على ستة أميال منه. وسار بغا الكبير حتى أحاط بقرية البذّ وقاتلهم وقتلوا منهم جماعة فتأخر إلى خندق محمد بن حميد من القوّاد، وبعث إلى الأفشين في المدد، فبعث إليه أخاه الفضل وأحمد بن الخليل بن هشام وأبا خوس وصاحب شرطة الحسن بن سهل، وأمره بمناجزتهم إلى الحرب في يوم عيّنه له، فركبوا في ذلك اليوم، وقصدوا البذّ وأصابهم برد شديد ومطر، وقاتل الأفشين فغلب من بإزائه من أصحاب بابك واشتدّ عليهم المطر فنزلوا واتخذ بغا دليلا أشرف به على جبل يطل منه على الأفشين ونزل عليهم الثلج والضباب فنزلوا منازلهم. وعمد بابك إلى الأفشين ففضّ معسكره وضجر أصحاب بغا من مقامهم في رأس الجبل فارتحل بهم ولا يعلم
__________
[1] هو اسم الحصن.(3/323)
ما تمّ على الأفشين، وقصد حصن البذّ فتعرّف خبر الافشين ورجع على غير الطريق الّذي دخلوا منه لكثرة مضايقه وعقباته وتبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه. وأجنهم الليل وخافوا على أثقالهم وأموالهم فعسكر بهم بغا من رأس جبل وقد تعبوا وفنيت أزوادهم وبيّتهم بابك ففضهم ونهبوا ما كان معهم من المال والسلاح ونجوا إلى خندقهم الأوّل في أسفل الجبل وأقام بغا هنالك. وكان طرخان كبير قوّاد بابك قد استأذنه أن يشتوا بقرية في ناحية مراغة، فأرسل الأفشين إلى بعض قوّاده بمراغة فأسرى إليه وقتله وبعث برأسه. ودخلت سنة اثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفر الخيّاط بالعساكر مددا للأفشين، وبعث إتياخ بثلاثين ألف ألف درهم لنفقات الجند فأرسلها وعاد، ورحل الأفشين لأوّل فصل الربيع، ودنا من الحصن وخندق على نفسه. وجاءه الخبر بأنّ قائد بابك واسمه أدين [1] قد عسكر بإزائه وبعث عياله إلى بعض حصون الجبل، فبعث الأفشين بعض قوّاده لاعتراضهم فسلكوا مضايق وتملّقوا وأغاروا إلى أن لقوا العيال فأخذوهم وانصرفوا، وبلغ الخبر أدين فركب لاعتراضهم وحاربهم واستنقذ بعض النساء. وعلم بشأنهم الأفشين من علامات كان أمرهم بها إن رأى بهم ريبا فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق ونجا القوم، وتقدّم الأفشين قليلا قليلا إلى حصن البذّ وكان يأمر الناس بالركوب ليلا للحراسة خوف البيات فضجر الناس من التعب وارتاد في رءوس تلك الجبال أماكن يتحصّن فيها الرجالة فوجد ثلاثة فأنزل فيها الرجالة بأزوادهم وسدّ الطرق إليها بالحجارة وأقام يحاصرهم. وكان يصلّي الصبح بغلس، ثم يسير زحفا ويضرب الطبول الناس لزحفه في الجبال والأودية على مصافهم، وإذا أمسك وقفوا وكان إذا أراد أن يتقدّم المضيق الّذي أتى منه عام أوّل خلّف به عسكرا على رأس العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرسة منه عليهم. وكان بابك متى زحفوا عليه كمن عسكرا تحت تلك العقبة، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان الكمين فلم يطق وكان يأمر أبا سعيد وجعفرا لخيّاط وأحمد بن الخليل بن هشام فيتقدّمون إلى الوادي في ثلاثة كراديس، ويجلس على تلك ينظر إليهم وإلى قصر بابك ويقف بابك قبالته في عسكر قليل وقد أكمن بقية العسكر فيشربون الخمر ويلعبون بالسرياني، فإذا صلّى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذالروذ مصافا بعد مصاف، الأقرب إلى العدوّ ثم الّذي يليه،
__________
[1] آذين: ابن الأثير ج 6 ص 461.(3/324)
وآخرين ترجع العسكر الّذي عقبه المضيق حتى ضجرت الخرّمية من المطاولة، وانصرف بعض الأيام وتأخر جعفر فخرج الخرّمية من البذّ على أصحابه فردّهم جعفر على أعقابهم، وارتفع الصياح ورجع الأفشين وقد نشبت الحرب. وكان مع أبي دلف من أصحاب جعفر قوم من المطوعة فضيقوا على أصحاب بابك وكانوا يصدعون البذّ، وبعث جعفر إلى الأفشين يستمدّه خمسمائة راجل من الناشبة فأتى له وأمره بالتحيّل في الانصراف، وتعلق أولئك المطّوعة بالبذّ وارتفع الصياح وخرج الكمناء من تحت العقبة، وتبين الأفشين أماكنهم واطّلع على خدعتهم. وانصرف جعفر إلى الأفشين وعاتبه فاعتذر إليه يستأمن الكمين وأراه مكانه، فانصرف عن عتابه وعلم أنّ الرأي معه. وشكا المطوعة ضيق العلوفة والزاد فأذن لهم في الانصراف وتناولوه بألسنتهم، ثم طلبوه في المناهضة فأذن لهم ووادعهم ليوم معلوم، وجهّز وحمل المال والزاد والماء والمحامل لجرجان، وتقدّم إلى مكانه بالأمس وجهّز العسكر على العقبة على عادته، وأمر جعفرا بالتقدّم بالمطوعة وأن يأتوا من أسهل الوجوه وأطلق يده بمن يريده من الناشبة والنفاطين، وتقدّم جعفر إلى مكانه بالأمس والمتطوعة معه، فقاتلوا وتعلّقوا بسور البذّ حتى ضرب جمعهم ما به وجاء الفعلة بالفئوس وطيف عليهم بالمياه والأزودة ثم جاء الخرّمية من الباب وكسروا على المطوعة وطرحوهم على السور ورموهم بالحجارة فنالت منهم وضعفوا عن الحرب، ثم تحاجزوا آخر يومهم وأمرهم الافشين بالانصراف وداخلهم اليأس من الفتح تلك السنة، وانصرف أكثر المطوعة. ثم عاود الأفشين الحرب بعد أسبوعين وبعث من جوف الليل ألفا من الناشبة إلى الجبل الّذي وراء البذّ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على الخرّمية. وبعث عسكرا آخر كمينا تحت ذلك الجبل الّذي وراء البذّ، وركب هو من الغداة إلى المكان الّذي يقف فيه على عادته. وتقدّم جعفر الخيّاط والقوّاد حتى صاروا جميعا حول ذلك الجبل، فوثب كمين بابك من أسفل الجبل بالعسكر الّذي جاء إليه لما فضحهم الصبح، وانحدر الناشبة من الجبل وقد ركّبوا الأعلام على رماحهم، وقصدوا جميعا أدين قائد بابك في جفلة، فانحدر إلى الوادي، فحمل عليه جماعة من أصحاب القوّاد فرمى عليهم الصخور من الجبل وتحدّرت إليهم ولما رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذّ، وبينما هم في ذلك إذ جاء الخبر إلى الأفشين بدخول البذّ، وأنّ الناس صعدوا بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل واديا هنالك(3/325)
وأحرق الأفشين قصور بابك وقتل الخرّمية عن آخرهم، وأخذ أمواله وعياله، ورجع إلى معسكره عند المساء، وخالفه بابك إلى الحصن فحمل ما أمكنه من المال والطعام وجاء الأفشين من الغد فهدم القصور وأحرقها وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم بإذكاء العيون عليه في نواحيهم حتى يأتوه به، ثم عثر على بابك بعض العيون في واد كثير الغياض يمرّ من أذربيجان إلى أرمينية فبعث من يأتي به فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض والشجر. وجاء كتاب المعتصم بأمانه فبعث به الأفشين بعض المستأمنة من أصحاب بابك فامتنع من قبوله. وقتل بعضهم، ثم خرج من ذلك الوادي هو وأخوه عبد الله ومعاوية وأمّه يريدون أرمينية، ورآهم الحرس الذين جاءوا لأخذه وكان أبو السفاح هو المقدّم عليهم فمرّوا في اتباعهم وأدركوهم على بعض المياه، فركب ونجا وأخذ أبو السفاح معاوية وأمّ بابك وبعث بهم إلى الأفشين وسار بابك في جبال أرمينية مختفيا وقد أذكوا عليه العيون حتى إذا مسّه الجوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم فعثر به بعض المسلحة. وبعث إلى سهل بن ساباط [1] فجاء واجتمع بصاحب بابك الّذي كانت حراسة الطريق عليه، ودلّه على بابك فأتاه وخادعه حتى سار إلى حصنه وبعث بالخبر إلى الأفشين فبعث إليه بقائدين من قبله وأمرهما بطاعة ابن ساباط، فأكمنهما في بعض نواحي الحصن وأغرى بابك بالصيد وخرج معه فخرج القائدان من الكمين فأخذاه وجاء به إلى الأفشين ومعهما معاوية بن سهل بن ساباط فحبسه ووكّل بحفظه وأعطى معاوية ألف درهم، وآتى سهلا ألف ألف درهم ومنطقة مفرّقة بالجوهر. وبعث إلى عيسى بن يوسف بن أسطقانوس [2] ملك البيلقان يطلب منه عبد الله أخا بابك، وقد كان لجأ إلى حصنه عند ما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه، وحبسه الأفشين مع أخيه. وكتب إلى المعتصم فأمره بالقدوم بهما وذلك في شوّال من سنة اثنتين وعشرين، وسار الأفشين بهما إلى سامرا فكان يلقاه في كل رحلة رسول من المعتصم بخلعة وفرس. ولما قرب من سامرا تلقّاه الواثق وكبّر لقدومه وأنزل الأفشين وبابك عنده بالمطيرة، وتوّج الأفشين وألبسه وشاحين ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم يفرّقها في عسكره، وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين. وجاء أحمد ابن أبي داود إلى بابك متنكرا وكلّمه، ثم جاء المعتصم أيضا
__________
[1] سهل بن سنباط: ابن الأثير ج 6 ص 473.
[2] عيسى بن يونس بن اصطفانوس: المرجع السابق ص 474.(3/326)
متنكّرا فرآه. ثم عقد من الغد واصطف النظارة سماطين وجيء ببابك راكبا على فيل، فلما وصل أمر المعتصم بقطع أطرافه ثم بذبحه، وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب شلوه بسامراء وبعث بأخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك ففعل. وكان الّذي أنفق الأفشين في مدّة حصاره لبابك سوى الأرزاق والأنزال والمعاون عشرة آلاف ألف درهم يوم ركوبه لمحاربته، وخمسة آلاف يوم قعوده.
وجميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف وخمسة وخمسين ألف [1] ، وهزم من القوّاد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد ابن الجنيد وزريق بن عليّ بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث.
وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة والّذي استنقذ من يديه من المسلمات وأولادهنّ سبعة آلاف وستمائة إنسان جعلوا في حظيرة، فمن أتى من أوليائهم وأقام بيّنة على أحد منهم أخذه، والّذي صار في يد الأفشين من بني بابك وعياله سبعة عشر رجلا وثلاثا وعشرين امرأة.
فتح عمّورية
وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل [2] ملك الروم إلى بلاد المسلمين، فأوقع بأهل زبطرة، لأنّ بابك لما أشرف على الهلاك كتب إليه أنّ المعتصم قد وجّه عساكره حتى خيّاطه يعني جعفر بن دينار وطبّاخه يعنى إيتاخ ولم يبق عنده أحد، فانتهز الفرصة ثلاثا أو دونها. وظنّ بابك أنّ ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب الروم، فيخفّ عنه ما هو فيه، فخرج نوفل في مائة ألف وفيهم من المجمّرة [3] الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلحق بالروم، وبلغ زبطرة فاستباحها قتلا وسبيا وأعاد على ملطية وغيرها، ومثّل بالأسرى. وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه وبلغه أنّ هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وا معتصماه! فأجاب وهو على سريره لبيك، لبيك! ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته واحتقب شكالا وسكة من حديد فيها رداؤه. وجمع العساكر وأحضر قاضي بغداد عبد الرحمن بن إسحاق ومعه ابن سهل في ثلاثمائة
__________
[1] وفي الكامل ج 6 ص 478: مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمس مائة إنسان» .
[2] توفيل بن ميخائيل. ابن الأثير ج 6 ص 479.
[3] المحمّرة.(3/327)
وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع، ثلثا لولده وثلثا لمواليه، وثلثا لوجه الله. وسار فعسكر بقرى دجلة لليلتين من جمادى الأولى وبعث عجيف بن عنبسة وعمر الفرغانيّ وجماعة من القوّاد مددا لأهل زبطرة، فوجدوا الروم قد ارتحلوا عنها فأقاموا حتى تراجع الناس واطمأنوا. ولما ظفر ببابك سأل أيّ بلاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمّورية، فتجهّز إليها بما لا يماثله أحد قبله من السلاح والآلة والعدد، وحياض الأدم والقرب والروايا وجعل مقدّمته أشناس، وبعده محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى الميمنة إيتاخ، وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخيّاط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة، وجاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقيّة على نهر السنّ قريبا من البحر، وعلى مسيرة يوم من طرطوس [1] وبعث الأفشين إلى سروج وأمره بالدخول من درب الحرث [2] وبعث أشناس من درب طرطوس وأمره بانتظاره بالصفصاف، وقدّم وصيفا في أثر أشناس وواعدهم يوم اللقاء. ورحل المعتصم لست بقين من رجب. وبلغه الخبر أنّ ملك الروم عازم على كبس مقدمته فبعث إلى أشناس بذلك وأن يقيم ثلاثة أيام ليلحق به. ثم كتب إليه أن يبعث إليه من قوّاده من يأتيه بخبر الروم وملكهم فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس، فطاف في البلاد وأحضر جماعة عند أشناس أخبروه بأنّ ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة ليواقعها إذ جاءه الخبر بأنّ العساكر دخلت من جهة أرمينية [3] يعني عسكر الأفشين، فاستخلف ابن خاله على عسكره وسار إلى تلك الناحية فوجه أشناس بهم إلى المعتصم. وكتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام حذرا عليه وجعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم، وأوغل في بلاد الروم فلم يدركه الكتاب. وكتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدّم والمعتصم في أثره حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس في طريقه جماعة من الروم فقتلهم، وقال لهم شيخ منهم: أنا أدلك على قوم هربوا من أنقرة معهم الطعام والشعيرة فبعث معه مالك بن كرد [4] في خمسمائة فارس فدلّ بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم ووجدوا فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين، وقالوا: لما استخلف على عسكره سار إلى ناحية أرمينية فلقينا
__________
[1] طرسوس: ابن الأثير ج 6 ص 481.
[2] درب الحدث: ابن الأثير ج 6 ص 481.
[3] الارمذياق: ابن الأثير ج 6 ص 481.
[4] مالك بن كيدر: ابن الأثير ج 6 ص 482.(3/328)
المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجالهم وافترقت عساكرنا في طلبهم، ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا وحرقوا عسكرنا وفقدنا الملك وانهزمنا، ورجعنا إلى العسكر فوجدناه قد انتقض وجاء الملك من الغد فقتل نائبة الّذي استخلفه، وكتب إلى بلاده بعقاب المنهزمين ومواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها. ووجّه خصيّا له إلى أنقرة ليحفظها فوجد أهلها قد أجلوا فأمره الملك بالمسير إلى عمّورية، فوعى مالك ابن كرد خبرهم ورجع بالغنيمة والأسرى إلى أشناس وأطلق الأمير الّذي دلّه. وكتب أشناس بذلك إلى المعتصم ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة، وأنّ الوقعة كانت لخمس بقين من شعبان. وقدم الأفشين على المعتصم بأنقرة ورحل بعد ثلاث والأفشين في ميمنته وأشناس في ميسرته وهو في القلب، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمرهم بالتخريب والتحريق ما بين أنقرة وعمّورية. ثم وافى عمّورية وقسّمها على قوّاده، وخرج إليه رجل من المنتصرة فدلّه على عورة من السور بني ظاهره وأخلّ باطنه فضرب المعتصم خيمته قبالته ونصبت عليه المجانيق، فتصدّع السور. وكتب بطريقها باطيس [1] والخصي إلى الملك يعلمانه بشأنهما في السور وغيره، فوقع في يد المسلمين مع رجلين. وفي الكتاب أنّ باطيس عازم على أن يخرج ليلا ويمرّ بعسكر المسلمين ويلحق بالملك فنادى المعتصم حرسه، ثم انثلمت فوهة من السور بين برجين وقد كان الخندق طمّ بأوعية الجلود المملوءة ترابا ثم ضرب بالذبالات [2] عليها فدحرجها الرجال إلى السور فنشبت في تلك الأوعية وخلص من فيها بعد الجهد. ولما جاء من الغد بالسلالم والمنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة وحارب وبدر بالحرب أشناس وجمعت المنجنيقات على تلك الثلمة وحارب في اليوم الثاني الأفشين والمعتصم راكب إزاء الثلمة، وأشناس وأفشين وخواص الخدّام معه.
ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم وتقدّم اتياخ [3] بالمغاربة والأتراك واشتدّ القتال على الروم إلى الليل وفشت فيهم الجراحات، ومشى بطريق تلك الناحية إلى رؤساء الروم، وشكا إليهم واستمدّهم فأبوا. فبعث إلى المعتصم يستأمن فأمّنه وخرج من الغد إلى المعتصم وكان اسمه وبدوا [4] فبينما هو والمعتصم يحادثه أومأ عبد الوهاب
__________
[1] ناطيس: ابن الأثير ج 6 ص 485.
[2] لعلها الدبابات كما في الكامل ج 6 ص 485.
[3] ايتاخ: ابن الأثير ج 6 ص 487.
[4] وندوا: ابن الأثير ج 6 ص 487.(3/329)
ابن علي من بين يديه إلى المسلمين بالدخول فافتتحوا من الثلمة ورآهم وبدوا فخاف فقال له المعتصم: كل شيء تريده هو لك. ودخل المسلمون المدينة وامتنع الروم بكنيستهم وسطها فأحرقها المسلمون عليهم. وامتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى استنزله المعتصم بالأمان، وجاء الناس بالأسرى والسبي من كل جانب، واصطفى الأشراف وقتل من سواهم وبيعت مغانمهم في خمسة أيام وأحرق الباقي.
ووثب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم وسار نحوهم فكفئوا بعمورية فهدمت وأحرقت وحاصرها خمسة وخمسين يوما من سادس رمضان إلى آخر شوّال، وفرّق الأسرى على القوّاد ورجع نحو طرطوس [1] . ولم يزل نوفل مملكا على الروم إلى أن هلك سنة تسع وعشرين ومائتين في ولاية الواثق، ونصبوا ابنه ميخاييل في كفالة أمّه ندورة فأقامت عليهم ست سنين ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من أقماطها عليها وألزمها بيتها سنة ثلاث وثلاثين.
حبس العباس بن المأمون ومهلكه
كان المعتصم يقدّم الأفشين على عجيف بن عنبسة ولما بعثه إلى زبطرة لم يطلق يده في النفقات كما أطلق للأفشين وكان يستقصر شأن عجيف وأفعاله، فطوى عجيف على النكث ولقي العباس بن المأمون فعذله على قعوده عند وفاة المأمون عن الأمر حتى بويع المعتصم وأغراه قبلا في ذلك فقبل العباس منه، ودسّ رجلا من بطانته يقال له السّمرقندي قرابة عبد الله بن الوضّاح وكان له أدب ومداراة فاستأمن له جماعة من القوّاد ومن خواص المعتصم فبايعوه وواعد كل واحد منهم أن يثب بالقائد الّذي معه فيقتله من أصحاب المعتصم والأفشين وأشناس بالرجوع إلى بغداد فأبى من ذلك وقال: لا أفسد العراق. فلما فتحت عمّورية وصعب التدبير بعض الشيء أشار عجيف بأن يضع من ينهب الغنائم فإذا ركب المعتصم وثبوا به ففعلوا مثل ما ذكرنا. وركب فلم يتجاسروا عليه. وكان للفرغاني قرابة غلام أمرد في جملة المعتصم فجلس مع ندمان الفرغاني تلك الليلة وقص عليهم ركوب المعتصم فأشفق الفرغاني وقال يا بني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، وإن سمعت هيعة فلا
__________
[1] طرسوس: ابن الأثير ج 6 ص 487.(3/330)
تخرج فأنت غلام غرّ. ثم ارتحل المعتصم إلى الثغور وتغيّر أشناس على عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل وأساء عليهما فطلبا من المعتصم أن يضمّهما إلى من شاء وشكيا من أشناس فقال له المعتصم أحسن أدبهما فحبسهما وحملهما على بغل، فلما صار بالصفصاف حدّث الغلام ما سمع من قريبه عمر الفرغاني فأمر بغا أن يأخذه من عند أشناس ويسأله عن تأويل مقالته فأنكر وقال إنه كان سكران، فدفعه إلى إتياخ. ثم دفع أحمد بن الخليل إلى أشناس [1] عنده نصيحة للمعتصم وأخبره خبر العبّاس بن المأمون والقوّاد والحرث السّمرقندي فأنفذ أشناس إلى الحرث وقيّده وبعث به إلى المعتصم، وكان في المقدمة فأخبر الحرث المعتصم بجلية الأثر فأطلقه وخلع عليه، ولم يصدقه على القواد لكثرتهم. ثم حضر العبّاس بن المأمون واستحلفه أن لا يكتم عنه شيئا فشرح له القصة فحبسه عند الأفشين وتتبع القوّاد بالحبس والتنكيل وقتل منهم المشاء بن سهيل [2] ثم دفع العبّاس للأفشين، فلما نزل منبج طلب الطعام فأطعم ومنع الماء. ثم أدرج في نبج [3] فمات. ولما وصل المعتصم إلى نصيبين احتفر لعمر الفرغاني بئرا وطمت عليه، ولما دخلوا بلاد الموصل قتل عجيف بمثل ما قتل به العبّاس واستلحم جميع القوّاد في تلك الأيام وسمّوا العبّاس اللعين. ولما وصل إلى سامرا جلس أولاد المأمون في داره حتى ماتوا.
انتقاض مازيار وقتله
كان مازيار بن قارن بن وندا هرمز [4] صاحب طبرستان وكان منافرا لعبد الله بن طاهر فلا يحمل إليه الخراج وقال: لا أحمله إلا للمعتصم فيبعث المعتصم من يقبضه من أصحابه ويدفعه إلى وكيل عبد الله بن طاهر يردّه إلى خراسان. وعظمت الفتنة بين مازيار وعبد الله وعظمت سعاية عبد الله في مازيار عند المعتصم حتى استوحش منه.
ولما ظفر الأفشين ببابك وعظم محله عند المعتصم وطمع في ولاية خراسان ظن أنّ انتقاض مازيار وسيلة لذلك فجعل يستميل مازيار ويحرّضه على عداوة ابن طاهر وإن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 491: «وسار المعتصم، فأنفذ احمد بن الخليل إلى أشناس يقول له: ان عندي نصيحة لأمير المؤمنين.»
[2] الشاه بن سهل: ابن الأثير ج 6 ص 492.
[3] في مسح: ابن الأثير ج 6 ص 492.
[4] مازيار بن قارن بن ونداد هرمز: ابن الأثير ج 6 ص 495.(3/331)
أدّت إلى الخلاف ليبعثه المعتصم لحربه فيكون ذلك وسيلة له إلى استيلائه على خراسان ظنّا بأنّ ابن طاهر لا ينهض لمحاربته. فانتقض مازيار وحمل الناس على بيعته كرها وأخذ رهائنهم وعجّل جباية الخراج فأستكثر منه وخرّب سور آمد وسور سابة [1] وفتل [2] أهلها إلى جبل يعرف بهرمازا بارونى [3] وسرخاشان سور طمس منها إلى البحر على ثلاثة أميال وهي على حد جرجان وكانت تبنيه سدّا بين الترك وطبرستان [4] وجعل عليه خندقا ومن أهل جرجان إلى نيسابور، وأنفذ عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين في جيش كثيف لحفظ جرجان، فعسكر على الخندق، ثم بعث مولاه حيّان بن جبلة إلى قومس فعسكر على جبال شروين، وبعث المعتصم من بغداد محمد بن إبراهيم بن مصعب وبعث منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري، وبعث ابا الساج إلى دنباوند وأحاطت العساكر بحياله من كل ناحية، وداخل أصحاب الحسن بن الحسين أصحاب سرخاشان [5] في تسليم سورهم وليس بينهما إلا عرض الخندق، فكلّموه وسار الآخرون إليه على حين غفلة من القائدين، وركب الحسن بن الحسين وقد ملك أصحابه السور ودخلوا منه فهرب سرخاشان وقبضوا على أخيه شهريار فقتل. ثم قبض على سرخاشان على خمسة فراسخ من معسكره وجيء به إلى الحسن بن الحسين فقتله أيضا. ثم وقعت بين حيّان بن جبلة وبين فارق بن شهريار [6] وهو ابن أخي مازيار ومن قوّاده، مداخلة استمالت حيّان، فأجاب أن يسلّم مدينة سارية إلى حد جرجان على أن يملّكوه جبال آبائه، وبعث حيّان إلى ابن طاهر فسجل لقارن بما سأل، وكان قارن في جملة عبد الله بن قارن أخي مازيار ومن قوّاده فأحضر جميعهم لطعامه وقبض عليهم، وبعث بهم إلى حيّان فدخل جبال قارن في جموعه واعتصم [7] لذلك مازيار، وأشار عليه أخوه القوهيار أن يخلّي سبيل من عنده من أصحاب ينزلون من الجبل إلى مواطنهم لئلا يؤتى من قبلهم، فصرف
__________
[1] وأمر بتخريب سور آمل، وسور سارية، وسور طميس، فخرّبت الأسوار: ابن الأثير ج 6 ص 496.
[2] لعلها ونقل أهلها.
[3] هرمزاباذ: ابن الأثير ج 6 ص 496.
[4] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 496: «وبنى سرخاستان سورا من طميس إلى البحر، مقدار ثلاثة أميال، كانت الاكاسرة بنته لتمنع الترك من الغارة على طبرستان.»
[5] سرخاستان: ابن الأثير ج 6 ص 496.
[6] قارن بن شهريار: ابن الأثير ج 6 ص 498.
[7] مقتضى السياق واغتمّ.(3/332)
صاحب شرطته وخراجه وكاتبه حميدة، فلحقوا بالسهل ووثب أهل سارية بعامله عليهم مهرستان بن شهرين فهرب ودخل حيّان سارية. ثم بعث قوهيار أخو مازيار محمد بن موسى بن حفص عامل طبرستان وكانوا قد حبسوه عند انتقاضهم، فبعثه إلى حيّان ليأخذ له الأمان وولاية جبال آبائه على أن يسلم إليه مازيار، وعذل قوهيار بعض أصحابه في عدو له بالاستئمان عن الحسن إلى حيّان فرجع إليهم وكتبوا إلى الحسن يستدعونه قوهيار من أخيه مازيار [1] فركب من معسكره بطمس وجاء لموعدهم ولقي حيّان على فرسخ فردّه إلى جبال شروين التي افتتحها، ووبخه على غيبته عنها فرجع الى سارية وتوفي، وبعث عبد الله مكانه بن الحسين بن مصعب وعهد إليه أن لا يمنع قارن ما يريده، ولما وصل الحسن إلى خرّم آباذ وسط جبال مازيار لقيه قوهيار هنالك، واستوثق كل منهما من صاحبه، وكاتب محمد بن إبراهيم ابن مصعب من قوّاد المعتصم قوهيار بمثل ذلك، فركب قاصدا إليه، وبلغ الحسن خبره فركب في العسكر وحازم يسابق محمد بن إبراهيم إلى قوهيار فسبقه ولقي قوهيار وقد جاء بأخيه مازيار فقبض عليه وبعثه مع اثنين من قوّاده إلى خرّم آباذ ومنها إلى مدينة سارية. ثم ركب واستقبل محمد بن إبراهيم بن مصعب وقال: أين تريد؟
فقال: إلى المازيار فقال هو بسارية، ثم حبس الحسن أخوي المازيار ورجع إلى مدينة سارية فقيّد المازيار بالقيد الّذي قيّد به محمد بن محمد بن موسى بن حفص، وجاء كتاب عبد الله بن طاهر بأن يدفع المازيار وأخويه وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم يحملهم إلى المعتصم. وسأل الحسن المازيار عن أمواله فذكر أنها عند قوم من وجوه سارية سمّاهم وأمر الحسن القوهيار بحمل هذه الأموال، وسار إلى الجبل ليحملها، فوثب به مماليك المازيار من الديلم وكانوا ألفا ومائتين فقتلوه بثأر أخيه وهربوا إلى الديلم، فاعترضتهم جيوش محمد بن إبراهيم وأخذوهم فبعث بهم إلى مدينة سارية.
وقيل إنّ الّذي غدر بالمازيار ابن عمّ له كان يتوارث جبال طبرستان والمازيار يتوارث سهلها، وكانت جبال طبرستان ثلاثة أجبل فلما انتقض واحتاج إلى الرجال دعا ابن عمه من السهل وولّاه على أصعبها وظنّ أنه قد توثق به فكاتب هو الحسن وأطلعه على مكاتبة الأفشين لمازيار وداخله [2] في الفتك على أن يولّيه ما كان لآبائه، وأنّ المازيار
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 500: «وكتب احمد بن الصقر ومحمد بن موسى بن حفص الى الحسن بن الحسين وهو بطميس: أن أقدم علينا لندفع إليك مازيار والخيل وإلّا فاتك ... »
[2] داخله: شاوره.(3/333)
لما ولّاه الحسن بن سهل طبرستان انتزع الجبل من يده فأفضى له الحسن كتاب ابن طاهر وتوثق له فيه، وأوعده ليوم معلوم ركب فيه الحسن إلى الجبل فأدخله ابن عمّ مازيار وحاصروه حتى نزل على حكمه. ويقال أخذه أسيرا في الصيد. ومضى الحسن به ولم يشعر صاحب الجبل الآخر وأقام في قتاله لمن كان بإزائه فلم يشعر إلّا والعساكر من ورائه فانهزم، ومضى إلى بلاد الديلم فأتبعوه وقتلوه. ولما صار المازيار في يده طلبت منه كتب الأفشين فأحضرها، وأمر ابن طاهر أن يبعث بها معه إلى المعتصم، فلما وصل إلى المعتصم ضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك وذلك سنة أربع وعشرين.
ولاية ابن السيد على الموصل
وفي سنة أربع وعشرين ولّى المعتصم على الموصل عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي وكان سبب ولايته أنّ رجلا من مقدّمي الأكراد يعرف بجعفر بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصل، وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم، وأفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عبد الله بن السيد بن أنس فقاتله وغلبه [1] وأخرجه منها بعد أن كان استولى عليها ولحق بجبل دانس وامتنع بأعاليه، وقاتله عبد الله وتوغّل في مضايق ذلك الجبل، فهزمه الأكراد وأثخنوا في أصحابه بالقتل، وقتل إسحاق بن أنس عم عبد الله فبعث المعتصم مولاه إتياخ في العساكر إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داسن فقاتل جعفرا وقتله وافترق أصحابه، وأوقع بالأكراد واستباحهم وفروا أمامه إلى تكريت.
نكبة الأفشين ومقتله
كان الأفشين من أهل اشروسنة تبوّأها ونشأ ببغداد عند المعتصم وعظم محلّه عنده ولما حاصر بابك كان يبعث إلى أشر وسنة بجميع أمواله، فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم، فيأمره المعتصم بأن يجعل عيونه عليه في ذلك. وعثر مرّة ابن طاهر على تلك الأموال فأخذها وصرفها في العطاء، وقال له حاملوها: هذا مال الأفشين، فقال: كذبتم لو كان ذلك لأعلمني أخي أفشين به، وإنما أنتم لصوص، وكتب إلى
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 506: وكان جعفر بمانعيس قد استولى عليها.(3/334)
الأفشين بذلك بأنه دفع المال إلى الجند ليوجّههم إلى الترك فكتب إليه أفشين مالي ومال أمير المؤمنين واحد، وسأله في إطلاق القوم فأطلقهم واستحكمت الوحشة بينهما وتتابعت السعاية فيه من طاهر، وربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن خراسان فطمع في ولايتها، وكان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو المعتصم ذلك إلى عزله وولاية الأفشين لحرب مازيار. فكان من أمر مازيار ما ذكرناه وسيق إلى بغداد مقيّدا، وولّى المعتصم الأفشين على أذربيجان فولّى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته فاستولى على مال عظيم لبابك. وكتب به صاحب البريد إلى المعتصم فكذّبه منكجور وهمّ بقتله، فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم، وسمع ذلك المعتصم فأمر الأفشين بعزل منكجور وبعث قائدا في عسكره مكانه، فخلع منكجور وخرج من أردبيل فهزمه القائد ولحق ببعض حصون أذربيجان كان بابك خرّبه، فأصلحه وتحصّن فيه شهرا ثم وثب فيه أصحاب وأسلموه إلى القائد، فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتّهم الأفشين في أمره وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين بأنّ القائد كان بغا الكبير وأنه خرج إليه بالأمان انتهى ولما أحس الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على الفرار واللحاق بأرمينية، وكانت في ولايته ويخرج منها إلى بلاد الخزر ويرجع إلى بلاد أشر وسنّة، وصعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم أمره فأراد أن يتّخذ لهم صنيعا يشغلهم فيه نهارهم، ثم يسير من أوّل الليل. وعرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه وكان سيّئ الملكة فأيقن مولاه بالهلكة، وجاء إلى إتياخ فأحضره إلى المعتصم وخبّره الخبر فأمره بإحضاره وحبسه بالجوسق، وكان ابنه الحسن عاملا على بعض ما وراء النهر فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال عليه، وكان يشكو من نوح بن أسد صاحب بخارى. فكتب ابن طاهر إلى الحسن بولاية بخارى وكتب إلى نوح بذلك وأن يستوثق منه إذا وصل إليه ويبعث به، ثم يبعث به إلى ابن طاهر، ثم إلى المعتصم. ثم أمر المعتصم بإحضار الأفشين ومناظرته فيما قيل عنه، فأحضر عند الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيّات وعنده القاضي أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم وجماعة القوّاد والأعيان، وأحضر المازيار من محبسه والمؤيد والمرزبان بن تركش [1] أحد ملوك الصغد، ورجلان من أهل الصغد يدّعيان أنّ الأفشين ضربهما وهما إمام ومؤذن بمسجد. فكشفا عن ظهورهما وهما عاريان من
__________
[1] الموبذ، والمرزبان بن بركش: ابن الأثير ج 6 ص 513.(3/335)
اللحم، فقال ابن الزيات للأفشين: ما بال هذين؟ قال: عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنامهم فكسراها، واتخذ البيت مسجدا فعاقبتهما على ذلك. وقال ابن الزيات: ما بال الكتاب المحلى بالذهب والجوهر عندك وفيه الكفر؟ وقال: كتاب ورثته من آبائي وأوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه وأترك كفرهم، ولم أحتج إلى نزع حلبته، وما ظننت أنّ مثل هذا يخرج عن الإسلام. ثم قال المؤيد أنه يأكل لحم المخنقة ويحملني على أكلها ويقول: هو أرطب من لحم المذبوحة! ولقد قال لي يوما حملت على كل مكروه لي حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، إلى هذه الغاية لم أختتن ولم تسقط عني شعرة العانة. فقال الأفشين: أثقة هذا عندكم في دينه؟ وكان مجوسيّا قالوا: لا! قال: فكيف تقبلونه عليّ؟ ثم قال للمؤيد: أنت ذكرت أني أسررت إليك ذلك، فلست بثقة في دينك ولا بكريم في عهدك ثم قال له المرزبان: كيف يكاتبك أهل أشر وسنّة؟ قال: ما أدري! قال:
أليس يكاتبونك بما تفسّره بالعربي إلى إله الآلهة من عبده فلان؟ قال: بلى! فقال ابن الزيات: فمات أبقيت لفرعون؟ قال هذه عادة منهم لأبي وجدّي ولي قبل الإسلام، ولو منعتهم لفسدت عليّ طاعتهم. ثم قال له: أنت كاتبت هذا وأشار إلى المازيار. كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لن ينصر هذا الدين غيري وغيرك وغير بابك، فأما بابك فقد قتل نفسه بجمعه، ولقد عهدت أن أمنعه فأبى إلّا خنقه، وأنت إن خالفت لم يرمك القوم بغيري ومعي أهل النجدة، وإن توجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا العرب والمغاربة والترك، والعربيّ كلب تناوله لقمة وتضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك لهم صدمة ثم تجول الخيل جولة فتأتي عليهم، ويعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم. فقال الأفشين: هذا يدعى أن أخي كتب إلى أخيه فما يجب عليّ؟ ولو كتب فأنا أستميله مكرا به لأحظى عند الخليفة كما حظي به ابن طاهر، فزجره ابن أبي دؤاد فقال له الأفشين: ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة فقال: أمتطهّر أنت؟ قال: لا! قال: فما يمنعك وهو شعار الإسلام؟ قال: خشيت على نفسي من قطعه! قال: فكيف وأنت تلقى الرماح والسيوف؟ قال تلك ضرورة أصبر عليها وهذا أستجلبه. فقال ابن أبي دؤاد لبغا الكبير: قد بان لكم أمره يا بغا عليك به. فدفعه بيديه وردّه إلى محبسه، وضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منها، وطلب أفشين من المعتصم أن(3/336)
ينفذ إليه من يثق به، فبعث حمدون بن إسماعيل فاعتذر له عن جميع ما قيل فيه وحمل إلى دار إتياخ فقتل بها وصلب على باب العامة، ثم أحرق وذلك في شعبان من سنة ست وعشرين، وقيل قطع عنه الطعام والشراب حتى مات.
ظهور المبرقع
كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني وكان بفلسطين، وأراد بعض الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي، وجاء فشكت إليه بفعل الجندي، فسار إليه وقتله، ثم هرب إلى جبال الأردن فأقام به واختفى ببرقع على وجهه وصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعيب الخليفة ويزعم أنه أموي، واجتمع له قوم من تلك الناحية وقالوا: هو السفياني ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن بهيس [1] وكان مطاعا في قومه وغيره فاجتمع له مائة ألف، وسرّح المعتصم رجاء بن أيوب في ألف من الجند فخام عن لقائه لكثرة من معه، وعسكر قبالته ينتظر أوان الزراعة وانصراف الناس عنه لأعمالهم. وبينما هم في الانصراف توفي المعتصم وثارت الفتنة بدمشق، فأمره الواثق بقتل من أثار الفتنة والعود إلى المبرقع، ففعل وقاتله فأخذه أسيرا وابن بهيس معه، وقتل من أصحابه عشرين ألفا وحمله وذلك سنة سبع وعشرين ومائتين.
وفاة المعتصم وبيعة الواثق
وتوفي المعتصم أبو إسحاق محمد بن المأمون بن الرشيد منتصف ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين لثمان سنين وثمانية أشهر من خلافته، وبويع ابنه هارون الواثق صبيحته وتكنّى أبا جعفر. فثار أهل دمشق بأميرهم وحاصروه وعسكروا بمرج واسط [2] وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع، فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة ومن أصحابه نحو ثلاثمائة، وصلح أمر دمشق، ورجع رجاء إلى قتال المبرقع حتى جاء به أسيرا [3] بيعة
__________
[1] ابن بيهس: ابن الأثير ج 6 ص 522.
[2] مرج راهط: ابن الأثير ج 6 ص 528.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 9: «وفي هذه السنة (528) اعطى الواثق أشناس تاجا ووشاحين» .(3/337)
الواثق توّجه أشناس ووشحه وكان للواثق سمر يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال فأغراه ذلك بمصادرة الكتاب فحبسهم وألزمهم الأموال. فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومن سليمان بن وهب كاتب إتياخ أربعمائة ألف، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفا، ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه مائة ألف، ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفا وكان على اليمن إتياخ وولّاه عليها المعتصم بعد ما عزل جعفر بن دينار، وسخطه وحبسه ثم رضي عنه وأطلقه، فلما ولي الواثق ولّى إتياخ على اليمن من قبله سار بأميان، فسار إليها وكان الحرس إسحاق بن يحيى بن معاذ ولّاه المعتصم بعد عزل الأفشين، وولّى الواثق على المدينة سنة إحدى وعشرين محمد بن صالح بن العبّاس وبقي محمد بن داود على مكة، وتوفي عبد الله بن طاهر سنة ثلاثين وكان على خراسان وكرمان وطبرستان والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولّى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهرا.
وقعة بغا في الاعراب
كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة ويتسلّطون على الناس في أموالهم وأوقعوا بناس من كنانة وباهلة، وبعث محمد بن صالح إليهم مسلحة المدينة ومعهم متطوّعة من قريش والأنصار فهزمهم بنو سليم وقتلوا عامتهم وأحرقوا لباسهم وسلاحهم وكراعهم ونهبوا القرى ما بين مكّة والمدينة وانقطع الطريق، فبعث الواثق بغا الكبير، وقدم المدينة في شعبان فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم خمسين رجلا وأسر مثلها، واستأمنوا له على حكم الواثق، فقبض على ألف منهم ممن يعرف بالفساد فحبسهم بالمدينة وذلك سنة ثلاثين. ثم حجّ وسار إلى ذات عرق وعرض على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلاثمائة رجل وحبسهم بالمدينة وأطلق الباقين. ثم خرج بغا إلى بني مرّة فنقب أولئك الأسرى الحبس وقتلوا الموكّلين، فاجتمع عليهم أهل المدينة ليلا ومنعوهم من الخروج فقاتلوهم إلى الصبح ثم قتلوهم، وشق ذلك على بغا وكان سبب غيبته أنّ فزارة وبني مرّة تغلبوا على فدك، فخرج إليهم وقدّم رجلا من قوّاده يعرض عليهم الأمان، فهربوا من سطوته إلى الشام واتّبعهم إلى تخوم الحجاز من الشام، وأقام أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم. وجاءه قوم من بطون غفار وفزارة وأشجع وثعلبة فاستحلفهم على الطاعة ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في(3/338)
ثلاثة آلاف رجل فحبس أهل الفساد منهم ألفا بالمدينة وأطلق الباقين، وأمره الواثق سنة اثنين وثلاثين بالمسير إلى بني نمير باليمامة وما قرب منها لقطع فسادهم، فسار إليهم ولقي جماعة الشريف منهم فحاربهم وقتل منهم خمسين وأسر أربعين. ثم سار إلى مرّة وبعث إليهم في الطاعة فامتنعوا وساروا إلى جبال السند وطف اليمامة [1] وبعث سراياهم فأوقع بهم في كل ناحية ثم سار إليهم في ألف رجل فلقيهم قريبا من أضاخ فكشفوا مقدمته وميسرته وأثخنوا في عسكره بالقتل والنهب. ثم ساروا تحت الليل وهو في اتباعهم يدعوهم إلى الطاعة وبعث طائفة من جنده يدعون بعضهم وأصبح وهو في قلة، فحملوا عليه وهزموه إلى معسكره، وإذا بالطائفة الذين بعثهم قد جاءوا من وجهتهم فلما رآهم بنو نمير من خلفهم ولوا منهزمين وأسلموا رجالهم وأموالهم ونجوا على خيلهم ولم يفلت من رجالتهم أحد، وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة، وأقام بمكان الوقعة واستأمن له أمراؤهم فقيّدهم وحبسهم بالبصرة. وقدم عليه واجن الأشروسنيّ في سبعمائة مقاتل مددا فبعثه إلى اتباعهم إلى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن ورجع، وسار بغا إلى بغداد بمن معه منهم وكانوا نحو ألفي رجل ومائتي رجل، وكتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم فجاء بهم وسلّموا جميعا.
مقتل أحمد بن نصر
وهو أحمد بن مالك وهو أحد النقباء كما تقدّم وكان أحمد هذا نسيبة لأهل الحديث ويغشاه جماعة منهم مثل ابن حصين وابن الدورقي وأبي زهير، ولقّن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القرآن. ثم تعدّى ذلك إلى الشتم وكان ينعته بالخنزير والكافر، وفشا ذلك عنه وانتدب رجلان ممن كان يغشاه هما أبو هارون السرّاج وطالب وغيرهما فدعوا الناس له وبايعه خلق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرّقوا الأموال في الناس دينارا لكل رجل، وأنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من سنة إحدى وثلاثين يظهرون فيها دعوتهم. واتفق أنّ رجالا ممن بايعهم من بني الأشرس جاءوا قبل الموعد بليلة وقد نال منهم السكر فضربوا الطبل وصاحب الشرطة إسحاق بن إبراهيم غائب، فارتاع خليفته محمد أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد [2]
__________
[1] وسار بعضهم إلى جبال السّود، وهي خلف اليمامة: ابن الأثير ج 7 ص 27.
[2] الصحيح: فلم يجد.(3/339)
أحد، وأتوه برجل أعور اسمه عيسى وجدوه في الحمّام فدلّهم على بني الأشرس وعلى أحمد بن نصر وعلى أبي هارون وطالب، ثم سيق خادم أحمد بن نصر فذكر القصة، فقبض عليه وبعث بهم جميعا إلى الواثق بسامراء مقيّدين، وجلس لهم مجلسا عامّا وحضر فيه أحمد بن أبي دؤاد، ولم يسأله الواثق عن خروجه وإنما سأله عن خلق القرآن فقال: هو كلام الله. ثم سأله عن الرؤية فقال: جاءت بها الأخبار الصحيحة ونصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره، فقال عبد الرحمن بن إسحاق قاضي الجانب الغربيّ:
هو حلال الدّم! وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب. فدعا الواثق بالصمصامة فانتضاها ومشى إليه فضربه على حبل عاتقه ثم على رأسه، ثم وخزه في بطنه، ثم أجهز سيما الدمشقيّ عليه وحزّوا رأسه ونصب ببغداد وصلب شلوه عند بابها.
الفداء والصائفة
وفي سنة إحدى وثلاثين عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وجانمان الخادم، وأمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القرآن والرؤية. وجاء الروم بأسراهم والمسلمون كذلك والتقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس [1] وكان عدّة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين والنساء والصبيان ثمانمائة وأهل الذمّة مائة. فلما فرغوا من الفداء غزا أحمد بن سعيد بن مسلم شاتيا وأصاب الناس ثلج ومطر وهلك منهم مائة نفس، وأسر منهم نحوها وخرق بالنبل قرون خلق، ولقيه بطريق من الروم فخام عن لقائه ثم غنم ورجع، فعزله الواثق وولّى مكانه نصر بن حمزة الخزاعي.
وفاة الواثق وبيعة المتوكل
وتوفي الواثق أبو جعفر هارون بن المعتصم محمد لست بقين من سنة اثنتين وثلاثين، وكانت علّته الاستسقاء وأدخل في تنور مسجر [2] فلقي خفة، ثم عاوده في اليوم الثاني أكثر من الأوّل فأخرج في محفّة فمات فيها، ولم يشعروا به. وقيل إن ابن أبي دؤاد غمّضه ومات لخمس سنين وتسعة أشهر من خلافته، وحضر في الدار أحمد بن أبي
__________
[1] هي طرسوس.
[2] مسخّن: ابن الأثير ج 7 ص 29.(3/340)
دؤاد وإتياخ [1] ووصيف وعمر بن فرح وابن الزيّات، وأراد البيعة لمحمد بن واثق وهو غلام إمّر [2] فألبسوه، فإذا هو قصير فقال وصيف: أما تتقون الله تولّون الخلافة مثل هذا! ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة وعمّمه وسلّم عليه بامارة المؤمنين ولقبه المتوكل، وصلّى على الواثق ودفنه. ثم وضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وولّى على بلاد فارس إبراهيم بن محمد بن مصعب، وكان على الموصل غانم بن محمد الطويس فأقرّه وعزل ابن العبّاس محمد بن صول عن ديوان النفقات وعقد لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف.
نكبة الوزير ابن الزيات ومهلكه
كان محمد بن عبد الملك بن الزيّات قد استوزره الواثق فاستمكن من دولته وغلب على هؤلاء، وكان لا يحفل بالمتوكل ولا يوجب حقّه، وغضب الواثق عليه مرّة فجاء إلى ابن الزيّات ليستنزله فأساء معاملته في التحية والملاقاة فقال: اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك. وقام عنه حزينا فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد [3] فلم يدع شيئا من البرّ إلا فعله وحيّاه وفدّاه، وخطب حاجته فقال: أحب أن ترضي عني أمير المؤمنين فقال: أفعل ونعمة عين! ولم يزل بالواثق حتى رضي عنه. وكان ابن الزيّات كتب إلى الواثق عند ما خرج عنه المتوكل أنّ جعفرا أتاني فسأل الرضا عنه وله وفرة شبه زي المخنّثين، فأمره الواثق أن يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه وأمر حجّاما أخذ من شعره وضرب به وجهه فحقد له ذلك وأساء له. ولما ولي الخلافة بقي شهرا ثم أمر إتياخ أن يقبض عليه ويقيّده بداره ويصادره، وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين، فصادره واستصفى أمواله وأملاكه وسلّط عليه أنواع العذاب، ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة وتزعج من فيه لضيقه، ثم مات منتصف ربيع الأوّل، وقيل إنه مات من الضرب وكان لا يزيد على التشهّد وذكر الله. وكان عمر بن الفرح الرحجي [4] يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له، ولما استخلف قبض عليه في رمضان واستصفى أمواله ثم صودر على أحد عشر ألف ألف.
__________
[1] اسمه الحقيقي إيتاخ وقد مرّ معنا في فصل سابق من هذا الكتاب.
[2] أمرد: ابن الأثير ج 7 ص 33.
[3] هو أحمد بن أبي دؤاد.
[4] عمر بن الفرج الرخّجي: ابن الأثير ج 7 ص 39.(3/341)
نكبة اتياخ ومقتله
كان اتياخ مولى السلام الأبرص [1] وكان عنده ناخوريا طبّاخا، وكان شجاعا فاشتراه المعتصم منه سنة تسع وتسعين وارتفع في دولته ودولة الواثق ابنه وكان له المؤنة بسامراء مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب. وكانت نكبة العظماء في الدولة على يديه وحبسهم بداره، مثل أولاد المأمون وابن الزيّات وصالح وعجيف وعمر بن الفرج وابن الجنيد وأمثالهم، وكان له البريد والحجابة والجيش والمغاربة والأتراك. وشرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إتياخ وهمّ إتياخ بقتله، ثم غدا عليه فاعتذر له ودسّ عليه من زيّن له الحجّ فاستأذن المتوكل فأذن له وخلع عليه وجعله أمير كل بلد يمرّ به. وسار لذلك في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وسار العسكر بين يديه وجعلت الحجابة إلى وصيف الخادم ولما عاد إتياخ من الحج بعث إليه المتوكل بالهدايا والالطاف، وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بحبسه.
فلما قارب بغداد كتب إليه إسحاق بأنّ المتوكل أمر أن يدخل بغداد وأن تلقاه بنو هاشم ووجوه الناس وأن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك، ووقف إسحاق على باب الدار فمنع أصحابه من الدخول إليه ووكّل بالأبواب ثم قبض على ولديه منصور ومظفّر وكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد، وبعث إتياخ إليه يسأله الرّفق بالولدين ففعل، ولم يزل إتياخ مقيدا بالسجن إلى أن مات فقيل إنهم منعوه الماء وبقي ابناه محبوسين إلى أن أطلقهما المنتصر بعد المتوكل.
شأن ابن البغيث [2]
كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعا في حصونه بأذربيجان وأعظمها مرند، واستنزل من حصنه أيام المتوكّل وحبس بسامراء فهرب من حبسه ولحق بمرند، وقيل إنه في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وشفع فيه بغا الشرابيّ، فأطلقه إسحاق في كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ، وكان يتردّد إلى سامرّا حتى
__________
[1] الأبرش: ابن الأثير ج 7 ص 43.
[2] ابن البعيث: ابن الأثير ج 7 ص 47.(3/342)
مرض المتوكّل ففرّ ولحق بمرند وشحنها بالأقوات، وجاءه أهل الفتنة من ربيعة وغيرهم فاجتمع له نحو ألفين ومائتي رجل، والوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم ابن هرثمة فلم يقامعه فعزله المتوكل وولى حمدويه بن علي بن الفضل السعديّ، فسار إليه وحاصره بمرند مدّة وبعث إليه المتوكل بالمدد، وطال الحصار فلم يقن [1] فيه، فبعث بغا الشرابي في ألفى فارس فجاء لحصاره. وبعث إليه عيسى ابن الشيخ بن السلسل بالأمان له ولوجوه أصحابه أن ينزلوا على حكم المتوكل، فنزل الكثير منهم وانفض جمعه ولحق ببغا وخرج هو هاربا، ونهبت منازله وأسرت نساؤه وبناته. ثم أدرك بطريقة وأتي به أسيرا وبأخويه صقر وخالد وأبنائه حليس وصقر والبغيث، وجاء بهم بغا إلى بغداد وحملهم على الحجال [2] يوم قدومه حتى رآهم الناس وحبسوا. ومات البغيث لشهر من وصوله سنة خمس وثلاثين وجعل بنوه في الشاكرية مع عبد الله بن يحيى خاقان.
بيعة العهد
وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين عقد المتوكّل البيعة والعهد وكانوا ثلاثة محمدا وطلحة وإبراهيم، ويقال في طلحة ابن الزبير وجعل محمدا أوّلهم ولقبه المستنصر وأقطعه إفريقية والمغرب وقنّسرين والثغور الشاميّة والخزريّة، وديار مضر وديار ربيعة، وهيت والموصل وغانة والخابور، وكور دجلة والسواد والخرمين [3] وحضرموت والحرمين [4] والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلّات بسامراء وماء الكوفة وماء البصرة. وجعل طلحة ثانيهم ولقبه المعتزّ وأقطعه أعمال خراسان وطبرستان والريّ وأرمينية وأذربيجان وأعمال فارس، ثم أضاف إليه سنة أربعين [5] خزن الأموال ودور الضرب في جميع الآفاق وأمر أن يرسم اسمه في السكة. وجعل الثالث إبراهيم [6] وأقطعه حمص ودمشق وفلسطين وسائر الأعمال الشامية وفي هذه السنة أمر الجند بتغيير
__________
[1] أوقف الرجل إذا اصطاد الطير من وقته وهي محضنة.
[2] مقتضى السياق: الجمال.
[3] الجزرية- عانة- الحرمين: ابن الأثير ج 7 ص 49.
[4] البحرين: المرجع السابق.
[5] اي سنة أربعين ومائتين.
[6] ولقبه المؤيد.(3/343)
الزي فلبسوا الطيالسة العسلية وشدّوا الزنانير في أوساطهم [1] وجعلوا الطراز في لباس المماليك ومنع من لباس المناطق وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمّة ونهى أن يستغاث بهم في الأعمال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب.
ملك محمد بن إبراهيم
كان محمد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس، وهو ابن أخي طاهر وكان أخوه إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وكان ابنه محمد بباب الخليفة بسامراء نائبا عنه. فلما مات إسحاق سنة خمس وثلاثين ولّاه المتوكل وضمّ إليه أعمال أبيه، واستخلفه المعتز على اليمامة والبحرين ومكة وحمل إلى المتوكّل وبنيه من الجواهر والذخائر كثيرا، وبلغ ذلك محمد بن إبراهيم فتنكّر للخليفة ولمحمد بن أخيه، وشكا ذلك محمد إلى المتوكّل فسرّحه إلى فارس وولّاه مكان عمه محمد، فسار وعزل عمّه محمدا وولّى مكانه ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن مصعب، وأمره بقتل عمه محمد فأطعمه ومنعه الشراب فمات.
انتقاض أهل أرمينية
كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقراط بن أسواط [2] وهو بطريق البطارقة يستأمن فقبض عليه وعلى ابنه وبعث بهما إلى المتوكل، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه وصهره موسى بن زرارة وتحالفوا على قتله وحاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع وثلاثين، وخرج لقتالهم فقتلوه ومن كان معه. فسرّح المتوكل بغا الكبير فسار على الموصل والجزيرة وأناخ على أردن [3] حتى أخذها وحمل موسى وإخوته إلى المتوكّل وقتل منهم ثلاثين ألفا وسبى خلقا وسار إلى مدينة دبيل فأقام بها شهرا ثم سار إلى تفليس فحاصرها، وبعث في مقدمته ربزك التركي [4] وكان بتفليس
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 52: «وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السروج» .
[2] بقراط بن أشوط: ابن الأثير ج 7 ص 58.
[3] أرزن: ابن الأثير ج 7 ص 59.
[4] زيرك التركي: ابن الأثير ج 7 ص 67.(3/344)
إسحاق بن إسماعيل بن إسحاق مولى بني أمية فخرج وقاتلهم، وكانت المدينة كلّها مشيدة من خشب الصنوبر، فأمر بغا أن يرمى عليها بالنفط فاضطرمت النار في الخشب، واحترقت قصور إسحاق وجواريه وخمسون ألف إنسان وأسر الباقون، وأحاطت الأتراك والمغاربة بإسحاق فأسروه وقتله بغا لوقته، ونجا أهل إسحاق بأمواله إلى صعدنيل [1] مدينة حذاء تفليس على نهر الكرّمن [2] من شرقيه بناها أنوشروان وحصنها إسحاق وجعل أمواله فيها فاستباحها بغا، ثم بعث الجند إلى قلعة أخرى بين بردعة وتفليس ففتحوها وأسروا بطريقها. ثم سار إلى عيسى بن يوسف في قلعة كيس [3] من كور البيلقان ففتحها وأسره وحمل معه جماعة من البطارقة، وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
عزل ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم
وفي سنة سبع وثلاثين غضب المتوكّل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه وحبس أولاده، فحمل أبو الوليد منهم مائة وعشرين ألف دينار وجواهر تساوي عشرين ألفا، ثم صولح عن ستة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم ببيع أملاكهم وفلح أحمد، فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم وولّاه قضاء القضاء، وولّى أبا الوليد بن أبي دؤاد المظالم ثم عزله. وولّى أبا الربيع محمد بن يعقوب ثم عزله، وولّى يحيى بن أكثم على المظالم ثم عزله سنة أربعين، وصادره على خمسة وسبعين ألف دينار وأربعة آلاف حربو [4] ، وولّى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن عليّ. وتوفي في هذه السنة أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوما وكان معتزليّا أخذ مذهبهم عن بشر المريسيّ وأخذه بشر عن جهم بن صفوان وأخذه جهم عن الجعد بن دهم معلّم مروان.
__________
[1] صغدبيل: ابن الأثير ج 7 ص 68.
[2] نهر الكرّ: المرجع السابق.
[3] قلعة كبيش: المرجع السابق.
[4] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 74: «وفي هذه السنة (240) عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب بالبصرة.» وفي الطبري ج 11 ص 50: «وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر وقبض منه ما كان له ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار وفي أسطوانة في داره ألف دينار واربعة آلاف جريب بالبصرة.» والجريب من الأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة (لسان العرب) .(3/345)
انتقاض أهل حمص [1]
وفي سنة سبع وثلاثين وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعيّ بسبب أنه قتل بعض رؤسائهم فأخرجوه وقتلوا من أصحابه، فولّى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهم وعسف فيهم فوثبوا به، وأمره المتوكّل بجند من دمشق والرملة فظفر بهم وقتل منهم جماعة، وأخرج النصارى منها وهدم كنائسهم وأدخل منها بيعة في الجامع كانت تجاوره.
اغارة البجاة على مصر
كانت الهدنة بين أهل مصر والبجاة من لدن الفتح، وكان في بلادهم معادن الذهب يؤدّون منها الخمس إلى أهل مصر، فامتنعوا أيام المتوكّل وقتلوا من وجدوه من المسلمين بالمعادن، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المتوكّل فشاور الناس في غزوهم فأخبروه أنهم أهل إبل وشاء وأن بين بلادهم وبلاد المسلمين مسيرة شهر ولا بدّ فيها من الزاد، إن فنيت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهم. وخاف أهل الصغد [2] من شرّهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله القمّيّ على أسوان وقفط والأقصر وأستا وأرمنت، وأمره بحرب البجاة. وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبّيّ عامل مصر بتجهيز العساكر معه وأزاحه عليهم فسار في عشرين ألفا من الجند والمتطوّعة، وحملت المراكب من القلزم بالدقيق والتمر والأدم إلى سواحل بلاد البجاة وانتهى إلى حصونهم وقلاعهم. وزحف إليه ملكهم واسمه علي بابا في أضعاف عساكرهم على المهاري [3] ، وطاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب وفرّقها القمّيّ في أصحابه، فناجزهم البجاة الحرب وكانت إبلهم نفورة، فأمر القمّيّ جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم. ثم حملوا عليهم فانهزموا وأثخن فيهم قتلا وأسرا حتى استأمنوا على أداء الخراج لما سلف ولما يأتي وأن يرد إلى مملكته، وسار مع القمّيّ إلى المتوكل واستخلف ابنه، فخلع القمّيّ عليه وعلى أصحابه، وكسا أرجلهم الجلال
__________
[1] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة 240 وسنة 241.
[2] مقتضى السياق: أهل الصعيد كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 78.
[3] المهاري: إبل فره.(3/346)
المديحة وولّاهم طريق ما بين مصر ومكة، وولّى عليهم سعدا الإتياخي [1] الخادم فولى سعد محمد القمّيّ فرجع معهم واستقامت ناحيتهم.
الصوائف
وفي سنة ثمان وثلاثين ورد على دمياط اسطول الروم في مائة مركب [2] فكبسوها وكانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب المعونة عنبسة بن إسحاق الضبيّ فانتهزوا الفرصة في مغيبهم وانتهبوا دمياط وأحرقوا الجامع بها وأوقروا سفنهم سبيا ومتاعا، وذهبوا إلى تنّيس ففعلوا فيها مثل ذلك وأقطعوا. وغزا بالصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرميني [3] صاحب الصوائف. وفي سنة إحدى وأربعين كان الفداء بين الروم وبين المسلمين وكانت تدورة ملكة الروم قد حملت أسرى المسلمين على التنصّر فتنصّر الكثير منهم. ثم طلبت المفاداة فيمن بقي فبعث المتوكل سيفا [4] الخادم بالفداء ومعه قاضي بغداد جعفر بن عبد الواحد واستخلف على القضاء ابن أبي الشوارب وكان الفداء على نهر اللامس ثم أغارت الروم بعد ذلك على روبة [5] فأسروا من كان هنالك من الزط وسبوا نساءهم وأولادهم ولما رجع علي بن يحيى الأرميني من الصائفة خرجت الروم في ناحية سميساط فانتهوا إلى آمد واكتسحوا نواحي الثغور والخزرية [6] نهبا وأسروا نحوا من عشرة آلاف ورجعوا واتبعهم قرشاس [7] وعمر بن عبد الأقطع وقم من المتطوّعة فلم يدركوهم وأمر المتوكّل علي بن يحيى أن يدخل بالثانية في تلك السنة ففعل. وفي سنة أربع وأربعين جاء المتوكل من بغداد إلى دمشق وقد اجتمع نزولها ونقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين، ثم استوبأها ورجع بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الروم فدوّخها واكتسحها من سائر النواحي ورجع. وفي سنة خمس وأربعين أغارت الروم على
__________
[1] الإيتاخي: ابن الأثير ج 7 ص 79.
[2] ثلاثمائة مركب: ابن الأثير ج 7 ص 68.
[3] علي بن يحيى الأرمني: ابن الأثير ج 7 ص 70.
[4] شنيفا الخادم: ابن الأثير ج 7 ص 77.
[5] عين زربة: ابن الأثير ج 7 ص 80.
[6] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 81: «خرجت الروم من ناحية سميساط بعد خروج عليّ بن يحيى الارمني من الصائفة، حتى قاربوا آمد، وخرجوا من الثغور والجزرية ... » وكذلك في الطبري ج 11 ص 55.
[7] قريباس: ابن الأثير ج 7 ص 81، قريباس: الطري ج 11 ص 55.(3/347)
سميساط فغنموا وغزا علي بن يحيى الأرمني بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهم فقبضوا عليه وسلّموه إلى بعض موالي المتوكّل، فأطلق ملك الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلمين وفي سنة ست وأربعين غزا عمر بن عبيد الله الأقطع بالصائفة فجاءوا بأربعة آلاف رأس [1] ، وغزا قرشاس فجاء بخمسة آلاف رأس، وغزا الفضل بن قاران في الاسطول بعشرين مركبا فافتتح حصن أنطاكية وغزا ملكها دورهم وسبى، وغزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس ومن الظهر بعشرة آلاف وكان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين وثلاثمائة من الأسرى.
الولاية في النواحي
ولّى المتوكل سنة اثنتين على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان على الموصل غانم بن حميد الطوسي، واستوزر لأوّل خلافته محمد بن عبد الله بن الزيّات. وولّى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد وعزل الفضل بن مروان. وولّى على ديوان النفقات إبراهيم بن محمد بن حتول. وولّى سنة ثلاث وثلاثين على الحرمين واليمن والطائف ابنه المستنصر، وعزل محمد بن عيسى.
وولّى على حجابة بابه وصيفا الخادم عند ما سار إتياخ للحج. وفي سنة خمس وثلاثين عهد لأولاده كما مرّ، وولّى على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين ابن مصعب مكان ابنه إبراهيم عند ما توفي، وكانت وفاته ووفاة الحسن بن سهل في سنة واحدة. وفي سنة ست وثلاثين استكتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم استوزره بعد ذلك، وولّى على أرمينية وأذربيجان حربا وخراجا يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف المروذوذي [2] عند ما توفي أبوه فجاءه فسار اليها وضبطها، وأساء إلى البطارقة بالناحية فوثبوا به كما مرّ وقتلوه. وبعث المتوكّل بغا الكبير في العساكر فأخذ ثأره منهم، وولّى معادن السواد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم. وفي سنة تسع وثلاثين عزل ابن أبي دؤاد عن القضاء وصادره، وولّى مكانه يحيى بن أكثم. وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان فولّاه الشرطة والجزية وأعمال السواد، وكان على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحجّ بالناس، ثم ولّى مكانه في السنة القابلة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى. وولّى على الأحداث بطريق مكة
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير سبعة عشر ألف رأس (ج 7 ص 93) .
[2] المروزيّ: ابن الأثير ج 7 ص 56.(3/348)
والمواسم جعفر بن دينار، وكان على حمص أبو المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي وثبوا به سنة تسع وثلاثين، فولّى مكانه محمد بن عبدويه. وفي سنة تسع وثلاثين عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وولّى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان وفي سنة اثنتين وأربعين ولّى على مكة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام، وولّى على ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجرّاح عند ما توفي إبراهيم بن العبّاس الصوليّ وكان خليفته فيها من قبل. وفي سنة خمس وأربعين اختط المتوكل مدينته وأنزلها القوّاد والأولياء وأنفق عليها ألف ألف دينار، وبنى فيها قصر اللؤلؤة لم ير مثله في علوّه وأجرى له الماء في نهر احتفره وسمّاها المتوكليّة وتسمى الجعفري والماخورة وفيها ولّى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار لوفاته تلك السنة. وولّى على ديوان الضياع والتوقيع نجاح بن سلمة وكانت له صولة على العمّال، فكان ينام المتوكل فسعى عنده في الحسن بن مخلد وكان معه على ديوان الضياع ولّى موسى بن عقبة عبد الملك وكان على ديوان الخراج، وضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفا. وأذن المتوكل وكانا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان، فتلطّف عند نجاح وخادعه حتى كتب على الرقعتين، وأشار إليه بأخذ ما فيهما معا وبدأ بنجاح فكتبه وقبض منه مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلّات والفرش والضياع، ثم ضرب فمات وصودر أولاده في جميع البلاد على أموال جمة.
مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه
كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لما كان يتوهّم فيه من استعجاله الأمر لنفسه، وكان يسمّيه المنتصر والمستعجل لذلك. وكان المنتصر تنكّر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيّع لعليّ، وربما كان الندمان في مجلس المتوكّل يفيضون في ثلب عليّ فينكر المنتصر ذلك ويتهدّدهم ويقول للمتوكل: إنّ عليّا هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بدّ ثالبه فتولّ ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفّاعين سبيلا إلى ذلك فيستخف به ويشتمه، ويأمر وزيره عبيد الله بصفعه ويتهدّده بالقتل ويصرّح بخلعه. وربما استخلف ابنه الحبر [1] في الصلاة والخطبة مرارا وتركه فطوى من ذلك على النكث. وكان المتوكل قد
__________
[1] المعتزّ: ابن الأثير ج 7 ص 95.(3/349)
استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير ودواجن، فأفسدوا عليه الموالي.
وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط لتعهّد الصوائف، فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار وكان ابن خالة المتوكل، واستخلف على الستر بغا الشرابي الصغير. ثم تغيّر المتوكل لوصيف وقبض ضياعه بأصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فتغيّر وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكّل، وأعدّ لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالح وأحمد وعبد الله ونصر، وجاءوا في الليلة اتعدوا فيها. وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته، وأخذ زرافة الخادم معه، وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح وأربعة من الخاصّة، وأغلق الأبواب إلا باب دجلة فأدخل منه الرجال وأحس المتوكل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم، واستماتوا وابتدروا إليه فقتلوه.
والقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه. وبعث إلى المنتصر وهو ببيت زرافة فأخبره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر، وبايع له زرافة وركب إلى الدار فبايعه من حضر وبعث إلى وصيف إنّ الفتح قتل أبي فقتلته، فحضر وبايع. وبعث عن أخويه المعتز والمؤيد فحضرا وبايعا له. وانتهى الخبر إلى عبيد الله بن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتزّ فلم يجده واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل، وأغروه بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك، وأصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكّل والفتح، وذلك لأربع خلون من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين. وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم [1] وركب بعضهم بعضا، وقصدوا باب السلطان فخرج إليهم بعض الأولياء فأسمعوه، ورجع فخرج المنتصر بنفسه وبين يديه المغاربة فشرّدوهم عن الأبواب فتفرّقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 105: «ولما أصبح الناس شاع الخبر في الماخورة، وهي المدينة التي كان بناها المتوكّل، وفي أهل سامرّاء بقتل المتوكل فتوافى الجند والشاكرية بباب العامّة وبالجعفرية، وغيرهم من الغوغاء والعامّة، وكثر الناس وتسامعوا وركب بعضهم بعضا ... »(3/350)
الخبر عن الخلفاء من بني العبّاس أيام الفتنة وتغلب الأولياء وتضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي من لدن المنتصر إلى أيام المستكفي
كان بنو العبّاس حين ولوا الخلافة قد امتدّت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام، كما كان بنو أمية من قبلهم. ثم لحق بالأندلس من فل بني أمية من ولدها هاشم بن عبد الملك حافده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا من تلك الهلكة فأجاز البحر ودخل الأندلس فملكها من يد عبد الرحمن بن يوسف الفهري، وخطب للسفّاح فيها حولا ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعزلوه في ذلك فقطع الدعوة عنهم وبقيت بلاد الأندلس مقتطعة من الدولة الإسلامية عن بني العبّاس. ثم لما كانت وقعة فتح أيام الهادي عليّ بن الحسن بن عليّ سنة تسع وتسعين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ حسين ابن عليّ بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عبد الله بن حسن إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابرة هنالك، فاقتطع المغرب عن بني العبّاس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم. ثم ضعفت الدولة العبّاسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكّل وحدثت الفتن ببغداد، وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عبد الله الشيعي سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في طامة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وبايع له، وانتزع إفريقية من يد بني الأغلب استولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العبّاس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهم. ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط ويعرف بالداعي، خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين ولحق بالديلم فأسلموا على يديه وملك طبرستان ونواحيها، وصار هنالك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى وثلاثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني على عمر داعي الطالقان أيام المعتصم وقد مرّ(3/351)
خبره واسم هذه الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين، واستولى عليها الديلم وصارت لهم دولة أخرى. وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن المثنّى فأظهر هنالك دعوة الزيديّة، وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن، وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل حتى الآن. وأوّل من ظهر منهم يحيى بن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين، ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادّعى أنه أحمد [1] بن عيسى بن زيد الشهيد وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي، وطعن الناس في نسبه فادّعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان، وقيل إنه انتسب إلى طاهر بن الحسين بن عليّ والّذي ثبت عند المحقّقين أنه علي بن عبد الرحيم بن عبد القيس، فكانت له ولبنيه دولة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين ومائتين. ثم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة، وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت لهم هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني عقيل. وفي خلال ذلك استبدّ بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين ومائتين وأقاموا على الدعوة إلّا أنهم لا ينفذون أوامر الخلفاء، وأقامت دولتهم إلى آخر المائة الرابعة. ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة، وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أخرى بمصر والشام بالاستبداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى آخر المائة الثالثة ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين والثلاثمائة. وفي خلال هذا كلّه تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم. ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد وملكوها وصيّروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلاثمائة، وكانت من أعظم الدول. ثم أخذها من أيديهم السلجوقية من الغزّ إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم سنة أربعين وأربعمائة إلى آخر المائة
__________
[1] قوله أحمد في المروج انه عليّ بن احمد أهـ قاله وصحّحه.(3/352)
السادسة، وكانت دولتهم من أعظم الدول في العالم. وتشعبت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه ثم استبدّ الخلفاء من بني العبّاس آخرا في هذا النطاق الضيق ما بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس، إلى أن خرج التتار من مفازة الصين وزحفوا إلى الدولة السلجوقية وهم على دين المجوسية، وزحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم، وانقرض أمر الخلافة وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة، وتشعبت عنها دول لهم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين كما نذكر ذلك كله في أماكنه.
دولة المنتصر
ولما بويع المنتصر كما ذكرناه ولّى على المظالم أبا عمر وأحمد بن سعيد، وعلى دمشق عيسى بن محمد النوشريّ وكان على وزارته أحمد بن الخصيب، واستقامت أموره وتفاوض وصيف وبغا وأحمد بن الخصيب في شأن المعتزّ والمؤيد لما توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل، فحملوا المنتصر على خلعهما الأربعين يوما من خلافته وبعث إليهما بذلك فأجاب المؤيد وامتنع المعتز فأغلظوا عليه وأوهموه القتل فخلا به المؤيد وتلطّف به حتى أجاب وخلع نفسه وكتبا ذلك بخطهما. ثم دخلا على المنتصر فأجلسهما واعتذر لهما بسمع من الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهما فأجبتهم إلى ذلك خشية عليكما منهم، فقبّلا يده وشكرا له وشهد عليهما القضاة وبنو هاشم والقوّاد ووجوه الناس، وكتب بذلك المنتصر إلى الآفاق وإلى محمد بن طاهر ببغداد. ثم إنّ أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة وإبعاده عن الدولة لما بينهما من الشحناء، فأحضره المنتصر وقال له: قد أتانا من طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بدّ من مسيرك أو مسيري، فقال بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين! فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهّزه ويزيح علل العسكر معه، وأمره أن يوافي ثغر ملطية فسار وعلى مقدمته مزاحم بن خاقان أخو الفتح، وعلى نفقات العساكر والمغانم والمقاسم أبو الوليد القروالي أن يأتيه رأيه.
وفاة المنتصر وبيعة المستعين
ثم أصابت المنتصر علة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأوّل من سنة ثمان(3/353)
وأربعين ومائتين لستة أشهر من ولايته، وقيل بل أكثر من ذلك فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش وغيرهم فاستحلفوا قوّاد الأتراك والمغاربة والأشروسيّة على الرضا بمن يرضونه لهم، ثم خلصوا للمشورة ومعهم أحمد بن الخصيب فعدلوا عن ولد المتوكّل خوفا منهم ونظروا في ولد المعتصم فبايعوه واستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش وغدا على دار العامة في زيّ الخلافة، وإبراهيم بن إسحاق يحمل بين يديه الحربة، وصفّت الممالك والأشروسية صفين بترتيب دواجن [1] ، وحضر أصحاب المراتب من العبّاسيين والطالبيين، وثار جماعة من الجند وقصدوا الدار يذكرون أنهم من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، والغوغاء [2] فشهروا السلاح وهتفوا باسم المعتز وشدّوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا، ثم جاءت المبيّضة والشاكرية، وحمل عليهم المغاربة والأشروسية [3] فنشبت الحرب وانتهبت الدروع والسلاح من الخزائن بدار العامة، وجاء بغا الصغير فدفعهم عنها وقتل منهم عدّة وفتقت السجون وتمت بيعة الأتراك للمستعين، ووضع العطاء على البيعة وبعث إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو والناس ببغداد. ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان وهلك عمه الحسين بن طاهر بمرو فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان وأربعين ومائتين، وولّى عمه طلحة على نيسابور، وابنه منصور بن طلحة على مرو وسرخس وخوارزم، وعمه الحسين بن عبد الله على هراة وأعمالها، وعمه سليمان بن عبد الله على طبرستان، والعبّاس ابن عمه على الجوزجان والطالقان. ومات بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها وبعث أناجور من قواد الترك إلى العمرّط الثعلبي فقتله [4] . واستأذنه عبد الله بن يحيى بن خان في الحجّ فأذن له، ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقة، وحبس المعتز والمؤيد في حجره بالجوسق بعد أن أراد قوّاد الأتراك قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب من ذلك.
ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفاه إلى قرطيش [5]
__________
[1] واجن: ابن الأثير ج 7 ص 117.
[2] كذا بالأصل ومقتضى السياق: واما الغوغاء فشهروا السلاح ...
[3] الاشروسنية: ابن الأثير ج 7 ص 118.
[4] وفي الكامل ج 7 ص 119: «وفيها- اي سنة 248- وجه انوجور التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله بكفرثوثى ... »
[5] أقريطش: المرجع السابق.(3/354)
واستوزر أتامش وعقد له على مصر والمغرب وعقد لبغا الصغير على حلوان وماسبذان ومهر جا تعرف، وجعل شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخاصة أموره وخادمه، وأشناس على جميع الناس. وعزل علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. وكان على حمص كندر فوثب به أهلها فأخرجوه فبعث المستعين الفضل بن قارن وهو أخو مازيار فاستباحهم وحمل أعيانهم إلى سامرّا وبعث المستعين إلى وصيف وهو بالثغر الشامي بأن يغزو بالصائفة، فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قرورية ثم غزا بالصائفة سنة تسع وأربعين جعفر بن دينار وافتتح مطامير واستأذنه عمر بن عبد الله الأقطع في تدويخ بلاد الروم فأذن له فدخل في جماعة من أهل ملطية ولقي ملك الروم، فخرج الأسقف في خمسين ألفا أحاطوا به وقتل عمر في ألفين من المسلمين. وكان على الثغور الجزرية فأغار عليها الروم وبلغ ذلك عليّ بن يحيى وهو قابل من أرمينية إلى ميافارقين ومعه جماعة من أهلها فنفر إليهم وهو في نحو أربعمائة فقتلوا وقتل.
فتنة بغداد وسامرا
ولما اتصل الخبر ببغداد وسامرّا بقتل عمر بن عبد الله وعليّ بن يحيى شقّ ذلك على الناس لما كانوا عليه من عظيم الغناء في الجهاد، واشتدّ نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح وتذكّروا قتل المتوكّل واستيلاءهم على الأمور فاجتمعت العامة وتنادوا بالنفير إلى الجهاد. وانضمّ إليهم الشاكريّة يطلبون أرزاقهم ثم فتقوا السجون وقطعوا الجسور وانتهبوا دور كتاب محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم أخرج أهل اليسار من بغداد الأموال ففرّقوها في المجاهدين وجاءت العامة من الجبال وفارس والأهواز فنفروا للغزو، ولم يظهر للمستعين ولا لأهل الدولة في ذلك أثر. ثم وثب العامة بسامرّا وفتقوا السجون وخرج من كان فيها وجاء جماعة من الموالي في طلبهم فوثب العامة بهم وهزموهم وركب بغا ووصيف وأتامش في الترك فقتلوا من العامة خلقا وانتهبوا منازلهم وسكنت الفتنة.
مقتل أتامش
كان المستعين لما ولي أطلق يد أمّه وأتامش وشاهك الخادم في الأموال وما فضل عنهم فلنفقات العبّاس بن المستعين، وكان في حجر أتامش فبعث ذلك عليه بغا(3/355)
ووصيف وضاق حال الأتراك والفراغنة ودسّهم عليهم بغا ووصيف فخرج منهم أهل الكرخ والدور وقصدوه في الجوسق مع المستعين وأراد الهرب فلم يطق، واستجار بالمستعين فلم يجره وحاصروه يومين، ثم افتتحوا عليه الجوسق وقتلوه وكاتبه شجاع بن القاسم ونهبت أموالهم واستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن علي على الأهواز ولبغا الصغير على فلسطين. ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني وولّى على ديوان الرسائل سعيد بن حميد.
ظهور يحيى بن عمر ومقتله
كان على الطالبيين بالكوفة يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد ويكنى أبا الحسين وأمّه من ولد عبد الله بن جعفر وكان من سراتهم ووجوههم وكان عمر بن فرج يتولّى أمر الطالبيّين أيام المتوكل، فعرض له أبو الحسين عند مقدمه من خراسان يسأله صلة لدين لزمه فأغلظ له عمر القول وحبسه حتى أخذ عليه الكفلاء وانطلق إلى بغداد. ثم جاء إلى سامرّا وقد أملق فتعرّض لوصيف في رزق يجرى له، فأساءه عليه وإليها فرجع إلى الكوفة وعاملها يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فاعتزم على الخروج والتفّ عليه جمع من الأعراب وأهل الكوفة، ودعا للرضى من آل محمد ففتق السجون ونهبه وطرد العمّال، وأخذ من بيت المال ألفي دينار وسبعين ألف درهم، وكان صاحب البريد قد طيّر بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إلى عامله بالسواد عبد الله بن محمود السرخسيّ أن يصير مددا إلى الكوفة فلقيه وقاتله فهزمهم يحيى وانتهب ما معهم، وخرج إلى سواد الكوفة واتبعه خلق من الزيدية، وانتهى إلى ناحية واسط وكثرت جموعه. وسرّح محمد بن عبد الله بن طاهر إلى محاربة الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر فسار إليه. وقد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطّاب المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية شاهي ودخل الكوفة واجتمعت عليه الزيدية، واشتمل عليه عامة أهل الكوفة وأمداد الزيدية من بغداد، وجاء الحسين بن إسماعيل وانضمّ إليه عبد الرحمن بن الخطّاب وخرج يحيى من الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته وصبح العساكر فساروا إليه فهزموه ووضعوا السيف في أصحابه، وأسروا الكثير من اتباعه، كان منهم الهيصم العجليّ(3/356)
وغيره، وانجلت الحرب عن يحيى بن عمر قتيلا فبعثوا برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المستعين وجعل في صندوق في بيت السلاح وجيء بالأسرى فحبسوا وكان ذلك منتصف رجب سنة خمس ومائتين [1] .
ابتداء الدولة العلوية بطبرستان
لما ظهر محمد بن عبد الله بن طاهر بيحيى بن عمر وكان له من الغناء في حربه ما قدّمناه، أقطعه المستعين قطائع من صوافي السلطان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس [2] وفيها أرض موات ذات غياض وأشجار وكلأ، مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعي، وكان عامل طبرستان يومئذ من قبل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمّه سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع، وكان سليمان مكفولا لأمّه وقد حظي عندها وتقدّم وفرّق أولاده في أعمال طبرستان وأساءوا السيرة في الرعايا ودخل محمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون فسبى منهم وانحرفوا لذلك. وجاء نائب محمد بن عبد الله لقبض القطائع فحاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة لمرافق الناس، فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلك، فخافهما النائب ولحق بسليمان صاحب طبرستان. وبعث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهم على حرب سليمان، وبعثا إلى محمد بن إبراهيم من العلويّين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره، فامتنع ودلّهما على كبير العلويّة بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط، فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدّمهم ابنا رستم وأهل الريان ومعهم الديلم بأسرهم، فبايعوه جميعا وطردوا عمّال سليمان وابن أوس. ثم انضمّ إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد، وخرج ابن أوس من سارية لمدافعته فانهزم ولحق بسليمان في سارية فخرج سليمان لحرب الحسن. ولما التقى الجمعان بعث الحسن بعض قوّاده خلف سليمان إلى سارية وسمع بذلك سليمان فانهزم، وملك الحسن سارية، وبعث بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان. وقيل إنّ سليمان انهزم اختيارا لما
__________
[1] الصحيح خمسين. مائتين كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 128.
[2] وفي الكامل ج 7 ص 130: منها مطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار وشالوس.(3/357)
كان بنو طاهر يتّهمون به من التّشييع [1] ثم بعث الحسن إلى الري ابن عمه وهو القاسم ابن علي بن إسماعيل ويقال محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين فملكها، وبعث المستعين جندا إلى همذان ليمنعها. ولما ملك محمد بن جعفر قائد الحسن بن زيد الريّ أساء السيرة، وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الريّ، وانتزعها منه وأسره، فبعث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الريّ ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها ولحق الحسين بالديلم وسار سليمان إلى سارية وآمد، ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد فصفح عنهم ونهى أصحابه عن الفتك والأذى. ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الريّ من يدي أبي دلف وبعث مصلحا إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه واستولى على طبرستان ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى بالريّ.
مقتل باغر
وكان باغر هذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير، ولما قتل المتوكّل زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمّة وكيل باغر، وحبسه ثم تخلّص وسار إلى سامرّا، وكانت له ذمّة من نصراني عند بغا الصغير فأجاره النصراني من كيد بغا وأغراه عليه فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول، وقال: إني مستبدل من النصراني وأفعل فيه بعد ذلك ما تريد، ودسّ إلى النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزله، وبقي باغر يتهدّده وقد انقطع عن المستعين، وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطان فسأل المستعين وصيفا عن أعمال إتياخ وقلّدها لباغر، فعذل وصيفا في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة. وتنكّر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكّل وجدّد عليهم العهد في قتل المستعين وبغا ووصيف، وأن ينصّبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهم. ونما الخبر على الترك إلى المستعين فأحضر بغا ووصيفا وأعلمهما بالخبر، فحلفا له على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك فسخطوا ذلك، وثاروا فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثق وأمر بغا ووصيف وشاهك الخادم وكاتبه أحمد بن صالح
__________
[1] الصحيح التشيّع.(3/358)
ابن شيزاده [1] ونزل على محمد بن طاهر في بيته في المحرّم سنة إحدى وخمسين ولحق به القوّاد والكتاب والعمّال وبنو هاشم وتخلّف جعفر الخيّاط وسليمان بن يحيى بن معاذ فندم الأتراك، وركب جماعة من قوّادهم إلى المستعين وأصحابه ليردّوهم فأبوا ورجعوا آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز.
بيعة المعتز وحصار المستعين
كان قوّاد الأتراك لما جاءوا إلى المستعين ببغداد يعتذرون من فعلهم ويتطارحون في الرضا عنهم والرجوع إلى دار مكّة وهو يوبّخهم ويعدّد عليهم إحسانه وإساءتهم ولم يزالوا به حتى صرّح لهم بالرضا، فقال بعضهم: فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى سامرّا فكلّمه ابن طاهر لسوء خطابهم، وضحك المستعين لعجمتهم وجهلهم بآداب الخطاب، وأمر باستمرار أرزاقهم ووعدهم بالرجوع، فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر، وأخرجوا المعتز من محبسه وبايعوا له بالخلافة، وأعطى للناس شهرين. وحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد فامتنع منها وقال: قد خلعت نفسك! فقال: أكرهت، فقال: ما علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه. وولّوا على الشرطة إبراهيم البربرح [2] وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال، وهرب عتّاب ابن عتّاب من القوّاد إلى بغداد وقال محمد بن عبد الله بن طاهر بالاحتشاد واستقدم مالك بن طوق في أهل بيته وجنده، وأمر حوبة بن قيس [3] وهو على الأنبار وبالاحتشاد وكتب إلى سليمان بن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرّا، وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسوار والخنادق من الجانبين وجعل على كل باب قائدا، ونصب على الأبواب المجانيق والعدادات [4] ، وشحن الأسوار بالرماة
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 139: «وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف وقال لهما: أنتما جعلتماني خليفة ثم تريدان قتلي! فحلفا انّهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر، فاتفق رأيهم على أخذ باغر ورجلين من الأتراك معه، وحبسهم، فاحضروا باغرا فأقبل في عدة، فعدل به إلى حمّام وحبس فيه، وبلغ الخبر الأتراك، فوثبوا على إصطبل الخليفة فانتهبوه وركبوا ما فيه، وحصروا الجوسق بالسلاح، فأمر بغا ووصيف بقتل باغر فقتل.» «فلما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى الأتراك المشغبين أقاموا على ما هم عليه، فانحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك الخادم واحمد بن صالح بن شيرزاد ... »
[2] إبراهيم الديرج: ابن الأثير ج 7 ص 143.
[3] نجوبة بن قيس: ابن الأثير ج 7 ص 143.
[4] الصحيح العرّادات.(3/359)
والمقاتلة وبلغت النفقة في ذلك ثلاثمائة وثلاثين ألف دينار وفوّض للعيّارين الرزق واغدق عليهم، وأنفذ كتب المستعين إلى العمّال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد. وكتب المستعين إلى الأتراك يأمرهم بالرجوع عمّا فعلوا وكتب المعتز إلى محمد يدعوه إلى بيعته، وطالت المراجعات في ذلك وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص، فاختلفت إليه وهو بالشام كتب المستعين والمعتزّ يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه، فاختار المعتز ورجع إليه، وهرب إليه عبد الله بن بغا الصغير من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله. وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع عليه المستعين وضمّ إليه الأشروسية. ثم عقد المعتز لأخيه إلى أحمد الواثق عن حرب بغداد وضمّ إليه الجنود مع باكليال [1] من قوّادهم، فسار في خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة والمغاربة، وانتهبوا ما بين عكبرا وبغداد من القرى والضياع وخرّبوها، وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية. وولّى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب، وجعل القوّاد هنالك تحت يده ووافقت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه، وأمدّه ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري [2] . ثم ركب محمد بن عبد الله بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة، وذلك عاشر صفر، وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعة على المعتزّ ولي عهده فلم يجيبوا، فانصرفوا، وبعث إليه القوّاد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال. وقدم ذلك اليوم عبد الله بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلاثمائة رجل. ثم جاء الأتراك من الغد فاقتتلوا مع القوّاد وانهزم القوّاد وبلغ ابن طاهر أنّ جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان، فبعث قائدا من أصحابه إليهم فرجع منهزما، واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد. ثم بعث المعتز عسكرا آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجانب الغربي، وبعث ابن طاهر إليهم الشاه ابن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع إلى بغداد فخلع عليه وعلى سائر القوّاد أربع خلع وطوقا وسوارا من ذهب لكل واحد. ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحرب، وقدمت عليه أموال فارس والأهواز مع مكحول الأشروسي [3]
__________
[1] كلبا تكين التركي: ابن الأثير ج 7 ص 145.
[2] بندار الطبري: ابن الأثير ج 7 ص 146.
[3] منكجور الاشروسني: ابن الأثير ج 7 ص 148.(3/360)
وخرج الأتراك لاعتراضه وبعث ابن طاهر لحفظه فقدموا به بغداد، ولم يظفر به الأتراك، ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر. وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد واليا على الثغور الجزرية، وأقام ينتظر الجند والمال، فلما بلغه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرقّة إلى بغداد فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف لمحاربتهم، وصار إلى ضبيعة بالسواد فأقام بها فقال ابن طاهر: لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به! ثم ذهب الأتراك وقاتلوا واتصل الحصار واشتدّت الحرب وانتهبت الأسواق، وورد الخبر من الثغور بأنّ بلكاجور حمل الناس على بيعة المعتز فقال ابن طاهر: لعله ظنّ موت المستعين فكان كذلك، ووصل كتابه بأنه جدّد البيعة، وكان موسى بن بغا مع الأتراك كما قدّمنا، فأراد الرجوع على المستعين فامتنع أصحابه وقاتلوه فلم يتم له أمره وفرّ القعّاطون [1] من البصرة ورموا على الأتراك فأحرقوهم، فبعث ابن طاهر إلى المدائن ليحفظها، وأمده بثلاثة آلاف فارس، وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشق الماء إلى خندقها من الفرات، وجاء إلى الإسحاقي من قبل المعتز فسبق المدد الّذي جاء من قبل ابن طاهر، وملك الأنبار. ورجع حوبة إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسين بن إسماعيل في جماعة من القوّاد والجند، فاعترضه الأتراك وحاربوه، وعاد الأنبار وتقدّم هو لينزل عليهما، وبينما هو يحطّ الأثقال إذا بالأتراك فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وكانوا قد كمنوا له فخرج الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير من أصحابه في الفرات، وأخذ الأتراك عسكره، ووصل إلى الياسرية آخر جمادى الآخرة ومنع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد وتوعدهم على الرجوع إليه، وأمدّه بجند آخر، فدخل من الياسرية وبعث على المخاض الحسين بن علي بن يحيى الأرميني في مائتي مقاتل ليمنع الأتراك من العبور إليه من عدوة الفرات، فوافوه وقاتلوه عليها فهزموه، وركب الحسين في زورق منحدرا وترك عسكره وأثقاله، فاستولى عليها الأتراك ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم، ولحق من عسكره جماعة من القوّاد والكتّاب بالمعتزّ وفيهم عليّ ومحمد ابنا الواثق، وذلك أوّل رجب. ثم كانت بينهم عدّة وقعات وقتل من الفريقين خلق ودخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها ثم ساروا إلى المدائن وغلبوا عليها ابن أبي السفّاح وملكوها. وجاء الأتراك الذين بالأنبار إلى الجانب الغربي وانتهوا إلى
__________
[1] مقتضى السياق: النغّاطون.(3/361)
صرصر وقصر ابن هبيرة، واتصل الحصار إلى شهر ذي القعدة وخرج ابن طاهر في بعض أيامه في جميع القوّاد والعساكر، فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك فلحقوا بالأتراك. ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد. ثم خرج في ذي الحجة رشيد بن كاووس أخو الأفشين ساعيا في الصلح بين الفريقين، واتهم الناس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين. فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر وعمدوا إلى دار رشيد ليهدموها، وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم، فخرج إليهم ونهاهم وبرّأ ابن طاهر مما اتهموه به، فانصرفوا، وتردّدت الرسل بين ابن طاهر وبين أبي أحمد فتجدّد للعامة والجند سوء الظنّ، وطلب الجند أرزاقهم فوعدهم بشهرين وأمرهم بالنزول، فأبوا إلا أن يعلمهم الصحيح من رأيه في المستعين. وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائن والأنبار، فأصعد المستعين على سطح دار العامة حتى رآه الناس وبيده البردة والقضيب، وأقسم عليهم فانصرفوا. واعتزم ابن طاهر على التحوّل إلى المدائن، فجاءه وجوه الناس واعتذروا له بالغوغاء فأقصروا بنقل المستعين عن دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم بالرصافة. وأمر القوّاد وبني هاشم بالكون مع ابن طاهر، فركب في تعبية وحلف لهم على المستعين وعلى قصد الإصلاح فدعوا له، وسار إلى المستعين وأغراه به وأمر بغا ووصيفا بقتله فلم يفعلا. وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسين بن مخلد بمثل ذلك في المستعين، فتغيّر له ابن طاهر. فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاة طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح، فأجاب وخرج إلى باب الشماسية، فجلس هناك ابن طاهر إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه، ويبتذلوا له خمسين ألف دينار، ويعطوه غلّة ثلاثين ألف دينار، ويقيم بالحجاز متردّدا بين الحرمين، ويكون بغا واليا على الحجاز، ووصيف على الجبل، ويكون ثلث الجباية لابن طاهر وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.
فامتنع المستعين أوّلا من الخلع ظنّا منه أنّ وصيفا وبغا معه. ثم تبين موافقتهما عليه فأجاب وكتب بما أراد من الشروط، وأدخل الفقهاء والقضاة واشهدهم بأنه قد صيّر أمره إلى ابن طاهر. ثم أحضر القوّاد وأخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلّا حقن الدماء، وأخرجهم إلى المعتزّ ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره، فجاءوا بذلك لست خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.(3/362)
خلع المستعين ومقتله والفتن خلال ذلك
ولما تمّ ما عقده ابن طاهر ووافى القوّاد بخط المعتز على على كتاب الشروط، أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد، وخطب له بها وبايع له المستعين وأشهد على نفسه بذلك، فنقله من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل ومعه عياله وأهله، وأخذ البردة والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى مكّة، فطلب البصرة فمنع منها وبعث إلى واسط. فاستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل ورجع أخوه أبو أحمد إلى سامرّا. وفي آخر المحرّم انصرف أبو الساج دبواز بن درموسب [1] إلى بغداد فقلّده ابن طاهر معاون السواد فبعث معه مؤنه [2] إليها لطرد الأتراك والمغاربة عنها، وسار هو إلى الكوفة. ثم كتب المعتز إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومن معهما من الدواوين وكان محمد أبو عون من قوّاد ابن طاهر قد تكفّل لأبى إسحاق بقتلهما، وعقد له المعتز على اليمامة والبحرين والبصرة. ونمى الخبر إليهما بذلك فركبا إلى ابن طاهر وأخبراه الخبر وأنّ القوم قد نقضوا العهد. ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد وكان في حجرها فاستوهن له الرضا من المعتز وكذا فعل أبو أحمد مع بغا وكتب لهما المعتز جميعا بالرضا. ثم رغب الأتراك في إحضارهما بسامرّا، فكتب بذلك ودسّ إلى ابن طاهر بمنعهما. فخرجا فيمن معهما ولم يقدر ابن طاهر على منعهما. وحضرا بسامرّا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما، وردّ البريد إلى موسى بن بغا الكبير. ثم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان، جاءوا إليه يطلبون أرزاقهم قال: كتبت إلى أمير المؤمنين في ذلك فكتب إليّ إن كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم، وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم. فشغبوا ففرّق فيهم ألفي دينار فسكنوا. ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا الخيام بباب الشماسية وبنوا البيوت من الأعواد والقصب. وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال، وأرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعد واعتذر بالمرض، فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه. ثم دفعوا أصحاب ابن طاهر بإعانة أهل الجانب الشرقي، وجاء العامّة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهر بإحراق الحوانيت إلى باب الجسر ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دلّه على عورة الجند فسرّح الشاه
__________
[1] ابو الساج ديوداد بن ديودست: ابن الأثير ج 7 ص 168.
[2] نوابة: المرجع السابق.(3/363)
بن ميكال وعرض القواد فسار إلى ناحيتهم، وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل. وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عبدون بن الموفق إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك.
وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد، وذلك أنّ العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار فأخذها عيسى بن فرخان شاه، فأغرى المؤيد بعيسى الأتراك والمغاربة فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد فحبسهما وقتل [1] المؤيد، فأخذ خطّه بخلع نفسه. ثم نمي إليه أنّ الأتراك يرومون إخراجه من الحبس، فسأل عن ذلك موسى بن بغا فأنكر علم ذلك، وأخرج المؤيد من الغد ميتا ودفنته أمّه. فيقال غطّى على أنفه فمات، وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه. ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه. ثم اعتزم المعتزّ على قتل المستعين فكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسلّمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط، يقال بل أرسل بذلك أحمد بن طولون، فسار به في القاطون وسلّمه إلى سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وقيل ألقاه في دجلة بحجر في رجله، وكانت معه دابته فقتلت معه وحمل رأسه إلى المعتز فأمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولّاه معونة البصرة. ثم وقعت فتنة بين الأتراك والمغاربة مستهلّ رجب، بسبب أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرخان شاه فضربوه وأخذوا دابته لما أمرهم المؤيد، فامتعضت المغاربة له ونكروا على الأتراك وغلبوهم على الجوسق، وأخذوا دوابهم وركبوها وملكوا بيت المال. واستجاش الأتراك بمن كان منهم في الكرخ والدور وانضم الغوغاء والشاكريّة إلى المغاربة فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن عبد الواحد في الصلح فتوادعوا أياما ثم اجتمع الأتراك على حين افتراق المغاربة فقصد محمد بن راشد ونصر ابن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة، فدسّ للأتراك بخبرهما وجاءوا فقتلوهما في منزله وبلغ ذلك المعتز فهمّ بقتل! ابن عون ثم نفاه.
أخبار مساور الخارجي
كان الوالي على الموصل عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هاني الخزاعيّ، وكان صاحب الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير، وكان مساور
__________
[1] وفي نسخة اخرى: قيّد المؤيد وكذلك عند ابن الأثير ج 7 ص 172.(3/364)
ابن عبد الله بن مساور البجليّ من الخوارج يسكن البواريخ [1] . وحبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابنا للمساور هذا يسمى جوثرة وكان جميلا، فكتب إلى أبيه مساور بأنّ حسين بن بكير نال منه الفاحشة، فغضب لذلك وخرج فقصد الحديثة، فاختفى حسين وأخرج ابنه من الحبس. ثم كثر جمعه من الأكراد والأعراب وقصد الموصل فقاتلها أياما، ثم رجع فكان تحت طريق خراسان، وكانت لنظر بندأر ومظفر بن مشبك [2] فسار إليه بندار في ثلاثمائة مقاتل والخوارج مع مساور في سبعمائة فهزموه وقتلوه، ولم ينج منهم إلا نحو خمسين رجلا وفرّ مظفر إلى بغداد. وجاء الخوارج إلى جلولاء وكانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق. ثم سار خطرمش في العساكر فلقيهم بجلولاء وهزمه مساور، ثم استولى مساور على أكثر أعمال الموصل، ثم ولّى الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطّاب التغلبي سنة أربع وخمسين، فاستخلف عليها ابنه الحسن، فجمع عسكرا كان فيهم حمدون بن الحرث بن لقمان جدا لأمراء من بني حمدان ومحمد بن عبد الله بن السيد بن أنس، وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب فتأخر عن موضعه. وسار الحسن في طلبه فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل وقتل محمد بن السيد الأزدي، ونجا الحسن بن أيوب إلى أعمال اربل. ثم كانت الفتنة سنة خمس وخمسين خلع المعتز وبويع للمهتدي وولّى على الموصل عبد الله بن سليمان فزحف إليه مساور، وخام عبد الله عن لقائه فملك مساور البلد وأقام بها جمعة وصلى وخطب، ثم خرج منها إلى الحديثة وكانت دار هجرته. ثم انتقض عليه سنة ست وخمسين رجل من الخوارج اسمه عبيدة بن زهير العمريّ [3] بسبب الخلاف في توبة الخاطئ وقال عبيدة: لا تقبل واجتمع معه جماعة وخرج إليهم مساور من الحديثة واقتتلوا قتالا شديدا ثم قتل عبيدة وانهزم أصحابه وخرج إليه آخر من بني زهر اسمه طوق، فجمع له الحسن بن أيوب بن أحمد العدوي جمعا كثيرا وحاربه فقاتله سنة خمس أو سبع، واستولى مساور على أكثر العراق ومنع الأموال، فسار إليه موسى بن بغا بابكيال في العساكر فانتهوا إلى [4]
__________
[1] وفي نسخة اخرى البوازيج وكذلك عند ابن الأثير ج 7 ص 174.
[2] مظفر بن سيسل: ابن الأثير ج 7 ص 175.
[3] عبيدة من بني زهير العمروي: ابن الأثير ج 7 ص 226.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 226: «واستولى مساور على كثير من العراق ومنع الأموال عن الخليفة فضاقت على الجند أرزاقهم، فاضطرهم ذلك إلى ان سار اليه موسى بن بغا وبابكيال وغيرهما في عسكر عظيم، فوصلوا إلى السفّ فأقاموا به، ثم عادوا إلى سامرّا.»(3/365)
وبلغهم خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم زحفوا بخلع المهتدي، فلما ولي المعتمد سيّر مفلحا إلى قتال مساور في عسكر كبير وخرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها وقاتله مفلح في أتباعه، ولحق الجبل فاعتصم به وأقام مفلح في حصاره، فكانت بينهما وقعات وكثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن حربه مع عبيدة إلى هذه الحروب فسار عن الجبل وتركه وأصبح مفلح وقد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلى ديار ربيعة وسنجار ونصيبين والخابور، فأصلح أمورها وخرج من الموصل إلى الحديثة ففارقها عنه فرجع مساور في اتباعهم يتخطّف من أعقابهم ويقاتلهم حتى وصل الحديثة فأقام بها أياما، ثم سار إلى بغداد في رمضان سنة ست وخمسين فرجع مساور الحديثة واستولى على البلاد واشتدّت شوكته، ثم أوقع به مسرور البلخي سنة ثمان وخمسين، وجهّز العسكر بالحديثة مع جعلان من قوّاد الترك. ثم قتل سنة إحدى وستين يحيى بن جعفر من ولاة خراسان، وسار مسرور في طلبه وتبعه الموفّق فلم يدركاه.
مقتل وصيف ثم بغا
وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز اجتمع الجند من الأتراك والفراغنة والأشروسية فطلبوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر وشغبوا، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الطويل، وكلّمهم وصيف واعتذر بعدم المال وقال: خذوا الزاب في أرزاقكم. ونزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك، ومضى بغا وسيما إلى المعتزّ يسألانه في أمرهم، وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله وقطعوا رأسه ونصبوه. ثم انقادوا وأهدر لهم ذلك، وجعل المعتز لبغا الشرابي ما كان لوصيف وألبسه التاج والوشاحين، ثم تغيّر له المعتز لما عليه من الاستبداد على الدولة، وخشي غائلته ومال باطنا إلى بابكيال وداخله في أمره واعتده لذلك. ثم زوّج بغا ابنته آمنة من صالح بن وصيف وشغل بجهازها، فركب المعتز في تلك الغفلة ومعه حمدان بن إسرائيل إلى بابكيال في كرخ سامرّا وكانت بينه وبين بغا وحشة شديدة وبلغ ذلك بغا فركب في خمسمائة من غلمانه وولده وقوّاده، وكان أكثرهم منحرفين عنه ولحق بالسنّ، وأقام المعتزّ على وجل لا ينام إلا بسلاحه. ثم تعلّل أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم وركب البحر راجعا إلى بغداد، وجاء الجسر ليلا لئلا يفطن به الموكّلون هنالك، وبعثوا إلى المعتزّ(3/366)
بخبره [1] ، فأمر بقتله وحمل إليه رأسه ونصب بسامرّا وأحرقت المغاربة شلوه وكان قصد دار صالح بن وصيف ليثبوا على المعتز.
ابتداء دولة الصفار
كان يعقوب بن الليث عمر [2] : الصفر بسجستان وكان صالح بن النضر الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية وقام يقاتل الخوارج وسمّى أصحابه المتطوّعة حتى قيل له صالح المطّوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث هذا وغلبوا على سجستان، ثم أخرجهم عنها طاهر بن عبد الله أمير خراسان. وهلك صالح إثر ذلك وقام بأمر المتطوّعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث شهما وكان درهم مضعفا، واحتال صاحب خراسان حتى ظفر به وحبس ببغداد، فاجتمعت المتطوّعة على يعقوب بن الليث، وقام بقتال السراة وأتيح له الظفر عليهم وأثخن فيهم وخرّب قراهم، وكانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله، فحسنت طاعتهم له وعظم أمره وملك سجستان مظهرا طاعة الخليفة وكاتبه وقلّده حرب السراة، فأحسن الغناء فيه وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان وعليها يومئذ محمد بن عبد الله بن طاهر، وعلى هراة من قبله محمد بن أوس الأنباري، فجمع لمحاربة يعقوب وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج، وعظم أمره وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف. وكان المعتز قد كتب له بولاية سجستان، فكتب له الآن بولاية كرمان، وكان على فارس علي بن الحسين بن شبل، وأبطأ عامل الخراج واعتذر، فكتب له المعتز بولاية كرمان يريد إعداء كل منهما بصاحبه لأنّ طاعتهما مهوضة [3] فأرسل عليّ
__________
[1] يبدو من سياق المعنى ان جملة سقطت أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 187: «فسار بغا الى الجسر في الثلث الأول من الليل، فبعث الموكلون بالجسر ينظرون من هو، فصاح بالغلام فرجع، وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة من الموكلين فوقف لهم بغا وقال: انا بغا، اما ان تذهبوا معي إلى صالح بن وصيف واما ان تصيروا معي حتى أحسن إليكم. فتوكّل به بعضهم وأرسلوا إلى المعتز بالخبر ... »
[2] بياضان في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 184: «وكان يعقوب بن الليث وأخوه عمر ويعملان الصّغر بسجستان.
[3] إذا كانت من فعل «هاض» فينبغي ان تكون «مهيضة» اي مكسورة.(3/367)
ابن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على كرمان، وسار يعقوب الصفّار من سجستان فسبقه طوق واستولى عليها وأقام يعقوب بمكانه قريبا منها يترقب خروج طوق إليه. وبعد شهرين ارتحل إلى سجستان فوضع طوق أوزار الحرب وأقبل على اللهو، واتصل ذلك بيعقوب في طريقه، فكرّ راجعا وأغذّ السير فصادفه بعد يومين، وركب أصحابه وقد أحيط بهم ففرّوا ناجين بأنفسهم، وملك يعقوب كرمان وحبس طوق.
وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز، فجمع جيشه ونزل على مضيق شيراز، وأقبل عليه يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعّر بين جبل ونهر ضيق المسلك بينهما، فاقتحم يعقوب النهر بينهما وأجاز إلى عليّ بن الحسين وأصحابه فانهزموا، وأخذ عليّ أسيرا واستولى على جميع عسكره، ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج ورجع إلى سجستان وذلك سنة خمس وخمسين. ويقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة انهزم آخرها عليّ وكان عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي والأكراد، ورجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم وازدحموا في الأبواب وافترقوا في نواحي فارس وانتهوا إلى الأهواز، وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف. ولما دخل يعقوب وملك فارس امتحن عليّا وأخذ منه ألف بردة [1] ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحدّ، وكتب إلى الخليفة بطاعته وأهدى هدية جليلة يقال منها عشر بازات بيض وباز أبلق صيني ومائة نافجة من المسك وغير ذلك من الطرف ورجع إلى سجستان، ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.
ابتداء دولة ابن طولون بمصر
كان بابكيال من أكابر قوّاد الأتراك مع بغا ووصيف وسيما الطويل، ولمّا حدثت هذه الفتن وتغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال والنواحي في اقطاعهم، فاقطع المعتز بابكيال هذا أعمال مصر وبها يومئذ ابن مدبّر، وكان بابكيال مقيما بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها وكان أحمد بن طولون من أبناء الأتراك وأبوه من سبي فرغانة وربّي في دار الخلفاء، ونشأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله، وأشير عليه بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أوّلا دون أعمالها والاسكندرية، ثم قتل المعتز بابكيال وصارت مصر في اقطاع بارجوع الترك [2] وكان بينه وبين أحمد بن طولون
__________
[1] بدرة كما في ابن الأثير ج 7 ص 194.
[2] ياركوج التركي: ابن الأثير ج 7 ص 187.(3/368)
مودّة متأكدة فكتب إليه واستخلفه على مصر جميعها، ورسخت قدمه فيها وأصارها تراثا لبنيه فكانت لهم فيها الدولة المعروفة.
استقدام سليمان بن طاهر لولاية بغداد
قد تقدّم لنا أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق والسواد، وكانت لهم الشرطة وغيرها، وكان مقيما ببغداد وكان في المدافعة عن المستعين لما لجأ إليه. ثم صلح ما بينه وبين المعتز، واستقل المعتز بالخلافة والآثار المذكورة. ثم هلك آخر سنة ثلاث وثمانين أيام المعتز وفوّض ما كان بيده من الولاية إلى أخيه عبيد الله، نازعه ابنه طاهر في الصلاة عليه ومالت العامّة مع أصحاب طاهر والقوّاد مع عبيد الله لوصية أخيه. ثم أمضى المعتز عهد أخيه وخلع عليه، وبذل لصاحب الخلع خمسين ألف درهم. ثم بعث المعتز عن سليمان بن عبد الله بن طاهر من خراسان، وولّاه على العراق والشرطة وغيرها مكان أخيه محمد، وعزل أخاهما عبيد الله. فلمّا علم عبيد الله تقدّم سليمان أخذ ما في بيت المال وانتقل إلى غربيّ دجلة، وجاء سليمان وقائده محمد ابن أوس ومعه جند من خراسان فأساءوا السيرة في أهل بغداد فحنق الناس عليهم وأعطى أرزاقهم مما بقي في بيت المال وقدمهم على جند بغداد وشاكريّها، فاتفق الجند على الثورة وفتقوا السجون، وعبر ابن أوس إلى الجزيرة واتبعه الجند والعامّة، فحاربهم وانهزم وأخرجوه من باب الشماسية، ونهب من منزله قيمة ألفي ألف درهم، ومن الأمتعة ما لا يحصر ونهب منازل جنده. ورأى سليمان أن يسكن الثائرة فأمره بالخروج إلى خراسان، ثم كانت الفتنة في خلع المعتز وولاية المهدي كما يذكر، وبعث المهتدي سلخ رجب من سنة خمس وخمسين إلى سليمان ليأخذ البيعة له ببغداد. وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد بعثه إليها المعتز، فنقله سليمان إلى داره ووثب الجند والعامّة لذلك واجتمعوا بباب سليمان، وقاتلهم أصحابه مليا، ثم انصرفوا وخطب من الغد للمعتز فسكنوا ثم ساروا ودعوا إلى بيعة أبي أحمد، وطلبوا رؤيته فأظهره لهم ووعدهم بما طلبوا، فافترقوا ووكّل بحفظ أبي أحمد ثم بايع للمهتدي في شعبان من تلك السنة.(3/369)
خبر كرخ أصبهان وأبي دلف
قد تقدّم لنا شأن أبي دلف أيام المأمون وأنه كان مقيما بكرخة وأن المأمون عفا له عما وقع منه في القعود عن نصره، وأقام بتلك الناحية وهلك، فقام ابنه عبد العزيز مكانه. ولما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة المستعين وولّى وصيف على الجبل وأصبهان، فكتب إلى عبد العزيز باستخلافه عليها وبعث عليه بالخلع، وعقد المعتز لموسى بن بغا الكبير في شهر رجب من سنة ثلاث وخمسين على الجبل وأصبهان، فسار لذلك وفي مقدمته مفلح، فلقيه عبد العزيز بن أبي دلف في عشرين ألفا خارج همذان، فتحاربا وانهزم عبد العزيز وقتل أصحابه. وسار مفلح إلى الكرخ، فخرج إليه عبد العزيز وقاتله ثانية، فانهزم واستولى مفلح على الكرخ. ومضى عبد العزيز إلى قلعة نهاوند فتحصّن بها وأخذ مفلح أهله وأمّه. ثم عقد له وصيف سنة اثنين وخمسين على أعمال الجبل، ثم عقد لموسى بن بغا، فسار وفي مقدّمته مفلح، فقاتله عبد العزيز فانهزم وملك مفلح الكرخ وأخذ ماله وعياله. ثم ملك عبد العزيز وقام مكانه ابنه دلف وقاتله القاسم بن صبهاه من أهالي أصبهان. ثم قتل القاسم أصحاب أبي دلف وولّوا أخاه أحمد بن عبد العزيز سنة خمس وستين. وولّاه عمر الصفّار من قبله على أصبهان عند ما ولّاه عليها المعتمد سنة ست وستين، وحاربه كغليغ التركي سنة تسع وستين، فغلبه أحمد وأخرجه إلى الصميرة، وبعث إليه عمر سنة ثمان وستين في المال فبعث إليه. ثم سار الموفّق سنة ست وسبعين يريد أحمد بأصبهان فشاغله أحمد عن البلد وترك داره بفرشها لنزول الموفّق. ثم مات أحمد سنة ثمانين وولّى أخوه عمر وأخوه بكير يرادفه وقاتلا رافع بن الليث بأمر المعتضد فهزمهما كما يأتي ذكره. ثم قلّده المعتضد أصبهان ونهوند والكرخ عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وثمانين ثم راجعا الطاعة.
خلع المعتز وموته وبيعة المهتدي
كان صالح بن وصيف بن بغا متغلبا على المعتز، وكان كاتبه أحمد بن إسرائيل، وكانت أمّه قبيحة ووزيرها الحسن بن مخلد، وكان أبو نوح عيسى بن إبراهيم من كبار الكتّاب وجباة الأموال. وطلب الأتراك أرزاقهم وشغبوا، فقال صالح للمعتز:
هذه الأموال قد ذهب بها الكتّاب والوزراء، وليس في بيت المال شيء فردّ عليه(3/370)
أحمد بن إسرائيل وأفحش في ردّه وتفاوضا في الكلام فسقط صالح مغشيا عليه، وتبادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين سيوفهم فدخل إلى قصره، فأمر صالح بالوزراء الثلاثة فقيّدوا وشفع المعتز في أمر وزيره فلم يقبل شفاعته، وصادرهم على مال جليل حملوه فلم يسدّ شيئا، فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة اتّهم الجند أنهم حملوا على مال ولم يكن ذلك، فشفعوا في طلب أرزاقهم وضمنوا للمعتز قتل صالح بن وصيف على خمسين ألفا يبذلها لهم. وسألها من أمّه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم على خلعه. ودخل إليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر وبابكيال وطلبوه في الخروج إليهم، فاعتذر لهم وأذن لبعضهم في الدخول فدخلوا، وجرّوه إلى الباب وضربوه وأقاموه في الشمس في صحن الدار وكلما مرّ به أحد منهم لطمه. ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب في جماعة فأشهدهم على خلعه، وعلى صالح بن وصيف بأمانه وأمان أمّه وأخته وولده [1] . وفرّت أمّه قبيحة من سرب كانت اتخذته بالدار، ثم عذّبوا المعتز ثم جعلوه في سرب وطمّوا عليه، وأشهدوا على موته بني هاشم والقوّاد، وذلك آخر رجب من سنة خمس وخمسين، وبايعوا لمحمد ابن عمه الواثق ولقّبوه المهتدي باللَّه عند ما خلع المعتز نفسه وأقرّ بالعجز والرغبة في تسليمها إلى المهتدي، بايعه الخاصّة والعامّة. وكانت قبيحة أم المعتز لما فعل صالح بالكتاب ما فعل قد [2] نفرا منهم على الفتك بذلك بصالح، ونمي ذلك إليه، فجمع الأتراك على الثوران، وأيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت ما في الخزائن من الأموال والجواهر، وحفرت سربا في حجرتها هربت منه لما أحيط بالمعتزّ، ولما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه فأحضرها في رمضان وظفر منها بخمسمائة ألف دينار، وعذّبها على خزائن تحت الأرض فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ومقدار مكوك من الزبرجد لم ير مثله، ومقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم وجراب من الياقوت الأحمر القليل النظير، وذمّها الناس بأنها عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار ومعها هذا المال، ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك، وقبض صالح على أحمد بن إسرائيل وزيد بن المعتز وعذّبه وصادره. ثم قبض على
__________
[1] الضمير يعود للمعتز:
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 199: «وكان السبب في هربها وظهورها انها كانت قد واطأت النفر من الكتّاب الذين أوقع بهم صالح على الفتك بصالح ... »(3/371)
أبي نوح وفعل به مثله، وقبض على الحسن بن مخلد كذلك ولم يمت. وبلغ المهتدي ذلك فنكره وقال: كان الحبس كافيا في العقوبة. ولأوّل ولاية المهتدي أخرج القيان والمغنّين من سامرّا ونفاهم عنها، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وردّ المظالم وجلس للعامة، وكانت الفتن قائمة، والدولة مضطربة، فشمّر لإصلاحها لو أمهل واستوزر سليمان بن وهب وغلب على أمره صالح بن وصيف وقام بالدولة.
مسير موسى بن بغا إلى سامرا ومقتل صالح بن وصيف
كان موسى بن بغا غائبا بنواحي الريّ وأصبهان منذ ولاية المعتز عليها سنة ثلاث وخمسين، ومعه مفلح غلام أبي الساج، وكانت قبيحة أم المعتز لما رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في أمره، فجاءه كتابها، وقد بعث مفلحا لحرب الحسن بن زيد العلويّ فحربه [1] بطبرستان فغلبه، وأحرق قصوره بآمد وخرج في اتباعه إلى الديلم، فكتب إلى موسى بالرجوع لمداهمة من شاء وبينما هو في استقدامه وانتظاره قتل المعتزّ وبويع المهتدي، وبلغ أصحابه ما حواه صالح من أموال المعتز وكتّابه وأمّه، فشرهوا إلى مثل ذلك، وأغروا موسى بالمسير إلى سامرّا، ورجع مفلح من بلاد الديلم إليه وهو بالريّ، فسار نحو سامرّا وسمع المهتدي بذلك فكتب إليه بالمقام ويحذّره على ما وراءه من العلويين فلم يصغ لذلك، وأفحش أصحابه في إساءة الرسل الواصلين بالكتب. فكتب بالاعتذار واحتج بما عاينه الرسل وأنه يخشى أن يقتله أصحابه إن عادوا إلى الريّ وصالح بن وصيف في خلال ذلك يغري به المهتدي وينسبه إلى المعصية والخلاف، إلى أن قدم في المحرّم سنة ست وخمسين ودخل في التبعية، فاختفى صالح بن وصيف ومضى موسى إلى الجوسق والمهتدي جالس للمظالم فأعرض له عن الإذن ساعة ارتاب فيها هو وأصحابه وظنّوا أنه ينتظر قدوم صالح بالعساكر. ثم أذن لهم فدخلوا وقبضوا على المهتدي وأودعوه دار باجورة [2] وانتهبوا ما كان في الجوسق. واستغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم
__________
[1] لعلها فحاربه.
[2] دار ياجور: ابن الأثير ج 7 ص 218.(3/372)
أخذ عليه العهود والإيمان أن لا يوالي صالحا وأنّ باطنه وظاهره في موالاتهم سواء، فجدّدوا له البيعة واستبد موسى بالأمر، وبعث إلى صالح للمطالبة بما احتجبه من الأموال فلم يوقف له على أثر، وأخذوا في البحث عنه. وفي آخر المحرّم أحضر المهتدي كتابا رفعه إليه سيما الشرابيّ، زعم أنّ امرأة دفعته إليه وغابت فلم يرها، وحضر القوّاد وقرأه سليمان بن وهب عليهم وهو بخط صالح يذكر ما صار إليه من الأموال، وأنه إنما استتر خشية على نفسه وحسما للفتنة وإبقاء على الموالي. ولما قرأ الكتاب حثّهم المهتدي على الصلح والاتفاق، فاتهمه الأتراك بالميل إلى صالح وأنه مطلع على مكانه، وطال الكلام بينهم بذلك ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع المهتدي، إلا أخا بابكيال فإنه أبى من ذلك وتهدّدهم بأنه مفارقهم إلى خراسان، واتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليه وقد نظّف ثيابه وتطيب وتقلّد سيفه فأرعد وأبرق وتهدّدهم بالاستماتة، ثم حلف لا يعلم مكان صالح، وقال لمحمد بن بغا وبابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز وأموال الكتّاب وأنتم شركاؤه في ذلك كلّه. وانتشر الخبر في العامة بأنهم أرهقوه وأرادوا خلعه فطفقوا يحاذرون على الدعاء في المساجد والطرقات ويبغون على القوّاد بغيهم على الخليفة، ويرمون الرقاع بذلك في الطرقات. ثم إنّ الموالي بالكرخ والدور دسوا إلى المهتدي أن يبعثوا إليه أخاه أبا القاسم عبد الله بعد أن ركبوا وتحرّكوا فقالوا لأبي القاسم: بلغنا ما عليه موسى وبابكيال وأصحابهما ونحن شيعة للخليفة فيما يريده، وشكوا مع ذلك تأخّر أرزاقهم وما صاروا من الاقطاع والزيادات إلى قوّادهم وما أخذه النساء والدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج والضياع، وكتبوا بذلك إلى المهتدي، فأجابهم بالثناء على التشيّع له والطاعة والوعد الجميل في الرزق، والنظر الجميل في شأن الاقطاعات للقوّاد والنساء، فأفاضوا في الدعاء وأجمعوا على منع الخليفة من الحجر الاستبداد عليه، وأن ترجع الرسوم إلى عادتها أيام المستعين على كل عشرة عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادة في الاقطاع ويوضع العطاء في كل شهرين. وكتبوا بذلك إلى المهتدي وأنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم، وإن أحد اعترض عليه أخذوا رأسه وإن تعرّض له أحد قتلوا موسى بن بغا وبابكيال وماجور. فجاء أبو القاسم بالكتاب وقد قعد المهتدي للمظالم وعنده الفقهاء والقضاة والقوّاد قائمون في مراتبهم فقرأ كتابهم على(3/373)
القوّاد فاضطربوا وكتب جوابهم بما سألوا، وطلب أبو القاسم من القوّاد أن يبعثوا معه رسولا بالعذر عنهم ففعلوا، ومضى أبو القاسم إليهم بكتاب الكتّاب وبرسل القوّاد وأعذارهم. فكتبوا إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بحط الزيادات وردّ الاقطاعات وإخراج الموالي البرّانيين من الخاصة، وردّ الرسوم إلى عاداتها أيام المستعين، ومحاسبة موسى بن بغا وصالح بن وصيف على ما عندهم من الأموال ووضع العطاء على كل شهرين وصرف النظر في الجيش إلى بعض إخوته أو قرابته وإخراجه من الموالي، وكتبوا بذلك إلى المهتدي والقوّاد فأجابهم إلى جميع ما سألوه. وكتب إليهم موسى بن بغا بالإجابة في شأن صالح والإذن في ظهوره فقرءوا الكتابين ووعدوا بالجواب، فركب إليهم أبو القاسم واتبعه موسى في ألف وخمسمائة فوقف في طريقهم، وجاءهم أبو القاسم فاضطربوا في الجواب ولم يتّفقوا فرجع وردّ موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع وأن يتقدّم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم، ويدفعوا إليهم كتاب الأمان لصالح بن وصيف، وقد كان من طلبتهم أن يكون موسى في مرتبة أبيه وصالح كذلك والجيش في يده، وأن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك. وافترق الناس إلى الكرخ والدور وسامرّا، فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في جماعة ولبسوا السلاح فنهبوا دواب العامة وعسكروا بسامرّا وتعلقوا بأبي القاسم يطلبون صالحا فأنكر المهتدي أن يكون علم بمكانه، وقال: إن كان عندهم فليظهروه. ثم ركب ابن بغا في القوّاد ومعه أربعة آلاف فارس وعسكر، وافترق الأتراك ولم يظهر للكرخيين ولا لأهل الدور وسامرّا في هذا اليوم حركة، وجدّ موسى في طلب صالح ونادى عليه وعثر عليه بعض الغوغاء فجاء به إلى الجوسق والعامة في اتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح فقتله وطيف برأسه على قناة وخرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية السنّ.
الصوائف منذ ولاية المنتصر إلى آخر أيام المهتدي
في سنة ثمان وأربعين أيام المستعين خرج بناحية الموصل محمد بن عمر الشاربي وحكم فسرّح المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني فأسره في عدّة من أصحابه وقتلوا وصلبوا وفي هذه السنة غزا بالصائفة وصيف وأمره المنتصر بالمقام بملطية أربع سنين يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه، وكان مقيما بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قدورية. وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة جعفر بن دينار فافتتح مطامير واستأذنه(3/374)
عمر بن عبد الله الأقطع في الدخول إلى بلاد الروم فأذن له، فدخل في جموع من أهل ملطية، ولقي ملك الروم بمرج الأسقف في خمسين ألفا فأحاطوا به وقيل في ألفين من المسلمين، وخرج الروم إلى الثغور الخزريّة [1] فاستباحوها وبلغ ذلك عليّ ابن يحيى الأرمني وقد كان صرف عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. فلما سمع بخبرهم نفر إليهم وقاتلهم فانهزم وقتل في أربعمائة من المسلمين، وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية فانهزم وأسر (الولاة) لما ولي المنتصر استوزر أحمد بن الخصيب وولّى على المظالم أبا عمر أحمد بن سعيد مولى بني هاشم. ثم ولي المستعين ومات طاهر بن عبد الله بخراسان فولّى المستعين مكانه ابنه محمدا وولّى محمد بن عبد الله على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد، واستخلف أخاه سليمان بن عبد الله على طبرستان. وتوفي بغا الكبير فولّى ابنه موسى على أعماله وضاف إليه ديوان البريد، وشغب أهل حمص على عاملهم وأخرجوه، فبعث عليهم المستعين الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقا وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا. واستوزر المستعين أتامش بعد أن عزل أحمد بن الخصيب، واستصفى بقي إلى أقريطش، وعقد لأتامش على مصر والمغرب، ولبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجا بعده [2] . ثم قتل أتامش فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن داود وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه عيسى بن فرخان شاه، وولّى وصيفا على الأهواز وبغا الصغير على فلسطين، ثم غضب بغا على أبي صالح ففرّ إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني، وولى ديوان الرسائل سعيد بن حميد وعزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء ونفاه إلى البصرة، وولّى جعفر بن محمد بن عمّار البرجمي، وفي خمسين عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف بساسان على مكة ووثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه فسرّح إليهم المستعين موسى بن بغا وحاربوه فهزمهم، وافتتحت حمص وأثخن فيهم وأحرقها، وفيها وثب الشاكريّة والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن وهرب عبد الله بن إسحاق وفيها كان ظهور العلويّة بنواحي طبرستان. وفي سنة إحدى
__________
[1] الثغور الجزرية وقد مرّ ذكرها من قبل.
[2] مهرجان قذق: ابن الأثير ج 7 ص 120.(3/375)
وخمسين عقد المعتز لبغا ووصيف على أعمالها، وردّ البريد إلى موسى بن بغا الكبير، وعقد محمد بن طاهر لأبي الساج وقدّم بين يديه عبد الرحمن كما قلنا، وأظهر أنه إنما جاء لحرب الأعراب وتلطّف لأبي أحمد حتى خالطه وقيّده وبعث به إلى بغداد في سنة اثنتين وخمسين. وولّى المعتز الحسين بن أبي الشوارب على القضاء وبعث محمد ابن عبد الله بن طاهر أبا الساج على طريق مكة، وعقد المعتز لعيسى الشيخ بن السليل الشيبانيّ من ولد جسّاس بن مرّة على الرملة فاستولى على فلسطين وعلى دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام. وكان إبراهيم بن المدبّر على مصر فبعث إلى بغداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها عيسى وأخذها، وطولب بالمال فقال:
الفتنة على الجند! فولّاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه. وبعث المعتمد إلى الشام ما جور على دمشق وأعمالها، وبلغ الخبر إلى عيسى فبعث ابنه منصورا في عشرين ألف مقاتل، فانهزم وقتل وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل. وفيها عقد وصيف لعبد العزيز بن أبي دلف العجليّ على أعمال الجبل. وفي سنة ثلاث وخمسين عقد لموسى بن بغا على الجبل، فسار وفي مقدمته مفلح مولى بني الساج، وقاتله عبد العزيز بن أبي دلف فانهزم ولجأ إلى قلعة لهادر [1] وملك مفلح الكرخ، وأخذ أهله وعياله، وفيها مات ابن عبد الله بن طاهر ببغداد وولّى أخوه عبيد الله بعهده. ثم بعث المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولّاه مكانه، وكان على الموصل سليمان بن عمران الأزدي، وكانت بينه وبين الأزد حروب بنواحي الموصل. وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر. وفيها ملك يعقوب الصفّار سجستان وفارس وهراة، وكان ابتداء دولته، وولى بابكيال أحمد بن طولون على برّ مصر من قبله فكان ابتداء دولته. ثم أقطعها المعتمد سنة سبع وخمسين ليارجوج [2] فولى عليها أحمد بن طولون من قبله وفي سنة خمس وخمسين أيام المهتدي استولى مساور الخارجي على الموصل وفيها ظهر صاحب الزنج وكان ابتداء فتنته.
أخبار صاحب الزنج وابتداء فتنته
كان أكثر دعاة العلوية الخارجين بالعراق أيام المعتصم وما بعده أكثرهم من
__________
[1] هكذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 178: «ومضى إلى قلعة له يقال لها: زرّ فتحصّن بها ودخل مفلح كرج» .
[2] ياركوج: ابن الأثير ج 7 ص 241.(3/376)
الزيديّة، وكان من أئمتهم عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلا بالبصرة، ولما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين، فقتل بغدك ولأيام من قتله خرج رجل بالريّ يدّعي أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي. ولما ملك البصرة لقي عليّا هذا حيّا معروف النسب، فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور. ونسبه المسعوديّ إلى طاهر بن الحسين وأظنّه الحسين ابن طاهر بن يحيى المحدّث بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن عليّ، لأن ابن حزم قال في الحسين السبط أنه لا عقب له إلا من عليّ بن الحسين، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر. وقال الطبريّ وابن حزم وغيرهم من المحقّقين أنه من عبد القيس، واسمه عليّ بن عبد الرحيم من قرية من قرى الريّ، ورأى كثرة خروج الزيديّة فحدّثته نفسه بالتوثّب فانتحل هذا النسب، ويشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج، ولا يكون ذلك من أهل البيت.
وسياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر ومدحهم. ثم شخص من سامرّا إلى البحرين سنة تسع وأربعين ادّعى أنه من ولد العبّاس بن أبي طالب من ولد الحسن بن عبد الله بن العبّاس، ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل حجر وغيرها، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه وعظمت فتنته، فتحوّل عنهم إلى الأحساء ونزل على بني الشمّاس من سعد بن تميم، وصحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع، فكانا قائدين له، وقاتل أهل البحرين فانهزم وافترقت العرب عنه واتبعه عليّ بن أبان وسار إلى البصرة ونزل في بني ضبيعة وعاملها يومئذ محمد بن رجاء، والفتنة فيها بين البلاليّة والسعديّة، وطلبه ابن رجاء فهرب وحبس ابنه وزوجته وجماعة من أصحابه، فسار إلى بغداد وأقام بها حولا وانتسب إلى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه، واستمال بها جماعة منهم جعفر ابن محمد الصوحانيّ من ولد زيد بن ضوحان ومسروق ورفيق غلامان ليحيى بن عبد الرحمن وسمّى مسروقا حمزة وكنّاه أبا أحمد، وسمّى رفيقا جعفرا وكنّاه أبا الفضل.
ثم وثب رؤساء البلاليّة والسعديّة بالبصرة وأخرجوا العامل محمد بن رجاء، فبلغه ذلك وهو ببغداد، وأنّ أهله خلعوه فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومسروق ورفيق، فنزل بقصر القرش(3/377)
ودعا الغلمان من الزنوج ووعدهم بالعتق فاجتمع له منهم خلق وخطبهم ووعدهم بالملك ورغّبهم في الإحسان وحلف لهم وكتب لهم في خرقة إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآية. واتخذها راية وجاءه موالي الزنوج في عبيدهم فأمر كل عبد أن يضرب مولاه وحبسهم ثم أطلقهم، ولم يزل هذا رأيه والزنوج في متابعته والدخول في أمره وهو يخطبهم في كل وقت ويرغّبهم. ثم عبر دجيلا إلى نهر ميمون، فأخرج عند الحميريّ وملكه وسار إلى الأيلّة وبها ابن أبي عون فخرج إليه في أربعة آلاف فهزمهم ونال منهم. ثم سار إلى القادسية فنهبها وكثر سلاحهم، وخرج جماعة من أهل البصرة لقتاله، فبعث إليهم يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فهزمهم وأخذ سلاحهم. ثم طائفة أخرى كذلك وأخرى، وخرج قائدان من البصرة فهزمهما وقتل منهما، وكانت معهما سفن ألقتها الريح إلى الشطّ فغنموا ما فيها وقتلوا وكثر عيثه وفساده. وجاء أبو هلال من قوّاد الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهر الريان فهزمه الزنج واستلحموا أكثر أصحابه، ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشميين في عسكر عظيم من المطوعة والبلاليّة والسعديّة فسرّح للقائهم علي بن أبان فلقي طائفة منهم فهزمهم، ثم أرسل طائفة أخرى إلى مرفأ السفن وفيه نحو من ألفي سفينة فهرب عنها أهلها ونهبوها، ثم جاءت عساكر أبي منصور وقعد الزنوج لهم بين النخل وعليهم عليّ بن أبان، ومحمد بن مسلم، فهزموا العسكر وقتلوا منهم وأخذوا سلاحهم. ثم سار فنهب القرى حتى امتلأت أيديهم بالنهب. ثم سار يريد البصرة ولقيته عساكرها فهزمهم الزنج وأثخنوا فيهم. ثم سار من الغد نحو البصرة وخرج إليه أهلها واحتشدوا وزحفوا إليه برّا وبحرا فلقيهم بالسدّ وانهزموا هزيمة شنعاء كثر فيها القتل. ووهن أهل البصرة وكتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي مددا وولّى على الأبلّة أبا الأحوص الباهلي وأمّه بجند من الأتراك، وقد بثّ صاحب الزنج أصحابه يمينا وشمالا للغارة والنهب. ولما وصل جعلان إلى البصرة، نزل على فرسخ منهم وخندق عليه، وأقام ستة أشهر يسرّح لحربهم الزيني مع بني هاشم ومرجف. ثم بيته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه، وتحوّل عن مكانه ثم انصرف عن حربهم وظفر صاحب الزنج بعده من المراكب غنم فيها أموالا عظيمة، وقتل أهلها وألحّ بالغارات على الأبلّة إلى أن دخلها عنوة آخر رجب سنة ست وخمسين، وقتل عاملها أبا الأخوص عبيد الله ابن حميد الطوسي وخلقا من أهلها واستباحها وأحرقها وبلغ ذلك أهل عبّادان(3/378)
فاستأمنوا له وملكها، واستولى على ما فيها من الأموال والعبيد والسلاح إلى الأهواز وبها إبراهيم بن المدبّر على الخراج، فهرب أهلها ودخلها الزنج ونهبوا وأسروا ابن المدبّر فخاف أهل البصرة وافترق كثير منهم من البلدان. وبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع وخمسين فهزمهم وأخذ ما معهم وأثخن فيهم وكان ابن المدبر أسيرا عندهم في بيت يحيى بن محمد البحراني وقد ضمن لهم مالا كثيرا ووكّل به رجلين فداخلهم حتى حفر سربا من البيت وخرج منه ولحق بأهله.
خلع المهتدي وقتله وبيعة المعتمد
وفي أوّل رجب من سنة ست وخمسين شعف الأتراك من الترك والدور بطلب أرزاقهم وبعث المهتدي أخاه أبا القاسم ومعه كفقا [1] وغيره فسكّنوهم وعادوا وبلغ محمد بن بغا أنّ المهتدي قال للأتراك أنّ الأموال عند محمد وموسى ابني بغا، فهرب إلى أخيه بالسّند وهو في مقاتلة موسى الشاربي فأمّنه المهتدي ورجع ومعه أخوه حنون وكيغلغ فكتب له المهتدي بالأمان ورجع إلى أصحابه وحبسه وصادره على خمسة عشر ألف دينار، ثم قتله وبعث بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلّم العسكر وأوصاه بمحاربة الشاربي [2] وقتل موسى بن بغا ومفلح، فقرأ الكتاب على موسى وتواطئوا على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي، فرجع ومعه يارجوج واساتكين [3] وسيما الطويل، ودخلوا دار الخلافة منتصف رجب فحبس بابكيال من بينهم واجتمع أصحابه ومعهم الأتراك وشغبوا. وكان عند المهتدي صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله ومناجزتهم، فركب في المغاربة والأتراك والفراغنة على التعبية. ومشى والبلخي [4] في الميمنة ويارجوج في الميسرة ووقف هو في القلب ومعه أساتكين وغيره من القوّاد وبعث برأس بابكيال إليهم مع عتّاب بن عتّاب، ولحق الأتراك من صفّه بإخوانهم الأتراك وانقضّ الباقون على المهتدي وولّى منهزما ينادي بالناس ولا يجيبه أحد وسار إلى السجن فأطلق المحبوسين ودخل دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة، وافتتحوا عليه وحملوه على بغل إلى الجوسق، وحبس عند أحمد
__________
[1] كيغلغ: ابن الأثير ج 7 ص 228.
[2] هو مساور الشاري وليس الشاربي.
[3] ياركوج واسارتكين: ابن الأثير ج 7 ص 229.
[4] هو مسرور البلخي.(3/379)
ابن خاقان، وأرادوه على الخلع فأبى واستمات فأخرجوا رقعة بخطّه لموسى بن بغا وبابكيال وجماعة القوّاد أنه لا يغدر بهم ولا يقاتلهم ولا يهمّ بذلك، ومتى فعل شيئا من ذلك فقد جعل أمر الخلافة بأيديهم يولّون من شاءوا فاستحلّوا بذلك أمره وقتلوه.
وقيل في سبب خلعه غير هذا وهو أنّ أهل الكرخ والدور من الأتراك طلبوا الدخول على المهتدي ليكلّموه فأذن لهم وخرج محمد بن بغا إلى المحمديّة ودخلوا في أربعة آلاف، فطلبوا أن يعزل عنهم قوّاده ويصادرهم وكتّابهم على الأهواز، ويصير الأمر إلى إخوته فوعدهم بالإجابة وأصبحوا من الغد يطلبون الوفاء بما وعدهم به، فاعتذر لهم بالعجز عن ذلك إلا بسياسة ورفق فأبوا إلّا المعاجلة، فاستخلفهم على القيام معه في ذلك بإيمان البيعة فحلفوا، ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي وعنهم يعذلونه في غيبته عن مجلسهم مع المهتدي، وأنهم إنما جاءوا بشكوى حالهم ووجدوا الدار خالية فأقاموا ورجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالقدوم وتسليم العسكر إلى من ذكروه لهم، وبعثوا من يقيدهما إن لم يأتمرا ذلك. ولما قرئت الكتب على موسى وأصحابه امتنعوا لذلك وساروا نحو سامرّا، وخرج المهتدي لقتالهم على التعبية وتردّدت الرسل بينهم بطلب موسى أن يولّى على ناحية ينصرف إليها، ويطلب أصحاب المهتدي أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن انفضّ عنهم أصحابه وسار هو ومفلح على طريق خراسان، ورجع بابكيال وجماعة من القوّاد إلى المهتدي فقتل بابكيال ثم أنف الأتراك من مساواة الفراغنة والمغاربة لهم وأرادوا طردهم فأبى المهتدي ذلك، فخرج الأتراك عن الدار بأجمعهم طالبين ثأر بابكيال فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف من الفراغنة والمغاربة ونحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف، واجتمع الأتراك للحرب في عشرة آلاف فانهزم المهتدي وكان ما ذكرناه من شأنه. ثم أحضر أبو العبّاس أحمد بن المتوكل وكان محبوسا بالجوسق فبايعه الناس. وكتب الأتراك إلى موسى بن بغا وهو غائب فحضر وكملت البيعة لأحمد بن المتوكل ولقب المعتمد على الله، واستوزر عبيد الله بن خاقان فأصبح المهتدي ثانى يوم البيعة ميتا منتصف رجب من سنة ست وخمسين على رأس سنة من ولايته. ولم يزل ابن خاقان في وزارته إلى أن هلك سنة ثلاث وستين من سقطة بالميدان سال فيها دماغه من منخريه، فاستوزر محمد بن مخلد، ثم سخط عليه موسى بن بغا واختلفا فاستوزر مكانه سليمان بن وهب، ثم عزله وحبسه وولّى(3/380)
الحسن ابن مخلد وغضب الموفّق لحبسه ابن وهب وعسكر بالجانب الغربي وتردّدت الرسل بينهما فاتفقا وأطلقه وذلك سنة أربع وستين.
ظهور العلوية بمصر والكوفة
وفي سنة ست وخمسين ظهر بمصر إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن الحنفية ويعرف بالصولي يدعو إلى الرضا من آل محمد وملك أشياء من بلاد الصعيد.
وجاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم وقتل قائدهم، فجاء جيش آخر فانهزم أمامهم إلى أبو خات وجمع هنالك جموعا وسار إلى الأشمومين [1] فلقيه هنالك أبو عبد الرحمن العمري وهو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر كان قد أخذ نفسه بحرب البجاة وغزوا بلادهم لما كان منهم في غزو بلاد المسلمين، فاشتدّ أمره في تلك الناحية وكثر اتباعه، وبعث إليه ابن طولون عسكرا فقال لقائده أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن بلاد المسلمين، فشاور أحمد بن طولون فأبى القائد إلا من أجزته [2] فهزمه العمريّ. ولما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا بذكره، فبقي على حاله من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية. فلما جاء الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه، وعاد العمري إلى أسوان واشتدّ عيثه، فبعث إليه ابن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب وأجاز البحر إلى مكة وافترق أصحابه، وقبض عليه والي مكة وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدّة ثم أطلقه، فرجع إلى المدينة ومات بها.
وفي هذه السنة ظهر عليّ بن زيد، وجاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمد في جيش كثيف فهزمه وأثخن في أصحابه. فسرّح المعتمد إلى حربه كيجور التركي فخرج عليّ عن الكوفة إلى القادسية وملك كيجور الكوفة أوّل شوّال، وأقام عليّ بن زيد ببلاد بني أسد. ثم غزا كيجور آخر ذي الحجة فأوقع به وقتل وأسر من أصحابه ورجع إلى الكوفة، ثم إلى سرّ من رأى، وبقي عليّ هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع [3]
__________
[1] الاشمونين: ابن الأثير ج 7 ص 263.
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 264: «فاكتب إلى الأمير أحمد عرّفه كيف حالي، فان أمرك بالانصراف فانصرف، وإلا فان أمرك بغير ذلك كنت معذورا. فلم يجبه إلى ذلك، وقاتله فانهزم جيش ابن طولون» .
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 240: «فوجه اليه الخليفة نفرا من القوّاد، فقتلوه بعكبرا في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين» .(3/381)
عسكرا فقتلوه بعكبر وانقطع أمره وقيل سار إلى صاحب الزنج فقتله سنه ستين وفي هذه السنة غلب الحسين بن زيد الطالبي على الريّ وسار موسى بن بغا إليه.
بقية أخبار الزنج
قد تقدّم لنا أنّ المعتمد بعث سعيد بن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم، ثم عاودوه فأوقعوا به وقتلوا من أصحابه وأحرقوا عسكره، ورجع إلى سامرّا فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصور الخيّاط فقطع عنهم ميرة السفن. ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين، ثم بعث الخبيث عليّ بن أبان من قوّاده إلى اربل [1] لقطع قنطرتها، فلقي إبراهيم بن سيما منصرفا من فارس، فأوقع بهم إبراهيم وخرج عليّ بن أبان وسار إبراهيم إلى نهر جيّ وأمر كاتبه شاهين بن بسطام باتباعه وجاء الخبر إلى علي ابن أبان بإقبال شاهين فسار ولقيه وهزمه أشدّ من الأوّل، وانصرف إلى جيّ. وكان منصور بن جعفر الخيّاط منذ انهزم في البحر، لم يعد لقتال الزنج واقتصر على حفر الخنادق وإصلاح السفن، فزحف عليّ بن أبان لحصاره بالبصرة، وضيّق على أهل البلد وأشرف على دخولها، وبعث لاحتشاد العرب، فوافاه منهم خلق فدفعهم لقتال أهل البصرة وفرّقهم على نواحيها فقاتلهم كذلك يومين، ثم افتتحها عليّ بن أبان منتصف شوّال وأفحش في القتل والتخريب، ورجع ثم عاودهم ثانية وثالثة حتى طلبوا الأمان فأمّنهم وأحضرهم في بعض دور الامارة فقتلهم أجمعين، وحرق عليّ ابن أبان الجامع ومواضع من البصرة واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل وعمّ النهب وأقام كذلك أياما، ثم نادى بالأمان فلم يظهر أحد وانتهى الخبر إلى الخبيث فصرف عليّ بن أبان وولّى عليها يحيى بن محمد البحراني.
مسير المولد لحربهم
لما دخل الزنج البصرة وخرّبوها، أمر المعتمد محمدا المعروف بالمولد بالمسير إلى البصرة، وسار إلى الأبلّة، ثم نزل البصرة واجتمع إليه أهلها، وأخرج الزنج عنها إلى نهر معقل، ثم بعث الخبيث قائده يحيى بن محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام
__________
[1] قنطرة أربك: ابن الأثير ج 7 ص 243.(3/382)
ووطن المولد نفسه على المقام، وبعث الخبيث إلى يحيى بن محمد أبا الليث الأصبهاني مددا وأمرهم بتبييت المولد، فبيتوه وقاتلوه تلك الليلة والغد إلى المساء، ثم هزموه وغنم الزنج عسكره واتبعه البحراني إلى الجامدة وأوقع بأهلها، ونهب تلك القرى أجمع وعاث فيها ورجع إلى نهر معقل.
مقتل منصور الخياط
كان الزنج لما فرغوا من البصرة سار عليّ بن أبان إلى جيّ وعلى الأهواز يومئذ منصور ابن جعفر الخياط قد ولّاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج بالبحرين، فسار إلى الأهواز ونزل جيّ وسار عليّ بن أبان قائد الزنج لحربه. وجاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مددا له وتقدّم إلى منصور من غير أمر عليّ فظفر منصور وقتل الكثير ممن معه وأفلت منهزما إلى الخبيث. ثم تواقع عليّ بن أبان مع منصور فهزمه واتبعه الزنج فحمل عليهم وألقى نفسه في النهر ليعبر إليهم فغرق، وقيل تقدّم إليه بعض الزنج لما رآه فقتله في الماء. ثم قتل أخوه خلف وغيره من العسكر وولّى يارجوج على عمل منصور اصطيخور [1] من قوّاد الأتراك.
مسير الموفق لحرب الزنج
كان أبو أحمد الموفّق وهو أخو المعتمد بمكة، وكان المعتمد قد استقدمه عند ما اشتدّ أمر الزنج وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح. ولما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه على البصرة وكور دجلة والأهواز ثم قتله كما قلناه فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفّق على مصر وقنّسرين والعواصم وخلع على مفلح، وذلك في ربيع سنة ثمان وخمسين وسيّرهما لحرب الزنج فساروا في عدّة كاملة. وخرج المعتمد يشيع أخاه وكان عليّ بن أبان بجيّ ويحيى بن محمد البحراني بنهر العبّاس والخبيث في قلّة من الناس، وأصحابه متردّدون إلى البصرة لنقل ما نهبوه. فلما نزل الموفق نهر معقل أجفل الزنج إلى صاحبهم مرتاعين، فأمر عليّ بن أبان بالمسير إليهم ولقي مفلحا في مقدمة الموفق فاقتتلوا وبينما هم يقتتلون إذ أصاب مفلحا
__________
[1] اصعجور: ابن الأثير ج 7 ص 254.(3/383)
سهم غرب فقتل، وانهزم أصحابه وأسر الكثير منهم. ثم رحل الموفق نحو الأبلّة ليجمع العساكر ونزل نهر أبي الأسد ووقع الموتان في عسكره، فرجع إلى بادرود، وأقام لتجهيز الآلة وإزاحة العلل وإصلاح السفن، ثم عاد إلى عسكر الخبيث فالتقوا واشتدّ الحرب بينهم على نهر أبي الخصيب وقتل جماعة من الزنج، واستنقذ كثير من النساء المسبيّات ورجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكره، ورحل إلى واسط وافترق أصحابه فرجع إلى سامرّا واستخلف على واسط.
مقتل البحراني قائد الزنج
كان اصطيخور لما ولي الأهواز بعد منصور الخياط بلغه مسير يحيى بن محمد قائد الزنج إلى نهر العباس عند مسير الموفّق إليهم، فخرج إليه اصطيخور فقاتله وعبر يحيى النهر وغنم سفن الميرة التي كانت عند اصطيخور، وبعث طلائعه إلى دجلة فلقوا جيش الموفّق فرجعوا هاربين، وطلائع الموفّق في اتباعهم وعبروا النهر منهزمين. وبقي يحيى فقاتل وانهزم ودخل في بعض السفن جريحا وغنم [1] طلائع الموفّق غنائمهم والسفن وأحرقوا بعضها وعبروا الماخورة على يحيى فأنزلوه من سفنهم خشية على أنفسهم، فسعى به طبيب كان يداوي جراحة وقبض عليه وحمل إلى سامرّا وقطّع ثم قتل. ثم أنفذ الخبيث عليّ بن أبان وسليمان بن موسى الشعراني من قوّاده إلى الأهواز، وضم إليهما الجيش الّذي كان مع يحيى ومحمد البحراني وذلك سنة تسع وخمسين فلقيهما اصطيخور بدستميسان [2] وانهزم أمامهما وغرق، وهلك من أصحابه خلق وأسر الحسن بن هزيمة والحسن بن جعفر وغيرهما وحبسوا ودخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها ويغنمون إلى أن قدم موسى بن بغا.
مسير ابن بغا لحرب الزنج
ولما ملك الزنج الأهواز سنة تسع وخمسين سرّح المعتمد لحربهم موسى بن بغا وعقد له على الأعمال، فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح وإلى البصرة إسحاق بن كنداجق وإلى بادرود [3] إبراهيم بن سيما وأمرهم بمحاربة الزنج. فسار عبد الرحمن إلى
__________
[1] الصحيح وغنمت طلائع الموفق.
[2] دشت ميسان: ابن الأثير ج 7 ص 259.
[3] باذاورد: ابن الأثير ج 7 ص 260.(3/384)
عليّ بن أبان فهزمه أوّلا ثم كانت لعبد الرحمن الكرّة ثانيا فأثخن فيهم، ورجعوا إلى الخبيث وجاء عبد الرحمن إلى حصن نهدي [1] فعسكر به وزحف إليه عليّ بن أبان فامتنع عليه، فسار إلى إبراهيم بن سيما ببادرود فواقعه فانهزم أوّلا إبراهيم، ثم كانت له الكرّة ثانيا. وسار ابن أبان في الغياض فاضرموها عليهم نارا ففرّوا هاربين وأسر منهم جماعة وسار عبد الرحمن إلى عليّ بن أبان وجاءه المدد من الخبيث في البحر، فبينما عبد الرحمن في حربه إذ بعث عليّ جماعة من خلفه وشعر بهم، فرجع القهقرى ولم يصب منهم شيء إلا بعض السفن البحريّة. ثم راجع حرب عليّ بن أبان وفي مقدّمته طاشتمر فأوقعوا بعليّ بن أبان ولحق بالخبيث صاحب الزنج، وأقام عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم يتناوبان حرب الخبيث ويوقعان به، وإسحاق بن كنداجق بالبصرة يقطع عنه المدد، وهو يبعث لكل منهما طائفة يقاتلونهم، وأقاموا على ذلك سبعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حربهم ووليها مسرور البلخي كما نذكر.
استيلاء الصفّار على فارس وطبرستان
قد تقدّم استيلاء يعقوب بن الليث الصفّار على فارس أيام المعتز من يد عليّ بن الحسين بن مقبل. ثم عادت فارس إلى الخلفاء، ووليها الحرث بن سيما، وكان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي فاتفق مع أحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها ووثبوا بالحرث بن سيما فقتلوه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين، وقام بدعوة المعتمد وبعث عليها المعتمد الحسن بن الفيّاض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين، وبلغ ذلك المعتمد فكتب إليه بالنكير، وبعث إليه الموفّق بولاية بلخ وطخارستان فملكهما وقبض على رتبيل، وبعث إلى المعتمد برسله وهداياه. ثم رجع إلى بست، واعتزم على العود إلى سجستان فعجّل بعض قوّاده الرحيل قبله، فغضب وأقام سنة ثم رجع إلى سجستان.
__________
[1] حصن مهدي: ابن الأثير ج 7 ص 260.(3/385)
استيلاء الصفار على خراسان وانقراض أمر بنى طاهر منها ثم استيلاؤه على طبرستان
ثم جاء إلى هراة وحاصر مدينة نيسابور حتى ملكها ثم سار إلى بوشنج وقبض على الحسين بن علي بن طاهر بن الحسين، وبعث إليه محمد بن طاهر بن عبد الله شافعا فيه فأبى من إطلاقه، ثم ولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع إلى سجستان وكان بها عبد الله السخريّ [1] ينازعه. فلما قوي عليه يعقوب فر منه إلى خراسان وحاصر محمد بن طاهر في نيسابور، ورجع إليه الفقهاء فأصلحوا بينه وبين محمد، وولّاه الطبسين وقهستان، وأرسل يعقوب في طلبه فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه، ونزل يعقوب بظاهرها، فبعث محمد بعمومته وأهل بيته فتلقوه. ثم خرج إليه فوبّخه على التفريط في عمله وقبض عليه وعلى أهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها، وأرسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره، وغلبه العلويّ على طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما بيده وإلا سلك به سبيل المخالفين وذلك سنة تسع وخمسين. وقيل في ملكه نيسابور غير ذلك وهو أن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز والإدبار، فكاتب بعض قرابته يعقوب بن الصفّار واستدعوه، فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحية موريا بقصد الحسن ابن زيد في طبرستان، وأن المعتمد أمره بذلك، وأنه لا يعرض شيئا من أعمال خراسان. وبعث بعض قوّاده عينا عليه يمنعه من البراح عن نيسابور، وجاء بعده وقدّم أخاه عمرا إلى محمد بن طاهر فقبض عليه وعنّفه على الأعمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته نحو من مائة وستين رجلا، وحملهم جميعا إلى سجستان واستولى على خراسان، ووثب نوّابه في سائر أعمالها وذلك لإحدى عشرة سنة وشهرين من ولاية محمد. ولما قبض يعقوب على ابن طاهر واستولى على خراسان هرب منازعة عبد الله السخريّ إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان فبعث إليه فيه فأجاره، وسار إلى يعقوب سنة ستين وحاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم، وملك يعقوب سارية وآمل ومضى في اثر الحسين من عسكره نحو من أربعين ألفا من الرجل والظهر ونجا بعد مشقة شديدة، وكتب إلى المعتمد بذلك وكان عبد الله السخري قد هرب بعد هزيمة الحسن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: عبد الله السجزيّ. وكذلك ابن الأثير ج 7 ص 268.(3/386)
العلويّ إلى الريّ، فسار يعقوب في طلبه، وكتب إلى عامل الريّ يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه، فبعث به إليه وقتله ورجع إلى سجستان.
استيلاء الحسن بن زيد على جرجان
ولما هرب الحسن بن زيد أمام مفلح من طبرستان، ورجع مفلح اعتزم الحسن على الرجوع إلى جرجان، فبعث محمد بن طاهر إليها العساكر لحفظها فلم يغنوا عنها، وجاء الحسن فملكها وضعف أمر ابن طاهر في خراسان، وانتقض عليه كثير من أعمالها وظهر المتغلّبون في نواحيها وعاث السراة من الخوارج في أعمالها ولم يقدر على دفعهم، وآل ذلك إلى تغلّب الصفّار على ابن طاهر وانتزاع خراسان من يده كما ذكرنا [1] .
فتنة الموصل
كان المعتمد قد ولّى على الموصل أساتكين من قوّاد الأتراك فبعث عليها هو ابنه اذكرتكين [2] وسار إليها في جمادى سنة تسع وخمسين، فأساء السيرة وأظهر المنكر وعسف بالناس في طلب الخوارج، وتعرّض بعض الأيام رجل من حاشيته إلى امرأة في الطريق وتخلّصها من يده بعض الصالحين، فأحضره أذكوتكين وضربه ضربا شديدا، فاجتمع وجوه البلد وتآمروا في رفع أمرهم إلى المعتمد، فركب إليهم ليوقع بهم فقاتلوه وأخرجوه واجتمعوا على يحيى بن سليمان، وولّوه أمرهم، ولما كانت سنة إحدى وستين ولّى أستاكين عليها الهيثم بن عبد الله بن العمد الثعلبي العدوي [3] وأمره أن يزحف لحربهم ففعل، وقاتلوه أياما وكثرت القتلى بينهم، ورجع عنهم الهيثم وولّى أستاكين مكانه إسحاق بن أيوب الثعلبي [4] جدّ بني حمدان وغيره،
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 11 ص 260: «وذكر أنه- أي يعقوب الليث- كتب إلى السلطان كتابا يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من جرجان إلى طحيس فافتتحها ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد القناطر ورفع المعابر وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية متحصنا بأودية عظام، وقد مالأه خرشاد بن جيلا وصاحب الديلم فزحف باقتدار فيمن جمع اليه من الطبرية والديالمة والخراسانية والقمية والجبلية والشامية والجزرية فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة، وأسرت سبعين من الطالبيين وذلك في رجب وسار الحسن بن زيد إلى الشرر ومعه الديلم» .
[2] اذكوتكين: ابن الأثير ج 7 ص 269.
[3] الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي ثم العدوي: ابن الأثير ج 7 ص 270.
[4] التغلبي: المرجع السابق.(3/387)
وحاصرها مدّة ومرض يحيى بن سليمان الأمير وفي أثنائها، فطمع إسحاق في البلد وجدّ في الحصار، واقتحمها من بعض الجهات فأخرجوه، وحملوا يحيى بن سليمان في قبّة وألقوه أمام الصفّ، واشتدّ القتال ولم يزل إسحاق يراسلهم ويعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيم بالربض فأقام أسبوعا، ثم حدثت ممن بايعه بعض الفعلات فوثبوا به وأخرجوه، واستقرّ يحيى بن سليمان بالموصل.
حروب ابن واصل بفارس
قد تقدّم لنا وثوب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي بالحرث بن سيما عامل فارس وتغلبه عليها سنة ست وخمسين، فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف فارس إلى عبد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وأمدّه بطاشتمر، وزحفوا من الأهواز إلى ابن واصل سنة إحدى وستين، فسار معهم من فارس ومعه أبو داود العلوس [1] ولقيهم برام هرمز فهزمهم وقتل طاشتمر وأسر ابن مفلح وغنم عسكرهم. وبعث إليه المعتمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خفية، وسار لحرب موسى بن بغا بواسط، وانتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما في جموع كثيرة. ولما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد من ولايتها فأعفاه، وكان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد ولّى مكانه بالساج وأمره بمحاربة الزنج، فبعث صهره عبد الرحمن لذلك، فلقيه عليّ بن أبان قائد الزنج، فهزمه عليّ وقتله، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، وملك الزنج الأهواز فعاثوا فيها. ثم عزل أبو الساج عن ذلك وولّى مكانه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغا عن الأعمال كلها، ولما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل عبد الرحمن بن مفلح وقتله طمع يعقوب الصفّار في ملك فارس، فسار من سجستان مجدّا، ورجع ابن واصل من الأهواز وترك محاربة ابن سيما، وأرسل خاله أبا بلال مرداس إلى الصفّار، وراجعه بالكتب والرسل بحبس ابن واصل رسله، ورحل بعد السير ليفجأه [2] على بغتة، وشعر به الصفّار فقال لخاله مرداس: إنّ صاحبك قد غدر بنا! وسار إليهم وقد أعيوا وتعبوا من شدّة السير ومات أكثرهم عطشا. فلما تراءى الجمعان انهزم ابن واصل دون قتال، وغنم الصفّار ما في عسكره وما كان لابن مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العمّال وأوقع بأهل زمّ لأعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها.
__________
[1] ابو داود الصعلوك: ابن الأثير ج 7 ص 275.
[2] لعلها ليفاجئه.(3/388)
مبدأ دولة بني سامان وراء النهر
كان جدّهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها وينتسبون في الفرس تارة وإلى سامة بن لؤيّ بن غالب أخرى، وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد ويحيى وإلياس. وتقدّموا عند المأمون أيام ولايته خراسان واستعملهم، ولما انصرف المأمون إلى العراق ولىّ على خراسان غسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن سهل، فولّى نوحا منهم على سمرقند وأحمد على فرغانة ويحيى على الشاش وأشروسنة وإلياس على هراة. فلما ولي طاهر بن الحسين بعده أقرّهم على أعمالهم ثم مات نوح بن أسد فأقر إخوته يحيى وأحمد على عمله، وكان حسن السيرة ومات إلياس بهراة، فولّى عبد الله ابن طاهر مكانه ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس، وكان لأحمد بن أسد من البنين سبعة: نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد وكنيته أبو الأشعث وحميد وكنيته أبو غانم. فلما توفي أحمد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند وما إليها، وأقام إلى انقراض أيام بني طاهر وبعدهم، وكان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أيام بني طاهر. واستولى الصفّار على خراسان فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة إحدى وستين، ولما ملك يعقوب الصفّار خراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شطّ جيحون مسلحة من الصفّار، فقتلوا مقدّمهم ورجعوا إلى بخارى، وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها، فولّوا عليهم ثم عزلوا ثم ولّوا ثم عزلوا، فبعث نصر أخاه إسماعيل لضبط بخارى. ثم ولي خراسان بعد ذلك رافع بن هرثمة بدعوة بني طاهر، وغلب الصفّار عليها، وحصلت بينه وبين إسماعيل صاحب بخارى موالاة اتفقا فيها على التعاون والتعاضد، وطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم، فولّاه إيّاها، وفسد ما بين إسماعيل وأخيه نصر، وزحف نصر إليه سنة اثنتين وسبعين، واستجاش إسماعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مددا، ووصل إلى بخارى، ثم أوقع الصلح بينه وبين أخيه خوفا على نفسه، وانصرف رافع ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسماعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيل وقبّل يده وردّه إلى كرسي إمارته بسمرقند، وأقام نائبا عنه ببخارى، وكان إسماعيل خيرا مكرّما لأهل العلم والدين.(3/389)
مسير الموفق إلى البصرة لحرب الزنج وولاية العهد
ولما استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقيّة عزم المعتمد على تجهيز أخيه أبي أحمد الموفق، فجلس في دار العامّة وأحضر الناس على طبقاتهم، وذلك في شوّال من سنة إحدى وستين وعقد لابنه جعفر العهد من بعده، ولقّبه المفوّض إلى الله، وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ونهر تصدق، وعقد لأخيه أبي أحمد العهد بعده ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه المشرق وبغداد وسواد الكوفة وطريق مكّة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والريّ وزنجان والسند. وعقد لكل واحد منهما لواءين أبيض وأسود، وشرط أنه إن مات وجعفر لم يبلغ بتقدّم الموفق عليه، ويكون هو بعده وأخذت البيعة بذلك على الناس، وعقد جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب، واستوزر صاعد بن مخلد، ثم نكبه سنة اثنتين وسبعين، واستصفاه واستكتب مكانه الصّفر إسماعيل بن بابل، وأمر المعتمد أخاه الموفق بالمسير لحرب الزنج، فبعثه في مقدّمته واعتزم على المسير بعده.
وقعة الصفار والموفق
لما كان يعقوب الصفّار ملك فارس من يد واصل وخراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه صرّح المعتمد بأنه لم يولّه ولا فعل ما فعل باذنه، وبعث ذلك مع حاج خراسان وطبرستان. ثم سار إلى الأهواز يريد لقاء المعتمد، وذلك سنة اثنتين وسبعين فأرسل إليه المعتمد إسماعيل بن إسحاق وفهواج [1] من قوّاد الأتراك ليردّوه على ذلك وبعث معهما من كان في حبسه من أصحابه الذين حبسوا عند ما قبض على محمد بن طاهر، وعاد إسماعيل من عند الصفّار بعزمه على الموصل، فتأخر الموفق لذلك عن المسير لحرب الزنج. ووصل مع إسماعيل من عند الصفّار حاجبه درهم يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان والريّ وفارس، والشرطة ببغداد، فولاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى ما بيده من سجستان وكرمان، وأعاد حاجبه إليه بذلك ومعه عمر بن سيما فكتب يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد. وارتحل من عسكر مكرم حاما وسار إليه أبو
__________
[1] بفراج: ابن الأثير ج 7 ص 290.(3/390)
الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته، فأكرمه ووصله وسار إلى بغداد. ونهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانيّة وأخاه مسرور البلخي، فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفّق، وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تراجعوا واشتدّت الحرب وجاء إلى الموفق محمد بن أوس والدارانيّ مددا من المعتمد، وفشل أصحاب الصفّار لمّا رأوا مدد الخليفة فانهزموا، وخرج الصفّار وأتبعهم أصحاب الموفق وغنموا من عسكره نحوا من عشرة آلاف من الظهر، ومن الأموال ما يؤد حمله. وكان محمد بن طاهر معتقلا معه في العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلّص ذلك اليوم وجاء إلى الموفّق وخلع عليه وولّاه الشرطة ببغداد، وسار الصفّار إلى خوزستان فنزل جنديسابور، وأرسله صاحب الزنج يحثّه على الرجوع ويعده المساعدة، فكتب إليه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ 109: 1- 2 (السورة) . وكان ابن واصل قد خالف الصفّار إلى فارس وملكها، فكتب إليه المعتمد بولايتها، وبعث الصفّار إليه جيشا مع عمر بن السري من قوّاده، فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط واعتزم الموفّق على اتباع الصفّار، فقعد به المرض عن ذلك، وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخيّ سار بعد موسى وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد.
سياقة أخبار الزنج
قد ذكر أنّ مسرورا البلخي سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنج، ثم سار مسرور للقاء المعتمد وحضر الموفق حرب الصفّار، وبلغ صاحب الزنج جاءوا تلك النواحي من العساكر، فبعث سراياه فيها للنهب والحرق والتخريب في بعث سليمان بن جامع إلى البطيحة، وسليمان بن موسى إلى القادسية. وجاء أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج، فأخذ عليه سليمان بن موسى وقاتله شهرا حتى تخلّص وانحاز إلى سليمان بن جامع، وبعث إليهما الخبيث بالمدد، وكان مسرور قد بعث قبل مسيره من واسط جندا في البحر إلى سليمان فهزمهم وأوقع بهم وقتل أسراهم، ونزل بقرّة مروان قريبا من يعقوب متحصّنا بالغياض والأغوار. وزحف إليه قائدان من بغداد وهما أغرتمش وحشيش في العساكر برّا وبحرا وأمر سليمان أصحابه بالاختفاء في تلك(3/391)
الغياض حتى يسمعوا أصوات الطبول. وأقبل أغرتمش ونهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه وشاغلوهم، وسار سليمان من خلفهم وضرب طبوله وعبروا إليهم في الماء، فانهزم أصحاب أغرتمش وظهر ما كان مختفيا، وقتل حشيش، واتبعوهم إلى العسكر وغنموا منه، وأخذوا من القطع البحرية، ثم استردّها أغرتمش من أيديهم، وعاد سليمان ظافرا وبعث برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه، فبعث به إلى عليّ بن أبان في نواحي الأهواز. وكان مسرور البلخي قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة، فنزل السوس وكان صاحب الأهواز من قبل الصفّار يكاتب صاحب الزنج ويداريه، ويطلب له الولاية عنه، فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان، واجتمعا بتستر. ولما رأى أحمد تظافرهما رجع إلى السوس، وكان علي بن أبان يروم خطبة محمد له بعمله، فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد والصفّار ولم يذكر الخبيث، فغضب عليّ وسار إلى الأهواز. وجاء أحمد بن كيتونة إلى تستر، فأوقع بمحمد بن عبد الله وتحصّن منه بتستر. وأقبل علي بن أبان إليه فاقتتلا واشتدّ القتال بينهما، وانهزم علي بن أبان وقتل جماعة من أصحابه، ونجا بنفسه جريحا في الساريات بالنهر، وعاد إلى الأهواز. وسار منها إلى عسكر الخبيث، واستخلف على عسكره بالأهواز حتى داوى جراحة ورجع. ثم بعث أخاه الخليل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله، وقد أكمن لهم فانهزموا، وقتل من الزنج خلق ورجع المنهزمون إلى علي بن أبان، وبعث مسلحة إلى السرقان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن كيتونة، وقتلهم الزنج جميعا فحظي عنده بذلك وبعث في أثر إبراهيم من قتله في سرخس. ولما أراد الصفّار العود إلى سجستان ولّى على نيسابور عزيز بن السري، وعلى هراة أخاه عمرو بن الليث، فاستخلف عمر وعليها طاهر بن حفص الباذغيسي وسار إلى سجستان سنة إحدى وستين، فجاء الخبيث إلى أخيه عليّ وزيّن له أن يقيم نائبا عنه في أموره بخراسان، وطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له. ولما ارتحلوا جمع جمعا وحارب عليّا فأخرجه من بلده. ثم غلب عزيز بن السري على نيسابور وملكها أوّل اثنتين وستين، وقام بدعوة بني طاهر. واستقدم رافع بن هرثمة من رجالاتهم فجعله صاحب جيشه، وكتب إلى يعمر بن سركب وهو يحاصر بلخ يستقدمه، فلم يثق إليه، وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص، وقتله وزحف إليه أحمد وكانت بينهما مواساة، ثم داخل بعض قوّاد أحمد الخجستاني في(3/392)
الغدر بيعمر على أن يمكنه من أخيه أبي طلحة، فكلف ذلك القائد به فتمّ ذلك، وكبسهم أحمد وقبض على يعمر وبعثه إلى نائبة بنيسابور فقتله، وقتل أبا طلحة القائد الّذي غدر بأخيه. وسار إلى نيسابور في جماعة، فلقي بها الحسين بن طاهر مردودا من أصبهان طمعا أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب، فخطب له أبو طلحة وأقام معه بنيسابور، فسار إليهما الخجستاني من هراة في اثني عشر ألفا، وقدم أخاه العبّاس فخرج إليه أبو طلحة وهزمه، فرجع أحمد إلى هراة ولم يقف على خبر أخيه، وانتدب رافع وهرثمة إلى استعلام خبره واستأمن إلى أبي طلحة فأمّنه ووثق إليه، وبعث رافع إلى أحمد بخبر أخيه العبّاس، ثم أنفذه طاهر إلى بيهق لجباية مالها، وضمّ معه قائدين لذلك، فجبى المال وقبض على القائدين وانتقض. وسار إلى الخجستاني ونزل في طريقه بقرية وبها عليّ بن يحي الخارجيّ، فنزل ناحية عنه، وركب ابن طاهر في أتباعه فأدركه بتلك القرية، فأوقع بالخارجيّ يظنّه رافعا ونجا رافع إلى الخجستاني. وبعث ابن طاهر إسحاق الشاربي إلى جرجان لمحاربة الحسن بن زيد والديلم منتصف ثلاث وستين فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابن طاهر، فسار إليه وكبسه إسحاق في طريقه فانهزم إلى نيسابور، واستضعفه أهلها فأخرجوه، فأقام على فرسخ منها وجمع جمعا وحاربهم، ثم كتب على أهل نيسابور إلى إسحاق باستدعائه ومساعدته على ابن طاهر وأبي طلحة، وكتب إلى أهل نيسابور عن إسحاق بالمواعدة. وسار إسحاق أبو محمد في قلّة من الجند، فاعترضه أبو طلحة وقتله وحاصر نيسابور، فاستقدموا الخجستاني من هراة وأدخلوه. وسار أبو طلحة إلى الحسن بن زيد مستنجدا فأنجده ولم يظفر، وعاد إلى بلخ وحاصرها سنة خمس وستين، وخرج للخجستاني من نيسابور به، وحاربه الحسن بن زيد لما عدته أبا طلحة. وجاء أهل جرجان مددا للحسن، فهزمهم الخجستاني وأغرمهم أربعة آلاف ألف درهم. ثم جاء عمرو بن الليث إلى هراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفّار وعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور، وسار إليه عمرو من هراة فاقتتلا وانهزم عمرو ورجع إلى هراة، وأقام أحمد بنيسابور. وكانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إياه، فأوقع الخجستاني بينهم الفتنة ليشغلهم بها، ثم سار إلى هراة سنة سبع وستين وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء، فسار نحو سجستان وترك نائبة بنيسابور، فأساء السيرة وقوي أهل الفساد، فوثب به أهل نيسابور(3/393)
واستعانوا بعمرو بن الليث وبعث إليهم جندا يقبض على نائب الخجستاني وأقاموا بها، ورجع من سجستان فأخرجهم وملكها، وأقام إلى تمام سبع وستين، وكاتب عمرو أبا طلحة وهو يحاصر بلخ فقدم عليه وأعطاه أموالا واستخلفه بخراسان، وسار إلى سجستان، وسار أحمد إلى سرخس ولقيه أبو طلحة فهزمه أحمد ولحق بسجستان، وأقام أحمد بطخارستان. ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخجستاني وعياله، وجاء أحمد من طخارستان إلى نيسابور وأقام بها. ثم تبين لابن طاهر أنّ الخجستاني إنما يروم لنفسه وليس على ما يدّعيه من القيام بأمرهم وكان على خوارزم أحمد بن محمد بن طاهر فبعث قائده أبا العبّاس النوفلي إلى نيسابور في خمسة آلاف مقاتل، وخرج أحمد أمامهم وأقام قريبا منهم وأفحش النوفليّ في القتل والضرب والتشويه، وبعث إليه الخجستاني فنهاه عن مثل ذلك فضرب الرسل، فلحق أهل نيسابور بالخجستاني واستدعوه وجاءوا به وقبض على النوفليّ وقتله. ثم بلغه أنّ إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن طاهر بمرو، فسار إليه من أسورد في يوم وليلة وقبض عليه وولّى عليها موسى البلخيّ، ثم وافاها الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليه نحو عشرين ألف درهم، وكان الخجستاني لما بلغه أخذ والدته من نيسابور وهو بطخارستان سار مجدّا، فلما بلغ هراة أتاه غلام لأبي طلحة مستأمنا فأمّنه وقرّبه، فغص به وغلامه الخالصة عنده والجنود، وطلب الفرصة في قتل الخجستاني، وكان قد غور ساقية قطلغ، فاتفقا على قتله فقتلاه في شوّال سنة ثمان وستين. وأنفذ دامجور خاتمه إلى الإسطبل مع جماعة فركبوا الدواب وساروا بالخبر إلى أبي طلحة ليستقدموه، وأبطأ ظهوره على القوّاد فدخلوا فوجدوه قتيلا، وأخبرهم صاحب الإسطبل بخبر الخاتم والدواب، وطلبوا دامجور فلم يجدوه، ثم عثروا عليه بعد أيام فقتلوه، واجتمعوا على رافع بن هرثمة وكان من خبره ما نذكره.
استيلاء الصفّار على الأهواز
ثم سار يعقوب الصفّار من فارس إلى الأهواز وأحمد بن كيتونة قائد مسرور البلخيّ على الأهواز مقيم على تستر فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور، ففرّ كل من كان في تلك النواحي من عساكر السلطان، وبعث إلى الأهواز من أصحابه الخضر بن(3/394)
المعير [1] ، فأفرج عنها عليّ بن أبان والزنج ونزلوا السّدرة ودخل خضر الأهواز، وأقام أصحاب الخضر وابن أبان يغير بعضهم على بعض. ثم فرّ ابن أبان وسار إلى الأهواز فأوقع بالخضر وفتك في أصحابه وغنم، ولحق الخضر بعسكر مكرم، واستخرج ابن أبان ما كان بالأهواز ورجع إلى نهر السّدرة. وبعث يعقوب إلى الخضر مددا وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز، فأبى ابن أبان من ذلك إلا أن ينقل طعاما ما كان هناك فنقله وتوادعوا.
استيلاء الزنج على واسط
قد تقدّم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع، وظفر سليمان به فلما انقضى أمره سار سليمان إلى صاحب الخبيث ومرّ في طريقه بعسكر تكين البخاريّ وهو ببردود [2] ، فلما حاذاه قريبا أشار عليه الجناني [3] أن يغير على العسكر في البحر ويستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل وجاء مستطردا وقد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن. وركب سليمان إليهم وعطف الجناني على من في النهر وخرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا فيهم إلى معسكرهم، ثم بيّتوهم ليلا فنالوا منهم، وانكشف سليمان قليلا، ثم عبر أصحابه وأتاهم من وجوه عديدة برّا وبحرا، فانهزم تكين وغنم الزنج عسكره. ثم استخلف سليمان على عسكره الجناني وسار إلى صاحب الخبيث سنة ثلاث وستين. ومضى الجناني بالعسكر لطلب الميرة فاعترضه جعلان من قوّاد السلطان وهزمه وأخذ سيفه [4] . ثم زحف منجور ومحمد بن علي بن حبيب من القوّاد وبلغ الحجّاجيّة فرجع سليمان مجدّا إلى طهثا يريد جعلان وفي مقدمته الجنانيّ. ثم كرّ إلى ابن خبيث فهزمه وقتل أخاه وغنم ما معه. ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان فأوقع بالقائد هناك جيش ابن خمار تكين وهزمه ونهب القرية وأحرقها. ثم بعث العساكر في الجهات للنهب برّا وبحرا، واعترض جعلان بعضهم فأوقع بهم، ثم سار سليمان إلى الرّصافة فأوقع بالقائد بها واستباحها وغنم ما فيها ورجع إلى منزله بمدينة الخبيث، وجاء مطر إلى الحجّاجيّة فعاث فيها وأسر جماعة منها كان منهم القاضي سليمان، فحمله إلى
__________
[1] الخضر بن العنبر: ابن الأثير ج 7 ص 308.
[2] بيزود: ابن الأثير ج 7 ص 313.
[3] الحياتي: المرجع السابق.
[4] سفنه: ابن الأثير ج 7 ص 314.(3/395)
واسط [1] . ثم سار إلى طهثا وكتب الجناني بذلك إلى سليمان فوافاه لاثنتين من ذي الحجّة، وجاء أحمد بن كيتونة بعد أن كان سار إلى الكوفة وجبيل [2] ، فعاد إلى البريدية [3] وصرف جعلان وضبط تلك الأعمال، وأوقع تكين بسليمان وقتل جماعة من قوّاده. ثم ولّى الموفّق على مدينة واسط محمد بن الوليد وجاءه في العساكر واستمدّ سليمان صاحبه بالخليل بن أبان في ألف وخمسمائة مقاتل، فزحف إلى ابن المولّد وهزمه واقتحم واسط بها منكجور البخاري فقاتله عامة يومه، ثم قتل ونهب البلد وأحرقها وانصرف سليمان إلى جبيل واستدعوه في نواحيها تسعين ليلة.
استيلاء ابن طولون على الشام
كان على دمشق أيام المعتمد ماجور [4] من قوّاد الأتراك، فتوفي سنة أربع وستين وقام ابنه عليّ مكانه. وتجهّز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق وكتب إلى ابن ماجور بأنّ المعتمد أقطعه الشام والثغور، فأجاب بالطاعة، وسار أحمد واستخلف على مصر ابنه العبّاس ولقيه ابن ماجور بالرملة فولّاه عليها، وسار إلى دمشق فملكها وأقرّ القوّاد على أقطاعهم. ثم سار إلى حمص فملكها ثم حماة ثم حلب، وكان على أنطاكية وطرسوس سيما الطويل من قوّاد الأتراك، فبعث إليه ابن طولون بالطاعة وأن يقرّه على ولايته فامتنع، فسار إليه ودلّوه على عورة في سور البلد نصب عليها المجانيق، وقاتله فملكها عنوة وقتل سيما في الحرب، فسار ثم قصد طرسوس فدخلها واعتزم على المقام بها ويريد الغزو. وشكا أهلها غلاء السعر وسألوه الرحيل فرحل عنهم إلى الشام، ومضى إلى حرّان وبها محمد بن أتامش فحاربه وهزمه، واستولى عليها. ثم جاءه الخبر بانتقاض ابنه العبّاس بمصر وأنه أخذ الأموال وسار إلى برقة فلم يكترث لذلك، وأصلح أحوال الشام وأنزل بحرّان عسكرا، وولّى مولاه لؤلؤا على الرقّة وأنزل معه عسكرا، وبلغ موسى بن أتامش خبر أخيه محمد فجمع العساكر وسار نحو
__________
[1] «وأسر جماعة وكان بها قاض لسليمان فأسره مطر وحمله إلى واسط» المرجع السابق ص 315.
[2] جنبلاء: المرجع السابق.
[3] الشديدية: المرجع السابق.
[4] أماجور: ابن الأثير ج 7 ص 316.(3/396)
جرجان [1] وبها أحمد بن جيفونة [2] من قوّاد ابن طولون فأهمل مسيره وقال له بعض الأعراب واسمه أبو الأعز [3] : لا يهمك أمره فإنه طيّاش قلق وأنا آتيك به! فقال:
افعل وزاده عشرين رجلا، وسار إلى عسكر موسى بن أتامش، فأكمن بعض أصحابه ودخل العسكر بالباقي على زيّ الأعراب وقصد الخيل المرتبطة عند خيام ابن موسى فأطلقها وصاحوا فيها فنفرت واهتاج العسكر وركبوا واستطرد لهم أبو الأعز حتى جاوز الكمين وموسى في أوائلهم، فخرج الكمين وانهزم أصحاب موسى من ورائه، وعطف عليه أبو الأعز فأخذه أسيرا وجاء به إلى ابن جيفونة، وبعث به إلى ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وذلك سنة ست وستين.
(ومن أخبار الزنج) أنّ سليمان احتفر نهرا يمرّ إلى سواد الكوفة ليتهيأ له الغارة على تلك النواحي وكان أحمد بن كيتونة [4] فكبسهم وهم يعلمون، وقد جمّروا عساكرهم لذلك فأوقع بهم وقتل منهم نحوا من أربعين قائدا وأحرق سفنهم، ورجع سليمان مهزوما إلى طهتا. ثم عدّت عساكر الزنج النعمانيّة واستباحوها وصار أهلها الى جرجرايا وأحفل أهل السواد إلى بغداد، وزحف عليّ بن أبان بعسكر الزنج إلى تستر فحاصرها وأشرف على أخذها. وكان الموفّق استعمل على كور الأهواز مسرورا البلخيّ فولّى عليها تكين البخاريّ فسار إليها ووافاها أهل تستر في تلك الحال فأغزى عليّ ابن أبان وهزمه وقتل من الزنج خلقا ونزل تستر. وبعث ابن أبان جماعة من قوّاد الزنج ليقيموا بقنطرة فارس، وجاء عين بخبرهم إلى تكين فكبسهم وهزمهم وقتل منهم جماعة. وسار ابن أبان فانهزم أمامه، وكتب ابن أبان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء واتهمه مسرور فسار وقبض عليه وحبسه عند عجلان بن أبان، وفرّ منه أصحابه وطائفة إلى الزنج وطائفة إلى محمد بن عبد الله الكرخيّ ثم أمّن الباقين فرجعوا إليه.
موت يعقوب الصفار وولاية عمر وأخيه
وفي سنة خمس وستين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفّار وقد كان افتتح
__________
[1] حسب مقتضى السياق ينبغي ان تكون حرّان، راجع ابن الأثير ج 7 ص 318.
[2] احمد بن جيعويه: المرجع السابق.
[3] ابو الأغر: المرجع السابق.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 322: «أحمد بن ليثويه، وهو عامل الموفّق بجنبلاء» .(3/397)
الرحج [1] وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده، وكانت مملكة واسعة الحدود وافتتح زابلستان وهي غزنة، وكان المعتمد قد استماله وقلّده أعمال فارس، ولما مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى المعتمد بطاعته، فولاه الموفّق من قبله ما كان له من الأعمال، خراسان وأصبهان والسّند وسجستان والشرطة ببغداد وسرمن رأى وقبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وخلع الموفّق عمرو بن الليث وولّى على أصبهان من قبله أحمد بن عبد العزيز.
أخبار الزنج مع أغرتمش
قد كان تقدّم لنا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين وجعلان ومطر ابن جامع وأحمد بن كيتونة واستيلاؤه على مدينة واسط، ثم ولي أغرتمش مكان تكين البخاري ما يتولاه من أعمال الأهواز فدخل تستر في رمضان ومعه مطر بن جامع، وقتل جماعة من أصحاب أبان كانوا مأسورين بها. ثم سار إلى عسكر مكرم، ووافاه هناك عليّ ابن أبان والزنج، فاقتتلوا ثم تجازوا لكثرة الزنج، ورجع عليّ إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن أبان ليعبروا إليه من قنطرة اربل [2] وجاءه أخوه عليّ وخاف أصحابه المخلّفون بالأهواز، فارتحلوا إلى نهر السروة [3] وتحارب عليّ وأغرتمش يوما ثم رجع عليّ إلى الأهواز ولم يجد أصحابه، فبعث من يردّهم إليه فلم يرجعوا. وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد.
وجاء المدد لابن أبان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه. ثم بعث محمد بن عبيد الله إلى أبكلاى [4] ابن الخبيث في أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه، وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه، وهرب محمد من رامهرمز إلى أقصى معاقلة، ودخل عليّ والزنج رامهرمز وغنموا ما فيها. ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم، وترك أعماله. ثم استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد على أنّ لعليّ غنائمهم، فاستخلف عليّ على ذلك مجلز وطلب منه الرهن فمطل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى الأكراد. فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج
__________
[1] الرخّج كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 326.
[2] قنطرة أربك: ابن الأثير ج 7 ص 329.
[3] نهر السدرة: المرجع السابق.
[4] انكلاي: المرجع السابق.(3/398)
وأثخن الأكراد فيهم، وبعث عليّ من يعترضهم فاستلبوهم وكتب عليّ إلى محمد يتهدّده فاعتذر وردّ عليهم كثيرا من أسلابهم، وخشي من الخبيث وبعث إلى أصحابه مالا ليسألوه في الرضا عنه، فأجابهم إلى ذلك على أن يقيم دعوته في أعماله ففعل كذلك. ثم سار ابن أبان لحصار موتة [1] واستكثر من آلات الحصار، وعلم بذلك مسرور البلخي وهو بكور الأهواز، فسار إليه ووافاه عليها، فانهزم ابن أبان وترك ما كان حمله هناك، وقتل من الزنج خلق وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم.
استرجاع ابن الموفق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة
لما دخل الزنج واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث الموفّق ابنه أبا العبّاس، وهو الّذي وليّ الخلافة بعد المعتمد ولقّب المعتضد، فبعثه أبوه بين يديه في ربيع سنة ست وستين في عشرة آلاف من الخيل والرجال. وركب لتشييعه وبعث معه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصر، فسار حتى وافى الخيل والرجل والسفن النهرية، وعلى مقدّمته الجناني [2] وانهم نزلوا الجزيرة قريبا من بردرويا، وجاءهم سليمان بن موسى الشعراني مددا بمثل ذلك وأنّ الزنج اختلفوا في الاحتشاد، ونزلوا من السفح إلى أسفل واسط ينتهزون الفرصة في ابن الموفّق لما يظنون من قلّة دراسيته بالحرب، فركب أبو العباس لاستعلام أمرهم ووافى نصيرا، فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أوّلا، ثم كرّ في وجوههم وصاح بنصير فرجع، وركب أبو العبّاس السفن النهرية فهزم الزنج وأثخن فيهم واتبعهم ستة فراسخ، وغنم من سعيهم وكان ذلك أوّل الفتح. ورجع سليمان بن جامع إلى نهر الأمين [3] وسليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس، وأبو العبّاس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال ويراوحهم. ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه، وركب في السفن النهرية وبرز إليه نصير في سفنه، وركب معه أبو العبّاس في خاصّته، وأمر الجند بمحاذاته من الشطّ، ونشب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج وغنمت سفنهم، وأفلت سليمان والجناني من
__________
[1] مثّوث: المرجع السابق.
[2] الجناتي وقد مر ذكره من قبل.
[3] نهر الأمير: ابن الأثير ج 7 ص 339.(3/399)
الهلكة، وبلغوا طهتا، ورجع أبو العبّاس إلى معسكره وأمر بإصلاح السفن المغنومة، وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار وغطوها، فوقع بعض الفرسان فيها، فعدل جند السلطان عن ذلك الطريق. وأمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العبّاس وغنموا بعضها، وركب في اتباعهم واستنقذ سفنهم وغنم من سفنهم نحوا من ثلاثين، وجدّ في قتالهم وتحصّن ابن جامع بطهتا، وسمّى مدينته المنصورة. والشعراني بسوق الخميس وسمّى مدينته المنيعة. وكان أبو العبّاس يغير على الميرة التي تأتيهم من سائر النواحي، وركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعراني التي سمّاها المنيعة، وركب نصير في النهر، وافترقوا في مسيرهم واعترضت أبا العبّاس جماعة من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه مقدار نهاره، وأشاعوا قتل نصير، وخالفهم نصير إلى المدينة فأثخن فيها وأضرموا النار في بيوتها. وجاء الخبر بذلك إلى أبي العبّاس بسبرة. ثم جاء نصير ومعه أسرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم، ورجع أبو العبّاس إلى عسكره وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العبّاس.
وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة والمنصورة
كان الموفّق لما بعث ابنه أبا العبّاس لحرب الزنج تأخر لإمداده بالحشود والعدد وإزاحة علله ومسارقة أحواله، فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأوّل من سنة سبع وستين، ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال، ورجع إلى عسكره. ونزل الموفّق على نهر شدّاد ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور [1] فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس، سار إليها في النهر ونادى بالمقامة، ولقيه الزنج فحاربوه، ثم جاء الموفّق فانهزموا واتبعهم أصحاب أبي العبّاس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقا وأسروا آخرين، وهرب الشعراني، واختفى في الآجام آخرون. ورجع الموفّق إلى عسكره وقد استنقذ من المسلمات نحو خمس عشرة امرأة [2] ، ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها وهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما بقي من
__________
[1] هكذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 344: «وامر ابنه ان يسير بما معه من آلات الحرب الى فوهه نهر مساور» .
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 344: خمسة آلاف امرأة.(3/400)
السفن فيها، وببعث الأقوات التي أخذت، فكانت لا حدّ لها، فصرفت في الجند.
وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني، وجاءت العيون إلى الموفّق أنّ ابن جامع بالحوانيت، فسار إلى الضبيّة [1] وأمر ابنه بالسير في النهر إلى الحوانيت، فلم يلق ابن جامع بها، ووجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلّات، ولحق بمدينته المنصورة بطهتا، فقاتل ذلك الجند ورجع إلى أبيه بالخبر فأمره بالمسير إليه، وسار على أثره برّا وبحرا حتى نزلوا على ميلين من طهتا. وركب لبيوني مقاعد القتال على المنصور [2] فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه.
ورمى أبو العبّاس بن الموفّق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته [3] ، ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن في البحر الّذي يصل إلى المنصورة، ثم صلّى وابتهل بالدعاء، وقدّم ابنه أبا العبّاس إلى السور، واعترضه الجند فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا منهزمين إلى الخنادق وراءه، فقاتلوه عندها واقتحمها عليهم كلّها، ودخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا، وأجلوهم عن المدينة وما اتصل بها، وهو مقدار فرسخ وملكه الموفق، وأفلت ابن جامع في نفر من أصحابه، وبلغ الطلّاب في أثره إلى دجلة، وكثر القتل في الزنج والأسر، واستنقذ العبّاس من نساء الكوفة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف [4] وأعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدّة. ولما جاء جماعة من الزنج إلى الآجام اختفوا، فأمر بطلبهم وهدم سور المدينة وطمّ خنادقها وأقام سبعة عشر يوما في ذلك ثم رجع إلى واسط.
حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها
ثم إنّ الموفق عرض عساكره وأزاح عللهم، وسار ومعه ابنه أبو العبّاس إلى مدينة
__________
[1] الصينيّة: المرجع السابق.
[2] المعنى غير واضح وما يذكره ابن الأثير ج 7 ص 346: «ومطرت السماء مطرا شديدا، فشغل (أبو العباس) عن القتال، ثم ركب لينظر موضعا للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثا، وهي التي سمّاها المنصورة، فتلقّاه خلق كثير، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتّى، واشتدت الحرب، وترجّل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الّذي كانوا فيه، وأسروا من غلمان الموفّق جماعة.»
[3] اي أوهن موته الزنج.
[4] عشرين الفا عند ابن الأثير ج 7 ص 347.(3/401)
الخبيث، فأشرف عليها ورأى من حصانتها بالأسوار والخنادق ووعر الطرق، وما أعد من الآلات للحصار ومن كثرة المقاتلة ما استعظمه، ولما عاين الزنج عساكر الموفّق دهشوا. وقدّم ابنه العبّاس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق والمقاليع والأيدي، ورأوا من صبره وأصحابه ما لم يحتسبوه، ثم رجعوا وتبعهم مستأمنة من المقاتلة والملّاحين نزعوا إلى الموفّق، فقبلهم وأحسن إليهم، فتتابع المستأمنون في النهر فوكّل الخبيث بفوهة النهر من معهم، وتعبّى أهل السفن للحرب مع بهبود قائد الخبيث، فزحف إليه أبو العبّاس في السفن وهزمه، وقتل الكثير من أصحابه ورجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهرية وكثير من المقاتلة فأمّنهم وأقام شهرا لم يقاتلهم. ثم عبّى عساكره منتصف شعبان في البرّ والبحر وكانوا نحوا من خمسين ألفا، وكان الزنج في نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، فأشرف عليهم ونادى بالأمان إلا للخبيث، ورمى بالرقاع في السهام بالأمان، فجاء كثير منهم ولم يكن حرب. ثم رحل من مكانه ونزل قريبا من المختارة، ورتّب المنازل من إنشاء السفن، وشرع في اختطاط مدينة لنزله سمّاها الموفّقيّة. فأكمل بناءها وشيّد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها وأغب الحرب شهرا فتتابعت الميرة إلى المدينة، ورحل إليها التجار بصنوف البضائع، واستجر فيها العمران ونفقت الأسواق وجلبت صنوف الأشياء.
ثم أمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بقتال من كان من الزنج خارج المختارة فقاتلهم وأثخن فيهم، فاستأمن إليه كثير منهم فأمّنهم ووصلهم، وأقام الموفّق أياما يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين، واعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة، فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار، ووكّل ابنه أبا العبّاس بحفظها، وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نصير يريدون الإيقاع به، فأوقع بهم وظفر ببعض القوّاد منهم، فقتل رشقا بالسهام، وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخر رمضان خمسين ألفا. ثم بعث الخبيث عسكرا من الزنج مع عليّ بن أبان ليأتوا من وراء الموفّق إذا ناشبهم الحرب، ونمي إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم، وحملت الأسرى والرءوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه، وظنّوا أنّ ذلك تمويه فرميت الرءوس في المجانيق حتى عرفوها، فظهر منهم الجزع وتكرّرت الحرب في السفن بين أبي العبّاس وبين الزنج، وهو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميرة عنهم، فاشتدّ الحصار عليهم وخرج كثير من وجوه أصحابه مستأمنين، مثل محمد بن الحرث(3/402)
القمّيّ وأحمد اليربوعي. وكان من أشجع رجاله القمّيّ منهم موكلا بحفظ السور فأمّنهم الموفق ووصلهم، وبعث الخبيث قائدين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البطيحة من ثلاثة وجوه، فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفّق. وبلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكرا مع مولاه، ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر، وأخذ منهم أربعمائة سفينة. ولما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها، وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قوّاده إلى الموفّق يستأمنون وان يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه، فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربي وبه عليّ بن أبان فاشتدّ الحرب وظهر أبو العبّاس على بن أبان، وأمدّه الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامّة يومهم، وكان الظفر لأبي العبّاس، وسار إليه المستأمنة الذين وأعدوه. وانصرف أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعا فيهم فتكاثروا عليه، ثم جاءه المدد من قبل أبيه فظهر عليهم. وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العبّاس من ورائه، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبي العبّاس، ورجع منهزمة الزنج فأجبت جماعة من غلمان الموفّق وعدّه من أعلامهم، وحامي أبو العبّاس عن أصحابه حتى خلصوا، وقوي الزنج بهذه الواقعة، فأجمع الموفّق العبور إلى مدينتهم بعسكره. فعبّى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجة واستكثر من المعابر والسفن وقصدوا حصن أو كان بالمدينة وفيها أنكلاي بن الخبيث وابن جامع وابن أبان وعليه المجانيق والآلات، فأمر غلمانه بالدنو منه فخاموا لاعتراض نهر الأتراك بينهم وبينه، فصاح بهم فقطعوا النهر سبحا، وتناولوا الركن بالسلاح يهدمونه، ثم صعدوا عليه وملكوه ونصبوا به علم الموفّق، وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقا عظيما، وكان أبو العبّاس يقاتلهم من الناحية الأخرى وابن أبان قبالته فهزمه، ووصل أصحاب أبي العبّاس إلى السور فثلموه ودخلوا، ولقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواقفهم. ثم توافي الفعلة فثلموا السور في مواضع، ونصبوا على الخندق جسرا عبر عليه المقاتلة، فانهزم الزنج عن السور واتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان، فملكه أصحاب الموفّق وأحرقوه، وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث، فركب من هنالك وانهزم عنه أصحابه، وأظلم الليل ورجع الموفّق بالناس، وتأخّر أبو العبّاس لحمل بعض المستأمنين في السفن، واتبعه بعض الزنج ونالوا من آخر السفن. وكان بهبود بإزاء مسرور البلخيّ فنال من أصحابه واستأمن(3/403)
بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا بذلك من عبادان والبصرة، وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعريّ فأمّنهم الموفّق وأحسن إليهم وضم ريحان إلى أبي العبّاس. وخرج في المحرّم إلى الموفّق من قوّاد الخبيث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجّان فأحسن إليه الموفّق وحمله في بعض السفن إلى قصر الخبيث، فوقف وكلّم الزنج في ذلك، وأقام الموفّق أياما استجمّ فيها أصحابه، فلما كان منتصف ربيع الثاني قصد مدينة، وفرّق القوّاد على جهاتها ومعهم النقّابون للسور ومن ورائهم الرماة يحمونهم. وتقدّم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلّا بإذنه، فوصلوا إلى السور وثلموه وحاربوا الزنج من ورائه وهزموهم، وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمس. ثم تراجع الزنج وحاربوا من المكامن فرجع أصحاب الموفق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج، ورجع الموفّق إلى مدينته، ولام أصحابه على تقدمهم بغير إذنه، ثم بلغ الموفّق أنّ بعض الأعراب من بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكرا أثخنوا فيهم قتلا وأسرا، وجيء بالأسرى فقتلهم، وأوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكلية، وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة، وبث الموفّق دعاته فيهم ومن أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميل غيرهم وتابع الموفّق وابنه قتال الزنج، وقتل بهبود بن عبد الواحد من قوّاد الخبيث في تلك الحروب، فكان قتله من أعظم الفتوح، وكان قتله في السفن البحرية ينصب فيها أعلاما كأعلام الموفّق ويخايل أطراف العسكر فيصيب منهم.
وأفلت في بعض الأيام من يد أبي العبّاس بعد أن كان حصل في قبضته، ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعا فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء، وأخذه أصحابه فمات بين أيديهم. وخلع الموفق على الغلام الّذي طعنه وعلى أهل السفينة. ولما هلك بهبود قبض الخبيث على بعض أصحابه وضربهم على ماله، فاستفسد قلوبهم، وهرب كثير منهم إلى الموفق، فوصلهم ونادى بالأمان لبقيتهم. ثم اعتزم على العبور إلى الزنج من الجانب الغربي وكانت طرقه ملتفة بالنخيل فأمر بقطعها، وأدار الخنادق على معسكره حذرا من البيات. ثم صعب على الموفق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه وما يتوجه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلّة خبرتهم بها، فصرف قصده إلى هدم أسوارهم وتوسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى، وباشر الحرب بنفسه، واشتدّ القتال وكثرت(3/404)
القتلى في الجانبين وفشت الجراح، وكانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال، ويأتون أصحاب الموفق من ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا، ثم هدم طائفة من السور ودخلوا المدينة وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه. ثم تقدّموا إلى الجامع فخرّبوه وجاءوا بمنبره إلى الموفّق بعد أن استمات الزنج دونه، فلم يغنوا به. ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح، ثم أصاب الموفّق في ذلك اليوم سهم في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع وستين، فعاد إلى عسكره. ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس. ثم لزم الفراش واضطرب العسكر، وأشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه. ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد سدّدوا ما تثلّم من الأسوار، فامر بهدمها كلّها، واتصل القتال مما يلي نهر سلمى كما كان، والزنج يظنّون أنهم لا يأتون إلا منها، فركب يوما لقتالهم وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب، فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه واستنقذوا كثيرا من الساكن فيه. ورجع الموفّق آخر يومه ظافرا. ثم بكر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن الخبيث وهي متّصلة بدار أبيه، وأشار ابن أبان بإجراء المياه على الساج وحفر الخنادق بين يدي العساكر، وأمر الموفّق بطم الخنادق والأنهار، ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع من ذلك كثرة الحماة عنه، فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب، وتطلى بالأدوية المانعة من الإحراق. ورتّب فيها أنجاد أصحابه، وباتوا على أهبة الزحف من الغد. وجاء كاتب الخبيث وهو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنا، وبكروا إلى الحرب وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بإحراق منازل القوّاد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهم عن حمايته، وقصدت السفن المطليّة قصر الخبيث فأحرقوا الرواشن والأبنية الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثر فيها. ثم حصر الماء من النهر فزحفت السفن، فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتا كانت تشرع على دجلة، واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه وتركوها وما فيها. واستولى أصحاب الموفّق على ذلك كلّه واستنقذوا جماعة من النساء، وأحرق قصر أنكلاي ابنه، وجرحا، وعاد الموفّق عشاء يومه مظفرا، ثم بكر من الغد للقتال وأمر نصيرا قائد السفن بقصد القنطرة التي كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب دون القنطرة التي كان اتخذها، وفرّق العسكر في الجهات فدخل نصير في أوّل المدّ ولصق(3/405)
بالقنطرة، واتصل الشدّ من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها، وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملّاحون أنفسهم في الماء وألقى نصير نفسه وقاتل ابن جامع ذلك اليوم أشدّ قتال. ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق، ثم خلص بعد الجهد.
وانصرف الموفّق سالما وأصابه مرض المفاصل واتّصل به إلى شعبان من سنته فأمسك في هذه المدّة عن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها، وجعل أمامها سكرا من الحجارة ليضيق المدخل على السفن، فبعث الموفّق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب، وطائفة من بحريه ومعهم الفعلة لقطع القنطرة، وجعل أمامها سفنا مملوءة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر، وفرّق جنده على القتال وساروا لما أمرهم عاشر شوّال، وتقدّموا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن أبان وابن جامع وحاموا عن القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرّة عليهم، ودامت الحرب عليها إلى العشيّ ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليها، ونقضها النجّارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب، وأضرموها نارا ووافت القنطرة فأحرقتها ووصل النجّارون بذلك إلى ما أرادوا. وسهل سبيل السفن في النهر وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون، وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ونقل أسواقه إليه وتبين ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت الأقوات وغلت حتى أكل بعضهم بعضا، وأجمع الموفّق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربي فقصد دار الهمذان وكان حصينا وعليه الآلات فلما انتهى إليها تعذّر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطت، فانهزم المقاتلة وصعد النفّاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة، ونهبوا الأثاث والمتاع. واتصل الحريق بما حولها من الدور واستأمن للموفّق جماعة من خاصة الخبيث فأمّنهم ودلّوه على سوق عظيمة متّصلة بالجسر الأوّل تسمى المباركة، وبها التجّار الذين بهم قوامهم، فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج عندها، واضرم أصحابه النار فيها فاتصلت وبقي التحريق عامّة اليوم. ثم رجع الموفّق ثم انتقل التجار بأمتعتهم وأموالهم إلى أعلى المدينة، ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي، واحتفر خندقا عريضا حصّن به منازل أصحابه على النهر الغربي. ثم خرّق الموفق باقي السور إلى النهر الغربي بعد حرب شديدة كانت(3/406)
عليه، وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع أصحابه، قد تحصّنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفّق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه برّا وبحرا وفرّقهم على سائر جهاته وجهات الخبيث، وأمدّ الخبيث الحصن بالمهلّبيّ وابن جامع، فلم يغنوا عنه وانهزموا، وتركوا الحصن في يدي أصحاب الموفّق وهزموه وقتلوا من الزنج خلقا، وخلّصوا من الحصن كثيرا من النساء والصبيان، ورجع الموفّق إلى عسكره ظافرا.
استيلاء الموفق على الجهة الغربية
ولما هدم الموفق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب، وأحرق الجسر الأوّل الّذي على نهر أبي الخصيب ليمنع من مدد بعضهم بعضا، فكان في إحراقه حرب عظيمة. وأعدّت لذلك سفينة ملئت قصبا وجعل فيها النفط، وأرسلت في قوّة المدد فتبادر الزنج إليها وغرقوها فركب الموفّق إلى فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقيّه إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربيّه وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه، وفعل مثل ذلك من الجانب الشرقي، فاحترق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن، وسجن كان هناك للخبيث. وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي واستأمن كثير من قوّاده فأمّنهم وأخرجوا أرسالا وخرج قاضيه هاربا، ووكّل بالجسر الثاني من يحفظه وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بأن يتجهّز لإحراقه فزحف في أنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات. وكان في الجانب الغربي قبالة أبي العبّاس أنكلاي وابن جامع، وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفّق الخبيث نفسه والمهلّبيّ، وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن جامع وأنكلاي وأضرمت النار في الجسر، ولما وافياه وهو مضطرم نارا ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق من أصحابهما خلق، واحترق الجسر واتصل الحريق بدورهم وقصورهم وأسواقهم، وافترق الجيش في الجانبين ونهبت دار الخبيث واستنفذ من كان في حبسه من النسوة والرجال. وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة ونهبها أصحاب الموفّق واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثنّاه عن ذلك. واستأمن سليمان بن موسى الشعراني من رؤساء قوّاده فأجيب بعد توقف. ولما خرج تبعه أصحاب الخبيث فقاتلهم، ووصل إلى الموفّق فأحسن إليه واقتفى أثره في ذلك شبل ابن سالم من قوّاده، وعظم على الخبيث وأوليائه استئمان هؤلاء، وصار شبل بن سالم يخرج في السرايا إلى عسكر الخبيث ويكثر النكاية فيهم.(3/407)
استيلاء الموفق على الجهة الشرقية
وفي خلال هذه الحروب واتصالها مرن أصحاب الموفّق على تخلّل تلك المسالك والشعاب مع تضايقها ووعرها، وأجمع الموفّق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب، وندب لذلك قوّاد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم، ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميز مناصحتهم. وجمع سفن دجلة من كل جانب، وكان فيها عشرة آلاف ملّاح من المرتزقة. وأمر ابنه أبا العبّاس بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتها، فسار إلى دار المهلّبيّ وهو في مائة وخمسين قطعة من السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه، وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهم بالمسير حفا في النهر يشاهد أحوالهم. وبكّر الموفّق لثمان خلون من ذي القعدة زاحفا للحرب، فاقتتلوا مليّا وصبروا. ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق، وأسر آخرون فقتلوا، وقصد الموفّق بجمعه دار الخبيث، وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفق، وسبوا حريمه وبنيه وكانوا عشرين. ونجا إلى دار المهلّبيّ ونهبها واشتغل أصحابهم جميعا بنقل الغنائم إلى السفن، فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى مواقفهم. ثم صدق الموفّق الحملة عشيّ النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث ورجع الناس إلى عسكره، ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخّر القتال إلى حضوره.
مقتل صاحب الزنج
ولما وصل غلام ابن طولون في ثالث المحرم من سنة سبعين جاء في جيش عظيم، فأحسن إليهم الموفّق وأجرى لهم الأرزاق على مراتبهم، وأمره بالتأهّب لقتال الخبيث. وقد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث فيه سكرا وضيّق جرية الماء ليمنع السفن من دخوله إذا حضر، ويتعذّر خروجها أمامه. وبقي جريه لا يتهيأ إلّا بإزالة ذلك السكر، فحاول ذلك مدّة والزنج يدافعون عنه، ودفع الموفق لذلك لؤلؤا في أصحابه ليتمرّنوا على حرب الزنج في تلك المسالك والطرق فأحسنوا البلاء فيها ووصلهم، وألح على العسكر، وهو كل يوم يقتل مقاتلهم ويحرق مساكنهم ويقتل المستأمنة منهم. وقد كان بقي بالجهة الغربية بقية من أبنية ومزارع وبها جماعة يحفظونها، فسار إليهم أبو العبّاس وأوقع بهم، ولم(3/408)
يسلم منهم إلا الشريد. ثم غلبهم على السكر وأحرقه واعتزم على لقاء الخبيث وقدّم ابنه أبا العبّاس إلى دار المهلّب وأضاف المستأمنة إلى شبل بن سالم وأمرهم أن ينتظروا بالقتال نفخ البوق، ونصب علمه الأسود على دار الكرمانيّ. ثم صمد إليهم وزحف الناس في البر والنهر، ونفخت الأبواق وذلك لثلاث بقين من المحرّم سنة سبعين. واشتدّ القتال وانهزم الزنج ومات منهم قتلا وغرقا ما لا يحصى، واستولى الموفّق على المدينة واستنقذوا الأسرى وأسروا الخليل وابن أبان وأولادهما وعيال أخيهما، ومضى الخبيث ومعه ابنه أنكلاي وابن جامع وقوّاد من الزنج إلى موضع بنهر السّفيانيّ كانوا أعدّوه ملجأ إذا غلب على المدينة، واتبعه الموفّق في السفن ولؤلؤ في البر. ثم اقتحم النهر بفرسه واتّبعه أصحابه فأوقعوا بالخبيث ومن معه حتى عبروا نهر السامان [1] واعتصموا بجبل وراءه، ورجع لؤلؤ عنهم وشكر له الموفّق ورفع منزلته واستبشر الناس بالفتح. وجمع الموفّق أصحابه فوبّخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم ظنّوا انصرافه. ثم تحالفوا على الإقدام والثبات حتى يظفروا وسألوه أن تردّ المعابر التي يعبرون فيها ليستميت الناس في حرب عدوّهم، فوعدهم بذلك وأصبح ثالث صفر فعبّى المراكب وبعثهم إلى المراكز وردّ المعابر التي عبروا فيها وتقدّم سرعان العسكر فأوقعوا بالخبيث وأصحابه ففضّوا جماعة وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، وافترقوا كل ناحية. وثبت مع الخبيث لمّة من أصحابه فيهم المهلّبيّ وذهب ابنه أنكلاي وابن جامع واتبع كلّا منهم طائفة من العسكر بأمر أبي العبّاس ابن الموفّق. ثم أسر إبراهيم بن جعفر الهمذاني فاستوثقوا منه. ثم كرّ الخبيث والمنهزمون معه على من اتّبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم. ثم رجعوا ومضى الموفّق في اتباع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لؤلؤ برأس الخبيث وسار أنكلاي نحو الديناريّ ومعه المهلّبىّ وبعث الموفّق أصحابه في طلبهم فظفر بهم وبمن معهم، وكانوا زهاء خمسة آلاف، فاستوثق منهم ثم استأمن إليه ورمونة [2] وكان عند البطيحة قد اعتصم بمغايض وآجام هنالك يخيف السابلة، ويغير على تلك النواحي وعلى الواردين إلى مدينة الموفّق. فلما علم بموت الخبيث سقط في يده وبعث يستأمن فأمّنه الموفّق فحسنت توبته وردّ الغصوبات إلى أهلها ظاهرا،
__________
[1] نهر السفياني: ابن الأثير ج 7 ص 403.
[2] درمويه الزنجيّ: المرجع السابق ص 404.(3/409)
وأمر الموفّق بالنداء برجوع الزنج إلى موطنهم فرجعوا وأقام الموفّق بمدينة الموفّقية ليأمن الناس بمقامه، وولّى على البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد وقدم ابنه أبا العبّاس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادى من سنة سبعين وكان خروج صاحب الزنج آخر رمضان سنة خمس وخمسين وقتله أوّل صفر سنة سبعين لأربع عشرة سنة وأربعة أشهر من دولته.
ولاية ابن كنداج على الموصل
لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة وولّى موسى بن أتامش على ديار ربيعة فتغيّر لذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وأوقع بالأكراد اليعقوبيّة وانتهب أموالهم ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقتله، وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال، وكان عليهم عليّ بن داود قائدا، فدفعه وسار ابن كنداج إليه، فخرج عليّ بن داود واجتمع حمدان بن حمدون الثعلبيّ وإسحاق بن عمر بن أيوب بن الخطّاب الثعلبيّ العدويّ، فكانوا خمسة عشر، وجاءهم عليّ بن داود فلقيهم إسحاق في ثلاثة آلاف فهزمهم بدسيسة من أهل مسيرتهم، وسار حمدان وعليّ بن داود إلى نيسابور، وابن أيّوب إلى نصيبين، وابن كنداج في اتّباعه، فسار عنها واستجار بعيسى ابن الشيخ الشيبانيّ وهو بآمد، وأبي العزّ موسى بن زرارة وهو عامل أردن، فأنجداه وبعث المعتمد إلى إسحاق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها، وأرسل إليه ابن الشيخ وابن زرارة مائة ألف دينار على أن يقرّهم على أعمالهم فأبى، فاجتمعوا على حربه، فرجع إلى إجابتهم. ثم حاربوه سنة سبع وستين. واجتمع لحربه إسحاق بن أيوب وعيسى ابن الشيخ وأبو العزّ بن حمدان بن حمدون في ربيعة وثعلب وبكر واليمن فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، ثم إلى آمد وحمر [1] عسكرا لحصار ابن الشيخ بآمد وكانت بينهم حروب.
حروب الخوارج بالموصل
كان مساور الخارجي قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث وستين بالبوارسح [2]
__________
[1] حمر الرجل: تحرق غضبا، وحمره: قال له يا حمار (قاموس) .
[2] البوازيج: ابن الأثير ج 7 ص 309.(3/410)
وأراد أصحابه ولاية محمد بن حرداد [1] بشهرزور فامتنع، وبايعوا أيوب بن حيّان المعروف بالغلام فقتل، فبايعوا هارون بن عبد الله البجلي وكثر أتباعه واستولى على بلد الموصل، وخرج عليه من أصحابه محمد بن حرداد، وكان كثير العبادة والزهد يجلس على الأرض ويلبس الصوف الغليظ ويركب البقر لئلا يفرّ في الحرب، فنزل واسط وجاء وجوه أهل الموصل، فسار إليهم وهارون غائب في الأحشاد، فبادر إليه واقتتلا، وانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتين، وقصد بني ثعلب [2] مستنجدا بهم فأنجدوه وسار معه حمدان بن حمدون ودخل معه الموصل، ودخل ابن حرداد، واستمال هارون أصحابه، ورجع إلى الحديثة، ولم يبق مع ابن حرداد إلا قليل من الأكراد فمالوا إلى هارون بالموصل، فخرج وأوقع بابن حرداد فقتله وأوقع بالأكراد الجلاليّة وكثر أتباعه، وغلب على القرى والرساتيق، وجعل على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المصعّدة والمنحدرة، ووضع في الرساتيق من يقبض اعتبار الغلّات، واستقام أمره. ثم جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست وسبعين واستنجد بحمدان بن حمدون فجاءه بنفسه، وسار إلى نهر الخازن وانهزمت طليعتهم، وانهزموا بانهزامها، وجاء بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها وأقام هارون وأصحابه بالحديثة.
أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني
لما قتل أحمد الخجستاني سنة ثمان وستين كما قدّمناه اجتمع أصحابه على رافع بن هرثمة من قوّاد محمد بن طاهر، وكان رافع هذا لما استولى يعقوب الصفّار على نيسابور، وزال بنو طاهر، صار رافع في جملته، وصحبه إلى سجستان. ثم أقصاه عن خدمته وعاد إلى منزله بنواحي جيّ حتى استخدمه الخجستانيّ وجعله صاحب جيشه. فلما قتل الخجستانيّ اجتمع الجيش عليه بهراة وأمّروه وسار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب وقد كان وصل إليها من جرجان، فضيّق عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو، وولّى على هراة ابن المهدي وخطب لمحمد بن طاهر بمرو وهراة وزحف إليه عمرو بن الليث فهزمه وغلبه على ما بيده. واستخلف على
__________
[1] محمد بن خرزاد: ابن الأثير ج 7 ص 309.
[2] هم بنو تغلب وقد لاحظنا ان ابن خلدون يكنيهم بالثعالبة بدل التغالبة أو ان ذلك عائد لتحريف الناسخ!(3/411)
مرو محمد بن سهل بن هاشم، وخرج أبو طلحة إلى مكمد [1] واستعان بإسماعيل بن أحمد السامانيّ، فأمدّه بعسكر وأخرج محمد بن سهل، وخطب بها لعمرو بن الليث سنة إحدى وسبعين. ثم قلّد الموفّق تلك السنة أعمال خراسان لمحمد ابن طاهر، وهو ببغداد، فاستخلف عليها رافع بن الليث وأقرّ على ما وراء النهر نصر بن أحمد. ووردت كتب الموفّق بعزل عمرو بن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وقد كان بها محمد بن المهدي خليفة أبي طلحة، فثار عليه يوسف بن معبد. فلما جاء رافع استأمن إليه فأمّنه واستعمل على هراة مهدي بن محسن. ثم سار رافع إلى أبي طلحة بمرو بعد أن استمدّ إسماعيل بن أحمد وأمدّه بنفسه في أربعة آلاف فارس، واستقدم عليّ بن محسن المروروذيّ فقدم عليه في عسكره، وساروا جميعا إلى أبي طلحة بمرو سنة اثنتين وسبعين، فهزموه وعاد إسماعيل إلى بخارى ولحق بأبي طلحة وبها مهدي، فاجتمع معه على مخالفة رافع فهزمهما رافع، ولحق أبو طلحة بعمرو بن الليث وقبض على مهدي سنة اثنتين وسبعين ثم خلّى سبيله وسار رافع إلى خوارزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.
مغاضبة المعتمد للموفّق ومسيرة ابن طولون وما نشأ من الفتنة لأجل ذلك
كان الموفّق حدثت بينه وبين ابن طولون وحشة وأراد عزله، وبعث موسى بن بغا في العساكر إليه سنة اثنتين وستين فأقام بالرقّة عشرة أشهر، واختلف عليه العسكر فرجع، وكان الموفق مستبدّا على أخيه المعتمد منذ قيامه بأمر دولته مع ما كان من الكفاية والغناء، إلّا أنه كان المعتمد يتأفّف من الحجر، وكتب إلى أحمد بن طولون في السرّ يشكو ذلك وأشار عليه باللحاق إليه بمصر لينصره، وبعث عسكرا إلى الرقّة في انتظاره، وكان الموفّق مشغولا بحرب الزنج، فسار المعتمد منتصف سنة تسع وستين في القوّاد مظهرا أنه يتصيّد، ثم سار إلى أعمال الموصل وعليها يومئذ وعلى سائر الجزيرة أصحاب كنداج [2] وكتب صاعد بن مخلّد وزير الموفّق عن الموفّق إلى
__________
[1] بيكند: ابن الأثير ج 7 ص 368.
[2] إسحاق بن كنداجيق: ابن الأثير ج 7 ص 394.(3/412)
إسحاق بردّه عن طريقه، والقبض على من معه من القوّاد. فلمّا وصل المعتمد إلى عمله أظهر إسحاق طاعته، فارتحل في خدمته إلى أوّل عمل ابن طولون. ثم اجتمع بالمعتمد والقوّاد وفيهم نيزك وأحمد بن خاقان وغيرهم فعذلهم في المسير إلى ابن طولون والمقام تحت يده، وطال الكلام بينهم مليّا ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدبا مع المعتمد، وقيّدهم وجاء إلى المعتمد فعذله في المسير عن دار خلافته ومغاضبة أخيه، وهو في دفاع عدوّه ومن يريد خراب ملكه، وحمل الجميع إلى سامرّا. وقطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره وأسقط اسمه من الطرز [1] وغضب الموفّق بسبب ذلك على أحمد بن طولون، وحمل المعتمد على أن يشار بلعنه على المنابر. وولّى إسحاق بن كنداج على أعماله وفوّض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية، وكان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملا على حمص وحلب وقنّسرين وديار مصر من الجزيرة. وكان منزله بالرقّة فانتقض عليه في هذه السنة، وسار إلى بالس فنهبها، وكتب إلى الموفّق فمرّ بقرقيسياء وبها ابن صفوان العقيليّ فحاربه وغلبه عليها وسلّمها إلى أحمد بن مالك بن طوق. ووصل إلى الموفّق في عسكر عظيم وهو يقاتل صاحب الزنج فأكرمه الموفّق وأحسن هو الغناء في تلك الحرب. ثم بعث ابن طولون في تلك السنة جيشه إلى مكة لإقامة الموسم، وعامل مكة هارون بن محمد ففارقها خوفا منهم، وبعث الموفّق جعفرا في عسكر فقوي بهم هارون ولقوا أصحاب ابن طولون فهزموهم وصادروا القائد على ألف دينار. وقرئ الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون وانقلب أهل مصر إلى بلدهم آمنين. ولم يزل لؤلؤ في خدمة الموفّق إلى أن قبض عليه سنة ثلاث وسبعين وصادره على أربعمائة ألف وأدبر أمره ثمّ، ثم عاد إلى مصر آخر أيام هارون بن حماديه [2] .
وفاة ابن طولون ومسير ابن كنداج إلى الشام
وفي سنة سبعين انتقض بازمان [3] الخادم بطرسوس وقبض على نائبة، وسار إليه أحمد بن طولون في العساكر وحاصروه فامتنع عليه، فرجع إلى أنطاكية فمرض هنالك ومات لست وعشرين سنة من ولايته على مصر وولي بعده ابنه خمارويه،
__________
[1] الطرر: حواشي الكتب.
[2] هارون بن خمارويه: ابن الأثير ج 7 ص 425.
[3] بازمار الخادم: ابن الأثير ج 7 ص 408.(3/413)
وانتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر وعادت إلى طاعته. وكان يومئذ بالموصل والجزيرة إسحاق بن كنداج وعلى الأنبار والرحبة وطريق الفرات محمد بن أبي الساج، فكاتبا الموفّق في المسير إلى الشام واستمدّاه، فأذن لهما ووعدهما بالمدد، فسارا وملكا ما يجاورهما من بلاده، واستولى إسحاق على أنطاكية وحلب وحمص، وكاتبه نائب دمشق واجتمع الخلاف على خمارويه فسار إليه فهرب إلى شيزر وهي في طاعة خمارويه، ودمشق. وجاء أبو العبّاس بن الموفّق وهو المعتضد من بغداد بالعساكر فكبس شيزر وقتل من جند ابن طولون مقتله عظيمة، ولحق فلّهم بدمشق وأبو العبّاس في اتباعهم، فجلوا عنها، وملكها في شعبان سنة إحدى وسبعين.
ورجعت عساكر خمارويه إلى الرّملة فأقاموا بها. وزحف إسحاق بن كنداج إلى الرقّة وعليها وعلى الثغور والعواصم ابن دعاص [1] من قبل خمارويه فقاتله وكان الظهور لإسحاق. ثم زحف أبو العبّاس المعتضد من دمشق إلى الرملة، وسار خمارويه من مصر واجتمع بعساكره في الرملة على ماء الطواحين، وكان المعتضد قد استفسد لابن كنداج وابن أبي الساج ونسبهما إلى الجبن في انتظارهما إياه في محاربة خمارويه. وعبّى المعتضد عساكره ولقي خمارويه وقد أكمن له، فانهزم خمارويه أولا وملك المعتضد خيامه، وشغل أصحابه بالنهب فخرج عليهم الكمين فانهزم المعتضد إلى دمشق، فلم يفتح له أهلها، فراح إلى طرسوس وأقام العسكران يقتتلان دون أمير، وأقام أصحاب خمارويه عليهم أخاه سعدا مكانه، وذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع، وأذهبوا منه دعوة الموفّق وابنه. وبلغ الخبر إلى خمارويه فسرّ وأطلق الأسرى الذين كانوا معه. ثم ثار أهل طرسوس بأبي العبّاس فأخرجوه، وسار إلى بغداد وولّوا عليهم مازيار، فاستبدّ بها ثم دعا لخمارويه بعد أن وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحا كثيرا، فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار.
وفاة صاحب طبرستان وولاية أخيه
ثم توفي الحسن بن زيد العلويّ صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين لعشرين سنة من ولايته وولّي مكانه أخوه وكان على قزوين أتكوتكين [2] فسار إلى الريّ في أربعة
__________
[1] ابن دعباس: ابن الأثير ج 7 ص 411.
[2] اذكوتكين: ابن الأثير ج 7 ص 418.(3/414)
آلاف فارس، وسار إليه محمد بن زيد في عالم كثير من الديلم والخراسانيّة، والتقوا فانهزم محمد بن زيد وقتل من عسكره نحو من ستة آلاف وأسر ألفان، وغنم أتكوتكين عسكرا وملك الريّ وأغرم أهلها مائة ألف دينار، وفرّق عمّاله عليها، وسار محمد بن زيد إلى جرجان، ثم عزل عمرو بن الليث عن خراسان وولّى عليها محمد بن طاهر، واستخلف محمد بن رافع بن هرثمة، وسار سنة خمس وسبعين إلى جرجان وهرب عنها ليلا إلى استرياد [1] فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار، ففرّ عنها ليلا إلى سارية، فاتبعه فهرب عن طبرستان سنة سبع وسبعين، واستأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان فأمنه، وبعث إلى سالوس محمد بن هارون نائبا عنه وأتاه بها عليّ ابن كاني مستأمنا. ثم جاءه محمد وحاصرهما بسالوس، وانقطعت أخبارهما عن نافع.
ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض الديلم، فدخل رافع خلفه وأثخن فيها نهبا وتخريبا إلى حدود قزوين، وعاد إلى الريّ إلى أن توفي المعتمد سنة تسع وتسعين. [2]
فتنة ابن كنداج وابن أبي الساج وابن طولون
كان ابن أبي الساج في أعماله بقنّسرين والفرات والرحبة ينافس إسحاق وهو على الجزيرة، ويريد التقدّم عليه، فحدثت لذلك منهما فتنة. فخطب ابن أبي الساج لخمارويه بن طولون [3] . وبعث ابنه ديواداد رهينة إليه، فبعث إليه خمارويه أموالا جمّة وسار إلى الشام، واجتمع بابن أبي الساج ببالس، ثم عبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقّة، وهزم إسحاق بن كنداج، واستولى على أعماله. وعبر خمارويه ونزل الرقّة ومضى إسحاق إلى قلعة ماردين وحاصره ابن أبي الساج بها، ثم أفرج عنها وسار إلى سنجار لقتال بعض الأعراب فسار ابن كنداج من ماردين إلى الموصل، فاعترضه ابن أبي الساج، وهزمه فعاد إلى ماردين، واستولى ابن أبي الساج على الجزيرة والموصل، وخطب فيهما لخمارويه ثم لنفسه بعد، وبعث غلامه فتحا إلى أعمال الموصل لجباية الخراج. وكان اليعقوبيّة من السّراة قريبا منه، فهادنهم، ثم
__________
[1] أستراباذ: ابن الأثير ج 7 ص 434.
[2] الصحيح ان المعتمد توفي سنة تسع وسبعين ومائتين وليس تسع وتسعين كما يذكر ابن خلدون.
[3] هو خمارويه بن احمد بن طولون.(3/415)
غدر بهم فكسبهم، وجاءهم أصحابهم من غير شعور بالواقعة، فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم. ثم انتقض ابن أبي الساج واستبيح عسكره. وكان له بحمص مخلف من أثقاله، فقدّم خمارويه طائفة من العسكر إليها، فاستولوا على ما فيها، ومنعوا ابن أبي الساج من دخولها، فسار إلى حلب، ثم إلى الرقة وخمارويه في اتباعه، فعبر الفرات إلى الموصل، وجاء خمارويه إلى بلد وأقام بها وسار ابن أبي الساج إلى الحديثة وكان إسحاق بن كنداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشا وجماعة من القوّاد، وسار في طلب ابن أبي الساج، وقد عبر دجلة فجمع ابن كنداج السفن ليوطئ جسرا للعبور. وبينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج من تكريت إلى الموصل، فوصلها لرابعة وسار ابن كنداج في اتّباعه، فاقتتلوا بظاهر الموصل وابن أبي الساج في ألفين، فصبر واشتدّ القتال، وانهزم ابن كنداج وهو في عشرين ألفا. فخلص إلى الرقة ومحمد بن أبي الساج في اتباعه. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفرات إلى بلاد خمارويه بالشام، فأمره بالتوقّف إلى وصول المدد من عنده، ومضى ابن كنداج إلى خمارويه فجاء بجيوشه إلى الفرات، وتوافق مع ابن أبي الساج والفرات بينهما. ثم عبرت طائفة من عسكر ابن كنداج فأوقعوا بطائفة من عسكر ابن أبي الساج فانهزموا إلى الرقّة، فسار ابن أبي الساج عن الرقّة إلى بغداد سنة ست وسبعين في ربيع منها، فأكرمه الموفّق ووصله واستولى ابن كنداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة، وأقام بها وولّى الموفق محمد بن أبي الساج على أذربيجان، فسار إليها فخرج إليه عبد الله بن الحسين الهمذاني عامل مراغة ليصدّه فهزمه ابن أبي الساج فحاصره وأخذ منه مراغة سنة ثمان وسبعين وقتله. واستقرّ ابن أبي الساج في عمله بأذربيجان.
أخبار عمرو بن الليث
كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولّاه الموفّق خراسان وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد كما كان أخوه، وقد ذكرنا ذلك قبل.
وكان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمان وستين فسار عمر ولحربه فهزمه واستباح عسكره ونهب إصطخر ثم ظفرت جيوشه بمحمّد وأسره وحبسه بكرمان، فأقام بها ثم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وهو بأصبهان يطلبه(3/416)
بالمال. فبعث إليه بالأموال، وبعث عمرو إلى الموفق بثلاثمائة ألف دينار، وبخمسين منّا من المسك ومثلها من العنبر ومائتين من العود، وثلاثمائة ثوب من الوشي ومن آنية الذّهب والفضّة والدواب والغلمان قيمة مائة ألف دينار. واستأذنه في غزو محمد ابن عبيد الكرديّ في رامهرمز فأذن له، فبعث قائدا من جيشه إليه فأسره وجاء به إلى عمرو، ثم عزل المعتمد سنة إحدى وستين عمرو بن الليث عما كان قلّده من الأعمال، وأدخل إليه الحاج من أهلها عند منصرفهم من مكة، فأعلمهم بعزله، وأنه قد ولّى على خراسان محمد بن طاهر، وأمر بلعن عمرو على المنابر. وجهّز مخلّد ابن صاعد إلى فارس لحرب عمرو، واستخلف محمد بن طاهر على خراسان رافع بن هرثمة، وكتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بقتاله، وبعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو، وكان في خمسة عشر ألف مقاتل، فانهزم عمرو وخرج قائده الديلميّ وقتل مائة من أعيانهم وأسر ثلاثة آلاف، فاستأمن منهم وغنموا من عسكره ما لا يحصى. ثم زحف الموفّق سنة أربع وسبعين إلى فارس لحرب عمرو فأنفذ عمرو ابنه محمدا إلى أرّجان في العساكر، وعلى مقدّمته أبو طلحة بن شركب وعبّاس بن إسحاق إلى سيراف، واستأمن أبو طلحة إلى الموفّق ففتّ ذلك في عضد عمرو، وعاد إلى كرمان واستراب الموفّق بأبي طلحة فقبض عليه قريبا من شيراز، وجعل ماله لابنه أبي العبّاس المعتضد، وسار في طلب عمرو، فخرج من كرمان إلى سجستان ومات ابنه محمد بالمفازة، ورجع عنه الموفّق وسار رافع بن الليث من خراسان وغلب محمد بن زيد على طبرستان كما قدّمناه، (وقدم عليه هنالك عليّ بن الليث هو وابناه المعدّل والليث بن حسن أخيه عليّ بكرمان ثم قتله رافع سنة ثمان وستين) [1] .
مسير الموفق إلى أصبهان والجبل
كان كاتب أتوتكين [2] أنهى إلى المعتضد أن له مالا عظيما ببلاد الجبل فتوجّه لذلك فلم يجد شيئا ثم سار إلى الكرخ ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف
__________
[1] المعنى غير واضح والعبارة مشوشة ويذكر ابن الأثير في احداث 278: «وفيها قتل علي بن الليث أخو الصفّار، قتله رافع بن هرثمة، وكان قد حنق به، وترك أخاه» . والمعدل والليث هما ابنا عليّ بن الليث.
[2] اذكوتكين: وقد مرّ ذكره من قبل.(3/417)
فتنحّى أحمد عن البلد بعسكره، وترك داره بفرشها لنزل الموفّق عند قدومه، ثم رجع الموفّق إلى بغداد.
قبض الموفق على ابنه أبي العبّاس المعتضد ثم وفاته وقيام ابنه أبي العباس بالأمر بعده
كان الموفّق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسط، ثم عاد إلى بغداد وترك المعتمد بالمدائن، وأمر ابنه أبا العبّاس وهو المعتضد بالمسير إلى بعض الوجوه فأبى، فأمر بحبسه، ووكّل به. وركب القوّاد من أصحابه واضطربت بغداد فركب الموفّق إلى الميدان وسكّن الناس، وقال: إني احتجت إلى تقويم ابني فقوّمته، فانصرف الناس وذلك سنة ست وسبعين. وكان عند منصرفه من الجبل قد اشتدّ به وجع النّقرس ولم يقدر على الركوب، فكان يحمل في المحفّة، ووصل إلى داره في صفر من سنة سبع، وطال مرضه وبعث كاتبه أبا الصقر ابن بلبل إلى الميدان، فجاء بالمعتمد وأولاده وأنزله بداره، ولم يأت دار الموفّق، فارتاب الأولياء لذلك، وعمد غلمان أبي العبّاس فكسروا الأقفال المغلقة عليه وأخرجوه وأقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه، فلما فتح عينه قرّبه وأدناه وجمع أبو الصقر عنده القواد والجند. ثم تسامع الناس أنّ الموفّق حيّ، فتسلّلوا عن أبي الصقر وأوّلهم محمد بن أبي الساج، فلم يسع أبا الصقر إلا الحضور بدار الموفّق، فحضر هو وابنه وأشاع أعداء أبي الصقر أنه هرب بمال الموفّق إلى المعتمد، فنهبوا داره، وأخرجت نساؤه حفاة عراة، ونهب ما يجاوره من الدور، وفتقت السجون، ثم خلع الموفق على ابنه أبي العبّاس وأبي الصقر، وركب إلى منزلهما وولّى أبو العبّاس غلامه بدار الشرطة. ثم مات لثمان بقين من صفر سنة ثمان وسبعين ودفن بالرصافة. واجتمع القوّاد فبايعوا ابنه أبا العبّاس المعتضد باللَّه، واجتمع عليه أصحاب أبيه، ثم قبض المعتضد على أبي الصقر ابن بلبل وأصحابه، وانتهبت منازلهم، وولّى عبد الله بن سليمان بن وهب الوزارة، وبعث محمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد فأبى وصيف وسار إلى السوس فأقام بها.(3/418)
ابتداء أمر القرامطة
كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أنّ رجلا ظهر بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين يتّسم بالزهد، وكان يدعى قرمط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى كرميطة فعرب وقيل بل اسمه حمدان ولقبه قرمط. يقال وزعم أنه داعية لأهل البيت للمنتظر منهم واتّبعه العبّاس فقبض عليه الهيصم عامل الكوفة وحبسه، ففرّ من حبسه وزعم أنّ الإغلاق لا يمنعه. ثم زعم أنه الّذي بشّر به أحمد بن محمد ابن الحنفية، وجاء بكتاب تناقله القرامطة فيه بعد البسملة: يقول الفرح بن عثمان من قرية نصرانه أنه داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهديّ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفيّة، وهو جبريل. وإنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكريا وإنك روح القدس، وعرّفه أنّ الصلاة أربع ركعات قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها، وأنّ الأذان بالتكبير في افتتاحه وشهادة التوحيد مرّتين، ثم شهادة بالرسالة لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمّد صلوات الله عليهم، ثم لأحمد بن محمد بن الحنفية ويقرأ الاستفتاح في كل ركعة وهو من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، والقبلة بيت المقدس والجمعة يوم الإثنين، ولا يعمل فيه شيء. والسورة التي تقرأ فيها: الحمد للَّه بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه، قل إنّ الأهلّة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرّفوا عبادي سبيلي، اتقوني يا أولى الألباب، وأنا الّذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم، وأنا الّذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنّتي وفي نعمتي، ومن زال عن أمري وكذّب رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي. فأنا الّذي لم يعل جبار إلا وضعته وأذللته، فبئس الّذي أصرّ على أمره، ودام على جهالته. وقال: لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين أولئك هم الكافرون. ثم يركع ويقول في ركوعه: مرتين سبحان ربي وربّ العزة وتعالى عما يصف الظالمون، وفي سجوده الله أعلى مرّتين، الله أعظم مرّة، والصوم مشروع يوم المهرجان، والنّيروز. والنبيذ حرام والخمر حلال، والغسل من الجنابة كالوضوء. ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخالب، ومن خالفهم(3/419)
وحارب وجب قتله، وإن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوى شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا، وتشهد عليهم بالكذب، وهذا الفرح ابن يحيى الّذي ذكر هذا أوّل الكتاب أنه داعية القرامطة يلقّب عندهم ذكرويه بن مهرويه. ويقال إنّ ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج، وإنه سار إليه على الأمان، وقال له: إنّ ورائي مائة سيف، فتعال نتناظر فلعلّنا نتفق ونتعاون. ثم تناظرا فاختلفا وانصرف قرمط عنه، وكان يسمّي نفسه القائم بالحق. وزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج.
فتنة طرسوس
قد تقدّم لنا انتقاض بازمان [1] بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون، وأنه حاصره فامتنع عليه، وأنه راجع بعد طاعة ابنه خمارويه مما حمل إليه من الأموال والأمتعة والسلاح، فاستقام أمره بطرسوس مدّة، وغزا سنة ثمان وسبعين بالصائفة مع أحمد الجعفيّ [2] وحاصروا اسكندا فأصيب بحجر منجنيق، فرجع وهلك في طريقه ودفن بطرسوس. وكان استخلف ابن عجيف فأقرّه خمارويه وأمدّه بالخيل والسلاح والمال، ثم عزله واستعمل عليها ابن عمه ابن محمد بن موسى بن طولون. ولما توفي الموفّق نزع خادم من خواصه اسمه راغب إلى الشكّ، وطلب المقام بالثغر للجهاد، فأذن له المعتضد، فسار إلى طرسوس وحطّ أثقاله بها وسار إلى لقاء خمارويه بدمشق فأكرمه واستجلب أنسه، فطال مقامه وألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه، فأوصلوا أهل البلد في ذلك، فوثبوا بأميرهم محمد بن موسى حتى يطلق لهم راغب، وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلقه فجاء إليهم ووبّخهم على فعلهم، فأطلقوا محمد بن موسى وسار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى ولايته.
فتنة أهل الموصل مع الخوارج
قد تقدّم لنا أنّ هارون بن سليمان كان على الشراة من الخوارج، وكان بنو شيبان يقاتلونهم ويغيرون على الموصل. فلما كانت سنة تسع وسبعين جاء بنو شيبان لذلك وأغاروا على نينوى وغيرها من الأعمال، فاجتمع هارون الشاربي في الخوارج وحمدان
__________
[1] هو بازمار الخادم وقد مرّ معنا من قبل.
[2] العجيفي: ابن الأثير ج 7 ص 450.(3/420)
ابن حمدون الثعلبي على مدافعتهم. وكان مع بني شيبان هارون بن سيما مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيبانيّ، بعثه محمد بن إسحاق بن كنداجق واليا على الموصل عند ما مات أبوه إسحاق، وولّى مكانه على أعماله بالموصل وديار ربيعة فلم يرضه أهل الموصل وطردوه، فسار إلى بني شيبان مستنجدا بهم، فلما التقى الجمعان انهزم بنو شيبان أوّلا واشتغل أصحاب حمدان والخوارج بالنهب، فكرّ عليهم بنو شيبان وظفروا بهم. وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداجق يستمدّه فسار بنفسه، وخشيه أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملا يكفيهم أمر ابن كنداجق، ومرّوا في طريقهم بمحمد بن يحيى المجروح الموكّل بحفظ الطريق فألفوه وقد وصل إليه بولاية العهد الموصل، فبادر وملكها، وتواثق ابن كنداجق في مكانه، وبعث إلى خمارويه بالهدية، ويسأل إمارة الموصل كما كان من قبل، فلم يجبه إلى ذلك، ثم عزل المجروح وولّى بعده عليّ بن داود الكردي.
الصوائف أيام المعتمد
وصل الخبر في سنة سبع وخمسين بأنّ ملك الروم بالقسطنطينية ميخاييل بن روفيل وثب عليه قريبه مسك، ويعرف بالصقلي [1] فقتله لأربع وعشرين سنة من ملكه، وملك مكانه. وفي سنة تسع وخمسين خرجت عساكر الروم فنازلوا سميساط ثم نازلوا مليطة [2] وقاتلهم أهلها فانهزموا، وقتل بطريق من بطارقتهم. وفي سنة ثلاث وستين استولى الروم على قلعة الصقالبة، وكانت ثغرا لطرسوس وتسمّى قلعة كركرة [3] فردّ المعتمد ولاية ثغر طرسوس لابن طولون، وكان أحمد بن طولون قد خطب ولايتها من الموفّق يريد أن يجعلها ركابا لجهاده لخبرته بأحوالها. وكان يردّد الغزو من طرسوس إلى بلاد الروم قبل ولاية مصر، فلم يجبه الموفّق، وولّى عليها الموفّق محمد بن هارون الثعلبيّ، واعترضه الشراة أصحاب مساور وهو مسافر في دجلة فقتلوه، فولّى مكانه أماجور بن أولغ بن طرخان من الترك، فسار إليها وكان غرّا جاهلا، فأساء السيرة ومنع أقران أهل كركرة ميرتهم، وكتبوا إلى أهل طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه، وأبطأ على أهل القلعة شأنها. فنزلوا
__________
[1] بسيل المعروف بالصقلبيّ: ابن الأثير ج 7 ص 248.
[2] هي ملطية: المرجع السابق.
[3] لؤلؤة: ابن الأثير ج 7 ص 309.(3/421)
عنها وأعطوها الروم، وكثر أسف أهل طرسوس لذلك بما كانت ثغرهم وعينا لهم على العدوّ، وبلغ ذلك المعتمد، فكتب لأحمد بن طولون بولايتها وفوّض إليه أمر الثغور، فوليها واستعمل فيها من يحفظ الثغر ويقيم الجهاد، وقارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق، وملك ابن طولون الشام جميعها كما ذكرناه قبل. وفي سنة أربع وستين غزا بالصائفة عبد الله بن رشيد بن كاوس في أربعين ألفا من أهل الثغور الشامية، فأثخن فيهم وغنم ورجع، فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية، وقرّة كوكب وحرسيه [1] ، وأحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون واستلحمهم الروم بالقتل، ونجا فلّهم إلى الثغر، وأسر عبد الله بن كاوس وحمل إلى القسطنطينية وفي سنة خمس وستين خرج خمسة من بطارقة الروم إلى أذنة فقتلوا وأسروا والي الثغور أوخرد [2] فعزل عنها وأقام مرابطا، وبعث ملك الروم بعبد الله بن كاوس ومن معه من الأسرى إلى أحمد بن طولون، وأهدى إليه عدّة مصاحف. وفي سنة ست وستين لقي أسطول المسلمين أسطول الروم عند صقيلة [3] فظفر الروم بهم، ولحق من سلم منهم بصقيلة، وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة، واستنفر الناس ففرّوا ولم يطيقوا دخول الدرب لشدّة البرد فيها. وغزا عامل ابن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة من أهل طرسوس واعترضهم أربعة آلاف من الروم من بلاد هرقل، فنال المسلمون منهم أعظم النيل. وفي سنة ثمان وستين خرج ملك الروم، وفيها غزا بالصائفة خلف الفرغانيّ عامل ابن طولون على الثغور الشامية فأثخن ورجع. وفي سنة سبعين زحف الروم في مائة ألف ونزلوا قلمية على ستة أميال من طرسوس، فخرج إليهم بازيار [4] فهزمهم وقتل منهم سبعين ألفا وجماعة من البطارقة، وقتل مقدّمهم بطريق البطارقة، وغنم منهم سبع صلبان ذهبا وفضّة، وكان أعظمها مكلّلا بالجواهر. وغنم خمسة عشر ألف دابة، ومن السروج والسيوف مثل ذلك، وأربع كراسي من ذهب، ومائتين من فضّة وعشرين علما من الديباج وآنية كثيرة. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا بالصائفة بازيار وتوغّل في أرض الروم وقتل وغنم وأسر وسبى وعاد إلى طرسوس. وفي سنة ثمان وسبعين دخل أحمد الجعفي [5] طرسوس وغزا مع بازيار
__________
[1] خرشنة: ابن الأثير ج 7 ص 312.
[2] أرجوز: ابن الأثير ج 7 ص 327.
[3] هي صقلّيّة.
[4] بازمار: ابن الأثير ج 7 ص 406.
[5] احمد الجعيفي: ابن الأثير ج 7 ص 449.(3/422)
بالصائفة ونازلوا إسكندا [1] فأصيب بازيار عليها بحجر منجنيق فرجع ومات في طريقه ودفن بطرسوس.
الولايات بالنواحي أيام المعتز
كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها وأوساطها واستولى بنو سامان على ما وراء النهر، والصفّار على سجستان وكرمان وملك فارس من يد عمّال الخليفة، وانتزع خراسان من بني طاهر وكلّهم مع ذلك يقيمون دعوة الخليفة. وغلب الحسن بن زيد على طبرستان وجرجان منازعا بالدعوة ومحاربا بالديلم لابن سامان والصفّار، وعساكر الخليفة بأصبهان، واستولى صاحب الزنج على البصرة والأبلّة إلى واسط وكور دجلة منازعا للدعوة ومشاققا، وأضرم تلك النواحي فتنة. ولم يزل الموفّق في محاربته حتى حسم علّته وقطع أثره واضطرمت بلاد الموصل والجزيرة فتنة بخوارج السراة [2] وبالقرب من بني شيبان وتغلب بالأكراد، واستولى ابن طولون على مصر والشام مقيما لدعوة الخلافة العبّاسيّة، وابن الأغلب بإفريقية كذلك. وأمّا المغرب الأقصى والأندلس فاقتطعا عن المملكة العبّاسيّة منذ أزمان كما قلنا، ولم يكن للمعتمد مدّة خلافته كلّها حكم ولا أمر ونهي، إنما كان مغلبا لأخيه الموفّق وتحت استبداده، ولم يكن لهما جميعا كبير ولاية في النواحي باستيلاء من استولى عليها ممن ذكرناه إلّا بعض الأجناس، فلنذكر ما وصل إلينا من هذه الولايات أيام المعتمد، فلأوّل ولايته استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان وبعث جعلان لحرب الزنج بالبصرة فكان أمره معهم كما مرّ. ثم ولّى عيسى بن الشيخ من بني شيبان على دمشق فاستأثر بها ومنع الخراج، وجاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال فاعتذر بأنه أنفقه على الجند، فكتب له المعتمد عهده في أرمينية ليقيم بها دعوته وقلّد أماجور دمشق وأعمالها فسار إليها، وأنفذ عيسى بن الشيخ ابنه منصورا لقتال أماجور في عشرين ألفا، فانهزموا وقتل منصور وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل ودخل أماجور دمشق. وفي سنة ست وخمسين سار موسى بن بغا لحرب مساور الخارجي فلقيه (ساحة جائعين) [3] فنال الخوارج منهم. وفيها كان وثوب محمد بن واصل بن
__________
[1] شكند: ابن الأثير ج 7 ص 449.
[2] هم الشراة وهي فرقة من الخوارج وقد مرّت سابقا عدة مرات باسم السراة.
[3] هي ناحية خانقين.(3/423)
إبراهيم التميميّ على الحرث بن سيما عامل فارس، فقتله وغلب عليها كما مرّ. وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبيّ على الريّ فسار إليها موسى بن بغا وغلب على عساكر الحسن، وظهر عليّ بن زيد بالكوفة وملكها، وبعث المعتمد لمحاربته كيجور التركيّ فخرج عنها إلى القادسية، ثم إلى ختان [1] ثم إلى بلاد بني أسد. وغزاه كيجور من الكوفة فأوقع به وعاد إلى الكوفة، ثم إلى سرّ من رأى. وفي سنة سبع وخمسين عقد المعتمد لأخيه الموفق على الكوفة والحرمين واليمن ثم على بغداد والسواد إلى البصرة والأهواز وأمره أن يعقد ليارجوج [2] على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد الحاجب. وعقد يارجوج على ذلك لمنصور بن جعفر الخيّاط ونزل الأهواز ثم عقد المعتمد حرب الزنج بالبصرة لأحمد بن المولّد، فسار إليها وقاتل الزنج. وكان بالبطائح سعيد بن أحمد الباهليّ متغلّبا عليها فأخذه ابن المولّد وبعث به إلى سامرّا.
وفيها تغلّب يعقوب الصفّار على فارس وبعض أعمال خراسان، وولّاه المعتمد ما غلب عليها [3] وفيها غلب الحسن بن زيد على خراسان، وانتقضت على ابن طاهر أعمال خراسان، وفيها اقتطع المعتمد مصر وأعمالها ليارجوج التركي فولّى عليها أحمد بن طولون، ومات يارجوج لسنة بعدها فاستبدّ ابن طولون بها، وكان عبد العزيز بن أبي دلف على الريّ، فخرج عليها خوفا من جيوش ابن زيد صاحب طبرستان، فبعث الحسن من قرابته القاسم بن عليّ القاسم، فأساء فيها السيرة. وفي سنة ثمان وخمسين قتل منصور بن جعفر الخيّاط في حرب الزنج، وولي يارجوج على أعمال منصور، فولّى عليها أصطيخور، وهلك في حرب الزنج، وعقد المعتمد للموفّق على ديار مصر وقنّسرين والعواصم. وبعثه لحرب الزنج ومعه مفلح فهلك في تلك الحرب. وعقد المعتمد على الموصل والجزيرة لمسرور البلخيّ فكانت بينه وبين مساور الشيبانيّ حروب وكذلك بين الأكراد واليعقوبية، وأوقع بهم كما مرّ. وفيها رجع أحمد بن واصل إلى طاعة السلطان وسلّم فارس للحسن بن الفيّاض. وفي سنة تسع وخمسين كان مهلك أصطيخور بالأهواز، فأمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير
__________
[1] خفان: ابن الأثير ج 7 ص 239.
[2] ياركوج: ابن الأثير ج 7 ص 241.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 247: «وفي هذه السنة- 257- سار يعقوب بن الليث إلى فارس، فأرسل اليه المعتمد ينكر ذلك عليه، فكتب اليه الموفق بولاية بلخ، وطخارستان، وسجستان..
السند فقبل ذلك وعاد، وسار إلى بلخ وطخارستان ... »(3/424)
لحرب الزنج كما مرّ. وفيها ملك يعقوب الصفّار خراسان وقبض على محمد بن طاهر، وكان لمنكجور على الكوفة، فسار عنها إلى سامرّا بغير إذن، وأمر بالرجوع فأبى، فبعث المعتمد عدّة من القوّاد فلقوه بعكبر فقتلوه وحملوا رأسه. وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس وملكها، وكانت وقعة بين محمد بن الفضل بن نيسان وبين دهشودان ابن حسّان الديليّ فهزمه محمد، وفيها غلب شركب الحمّال على مرو ونواحيها. وفي سنة ستين أقام يعقوب بن الصفّار الحسن بن زيد فهزمه وملك طبرستان كما مرّ.
وأخرج أهل الموصل عاملهم أتكوتكين بن أساتكين، فبعث عليهم أساتكين إسحاق ابن أيّوب في عشرين ألفا ومعه حمدان بن حمدون الثعلبي فامتنع أهل الموصل منهم وولّوا عليهم يحيى بن سليمان، فاستولى عليها، وفيها قتلت الأعراب منجور وإلى حمص فولّى بكتر، وولّى على أذربيجان الرذيني عمر بن عليّ لما بلغه أنّ عاملها العلاء بن أحمد الأزدي فلج، فلما أتى الرذيني حاربه العلاء فانهزم وقتل، واستولى الرذيني على مخلّفه قريبا من ألفي ألف وسبعمائة ألف درهم. وفيها سار عليّ بن زيد القائد بالكوفة إلى صاحب الزنج فقتله. وفي سنة إحدى وستين عقد المعتمد لموسى بن بغا على الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، مضافا لما بيده. فولّاها موسى عبد الرحمن بن مفلح وبعثه لحرب ابن واصل، فهزمه ابن واصل وأسره كما مرّ، ورأى موسى بن بغا اضطراب تلك الناحية، فاستعفى منها ووليها أبو الساج، وملك الزنج الأهواز من يده، فصرف عن ولايتها ووليها إبراهيم بن سيما وولي محمد بن أوس البلخيّ طريق خراسان. ثم جاء الصفّار إلى فارس، فغلب عليها ابن واصل كما مرّ، فجهّز المعتمد أخاه الموفّق إلى البصرة بعد أن ولّاه المعتمد عهده بعد ابنه جعفر كما ذكرناه. وبعث الموفّق ابنه أبا العبّاس لحرب الزنج فتقدّما بين يديه، وفيها فارق محمد بن زيد ولاية يعقوب الصفّار، وسار ابن أبي الساج إلى الأهواز وطلب أن يوجّه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان، وفيها استبدّ نصر بن أحمد بن سامان بسمرقند وما وراء النهر، وولّى أخاه إسماعيل بخارى وفيها ولّى المعتمد على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطّاب، وفيها رجع الحسين بن زيد إلى طبرستان وأخرج منها أصحاب الصفّار، وأحرق سالوس لممالأة أهلها الصفّار وأقطع ضياعهم للديلم، وفيها نادى المعتمد في حاج خراسان والريّ وطبرستان وجرجان بالنكير على ما فعله الصفّار في خراسان وابن طاهر، وانه لم يكن عن أمره ولا ولّاه.(3/425)
وفيها قتل مساور الشاربي يحيى ابن جعفر من ولاة خراسان، فسار مسرور البلخيّ في طلبه والموفّق من ورائه. وفي سنة اثنتين وستين كانت الحرب بين الموفّق والصفّار، واستولى الزنج على البطيحة ودسيميسان [1] وولّى على الأهواز كما ذكرنا، وبعث مسرور البلخي أحمد بن ليتونة [2] لحربهم كما مرّ. وفيها ثار أحمد بن عبد الله الخجستاني في خراسان بدعوة بني طاهر، وغلب عليها الصفّار إلى أن قتل كما مرّ ذكره. وفيها وقعت مغاضبة بين الموفّق وابن طولون فبعث إليه الموفق موسى بن بغا فأقام بالرقّة حولا، وعجز عن المسير لقلّة الأموال فرجع إلى العراق. وفيها انصرف عامل الموصل وهو القطّان صاحب مفلح فقتله الأعراب بالبريّة. وفي سنة ثلاث وستين استولى الصفّار على الأهواز، ومات مساور الشاربي [3] وهو قاصد لقاء العساكر السلطانية بالتواريخ [4] . فولّى الخوارج مكانه هارون بن عبد الله البلخيّ، فاستولى على الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل. وفيها هزم ابن أوس من طريق خراسان وعاد إلى الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل وأسروه، ومات عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد فاستوزر مكانه الحسن بن مخلّد، وكان موسى بن بغا غائبا في غزو العرب، فلما قدم خافه الحسين [5] وتغيّب، فاستوزر مكانه سليمان بن وهب وفيها غلب أخو شركب الحمّال على نيسابور وخرج عنها الحسين بن طاهر إلى مرو وبها خوارزم شاه يدعو لأخيه محمد.
وفيها ملك صاحب الزنج مدينة واسط وقاتله دونها محمد بن المولّد فهزمه ودخلها واستباحها. وفيها قبض المعتمد على وزيره سليمان بن وهب وولّى مكانه الحسن بن مخلّد، وجاء الموفّق مع عبد الله بن سليمان شفيعا فلم يشفعه، فتحوّل إلى الجانب الغربي مغاضبا واختلفت الرسل بينه وبين المعتمد، وكان مع الموفّق مسرور كيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا. ثم أطلق سليمان ودعا إلى الجوسق وهرب محمد بن صالح ابن شيرزاده والقوّاد الذين كانوا بسامرّا مع المعتمد خوفا من الموفّق، فوصلوا إلى الموصل وكتب الموفّق لأحمد بن أبي الأصبغ في قبض أموالهم. وفيها مات أماجور
__________
[1] دست ميسان: ابن الأثير ج 7 ص 292.
[2] احمد بن ليثويه: ابن الأثير ج 7 ص 322.
[3] مساور الشاري وقد مرّ ذكره من قبل.
[4] البوازيج: ابن الأثير ج 7 ص 309.
[5] حسب مقتضى السياق الحسن.(3/426)
عامل دمشق وملك ابن طولون الشام وطرسوس وقتل عاملها سيما. وفي سنة خمس وستين ولي مسرور البلخيّ على الأهواز، وهزم الزنج. وفيها مات يعقوب الصفّار وقام بأمره أخوه عمر، ولّاه الموفّق مكان أخيه بخراسان وأصبهان وسجستان والسّند وكرمان والشّرطة ببغداد. وفيها وثب القاسم بن مهان [1] بدلف ابن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فوثب جماعة من أصحاب دلف بالقاسم فقتلوه. فولي أصبهان أحمد بن عبد العزيز أخو دلف، وفيها لحق محمد بن المولّد بيعقوب الصفّار وقبضت أمواله وعقاره ببغداد. وفيها حبس الموفّق سليمان بن وهب وابنه عبد الله وصادرهما على تسعمائة ألف دينار، وفيها ذهب موسى بن أتامشّ وإسحاق بن كنداجق والفضل بن موسى بن بغا مغاضبين، وبعث الموفّق في أثرهم صاعد بن مخلّد فردّهم من صرصر وفيها استوزر الموفّق أبا الصقر إسماعيل بن بلبل. وفي سنة ست وستين ملك الزنج رامهرمز وغلب أساتكين على الريّ وأخرج عنها عاملها فطلقت [2] . ثم مضى إلى قزوين وبها أخوه كيغلغ فصالحه ملكها. وفيها ولّى عليّ بن الليث على الشرطة ببغداد عبيد الله بن عبد الله طاهر، وعلى أصبهان أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وعلى الحرمين وطريق مكة محمد بن أبي الساج، وولّى الموفق على الجزيرة أحمد بن موسى بن بغا فولّى من قبله على ديار ربيعة موسى بن أتامش، فغضب لذلك إسحاق ابن كنداجق وفارق عسكر موسى، وسار إلى بلد، وأوقع بالأكراد اليعقوبيّة، ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقاتله وسار إلى الموصل، وطلب من أهلها المال، وخرج على ابن داود لقتاله مع إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون، وكانت بينهم حروب أخّرها المعتمد لإسحاق بن كنداجق على الموصل، وقد مرّ ذلك من قبل، وفيها قتل أهل حمص عاملها عيسى الكرخيّ. وفيها كانت بين لؤلؤ غلام ابن طولون وبين موسى بن أتامش وقعة برأس عين، وأسره لؤلؤ وبعث به إلى الرقّة، ثم لقيه أحمد بن موسى فاقتتلوا، وغلب أحمد أوّلا ثم كرّ لؤلؤ فغلبهم وانتهوا إلى قرقيسيا. ثم ساروا إلى بغداد وسامرّا. وفيها أوقع أحمد بن عبد العزيز ببكتم [3] فانهزم ولحق ببغداد وأوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان فلحق بآمد، وملك الخجستاني جرجان وأقطعه من طبرستان واستخلف على سارية الحسن ابن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن
__________
[1] القاسم بن مهاة: ابن الأثير ج 7 ص 327.
[2] اسم العامل خطلنخجور كما في الكامل ج 7 ص 332.
[3] بكتمر: ابن الأثير ج 7 ص 335.(3/427)
حسين الأصفر بن زين العابدين، فلما انهزم الحسن بن زيد أظهر الحسن بن محمد أنه قتل، ودعا لنفسه وحاربه الحسن بن زيد فظفر به وقتله. وفيها ملك الخجستاني نيسابور من يد عامل ابن عمرو بن الليث، وفيها في صفر زحف الموفّق لقتال صاحب الزنج، فلم يزل يحاصره حتى اقتحم عليه مدينته وقتله منتصف سنة سبعين.
وفيها كانت الحرب بالمدينة بين بني حسن وبني جعفر. وفي سنة سبع وستين كانت الفتنة بالموصل بين الخوارج. وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله بن طاهر وجماعة من بيته، اتهمه عمرو بن الليث بممالأة الخجستاني والحسين بن طاهر أخيه، فكتب إلى المعتمد وحبسه. وفيها كانت بين كيقلغ [1] التركي وأحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وانهزم أحمد وملك كيقلغ همذان، فزحف إليه أحمد بن عبد العزيز فهزمه، وملك همذان. وسار كيقلغ إلى الصحيرة [2] . وفيها أزال الخجستاني ذكر محمد بن طاهر من المنابر ودعا لنفسه بعد المعتمد، وضرب السكة باسمه، وجاء يريد العراق فانتهى إلى الريّ. ثم رجع وفيها أوقع أصحاب أبي الساج بالهيثم العجليّ صاحب الكوفة، وغنموا عسكره. وفيها أوقع أبو العباس بن الموفّق بالأعراب الذين كانوا يجلبون الميرة بالزنج من بين تميم وغيرهم. وفي سنة ثمان وستين كان مقتل الخجستاني و [3] أصحابه بعده على رافع بن هرثمة من قوّاد بني طاهر وملك بلاد خراسان وخوارزم، وفيها انتقض محمد بن الليث بفارس على أخيه عمرو، فسار إليه وهزمه واستباح عسكره، وملك أصطيخور [4] وشيراز وظفر به، فحبسه كما مرّ. وفيها كانت وقعة بين أتكوتكين [5] بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف فهزمه اتكوتكين وغلبه على قمّ. وفيها بعث عمرو بن الليث عسكرا إلى محمد بن عبد الله الكرديّ. وفيها انتقض لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون، وسار إلى الموفّق وقاتل معه الزنج. وفيها سار المعتمد إلى ابن طولون بمصر مغاضبا لأخيه الموفّق، وكتب الموفّق إلى إسحاق بن كنداجق بالموصل بردّه، فسار معه إلى آخر عمله، ثم
__________
[1] تردد هذا الاسم مرات عديدة وفي الكامل كيغلغ: ج 7 ص 361.
[2] الصّيمرة: ابن الأثير ج 7 ص 362.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 372: «وفيها قتل احمد بن عبد الله الخجستاني في ذي الحجة، قتله غلام له» .
[4] هي مدينة إصطخر.
[5] اسمه أذكوتكين وقد مرّ معنا في السابق.(3/428)
قبض على القوّاد الذين معه، وردّه إلى سامرّا. وفيها وثب العامة ببغداد بأميرهم الخلنجيّ وكان كاتب عبيد الله بن طاهر، وقتل غلام له امرأة بسهم، فلم يعدهم عليه، فوثبوا به وقتلوا من أصحابه ونهبوا منزله وخرج هاربا، فركب محمد بن عبد الله واستردّ من العامة ما نهبوه. وفيها وثب بطرسوس خلق من أصحاب ابن طولون وعامله على الثغور الشامية، فاستنقذه أهل طرسوس من يده، وزحف إليهم ابن طولون فامتنعوا عليه، ورجع إلى حمص، ثم إلى دمشق، وفيها كانت وقعة بين العلويّين والجعفريّين بالحجاز، فقتل ثمانية من الجعفريين وخلّصوا عامل المدينة من أيديهم. وفيها عقد هارون بن الموفّق لأبي الساج على الأنبار والرحبة وطريق الفرات، وولّى محمد بن أحمد على الكوفة وسوادها ودافعه عنها محمد بن الهيثم فهزمه محمد ودخلها. وفيها مات عيسى بن الشيخ الشيبانيّ عامل أرمينية وديار بكر.
وفيها عظمت الفتنة بين الموفّق وابن طولون، فحمل المعتمد على لعنه وعزله، وولّى إسحاق بن كنداجق على أعماله إلى إفريقية، وعلى شرطة الخاصّة. وقطع ابن طولون الخطبة للموفّق واسمه من الطرر [1] وفيها ملك ابن طولون الرحبة بعد مقاتلة أهلها، وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم سار إلى ابن الشمّاخ بقرقيسياء. وفي سنة سبعين كان مقتل صاحب الزنج وانقراض دعوته، ووفاة الحسن بن زيد العلويّ صاحب طبرستان، وقيام أخيه محمّد بأمره، ووفاة أحمد بن طولون صاحب مصر وولاية ابنه خمارويه ومسير إسحاق بن كنداجق بابن دعامس عامل الرقّة والثغور والعواصم لابن طولون. وفي سنة إحدى وسبعين ثار بالمدينة محمد وعليّ ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم وقتلا جماعة من أهلها، ونهبا أموال الناس، ومنعا الجمعة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا. وفيها عزل المعتمد عمرو بن الليث من خراسان فقاتله أحمد بن عبد الله بن أبي دلف بأصبهان وهزمه. وفيها استعاد خمارويه الشام من يد أبي العبّاس بن الموفّق، وفرّ إلى طرسوس كما تقدّم. وفيها عقد المعتمد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة، وكان يوسف بن أبي الساج والي مكة. وجاء بدر غلام الطائي أميرا على الحاج فحاربه يوسف على باب المسجد الحرام وأسره، فسار الجند والحاج بيوسف وأطلقوا بدرا من يده وحملوا يوسف أميرا إلى بغداد. وفي منتصف سنة اثنتين وسبعين غلب أتكوتكين على الريّ من يد محمد بن
__________
[1] الطرر: حواشي الكتب.(3/429)
زيد العلويّ. سار هو من قزوين في أربعة آلاف، ومحمد بن زيد من طبرستان في الديلم، وأهل خراسان، فانهزموا وقتل منهم ستة آلاف. وفيها ثار أهل طرسوس بأبي العبّاس بن الموفّق وأخرجوه إلى بغداد وولّوا عليهم بازيار [1] . وفيها توفي سليمان ابن وهب في حبس الموفق. وفيها دخل حمدان بن حمدون وهارون مدينة الموصل. وفيها قدم صاعد بن مخلّد الوزير من فارس، وقد كان بعثه الموفّق إليها لحرب [2] فرجع إلى واسط وركب القوّاد لاستقباله فترجّلوا إليه وقبّلوا يده، ولم يكلّمهم. ثم قبض الموفّق على جميع أصحابه وأهله ونهب منازلهم، وكتب إلى بغداد بقبض ابنه أبي عيسى وصالح وأخيه عبدون، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة. وفيها جاء بنو شيبان إلى الموصل فعاثوا في نواحيها وأجمع هارون الشاربي وأصحابه على قصدهم، وكتب إلى أحمد بن حمدون الثعلبي فجاءه وساروا إلى الموصل وعبروا الجانب الشرقي من دجلة، ثم ساروا إلى نهر الحادر [3] فلما تراءى الجمعان انهزم هارون وأصحابه وانجلى سوى [4] عنها. وفي سنة ثلاث وسبعين وقعت الفتنة بين ابن كنداجق وبين ابن أبي الساج وسار ابن أبي الساج إلى ابن طولون واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب له فيها. وقاتل الشراة كما ذكرنا.
وفيها قبض الموفّق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره على أربعمائة ألف دينار وبقي في إدبار إلى أن عاد إلى مصر أيام هارون بن خمارويه. وفي سنة أربع وسبعين سار الموفّق إلى فارس فاستولى عليها من يد عمرو بن الليث ورجع عمرو إلى كرمان وسجستان، وعاد الموفّق إلى بغداد. وفي سنة خمس وسبعين نقض ابن أبي الساج طاعة خمارويه وقاتله خمارويه فهزمه، وملك الشام من يده وسار إلى الموصل، وخمارويه في اتباعه إلى بغداد. ولحق ابن أبي الساج بالحديثة فأقام بها إلى أن رجع خمارويه. وكان إسحاق ابن كنداج قد جاء إلى خمارويه فبعث معه جيشا وقوّاد في طلب ابن أبي الساج.
واشتغل بعمل السفن للعبور إليه فسار ابن أبي الساج عنها إلى الموصل، وأتبعه ابن
__________
[1] اسمه مازيار وقد مرّ معنا من قبل عدة مرّات.
[2] بياض بالأصل وفي الطبري ج 11 ص 331: «وفيها قدم صاعد بن مخلّد من فارس ودخل واسط في رجب» وعند ابن الأثير ج 7 ص 419- 420: «وفيها قدم صاعد من فارس إلى واسط وكان يتولى على فارس في هذه الفترة عمرو ابن الليث وقد بعث الموفق صاعد بن مخلد لقتاله.
[3] نهر الخازر: ابن الأثير ج 7 ص 419.
[4] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 7 ص 419: «وجلا أهل نينوى عنها» .(3/430)
كنداج وسار إلى الرقّة فاتبعه ابن أبي الساج، وكتب إلى الموفّق يستأذنه في اتباعه إلى الشام. وجاء ابن كنداج بالعساكر من عند خمارويه وأقام على حدود الشام ثم هزم ابن أبي الساج فسار إلى الموفّق وملك ابن كنداج ديار ربيعة وديار مضر، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفيها خرج أحمد بن محمد الطائي من الكوفة لحرب فارس العبديّ وكان يخيف السابلة فهزمه العبديّ، وكان الطائي على الكوفة وسوادها وطريق خراسان وسامرّا وشرطة بغداد، وخراج بادر دباد قطربُّل [1] وفيها قبض الموفّق على ابنه أبي العبّاس وحبسه. وفيها ملك رافع بن هرثمة جرجان من يد محمد بن زيد وحاصره في أستراباذ نحوا من سنتين، ثم فارقها الجيش لحربه فسار عن سارية وعن طبرستان سنة سبع وسبعين. واستأمن رستم بن قارن إلى رافع وقدم عليه عليّ بن الليث من حبس أخيه بكرمان هو وابناه العدل والليث. رافع على سالوس محمد بن هارون وجاء إليه علي بن كاني مستأمنا فحصرهما محمد بن زيد، وسار إليه رافع ففرّ إلى أرض الديلم ورافع في اتباعه إلى حدود قزوين فسار فيها وأحرقها وعاد إلى الريّ. وفي سنة ست وسبعين رضي المعتمد عن عمرو بن الليث وولّاه وكتب اسمه على الأعلام، وولّى على الشرطة ببغداد من قبله عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر. ثم انتقض فأزيل. وفيها كان مسير الموفّق إلى الجبل لأتكوتكين ومحاربة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وقد تقدّم ذلك. وفيها ولّى الموفّق ابن أبي الساج على أذربيجان فسار إليها ودافعه عبد الله ابن حسن الهمذاني صاحب مراغة فهزمه ابن أبي الساج، واستقرّ في عمله. وفيها زحف هارون الشاري من الحديثة إلى الموصل يريد حربها، ثم صانعه أهل الموصل ورحل عنهم. وفي سنة سبع وسبعين دعا مازيار بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون، وكان أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحا كثيرا. وبعث إليه بعد الدعاء بخمسين ألف دينار. وفي سنة ثمان وسبعين كانت وفاة الموفّق وبيعة المعتضد بالعهد كما مرّ. وفيها كان ابتداء أمر القرامطة وقد تقدّم. وفي سنة تسع وسبعين خلع جعفر بن المعتمد وقدّم عليه المعتضد وكانت الحرب بين الخوارج وأهل الموصل، وبين بني شيبان وعلى بني شيبان هارون بن سيما من قبل محمد ابن إسحاق بن كنداج، ولّاه عليها فطرده أهلها، فزحف إليهم مع بني شيبان ودافع عن أهل الموصل هارون الشاري وحمدان بن حمدون فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل
__________
[1] بادوريا، وقطربُّل: ابن الأثير ج 7 ص 432.(3/431)
الموصل من ابن سيما وبعثوا إلى بغداد يطلبون واليا، فولّى المعتمد عليهم محمد بن يحيى المجروح الموكّل بحفظ الطريق، وكان ينزل الحديثة فأقام بها أياما ثم استبدل منه بعليّ بن داود الكردي.
وفاة المعتمد وبيعة المعتضد
توفى المعتمد على الله أبو العبّاس أحمد بن المتوكّل لعشر بقين من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين لثلاث وعشرين سنة من ولايته، ودفن بسامرّا، وهو أوّل من انتقل إلى بغداد وكان في خلافته مغلبا عاجزا وكان أخوه الموفّق مستبدّا عليه، ولم يكن له معه حكم في شيء. ولما مات الموفّق سنة ثمان وسبعين كما قدّمناه أقام مكانه ابنه أبا العبّاس أحمد المعتضد وحجر المعتمد كما كان أبوه يحجره، وولّاه عهده كما كان أبوه.
ثم قدّمه في العهد على ابنه جعفر، ثم هلك فبايع الناس للمعتضد بالخلافة صبيحة موته، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة، ومحمد بن الشاري بن ملك الحرس. ووفد عليه لأوّل خلافته رسول عمرو بن الليث بالهدايا وسأل ولاية خراسان فعقد له عليها، وبعث إليه بالخلع واللواء، ولأوّل خلافته مات نصر بن أحمد الساماني ملك ما وراء النهر، وقام مكانه أخوه إسماعيل.
مقتل رافع بن الليث [1]
كان رافع بن الليث قد وضع يده على قرى السلطان بالريّ، وكتب إليه المعتضد برفع يده عنها، فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بإخراجه عن الريّ فقاتله وأخرجه، وسار إلى جرجان ودخل نيسابور سنة ثلاث وثمانين، فوقعت بينه وبين عمرو حرب وانهزم رافع إلى أبيورد وخلص عمرو ابني أخيه من حبسه، وهما العدل والليث ابنا عليّ بن الليث، وقد تقدّم خبرهما. ثم سار رافع إلى هراة ورصده عمرو بسرخس فشعر به ورجع إلى نيسابور في مسالك صعبة، وطرق ضيّقة، واتبعه عمرو فحاصره في نيسابور. ثم تلاقيا وهرب عن رافع بعض قوّاده إلى عمرو فانهزم رافع، وبعث أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمدّه كما شرط له فلم يفعل.
وافترق عن رافع أصحابه وغلمانه، وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل في
__________
[1] رافع بن هرثمة: ابن الأثير ج 7 ص 457.(3/432)
بخارى، ولحق رافع بخوارزم في فلّ من العسكر ومعه بقية أمواله وآلته، ومرّ في طريقه بأبي سعيد الدرعاني ببلد فاستغفله وغدر به وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور وذلك في شوّال سنة ثلاث وثمانين.
خبر الخوارج بالموصل
قد تقدّم لنا أنّ خوارج الموصل من الشراة استفدر عليهم بعد مساور هارون الشاري وذكرنا شيئا من أخبارهم. ثم خرج عليه سنة ثمانين محمد بن عبادة ويعرف بأبي جوزة من بني زهير من البقعاء، وكان فقيرا ومعاشه ومعاش بنيه في التقاط الكمأة وغيرها وأمثال ذلك، وكان يتديّن ويظهر الزهد، ثم جمع الجموع وحكم واستجمع إليه الأعراب من تلك النواحي، وقبض الزكوات والأعشار من تلك الأعمال، وبنى عند سنجار حصنا ووضع فيه أمتعته وما عونه، وأنزل به ابنه أبا هلال في مائة وخمسين، فجمع هارون الشاري أصحابه وبدأ بحصار الحصن فأحاط به ومحمد بن عبادة في داخله. وجدّ في حصاره حتى أشرف على فتحه وقيّد أبا هلال ابنه ونفرا معه وبعث بنو ثعلب وهم مع هارون إلى من كان بالحصن من بني زهير فأمّنوهم، وملك هارون الحصن. ثم ساروا إلى محمد فلقيهم وهزمهم أوّلا ثم كرّوا عليه مستميتين فهزموه، وقتلوا من أصحابه ألفا وأربعمائة، وقسّم هارون ماله ولحق محمد بآمد، فحاربه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ فظفر به وبعثه إلى المعتضد فسلخه حيّا.
إيقاع المعتضد ببني شيبان واستيلاؤه على ماردين
وفي سنة ثمانين سار المعتضد إلى بني شيبان بأرض الجزيرة ففرّوا أمامه، وأثار على طوائف من العرب عند السّند فاستباحهم، وسار إلى الموصل فجاءه بنو شيبان وأعطوه رهنهم على الطاعة، فغلبهم وعاد إلى بغداد. وبعث إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ في أموال ابن كنداج التي أخذها بأحمد، فبعث بها وبهل أياما كثيرة معها [1] . ثم بلغه أنّ أحمد بن حمدون ممالئ لهارون الشاري، وداخل في دعوته، فسار المعتضد إليه سنة إحدى وثمانين واجتمع الأعراب من بني ثعلب وغيرهم للقائه، وقتل منهم
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 462: «وأرسل إلى احمد بن عيسى بن الشيخ يطلب منه ما اخذه من أموال كنداجيق بآمد، فبعثه اليه ومعه هدايا كثيرة» .(3/433)
وغرق في الزاب كثيرا، وسار إلى الموصل. ثم بلغه أنّ أحمد هرب عن ماردين وخلف بها ابنه، فسار المعتضد إليه ونازلة وقاتله يوما، ثم صعد من الغد إلى باب القلعة، وصاح بابن حمدان واستفتح الباب ففتح له دهشا وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها، وبعث في طلب حمدان وأخذ أمواله.
الولاية على الجبل وأصبهان
عقد المعتضد سنة إحدى وثمانين لابنه عليّ وهو المكتفي على الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ وهمذان والدينور فاستأمن إليه عامل الريّ لرافع بن الليث، وهو الحسن بن عليّ كورة فأمّنه وبعث به إلى أبيه.
عود حمدان إلى الطاعة
وفي سنة اثنتين وثمانين سار المعتضد إلى الموصل واستقدم إسحاق بن أيّوب وحمدان ابن حمدون، فبادر إسحاق بقلاعه وأودع حرمه وأمواله، فبعث إليه المعتضد العساكر مع وصيف ونصر القسوريّ [1] ، فمرّوا بذيل الزعفران من أرض الموصل وبه الحسن ابن علي كورة، ومعه الحسين بن حمدان. فاستأمن الحسين وبعثوا له إلى المعتضد فأمر بهدم القلعة. وسار وصيف في اتباع حمدان. فواقعه وهزمه وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة وسار في ديار ربيعة، وعبرت إليه العساكر وحبسوه فأخذوا ماله، وهرب وضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيرا به فأحضره عند المعتضد فوكّل به وحبسه.
هزيمة هارون الشاري ومهلكه
كان المعتضد قد ترك بالموصل نصر القسرويّ لإعادته العمّال على الجباية، وخرج بعض العمّال لذلك فأغارت عليهم طائفة من أصحاب هارون الشاري وقتل بعضهم، فكثر عيث الخوارج. وكتب نصر القسروي إلى هارون يهدّده، فأجابه وأساء في الردّ وعرّض بذكر الخليفة فبعث نصر بالكتاب إلى المعتضد فأمره بالجدّ في طلب هارون، وكان على الموصل يكتم طاتشمر من مواليهم فقبض عليه وقيّده، وولّى على الموصل الحسن كورة، وأمر ولاة الأعمال بطاعته، فجمعهم وعسكر بالموصل،
__________
[1] القشوري: ابن الأثير ج 7 ص 469.(3/434)
وخندق على عسكره إلى أن أوقع بالناس غلاتهم. ثم سار إلى الخوارج وعبر الزاب إليهم فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم وقتل منهم وافترقوا، وسار الكثير منهم إلى أذربيجان ودخل هارون البريّة واستأمن وجوه أصحابه إلى المعتضد فأمّنهم. ثم سار المعتضد سنة ثلاث وثمانين في طلب هارون فانتهى إلى تكريت، وبعث الحسين بن حمدون في عسكر نحو من ثلاثمائة فارس، واشترط إن جاء به إطلاق ابنه حمدان! وسار معه وصيف وانتهى إلى بعض مخايض دجلة فأرصد بها وصيفا وقال: لا تفارقوها حتى تروني! ومضى في طلبه فواقعه وهزمه، وقتل من أصحابه. وأقام وصيف ثلاثة أيام فأبطأ عليه الأمر فسار في اتباع ابن حمدان، وجاء هارون منهزما إلى تلك المخاضة فعبر، وابن حمدان في أثره إلى حيّ من أحياء العرب قد اجتاز بهم هارون، فدلّوا ابن حمدان عليه فلحقه وأسره وجاء به إلى المعتضد. فرجع المعتضد آخر ربيع الأوّل وخلع على الحسين وإخوته وطوقه، وأدخل هارون على الفيل وهو ينادي: لا حكم إلا للَّه ولو كره المشركون، وكان صغديّا [1] . ثم أمر المعتضد بحلّ القيود عن حمدان ابن حمدون والإحسان إليه وبإطلاقه. وفي سنة اثنتين وثمانين سار المعتضد من الموصل إلى الجبل فبلغ الكرخ فهرب عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بين يديه فأخذ أمواله وبعث إليه في طلب جدّ كان عنده فوجهه إليه. ثم بعث المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه بالريّ ليسير من هناك إلى عمر بن عبد العزيز بالأمان، فسار وأمّنه ورجع إلى الطاعة فخلع عليه وعلى أهل بيته، وكان أخوه بكر بن عبد العزيز قد استأمن قبل ذلك إلى عبيد الله بن سليمان وبدر فولّاه عمله، على أن يسير إلى حربه.
فلما وصل عمر في الأمان قال لبكر: إنما ولّيناك وأخوك عاص فامضيا إلى أمير المؤمنين المعتضد وولى عيسى النوشريّ على أصبهان من قبل عمرو هرب بكر إلى الأهواز وسار عبيد الله بن سليمان الوزير إلى عليّ بن المعتضد بالريّ. ولما بلغ الخبر إلى المعتضد بعث وصيفا موسكين [2] إلى بكر بن عبد العزيز بالأهواز فلحقه بحدود فارس، فمضى بكر إلى أصبهان ليلا ورجع وصيف إلى بغداد، وكتب المعتضد إلى بدر مولاه بطلب بكر بن عبد العزيز وحربه، فأمر بذلك عيسى النوشريّ فقام به ولقي بكرا بنواحي أصبهان فهزمه بكر، ثم عاد النوشريّ لقتاله سنة أربع وثمانين فهزمه بنواحي أصبهان
__________
[1] صغريا: ابن الأثير ج 7 ص 477.
[2] وصيف بن موشكير: المرجع السابق ص 476.(3/435)
واستباح عسكره ولجأ بكر إلى محمد بن زيد العلويّ بطبرستان وهلك بها سنة خمس وثمانين، وكان عمر لما مات أبوه قبض على أخيه الحرث ويكنّى أبا ليلى، وحبسه في قلعة ردّ، ووكل به شفيعا الخادم. فلما جاء المعتضد واستأمن عمر وهرب بكر وبقيت القلعة بيد شفيع بأموالها، رغب إليه الحرث في إطلاقه فلم يفعل، وكان شفيع يسامره كل ليلة وينصرف فحادثه ليلة ونادمه وقام شفيع لبعض حاجته فجعل الحرث في فراشه تمثالا وغطّاه وقال لجاريته: قولي لشفيع إذا عاد هو نائم، ومضى فاختفى في الدار وفكّ القيد عن رجله بمبرد أدخل إليه وبرد به مسماره. ولما أخبر شفيع بنومه مضى إلى مرقده وقصده أبو ليلى على فراشه فقتله، وأمر أهل الدار واجتمع عليه الناس فاستحلفهم ووعدهم، وجمع الأكراد وغيرهم وخرج من القلعة ناقضا للطاعة. فسار إلى عيسى النوشريّ وحاربه فأصاب أبا ليلى سهم فمات، وحمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد.
خبر ابن الشيخ بآمد
وفي سنة خمس وثمانين توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ وقام بأمره في آمد وأعمالها ابنه محمد فسار المعتضد إليه في العساكر ومعه ابنه أبو محمد علي المكتفي، ومرّ بالموصل وحاصر المعتمد إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ونصب عليها المجانيق حتى استأمن لنفسه ولأهل آمد، وخرج إلى المعتمد فخلع عليه وهدم سورها ثم بلغه أنه يروم الهرب فقبض عليه وعلى أهله.
خبر ابن أبي الساج
قد تقدّم لنا ولاية محمد بن أبي الساج على أذربيجان ومدافعة الحسين إياه عن مراغة، ثم فتحها واستيلاؤه على أعمال أذربيجان، وبعث المعتضد سنة اثنتين وثمانين أخاه يوسف بن أبي الساج إلى الصّيمرة مددا لفتح القلانسي [1] غلام الموفّق، فخرج يوسف فيمن أطاعه فولّاه المعتضد على أعماله، وبعث إليه بالخلع وأعطاه الرهن بما ضمن من الطاعة والمناصحة وبعث بالهدايا.
__________
[1] القلابسي: ابن الأثير ج 7 ص 473.(3/436)
ابتداء أمر القرامطة بالبحرين والشام
كان في سنة احدى وثمانين قد جاء إلى القطيف بالبحرين رجل تسمّى بيحيى بن المهدي وزعم أنه رسول من المهدي، وأنه قد قرب خروجه، وقصد من أهل القطيف علي بن المعلّى بن حمدان الرباديني، وكان متغاليا في التشيع، فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي ليشيع الخبر في سائر قرى البحرين، فأجابوا كلّهم وفيهم أبو سعيد الجنابي وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدّة ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم وأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين عن كل رجل منهم ففعلوا. ثم غاب وجاء بكتاب آخر بأن يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا، وأقام يتردّد في قبائل قيس، ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبحرين سنة ست وثمانين واجتمع إليه القرامطة والأعراب، وقتل واستباح وسار إلى القطيف طالبا البصرة، وبلغت النفقة فيه أربعة عشر ألف دينار. ثم قرب أبو سعيد من نواحي البصرة، وبعث المعتضد إليهم المدد مع عبّاس بن عمر الغنويّ وعزله عن فارس وأقطعه اليمامة والبحرين، وضمّ إليه ألفين من المقاتلة، وسار إلى البصرة وأكثر من الحشد جندا ومتطوّعة. فسار ولقي أبا سعيد الجنابي، ورجع من كان معه بني ضبّة إلى البصرة. ثم كان اللقاء فهزمه الجنابي وأسره واحتوى على معسكره وحرق الأسرى بالنار وذلك في شعبان من هذه السنة. وسار إلى هجر فملكها وأمّن أهلها ورجع إلى أهل البصرة، وبعثوا إليهم بالرواحل عليها الطعام والماء، فاعترضهم بنو أسد وأخذوا الرواحل وقتلوا الفلّ، واضطربت البصرة وتشوف أهلها إلى الانتقال فمنعهم الواثقي. ثم أطلق الجنابي العبّاس الغنويّ فركب إلى الأبلّة وسار منها إلى بغداد، فخلع عليه المعتضد. وأمّا ظهورهم بالشام فان داعيتهم ذكرويه بن مهرويه الّذي جاء بكتاب المهدي إلى العراق لما رأى الجيوش متتابعة إلى القرامطة بالسواد، وأبادهم القتل، لحق بأعراب أسد وطيِّئ، فلم يجبه فبعث أولاده في كلب بن وبرة فلم يجبه منهم إلّا بنو القليظي بن ضمضم بن عديّ بن جناب، فبايعوا ذكرويه ويسمّى بيحيى ويكنّى بأبي القاسم، ولقّبوه الشيخ، وأنه من ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق. وأنه يحيى بن عبد الله بن يحيى بن إسماعيل، وزعم أنّ له مائة ألف تابع، وانّ ناقته التي يركبها مأمورة فمن تبعها كان منصورا. فقصدهم شبل مولى(3/437)
المعتضد في العساكر من ناحية الرصافة فقتلوه. فسار إليهم شبل مولى أحمد بن محمد الطائي فأوقع بهم. وجاء ببعض رؤسائهم أسيرا فأحضره المعتضد وقال له هل تزعمون أنّ روح الله وأنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل، وتوفّقكم لصالح العمل؟ فقال له: يا هذا أرأيت إن حلّت روح إبليس فما ينفعك؟ فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك. قال له: فقل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوكم العبّاس حيّ فلم يطلب الأمر ولا بايعه. ثم مات أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى العبّاس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى، وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد، وهذا إجماع منهم على دفع جدّك عنها. فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ فأمر به المعتضد فعذب وخلعت عظامه، ثم قطع مرّتين ثم قتل. ولما أوقع شبل بالقرامطة بسواد الكوفة ساروا إلى الشام فانتهوا إلى دمشق وعليها طغج بن جفّ مولى أحمد بن طولون من قبل ابنه هارون، فخرج إليهم فقاتلهم مرارا، هزموه في كلها. هذه أخبار بدايتهم ونقبض العنان عنها إلى أن نذكر سياقتها عند ما نعدّد أخبارهم على شريطتنا في هذا الكتاب كما تقدّم.
استيلاء ابن ماسان على خراسان من يد عمرو بن الليث وأسره ثم مقتله
لما تغلب عمرو بن الليث الصفّار على خراسان من يد رافع بن الليث، وقتله وبعث برأسه إلى المعتضد، وطلب منه أن يولّيه ما وراء النهر مضافا إلى ولاية خراسان، كتب له بذلك فجهّز الجيوش لمحاربة إسماعيل بن أحمد صاحب ما وراء النهر، وجعل عليهم محمد بن بشير من أخصّ أصحابه. وبعث معه القوّاد فانتهوا إلى آمد من شطّ جيحون، وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتل محمد بن بشير في ستة آلاف، ولحق الفلّ بعمرو في نيسابور، فتجهّز وسار إلى بلخ، وكتب إليه إسماعيل يستعطفه ويقول: أنا في ثغر وأنت في دنيا عريضة فاتركني واستفد ألفتي فأبى. وصعب على أصحابه عبور النهر لشدّته فعبر إسماعيل وأخذ الطرق على بلخ وصار عمرو محصورا. واقتتلوا فانهزم عمرو وتسرّب من بعض المسالك عن أصحابه فوجد في أجمة وأخذ أسيرا، وبعث به إسماعيل إلى سمرقند ومن هناك إلى المعتضد سنة ثمان وثمانين، فحبسه إلى أن مات المعتضد سنة تسع بعدها فقتله ابنه المكتفي وعقد لإسماعيل على(3/438)
خراسان كما كانت لعمرو، وكان عمرو عظيم السياسة، وكان يستكثر من المماليك ويجرى علي الأرزاق ويفرّقهم على قوّاد ليطالعوه بأخبارهم. وكان شديد الهيبة، ولم يكن أحد يتجاسر أن يعاقب غلاما ولا خادما إلا أن يرفعه إلى حجّابه.
استيلاء ابن سامان على طبرستان من يد العلويّ ومقتله
ولما بلغ محمد بن زيد العلويّ صاحب طبرستان والديلم ما وقع بعمر وبن الليث وأنه أسر طمع هو في خراسان وظنّ أنّ ابن إسماعيل لا يتجاوز عمله، فسار إلى جرجان وبعث إليه إسماعيل بالكف فأبى، فجهّز لحربه محمد بن هارون، وكان من قوّاد رافع بن الليث. واستأمن إلى عمرو ثم إلى إسماعيل فنظّمه في قوّاده وندبه الآن لحرب محمد بن زيد، فسار لذلك. ولقيه على باب خراسان، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم محمد بن هارون أوّلا وافترقت عساكر محمد بن زيد على النهب ثم رجع هو وأصحابه، وانهزم محمد بن زيد وجرح جراحات فاحشة هلك منها لأيام، وأسر ابنه زيد، وبعث به إسماعيل إلى بخارى واجترأ عليه وغنم ابن هارون معسكرهم، ثم سار إلى طبرستان فملكها وصار خراسان وطبرستان لبني سامان، واتصلت لهم دولة نذكر سياقة أخبارها عند إفراد دولتهم بالذكر كما شرطناه في تأليفنا.
ولاية علي بن المعتضد على الجزيرة والثغور
ولما ملك المعتضد آمد من يد ابن الشيخ كما قدّمناه، سار إلى الرقّة وتسلّم قنّسرين والعواصم من يد عمّال هارون بن خمارويه لأنه كان كتب إليه أن يقاطعه على الشام ومصر ويسلّم إليه أعمال قنّسرين، ويحمل إليه أربعمائة ألف دينار وخمسين ألفا فأجابوه وسار من آمد إلى الرقّة فأنزل ابنه عليّا الّذي لقّبه بعد ذلك بالمكتفي وعقد له على الجزيرة وقنّسرين والعواصم سنة ست وثمانين. واستكتب له الحسن بن عمر النصراني واستقدم وهو بالرقّة راغبا مولى الموفّق من طرسوس، فقدم عليه وحبسه وحبس ملنون غلامه، واستصفى أموالهما، ومات راغب لأيام من حبسه وقد كان راغب استبدّ بطرسوس وترك الدعاء لهارون بن خمارويه، ودعا لبدر مولى المعتضد. ولما جاء أحمد بن طبان للغزّ سنة ثلاث وثمانين تنازع معه راغب، فركب أحمد البحر في(3/439)
رجوعه ولم يعرّج على طرسوس وترك بها دميانة غلام بازيار [1] وأمدّه فقوي وأنكر على راغب أفعاله بحمل دميانة إلى بغداد، واستبدّ راغب إلى استدعاء المعتضد ونكبه كما قلناه، وولّى ابن الأخشاء على طرسوس فمات لسنة. واستخلف أبا ثابت وخرج سنة سبع وثمانين غازيا فأسر وولّى الناس عليهم مكانه علي بن الأعرابيّ، ولحق بملطية في هذه السنة وصيف مولى محمد بن أبي الساج صاحب بردعة، وكتب إلى المعتمد يسأله ولاية الثغور وقد وطأ صاحبه أن يسير إليه إذا وليها فيقصدان ابن طولون ويملكان مصر من يده، وظهر المعتضد على ذلك فسار لاعتراضه، وقدّم العساكر بين يديه، فأخذوه بعين زربة وجاءوا به إلى المعتضد فحبسه، وأمّن عسكره ورحل إلى قرب طرسوس، واستدعى رؤساءها وقبض عليهم بمكاتبتهم وصيفا، وأمر بإحراق مراكب طرسوس بإشارة دميانة، واستعمل على أهل الثغور الحسن بن علي كورة وسار إلى أنطاكية وحلب ورجع منها إلى بغداد وقتل وصيفا وصلبه. واستقدم المكتفي بعد وفاة المعتضد الحسن بن عليّ، وولّى على الثغور مظفّر بن حاج. ثم شكا أهل الثغر منه فعزله وولّى أبا العشائر بن أحمد بن نصر سنة تسعين.
حرب الأعراب
وفي سنة ست وثمانين اعترضت طيِّئ ركب الحاج بالاجيعر، وقاتلوه ونهبوا أموال التجّار ما قيمته ألف ألف دينار، ثم اعترضوا الحاج كذلك سنة تسع وثمانين بالقرن فهزمهم الحاج وسلموا.
تغلب ابن الليث على فارس وإخراج بدر إياه
وفي فاتح ثمان وثمانين جاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث في العساكر إلى بلاد فارس، وأخرج منها عامل المعتضد وهو عيسى النوشريّ كان على أصبهان فولّاه المعتضد فارس، فسار إليها فجاءه طاهر وملكها. وكتب إليه إسماعيل صاحب ما وراء النهر بأن المعتضد ولّاه سجستان لذلك، وعقد المعتضد لبدر مولاه على فارس، وهرب عمّال طاهر عنها وملكها بدر وجبى خراجها. ثم مات المعتضد وسار مغرّبا عن فارس فقتل بواسط وقاطع طاهر بلاد فارس على مال يحمله، فقلّده المكتفي ولايتها سنة تسعين.
__________
[1] مازيار.(3/440)
الولايات في النواحي
كان أكثر النواحي في دولة المعتضد مغلبا عليها كخراسان وما وراء النهر لابن سامان، والبحرين للقرامطة ومصر لابن طولون وإفريقية لابن الأغلب، وقد ذكرنا من ولي الموصل. وفي سنة خمس وثمانين ولّى المعتضد عليها وعلى الجزيرة والثغور الشامية [1] مولاه، ثم ملك آمد من يد ابن الشيخ وجعلها لابنه عليّ المكتفي وأنزله الرقّة كما ذكرناه وعقد له على الثغور. ثم عقد بعده للحسن بن عليّ كورة وولّى على فارس بدرا مولاه. ومات إسحاق بن أيّوب بن عمر بن الخطّاب الثعلبي العدويّ أمير ديار ربيعة، فولّى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعمر.
وفي سنة ثمان وثمانين ظهر باليمن بعض العلويّين وتغلّب على صنعاء، فجمع له بنو يعفر وقاتلوه فهزموه وأسروا ابنه، وتجافى نحو خمسين فارسا، وملك بنو يعفر صنعاء وخطبوا فيها للمعتضد، وهلك ابن أبي الساج في هذه السنة، فولّى أصحابه ابنه ديوداد. ونازعه عمّه يوسف بن رافع بابن أخيه وهزمه ومضى إلى بغداد على طريق الموصل، واستقل يوسف بملك أذربيجان، وعرض على ابن أخيه المقام عنده فأبى، وقلّد المعتضد لأول خلافته ديوان المشرق لمحمد بن داود بن الجرّاح، عوضا عن أحمد بن محمد بن الفرات، وديوان المغرب عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح، ومات وزيره عبيد الله بن سليمان بن وهب فولى ابنه أبا القاسم مكانه.
الصوائف
وفي سنة خمس وثمانين غزا راغب مولى الموفّق من طرسوس في البحر، فغنم مراكب الروم، قتل فيها نحوا من ثلاثة آلاف وأحرقها. وخرج الروم سنة سبع وثمانين ونازلوا طرسوس فقاتلهم أميرها واتبعهم إلى نهر الرحال فأسروه. وفي سنة ثمان وثمانين بعث الحسن بن علي كورة صاحب الثغور بالصائفة، فغزا وفتح حصونا كثيرة وعاد بالأسرى، فخرج الروم في أثره برا وبحرا إلى كيسوم من نواحي حلب فأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا ورجعوا.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 490: «وفيها- 285- سار فاتك مولى المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية والجزرية وإصلاحها، مضافا إلى ما كان يتقلّده من البريد بها.»(3/441)
وفاة المعتضد وبيعة ابنه
كان بدر مولى المعتضد عظيم دولته، وكان القاسم بن عبيد الله الوزير يروم نقل الخلافة في غير بني المعتضد، وفاوض في ذلك بدرا أيام المعتضد فأبى، ولم يمكن القاسم مخالفته. فلما مات المعتضد كان بدر بفارس بعثه إليها المعتضد لما بلغه أن طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث غلب عليها فبعث بدرا وولّاه. فلما مات عقد الوزير البيعة لابنه المكتفي وخشي من بدر فيما اطلع عليه منه، فأعمل الحيلة في أمره. وكان المكتفي أيضا يحقد لبدر كثيرا من منازعة معه أيام أبيه، فدسّ الوزير إلى القوّاد الذين مع بدر بمفارقته، ففارقه العبّاس بن عمر الغنويّ ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخاقان العلجى [1] وغيرهم، فأحسن الملتقى إليهم وسار بدر إلى واسط، فوكّل المكتفي بداره وقبض على أصحابه وأمر بمحو اسمه من الفراش [2] والأعلام وبعث الحسن بن علي كورة في جيش إلى واسط، وعرض على بدر ما شاء من النواحي، فقال: لا بدّ لي أن أشافه مولاي بالقول! فخوف الوزير المكتفي خائنته ومنعه من ذلك، وشعر أن بدرا بعث عن ابنه هلال فوكّل به. ثم بعث الوزير عن القاضي أبي عمر المالكيّ وحمّله الأمان إلى بدر، فجاء بأمانه وبعث الوزير من اعترضه بالطريق فقتله لست خلون من رمضان، وحمل أهله شلوه إلى مكّة فدفن بها لوصيته بذلك، وحزن القاضي أبو عمر لاخفار ذمّته.
استيلاء محمد بن هارون على الري ثم أسره وقتله
قد تقدّم لنا ذكر محمد بن هارون وأنه كان من قوّاد رافع بن هرثمة، ونظّمه إسماعيل بن أحمد صاحب ما وراء النهر في قوّاده وبعثه لحرب محمد بن زيد فهزمه واستولى على طبرستان، وولّاه إسماعيل عليها. ثم انتقض ودعا بدعوة العلويّة وبيّض [3] وساعده ابن حسّان الديلميّ. وبعث إسماعيل العساكر لقتال ابن حسّان فهزموه. وكان على الري من قبل المكتفي أغرتمش التركيّ، فأساء السيرة فبعث أهل الريّ إلى محمّد بن هارون أن يسير إليهم ويولّوه، فسار وحارب أغرتمش فهزمه وقتله، وقتل ابنيه وأخاه
__________
[1] خاقان المفلحيّ: ابن الأثير ج 7 ص 518.
[2] التراس: المرجع السابق.
[3] اي أنه لبس ثيابا بيضاء بعكس العباسيين الذين كان شعارهم السواد.(3/442)
كيغلغ من القوّاد واستولى على الريّ وبعث المكتفي مولاه خاقان المفلحيّ لولاية الريّ في جيش كثيف فلم يصلها، وبعث المكتفي إلى إسماعيل بولايته ومحاربة محمد بن هارون فسار إسماعيل إليه وهزمه، فخرج عن الريّ إلى قزوين وزنجان. ثم لحق بطبرستان واستقرّ مع ابنه مستجيزا، ولما ملك إسماعيل الريّ ولّى على جرجان مولاه نارس الكبير [1] ، والزمه إحضار محمد بن هارون فكاتبه نارس وضمن له صلاح الحال، فقبل وانصرف عن الديلم إلى بخارى، فبعث إسماعيل من اعترضه وحمل إلى بخارى مقيّدا فمات في الحبس بعد شهر وذلك في شعبان سنة تسعين.
استيلاء المكتفي على مصر وانقراض دولة ابن طولون
كان محمد بن سليمان من قوّاد بني طولون وكاتب جيشهم واستوحش منهم، فلحق بالمعتضد وصرفوه في الخدم، وكانت القرامطة عاثوا في بلاد الشام وحاصروا عامل بني طولون بدمشق وهو طغج بن جفّ، وقتلوا قوّاده. وسار المكتفي إليهم فنزل الرقّة وبعث محمد بن سليمان لحربهم ومعه الحسن بن حمدان والعساكر وبنو شيبان، فلقيهم قرب حماة فهزمهم واتبعهم إلى الكوفة، وقبض في طريقه على أميرهم صاحب الشامة فبعث به إلى المكتفي، فرجع إلى بغداد وخلّف محمد بن سليمان في العساكر فتبعهم وأسر جماعة منهم. وبينما هو يروم العود إلى بغداد جاءه كتاب بدر الحماميّ مولى هارون بن خمارويه ومحمد فائق صاحب دمشق يستقدمانه إلى البلاد لعجز هارون عنها، فأنهى ذلك محمد بن سليمان عند عوده إلى المكتفي فأعاده وأمدّه بالجنود والأموال، وبعث دميانة غلام بازيار في الأسطول ليدخل من فوهة النيل ويحاصر مصر، ولما وصل ودنا من مصر كاتب القوّاد، وخرج إليه رئيسهم بدر الحماميّ وتتابع منهم جماعة، وبرز هارون لقتاله فحاربه أياما. ثم وقعت بعض الأيام في عسكره هيعة ركب لها ليسكنها فأصابته حربة مات منها، واجتمع أصحابه على عمّه شيبان وبذل الأموال فقاتلوا معه. ثم جاءهم كتاب محمد بن سليمان بالأمان فأجابوه، وخالف شيبان إلى مصر فاستولى عليها واستأمن إليه شيبان سرّا فأمّنه ولحق به. ثم قبض على بني طولون وحبسهم واستصفى أموالهم وذلك في صفر سنة اثنتين وتسعين، وأمره المكتفي بإزالة آل طولون وأشياعهم من مصر والشام ففعل.
__________
[1] بارس الكبير: ابن الأثير ج 7 ص 527.(3/443)
وسار بهم إلى بغداد وولّى المكتفي على مصر عيسى النوشريّ وخرج عليه إبراهيم الخليجي من قوّاد بني طولون يخلف عن محمد بن سليمان، فخلّفه وكثر جمعه وسار النوشريّ إلى الإسكندرية عجزا عن مدافعته، واستولى الخليجي على مصر وبعث المكتفي بالجنود مع فاتك مولى المعتضد وأحمد بن كيغلغ وبدر الحمامي من قوّاد بني طولون، فوصلوا سنة ثلاث وتسعين، وتقدّم أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد، فلقيهم قرب العريش فهزمهم وقوي الأمر، وبلغ الخبر إلى المكتفي فعسكر ظاهر بغداد، وانتهى مدّه إلى تكريت فلقيه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنهم هزموا الخليجي بعد حروب متّصلة، وغنموا عسكره. ثم هرب واختفى بفسطاط مصر وجاء من دلّ عليه فأمر المكتفي بحمله ومن معه إلى بغداد فبعثوا بهم وحبسوا.
ابتداء دولة بني حمدان
وفي سنة اثنتين وتسعين عقد المكتفي على الموصل وأعمالها لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون العدويّ الثعلبيّ فقدمها أوّل المحرّم وجاء الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهدبانيّة ومقدّمهم محمد بن سلّال [1] قد أغاروا على البلاد وعانوا، فخرج في العساكر وعبر الجسر إلى الجانب الشرقيّ، ولقيهم على الحارد [2] فقاتلهم وقتل من قوّاد سليمان الحمداني [3] ورجع عنهم، وبعث إلى الخليفة يستمدّه، فأبطأ عليه المدد إلى ربيع من سنة أربع [4] ، فلما جاءه المدد سار إلى الهدبانيّة وهم مجتمعون في خمسة آلاف بيت، فارتحلوا أمامه واعتصموا بجبل السّلق المشرف على الزاب، فحاصرهم وعرفوا حقّه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة في الطاعة والرهن، وحثّ أصحابه خلال ذلك في المسير إلى أذربيجان، واتّبعهم أبو الهيجاء فلحقهم صاعدا إلى جبل القنديل فنال منهم، وامتنعوا بذروته. ورجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذربيجان، ووفد أبو الهيجاء على المكتفي فأنجده بالعسكر وعاد إلى الموصل. ثم سار إلى الأكراد بجبل السّلق فدخله وحاصرهم بقنّته، وطال حصارهم واشتدّ البرد وعدمت الأقوات، وطلب محمد بن سلال النجاة بأهله
__________
[1] محمد بن بلال: ابن الأثير ج 7 ص 538.
[2] الخازر: ابن الأثير ج 7 ص 538.
[3] وقتل من قواده سيما الحمداني المرجع السابق.
[4] اي من سنة اربع وتسعين ومائتين.(3/444)
وولده، فنجا واستولى ابن حمدان على أموالهم وأهليهم وأمّنهم. ثم استأمن محمد بن سلال فأمّنه وحضر عنده وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميديّة مستأمنين، واستقام أمر أبي الهيجاء بالموصل. ثم انتقض سنة إحدى وثلاثمائة فبعث إليه المقتدر مؤنسا الخادم فجاء بنفسه مستأمنا ورجع إلى بغداد، فقبله المقتدر وأكرمه. وبقي ببغداد إلى أن انتقض أخوه الحسين بديار ربيعة سنة ثلاث وثلاثمائة. وسارت العساكر فجاءوا به أسيرا. فحبس المقتدر عند ذلك أبا الهيجاء وأولاده، وجمع إخوته بداره ثم أطلقهم سنة خمس وثلاثمائة.
أخبار ابن الليث بفارس
قد تقدّم لنا استقلال طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث ببلاد فارس وأن المكتفي عقد له عليها سنة تسعين، ثم أنه تشاغل باللهو والصيد، وأعرض عن أمور ملكه.
ومضى في بعض الأيام إلى سجستان فوثب على فارس الليث بن عليّ بن الليث، وسيكرى مولى عمرو بن الليث، فاستوحش منها بعض قوّادهما يعرف بأبي قابوس، وفارقهما إلى بغداد وأحسن المكتفي إليه. ثم كتب إليه طاهر في ردّ أبي قابوس إليه، ويحتسب له ما معه من أموال الجباية فأعرض الخليفة عن ذلك.
الصوائف
وفي سنة إحدى وتسعين خرج الروم إلى الثغور في مائة ألف، وقصد جماعة منهم الحدث. ثم غزا بالصائفة من طرسوس القائد المعروف غلام زرافة، ففتح مدينة أنطاكية وفتحها عنوة فقتل خمسة آلاف من مقاتلتهم وأسر مثلها. واستنقذ من أسرى المسلمين مثلها، وغنم ستين من مراكب الروم بما فيها من المال والمتاع والرقيق، فقسّمها مع غنائم أنطاكية، فكان السهم ألف دينار. وفي سنة اثنتين وتسعين أغار الروم على مرعش ونواحيها، فخرج أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب منهم جماعة، فعزل المكتفي أبا العشائر عن الثغور وولّى رستم بن برد، فكان على يديه الفداء، وفودي ألف من المسلمين. ثم أغارت الروم سنة ثلاث وتسعين على موارس من أعمال حلب، وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتل منهم خلق، ودخلها الروم فأحرقوا جامعها وأخذوا من بقي فيها. وفي سنة أربع وتسعين غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب من الروم أربعة آلاف سبيا، واستأمن بطريق من الروم فأسلم. ثم عاود ابن(3/445)
كيغلغ الغزو وبلغ سكند [1] وافتتحها، وسار إلى الليس فبلغ خمسين ألف رأس.
وقتل من الروم خلقا ثم استأمن البطريق المتولي الثغور من جهة الروم إلى المكتفي، وخرج بمائتي أسير من المسلمين. وكان ملك الروم قد شعر بأمره وبعث من يقبض عليه، فقتل الأسرى المسلمون من جاء للقبض عليه وغنموا عسكرهم. واجتمع الروم على محاربة البطريق انذوقس [2] وزحف المسلمون لخلاصه وخلاص من معه من الأسرى، فبلغوا قونية وخرّبوها وانصرف الروم، ومرّ المسلمون في طريقهم بحصن أندوس فخرج معهم بأهله وسار إلى بغداد. وفي سنة إحدى وتسعين خرج الترك إلى ما وراء النهر في خلق لا يحصون، فبعث إليهم إسماعيل عسكرا عظيما من الجند والمطوّعة فكبسوهم واستباحوهم. وفي سنة ثلاث وتسعين افتتح إسماعيل مدائن كثيرة من بلاد الترك والديلم.
الولايات بالنواحي
قد ذكرنا ولايات خاقان المفلحيّ على الريّ، ثم إسماعيل بن أحمد بن سامان بعده، وولاية عيسى النوشريّ على مصر بعد انتزاعها من بني طولون، وولاية أبي العشائر أحمد بن نصر على طرسوس وعزل مظفّر بن حاج عنها سنة تسعين، ثم عزل أبي العشائر وولاية رستم بن برد، وسنة اثنتين وتسعين. وانتزاع الليث بن عليّ بن الليث بلاد فارس من يد طاهر بن محمد سنة ثلاث وتسعين بعد أن كان المكتفي عقد له عليها سنة تسعين، وولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة ثلاث وتسعين.
وفي هذه السنة ثار داعية القرامطة باليمن إلى صنعاء فملكها واستباحها وتغلب على كثير من مدن اليمن وبعث المكتفي المظفّر بن الحاج في شوّال من هذه السنة إلى عمله باليمن فأقام به وفي سنة إحدى وتسعين توفي الوزير أبو القاسم بن عبيد الله واستوزر مكانه العبّاس بن الحسن.
وفاة المكتفي وبيعة المقتدر
ثم توفي المكتفي باللَّه أبو محمد علي بن المعتضد في شهر جمادى سنة خمس وتسعين لست سنين ونصف من ولايته، ودفن بدار محمد بن طاهر من بغداد بعد أن عهد
__________
[1] هي مدينة بيكند وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 552 شكند.
[2] اندرونقس: ابن الأثير ج 7 ص 552.(3/446)
بالأمر إلى أخيه جعفر. وكان الوزير العبّاس بن الحسن قد استشار أصحابه فيمن يولّيه، فأشار محمد بن داود بن الجرّاح بعبد الله بن المعتز، ووصفه بالعقل والرأي والأدب، وأشار أبو الحسين بن محمد بن الفرات بجعفر بن المعتضد بعد أن أطال في مفاوضته وقال له: اتّق الله ولا توال إلّا من خبرته ولا تولّ البخيل فيضيق على الناس في الأرزاق، ولا الطمّاع فيشره إلى أموال الناس، ولا المتهاون بالدين فلا يجتنب المآثم ولا يطلب الثواب. ولا تولّ من خبر الناس وعاملهم واطلع على أحوالهم، فيستكثر على الناس نعمهم، وأصلح الموجودين مع ذلك جعفر بن المعتضد. قال: ويحك وهو صبيّ! فقال: وما حاجتنا بمن لا يحتاج إلينا ويستبد علينا؟ ثم استشار عليّ بن عيسى فقال: اتّق الله وانظر من يصلح. فمالت نفس الوزير إلى جعفر كما أشار ابن الفرات، وكما أوصى أخوه، فبعث صائفا الخدمي [1] فأتى به من داره بالجانب الغربي، ثم خشي عليه غائلة الوزير فتركه في الحرّاقة، وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية. ثم جاء به من الحرّاقة وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية. ثم جاء به من الحرّاقة وأقعده على الأريكة وجاء الوزير والقوّاد فبايعوه، ولقّب المقتدر باللَّه وأطلق يد الوزير في المال وكان خمسة عشر ألف ألف دينار فأخرج منه حق البيعة واستقام الأمر.
خلع المقتدر بابن المعتز وإعادته
ولما بويع المقتدر وكان عمره ثلاث عشرة سنة استصغره الناس وأجمع الوزير خلعه والبيعة لأبي عبد الله محمد بن المعتز وراسله في ذلك، فأجاب وانتظر قدوم نارس حاجب إسماعيل بن سامان، كان قد انتقض إلى مولاه وسار عنه، فاستأذن في القدوم إلى بغداد وأذن له. وقصد الاستعانة به على موالي المعتضد. وأبطأ نارس عليه، وهلك أبو عبد الله بن المقتدر خلال ذلك فصرف الوزير وجهة لأبي الحسين بن الموكّل فمات، فأقرّ المقتدر، ثم بدا له وأجمع عزله، واجتمع لذلك مع القوّاد والقضاة والكتّاب وراسلوا عبد الله بن المعتز فأجابهم على أن لا يكون قتال. فأخبروه باتفاقهم وأن لا منازع لهم. وكان المتولّون لذلك الوزير العبّاس بن الحسين ومحمد بن داود بن الجرّاح وأبا المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي، ومن القوّاد الحسين بن حمدان
__________
[1] صافي الحرميّ: ابن الأثير ج 8 ص 10.(3/447)
وبدر الأعجمي ووصيف بن صوارتكين. ثم رأى الوزير أمره صالحا المقتدر فبدا له في ذلك فأجمع الآخرون أمرهم، واعترضه الحسين بن حمدان وبدر الأعجمي ووصيف في طريق لستانة فقتلوه لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، وخلعوا المقتدر من الغد وبايعوا لابن المعتز، وكان المقتدر في الحلبة يلعب الأكرة، فلما بلغه قتل الوزير دخل الدار وأغلق الأبواب، وجاء الحسين بن حمدان إلى الحلبة ليفتك به فلم يجده، فقدم وأحضروا ابن المعتز فبايعوه، وحضر الناس والقوّاد وأرباب الدواوين سوى أبي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فلم يحضروا. ولقّب ابن المعتز المرتضى باللَّه، واستوزر محمد بن داود بن الجرّاح، وقلّد عليّ بن موسى الدواوين، وبعث إلى المقتدر بالخروج من دار الخلافة، فطلب الإمهال إلى الليل، وقال مؤنس الخادم ومؤنس الخازن: وعربت الحال وسائر الحاشية لا بد أن يبدي عذرا فيما أصابنا. وباكر الحسين بن حمدان من الغد دار الخلافة فقاتله الغلمان والخدم من وراء السور وانصرف. فلما جاء الليل سار إلى الموصل بأهله، وأجمع رأي أصحاب المقتدر على قصد ابن المعتز في داره فتسلّحوا وركبوا في دجلة، فلما رآهم أصحاب ابن المعتز اضطربوا وهربوا واتهموا الحسين بن حمدان أنه قد واطأ المقتدر عليهم، وركب ابن المعتز ووزيره محمد بن داود بن الجرّاح وخرجوا إلى الصحراء ظنّا منهم أن الجند الذين بايعوهم يخرجون معهم، وأنهم يلحقون بسامرّا فيمتنعون، فلما تفرّدوا بالصحراء رجعوا إلى البلد وتسرّبوا في الدور، واختفى ابن الجرّاح في داره، ودخل ابن المعتز ومولاه دار أبي عبد الله بن الجصّاص مستجيرا به. وثار العيّارون والسفل [1] ينتهبون. وفشا القتل وركب ابن عمرويه صاحب الشرطة، وكان ممن بايع ابن المعتز، فنادى بثأر المقتدر مغالطا، فقاتله فهرب واستتر، وأمر المقتدر مؤنسا الخازن فزحف في العسكر وقبض على وصيف بن صوارتكين فقتله، وقبض على القاضي أبي عمر عليّ بن عيسى والقاضي محمد بن خلف، ثم أطلقهم وقبض على القاضي أبي المثنّى أحمد بن يعقوب، قال له: بايع المقتدر! قال: هو صبي! فقتله وبعث المقتدر إلى أبي الحسن بن الفرات كان مختفيا فأحضره واستوزره. وجاء سوسن خادم ابن الجصّاص فأخبر صافيا الخرّميّ مولى المقتدر بمكانه عندهم، فكبست الدار وأخذ ابن المعتز وحبس إلى الليل، ثم خصيت خصيتاه فمات وسلّم إلى أهله وأخذ
__________
[1] الأصح ان يقول السفلة.(3/448)
ابن الجصّاص وصودر على مال كثير، وأخذ محمد بن داود وزير ابن المعتز وكان مستترا فقتل. ونفى عليّ بن عيسى بن عليّ إلى واسط، واستأذن من ابن الفرات في المسير إلى مكة فسار إليها على طريق البصرة واقام بها، وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار، وسارت العساكر في طلب الحسين بن حمدان إلى الموصل فلم يظفروا به، وشفع الوزير ابن الفرات في ابن عمرويه صاحب الشرطة وإبراهيم بن كيغلغ وغيرهم. وبسط ابن الفرات الإحسان وأدرّ الأرزاق للعبّاسيين والطالبيّين وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيت المال، وبعث المقتدر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حمدان، فبلغوا قرقيسيا والرحبة ولم يظفروا به، وكتب المقتدر إلى أخيه أبي الهيجاء وهو عامل الموصل بطلبه، فسار مع القاسم بن سيما والقوّاد ولقوة عند تكريت فهزموه، وبعث مع أخيه إبراهيم يستأمن فأمّنوه وجاءوا به إلى بغداد، فخلع عليه المقتدر وعقد له على قمّ وقاشان، وعزل عنها العبّاس بن عمر الغنويّ فسار إليها الحسين، ووصل نارس مولى إسماعيل بن سامان فقلّده المقتدر ديار ربيعة.
ابتداء دولة العبيديّين من الشيعة بإفريقية
نسبة هؤلاء العبيديّين إلى أوّل خلفائهم، وهو عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر المصدّق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، ولا يلتفت لإنكار هذا النسب، فكتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسلجماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب شاهد بصحّة نسبهم وشعر الشريف الرضي في قوله:
ألبس الذلّ في بلاد الأعادي ... وبمصر الخليفة العلويّ
من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ
لفّ عرقي بعرقه سيّدا لناس ... جميعا، محمّد وعليّ
وأما المحضر الّذي ثبت ببغداد أيام القادر بالقدح في نسبهم، وشذّ فيه أعلام الأئمّة مثل القدوري والصهيريّ [1] وأبي العبّاس الأبيورديّ وأبي حامد الأسفراينيّ وأبي الفضل النسويّ وأبي جعفر النسفيّ، ومن العلويّة المرتضى وابن
__________
[1] الصيمري: ابن الأثير ج 7 ص 26.(3/449)
البطحاوي، وابن الأزرق، وزعيم الشيعة أبو عبد الله بن النعمان، فهي شهادة على السماع. وكان ذلك متّصلا في دولة العبّاسية منذ مائتين من السنين فاشيا في أمصارهم وأعصارهم. والشهادة على السماع في مثله جائزة على أنّها شهادة نفي، ولا تعارض ما ثبت في كتاب المعتضد مع أن طبيعة الوجود في الانقياد لهم، وظهور كلمتهم أدل شيء على صدق نسبهم. وأمّا من جعل نسبهم في اليهودية أو النصرانيّة لميمون القدّاح أو غيره فكفاه إثما تعرّضه لذلك. وأما دعوتهم التي كانوا يدعون لها فقد تقدّم ذكرها في مذاهب الشيعة من مقدّمة الكتاب، وانقسمت مذاهب الشيعة مع اتفاقهم على تفضيل عليّ على جميع الصحابة إلى الزيديّة القائلين بصحة إمامة الشيخين مع فضل عليّ، ويجوّزون إمامة المفضول وهو مذهب زيد الشهيد وأتباعه، والرافضة ويدعون بالإمامية المتبرّءين من الشيخين بإهمالهما وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلافة عليّ. مع أنّ هذه الوصية لم تنقل من طريق صحيح، قال بها أحد من السلف الذين يقتض بهم، وإنما هي من أوضاع الرّافضة. وانقسم الرافضة بعد ذلك إلى اثني عشريّة نقلوا الخلافة من جعفر بعد الحسن والحسين وعليّ زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم وولده على سلسلة واحدة إلى تمام الاثني عشر، وهو محمد المهدي وزعموا أنه دخل سردابا وهم في انتظاره إلى الآن. وإلى الإسماعيلية نقلوا الخلافة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، ثم ساقوها في عقبة فمنهم من انتهى بها إلى عبيد الله هذا المهدي، وهم العبيديّون، ومنهم من ساقها إلى يحيى بن عبيد الله بن محمد المكتوم. وهؤلاء طائفة من القرامطة وهي من كذباتهم، ولا يعرف لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبيد الله. وكان شيعة هؤلاء العبيديّين بالمشرق واليمن وإفريقية. وسار بها إلى إفريقية رجلان يعرف أحدهما بالحلوانيّ والآخر بالسفيانيّ أنفذهما الشيعة إلى هنالك وقالوا لهما: إنّ العرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يحيا صاحب البذر، وسارا لذلك ونزلا أرض كتامة، أحدهما ببلد يسمّى سوق حمار. وفشت هذه الدعوة منهما في أهل تلك النواحي من البربر وخصوصا في كتامة، وكانوا يزعمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ بالخلافة بالنصوص الجليّة وعدل عنها الصحابة إلى غيره فوجب البراءة ممن عدل عنها. ثم أوصى عليّ إلى ابنه الحسن ثم الحسن إلى أخيه الحسين، ثم الحسين إلى ابنه عليّ زين العابدين، ثم زين العابدين إلى ابنه محمد الباقر، ثم محمد(3/450)
الباقر إلى ابنه جعفر الصادق، ثم جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل الإمام، ومنه إلى ابنه محمّد، ويسمّونه المكتوم لأنهم كانوا يكتمون اسمه حذرا عليه. ثم اوصى محمد المكتوم إلى ابنه جعفر المصدق، وجعفر المصدق إلى ابنه محمد الحبيب، ومحمد الحبيب إلى ابنه عبيد الله المهدي الّذي دعا له أبو عبد الله الشيعي. وكانت شيعهم منتشرين في الأرض من اليمن إلى الحجاز والبحرين والطرق وخراسان والكوفة والبصرة والطالقان. وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان عادتهم في كل ناحية يدعون للرضا من آل محمد، ويرومون إظهار الدعوة بحسب ما عليهم.
وكان الشيعة من النواحي يعملون مكيهم في أكبر الأوقات لزيارة قبر الحسين، ثم يعرجون على سلمية لزيارة الأئمة من ولد إسماعيل وكان باليمن من شيعتهم. ثم بعده لأئمة قوم يعرفون ببني موسى ورجل آخر يعرف بمحمّد بن الفضل أصله من جند.
وجاء محمد إلى زيارة الإمام محمد الحبيب، فبعث معه أصحابه رستم بن الحسين بن حوشب بن داود النجّار، وهو كوفيّ الأصل وأمره بإقامة الدعوة، وأنّ المهديّ خارج في هذا الوقت، فسار إلى اليمن ونزل على بني موسى وأظهر الدعوة هنالك للمهدي من آل محمد الّذي ينعتونه بالنعوت المعروفة عندهم، فاتّبعه واستولى على كثير من نواحي اليمن. وكان أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، وكان محتسبا بالبصرة. وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العبّاس المخطوم وأبو عبد الله يعرف بالعلم. لأنه كان يعرف مذهب الإمامية الباطنية، قد اتّصل بالإمام محمد الحبيب وخبر أهليته، فأرسله إلى أبي حوشب، ولزم مجالسته وأفاد علمه. ثم بعثه مع الحاج اليمني إلى مكّة، وبعث معه عبد الله بن أبي ملّا، فأتى الموسم ولقي به رجالات كتامة مثل حريث الحميليّ وموسى بن مكاد، فاختلط بهم وعكفوا عليه لما رأوا عنده من العبادة والزهد، ووجّه إليهم بدرا من ذلك المذهب، فاغتبط واغتبطوا وارتحل معهم إلى بلدهم ونزل بها منتصف ربيع سنة ثمان وثلاثين، وعيّن لهم مكان منزله بفتح الأحار وأن النصّ عنده من المهديّ بذلك، ولجهره المهدي وأنّ أنصاره الأخيار من أهل زمانه، وأنّ اسم أنصاره مشتق من الكتمان ولم يعيّنه، واجتمع لمناظرته كثير من أهل كتامة فأبى، ثم أطاعوه بعد فتن وحروب. واجتمعوا على دعوته وكانوا يسمّونه أبا عبد الله المشرفي والشيعيّ، ولما اختلف كتامة عليه واجتمع كثير منهم على قتله قام بنصرته الحسن بن هارون، وسار به(3/451)
إلى جبل إيكجان وأنزله مدينة تاصروت من بلد زرارة، وقاتل من لم يتبعه بمن تبعه حتى استقاموا جميعا على طاعته. وبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب عامل إفريقية بالقيروان، فأرسل إلى عامل ميلة يسأله عن أمره فحقّره وذكر أنه رجل يلبس الخشن، ويأمر بالعبادة والخير فأعرض عنه حتى إذا اجتمع لأبي عبد الله أمره، زحف في قبائل كتامة إلى بلد ميلة فملكها على الأمان بعد الحصار، فبعث إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ابنه الأحوال في عسكرهم يجاوز عشرين ألفا، فهزم كتامة وامتنع أبو عبد الله بجبل إيكجان، وأحرق الأحول مدينة تاصروت ومدينة ميلة، وعاد إلى إفريقية، وبنى أبو عبد الله بجبل إيكجان [1] مدينة سمّاها دار الهجرة.
ثم توفي إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية وولّى ابنه أبو العبّاس، وقتل واستقرّ الأمر لزيادة الله، وكان الأحول حمل العساكر لحضوره فاستقدمه زيادة الله وقتله.
وفاة الحبيب وايصاؤه لابنه عبيد الله
ولما توفي محمد الحبيب وأوصى لابنه عبيد الله، وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وترى محنا شديدة. فقام عبيد الله بالأمر وانتشرت دعوته وأرسل إليه أبو عبد الله الشيعيّ رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم، وأنّهم في انتظاره.
وشاع خبره وطلبه المكتفي فهرب هو وولده نزار الّذي ولي بعده وتلقّب بالقائم.
وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب. وانتهى إلى مصر وعليها يومئذ عيسى النوشريّ، فلبس عبيد الله زي التجّار يتستّر به. وجاء كتاب المكتفي للنوشري بالقبض عليه، وفيه صفته وحليته، فبعث العيون في طلبه. ونمي الخبر بذلك إلى عبيد الله من بعض خواص النوشريّ فخرج في رفقة، ورآه النوشريّ وأحضره ودعاه للمؤاكلة فاعتذر بالصوم، ثم امتحنه فلم تشهد له أحواله بشيء مما ذكر له عنه. وقارن ذلك رجوع ابنه أبي القاسم يسأل عن كلب للصيد ضاع له، فلمّا رآه النوشريّ وأخبر أنه ولد عبد الله علم أنّ هذه الدالة في طلب الضائع منافية للرقبة والخوف، فخلّى سبيله. وجدّ المهدي في السير وكان له كتب من الملاحم ورثها منقولة عن أبيه سرقت من رحله في تلك الطريق، ويقال إنّ ابنه أبا القاسم لما زحف إلى مصر أخذها من بلاد برقة. ولما انتهى المهدي وابنه إلى طرابلس وفارقه التجّار أهل الرفقة، قدّم أبا
__________
[1] إنكجان: ابن الأثير ج 8 ص 34.(3/452)
العبّاس أخا أبي عبيد الله الشيعيّ إلى أخيه بكتامة، ومرّ بالقيروان، وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله وهو يسأل عنهم، فقبض على أبي العبّاس وسأله فأنكر فحبسه، وكتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته، وسار إلى قسطنطينية فعدل عنها خشية على أبي العبّاس أخي الشيعيّ المعتقل بالقيروان، وذهب إلى سجلماسة وبها أليشع بن مدرار فأكرمه. ثم جاءه كتاب زيادة الله ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الّذي داعيه في كتامة فحبسه، وبعث زيادة الله العساكر، الى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حيش [1] ، وكانوا أربعين ألفا، فانتهى إلى قسطنطينية [2] فأقام بها وهم متحصّنون بخيلهم ستة أشهر. ثم زحف إليهم ودافعهم عند مدينة بلزمة فانهزم إلى القيروان. وكتب أبو عبد الله بالفتح إلى المهدي وهو في محبسه. ثم زحف إلى مدينة طبنة فحاصرها وملكها بالأمان، ثم إلى مدينة بلزمة فملكها عنوة، فبعث زيادة الله العساكر مع هارون الطبنيّ فانتهوا إلى مدينة دار ملوك، وكانوا قد أطاعوا الشيعي فهدمها هارون، وقتل أهلها، وسار إلى الشيعي فانهزم من غير قتال وقتل.
وفتح الشيعي مدينة عيسى فزحف زيادة الله في العساكر سنة خمس وتسعين ونزل الأربس ثم أشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا للعساكر، فبعث الجيوش مع إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته ورجع، وزحف أبو عبد الله إلى باغاية فهرب عاملها وملكها. ثم إلى مدينة مرماجنّة فافتتحها عنوة وقتل عاملها ثم إلى مدينة تيفاش فملكها على الأمان، واستأمن إليه القبائل من كل جهة فأمّنهم وسار بنفسه إلى مسلبابة [3] ثم إلى تبسة ثم إلى مجانة ففتحها على الأمان، ثم سار إلى القصرين من قمودة وأمّن أهلها وسار يريد قادة وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب وهو بالأربس أميرا على الجيش، فخشي على زيادة الله برقادة لقلة عسكره، وارتحل ذاهبا إليه، وسار أبو عبد الله إلى قسطنطينية فحاصرها وافتتحها على الأمان ورجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا وعاد الى ايكجان فسار إبراهيم بن أبي الأغلب إلى باغاية وحاصر أصحاب أبي عبد الله بها، فبعث أبو عبد الله عساكره إلى مج [4] العرعار فألفوا
__________
[1] خنيش: ابن الأثير ج 8 ص 40.
[2] هكذا في الأصل وكذلك عند ابن الأثير وفي نسخة اخرى قسنطينه.
[3] مسكياتة: ابن الأثير ج 8 ص 43.
[4] فج: ابن الأثير ج 8 ص 44.(3/453)
إبراهيم قد عاد عنها إلى الأربس. ثم زحف أبو عبد الله إلى إبراهيم سنة ست وتسعين في مائة ألف مقاتل وبعث من عسكره من يأتي إبراهيم من خلفه، وسار إليه فانهزم وأثخن فيهم أبو عبد الله بالقتل والأسر، وغنم أموالهم وخيلهم وظهرهم. ودخل الأربس فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة، وبلغ الخبر إلى زيادة الله فهرب إلى مصر.
وافترق أهل مدينة رقادة إلى القيروان وسوسة ونهب قصور بني الأغلب ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان، فنزل قصر الإمارة وجمع الناس ووعدهم الحماية، وطلب المساعدة بطاعتهم وأموالهم، فاعتذروا وخرجوا إلى الناس فأخبروهم، فثاروا به وأخرجوه. وبلغ أبا عبد الله الشيعيّ هرب زيادة الله وهو يشبه [1] فدخل إلى رقادة وقدم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمّنوا الناس. وخرج أهل القيروان للقاء أبي عبد الله فأكرمهم وأمّنهم، ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين، ونزل قصورها وفرّق دورها على كتامة ونادى بالأمان. وتراجع الناس فأخرج العمّال وطلب أهل الشرّ فهربوا، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه وأمر بحفظها وبحفظ جواريه، واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعيّن لهم أحدا. ونقش على السكّة من أحد الوجهين بلغت حجة الله، ومن الآخر تفرّق أعداء الله، وعلى السلاح عدّة في سبيل الله، ورسم أفخاذ الخيل بالملك للَّه.
بيعة المهدي بسجلماسة
ولما ملك أبو عبد الله إفريقية لقيه أخوه أبو العبّاس منطلقا من اعتقاله، فاستخلفه عليها وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك من قوّاد كتامة. وسار إلى المغرب ففرّق القبائل من طريقه، وخافته زناتة فدخلوا في طاعته. ولما قرب من سجلماسة أرسل إلى المهدي بمحبسه يسأله عن حاله فأنكر، ثم سأل ولده كذلك فأنكر، وضرب رجاله فأنكروا، ونمي الخبر إلى أبي عبد الله فخشي عليهم وأرسل إلى أليسع يتلطّفه فقتل الرسل فأغذ أبو عبد الله السير وحاصره يوما وهرب أليسع من الليل هو وأصحابه وبنو عمّه. وخرج أهل البلد إلى أبي عبد الله فجاء إلى مجلس المهدي
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 46: «ولما بلغ ابا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سبيبة فرحل ونزل بوادي النمل، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، في ألف فارس الى رقادة.(3/454)
فأخرجه هو وابنه أبا القاسم، وأركبهما ومشى مع رؤساء القبائل بين يديها وهو يقول:
هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح، ثم أنزله بالمخيم وبعث في أثر أليسع فجيء به فجلد، ثم قتل، وأقام بسجلماسة أربعين يوما ورجع إلى إفريقية، ووصل إلى رقادة في ربيع من سنة ست وتسعين وجدّد البيعة للمهدي واستولى على ملك بني الأغلب بإفريقية. وملك مدرار سجلماسة ونزل برقادة وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين وبعث دعاته في الناس فحملوهم على مذهبهم فأجابوا إلّا قليلا عرض عليهم السيف، وقسّم الأموال والجواري في رجال كتامة، وأقطعهم الأموال والأعمال، ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمّال على البلاد. فبعث على صقلّيّة الحسن بن أحمد بن أبي خنزير فوصل إلى مازر في عيد الأضحى من سنة تسع وتسعين، فاستقضى بها إسحاق بن المنهال، وأجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى بسط قلورية [1] فأثخن فيها وعاد وثار به أهل صقلّيّة سنة تسع وتسعين فحبسوه واعتذروا إلى المهدي لسوء سيرته، فعذرهم وولّى عليهم علي بن عمر البلويّ فوصل إليهم خاتمة السنة المذكورة.
أخبار ابن الليث بفارس
قد ذكرنا من قبل استيلاء الليث بن عليّ بن الليث وسيكرى [2] مولى عمر بن الليث على فارس من يد طاهر بن محمد. ثم أخرج سيكرى بعد ذلك الليث وانفرد بها، وسار إليه طاهر بن محمد بن عمرو، فواقعه وانهزم طاهر وأسر سيكرى وأسر أخاه يعقوب، وبعث بهما إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي، وقد أمّره على ما يحمله وذلك سنة ست وتسعين، ثم سار إليه الليث بن عليّ من سجستان سنة سبع وتسعين، فغلبه وملك فارس، وهرب سيكرى إلى أرجان وأمدّه المقتدر بمؤنس الخادم في العساكر، فجاء إلى أرجان وجاء الحسين بن حمدان من قمّ إلى البيضاء في إعانته، فسار لملاقاته وأضلّ الطريق إلى مسالك صعبة أشرف على عسكر مؤنس. وكان سيكرى قد بعث أخاه إلى شيراز ليحفظها، فلما أشرف على العسكر ظنّه عسكر أخيه فثاروا إليه واقتتلوا وانهزم عسكر الليث وأخذ أسيرا. وأشار عليه
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 50: «وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين ومائتين، فسار في عسكره إلى دمنش فغنم وسبى وأحرق»
[2] شبكرى: ابن الأثير ج 8 ص 56- الطبري ج 12 ص 17.(3/455)
أصحابه أن يقبض على سيكرى ويطلب من المقتدر ولاية فارس مكانه فوافقهم طاهر ودسّ إليه، فلحق بشيراز وعاد مؤنس إلى بغداد بالليث أسيرا، والحسين بن حمدان إلى عمله بقمّ. ثم إنّ عبد الرحمن بن جعفر كاتب سيكرى استولى على أمره، وحسده أصحابه وأكثروا السعاية فيه عند سيكرى فحبسه، واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم اليمن [1] ، فحمله على العصيان ومنع الحمل ودسّ عبد الرحمن بن جعفر من محبسه إلى الوزير ابن الفرات بذلك، فكتب إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس، فسار وأرسله سيكرى وأنسه وسأل منه الوساطة في أمره، وشعر ابن الفرات بميل مؤنس إلى بغداد، وسار محمد بن جعفر فهزم سيكرى على شيراز فخلص إلى قمّ وتحصن بها، وحاصره محمد بن جعفر ثم خرج إليه فهزمه ثانية، ودخل مغارة خراسان فلقيته عساكر، إسماعيل إلى بغداد، فحبسا هنالك واستولى محمد بن جعفر من القوّاد على فارس وولّى عليها قبيجا [2] خادم الأفشين، ثم صارت ولايتها لبدر ابن عبد الله الحمامي [3] وفي آخر سنة تسع وتسعين ومائتين قبض حرمه وقامت الهيعة ببغداد ثلاثة أيام، ثم سكنت وذلك لثلاث سنين وثلاثة أشهر من وزارته. فاستوزر مكانه أبا عليّ محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى، فرتّب الأمور على الدواوين. ثم زاد قرفه لضيق صدره وطيشه وعدوله عن مذاهب الرئاسة إلى الوضاعة ومراجعة أصحاب الحاجات والحقوق إلى ما يريد قضاءه منها، وكثرة التولية والعزل وتبجّح أصحابه عليه في إطلاق الأموال وانبساط الجاه بإفساد الأحوال. واعتزم المقتدر على عزله بأبي الحسين بن أبي الفضل، فاستدعاه من أصبهان، ثم قبض عليه وعلى أبي الحسن ببغداد، وأهمل رأي الوزراء وصار يرجع إلى قول النساء والخدم، فطمع العمّال في الأطراف، ثم أخرج ابن الفرات من محبسه وجعله في بعض الحجر، وأحسن إليه وصار يعرض عليه مطالعات العمّال، وأراد أن يستوزره ثم بدا له واستدعى عليّ بن عيسى من مكّة فاستوزره لأوّل سنة إحدى وثلاثمائة، وقبض على الخاقاني وحبسه وعين حرسيا عليه. وقام علي بن عيسى بالوزارة وأصلح ما أفسده الخاقاني واستقامت الأمور.
__________
[1] إسماعيل بن إبراهيم البمّيّ: ابن الأثير ج 8 ص 57.
[2] قنبجا: ابن الأثير ج 8 ص 58.
[3] بياض بالأصل وفي الطبري ج 12 ص 19: «وفيها خالف سيكرى والتوى بما عليه فندب لمحاربته وصيف كأمه غلام الموقف وشخص معه وجوه القواد وفيهم الحسين بن حمدان وبدر غلام النوشري وبدر الكبير المعروف بالحمامي فواقعوا سبكرى في باب شيراز وهزموه.»(3/456)
قيام أهل صقلّيّة بدعوة المقتدر ثم رجوعهم إلى طاعة المهدي
قد ذكرنا ولاية عليّ بن عمر على صقلّيّة من عبد الله المهدي سنة تسع وتسعين. ثم إنّ أهل صقلّيّة انتقضوا عليه وولّوا عليهم أحمد بن موهب [1] ثم انتقضوا عليه وأرادوا قتله فدعا إلى طاعة المقتدر وخطب له بصقلية، وقطع خطبة المهدي وبعث أسطولا إلى ناحية ساحل إفريقية، فلقوا أسطول المهدي، وعليه الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوه وقتلوا الحسن ووصلت خلع السواد وألويته لابن موهب من بغداد ثم جاءت أساطيل المهدي في البحر وفسد أمر ابن موهب ثم ثارت أهل صقلّيّة به سنة ثلاثمائة وأسروه وبعثوا به إلى المهدي مع جماعة من أصحابه فأمرهم بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير.
ولاية العهد
وفي سنة إحدى وثلاثمائة ولّى المقتدر ابنه أبا العبّاس العهد وهو الّذي ولي الخلافة بعد القاهر وسمّي بالرافضي فولّاه أبو المقتدر العهد وهو ابن سنين [2] وقلّده مصر والمغرب، واستخلف له عليها مؤنسا الخادم وولّى ابنه الآخر عليّا على الريّ ودنباوند وقزوين وأذربيجان [3] وأبهر.
ظهور الأطروش وملكه خراسان
كان هذا الأطروش من ولد عمر بن عليّ زين العابدين وهو الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمر وكان قد دخل إلى الديلم بعد قتل محمد بن زيد، ولبث فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم على يديه منهم خلق كثير وبنى لهم المساجد، وزحف بهم إلى ثغور المسلمين، أراهم مثل قزوين وسالوس فأطاعوه، وهدم حصن سالوس. ثم
__________
[1] احمد بن موهر: ابن الأثير ج 8 ص 71.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 76: في هذه السنة- 301- خلع على الأمير أبي العبّاس بن المقتدر باللَّه، وقلّد أعمال مصر والمغرب وعمره أربع سنين.
[3] زنجان: المرجع السابق.(3/457)
دعاهم إلى غزو طبرستان وهي في طاعة ابن سامان، وكان إسماعيل بن أحمد لما انتقض بها محمد بن هارون، وقبض عليه إسماعيل وولى عليها أبا العبّاس عبد الله بن محمد بن نوح، فأحسن السيرة وأظهر العدل، وبالغ في الإحسان إلى العلوية الذين بها، واستمال الديلم بالمهاداة والإحسان، فاشتمل الناس عليه. فلما دعاهم الحسن إلى غزو طبرستان، لم يجيبوه من أجل ابن نوح. ثم إنّ أحمد بن إسماعيل عزل ابن نوح عنها، وولّى عليها سلاما فأساء السيرة ولم يحسن سياسة الديلم، فهاجوا عليه فقاتلهم وهزمهم، واستعفى من ولايتها فعاد إليها ابن نوح وصلحت الحال كما كانت إلى أن مات، فولّى عليها محمد بن إبراهيم بن صعلوك، فأساء السيرة وتنكّر للديلم فصادف الحسن منها الغرّة ودعاهم إلى غزو طبرستان فأجابوه، وسار إليه ابن صعلوك على من يرحّله من سالوس بشاطئ البحر، فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، ولجأ الباقون إلى سالوس، فحاصرهم الأطروش حتى استأمنوا، ورجع عنهم إلى آمد. ثم جاء الحسن بن القاسم العلويّ الداعي صهر الأطروش إلى أولئك المستأمنين فقتلهم، واستولى الأطروش على طبرستان، ولحق ابن صعلوك بالريّ سنة إحدى وثلاثمائة، وسار منها إلى بغداد وكان الأطروش زيديّ المذهب، وجميع الذين أسلموا على يده فيما وراء أسعيدولى إلى آمد [1] كلهم على مذهب الشيعة. ثم إن الأطروش العلويّ تنحّى عن آمد إلى سالوس بعد أن غلب عليها، فبعث إليه صعلوك الريّ من قبل ابن سامان جيشا فهزمهم وعاد إلى آمد. ثم زحفت إليه عساكر السعيد [2] صاحب خراسان سنة أربع وثلاثمائة فقتلوه. وكان هذا الأطروش عادلا حسن السيرة لم ير مثله في أيامه وأصابه الصمم من ضربة في رأسه بالسيف في الحرب. وقال ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم ويقال فيه الحسن بن عليّ الداعي وليس به، وإنّما الداعي الحسن بن القاسم صهره، وسنذكره فيما بعد. وكان له من الولد أبو الحسن، وكان قوّاده من الديلم جماعة منهم ابن النعمان وكانت له ولاية جرجان، وما كان بن كالي وكان على أستراباذ ومعرّا. ثم كان من قوّاد ولده من الديلم جماعة آخرون منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان بن كالي ومرداويج بن
__________
[1] هكذا بالأصل العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 82: «الذين هم وراء اسفيدروذ الى ناحية آمل.»
[2] بياض بالأصل وهو السعيد نصر بن سامان كما سيمرّ معنا.(3/458)
زياد من أصحاب أسفار، واسكرى من أصحابه أيضا، وبنو بويه من أصحاب مرداويج، وسيأتي الخبر عن جميعهم إن شاء الله تعالى.
غلب المهدي على الاسكندرية ومسير مؤنس إلى مصر
وفي سنة اثنتين وثلاثمائة بعث عبد الله المهدي عساكره من إفريقية إلى الإسكندرية مع قائده خفاشة الكتابي فغلب عليها وسار إلى مصر، وبلغ المقتدر فبعث مؤنسا الخادم في العساكر لمحاربته، وأمدّه بالأموال والسلاح. وسار إليهم وقاتلهم فهزمهم بعد وقائع متعدّدة، قتل فيها من الفريقين، وبلغ القتل والأسر من المغاربة سبعة آلاف ورجعوا إلى المغرب.
انتقاض الحسين على ابن حمدان بديار ربيعة وأسره
كان الحسين بن حمدان واليا على ديار ربيعة وطالبه الوزير عليّ بن عيسى بالمال، فدافعه وأمره بتسليم البلاد إلى عمّال السلطان، فامتنع وكان مؤنس الخادم بمصر في محاربة عساكر المهدي صاحب إفريقية، فجهّز الوزير إلى ابن حمدان رائقا الكبير في عسكر سنة ثلاث وثلاثمائة، وكتب إلى مؤنس أن يسير إلى الجزيرة لقتاله بعد فراغه من أصحاب العلويّ بمصر، فسار رائق أوّلا هزمه الحسين، ولحق بمؤنس فأمره بالمقام بالموصل. وسار نحو الحسين وتبعه أحمد بن كيغلغ، وانتهى إلى جزيرة ابن عمر والحسين بأرمينية. ورجع الكثير من عسكره إلى مؤنس. ثم بعث مؤنس عسكرا في أثره عليهم بليق ومعه سيما الجزريّ. وجاء الصفواني واتبعوه فأدركوه، وقاتلوه فهزموه، وجاءوا به أسيرا ومعه ابنه عبد الوهاب وأهله وكثير من أصحابه. وعاد مؤنس إلى بغداد على الموصل، فحبسه المقتدر وأغار على أبي الهيجاء بن حمدان وجميع إخوته وحبسهم. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وقتل الحسين سنة ست تقريبا كما نذكر إن شاء الله تعالى.
وزارة ابن الفرات الثانية
كان الوزير أبو الحسن بن الفرات محبوسا كما ذكرنا وكان المقتدر يشاوره ويرجع إلى رأيه، ويبغي بعض أصحاب المقتدر إعادته. وبلغ ذلك الوزير عليّ بن عيسى فاستعفى ومنعه المقتدر. ثم جاءت في بعض الأيام قهرمانة القصر تناظره في نفقات(3/459)
الحرم والحاشية وكسوتهم، فألفته نائما فلم يوقظه لها أحده. فرجعت وشكت إلى المقتدر وأمّه فقبض عليه في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة، وأعاد ابن الفرات على أن يحمل إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار في كل يوم. وقبض على الوزير من قبله عليّ بن عيسى والخاقاني وأصحابهما، وصادرهم أبو علي بن مقلة وكان مختفيا منذ قبض على ابن الفرات فقدّمه الآن واستخلصه.
خبر ابن أبي الساج بأذربيجان
قد ذكرنا استقرار يوسف بن أبي الساج على أرمينية وأذربيجان منذ مهلك أخيه محمد سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكان على الحرب والصلاة والأحكام، وكان عليه مال يؤديه. فلما ولي الخاقاني وعليّ بن عيسى الوزارة، والتأمت أمور يوسف في الاستبداد، وأخّر بعض المال واجتمع له ما يريده لذلك، وبلغته نكبة الوزير عليّ ابن عيسى، فأظهر أنّ العهد وصل إليه بولاية الريّ على يد عليّ بن عيسى. وكان حميد بن صعلوك من قوّاد ابن سامان قد بعث على الريّ وما يليها، وقاطع عليها بمال يحمله فسار إليه يوسف سنة أربع وثلاثمائة، فهرب إلى خراسان واستولى يوسف على الريّ وقزوين وزنجان، وكتب إلى الوزير ابن الفرات بالفتح ويعتذر بأنه طرد المتغلبين، ويذكر كثرة ما أنفق من ذلك، وأنه كان بأمر الوزير علي بن عيسى وعهده إليه بذلك، فأستعظم المقتدر ذلك، وسئل عليّ بن عيسى فأنكر وقال:
سلوا الكتّاب والحاشية والعهد واللواء اللذين كان يسير بهما مع بعض القوّاد والخدّام.
فكتب ابن الفرات بالنكير على يوسف، وجهّز العساكر لحربه مع خاقان المفلحيّ، ومعه أحمد بن مسرور البلخيّ، وسيما الجزريّ، ونحرير الصغير، وساروا سنة خمس وثلاثمائة فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة، فبعث المقتدر مؤنسا الخادم في جيش كثيف لمحاربته وعزل خاقان المفلحيّ عن أعمال الجبل، وولّاها نحريرا الصغير. وسار مؤنس واستأمن له أحمد بن عليّ أخو صعلوك فأمّنه وأكرمه، وبعث ابن أبي الساج في المقاطعة على أعمال الريّ بسبعمائة ألف دينار سوى أرزاق الجند والخدم، فأبى له المقتدر من ذلك عقوبة على ما أقدم عليه، وولّى على ذلك العمل وصيفا البكتمري، وطلب ابن أبي الساج أن يقاطعه على ما كان بيده قبل الريّ من أذربيجان وأرمينية، فأبى المقتدر إلا أن يحضر في خدمته. فلما يئس(3/460)
ابن أبي الساج زحف إلى مؤنس وقاتله، فانهزم مؤنس إلى زنجان وقتل من قوّاده جماعة، وأسر هلال بن بدر وغيره فحبسهم يوسف في أردبيل، وأقام مؤنس بزنجان بجميع العساكر يستمدّ من المقتدر وابن أبي الساج يراسله في الصلح، والمقتدر لا يجيب إلى ذلك. ثم قاتله مؤنس في فاتح سنة سبع وثلاثمائة عند أردبيل فهزمه وأسره وعاد به إلى بغداد أسيرا، فحبسه المقتدر وولّى مؤنس على الريّ ودنبوند وقزوين وأبهر وزنجان علي بن وهشودان وجعل أموالها لرجاله، وولّى مؤنس على أصبهان وقمّ وقاشان أحمد بن علي بن صعلوك، وسار عن أذربيجان فوثب سبك مولى يوسف بن أبي الساح فملكها واجتمع عليه عسكر فولى مؤنس بن محمد بن عبيد الفارقيّ وسار بمحاربة سبك فانهزم وعاد إلى بغداد. وتمكّن سبك في أذربيجان وسأل المقاطعة على مائتي ألف وعشرين ألف دينار في كل سنة. فأجيب وعقد له عليها، وكان مقيما بقزوين فقتله على مراسة ولحق ببلده، فولّى المقتدر وصيفا البكتمري مكانه على أعمال الريّ، وولّى محمد بن سليمان صاحب الجيش على الخوارج بها، ثم وثب أحمد بن عليّ بن صعلوك صاحب أصبهان وقمّ على الريّ، فملكها وكتب إليه المقتدر بالنكير، وأن يعود إلى قمّ، فعاد ثم أظهر الخلاف وأجمع المسير إلى الريّ، وسار وصيف البكتمري لحربه. وأمر نحريرا الصغير أن يسير مددا لبكتمري، فسبقهم أحمد بن صعلوك إلى الريّ وملكها، وقتل محمد بن سليمان صاحب الخوارج، وبعث إلى نصر الحاجب ليصلح أمره بالمقاطعة على أعمال الريّ بمائة وستين ألف دينار، وينزل عن قمّ فكتب له بذلك وولّى غيره على قمّ.
خبر سجستان وكرمان
كانت سجستان قد صارت لابن سامان منذ سنة ثمان وتسعين ومائتين، ثم تغلب عليها كثير بن أحمد بن صهفود من يده، فكتب المقتدر إلى عامل فارس وهو بدر ابن عبد الله الحمامي أن يرسل العساكر لمحاربته، ويؤمّر عليهم دركا، ويجعل على الخراج بها زيد بن إبراهيم. فسارت العساكر وحاربوا أهل سجستان فهزموهم وأسروا زيد بن إبراهيم، وكتب كثير إلى المقتدر بالبراءة من ذلك، وطوية أهل سجستان. وأرسل المقتدر أن يسير لقتاله بنفسه، فخاف كثير وطلب المقاطعة على خمسمائة ألف دينار في كل سنة، فأجيب وقرّرت البلاد عليه، وذلك سنة اربع وثلاثمائة. وانتقض في هذه السنة بكرمان صاحب الخوارج بها أبو زيد خالد بن محمد(3/461)
المارداني، وسار منها إلى شيراز يروم التغلّب على فارس فسار إليه بدر الحمامي العامل، وحاربه فقتله وحمل رأسه إلى بغداد.
وزارة حامد بن العباس
وفي سنة ست وثلاثمائة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات بسبب شكوى الجند بمطله أرزاقهم، واعتذر بضيق الأموال للنفقة في حروب ابن أبي الساج، ونقص الارتياع بخروج الريّ عن ملكه. فشغب الجند وركبوا، وطلب ابن الفرات من الخليفة إطلاق مائتي ألف دينار من خاصته يستعين بها، فنكر ذلك عليه لأنه كان ضمن القيام بأرزاق الأحشاد وجميع النفقات المرتبة، فاحتجّ بنقص الارتياع وبالنفقة في الحرب كما تقدّم، فلم يقبل. ويقال سعى فيه عند المقتدر بأنه يروم إرسال الحسين بن حمدان إلى أبي الساج فيحاربه، وإذا سار عنده اتفقا على المقتدر، فقتل المقتدر ابن حمدان وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة، وكان حامد بن العبّاس على الأعمال بواسط، وكان منافرا لابن الفرات، وسعى به عنده بزيادة ارتياعه على ضمانه، فخشيه حامد على نفسه. وكتب إلى نصر الحاجب والي والده المقتدر سعة نفسه وكثرة أتباعه، وذلك عند استيحاشه من ابن الفرات، فاستقدمه من واسط، وقبض على ابن الفرات وابنه المحسن وأتباعهما، واستوزر حامدا فلم يوف حقوق الوزارة ولا سياستها، وتحاشى عليه الدواوين فأطلق المقتدر علي ابن عيسى وأقامه على الدواوين كالنائب عن حامد. فكان يزاحمه واستبدّ بالأمور دونه ولم يبق لحامد أمر عليه فأجابه ابن الفرات بأسفه منه وقال لشفيع اللؤلؤي: قل لأمير المؤمنين حامد إنما حمله على طلب الوزارة، أني طالبته بأكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه، فاستشاط حامد وزاد في السفه، فأنفذ المقتدر من ردّ ابن الفرات إلى محبسه، ثم صودر وضرب ابنه الحسن وأصحابه وأخذت منهم الأموال. ثم إنّ حامدا لما رأى استطالة علي بن عيسى عليه وكثرت تصرّفه في الوزارة دونه، ضمن للمقتدر أعمال الخوارج والضياع الخاصة والمستحدثة والقرارية، بسواد بغداد والكوفة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان، واستأذنه في الانحدار إلى واسط لاستخراج ذلك فانحدر واسم الوزارة له وأقام علي بن عيسى يدبّر الأمور، فأظهر حامد سوء تصرف في الأموال، وبسط المقتدر يده حتى خافه علي بن عيسى. ثم(3/462)
تحرّك السعر ببغداد فشغبت العامّة ونهبوا الغلال، لأنّ حامدا وغيره من القوّاد كانوا يخزنون الغلال. وأحضر حامد لمنعهم فحضر فقاتلوه، وفتقوا السجون ونهبوا دار الشرطة. وأنفذ المقتدر غريب الحال في العسكر، فسكن الفتنة وعاقب المتصدّين للشرّ، وأمر بفتح المخازن التي للحنطة وببيعها، فرخص السعر وسكن إلى منع الناس من بيع الغلال في البيادر وخزنها فرفع الضمان عن حامد، وصرف عمّاله عن السواد وردّ ذلك لعليّ بن عيسى وسكن الناس.
وصول ابن المهدي وهو أبو القاسم إلى ابنه
وفي سنة سبع وثلاثمائة بعث المهدي صاحب إفريقية أبا القاسم في العساكر إلى مصر فوصل إلى الإسكندرية في ربيع الآخر وملكها، ثم سار إلى مصر ونزل بالجيزة واستولى على الصعيد، وكتب إلى أهل مكة في طاعته فلم يجيبوا. وبعث المقتدر مؤنسا الخادم إلى مصر لمدافعته، فكانت بينهم حروب كثر فيها القتلى من الجانبين، وكان الظهور لمؤنس ولقّب يومئذ بالمظفّر. ووصل من إفريقية أسطول من ثمانين مركبا مددا للقائهم، وعليهم سليمان الخادم ويعقوب الكتاميّ، وأمر المقتدر بأن يسير إليهم أسطول طرسوس فسار في خمسة وعشرين مركبا وعليهم أبو اليمن، ومعهم العدد والأنفاط، فغلبوا أسطول إفريقية وأحرقوا أكثر مراكبه. وأسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامي في جماعة قتل أكثرهم، وحبس سليمان بمصر، وحمل يعقوب إلى بغداد. ثم هرب وعاد إلى إفريقية وانقطع المدد عن عسكر المغاربة، فوقع الغلاء عندهم وكثر الموتان في الناس والخيل فارتحلوا راجعين إلى بلادهم وسار عساكر مصر في أثرهم حتى أبعدوا.
بقية خبر ابن أبي الساج
قد تقدّم لنا أنّ مؤنسا حارب يوسف بن أبي الساج عامل أذربيجان فأسره وحمله إلى بغداد فحبس بها، واستقرّ بعده في عمله سبك مولاه. ثم إنّ مؤنسا شفع فيه سنة عشر. فأطلقه المقتدر وخلع عليه ثم عقد له أذربيجان وعلى الريّ وقزوين أبهر وزنجان وعلى خمسمائة ألف دينار في كل سنة سوى أرزاق العساكر. وسار يوسف إلى أذربيجان ومعه وصيف البكتمري في العساكر، ومرّ بالموصل فنظر في(3/463)
أعمالها وأعمال ديار ربيعة. وقد كان المقتدر تقدّم إليه بذلك. ثم سار إلى أذربيجان وقد مات مولاه سبك، فاستولى عليها وسار سنة إحدى عشرة إلى الريّ وكان عليها أحمد بن علي أخو صعلوك، وقد اقتطعها كما قدّمنا، ثم انتقض على المقتدر وهادن ما كان بن كالي من قوّاد الديلم القائم بدعوة أولاد الأطروش في طبرستان وجرجان.
فلما جاء يوسف إلى الريّ حاربه أحمد فقتله يوسف، وأنفذ رأسه إلى بغداد، واستولى على الريّ في ذي الحجة وأقام بها مدّة، ثم سار عنها إلى همذان فاتح ثلاث عشرة، واستخلف بها مولاه مفلحا وأخرجه أهل الريّ عنهم، فعاد يوسف إليهم في جمادى من سنته، واستولى عليها ثانية. ثم قلّده المقتدر سنة أربع عشرة نواحي المشرق وأذن له في صرف أموالها في قوّاده وأجناده وأمره بالمسير إلى واسط، ثم منها إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطيّ، فسار يوسف إلى طاهر وكان بها مؤنس المظفّر، فرجع إلى بغداد وجعل له أموال الخراج بنواحي همذان وساوة وقمّ وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان لينفقها في عسكره، ويستعين بها على حرب القرامطة، ولما سار من الريّ كتب المقتدر إلى السعيد نصر بن سامان بولاية الريّ وأمره بالمسير إليها وأخذها من فاتك مولى يوسف، فسار إليها فاتح أربع عشرة، فلما انتهى إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من العبور، وبذل له ثلاثين ألف دينار فترك سبيله وسار إلى الريّ فملكها من يد فاتك وأقام بها شهرين، وولّى عليها سيمجور الدواني [1] وعاد إلى بخارى. ثم استعمل على الريّ محمد بن أبي صعلوك فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة وأصابه مرض، وكان الحسن بن القاسم الداعي وما كان ابن كالي أميري الديلم في تسليم الريّ إليهما، فقدما وسار عنها ومات في طريقه، واستولى الداعي والديلم عليها.
بقية الخبر عن وزراء المقتدر
قد تقدّم الكلام في وزارة حامد بن العبّاس وأنّ عليّ بن عيسى كان مستبدّا عليه في وزارته، وكان كثيرا ما يطرح جانبه ويسيء في توقعاته [2] على عمّاله. وإذا اشتكى إليه أحد من نوّابه يوقّع على القصّة: إنما عقد الضمان على الحقوق الواجبة فليكفّ
__________
[1] سيمجور الدواتي.
[2] الصحيح: توقيعاته ج توقيع.(3/464)
الظلم عن الرعيّة. فأنف حامد من ذلك واستأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانه، فأذن له ثم كثرت استغاثة الخدم والحاشية من تأخّر أرزاقهم وفسادها، فإنّ عليّ بن عيسى كان يؤخّرها وإذا اجتمعت عدّة شهور أسقطوا بعضها، وكثرت السعاية واستغاث العمّال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه حطّ من أرزاقهم شهرين من كل سنة، فكثرت الفتنة على حامد، وكان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلّقا بمفلح الأسود خالصة [1] الخليفة المقتدر وكان شقيقه لأبيه، وجرى بينه وبين حامد يوما كلام، فأساء عليه حامد وحقد له. وكتب ابن الفرات إلى المقتدر وضمن له أموالا فأطلقه واستوزره، وقبض على عليّ بن عيسى وحبسه في مكانه، وذلك سنة إحدى عشرة، وجاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من يقبض عليه، فهرب من طريقه واختفى ببغداد. ثم مضى إلى نصر بن الحاجب سرّا وسأل إيصاله إلى المقتدر، وأن يحبسه بدار الخلافة، ولا يمكّن ابن الفرات منه. فاستدعى نصر الحاجب مفلحا الخادم حتى وقفه على أمره وشفع له في رفع المؤاخذة بما كان منه، فمضى إلى المقتدر وفاوضه بما أحبّ، وأمر المقتدر بإسلامه [2] لابن الفرات فحبسه مدّة ثم أحضره وأحضر له القضاة والعمّال، وناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقرّ بنحو ألف ألف دينار. وضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلّم إليه وعذّبه أنواعا من العذاب، وبعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه بإسهال أصابه. ثم صودر عليّ بن عيسى على ثلاثمائة ألف دينار وعذّبه المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منه شيئا وسيّره ابن الفرات أيام عطلته وحبسه بعد أن كان ربّاه وأحسن إليه، فقبض عليه مدّة ثم أطلقه، وقبض على ابن الجوزي وسلّمه إلى ابنه المحسن، فعذّبه ثم بعثه إلى الأهواز لاستخراج الأموال، فضربه الموكّل به حتى مات. وقبض أيضا على الحسين بن أحمد، وكان تولّى مصر والشام وعلى محمد بن علي المارداني وصادرهما على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وصادر جماعة من الكتّاب سواهم ونكبهم. وجاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات وما هو يعتمد من المصادرات والنكايات وتعذيب ابنه للناس، فخافه ابن الفرات وخوّف المقتدر منه. وأشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر، فبعثه
__________
[1] هي كلمة عامية بلغة أهل المغرب ومعناها الصديق الحميم.
[2] الأصح ان يقول وتسليمه.(3/465)
المقتدر وأبعده. ثم سعى ابن الفرات بنصر الحاجب وأغراه به وأطمعه في ماله وكان مكثرا واستجار نصر بأمّ المقتدر. ثم كثر الإرجاف بابن الفرات، فخاف وانهى إلى المقتدر بأنّ الناس عادوه لنصحه للسلطان واستيفاء حقوقه، وركب هو وابنه المحسن إلى المقتدر فأوصلهما إليه وأسهمهما، وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب، ودخل مفلح على المقتدر وأشار إليه بعزله، فأسرّ إليه وفاقه على ذلك، وأمر بتخلية سبيلهما.
واختفى المحسن من يومه. وجاء نازوك وبليق من الغد في جماعة من الجند إلى دار ابن الفرات فأخرجوه حافيا حاسرا، وحمل إلى مؤنس المظفّر ومعه هلال بن بدر، ثم سلّم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وصودر على ألف ألف دينار، وذلك سنة اثنتي عشرة. وكان عبد الله أبو القاسم بن عليّ بن محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفرات سعى في الوزارة، وضمن في ابن الفرات وأصحابه ألفي ألف دينار على يد مؤنس الخادم وهارون بن غريب الحال ونصر الحاجب، فاستوزره المقتدر على كراهية فيه، ومات أبوه عليّ على وزارته. وشفع إليه مؤنس الخادم في إعادة عليّ بن عيسى من صنعاء، فكتب له في العود وبمشارفة أعمال مصر والشام، وأقام المحسن بن الفرات مختفيا مدّة. ثم جاءت امرأة إلى دار المقتدر تنادي بالنصيحة، فأحضرها نصر الحاجب فدلّت على المحسن، فأحضره نازوك صاحب الشرطة، فسلّم للوزير وعذّب بأنواع العذاب، فلم يستخرج منه شيء فأمر المقتدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة، وجاء الوزير أبو القاسم الخاقاني إلى مؤنس وهارون ونصر فحذّرهم شأن ابن الفرات وغائلته بدار الخلافة، وأغراهم به، فوضعوا القوّاد والجند وقالوا: لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده، ووافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما. وجاء هارون إلى الوزير الخاقاني يهنّئه بذلك فأغمي عليه، ثم أفاق وأخذ منه ألفي دينار وشفع مؤنس المظفّر في ابنيه عبد الله وأبي نصر فأطلقهما ووصلهما بعشرين ألف دينار. ثم عزل الخاقاني سنة ثلاث عشرة لأنه أصابه المرض وطال به، وشغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت به الأحوال، وعزله المقتدر وولّى مكانه أبا العبّاس الخصيّ [1] وكان كاتبا لأمّه فقام بالأمر، وأقرّ علي بن عيسى على أعمال مصر والشام، فكان يتردّد إليهما من مكّة، ثم أنّ الخصي اضطربت أموره وضاقت الجباية، وكان مدمنا للسكر مهملا للأمور، ووكّل من يقوم عنه فآثروا مصالحهم
__________
[1] الخصيبيّ: ابن الأثير ج 8 ص 163.(3/466)
وأضاعوا مصلحته. وأشار مؤنس المظفّر بعزله وولاية ابن عيسى، فعزل لسنة وشهرين. واستقدم عليّ بن عيسى من دمشق وأبو القاسم عبد الله بن محمد الكلواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضر، فحضر أوّل سنة خمس عشرة واستقل بأمر الوزارة، وطلب كفالات المصادرين والعمّال، وما ضمن من الأموال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب، فاستحضرها شيئا بعد شيء وأدرّ الأرزاق وبسط العطاء وأسقط أرزاق المغنّين والمسامرة والندمان والصفاعنة، وأسقط من الجند أصاغر الأولاد ومن ليس له سلاح والهرمي والزمنى، وباشر الأمور بنفسه واستعمل الكفاة وطلب أبا العبّاس الخصي في المناظرة، وأحضر له الفقهاء والقضاة والكتاب، وسأله عن أموال الخوارج والنواحي والمصادرات وكفالاتها، وما حصل من ذلك وما الواصل والبواقي، فقال لا أعلم فسأله عن المال الّذي سلّمه لابن أبي الساج كيف سلّمه بلا مصرف ولا منفق، وكيف سلّم إليه أعمال المشرق، وكيف بعثه لبلاد الصحراء بهجر هو وأصحابه من أهل الغلول والخصب، فقال: ظننت منهم القدرة على ذلك. وامتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال: وكيف استجزت ضرب حرم المصادرين؟ فسكت، ثم سئل عن الخراج فخلط فقال: أنت غررت أمير المؤمنين من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة. ثم أعيد إلى محبسه واستمرّ عليّ بن عيسى في ولايته. ثم اضطربت عليه الأحوال واختلفت الأعمال، ونقص الارتياع نقصا فاحشا، وزادت النفقات، وزاد المقتدر تلك الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى، وعاد الجند من الأنبار فزادهم في أرزاقهم مائتين وأربعين ألف دينار. فلمّا رأى ذلك عليّ بن عيسى ويئس من انقطاعه أو توقّفه، وخشي من نصر الحاجب، فقد كان انحرف عنه لميل مؤنس إليه وما بينهما من المنافرة في الدولة، فاستعفى من الوزارة وألحّ في ذلك وسكنه مؤنس فقال له: أنت سائر إلى الرقّة، وأخشى على نفسي بعدك. ثم فاوض المقتدر نصر الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة أبي عليّ ابن مقلة، فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة وقبض على عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن، وأقام ابن مقلة بالوزارة وأعانه فيها أبو عبد الله البريدي لمودّة كانت بينهما واستمرّت حاله على ذلك. ثم عزله المقتدر ونكبه بعد سنتين وأربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره، وكان ابن مقلة متّهما بالميل إليه فاتّفق مغيبه في بعض الوجوه فيقبض عليه المقتدر. فلمّا جاء مؤنس سأل في إعادته فلم يجبه المقتدر(3/467)
وأراد قتله فمنعه، واستوزر المقتدر سليمان بن الحسن وأمر عليّ بن عيسى بمشاركته في الاطلاع على الدواوين، وصودر ابن مقلة على مائتي ألف دينار، وأقام سليمان في وزارته سنة وشهرين وعليّ بن عيسى يشاركه في الدواوين، وضاقت عليه الأحوال إضاقة شديدة، وكثرت المطالبات ووقفت وظائف السلطان. ثم أفرد السواد بالولاية فانقطعت مواد الوزير لأنه كان يقيم من قبله من يشتري توقعات الأرزاق ممن لا يقدر على السعي في تحصيلها من العمّال والفقهاء وأرباب البيوت، فيشتريها بنصف المبلغ فتعرّض بعض من كان ينتمى لمفلح الخادم لتحصيل ذلك للخليفة، وتوسّط له مفلح فدافع لذلك وجاهر في تحصيله من العمّال، فاختلت الأحوال بذلك وفضح الديوان ودفعت الأحوال لقطع منافع الوزراء والعمّال التي كانوا يرتفقون بها، وإهمالهم أمور الناس بسبب ذلك. وعاد الخلل على الدولة وتحرّك المرشحون للوزارة في السعاية وضمان القيام بالوظائف وأرزاق الجند. وأشار مؤنس بوزارة أبي القاسم الكلواذي فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة وأقام في وزارته شهرين.
وكان ببغداد رجل من المخرّفين يسمّى الدانيالي، وكان ورّاقا ذكيا محتالا يكتب الخطوط في الورق ويداويها حتى تتمّ بالبلى. وقد أودعها ذكر من يراه من أهل الدولة برموز وإشارات، ويقسّم له فيها من حظوظ الملك والجاه والتمكين قسمة من عالم الغيب، يوهم أنها من الحدثان القديم المأثور عن دانيال وغيره، وأنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه، ففعل مثل ذلك بمفلح. وكتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا وكذا، وسأله مفلح عن الميم فقال: هو كناية عنك لأنك مفلح مولى المقتدر. وناسب بينه وبين علامات مذكورة في تلك الأوراق حتى طبّقها عليه، فشغف به مؤنس وأغناه. وكان يداخل الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب، فرمز اسمه في كتاب وذكر بعض علاماته المنطبقة عليه، وذكر أنه يستوزره الخليفة الثامن عشر من بني العبّاس، وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعادي وتعمر الدنيا في أيّامه وخلط ذلك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه ولم يقع الآخر.
وقرأ الكتاب على مفلح فأعجبه، وجاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به الآخر، وقال لمفلح: من تعلم بهذه القصة؟ فقال لا أراه إلا الحسين بن القاسم. قال:
صدقت وإني لأميل إليه، وقد كان المقتدر أراد ولايته قبل ابن مقلة وقبل الكلواذي، فامتنع مؤنس. ثم قال المقتدر لمفلح: إن جاءتك رقعة منه بالسعي في(3/468)
الوزارة فأعرضها عليّ. ثم سأل مفلح الدانيالي من أين لك الكتاب؟ قال: وراثة من آبائي وهو من ملاحم دانيال. فأنهى ذلك إلى المقتدر واغتبطوا بالحسين وبلغ الخبر إليه، فكتب إلى مفلح بالسعي في الوزارة، فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس. واتفق أنّ الكلواذي عمل حسابا بما يحتاج إليه من النفقات الزائدة على الحاصل، فكاتب سبعمائة ألف دينار وكتب عليه أهل الديوان خطوطهم، وقال ليس لهذه جهة إلّا ما يطلقه أمير المؤمنين. فعظم ذلك على المقتدر، وأمر الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات وزيادة ألف ألف دينار لبيت المال. وعرض كتابه على الكلواذي فاستقال، وأذن للكلواذي لشهرين من وزارته، وولّى الحسين بن القاسم واشترط أن لا يشاركه عليّ بن عيسى في شيء من أموره، وإخراجه الصافية. واختصّ به الحسين بن اليزيدي وابن الفرات. ولمّا ولي واطلع على نقصان الارتياع وكثرة الإنفاق وضاق عليه الأمر فتعجّل الجباية المستقبلة، وصرفها في الماضية. وبلغ ذلك هارون بن غريب الحال فأنهاه إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيّ واطلع على حسابه، فألقى له حسبة ليس فيها رمزه. فأظهر ذلك للمقتدر وجميع الكتّاب واطلعوا عليها وقابلوا الوزير بتصديق الخصيّ فيما قاله، وقبض على الحسين ابن القاسم في شهر ربيع من سنة عشرين لسبعة أشهر من ولايته. واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر وسلّم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءته ولم يزل على وزارته.
أخبار القرامطة في البصرة والكوفة
كان القرامطة قد استبدّ طائفة منهم بالبحرين وعليهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجناني [1] ، ورث ذلك عن أبيه واقتطعوا ذلك العمل بأسره عن الدولة، كما يذكر في أخبار دولتهم عند إفرادها بالذكر، فقصد أبو طاهر البصرة سنة إحدى عشرة ومائتين وبها سبط مفلح، فكبسها ليلا في ألفين وسبعمائة، وتسنّموا الأسوار بالجبال، وركب سبك فقتلوه ووضعوا السيف في الناس فأفحشوا في القتل وغرق كثير في الماء، وأقام أبو طاهر بها سبعة عشر يوما، وحمل ما قدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان وعاد إلى هجر. وولّى المقتدر على البصرة محمد بن عبد الله الفارقيّ فانحدر إليها بعد انصرافهم عنها. ثم سار أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتين عشرة
__________
[1] الجنابي: ابن الأثير ج 8 ص 83.(3/469)
معترضا للحاج في رجوعهم من مكّة، فاعترض أوائلهم ونهبهم، وجاء الخبر إلى الحاج وهم بعيد، وقد فنيت أزوادهم وكان معهم أبو الهيجاء بن حمدان صاحب طريق الكوفة. ثم أغار عليهم أبو طاهر فأوقع بهم وأسر أبا الهيجاء أحمد بن بدر من أخوال المقتدر، ونهب الأمتعة وسبى النساء والصبيان، ورجع إلى هجر. وبقي الحجّاج ضاحين في القفر إلى أن هلكوا، ورجع كثير من الحرم إلى بغداد، وأشغبوا واجتمع معهم حرم المنكوبين أيام ابن الفرات، فكان ذلك من أسباب نكبته. ثم أطلق أبو طاهر الأسرى الذين عنده ابن حمدان وأصحابه، وأرسل إلى المقتدر يطلب البصرة والأهواز، فلم يجبه وسار من هجر لاعتراض الحاج، وقد سار بين أيديهم جعفر بن ورقاء الشيبانيّ في ألف رجل من قومه، وكان صاحب أعمال الكوفة وعلى الحاج بمثل صاحب البحر وجنا الصفواني وطريف اليشكريّ وغيرهم في ستة آلاف رجل، فقاتل جعفر الشيبانيّ أوّلا وهزمه. ثم اتبع الحاج إلى الكوفة فهزم عسكرهم وفتك فيهم، وأسرجنا الصفواني، وهرب الباقون. وملك الكوفة، وأقام بظاهرها ستة أيام يقيم في المسجد إلى الليل ويبيت في عسكره وحمل ما قدر عليه من الأموال والمتاع ورجع إلى هجر. ووصل المنهزمون إلى بغداد فتقدّم المقتدر إلى مؤنس بالخروج إلى الكوفة فسار إليها بعد خروجهم عنها، واستخلف عليها ياقوتا ومضى إلى واسط ليمانع أبا طاهر دونها، ولم يحج أحد هذه السنة وبعث المقتدر سنة أربع عشرة عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وسيّره إلى واسط لحرب أبي طاهر. ورجع مؤنس إلى بغداد وخرج أبو طاهر سنة خمس عشرة وقصد الكوفة، وجاء الخبر إلى ابن أبي الساج فخرج من واسط آخر رمضان يسابق أبا طاهر إليها، فسبقه أبو طاهر وهرب العمّال عنها واستولى على الأتراك والعلوفات التي أعدّت بها. ووصل ابن أبي الساج ثامن شوّال بعد وصول أبي طاهر بيوم وبعث يدعوه إلى الطاعة للمقتدر، فقال لا طاعة إلّا للَّه فآذنه بالحرب وتزاحفوا يوما إلى الليل. ثم انهزم أصحاب ابن أبي الساج وأسروا ووكّل أبو طاهر طبيبا يعالج جراحته، ووصل المنهزمون ببغداد فأرجفوا بالهرب، وبرز مؤنس المظفّر لقصد الكوفة. وقد سار القرامطة إلى عين التمر فبعث مؤنس من بغداد خمسمائة سرية ليمنعهم من عبور الفرات. ثم قصد القرامطة الأنبار ونزلوا غربي الفرات، وجاءوا بالسفن من الحديثة، فأجاز فيها ثلاثمائة منهم، وقاتلوا عسكر الخليفة فهزموهم واستولوا على مدينة الأنبار. وجاء الخبر إلى بغداد فخرج(3/470)
الحاجب في العساكر ولحق بمؤنس المظفّر واجتمعوا في نيف وأربعين ألف مقاتل إلى عسكر القرامطة ليخلّصوا ابن أبي الساج فقاتلهم القرامطة وهزموهم. وكان أبو طاهر قد نظر إلى ابن أبي الساج وهو يستشرف إلى الخلاص، وأصحابه يشيرونه، فأحضره وقتله وقتل جميع الأسرى من أصحابه، وكثر الهرج ببغداد واتّخذوا السفن بالانحدار إلى واسط ومنهم من نقل متاعه إلى حلوان. وكان نازوك صاحب الشرطة فأكثر التطواف بالليل والنهار، وقتل بعض الدعّار فأقصروا عن [1] ثم سار القرامطة عن الأنبار فاتحة سنة ست عشرة ورجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الرحبة فملكها واستباحها، واستأمن إليه أهل قرقيسيا فأمّنهم، وبعث السرايا إلى الأعراب بالجزيرة فنهبوهم وهربوا بين يديه، وقدّر إليهم الإتاوة في كل سنة يحملونها إلى هجر. ثم سار أبو طاهر إلى الرقّة وقاتلها ثلاثا، وبعث السرايا إلى رأس عين، وكفرتوثا وسنجار فاستأمنوا إليهم، وخرج مؤنس المظفّر من بغداد في العسكر وقصد الرقّة، فسار أبو طاهر عنها إلى الرحبة ووصلها مؤنس، وسار القرامطة إلى هيت، فامتنعت عليهم فساروا إلى الكوفة. وخرج من بغداد نصر الحاجب وهارون بن غريب وبنّيّ بن قيس في العساكر إليها، ووصلت جند القرامطة إلى قصر ابن هبيرة. ثم مرض نصر الحاجب واستخلف على عسكره أحمد بن كيغلغ، وعاد فمات في طريقه، وولّى مكانه على عسكره هارون بن غريب، وولّى مكانه في الحجة ابنه أحمد. ثم انصرف القرامطة إلى بلادهم ورجع هارون إلى بغداد في شوّال من السنة. ثم اجتمع بالسواد جماعات من أهل هذا المذهب بواسط وعين التمر، وولّى كل جماعة عليهم رجلا منهم، فولى جماعة واسط حريث بن مسعود، وجماعة عين التمر عيسى بن موسى وسار إلى الكوفة ونزل بظاهرها وصرف العمّال عن السواد، وجبى الخراج. وسار حريث إلى أعمال الموفّق وبنى بها دارا سمّاها دار الهجرة، واستولى على تلك الناحية. وكان صاحب الحرب بواسط بني بن قيس فهزموه، فبعث إليه المقتدر هارون بن غريب في العساكر، وإلى قرامطة الكوفة صافيا البصريّ، فهزموهم من كل جانب وجاءوا بأعلامهم بيضاء عليها مكتوب: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ 28: 5 الآية، وأدخلت إلى بغداد منكوسة، واضمحلّ أمر القرامطة بالسواد.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 173: «وسلمت بغداد من نهب العيّارين، لأن نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلا ونهارا، ومن وجدوه بعد العتمة قتلوه فامتنع العيّارون ... » .(3/471)
استيلاء القرامطة على مكة وقلعهم الحجر الأسود
ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة تسع عشرة إلى مكّة وحج بالناس منصور الديلميّ، فلما كان يوم التروية، ونهب أبو طاهر أموال الحجّاج وفتك فيهم بالقتل حتى في المسجد والكعبة، واقتلع الحجر الأسود وحمله إلى هجر، وخرج إليه أبو مخلب [1] أمير مكة في جماعة من الأشراف، وسألوه فلم يسعفهم، وقاتلوه فقتلهم وقلع باب البيت، وأصعد رجلا يقتلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في زمزم ودفن الباقين في المسجد حيث قتلوا، ولم يغسلوا ولا صلى عليهم ولا كفّنوا. وقسّم كسوة البيت على أصحابه ونهب بيوت أهل مكّة. وبلغ الخبر إلى المهدي عبيد الله بإفريقية وكانوا يظهرون الدعاء له، فكتب إليه بالنكير واللعن ويتهدّده على الحجر الأسود، فردّه وما أمكنه من أموال الناس واعتذر عن بقية ما أخذوه بافتراقه في الناس.
خلع المقتدر وعوده
كان من أوّل الأسباب الداعية لذلك أنّ فتنة وقعت بين ماجوريه هارون الحال ونازوك صاحب الشرطة [2] في بعض مذاهب الفواحش، فحبس نازوك ماجوريه هارون، وجاء أصحابه إلى محبس الشرطة ووثبوا بنائبه وأخذوا أصحابهم من الحبس. ورفع نازوك الأمر إلى المقتدر فلم يعد أحدا منهما لمكانهما منه، فعاد الأمر بينهما إلى المقاتلة وبعث المقتدر إليهما بالنكير فأقصرا، واستوحش هارون، وخرج بأصحابه ونزل البستان النجمي وبعث إليه المقتدر يسترضيه، فأرجف الناس أنّ المقتدر جعله أمير الأمراء، فشقّ ذلك على أصحاب مؤنس، وكان بالرقّة فكتبوا إليه فأسرع العود إلى بغداد ونزل بالشّمّاسيّة مستوحشا من المقتدر ولم يلقه، وبعث ابنه أبا العبّاس ووزيره ابن مقلة لتلقّيه وإيناسه فلم يقبل، وتمكّنت الوحشة وأسكن المقتدر ابن خاله هارون معه في داره فازداد نفور مؤنس. وجاء أبو العبّاس بن حمدان من بلاده في عسكر كبير، فنزل عند مؤنس وتردّد الأمراء بين المقتدر ومؤنس، وسار إليه نازوك صاحب
__________
[1] ابن محلب: ابن الأثير ج 8 ص 207.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 200: «وكان سبب ذلك ما ذكرنا في السنة التي قبلها (ص 187) من استيحاش مؤنس ونزوله بالشّمّاسيّة وخرج إليه نازوك صاحب الشرطة» والفتنة حصلت بين نازوك صاحب الشرطة وهارون بن غريب.(3/472)
الشرطة، وجاءه بنّيّ بن قيس، وكان المقتدر قد أخذ منه الدّينور وأعادها إليه مؤنس، واشتمل عليه. وجمع المقتدر في داره هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجال المصافيّة، ثم انتقض أصحاب المقتدر وجاءوا إلى مؤنس وذلك في فتح سنة سبع عشرة. فكتب مؤنس إلى المقتدر بأنّ الناس ينكرون سرفه فيما أقطع الحرم والخدم من الأموال والضياع ورجوعه إليهم في تدبير ملكه، ويطالبه بإخراجهم من الدار وإخراج هارون بن غريب معهم، وانتزاع ما في أيديهم من الأموال والأملاك. فأجاب المقتدر إلى ذلك، وكتب يستعطفه ويذكّره البيعة ويخوّفه عاقبة النكث، وأخرج هارون إلى الثغور الشامية والجزريّة، فسكن مؤنس ودخل إلى بغداد ومعه ابن حمدان ونازوك والناس يرجفون بأنه خلع المقتدر. فلمّا كان عشر محرّم من هذه السنة، ركب مؤنس إلى باب الشمّاسيّة وتشاور مع أصحابه قليلا، ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم، وكان المقتدر قد صرف أحمد بن نصر القسوري عن الحجابة وقلّدها ياقوتا وكان على حرب فارس، فاستخلف مكانه ابنه أبا الفتح المظفّر. فلما جاء مؤنس إلى الدار هرب ابن ياقوت وسائر الحجبة والخدم والوزير وكل من بالدار، ودخل مؤنس فأخرج المقتدر وأمّه وولده وخواصّ جواريه، فنقلهم إلى داره واعتقلهم بها، وبلغ الخبر هارون بن غريب بقطربّل فدخل إلى بغداد واستتر، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد، وبايعوه ولقّبوه القاهر باللَّه. وأحضروا القاضي أبا عمر المالكي عند المقتدر للشهادة عليه بالخلع، وقام ابن حمدان يتأسّف له ويبكي ويقول: كنت أخشى عليك مثل هذا ونصحتك فلم تقبل، وآثرت قول الخدم والنساء على قولي، ومع هذا فنحن عبيدك وخدمك، وأودع كتاب الخلع عند القاضي أبي عمر ولم يظهر عليه أحدا حتى سلّمه إلى المقتدر بعد عوده، فحسن موقع ذلك منه وولّاه القضاء. ولما تمّ الخلع عمد مؤنس، إلى دار الخليفة فنهبها ومضى ابن نفيس إلى تربة أمّ المقتدر فاستخرج من بعض قبورها ستمائة ألف دينار وحملها إلى القاهر، وأخرج مؤنس عليّ ابن عيسى الوزير من الحبس وولّى عليّ بن مقلة الوزارة، وأضاف إلى نازوك الحجابة مع الشرطة، وأقطع ابن حمدان حلوان والدّينور وهمذان وكرمان والصيمرة ونهوند وشيراز وماسبذان مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان، وكان ذلك منتصف المحرّم. ولما تقلّد نازوك الحجابة أمر الرجّالة بتقويض خيامهم من الدار(3/473)
وأدالهم ابن جالة من أصحابه فأسفهم بذلك وتقدّموا إلى خلفاء الحجاب بأن يمنعوا الناس من الدخول إلا أصحاب المراتب فاضطربت الحجرية لذلك [1] . فلما كان سابع عشر المحرّم وهو يوم الإثنين بكّر الناس إلى الخليفة لحضور الموكب وامتلأت الرحاب وشاطئ دجلة بالناس، وجاء الرجّالة المصافيّة شاكي السلاح يطالبون بحق البيعة ورزق سنة، وقد بلغ منهم الحنق على نازوك مبالغه، وقعد مؤنس عن الحضور ذلك اليوم، وزعق الرجّالة المصافيّة فنهى نازوك أصحابه أن يعرضوا لهم، فزاد شغبهم وهجموا على الصحن المنيعي، ودخل معهم من كان على الشطّ من العامة بالسلاح، والقاهر جالس وعنده عليّ بن مقلة الوزير ونازوك، فقال لنازوك أخرج إليهم فسكّنهم! فخرج وهو متحامل من الخمار فتقدّم إلى الرجّالة للشكوى بحالهم ورأى السيوف في أيديهم فهرب، فحدث لهم الطمع فيه وفي الدولة، واتّبعوه فقتلوه وخادمه عجيفا ونادوا بشعار المقتدر. وهرب كل من في الديار من سائر الطبقات وصلبوا نازوك وعجيفا على شاطئ دجلة. ثم ساروا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر، وأغلق الخادم أبواب دار الخليفة، وكانوا كلّهم صنائع المقتدر، وقصد أبو الهيجاء حمدان الفرات فتعلق به القاهر واستقدم به، فقال له: أخرج معي إلى عشيرتي أقتل دونك! فوجد الأبواب مغلقة فقال له ابن حمدان: قف حتى أعود إليك ونزع ثيابه ولبس بعض الخلقان، وجاء إلى الباب فوجده مغلقا والناس من ورائه، فرجع إلى القاهر وتمالأ بعض الخدّام على قتله، فقاتلهم حتى كشفهم، ودخل في بعض مسارب البستان فجاءوه إليهم فقتلوه وحملوا رأسه. وانتهى الرّجالة إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر فسلّمه إليهم وحملوه على رقابهم إلى دار الخلافة، فلما توسّط الصحن المنيعي اطمأنّ وسأل عن أخيه القاهر وابن حمدان وكتب لهما الأمان بخطّه، وبعث فيهما فقيل له إنّ ابن حمدان قد قتل، فعظم عليه وقال: والله ما كان أحمد بسيف في هذه الأيام غيره، وأحضر القاهر فاستدناه وقبّل رأسه وقال له: لا ذنب لك ولو لقّبوك المقهور لكان أولى من القاهر! وهو يبكي ويتطارح عليه حتى حلف له على الأمان، فانبسط وسكن. وطيف برأس نازوك وابن حمدان،
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 202: «ولمّا تقلّد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجّالة المصافية بقلع خيامهم من دار الخليفة، وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا بمكان المصافيّة، فعظم ذلك عليهم، وتقدّم إلى خلفاء الحجاب ان لا يمكنوا أحدا من الدخول إلى دار الخليفة، إلا من له مرتبة، فاضطربت الحجبة من ذلك» .(3/474)
وخرج أبو نفيس هاربا من مكان استتاره إلى الموصل، ثم إلى أرمينية، ولحق بالقسطنطينية فتنصّر، وهرب أبو السرايا أخو أبي الهيجاء إلى الموصل، وأعاد المقتدر أبا عليّ بن مقلة إلى الوزارة، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم. وبيع ما في الخزائن بأرخص الأثمان وأذن في بيع الأملاك لتتمة الأعطيات، وأعاد مؤنسا إلى محلّه من تدبير الدولة والتعويل عليه في أموره. ويقال إنه كان مقاطعا للمقتدر وإنه الّذي دسّ إلى المصافيّة والحجرية بما فعلوه، ولذلك قعد عن الحضور إلى القاهر. ثم إن المقتدر حبس أخاه القاهر عند أمّه فبالغت في الإحسان إليه والتوسعة عليه في النفقة والسراري.
أخبار قوّاد الديلم وتغلبهم على أعمال الخليفة
قد تقدّم لنا الخبر عن الديلم في غير موضع من الكتاب، وخبر افتتاح بلادهم بالجبال والأمصار التي تليها، مثل طبرستان وجرجان وسارية وآمد وأستراباذ، وخبر إسلامهم على يد الأطروش، وأنّه جمعهم وملك بهم بلاد طبرستان سنة إحدى وثلاثمائة، وملك من بعده أولاده والحسن بن القاسم الداعي صهره، واستعمل منهم القوّاد على ثغورها فكان منهم ليلى بن النعمان، كانت إليه ولاية جرجان عن الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان ثلاثين. وكانت بين بني سامان وبين بني الأطروش والحسن بن القاسم الداعي وقوّاد الديلم حروب هلك فيها ليلى بن النعمان سنة تسع وثلاثمائة، لأنّ أمر الخلفاء كان قد انقطع عن خراسان، وولّوها لبني سامان فكانت بسبب ذلك بينهم وبين أهل طبرستان من الحروب ما أشرنا إليه. ثم كانت بعد ذلك حرب مع بني سامان فولّاها من قوّاد الديلم شرخاب بن بهبودان وهو ابن عم ما كان ابن كالي وصاحب جيش أبي الحسن الأطروش، وقاتله سيمجور صاحب جيش بني سامان، فهزمه وهلك شرخاب، وولّى ابن الأطروش ما كان بن كالي على أستراباذ، فاجتمع إليه الديلم وقدّموه على أنفسهم، واستولى على جرجان كما يذكر ذلك كله في أخبار العلويّة. وكان من أصحاب ما كان هذا أسفار ابن شيرويه من قوّاد الديلم عن ما كان إلى قوّاد بني سامان. فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع بنيسابور، وبعثه في الجنود لافتتاح جرجان، وبها أبو الحسن بن كالي نائبا عن أخيه ما كان وهو بطبرستان. فقتل أبو الحسن وقام بأمر جرجان عليّ بن خرشيد. ودعا(3/475)
أسفار بن شيرويه إلى حمايتها من ما كان، فزحف إليهم من طبرستان فهزموه وغلبوه عليها ونصبوا أبا الحسن وعليّ بن خرشيد. فزحف ما كان إلى أسفار وهزمه وغلبه على طبرستان، ورجع إلى بكر بن محمد بن أليسع بجرجان. ثم توفي بكر سنة خمس عشرة، فولّى نصر بن أحمد بن سامان أسفار بن شيرويه مكانه على جرجان، وبعث أسفار عن مرداويج بن زيار الجبليّ وقدّمه على جيشه، وقصدوا طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن القاسم الداعي قد استولى على الريّ وأعمالها من يد نصر بن سامان، ومعه قائده ما كان بن كالي. فلمّا غلب أسفار على طبرستان زحف إليه الداعي وقائده ما كان فانهزما وقتل الداعي ورجع ما كان إلى الريّ، واستولى أسفار ابن شيرويه على طبرستان وجرجان، ودعا النصر بن أحمد بن سامان، ونزل سارية واستعمل على آمد هارون بن بهرام. ثم سار أسفار إلى الريّ، فأخذها من يد ما كان ابن كالي وسار ما كان إلى طبرستان واستولى أسفار على سائر أعمال الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ، وعظمت جيوشه وحدّثته نفسه بالملك، فانتقض على نصر بن سامان صاحب خراسان، واعتزم على حربه وحرب الخليفة. وبعث المقتدر هارون بن غريب الحال في عسكر إلى قزوين، فحاربه أسفار وهزمه وقتل كثيرا من أصحابه. ثم زحف إليه نصر بن سامان من بخارى فراسله في الصلح وضمان أموال الجباية، فأجابه وولّاه ورجع إلى بخارى، فعظم أمر أسفار وكثر عيثه وعسف جنده، وكان قائده مرداويج من أكبر قوّاده قد بعثه أسفار إلى سلار صاحب سميرم، والطرم يدعوه إلى طاعته. فاتفق مع سلار على الوثوب بأسفار، وقد باطن في ذلك جماعة من قوّاد أسفار ووزيره محمد بن مطرف الجرجاني. ونمي الخبر إلى أسفار وثار به الجند، فهرب إلى بيهق. وجاء مرداويج من قزوين إلى الريّ، وكتب إلى ما كان بن كالي يستدعيه من طبرستان ليظاهره على أسفار، فقصد ما كان أسفار، فهرب أسفار إلى الريّ ليتّصل بأهله وماله، وقد كان أنزلهم بقلعة المرت. وركب المفازة إليها، ونمي الخبر إلى مرداويج فسار لاعتراضه وقدّم بعض قوّاده أمامه فلحقه القائد وجاء به إلى مرداويج فقتله ورجع إلى الريّ ثم إلى قزوين، وتمكن في الملك وافتتح البلاد وأخذ همذان والدّينور وقمّ وقاشان وأصبهان، وأساء السيرة في أهل أصبهان وصنع سريرا من ذهب لجلوسه. فلما قوي أمره نازع ما كان في طبرستان فغلبه عليها ثم سار إلى جرجان فملكها وعاد إلى أصبهان ظافرا. وسار ما كان على الديلم(3/476)
مستنجدا بأبي الفضل الثائر بها، وسار معه إلى طبرستان فقاتلهم عاملها من قبل مرداويج بالقسم بن بايحين وهزمهم، ورجع الثائر إلى الديلم وسار ما كان إلى نيسابور، ثم سار إلى الدامغان فصدّه عنها القسم فعاد إلى خراسان. وعظم أمر مرداويج واستولى على بلد الريّ والجبل واجتمع إليه الديلم وكثرت جموعه وعظم خرجه. فلم يكف ما في يده من الأعمال فسما إلى التغلّب على النواحي، فبعث إلى همذان الجيوش مع ابن أخته، وكانت بها عساكر الخليفة مع محمد بن خلف، فحاربهم وهزمهم وقتل ابن أخت مرداويج. فسار من الريّ إلى همذان وهرب عسكر الخليفة عنها وملكها مرداويج عنوة واستباحها. ثم أمّن بقيتهم. وأنفذ المقتدر هارون بن غريب الحال في العساكر فلقيه مرداويج وهزمهم واستولى على بلاد الجبل وما وراء همذان، وبعث قائده إلى الدينور ففتحها عنوة، وانتهت عساكره إلى حلوان فقتل وسبى. وسار هارون إلى قرقيسيا فأقام بها واستمدّ المقتدر وكان معه اليشكريّ من قوّاد أسفار، وكان قد استأمن بعد أسفار إلى الخليفة وسار في جملته.
وجاء مع هارون في هذه الغزاة إلى نهاوند لحمل المال إليه منها. فلمّا دخلها استمدّت [1] عينه إلى ثروة أهلها، فصادرهم على ثلاثة آلاف ألف دينار، واستخرجها في مدّة أسبوع، وجنّد بها جندا ومضى إلى أصبهان، وبها يومئذ ابن كيغلغ قبل استيلاء مرداويج عليها، فقاتله أحمد وانهزم وملك اليشكري أصبهان، ودخل إليها أصحابه، وقام بظاهرها. وسار أحمد بن كيغلغ في ثلاثين فارسا إلى بعض قرى أصبهان وركب اليشكري ليتطوّف على السور، فنظر إليهم فسار نحوهم فقاتلوه، وضربه أحمد بن كيغلغ على رأسه بالسيف فقدّ المغفر وتجاوزه إلى دماغه فسقط ميتا. وقصد أحمد المدينة ففرّ أصحاب اليشكري، ودخل أحمد إلى أصبهان وذلك قبل استيلاء عسكر مرداويج عليها، فاستولى عليها وجدّدوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجليّ وبساتينه، وجاء مرداويج في أربعين أو خمسين ألفا، فنزلها وبعث جمعا إلى الأهواز فاستولوا عليها، وعلى خوزستان كذلك، وجبى أموالها وقسّم الكثير منها في أصحابه، وادّخر الباقي وبعث إلى المقتدر يطلب ولاية هذه الأعمال وإضافة همذان وماه الكوفة إليها على مائتي ألف دينار في كل سنة، فأجابه وقاطعه وولّاه وذلك سنة تسع عشرة. ثم دعا مرداويج
__________
[1] الأصح ان يقول: امتدت.(3/477)
سنة عشرين أخاه وشكمير من بلاد كيلان، فجاء إليه بدويا حافيا بما كان يعاني من أحوال البداوة والتبذّل في المعاش ينكر كل ما يراه من أحوال الترف ورقة العيش.
ثم صار إلى ترف الملك وأحوال الرئاسة فرقت حاشيته وعظم ترفهه. وأصبح من عظماء الملوك وأعرفهم بالتدبير والسياسة.
ابتداء حال أبي عبد الله البريدي
كان بداية أمره عاملا على الأهواز وضبط ابن ماكر لأن هذا الاسم بالموحدة والراء المهملة نسبة إلى البريد. وضبطه ابن مسكويه بالياء المثناة التحتانيّة والزاي نسبة إلى يزيد بن عبد الله بن المنصور الحميريّ، كان جدّه يخدمه ولما ولي عليّ بن عيسى الوزارة واستعمل العمّال، وكان أبو عبد الله قد ضمن الخاصة بالأهواز وأخوه أبو يوسف على سوق فائق من الاقتصارية وأخوه علي هذا. فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على أن يقلّده أعمالا فائقة، فقلّده الأهواز جميعها غير السوس وجنا سابور [1] وقلّد أخاه أبا الحسن القرانية [2] وأخاهما أبا يوسف الخاصة والأسافل، وضمن المال أبا يوسف السمسار، وجعل الحسين بن محمد المارداني مشرفا على أبي عبد الله، فلم يلتفت إليه. وكتب إليه الوزير بن مقلة بالقبض على بعض العمّال ومصادرته، فأخذ منه عشرة آلاف دينار واستأثر بها على الوزير، فلما نكب ابن مقلة كتب المقتدر بخطّه إلى الحاجب أحمد بن نصر القسوري بالقبض على أولاد البريدي، وأن لا يطلقهم إلا بكتابه، فقبض عليهم وجاء أبو عبد الله بكتاب المقتدر بخطّه بإطلاقهم وظهر تزويره فأحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف دينار فأعطوها.
الصوائف أيام المقتدر
ساره مؤنس المظفّر سنة ست وتسعين في العساكر من بغداد إلى الفرات، ودخل من ناحية ملطية ومعه أبو الأغرّ السلميّ، فظفر وغنم وأسر جماعة، وفي سنة سبع وتسعين بعث المقتدر أبا القاسم بن سيما لغزو الصائفة سنة ثمان وتسعين. وفي سنة تسع وتسعين غزا بالصائفة رستم أمير الثغور، ودخل من ناحية طرسوس ومعه دميانة،
__________
[1] هي جنديسابور.
[2] الفراتية: ابن الأثير ج 8 ص 185.(3/478)
وحاصر حصن مليح الأرمني ففتحه وأحرقه. وفي سنة ثلاثمائة مات إسكندروس بن لاور ملك الروم، وملك بعده ابنه قسطنطين ابن اثنتي عشرة سنة. وفي سنة اثنتين وثلاثمائة سار عليّ بن عيسى الوزير في ألف فارس لغزو الصائفة مددا لبسر الخادم عامل طرسوس، ولم يتيسر لهم الدخول في المصيف، فدخلوا شاتية في كلب البرد وشدّته، وغنموا وسبوا. وفي سنة اثنتين وثلاثمائة غزا بسر الخادم والي طرسوس بلاد الروم، ففتح وغنم وسبى وأسر مائة وخمسين. وكان السبي نحوا من ألفي رأس. وفي سنة ثلاث وثلاثمائة أغارت الروم على ثغور الجزيرة ونهبوا حصن منصور وسبوا أهله بتشاغل عسكر الجزيرة بطلب الحسين بن حمدان مع مؤنس، حتى قبض عليه كما مرّ. وفي هذه السنة خرج الروم إلى ناحية طرسوس والفرات فقاتلوا وقتلوا نحوا من ستمائة فارس، وجاء مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في نواحيها، ولم يكن للمسلمين في هذه السنة صائفة. وفي سنة أربع بعدها سار مؤنس المظفّر بالصائفة ومرّ بالموصل فقلّد سبكا المفلحيّ باريدى وقردى من أعمال الفرات، وقلّد عثمان العبودي مدينة بلد وسنجار ووصيفا البكتمري باقي بلاد ربيعة، وسار إلى ملطية فدخل منها وكتب إلى أبي القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام أن يدخل من طرسوس في أهلها، ففتح مؤنس حصونا كثيرة وغنم وسبى ورجع إلى بغداد فأكرمه المعتضد وخلع عليه. وفي سنة خمس وثلاثمائة وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر في المهادنة والفداء، فتلقيا بالإكرام وجلس لهما الوزير في الابهة، وصفّ الأجناد بالسلاح العظيم الشأن والزينة الكاملة، فأدّيا إليه الرسالة وأدخلهما من الغد على المقتدر وقد احتفل في الأبهة ما شاء، فأجابهما إلى ما طلب ملكهم. وبعث مؤنسا الخادم للفداء، وجعله أميرا على كل بلد يدخله إلى أن ينصرف. وأطلق الأرزاق الواسعة لمن سار معه من الجنود، وأنفذ معه مائة وعشرين ألف دينار للفدية. وفيها غزا الصائفة جنا الصفواني فغنم وغزا وسيّر نمالي الخادم في الأسطول فغنم. وفي السنة بعدها غزا نمالي في البحر كذلك، وجنا الصفواني فظفر وفتح وعاد وغزا بشر الأفشين بلاد الروم، ففتح عدّة حصون وغنم وسبى. وفي سنة سبع غزا نمالي في البحر فلقي مراكب المهدي صاحب إفريقية فغلبهم وقتل جماعة منهم، وأسر خادما للمهدي.
وفي سنة عشرة وثلاثمائة غزا محمد بن نصر الحاجب من الموصل على قاليقلا، فأصاب من الروم، وسار أهل طرسوس من ملطية فظفروا واستباحوا وعادوا. وفي سنة(3/479)
إحدى عشرة غزا مؤنس المظفّر بلاد الروم فغنم وفتح حصونا، وغزا نمالي في البحر فغنم ألف رأس من السبي وثمانية آلاف من الظهر ومائة ألف من الغنم وشيئا كثيرا من الذهب والفضّة. وفي سنة اثني عشرة جاء رسول ملك الروم بالهدايا ومعه أبو عمر بن عبد الباقي يطلبان الهدنة وتقرير الفداء، فأجيبا إلى ذلك. ثم غدروا بالصائفة فدخل المسلمون بلاد الروم فأثخنوا ورجعوا. وفي سنة أربع عشرة خرجت الروم إلى ملطية ونواحيها مع الدمستق ومليح الأرمني صاحب الدروب وحاصروا ملطية وهربوا إلى بغداد واستغاثوا، فلم يغاثوا. وغزا أهل طرسوس بالصائفة فغنموا ورجعوا.
وفي سنة خمس عشرة دخلت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فأوقع بهم الروم وقتلوا أربعمائة رجل صبرا، وجاء الدمستق في عساكر من الروم إلى مدينة دبيل، وبها نصر السبكي فحاصرها وضيّق مخنقها واشتدّ في قتالها حتى نقب سورها، ودخل الروم إليها ودفعهم المسلمون فأخرجوهم وقتلوا منهم بعد أن غنموا ما لا يحصى وعاثوا في أنعامهم، فغنموا من الغنم ثلاثمائة ألف رأس فأكلوها. وكان رجل من رؤساء الأكراد يعرف بالضحّاك في حصن له يعرف بالجعبريّ فتنصّر وخدم ملك الروم، فلقيه المسلمون في سنة الغزاة فأسروه وقتلوا من معه. وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة خرج الدمستق في عساكر الروم فحاصر خلاط وملكها صلحا، وجعل الصليب في جامعها، ورحل إلى تدنيس ففعل بها كذلك، وهرب أهل أردن إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا. وفيها ظهر أهل ملطية على سبعمائة رجل من الروم والأرمن، دخلوا بلدهم خفية وقدّمهم مليح الأرمني ليكونوا لهم عونا إذا حاصروها، فقتلهم أهل ملطية عن آخرهم. وفي سنة سبع عشرة بعث أهل الثغور الجزرية مثل ملطية وفارقين وآمد وأرزا يستمدّون المقتدر في العساكر وإلّا فيعطوا الإتاوة للروم فلم يمدّهم، فصالحوا الروم وملكوا البلاد. وفيها دخل مفلح الساجيّ بلاد الروم. وفي سنة عشرين غزا نمالي بلاد الروم من طرسوس ولقي الروم فهزمهم وقتل منهم ثلاثمائة وأسر ثلاثة آلاف، وغنم من الفضّة والذهب شيئا كثيرا وعاد بالصائفة في سنته في حشد كثير، وبلغ عمّوريّة فهرب عنها من كان تجمّع إليها من الروم، ودخلها المسلمون فوجدوا من الأمتعة والأطعمة كثيرا، فغنموا وأحرقوا وتوغّلوا في بلاد الروم يقتلون ويكتسحون ويخرّبون حتى بلغوا انكمورية التي مصّرها أهله وعادوا سالمين.
وبلغت قيمة السبي مائة ألف وستة وثلاثين ألف دينار. وفي هذه السنة راسل ابن(3/480)
الزيداني وغيره من الأرمن في نواحي أرمينية وحثّوا الروم على قصد بلاد الإسلام، فساروا وخرّبوا نواحي خلاط وقتلوا وأسروا فسار إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج من أذربيجان في جموع من الجند والمتطوّعة، فأثخن في بلاد الروم حتى يقال إنّ القتلى بلغوا مائة ألف، وخرّب بلاد ابن الزيداني ومن وافقه، وقتل ونهب. ثم جاءت الروم إلى سميساط فحصروها وأمدّهم سعيد بن حمدان، وكان المقتدر ولّاه الموصل وديار ربيعة على أن يسترجع ملطية من الروم. فلما جاء رسول أهل سميساط إليهم فأجفل الروم عنها فسار إلى ملطية وبها عساكر الروم ومليح الأرمني صاحب الثغور الروميّة، وبنّيّ بن قيس صاحب المقتدر الّذي تنصّر. فلما أحسوا بإقبال سعيد هربوا وتركوها خشية أن يثب بهم أهلها وملكها سعيد فاستخلف عليها وعاد إلى الموصل.
الولايات على النواحي أيام المقتدر
كان بأصبهان عبد الله بن إبراهيم المسمعي عاملا عليها، خالف الأوّل ولاية المقتدر وجمع من الأكراد عشرة آلاف، وأمر المقتدر بدرا الحمامي عامل أصبهان بالمسير إليه.
فسار إليه في خمسة آلاف من الجند وأرسل من يخوّفه عاقبة المعصية، فراجع الطاعة وسار إلى بغداد واستخلف على أصبهان. وكان على اليمن المظفّر بن هاج. ففتح ما كان غلب عليه الحرثي باليمن وأخذ الحلتمي من أصحابه. وكان على الموصل أبو الهيجاء بن حمدان، وسار أخوه الحسين بن حمدان وأوقع بأعراب كلب وطيِّئ، وأسر سنة أربع وتسعين. ثم سار إلى الأكراد المتغلّبين على نواحي الموصل سنة خمس وتسعين فاستباحهم وهربوا إلى رءوس الجبال. وخرج بالحاج في سنة أربع وتسعين وصيف بن سوارتكين فحصره أعراب طيِّئ بالقتال وأوقعهم فهزمهم، ومضى إلى وجهه. ثم أوقع بهم هنالك الحسن بن موسى فأثخن فيهم. وكان على فارس سنة ست وتسعين اليشكري [1] غلام عمرو بن الليث، فلمّا تغلّب وكان على الثغور الشامية أحمد بن كيغلغ في سنة سبع وتسعين ملك الليث فارس من يد اليشكري، ثم جاءه مؤنس فغلبه وأسره ورجع اليشكري إلى عمله كما مرّ في خبره.
وفي سنة ست وتسعين وصل ناسر موسى بن سامان وقلد ديار ربيعة وقد مرّ ذكره.
__________
[1] سبكرى: ابن الأثير ج 8 ص 56.(3/481)
وفيها رجع الحسين بن حمدان من الخلاف وعقد له على قمّ وقاشان، فسار إليها ونزل عنها العبّاس بن عمر الغنويّ. وفي سنة سبع وتسعين توفي عيسى النوشري عامل مصر وولّى المقتدر مكانه تكين الخادم. وفي سنة ثمان وتسعين توفي منيح خادم الأفشين وهو عامل فارس وكان معه محمد بن جعفر الفريابيّ فماتا معا. وولي على فارس عبد الله بن إبراهيم المسمعي وأضيفت إليه كرمان وفيها وليت أمّ موسى الهاشمية قهرمة دار المقتدر وكانت تؤدّي الرسائل عن المقتدر وأمّه إلى الوزراء وعن الوزراء إليهما. وفي سنة تسع وتسعين كان على البصرة محمد بن إسحاق بن كنداج وجاء إليه القرامطة فقاتلهم فهربوا. وفي سنة ثلاثمائة عزل عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن فارس وكرمان ونقل إليها بدر الحمامي عامل أصبهان، وولّى على أصبهان عليّ بن وهشودان وفيها ولّى بشير الأفشين [1] طرسوس وفيها قلّد أبو العبّاس بن المقتدر مصر والمغرب وهو ابن أربع سنين، واستخلف له على مصر مؤنس المظفّر وقلّد معين الطولوني المعونة بالموصل، ثم عزل واستعمل مكانه نحرير الصغير. وفيها خالف أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بالموصل فسار إليه مؤنس وجاء به على الأمان، ثم قلّد الموصل سنة اثنتين وثلاثمائة فاستخلف عليها وهو ببغداد. ثم خالف أخوه الحسين سنة ثلاثمائة وسار إليه مؤنس وجاء به أسيرا فحبس وقبض المقتدر على أبي الهيجاء وإخوته جميعا فحبسوا.
وفيها ولي الحسين بن محمد بن عينونة عامل الخراج والضياع بديار ربيعة بعد وفاة أبيه محمد بن أبي بكر. وفي سنة أربع عزل عليّ بن وهشودان صاحب الحرب بأصبهان بمنافرة وقعت بينه وبين أحمد بن شاه صاحب الخراج، وولّى مكانه أحمد ابن مسرور البلخي. وأقام ابن وهشودان بنواحي الجبل. ثم تغلّب يوسف بن أبي الساج عليها كما مرّ. وسار إليه مؤنس سنة سبع فهزمه وأسره، وولّى على أصبهان وقمّ وقاشان وساوة أحمد بن علي بن صعلوك، وعلى الريّ ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان عليّ بن وهشودان استدعاه من الجبل فولّاه، ووثب به عمه أحمد بن مسافر صاحب الكرم فقتله بقزوين. فاستعمل مكانه على الحرب وصيفا البكتمري، وعلى الخراج محمد بن سليمان. ثم سار أحمد بن صعلوك إليها فقتل محمد بن سليمان وطرد وصيفا، ثم قاطع على الأعمال بمال معلوم كما مرّ. وكان على أعمال سجستان كثيّر بن أحمد مهقور متغلّبا عليها، فسار إليه أبو الحمامي عامل فارس، فخافه كثير وقاطع
__________
[1] بشر الأفشيني: ابن الأثير ج 8 ص 74.(3/482)
على البلاد وعقد له عليها. وكان على كرمان سنة أربع وثلاثمائة أبو زيد خالد بن محمد المارداني، فانتقض وسار إلى شيراز فقاتله بدر الحمامي وقتله. وفي هذه السنة قلّد مؤنس المظفّر عند مسيره إلى الصائفة وانتهائه إلى الموصل، فولّوا على بلد باريدى وقردى سبكا المفلحيّ وعلى مدينة بلد وسنجار وباكرى عثمان العبودي صاحب الحرب بديار مصر، فولّى مكانه وصيف البكتمري فعجز عن القيام بها، فعزل وولّى مكانه جنا الصفواني. وكان على البصرة في هذه السنة الحسن بن الخليل، تولّاها منذ سنين ووقعت فتن بينه وبين العامّة من مضر وربيعة، واتّصلت وقتل منهم خلق. ثم اضطرّوه إلى الالتحاق بواسط فاستعمل عليها أبا دلف هاشم بن محمد الخزاعي، ثم عزل لسنة وولّى سبكا المفلحيّ نيابة عن شفيع المقتدري. وفي سنة ست وثلاثمائة عزل عن الشرطة نزار وجعل فيها نجيح الطولوني، فأقام في الأرباع فقهاء يعمل أهل الشرطة بفتواهم، فضعفت الهيبة بذلك، وكثر اللصوص والعيّارون، وكبست دور التجّار واختطفت ثياب الناس. وفي سنة سبع وثلاثمائة ولي إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وولّي بنّيّ بن قيس بلاد شهرزور، واتسعت عليه فاستمدّ المقتدر وحاصرها.
ثم قلّد الحرب بالموصل وأعمالها، وكان على الموصل قبله محمد بن إسحاق بن كنداج، وكان قد سار لإصلاح البلاد فوقعت فتنة بالموصل فرجع إليها فمنعوه الدخول فحاصرهم. وعزله المقتدر سنة ثلاث وثلاثمائة وولّى مكانه عبد الله بن محمد الغسّاني.
وفي سنة ثمان وثلاثمائة ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على طريق خراسان والدرّنور، وفيها ولي على دقوقا وعكبرا وطريق الموصل بدرا الشرابي. وفي سنة تسع ولّى المقتدر على حرب المصول ومعونتها محمد بن نصر الحاجب، فسار إليها وأوقع بالمخالفين من الأكراد المادرانية. وفيها ولّى داود بن حمدان على ديار ربيعة. وفي سنة عشر عقد ليوسف بن أبي الساج على الريّ وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان على تقدير العلوية كما مرّ. وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة لأنها كانت كثيرة المال، وزوّجت بنت أختها من بعض ولد المتوكّل، كان مرشّحا للخلافة، وكان محسنا فلما صاهرته أوسعت في الشوار [1] واليسار والعرس، وسعى بها إلى المقتدر أنها استخلصت القوّاد فقبض عليها وصادرها على أموال عظيمة وجواهر نفيسة. وفيها قتل خليفة نصر بن محمد الحاجب بالموصل، قتله العامّة فجهّز العساكر من بغداد،
__________
[1] جهاز العروس.(3/483)
وسار إليها. وفي سنة إحدى عشرة ملك يوسف بن أبي الساج الريّ من يد أحمد بن علي صعلوك، وقتله المقتدر وقد مرّ خبره. وفيها ولّى المقتدر بنّيّ بن قيس على حرب أصبهان، وولّى محمد بن بدر المعتضدي على فارس مكان ابنه بدر عند ما هلك. وفي سنة اثنتي عشرة ولّى على أصبهان يحيى الطولوني، وعلى المعاون والحرب بنهاوند سعيد بن حمدان. وفيها توفي محمد بن نصر الحاجب صاحب الموصل وتوفي شفيع اللؤلؤي صاحب البريد، فولي مكانه شفيع المقتدري. وفي سنة ثلاث عشرة فتح إبراهيم المسمعي [1] عامل فارس ناحية القفص من حدود كرمان، وأسر منهم خمسة آلاف، وكان في هذه السنة ولي على الموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وابنه ناصر الدولة خليفة فيها، فأفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق خراسان وكانت إليه، فكتب إليه ابنه ناصر الدولة سنة أربع عشرة بالانحدار إلى تكريت للقائه، فجاءه في الحشد وأوقع بالعرب والأكراد الخلالية وحسم علّتهم. وفيها قلّد المقتدر يوسف بن أبي الساج أعمال الشرق وعزله عن أذربيجان وولّاه واسط، وأمدّه بالسير إليها لحرب القرامطة، وأقطعه همذان وساوة وقمّ وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان للنفقة في الحرب، وجعل على الريّ من أعماله نصر بن سامان، فوليها وصار من عمّاله كما مرّ. وفيها ولي أعمال الجزيرة والضياع بالموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأضيف إليه باريدى وقردى وما إليهما. وفيها قتل ابن أبي الساج كما مرّ. وفي سنة خمس عشرة مات إبراهيم المسمعي بالنوبندجان، وولّى المقتدر على مكانه ياقوت، وعلى كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد. وفي سنة ست عشرة عزل أحمد بن نصر القسوري عن حجبة الخليفة ووليها ياقوت وهو على الحرب بفارس واستخلف عليها ابنه أبا الفتح المظفّر. وفيها ولي على الموصل وأعمالها يونس المؤنسيّ، وكان على الحرب بالموصل ابن عبد الله بن حمدان، وهو ناصر الدولة فغضب وعاد إلى الخلافة. وقتل في تلك الفتنة نازوك، وأقرّ على أعمال قردى وباريدى التي كانت بيد أبي الهيجاء ابنه ناصر الدولة الحسن، وعلى أعمال الموصل نحريرا الصغير. ثم ولّى عليها سعيدا ونصرا ابني حمدان، وهما أخوا أبي الهيجاء.
وولّى ناصر الدولة على ديار ربيعة ونصّيبين وسنجار والخابور ورأس عين وميافارقين من ديار بكر وأرزن على مقاطعة معلومة. وفي سنة ثمان عشرة صرف ابنا رائق عن الشرطة، ووليها أبو بكر محمد بن ياقوت عن الحجبة وقلّد أعمال فارس وكرمان. وقلّد
__________
[1] هو عبد الله بن إبراهيم المسمعي كما في الكامل ج 8 ص 12.(3/484)
ابنه المظفّر أصبهان وابنه أبا بكر محمدا سجستان وجعل مكان ياقوت وولده في الحجبة والشرطة إبراهيم ومحمد ابنا رائق، فأقام ياقوت بشيراز وكان عليّ بن خلف بن طيّان على الخوارج، فتعاقدا على قطع الحمل عن المقتدر إلى أن ملك عليّ بن بويه بلاد فارس سنة ثلاث وعشرين. وفي هذه السنة غلب مرداويج على أصبهان وهمذان والريّ وحلوان، وقاطع عليها بمال معلوم وصارت في ولايته.
استيحاش مؤنس من المقتدر الثانية ومسيره إلى الموصل
كان الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب وزيرا للمقتدر، وكان مؤنس منحرفا عنه قبل الوزارة حتى أصلح بليق حاله عند مؤنس، فوزر واختص به بنو البريدي وابن الفرات. ثم بلغ مؤنسا أن الحسين قد واطأ جماعة من القوّاد في التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس وضاقت الدنيا على الحسين وبلغه أنّ مؤنسا يكبسه، فانتقل إلى الخلافة وكتب الحسين إلى هارون بن غريب الحال يستقدمه، وكان مقيما بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج، وكتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه من الأهواز فاستوحش مؤنس.
ثم جمع الحسين الرجال والغلمان الحجرية في دار الخلافة، وأنفق فيهم فعظمت نفرة مؤنس، وقدم هارون من الأهواز فخرج مؤنس مغاضبا للمقتدر وقصد الموصل، وكتب الحسين إلى القوّاد الذين معه بالرجوع فرجع منهم جماعة، وسار مؤنس في أصحابه ومواليه ومعه من الساجية ثمانمائة من رجالهم، وتقدّم الوزير بقبض أملاكه وأملاك من معه وأقطاعهم فحصل منه مال كثير، واغتبط المقتدر به لذلك ولقّبه عميد الدولة ورسم اسمه في السكّة وأطلق يده في الولاية والعزل، فولّى على البصرة وأعمالها أبا يوسف يعقوب بن محمد البريدي على مبلغ ضمنه، وكتب إلى سعيد وداود ابني حمدان وابن أخيهما ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بمحاربة مؤنس، فاجتمعوا على حربه إلّا داود فإنّه توقف لإحسان مؤنس إليه وتربيته إياه. ثم غلبوا عليه فوافقهم على حربه، وجمع مؤنس في طريقه رؤساء العرب وأوهمهم أنّ الخليفة ولّاه الموصل وديار ربيعة، فنفر معه بعضهم واجتمع له من العسكر ثمانمائة وزحف إليه بنو حمدان في ثلاثين ألفا فهزمهم وملك مؤنس الموصل في صفر من سنة عشرين، وجاءته العساكر من بغداد والشام ومصر رغبة في إحسانه. وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى خدمته وأقام معه بالموصل ولحق سعيد ببغداد.(3/485)
مقتل المقتدر وبيعة القاهر
ولما ملك مؤنس الموصل أقام بها تسعة واجتمعت العساكر فانحدر إلى بغداد لقتال المقتدر، وبعث المقتدر الجنود مع أبي محمد بن ياقوت وسعيد بن حمدان، فرجع عنهم العسكر إلى بغداد ورجعوا وجاء مؤنس فنزل بباب الشمّاسيّة والقوّاد قبالته، وندب المقتدر ابن خاله هارون بن غريب إلى الخوارج لقتاله، فاعتذر ثم خرج، وطالبوا المقتدر بالمال لنفقات الجند فاعتذر وأراد أن ينحدر إلى واسط ويستدعي العساكر من البصرة والأهواز وفارس وكرمان، فردّه ابن ياقوت عن ذلك وأخرجه للحرب وبين يديه الفقهاء والقوّاد والمصاحف مشهورة وعليه البردة والناس يحدّقون به، فانهزم أصحابه ولقيه عليّ بن بليق من أصحاب مؤنس، فعظمه وأشار عليه بالرجوع ولحقه قوم من المغاربة والبربر فقتلوه وحملوا رأسه وتركوه بالعراء، فدفن هنالك. ويقال إنّ عليّ بن بليق أشار إليهم بقتله. ولما رأى مؤنس ذلك ندم وسقط في يده وقال: والله لنقتلنّ جميعا، وتقدّم إلى الشمّاسيّة وبعث من يحتاط على دار الخلافة وكان ذلك لخمس وعشرين سنة من خلافة المقتدر. فاتسع الخرق وطمع أهل القاصية في الاستبداد وكان مهملا لأمور خلافته محكّما للنساء والخدم في دولته مبذرا لأمواله. ولما قتل لحق ابنه عبد الواحد بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحال ومحمد بن ياقوت وإبراهيم بن رائق. ثم اعتزم مؤنس على البيعة لولده أبي العبّاس وكان صغيرا، فعذله وزيره أبو يعقوب إسماعيل النويحي في ولاية صغير في حجر أمّه وأشار بأخيه أبي منصور محمد بن المعتضد، فأجاب مؤنس إلى ذلك على كره، وأحضر وبويع آخر شوّال من سنة عشرين، ولقّبوه القاهر باللَّه. واستحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق وابنه عليّ، واستقدم أبا عليّ بن مقلة من فارس فاستوزره، واستحجب عليّ بن بليق. ثم قبض على أمّ المقتدر وضربها على الأموال فحلفت فأمرها بحل أوقافها فامتنعت، فأحضر هو القضاة وأشهد بحل أوقافها ووكّل في بيعها، فاشتراها الجند من أرزاقهم، وصادر جميع حاشية المقتدر، واشتدّ في البحث عن ولده وكبس عليهم المنازل إلى أن ظفر بأبي العبّاس الراضي وجماعة من إخوته وصادرهم وسلّمهم عليّ بن بليق إلى كاتبه الحسين بن هارون، فأحسن صحبتهم وقبض الوزير ابن مقلة على البريدي واخوته وأصحابه وصادرهم على جملة من المال.(3/486)
خبر ابن المقتدر وأصحابه
قد ذكرنا أنّ عبد الواحد بن المقتدر لحق بعد مقتل أبيه بالمدائن، ومعه هارون بن غريب الحال ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق. ثم انحدروا منها إلى واسط وأقاموا بها، وخشيهم القاهر على أمره واستأمن هارون بن غريب على أن يبذل ثلاثمائة ألف دينار وتطلق له أملاكه، فأمّنه القاهر ومؤنس وكتب له بذلك وعقد له على أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهروبان، وسار إلى بغداد وسار عبد الواحد بن المقتدر فيمن معه من واسط، ثم إلى السوس وسوق الأهواز، وطردوا العمّال وجبوا الأموال. وبعث مؤنس إليهم بليقا في العساكر وبذل أبو عبد الله البريدي في ولاية الأهواز خمسين ألف دينار فأنفقت في العساكر. وسار معهم وانتهوا إلى واسط ثم إلى السوس، فجاز عبد الواحد ومن معه من الأهواز إلى تستر، ثم فارقه جميع القوّاد واستأمنوا إلى بليق إلا ابن ياقوت ومفلحا ومسرورا الخادم، وكان محمد بن ياقوت مستبدّا على جميعهم في الأموال والتصرّف، فنفروا لذلك واستأمنوا لأنفسهم ولابن المقتدر إلى بليق، فأمّنهم بعد أن استأمنوا محمد بن ياقوت وأذن لهم، ثم استأمن هو على بليق إلى أمان القاهر ومؤنس، وساروا إلى بغداد جميعهم فوفّى لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لأمّه المصادرة التي صاردها، واستولى أبو عبد الله البريدي على أعمال فارس وأعاد إخوته إلى أعمالهم.
مقتل مؤنس وبليق وابنه
لما رجع محمد بن ياقوت من الأهواز واستخلصه القاهر واختصه لخلواته وشواره، وكانت بينه وبين الوزير ابن عليّ بن مقلة عداوة، فاستوحش لذلك ودسّ إلى مؤنس أنّ محمد بن ياقوت يسعى به عند القاهر، وأنّ عيسى الطبيب سفيره في ذلك، فبعث مؤنس عليّ بن بليق لإحضار عيسى، وتقدّم عليّ بن بليق بالاحتياط على القاهر، فوكّل به أحمد بن زيرك وضيّق على القاهر وكشف وجوه النساء المختلفات إلى القصر خشية إيصالهم الرقاع إلى القاهر حتى كشفت أواني الطعام، ونقل بليق المحابيس من دار الخلافة إلى داره وفيهم أمّ المقتدر فأكرمها عليّ بن بليق وأنزلهم عند أمّه فماتت في جمادى من سنة إحدى وعشرين. وعلم القاهر أنّ ذلك من مؤنس وابن مقلة فشرع في التدبير عليهم وكان طريف السبكري ونشرى من خدم(3/487)
مؤنس قد استوحشا من مؤنس لتقدّم بليق وابنه عليهما. وكان اعتماد مؤنس على الساجيّة وقد جاءوا معه من الموصل ولم يوف لهم فاستوحشوا لذلك، فداخلهم القاهر جميعا وأغراهم بمؤنس وبليق، وبعث إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله وكان مختصا بابن مقلة وصاحب رأيه، فوعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار. وشعر ابن مقلة بذلك فأبلغوا إلى مؤنس وبليق، وأجمعوا على خلع القاهر، واتفق بليق وابنه عليّ وابن مقلة والحسن بن هارون على البيعة لأبي أحمد بن المكتفي فبايعوه، وحلفوا له وأطلعوا مؤنسا على ذلك، فأشار بالمهل وتأنيس القاهر حتى يعرفوا من واطأه من القوّاد والساجيّة [1] والحجرية فأبوا وهوّنوا عليه الأمر في استعجال خلفه فأذن لهم، فأشاعوا أن أبا طاهر القرمطيّ ورد الكوفة، وندبوا عليّ بن بليق للمسير إليه ليدخل للوداع ويقبض على القاهر وابن مقلة كان نائما فلما استيقظ أعاد الكتاب إلى القاهر فاستراب. ثم جاءه طريف السيكري [2] غلام مؤنس في زي امرأة مستنصحا، فأحضره وأطلعه على تدبيرهم وبيعتهم لأبي أحمد بن المكتفي فأخذ القاهر حذره، وأكمن الساجيّة في دهاليز القصر وممرّاته، وجاء عليّ بن بليق في خف من أصحابه، واستأذن فلم يؤذن له، وكان ذا خمار فغضب وأفحش في القول فأخرج الساجيّة في السلاح وشتموه وردّوه، وفرّ عنه أصحابه وألقى بنفسه في الطيار وعبر إلى الجانب الغربي. واختفى الوزير ابن مقلة والحسن بن هارون، وركب طريف إلى دار القاهر، فأنكر بليق ما جرى لابنه وشتم الساجيّة وقال: لا بدّ أن أستعدي الخليفة عليهم، وجاء إلى القاهر ومعه قوّاد مؤنس، فلم يأذن له وقبض عليه وحبسه، وعلى أحمد بن زيرك صاحب الشرطة، وجاء العسكر منكرين لذلك فاسترضاهم ووعدهم بالزيارة وبإطلاق هؤلاء المحبوسين فافترقوا، وبعث إلى مؤنس بالحضور عنده ليطالعه برأيه فأبى فعزله، وولّى طريف السيكرى مكانه وأعطاه خاتمه وقال: قد فوّضت إلى ابني عبد الصمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمد، وقلّدتك خلافته ورياسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان مؤنس وأمض إليه وأحمله إلى دار الخلافة مرفّها عليه لئلا يجتمع إليه أهل الشرّ ويفسد ما بيننا
__________
[1] الساجية أو الساجة فرقة من عسكر الخلافة مسماة بهذا الاسم على ما هو اصطلاح الملوك في تلقيب كل جماعة من العسكر تمييزا لهم عمن عداهم أهـ. من خط الشيخ العطّار.
[2] طريف السكريّ وقد مرّ ذكره من قبل.(3/488)
وبينه، فسار طريف إلى مؤنس وأخبره بأمان القاهر له ولأصحابه، وحمله على الحضور عنده وهوّن عليه أمره، وأنّ القاهر لا يقدر على مكروهة. فركب وحضر فقبض عليه القاهر وحبسه قبل أن يراه، وندم طريف على ما فعل واستوحش.
واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله، ووكّل بدور مؤنس وبليق وابنه عليّ وابن مقلة وابن زيرك وابن هارون ونقل ما فيها، وأحرقت دار ابن مقلة، وجاء محمد بن ياقوت وقام بالحجبة، فتنكّر له طريف السيكري والساجيّة فاختفى ولحق بابنه بفارس، وكتب إليه القاهر بالعتب على ذلك وولّاه الأهواز، وكان الّذي دعا طريفا السيكري إلى الانحراف عن مؤنس وبليق أن مؤنسا رفع رتبة بليق وابنه عليه بعد أن كانا يخدمانه، فأهملا جانبه. ثم اعتزم بليق على أن يولّيه مصر وفاوض في ذلك الوزير ابن مقلة، فوافق عليه. ثم أراد عليّ بن بليق عمل مصر لنفسه، ومنع من إرسال طريف فتربّص بهم. وأما الساجيّة فكانوا مع مؤنس بالموصل وكان يعدهم ويمنّيهم. ولما ولي القاهر واستبدّ بأمره لم يف لهم. وكان من أعيانهم الخادم صندل، وكان له بدار القاهر خادم اسمه مؤتمن باعه واتصل بالقاهر قبل الخلافة، فاستخلفه، فلمّا شرع في التدبير على مؤنس وبليق بعث مؤنسا هذا إلى صندل يمتّ إليه تقديمه ويدخله في أمر القاهر وإزالة الحجر عنه. فقصد إلى صندل وزوجته وتلطّف ووصف القاهر بما شاء من محاسن الأخلاق، وحمل زوجته على الدخول إلى دار القاهر حتى شافهها بما أراد إبلاغه إلى صندل، وداخل صندل في ذلك سيما من قوّاد الساجيّة، واتفقوا على مداخلة طريف السيكري في ذلك لعلمهم باستيحاشه من مؤنس، فأجابهم على شريطة الإبقاء على مؤنس وبليق وابنه، وأن لا يزال مؤنس من مرتبته وتحالفوا على ذلك من الجانبين. وطلب طريف عهد القاهر بخطّه، فكتب وزاد فيه أنه يصلّي بالناس ويخطب لهم ويحج بهم ويغزو معهم ويتّئد لكشف المظالم وغير ذلك من حسن السيرة، وكان جماعة من الحجرية قد أبعدهم ابن بليق وأدال منهم بأصحابه، فداخلهم طريف في أمر القاهر فأجابوه، ونمي الخبر بذلك إلى ابن مقلة وإلى بليق، وأرادوا القبض على قوّاد الساجيّة والحجرية. ثم خشوا الفتنة ودبّروا على القاهر فلم يصلوا إليه لاحتجابه عنهم بالمرض. فوضعوا أخبار القرامطة كما قدّمناه. ولمّا قبض القاهر على مؤنس ولّى الحجابة سلامة الطولوني. وعلى الشرطة أحمد بن خاقان، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله مكان ابن مقلة،(3/489)
وأمر بالنداء على المتسترين والوعيد لمن أخفى، وطلب أبا أحمد بن المكتفي فظفر به، وبنى عليه حائطا فمات. ثم ظفر بعليّ فقتله. ثم شغب الجند في شعبان ومعهم أصحاب مؤنس، وثاروا ونادوا بشعاره، وطلبوا إطلاقه وأحرقوا روشن دار الوزير أبي جعفر. فعمد القاهر إلى بليق في محبسه وأمر به فذبح وحمل الرأسين إلى مؤنس، فلما رآهما مؤنس استرجع ولعن قاتلهما فأمر به فذبح وطيف بالرءوس. ثم أودعت بالخزانة. وقيل إن قتل عليّ بن بليق تأخّر عن قتل أبيه ومؤنس لأنه كان مختفيا، فلمّا ظفر به بعدهما قتله. ثم بعث القاهر إلى أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل اليوصحي فأخذ من محبس الوزير محمد بن القاسم وحبسه، وارتاب الناس من شدّة القاهر، وندم الساجيّة والحجريّة على مداخلته في ذلك الأمر. ثم قبض القاهر على وزيره أبي جعفر وأولاده وأخيه عبيد الله وخدمه لثلاثة أشهر ونصف من ولايته، ومات لثمان عشرة ليلة من حبسه، واستوزر مكانه أبا العبّاس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الحصيبي. ثم استبدّ القاهر على طريف السيكري واستخف به، فخافه وتنكّر. ثم أحضره بعد أن قبض على الوزير أبي جعفر فقبض عليه وأودعه السجن إلى أن خلع القاهر.
ابتداء دولة بني بويه
كان أبوهم أبو شجاع بويه من رجالات الديلم، وكان له أولاد: علي والحسن وأحمد، فعلي أبو الحسن عماد الدولة، والحسن أبو علي ركن الدولة، وأحمد أبو الحسن معزّ الدولة. ونسبهم ابن ماكولا في الساسانية إلى بهرام جور بن يزدجرد، وابن مسكويه إلى يزدجرد بن شهريار، وهو نسب مدخول، لأنّ الرئاسة على قوم لا تكون في غير أهل بلدهم كما ذكرنا في مقدّمة الكتاب. ولما أسلم الديلم على يد الأطروش وملك بهم طبرستان وجرجان، وكان من قوّاده ما كان بن كالي وليلى بن النعمان وأسفار بن شيرويه ومرداويج بن وزيار، وكانوا ملوكا عظاما وازدحموا في طبرستان، فساروا لملك الأرض عند اختلاط الدولة العبّاسية وضعفها، وقصدوا الاستيلاء على الأعمال والأطراف. وكان بنو بويه من جملة قوّاد ما كان بن كالي.
فلمّا وقع بينه وبين مرداويج من الفتنة والخلاف ما تقدّم، وغلبه مرداويج على طبرستان وجرجان عادوا إلى مرداويج لتخفّ عنه مؤنتهم على أن يرجعوا إليه إذا صلح أمره، فساروا إلى مرداويج فقبلهم وأكرمهم، واستأمن إليه جماعة من قوّاد ما(3/490)
كان فقتلهم وأولادهم. وولّى عليّ بن بويه على الكرج، وكان أكبر إخوته. وسار جميعهم إلى الريّ وعليها وشمكير بن وزيار أخو مرداويج ومعه وزيره الحسين بن محمد الملقّب بالعميد، فاتّصل به عليّ بن بويه وأهدى إليه بغلة كانت عنده ومتاعا، وندم مرداويج على ولاية هؤلاء المستأمنة من قوّاد ما كان، فكتب إلى أخيه وشمكير بالقبض على الباقين، وأراد أن يبعث في أثر عليّ بن بويه فخشي الفتنة تركه. ولمّا وصل عليّ بن بويه إلى الكرج استقام أمره وفتح قلاعا للخرمية ظفر منها بذخائر كثيرة، واستمال الرجال وعظم أمره، وأحبه الناس، ومرداويج يومئذ بطبرستان. ثم عاد إلى الريّ وأطلق مالا لجماعة من القوّاد على الكرج فوصلوا إلى عليّ ابن بويه فأحسن إليهم واستمالهم، وبعث إليهم مرداويج فدافعه فندم على إطلاقهم، وبعث فيهم مرداويج أمراء الكرج فاستأمن إليه شيرزاد من أعيان قوّاد الديلم. فقويت نفسه وسار إلى أصبهان وبها المظفّر بن ياقوت على الحرب في عشرة آلاف مقاتل، وأبو عليّ بن رستم على الخوارج، فأرسل عليّ بن بويه يستعطفهما في الانحياز إلى طاعة الخليفة وخدمته، والمسير إلى الحضرة فلم يجيباه. وكان أبو عليّ أشدّ كراهة له فمات تلك الأيام. وسار ابن ياقوت ثلاثة فراسخ عن أصبهان، وكان في أصحابه حسل وديلم، واستأمنوا إلى ابن بويه، ثم اقتتلوا فانهزم ابن ياقوت واستولى عليّ بن بويه على أصبهان، وهو عماد الدولة، وكان عسكره نحوا من تسعمائة، وعسكر ابن ياقوت نحوا من عشرة آلاف. وبلغ ذلك القاهر فاستعظمه وبلغ مرداويج فأقلقه وخاف على ما بيده، وبعث إلى عماد الدولة يخادعه يطلب الطاعة منه ليطمئن للرسالة، ويخالفه أخوه وشمكير في العساكر. وشعر ابن بويه بذلك فرحل عن أصبهان وقصد أرجان وبها أبو بكر بن ياقوت، فانهزم أبو بكر من غير قتال ولحق برامهرمز. واستولى ابن بويه على أرجان وخالفه وشمكير أخو مرداويج إلى أصبهان فملكها، وأرسل القاهر إلى مرداويج بأن يسلّم أصبهان لمحمد بن ياقوت ففعل.
وكتب أبو طالب يستدعيه ويهوّن عليه أمر ابن ياقوت ويغريه به، فخشي ابن بويه من كثرة عساكر ياقوت وأمواله، وأن يحصل بينه وبين ابنه تأهبات فتوقف، فأعاد عليه أبو طالب وأراه أن مرداويج طلب الصلح من ابن ياقوت وخوّفه اجتماعهما عليه. فسار ابن بويه إلى أرجان في ربيع سنة إحدى وعشرين، ولقيتهم هنالك مقدّمة ابن ياقوت فانهزمت، فزحف ابن ياقوت إليهم وبعث عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى(3/491)
كازرون وغيرها من أعمال فارس، فجبى أموالها ولقي عسكر ابن ياقوت هنالك فهزمهم ورجع إلى أخيه، وخشي عماد الدولة من اتفاق مرداويج مع ابن ياقوت فسار إلى إصطخر، واتّبعه ابن ياقوت وشيعه إلى قنطرة بطريق كرمان اضطرّوا إلى الحرب عليها. فتزاحفوا هنالك واستأمن بعض قوّاده إلى ابن ياقوت فقتلهم، فاستأمن أصحابه وانهزم ابن ياقوت واتّبعه ابن بويه واستباح معسكره، وذلك في جمادى سنة اثنتين وعشرين. وأبلى أخوه معزّ الدولة أحمد في ذلك اليوم بلاء حسنا، ولحق ابن ياقوت بواسط، وسار عماد الدولة إلى شيراز فملكها وأمّن الناس واستولى على بلاد فارس، وطلب الجند، أرزاقهم فعجز عنها وعثر على صناديق [1] من مخلّف ابن ياقوت وذخائر بني الصفّار فيها خمسمائة ألف دينار فامتلأت خزائنه وثبت ملكه.
واستقرّ ابن ياقوت بواسط وكاتبه أبو عبد الله اليزيدي [2] حتى قتل مرداويج عاد إلى الأهواز ووصل عسكر مكرم، وكانت عساكر ابن بويه سبقته فالتقوا بنواحي أرّجان وانهزم ابن ياقوت فأرسل أبو عبد الله اليزيدي في الصلح فأجابه ابن بويه، واستقرّ ابن ياقوت بالأهواز ومعه ابن اليزيدي وابن بويه ببلاد فارس. ثم زحف مرداويج إلى الأهواز وملكها من يد ابن ياقوت، ورجع إلى واسط وكتب إلى الراضي. وكان بعد القاهر كما نذكره، وإلى وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة والمقاطعة فيما بيده من البلاد بأعمال فارس على ألف ألف درهم، فأجيب إلى ذلك وبعث إليه باللواء والخلع وعظم شأنه في فارس وبلغ مرداويج شأنه فخاف غائلته، وكان أخوه وشمكير قد رجع إلى أصبهان بعد خلع القاهر وصرف محمد بن ياقوت عنها، فسار إليها مرداويج للتدبير على عماد الدولة وبعث أخاه وشمكير على الريّ وأعمالها.
خلع القاهر وبيعة الراضي
ولما قتل القاهر مؤنسا وأصحابه أقام يتطلب الوزير أبا عليّ بن مقلة والحسن بن هارون وهما مستتران، وكانا يراسلان قوّاد الساجيّة والحجريّة ويغريانهم بالقاهر، فإنّهم غرّوه
__________
[1] قوله وعثر على صناديق، ذكر صاحب الفرج بعد الشدة حكاية غريبة في ذلك ملخصها ان الجند ضايقوه بطلب المال فنام في دار الامارة مستلقيا على قفاه مفكرا، فرأى حية دخلت في السقف، فاستدعى بعض الخدم ليكشف الحقيقة فرأى تلك الصناديق. وعثر أيضا على مال كان وديعة وله حكاية أيضا في ذلك الكتاب انتهى. من خط الشيخ العطّار.
[2] البريدي: ابن الأثير ج 8 ص 286.(3/492)
كما فعل بأصحابه قبلهم. وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ويراسلهم ويجيء إليهم متنكرا ويغريهم، ووضعوا على سيما أنّ منجّما أخبره أنه ينكب القاهر ويقتله، ودسّوا إلى معبر كان عنده أموالا على أن يحذّره من القاهر، فنفر واستوحش، وحفر القاهر مطامير في داره، فقيل لسيما والقوّاد إنما صنعت لكم فازدادوا نفرة. وكان سيما رئيس الساجيّة فارتاب بالقاهر وجمع أصحابه وأعطاهم السلاح، وبعث إلى الحجريّة فجمعهم عنده وتحالفوا على خلع القاهر، وزحفوا إلى الدور وهجموا عليه فقام من النوم ووجد الأبواب مشحونة بالرجال فهرب إلى السطح، ودلّهم عليه خادم فجاءوه واستدعوه للنزول فأبى فتهدّدوه بالرشق بالسهام فنزل وجاءوا به إلى محبس طريف السيكري فحبسوه مكانه وأطلقوه حتى سمل بعد ذلك، وذلك لسنة ونصف من خلافته. وهرب الحصيبي وزيره وسلامة حاجبه. وقد قيل في خلعه غير هذا وهو أنّ القاهر لمّا تمكن من الخلافة اشتدّ على الساجيّة والحجريّة واستهان بهم، فتشاكوا ثم خافه حاجبه سلامة لأنه كان يطالبه بالأموال ووزيره الخصيبي كذلك، وحفر المطامير في داره فارتابوا به كما ذكرنا. وأسر جماعة من القرامطة فحبسهم بتلك المطامير وأراد أن يستظهر بهم على الحجريّة والساجيّة فتنكروا ذلك وقالوا فيه للوزير وللحاجب، فأخرجهم من الدار وسلّمهم لمحمد بن ياقوت صاحب الشرطة وأوصاه إليهم فازداد الساجيّة والحجريّة ريبة. ثم تنكّر لهم القاهر وصار يعلن بذمّهم وكراهتهم فاجتمعوا لخلعه كما ذكرنا. ولما قبض القاهر بحثوا عن أبي العبّاس بن المقتدر وكان محبوسا مع أمّه، فأخرجوه وبايعوه في جمادى سنة اثنتين وعشرين، وبايعه القوّاد والناس، وأحضر عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما، وأراد عليّ ابن عيسى على الوزارة فامتنع واعتذر بالنكير، وأشار بابن مقلة فأمّنه واستوزره.
وبعث القضاة إلى القاهر ليخلع نفسه فأبى فسمل وأمّن ابن مقلة الخصيبي وولّاه وولى الفضل بن جعفر بن الفرات نائبا عنه عن أعمال الموصل وقردى وباريدى وماردين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزرية والشاميّة وأجناد الشام وديار مصر يعزل ويولي من يراه في الخراج والمعادن والنفقات والبريد وغير ذلك. وولّى الراضي على الشرطة بدرا الحمامي وأرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه، وكان قد استولى على الأهواز ودفع عنها ابن ياقوت من تلك الولاية إلى السوس وجنديسابور، وقد ولّى على أصبهان وهو يروم المسير إليها. فلما ولي الراضي استدعاه(3/493)
للحجابة فسار إلى واسط، وطلب محمد بن ياقوت الحجابة فأجيب إليها فسار في أثر ابن رائق، وبلغ ابن رائق الخبر فسار من واسط مسابقا لابن ياقوت بالمدائن توقيع الراضي بالحرب، والمعادن في واسط مضافا إلى ما بيده من البصرة والمعادن، فعاد منحدرا في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعدا ودخل بغداد وولّى الحجبة وصارت إليه رياسة الجيش ونظر في أمر الدواوين وأمرهم بحضور مجلسه، وأن لا ينفذوا توقيعا في ولاية أو عزل أو اطلاق إلّا بخطّه، وصار نظر الوزير في الحقيقة له وابن مقلة مكابر مجلسه مع جملتهم ومتميز عنهم في الإيثار والمجلس فقط.
مقتل هارون
كان هارون بن غريب الحال على ماه الكوفة والدّينور وماسبذان وسائر الأعمال التي ولّاها القاهر إيّاه، فلمّا خلع القاهر واستخلف الراضي رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لأنه ابن خال المقتدر، فكاتب القوّاد ووعدهم وسار من الدّينور إلى خافقين وشكا ابن مقلة وابن ياقوت والحجريّة والساجيّة إلى الراضي فأذن لهم في منعه، فراسلوه أوّلا بالممانعة. والزيادة على ما في يده من الأعمال، فلم يلتفت إليهم وشرع في الجباية فقويت شوكته، فسار إليه محمد بن ياقوت في العساكر وهرب عنه بعض أصحابه إلى هارون، وكتب إلى هارون يستميله فلم يجب، وقال: لا بدّ من دخول بغداد. ثم تزاحفوا لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين، فانهزم أوّلا أصحاب ابن ياقوت ونهب سوادهم وسار محمد حتى قطع قنطرة تبريز، وسار هارون منفردا لاعتراضه، فدخل في بعض المياه وسقط عن فرسه، ولحقه غلام لمحمد بن ياقوت فقطع رأسه وانهزم أصحابه وقتل قوّاده وأسر بعضهم ورجع ابن ياقوت إلى بغداد ظافرا.
نكبة ابن ياقوت
قد ذكرنا أنه كان نظر في أمر الدواوين وصيّر ابن مقلة كالعاطل، فسعى به عند القاضي وأوهمه خلافه حتى أجمع القبض عليه في جمادى سنة ثلاثة وعشرين، فجلس الخليفة على عادته وحضر الوزير وسائر الناس على طبقاتهم يريد تقليد جماعة من القوّاد للأعمال. واستدعى ابن ياقوت للخدمة في الحجبة على عادته، فبادر وعدل به إلى حجرة فحبس فيها وخمّار. وبعث الوزير ابن مقلة إلى دار محمد من(3/494)
يحفظها من النهب وأطلق يده في أمور الدولة واستبد بها وكان ياقوت مقيما بواسط، فلما بلغه القبض على ابنه انحدر إلى فارس لمحاربة ابن بويه، وكتب يستعطف الراضي ويسأله إبقاء ابنه ليساعده على شأنه. ولم يزل محمد محبوسا إلى أن هلك سنة أربع عشرة في محبسه.
خبر البريدي
كان أبو عبد الله البريدي أيام ابن ياقوت ضامنا للأهواز، فلما استولى عليها مرداويج وانهزم ابن ياقوت كما مرّ رجع البريدي إلى البصرة وصار يتصرّف في أسافل الأهواز مع كنانة ياقوت. ثم سار إلى ياقوت فأقام معه بواسط، فلما قبض على ابن ياقوت وكتب ابن مقلة إليه وإلى ياقوت يعتذر عن قبض ابن ياقوت ويأمرهما بالمسير لفتح فارس، فسار ياقوت على السوس والبريدي على طريق الماء حتى انتهيا إلى الأهواز. وكان إلى أخويه أبي الحسن وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور، وادعيا أن دخل البلاد أخذه مرداويج. وبعث ابن مقلة ثانيا لتحقّق ذلك، فوافاهم وكتب بصدقهم، فاستولى ابن البريدي ما بين ذلك على أربعة آلاف ألف دينار، ثم أشار أبو عبد الله عليّ بن ياقوت بالمسير لفتح فارس، وأقام هو لجباية الأموال فحصل منها بغيته. وسار ياقوت فلقيه ابن بويه على أرّجان فهزمه وسار إلى عسكر مكرم. واتّبعه ابن بويه إلى رامهرمز وأقام بها إلى أن اصطلحا.
مقتل ياقوت
قد تقدّم لنا انهزام ياقوت من فارس أمام عماد الدولة ابن بويه إلى عسكر مكرم واستيلاء ابن بويه على فارس. وكان أبو عبد الله البريدي بالأهواز ضامنا كما تقدّم. وكان مع ذلك كاتبا لياقوت، وكان ياقوت يستنيم إليه ويثق به، وكان مغفّلا ضعيف السياسة فخادعه أبو عبد الله البريدي وأشار عليه بالمقام بعسكر مكرم وأن يبعث إليه بعض جنده الواصلين من بغداد تخفيفا للمئونة وتحذيرا من شغبهم. وبعث إليه أخاه بذلك أبا يوسف ودفع له من مال الأهواز خمسين ألف دينار. ثم قطع عنه فضاق الحال عليه وعلى جنده، وكان قد نزع إليه من أصحاب ابن بويه طاهر الحمل وكاتبه أبو جعفر الصهيري، ثم انصرف عنه لضيق حاله إلى غربي تستر ليتغلّب على ماه البصرة، فكبسه ابن بويه وغنم معسكره وأسر الصهيري فشفع فيه وزيره وأطلقه،(3/495)
فلحق بكرمان واتصل بعد ذلك بمعزّ الدولة ابن بويه واستكتبه. ولما انصرف طاهر عن ياقوت كتب إلى البريدي يشكو ضعفه واستطالة أصحابه، فأشار عليه بإرسالهم إلى الأهواز متعرّفين لقومهم. فلما وصلوا إليه انتقى خيارهم وردّ الباقين، وأحسن إلى من عنده وبعث ياقوت إليه في طلب المعزّ فلم يبعث إليه، فجاءه بنفسه فتلقّاه وترجّل إليه وقبّل يده، وأنزله بداره وقام في خدمته أحسن مقام، ووضع الجند على الباب يشغبون ويرومون قتله، فأشار إليه بالنجاة، فعاد إلى عسكر مكرم فكتب إليه يحذّره اتباعهم، وأنّ عسكر مكرم على ثمانية فراسخ من الأهواز، وأرى أن تتأخّر بتستر فتتحصّن بها. وكتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار، وعذله خادمه مؤنس في شأن ابن البريدي وأراه خديعته وأشار عليه باللحاق ببغداد، وأنّه شيخ الحجريّة، وقد كاتبوك فسر إلى رياسة بغداد وإلّا فتعاجل إلى البريدي وتخريجه عن الأهواز، فصمّ عن نصيحته وأبى من قبول السعاية فيه، وتسايل أصحابه إلى ابن البريدي حتى لم يبق معه إلّا نحو الثمانمائة. وجاءه ابنه المظفّر ناجيا من حبس الراضي بعد أسبوع، فأطلقه وبعثه إلى أبيه فأشار عليه بالمسير إلى بغداد، فإن حصل على ما يريد وإلّا فإلى الموصل وديار ربيعة ويتملكها، فأبى عليه أبوه ففارقه إلى ابن البريدي فأكرمه ووكّل به. ثم حذر ابن البريدي غائلة ياقوت فبعث إليه بأن الخليفة أمره بإزعاجه [1] من البلاد اما إلى بغداد وإما إلى بلاد الجبل ليولّيه بعض أعمالها، فكتب يستمهله فأبى من المهلة وبعث العساكر من الأهواز. وسار ياقوت إلى عسكر مكرم ليكبس ابن البريدي هنالك فصبح البلد ولم يجده، وجاءت عساكر ابن البريدي مع قائد أبي جعفر الجمّال، فقاتله من أمامه وأكمن آخرين من خلفه فانهزم وافترق أصحابه، وحسا إلى حائط متنكرا فمرّ به قوم ابن البريدي فكشفوا وجهه وعرفوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر، فدفنه الجمّال وبعث البريدي إلى تستر فحمل ما كان لياقوت هنالك، وقبض على ابنه المظفّر وبعثه إلى بغداد واستبدّ بتلك الأعمال وذلك سنة أربع وعشرين.
__________
[1] هكذا بالأصل ولعلها بإخراجه.(3/496)
مسير ابن مقلة إلى الموصل واستقرارها لابن حمدان
كان ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان عاملا على الموصل فجاء عمه أبو العلاء سعيد فضمن الموصل وديار ربيعة سرّا وسار إليها فظهر أنه في طلب المال من ابن أخيه. وشعر ناصر الدولة بذلك فخرج لتلقّيه، فخالفه إلى بيته فبعث من قبله واهتم الراضي بذلك وأمر الوزير أبا عليّ بن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار في العساكر من شعبان سنة ثلاث وعشرين، فرحل عنها ناصر الدولة ودخل الزوران واتبعه الوزير إلى حمل السنّ. ثم عاد عنها إلى الموصل وأقام في جبايتها وبعث ناصر الدولة إلى بغداد بعشرة آلاف دينار لابن الوزير ليستحث أباه في القدوم، فكتب إليه بما أزعجه، فسار من الموصل واستخلف عليها عليّ بن خلف بن طبّاب وما ترد الديلميّ [1] من الساجيّة. ودخل بغداد منتصف شوّال، وجمع ناصر الدولة ولقي ما ترد الديلميّ على نصيبين فهزمه إلى الرقّة وانحدر منها إلى بغداد ولحقه ابن طباب، واستولى ناصر الدولة حمدان على الموصل وكتب في الرضا وضمان البلاد فأجيب وتعذرت عليه.
نكبة ابن مقلة وخبر الوزارة
كان الوزير بن مقلة قد بعث سنة ثلاث وعشرين إلى محمد بن رائق بواسط يطالبه بارتفاع أعمال واسط والبصرة، وكان قد قطع الجبل. فلما جاءه كتاب ابن مقلة، كتب إليه جوابه يغالطه وكتب إلى الراضي بالسعي في الوزارة، وأنّه يقوم بنفقات الدار وأرزاق الجند، فجهّز الوزير ابنه سنة أربع وعشرين لقصده وورى بالأهواز، وأنفذ رسوله إلى ابن رائق بهذه التوراة يؤنسه بها، وباكر القصر لانفاذ الرسول فقبض عليه المظفّر بن ياقوت والحجرية وكان المظفّر قد أطلق من محبسه وأعيد إلى الحجبة، فاستحسن الراضي فعلهم، واختفى أبو الحسين ابن الوزير وسائر أولاده وحرمه وأصحابه، وأشار إلى الحجرية والساجيّة بوزارة عليّ بن عيسى فامتنع وسار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره الراضي وصادر ابن مقلة. ثم عجز عن تمشية الأمور وضاقت عليه الجباية فاستعفى من الوزارة، فقبض عليه الراضي وعلى أخيه على ثلاثة أشهر من وزارته، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخيّ فصادر عليّ بن عيسى على
__________
[1] ماكرد الديلميّ: ابن الأثير ج 8 ص 310.(3/497)
مائة ألف دينار، ثم عجز عن الوزارة وضاقت الأموال وانقطعت، وطمع أهل الأعمال فيما بأيديهم، فقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة وقطع ابن البريدي حمل الأهواز وأعمالها، وانقطع حمل فارس لغلب ابن بويه عليها، ولم يبق غير هذه الأعمال ونطاق الدولة قد تضايق إلى الغاية، وأهل الدولة مستبدّون على الخلافة والأحوال متلاشية، فتحيّر أبو جعفر وكثرت عليه المطالبات وذهبت هيبته، فاختفى لثلاثة أشهر ونصف من وزارته واستوزر الراضي مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن، فكان حاله مثل حال من قبله في قلّة المال ووقوف الحال.
استيلاء ابن رائق على الخليفة
ولما رأى الراضي وقوف الحال من الوزراء استدعى أبا بكر محمد بن رائق من واسط وكاتبه بأنه قد أجابه إلى ما عرض من السعي في الوزارة على القيام بالنفقات وأرزاق الجند، فسرّ ابن رائق بذلك وشرع يتجهّز للمسير. ثم أنفذ إليه الراضي الساجيّة وقلّده إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وفوّض إليه الخراج والدواوين والمعادن في جميع البلاد، وأمر بالخطبة له على المنابر، وانحدر إليه الدواوين والكتّاب والحجّاب.
ولما جاءه الساجيّة قبض عليهم بواسط في ذي الحجة من سنة أربع وعشرين، ونهب رجالهم ودوابهم ومتاعهم ليوفّر أرزاقهم على الحجرية، فاستوحشوا لذلك وخيّموا بدار الخلافة، وأصعد ابن رائق إلى بغداد وفوّض الخليفة إليه أمرهم. وأمر الحجريّة بتقويض خيامهم والرجوع إلى منازلهم، وأبطل الدواوين وصيّر النظر إليه، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور. وبقي ابن رائق وكتّابه ينظرون في جميع الأمور فبطلت الدواوين وبيوت الأموال من يومئذ وصارت لأمير الأمراء، والأموال تحمل إلى خزانته، ويتصرّف فيها كما يريد، ويطلب من الخليفة ما يريد. وتغلّب أصحاب الأطراف وزال عنهم الطاعة. ولم يبق للخليفة إلّا بغداد وأعمالها وابن رائق مستبد عليه. وأمّا باقي الأعمال فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان والأهواز في يد ابن البريدي، وفارس في يد عماد الدولة ابن بويه، وكرمان في يد عليّ بن الياس، والري وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة ابن بويه، ووشمكير أخو مرداويج ينازعه في هذه الأعمال، والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد حمدان، ومصر والشام في يد ابن طغج، والمغرب وإفريقية في يد العبيديين، والأندلس في يد(3/498)
عبد الرحمن بن الناصر من ولد عبد الرحمن الداخل وما وراء النهر في يد بني سامان، وطبرستان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي الطاهر القرمطيّ، ولم يبق لنا من الأخبار إلّا ما يتعلق بالخلافة فقط في نطاقها المتضايق أخيرا، وإن كانت مغلبة وهي أخبار ابن رائق والبريدي، وأمّا غير ذلك من الأعمال التي اقتطعت كما ذكرناه، فنذكر أخبارها منفردة ونسوق المستبدّين دولا كما شرطناه أوّل الكتاب ثم كتب ابن رائق عن الراضي إلى أبي الفضل بن جعفر بن الفرات وكان على الخراج بمصر والشام، وظنّ أنه بوزارته تكون له تلك الجباية، فوصل إلى بغداد وولي وزارة الراضي وابن رائق جميعا.
وصول يحكم مع ابن رائق
كان يحكم هذا من جملة مرداويج قائد الديلم ببلاد الجبل، وكان قبله في جملة ما كان بن كالي ومن مواليه، وهبه له وزيره أبو عليّ الفارض، ثم فارق ما كان مع من فارقه إلى مرداويج. وكان مرداويج قد ملك الريّ وأصبهان والأهواز، وضخم ملكه وصنع كراسيّ من ذهب وفضة للجلوس عليها هو وقوّاده، ووضع على رأسه تاجا تظنّه تاج كسرى. وأمر أن يخاطب بشاهنشاه واعتزم على قصد العراق والاستيلاء عليه، وتجديد قصور كسرى بالمدائن. وكان في خدمته جماعة من الترك ومنهم يحكم. فأساء ملكهم وعسكرهم فقتلوه سنة ثلاث وعشرين بظاهر أصبهان كما نذكره في أخبارهم.
واجتمع الديلم والجبل بعده على أخيه وشمكير بن وزيار وهو والد قابوس، ولما قتل مرداويج افترق الأتراك فرقتين ففرقة سارت إلى عماد الدولة بن بويه بفارس، والأخرى وهي الأكثر سارت نحو الجبل عند يحكم، فجبوا خراج الدّينور وغيرها. ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير إليه، فأذن لهم وارتاب الحجريّة بهم، فأمرهم الوزير بالرجوع إلى بلد الجبل فغضبوا واستدعاهم ابن رائق صاحب واسط والبصرة فمضوا إليه وقدم عليهم يحكم وكان الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج فجاءته جماعة منهم فأحسن إليهم وإلى يحكم وسمّاه الرائقي نسبة إليه وأذن له أن يكتبه في مخاطباته
.(3/499)
مسير الراضي وابن رائق لحرب ابن البريدي
ثم اعتزم ابن رائق سنة خمس وعشرين على الراضي في المسير إلى واسط لطلب ابن البريديّ في المال ليكون أقرب لمناجزته، فانحدر في شهر محرّم وارتاب الحجريّة بفعله مع الساجيّة، فتخلفوا ثم تبعوه فاعترضهم وأسقط أكثرهم من الديوان، فاضطربوا وثاروا فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم جماعة ولجأ فلّهم إلى بغداد، فأوقع بهم لؤلؤ صاحب الشرطة ونهبت دورهم وقطعت أرزاقهم وقبضت أملاكهم، وقتل ابن رائق من كان في حبسه من الساجيّة، وسار هو والراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريديّ منها. وقدّم إليه في طلب الاستقامة وتوعّده فجدّد ضمان الأهواز بألف دينار في كل شهر، ويحمل في كل يوم قسطه [1] . وأجابه إلى تسليم الجيش لمن يسير إلى قتال ابن بويه لنفرتهم عن بغداد. وعرض ذلك على الراضي، فأشار الحسين بن عليّ القونجي وزير ابن رائق بأن لا تقبل لأنه خداع ومكر وأشار أبو بكر بن مقاتل بإجابته، وعقد الضمان على ابن البريدي، وعاد ابن رائق والراضي إلى بغداد فدخلاها أوّل صفر، ولم يف ابن البريدي بحمل المال، وأنفذ ابن رائق جعفر بن ورقاء ليسير بالجيش إلى فارس، ودسّ إليهم ابن البريدي أن يطلبوا منه المال ليتجهّزوا به، فاعتذر فشتموه وتهدّدوه بالقتل. وأتى ابن البريدي فأشار عليه بالنجاء. ثم سعى ابن مقاتل لابن البريدي في وزارة ابن رائق عوضا عن الحسين القونجي [2] وبذل عنه ثلاثين ألف دينار، فاعتذر له بسوابق القونجي عنده وسعيه له، وكان مريضا فقال له ابن مقاتل: إنه هالك! فقال ابن رائق: قد أعلمني الطبيب أنه ناقة، فقال:
الطبيب يراجيك فيه لقربه منك، ولكن سل ابن أخيه عليّ بن حمدان. وكان القونجي قد استناب ابن أخيه في مرضه، فأشار عليه ابن مقاتل أن يعرف الأمير إذا سأله بمهلكه، وأشار عليه أن يستوزره. فلما سأله ابن رائق أيأسه منه فقال ابن رائق: عند ذلك لابن مقاتل: أكتب لابن البريدي يرسل من ينوب عنه في الوزارة، فبعث أحمد بن الكوفي واستولى مع ابن مقاتل على ابن رائق، وسعوا لابن البريدي أبي يوسف في ضمان البصرة. وكان عامل البصرة من قبل ابن رائق محمد بن
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 330: « ... جدّد ضمان الأهواز كل سنة بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل كلّ شهر بقسطه.
[2] الحسين بن علي النونجتي: المرجع السابق ص 331.(3/500)
يزداد وكان شديد الظلم والعسف بهم، فخادعه ابن البريدي وأنفذ أبو عبد الله مولاه إقبالا في ألفي رجل، وأقاموا في حصن مهدي قريبا. فعلم ابن يزداد أنه يروم التغلّب على البصرة، وأقاما على ذلك وأقام ابن رائق شأن هذا العسكر في حصن مهدي.
وبلغه أيضا أنه استخدم الحجريّين الذين أذن لهم في الانسياح في الأرض، وأنهم اتفقوا مع عسكره على قطع الحمل، وكاتبه يطردهم عنه فلم يفعل. فأمر ابن الكوفي أن يكتب إلى ابن البريدي بالكتاب على ذلك. ويأمر بإعادة العسكر من حصن مهدي، فأجاب باعدادهم للقرامطة وابن يزداد عاجز عن الحماية. وكان القرامطة قد وصلوا إلى الكوفة في ربيع الآخر وخرج ابن رائق في العساكر إلى حصن ابن هبيرة ولم يستقرّ بينهم أمر. وعاد القرمطي إلى بلده وسار ابن رائق إلى واسط.
فكتب ابن البريدي إلى عسكره بحصن مهدي أن يدخلوا البصرة ويملكوها من يد ابن يزداد، وأمدّهم جماعة من الحجريّة فقصدوا البصرة وقاتلوا ابن يزداد فهزموه، ولحق بالكوفة، وملك إقبال مولى ابن البريدي وأصحابه البصرة، وكتب ابن رائق إلى البريدي يتهدّده ويأمره بإخراج أصحابه من البصرة فلم يفعل.
استيلاء يحكم [1] على الأهواز
ولما امتنع ابن البريدي من الإفراج عن البصرة بعث ابن رائق العساكر مع بدر الحريشيّ [2] ويحكم مولاه، وأمرهم بالمقام بالجامدة فتقدّم يحكم عن بدر وسار إلى السوس، وجاءته عساكر البريدي مع غلامه محمد الجمّال [3] في ثلاثة آلاف ومع يحكم مائتان وسبعون من الترك، فهزمهم يحكم ورجع محمد بن الجمال إلى ابن البريدي فعاقبه على انهزامه، وحشد له العسكر فسار في ستة آلاف ولقيهم يحكم عند نهر تستر فانهزموا من غير قتال، وركب ابن البريدي السفن ومعه ثلاثمائة ألف دينار ففرّق أصحابه وماله ونجا إلى البصرة، وأقام بالأبلّة وبعث غلامه إقبالا فلقي جماعة من أصحاب ابن رائق فهزمهم، وبعث ابن رائق مع جماعة من أهل البصرة يستعطفه فأبى، فطلبوا البصرة فحلف ليحرقنّها ويقتل كل من فيها، فرجعوا مستبصرين في قتاله. وأقام ابن البريدي بالبصرة، واستولى يحكم على الأهواز ثم
__________
[1] بحكم: ابن الأثير ج 8 ص 334.
[2] بدر الخرشنيّ: المرجع السابق.
[3] الحمّال بدل الجمّال: المرجع السابق.(3/501)
بعث ابن رائق جيشه في البحر والبر فانهزم عسكر البر واستولى عسكر الماء على الكلا، فهرب ابن البريدي في السفن إلى جزيرة أوال، وترك أخاه أبا الحسين في عسكر بالبصرة فدفع عسكر ابن رائق عن الكلا فسار ابن رائق من واسط، واستولى يحكم على الأهواز، وقاتلوا البصرة فامتنعت عليهم، وسار أبو عبد الله بن البريدي من أوال إلى عماد الدولة بن بويه بفارس، فاطعمه في العراق وبعث معه أخاه معزّ الدولة إلى الأهواز فسير إليها ابن رائق مولاه يحكم على أن يكون له الحرب والخراج، وأقام ابن البريدي على البصرة وزحفت إليه عساكرهم فأعجلوه عن تقويض خيامه فأحرقها وسار إلى الأهواز مجردا، وسبقته عساكره إلى واسط وأقام عند يحكم أياما وأشير عليه بحبسه فلم يفعل ورجع ابن رائق إلى واسط.
استيلاء معز الدولة على الأهواز
لما سار أبو عبد الله بن البريدي من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن بويه بفارس مستجيرا به من ابن رائق ويحكم ومستنجدا عليهم، طمع عماد الدولة في الاستيلاء على العراق. فسيّر معه أخاه معز الدولة أحمد بن بويه في العسكر، ورهن ابن البريدي عنده ولديه أبا الحسين محمدا وأبا جعفر الفيّاض. وسار يحكم للقائهم فلقيهم بأرجان فانهزم أمامهم وعاد إلى الأهواز، وخلّف جيشا بعسكر مكرم. فقاتلهم معزّ الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انفضوا ولحقوا بتستر، وملك معزّ الدولة عسكر مكرم وذلك سنة ست وعشرين وسار يحكم من الأهواز إلى تستر، وبلغ الخبر إلى ابن رائق بواسط، فسار إلى بغداد وجاء يحكم من تستر إلى واسط. ولما استولى معزّ الدولة وابن البريدي على عسكر مكرم، ولقيهم أهل الأهواز وساروا معهم إليها فأقاموا شهرا. ثم طلب معزّ الدولة من ابن البريدي عسكره الّذي بالبصرة ليسير بهم إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان لحرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة آلاف. ثم طلب من عسكره الذين بحصن مهدي ليسير بهم في الماء إلى واسط فارتاب ابن البريدي وهرب إلى البصرة. وبعث إلى عسكرها الذين ساروا إلى أصبهان وكانوا متوقفين بالسوس، فرجعوا إليه، ثم كتب إلى معز الدولة أن يفرج له عن الأهواز ليتمكن من الجباية والوفاء بها لأخيه عماد الدولة، وكان قد ضمن له الأهواز والبصرة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل معز الدولة إلى عسكر مكرم وأنفذ ابن البريدي عامله إلى(3/502)
الأهواز. ثم بعث إلى معزّ الدولة بأن يتأخر إلى السوس فأبى، وعلم يحكم بحالهم فبعث جيشا استولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد ابن البريدي ومعزّ الدولة بعسكر مكرم، وقد ضاقت أحوال جنده. ثم بعث إليه أخوه عماد الدولة بالمدد فسار إلى الأهواز وملكها. ورجع ابن البريدي إلى البصرة ويحكم في ذلك مقيم بواسط، وقد صرف همه إلى الاستيلاء على رتبة ابن رائق ببغداد. وقد أنفذ له ابن رائق عليّ بن خلف بن طبّاب ليسيروا إلى الأهواز ويخرجوا ابن بويه. ويكون يحكم على الحرب وابن خلف على الخراج، فلم يلتفت يحكم لذلك واستوزر عليّ بن خلف ويحكم في أحوال واسط. ولما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأحوال أطمع ابن رائق في مصر والشام، وقال: أنا أجبيهما لك، وعقد بينه وبين ابن طغج صهرا. وسار أبو الفتح إلى الشام في ربيع الآخر وشعر ابن رائق بمحاولة يحكم عليه، فبعث إلى ابن البريدي بالاتّفاق على يحكم على أن يضمن ابن البريدي واسط بستمائة ألف، فنهض يحكم إلى ابن البريدي قبل ابن رائق وسار إلى البصرة، فبعث إليه ابن البريدي أبا جعفر الجمال في عشرة آلاف فهزمهم يحكم وارتاع ابن البريدي لذلك، ولم يكن قصد يحكم إلا الألفة فقط، والتضرّع لابن رائق، فبعث إليه بالمسالمة وأن يقلّده واسط إذا تم أمره، فاتفقا على ذلك وصرف نظره إلى أمر بغداد.
وزارة ابن مقلة ونكبته
ولما انصرف أبو الفتح بن الفرات إلى الشام استوزر الراضي أبا عليّ بن مقلة على سنن من قبله والأمر لابن رائق، وابن مقلة كالعارية. وكتب له في أمواله وأملاكه فلم يردّها. فشرع في التدبير عليه، فكتب إلى ابن رائق بواسط ووشمكير بالريّ يطمع كلّا منهما في مكانه، وكتب الراضي يشير بالقبض على ابن رائق وأصحابه، واستدعى يحكم لمكانه وأنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، فأطعمه الراضي على كره. فكتب هو إلى يحكم يستحثّه وطلب من الراضي أن ينتقل إلى دار الخلافة حتى يتم الأمر فأذن له وحضر متنكرا آخر ليلة من رمضان سنة ست وعشرين، فأمر الراضي باعتقاله وأطلع ابن رائق من الغد على كتبه فشكر ذلك له ابن رائق، وأمر بابن مقلة في منتصف شوال فقطع ثم عولج، وبريء وعاد إلى السعي في الوزارة والتظلّم من ابن رائق والدعاء عليه، فأمر بقطع لسانه وحبسه إلى أن مات.(3/503)
استيلاء يحكم على بغداد
لم يزل يحكم يظهر التبعية لابن رائق ويكتب على أعلامه وتراسه يحكم الرائقيّ إلى أن وصلته كتب ابن مقلة بأنّ الراضي قلّده إمرة الأمراء، فطمع وكاشف ابن رائق ومحا نسبه إليه من أعلامه وسلاحه. وسار من واسط إلى بغداد في ذي القعدة سنة ست وعشرين.
وكتب إليه الراضي بالرجوع فأبى، ووصل إلى نهر دبالي وأصاب ابن رائق في غربيه فانهزموا وعبروا النهر سبحا. وسار ابن رائق إلى عكبرا، ودخل يحكم بغداد منتصف ذي القعدة ولقي الراضي من الغد، وولّاه أمير الأمراء، وكتب عن الراضي إلى القوّاد الذين مع ابن رائق بالرجوع عنه فرجعوا، وعاد ابن رائق إلى بغداد فاختفى بها لسنة وأحد عشر شهرا من إمارته، ونزل يحكم بدار مؤنس واستقر ببغداد متحكما في الدولة مستبدّا على الخليفة.
دخول آذربيجان في طاعة وشمكير
كان من عمّال وشمكير على أعمال الجبل السيكري [1] بن مردي، وكان مجاورا لأعمال أذربيجان وعليها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب ابن أبي الساج، فحدّثت السيكري نفسه بالتغلّب عليها، فجمع وسار إليها. وخرج إليه ديسم فانهزم فاستولى على سائر بلاده إلّا أردبيل وهي كرسي أذربيجان، فحاصرها السيكري وضيّق حصارها، فراسلوا ديسم بالمثنى لقتال السيكري من ورائه ففعل، وجاءه يوم قتالهم من خلف، فانهزم السيكري إلى موقان فأعانه أصبهبذها ابن دوالة وسار معه نحو ديسم، فانهزم ديسم وقصد وشمكير بالريّ واستمدّه على أن يدخل في طاعته ويضمن له مالا في كل سنة. فأجابه وبعث معه العسكر وبعث أصحاب السيكري إلى وشمكير بأنهم على الطاعة، وشعر بذلك السيكري فسار في خاصته إلى أرمينية واكتسح في نواحيها. ثم سار إلى الزوزان من بلاد الأرمن، فاعترضوه وقتلوه ومن معه، ورجع فلّهم وقد ولّوا عليهم سان بن السيكري، وقصدوا بلد طرم الأرمني ليثأروا منهم بأصحابهم، فقاتلهم طرم وأثخن فيهم، وساروا إلى ناصر الدولة بن حمدان وانحدر بعضهم إلى بغداد، وكان على المعادن بأذربيجان
__________
[1] السبكري وقد مرّ ذكره من قبل.(3/504)
الحسين بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمّه ناصر الدولة، فلما جاء إلى الموصل أصحاب السيكري مع ابنه بعثهم ابن عمّه بأذربيجان لقتال ديسم، فلم تكن له به طاقة ورجع إلى الموصل واستولى ديسم على أذربيجان في طاعة وشمكير.
ظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام
وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة سار يحكم إلى الموصل وديار ربيعة بسبب أنّ ناصر الدولة بن حمدان أخّر المال الّذي عليه من ضمان البلاد، فأقام الراضي بتكريت وسار يحكم، ولقيه ناصر الدولة على ستة فراسخ من الموصل، فانهزم واتّبعه يحكم إلى نصيبين ثم إلى آمد، وكتب إلى الراضي بالفتح. فسار من تكريت في الماء إلى الموصل، وفارقه جماعة من القرامطة كانوا في عسكره، وكان ابن رائق يكاتبهم من مكان اكتفائه، فلما وصلوا بغداد خرج ابن رائق إليهم واستولى، وطار الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء وسار إلى الموصل، وكتب إلى يحكم بذلك. فرجع عن نصيبين بعد أن استولى عليها، وشرع أهل العسكر يتسلّلون إلى بغداد فأهمّ ذلك يحكم. ثم جاءت رسالة ابن حمدان في الصلح وتعجيل خمسمائة ألف درهم، فأجابوه وقرّره ورجعوا إلى بغداد، ولقيهم أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد رسولا عن ابن رائق في الصلح على أن يقلّده الراضي طريق الفرات وديار مضر حرّان والرها وما جاورها جندي قنّسرين والعواصم. فأجابه الراضي وقلّده وسار إلى ولايته في ربيع الآخر. وكان يحكم قد استناب بعض قوّاد الأتراك على الأنبار واسمه بالبان، وطلب تقليد طريق الفرات فقلّد وسار إلى الرحبة. ثم انتقض وعاد لابن رائق وعصى على يحكم، فسار إليه غازيا بالرحبة على حين غفلة لخمسة أيام من مسيره، فظفر به وأدخله بغداد على جمل وحبسه وكان آخر العهد به.
وزارة ابن البريدي
قد تقدّم لنا مسير الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات إلى الشام، ولمّا سار استناب بالحضرة عبد الله بن عليّ البصريّ، وكان يحكم قد قبض على وزيره خلف ابن طبّاب، واستوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرازاد، فسعى في وزارة ابن البريدي ليحكم حتى تمّ ذلك. ثم ضمن ابن البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة. ثم جاء الخبر بموت أبي الفتح بن الفرات بالرملة، فسعى أبو جعفر(3/505)
ابن شيرزاد في وزارة أبي عبد الله للخليفة، فعقد له الراضي بذلك واستخلف بالحضرة عبد الله بن عليّ البصري كما كان مع أبي الفتح.
مسير ركن الدولة إلى واسط ورجوعه عنها
لما استقرّ ابن البريدي بواسط بعث جيشا إلى السوس وبها أبو جعفر الظهيري وزير معزّ الدولة أحمد بن بويه ومعزّ الدولة بالأهواز. فتحصّن أبو جعفر بقلعة السوس، وعاث الجيش في نواحيها وكتب معزّ الدولة إلى أخيه ركن الدولة وهو على إصطخر قد جاء من أصبهان لمّا غلبه وشمكير عليها. فلمّا جاء كتاب أخيه معز الدولة سار محمد إلى السوس وقد رجع عنه جيش ابن البريدي. ثم سار إلى واسط يحاول ملكها فنزل في جانبها الشرقي، وابن البريدي في الجانب الغربي، واضطرب عسكر ابن بويه واستأمن جماعة منهم إلى ابن البريدي. ثم سار الراضي ويحكم من بغداد إلى واسط للإمداد، فرجع ركن الدولة إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز. وبلغه أن وشمكير قد أنفذ عسكره مددا لما كان بن كالي وأنّ أصبهان خالية، فسار إليها من رامهرمز وأخرج من بقي منها من أصحاب وشمكير وملكها فاستقرّ بها.
مسير يحكم إلى بلد الجبل وعوده إلى واسط واستيلاؤه عليها
كان يحكم قد أرسل ابن البريدي وصاهره واتفقا على أن يسير يحكم إلى بلاد الجبل لفتحها من يد وشمكير، وأبو عبد الله بن البريدي إلى الأهواز لأخذها من يد معزّ الدولة ابن بويه، فسار يحكم إلى حلوان وبعث إليه ابن البريدي بخمسمائة رجل مددا. وبعث يحكم بعض أصحابه إلى ابن البريدي يستحثّه إلى السوس والأهواز، فأقام يماطله ويدافعه ويبيّن له أنّه يريد مخالفة يحكم إلى بغداد. فكتب إليه بذلك فرجع عن قصده إلى بغداد، وعزل ابن البريدي من الوزارة، وولّى مكانه أبا القاسم بن سليمان بن الحسين بن مخلّد، وقبض على ابن شيرزاد الّذي كان ساعيا له، وتجهّز إلى واسط وانحدر في الماء آخر ذي الحجّة سنة ثمان وعشرين. وبعث عسكرا في البرّ، وبلغ الخبر ابن البريدي فسار عن واسط إلى البصرة واستولى عليها يحكم وملكها.(3/506)
استيلاء ابن رائق على الشام
قد تقدّم لنا مسير ابن رائق إلى ديار مضر وثغور قنّسرين والعواصم فلما استقرّ بها حدّثته نفسه بملك الشام فسار إلى حمص فملكها ثم سار إلى دمشق وبها بدر بن عبد الله الإخشيدي ويلقّب بدير، فملكها من يده. ثم سار إلى الرملة ومنها إلى عريش مصر يريد ملك الديار المصرية، ولقيه الإخشيد محمد بن طغج وانهزم أوّلا وملك أصحاب ابن رائق خيامه. ثم خرج كمين الإخشيد فانهزم ابن رائق إلى دمشق وبعث الإخشيد في أثره أخاه أبا نصر بن طغج، وسار إليهم ابن رائق من دمشق فهزمهم وقتل أبو نصر، فكفّنه ابن رائق وحمله مع ابنه مزاحم إلى أخيه الإخشيد بمصر. وكتب يعزّيه ويعتذر فأكرم الإخشيد مزاحما، واصطلح مع أبيه على أن تكون مصر للإخشيد من حد الرملة وما وراءها من الشام لابن رائق ويعطى الإخشيد عن الرملة في كل سنة مائة وأربعين ألف دينار.
الصوائف أيام الراضي
وفي سنة اثنتين وعشرين سار الدمستق إلى سميساط في خمسين ألفا من الروم، ونازل ملطية وحاصرها مدة طويلة حتى فتحها بالأمان، وبعثهم إلى مأمنهم مع بطريق من بطارقته. وتنصّر الكثير منهم محبّة في أهليهم وأموالهم. ثم افتتحوا سميساط وخرّبوا أعمالها وأفحشوا في أسطوله في البحر. ففتحوا بلد جنوة ومروا بسردانية فأوقعوا بأهلها، ثم مروا بقرقيسياء من ساحل الشام فأحرقوا مراكبها، وعادوا سالمين.
وفي سنة ست وعشرين كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة على يد ابن ورقاء الشيبانيّ البريدي في ستة آلاف وثلاثمائة أسير.
الولايات أيام الراضي والقاهر قبله
قد تقدّم لنا أنه لم يبق من الأعمال في تصريف الخلافة لهذا العهد إلا أعمال الأهواز والبصرة وواسط والجزيرة، وذكرنا استيلاء بني بويه على فارس وأصبهان، ووشمكير على بلاد الجبل، وابن البريدي على البصرة، وابن رائق على واسط، وأن عماد الدولة بن بويه على فارس، وركن الدولة أخوه يتنازع مع وشمكير على أصبهان(3/507)
وهمذان وقمّ وقاشان والكرج والريّ وقزوين. واستولى معزّ الدولة أخوهما على الأهواز وعلى كرمان واستولى ابن البريدي على واسط وسار ابن رائق إلى الشام فاستولى عليها.
وفي سنة ثلاث وعشرين قلّد الراضي ابنيه أبا جعفر وأبا الفضل ناحية المشرق والمغرب. وفي سنة إحدى وعشرين ورد الخبر بوفاة تكين الخاصكي بمصر وكان أميرا عليها، وولّى القاهر مكانه ابنه محمدا وثار به الجند، فظفر بهم. وفيها وقعت الفتنة بين بني ثعلب وبني أسد ومعهم طيِّئ، وركب ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان ومعه أبو الأعزّ بن سعيد بن حمدان ليصلح بينهم، فوقعت ملاحاة قتل فيها أبو الأعز على يد رجل من ثعلب، فحمل عليهم ناصر الدولة واستباحهم إلى الحديثة. فلقيهم يأنس غلام مؤنس واليا على الموصل، فانضم إليه بنو ثعلب وبنو أسد وعادوا إلى ديار ربيعة. وفي سنة أربع وعشرين قلّد الراضي محمد بن طغج أعمال مصر مضافا إلى ما بيده من الشام وعزل عنها أحمد بن كيغلغ.
وفاة الراضي وبيعة المتقي
وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة توفي الراضي أبو العبّاس أحمد بن المقتدر في ربيع الأوّل منها لسبع سنين غير شهر من خلافته. ولما مات أحضر يحكم ندماءه وجلساءه لينتفع بما عندهم من الحكمة فلم يفهم عنهم لعجمته. وكان آخر خليفة خطب على المنبر وان خطب غيره فنادر. وآخر خليفة جالس السّمر وواصل الندماء. ودولته آخر دول الخلفاء في ترتيب النفقات والجوائز والجرايات والمطابخ والخدم والحجّاب، وكان يحكم يوم وفاته غائبا بواسط حين ملكها من يد ابن البريدي، فانتظر في الأمور وصول مراسمه، فورد كتابه مع كتابه أبي عبد الله الكوفيّ يأمر فيه باجتماع الوزراء وأصحاب الدواوين والقضاة والعلويّين والعبّاسيين ووجوه البلد عند الوزير أبي القاسم سليمان بن الحسن، ويشاورهم الكوفيّ فيمن ينصّب للخلافة ممن يرتضي مذهبه وطريقه، فاجتمعوا وذكروا إبراهيم بن المقتدر، واتّفقوا عليه وأحضروه من الغد وبايعوا له آخر ربيع الأوّل من سنة تسع وعشرين. وعرضت عليه الألقاب فاختار المتقي للَّه وأقرّ سليمان على وزارته كما كان، والتدبير كله للكوفيّ كاتب يحكم، وولّى سلامة الطولوني على الحجبة.(3/508)
مقتل يحكم
كان أبو عبد الله البريدي بعد هربه إلى البصرة من واسط أنفذ جيشا إلى المدار، فبعث إلى لقائهم جيشا من واسط عليهم توزون انتخب له الكرة، فظفر بجيش ابن البريدي ولقي يحكم خبره في الطريق فسرّ بذلك، وذهب يتصيّد فبلغ نهر جور، وعثر في طريقه ببعض الأكراد فشره [1] لغزوهم، وقصدهم في خفّ من أصحابه وهربوا بين يديه وهو يرشقهم بسهامه، وجاءه غلام منهم من خلفه فطعنه فقتله. واختلف عسكره فمضى الديلم فكانوا ألفا وخمسمائة إلى ابن البريدي، وقد كان عزم على الهرب من البصرة، فبعث لقدومهم وضاعف أرزاقهم وأدرّها عليهم، وذهب الأتراك إلى واسط وأطلقوا بكتيك [2] من حبسه وولّوه عليهم، فسار بهم إلى بغداد في خدمة المتقي وحصر ما كان في دار يحكم من الأموال والدواوين فكانت ألف ألف ومائة ألف دينار ومدّة إمارته سنتان وثمانية أشهر.
امارة البريدي ببغداد وعوده إلى واسط
لما قتل يحكم قدّم الديلم عليهم بكشوار بن ملك بن مسافر [3] ومسافر هو ابن سلا وصاحب الطرم الّذي ملك ولده بعده أذربيجان، وقاتلهم الأتراك فقتلوه، فقدّم الديلم عليهم مكانه كورتين منهم. وقدّم الأتراك عليهم بكتيك مولى يحكم، وانحدر الديلم إلى أبي عبد الله بن البريدي فقوي بهم، وأصعدوا إلى واسط. وأرسل المتّقي إليهم مائة وخمسين ألف دينار على أن يرجعوا عنها. ثم قسّم في الأتراك في أجناد بغداد أربعمائة ألف دينار من مال يحكم. وقدّم عليهم سلامة الطولوني وبرز بهم المتّقي إلى نهر دبالي [4] آخر شعبان سنة ست وعشرين. وسار ابن البريدي من واسط فأشفق أتراك يحكم، ولحق بعضهم بابن البريدي، وسار آخرون إلى الموصل منهم توزون وجحجح. واختفى سلامة الطولوني. وأبو عبد الله الكوفيّ، ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد أوّل رمضان ونزل بالشفيعي ولقيه الوزير أبو الحسين بن ميمون
__________
[1] الأصح: شرهت نفسه لغزوهم.
[2] تكينك: ابن الأثير ج 8 ص 371.
[3] بلسواز بن مالك بن مسافر المرجع السابق ص 372 وفي تجارب الأمم بلسوار.
[4] نهر ديالى: ابن الأثير ج 8 ص 373.(3/509)
والكتّاب والقضاة وأعيان الناس، وبعث إليه المتّقى بالتهنئة والطعام، وكان يخاطب بالوزير. ثم قبض على الوزير أبي الحسين لشهرين من وزارته وحبسه بالبصرة وطلب من المتّقي خمسمائة ألف دينار للجند، وهدّده بما وقع للمعتزّ والمستعين والمهتدي، فبعث بها إليه ولم يلقه مدّة مقامه ببغداد. ولمّا وصله المال من المتّقي شغب الجند عليه في طلبه وجاء الديلم إلى دار لأخيه أبي الحسين، ثم انضم إليهم الترك، وقصدوا دار أبي عبد الله، فقطع الجسر ووثب العامّة على أصحابه، وهرب هو وأخوه وابنه أبو القاسم وأصحابهم، وانحدروا إلى واسط وذلك سلخ رمضان لأربعة وعشرين يوما من قدومه.
امارة كورتكين الديلميّ
ولما هرب ابن البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد ودخل إلى المتقي، فقلّده إمارة الأمراء، وأحضر عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبّر الأمور ولم يسمّهما بوزارة واستوزر أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي القراريطي، وولّى على الحجبة بدرا الجواشيني. ثم قبض كورتكين على بكتيك مقدّم الأتراك خامس شوّال، وغرّقه واقتتل الأتراك والديلم وقتل بينهما خلق، وانفرد كورتكين بالأمر وقبض على الوزير أبي إسحاق القراريطي لشهر ونصف من وزارته، وولّى مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخيّ.
عود ابن رائق إلى بغداد
قد تقدّم لنا أن جماعة من أتراك يحكم لما انفضوا عن المتّقي ساروا إلى الموصل، ثم ساروا منها إلى ابن رائق بالشام، وكان من قوّادهم توزون وجحجح وكورتكين وصيقوان [1] فأطمعوه في بغداد. ثم جاءته كتب المتّقي يستدعيه، فسار آخر رمضان واستخلف بالشام أبا الحسن أحمد بن عليّ بن مقاتل وتنحّى ناصر الدولة بن حمدان على طريقه. ثم حمل إليه مائة ألف دينار وصالحه، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله بن البريدي، فبعث إخوته إلى واسط وأخرج الديلم عنها وخطبوا له بها. وخرج
__________
[1] هناك بعض الاختلاف والتحريف في الأسماء وفي الكامل ج 8 ص 375: «توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون» .(3/510)
كورتكين عن بغداد إلى عكبرا فقاتله ابن رائق أياما ثم أسرى له ليلة عرفة فأصبح ببغداد من الجانب الغربيّ ولقي الخليفة وركب معه في دجلة، ووصل كورتكين آخر النهار فركب ابن رائق لقتاله وهو مرجل، واعتزم على العود إلى الشام [1] ، ثم طائفة من عسكره ليعبروا دجلة ويأتوا من ورائهم، وصاحت العامّة مع ابن رائق بكورتكين وأصحابه ورجموهم، فانهزموا واستأمن منهم نحو أربعمائة فقتلوا وقتل قوّاده، وخلع المتّقي على ابن رائق وولّاه أمير الأمراء، وعزل الوزير أبا جعفر الكرخيّ لشهر من ولايته، وولّى مكانه أحمد الكوفيّ وظفر بكورتكين فحبسه بدار الخلافة.
وزارة ابن البريدي واستيلاؤه على بغداد وفرار المتقي الى الموصل
لما استقرّ ابن رائق في إمارة الأمراء بدمشق ببغداد أخّر ابن البريدي حمل المال من واسط، فانحدر إليه في العساكر في عاشوراء من سنة ثلاثين، وهرب بنو البريدي إلى البصرة. ثم سعى أبو عبد الله الكوفيّ بينهم وبين ابن رائق، وضمن واسط بستمائة ألف دينار وبقاياها بمائتي ألف. ورجع ابن رائق إلى بغداد فشغبت عليه الجند، وفيهم تورون وأصحابه. ثم انفضوا آخر ربيع إلى أبي عبد الله بواسط، فقوي بهم وذهب ابن رائق إلى مداراته، فكاتبه بالوزارة واستخلف عليها أبا عبد الله بن شيرزاد. ثم انتقض واعتزم على المسير إلى بغداد في جميع الأتراك والديلم. وعزم ابن رائق على التحصّن بدار الخلافة، ونصب عليها المجانيق والعرّادات، وجنّد العامّة، فوقع الهرج، وخرج بالمتّقي إلى نهر دبالي منتصف جمادى الآخرة. وأتاهم أبو الحسين في الماء والبرّ فهزمهم ودخل دار الخلافة، وهرب المتّقي وابنه أبو منصور وابن رائق إلى الموصل لستة أشهر من إمارته. واختفى الوزير القراريطي ونهبت دار الخليفة، ودور الحرم، وعظم الهرج، وأخذ كورتكين من محبسه فأنفذ إلى واسط، ولم يتعرّضوا للقاهر. وكان نزل أبو الحسن بدار الخلافة وجعل توزون على الشرطة بالجانب الغربيّ، وأخذ رهائن القوّاد توزون وغيره وبعث بنسائهم وأولادهم إلى
__________
[1] يبدو هنا انه حذفت عبارة أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 376: «ثم انه عزم ان يناوشهم شيئا من قتال قبل مسيره فأمر طائفة من عسكره ان يعبروا دجلة ... »(3/511)
أخيه عبد الله بواسط. وعظم النهب ببغداد وترك دورهم وفرضت المكوس في الأسواق خمسة دنانير على الكرّ فغلت الأسعار، وانتهى إلى ثلاثمائة دينار الكرّ، وجاءت ميرة من الكوفة وأخذت فقيل إنها لعامل الكوفة، وأخذها عامل بغداد وكان معه جماعة من القرامطة فقاتلهم الأتراك وهزموهم، ووقعت الحرب بين العامّة والديلم فقتل خلق من العامة، واختفى العمّال لمطاولة الجند إلى الضواحي ينتهبون الزرع بسنبله عند حصاده، وساءت أحوال بغداد وكثرت نقمات الله فيهم.
مقتل ابن رائق وولاية ابن حمدان مكانه
كان المتّقي قد بعث إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمدّه على ابن البريدي عند ما قصد بغداد، فأمدّه بعسكر مع أخيه سيف الدولة، فلقيه بتكريت منهزما ورجع معه إلى الموصل. وخرج ناصر الدولة عن الموصل حتى حلف له ابن رائق واتفقا، فجاء وتركه شرقي دجلة وعبر إليه أبو منصور المتّقي وابن رائق فبالغ في تكرمتهما. فلما ركب ابن المتّقي قال لابن رائق: أقم نتحدّث في رأينا فذهبا إلى الاعتذار، وألحّ عليه ناصر الدولة فاستراب وجذب يده وقصد الركوب، فسقط فأمر ناصر الدولة بقتله وإلقائه في دجلة، وبعث إلى المتّقي بالعذر وأحسن القول، وركب إليه فولّاه أمير الأمراء ولقّبه ناصر الدولة وذلك مستهل شعبان من سنة ثلاثين، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقّبه بسيف الدولة، فلمّا قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى دمشق وبها محمد بن يزداد من قبل ابن رائق فاستأمن إليه وملك الإخشيد دمشق وأقر ابن يزداد عليها ثم نقله إلى شرطة مصر.
عود المتّقي إلى بغداد وفرار البريدي
لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد وأساء السيرة كما مرّ، امتلأت القلوب منه نفرة، فلما قتل ابن رائق أخذ الجند في الفرار عنه والانتقاض عليه، ففرّ جحجح إلى المتّقي واعتزم تورون وأنوش تكين والأتراك على كبس أبي الحسين البريدي. وزحف تورون لذلك في الديلم فخالفه أنوش تكين في الأتراك فذهب تورون إلى الموصل فقوي بهم ابن حمدان والمتّقي وانحدروا إلى بغداد، وولّى ابن حمدان على أعمال الخراج والضياع بديار مضر، وهي الرها وحرّان. ولقيا أبا الحسن أحمد بن عليّ بن(3/512)
مقاتل، فاقتتلوا وقتل ابن مقاتل واستولى ابن طبّاب عليها. ولمّا وصل المتّقي وابن حمدان إلى بغداد هرب أبو الحسين ابن البريدي منها إلى واسط لثلاثة أشهر وعشرين يوما من دخوله، واضطربت العامّة وكثر النهب ودخل المتّقي وابن حمدان في العساكر في شوّال من السنة. وأعاد أبا إسحاق القراريطي إلى الوزارة، وولّى توزون على الشرطة. ثم سار إليهم أبو الحسين البريدي، فخرج بنو حمدان للقائهم وانتهوا إلى المدائن، فأقام بها ناصر الدولة، وبعث أخاه سيف الدولة وابن عمّه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فاقتتلوا عنده أياما، وانهزم سيف الدولة أوّلا، ثم أمدّهم ناصر الدولة بالقوّاد الذين كانوا معه وجحجح بالأتراك، وعاودوا القتال فانهزم أبو الحسين إلى واسط، وأقصر سيف الدولة عن اتباعه لما أصاب أصحابه من الوهن والجراح. وعاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة. ثم سار سيف الدولة إلى واسط وهرب بنو البريدي عنها إلى البصرة فملكها وأقام بها.
استيلاء الديلم على أذربيجان
كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري من الخوارج. ولما قتل هارون لحق بأذربيجان وشرّد في الأكراد فولد له ديسم هذا فكبر وخدم ابن أبي الساج، وتقدّم عنده إلى أن ملك بعدهم أذربيجان. وجاء السيكري خليفة وشمكير في الجبل سنة ست وعشرين وغلبه على أذربيجان. ثم سار هو إلى وشمكير وضمن له طاعة ومالا، واستمدّه فأمدّه بعسكر من الديلم وساروا معه، فغلب السيكري وطرده وملك البلاد، وكان معظم جيشه الأكراد فتغلّبوا على بعض قلاعه فاستكثر من الديلم وفيهم صعلوك بن محمد بن مسافر بن الفضل وغيرهما [1] . فاستظهر بهم وانتزع من الأكراد ما تغلّبوا عليه، وقبض على جماعة من رؤسائهم. وكان وزيره أبو القاسم عليّ ابن جعفر قد ارتاب منه، فهرب إلى الطرم وبها محمد بن مسافر من أمراء الديلم وقد انتقض عليه ابناه وهشودان والمرزبان واستوليا على بعض قلاعه، ثم قبض على أبيهما محمد وانتزعا أمواله وذخائره وتركاه في حصنه سليبا فريدا، فقصد عليّ بن جعفر
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 386: «وفيهم صعلوك بن محمد بن مسافر وعلي بن الفضل وغيرهما» .(3/513)
المرزبان وأطمعه في أذربيجان، فقلّده وزارته وكانت نحلتهما في التشيّع واحدة، لأنّ عليّ بن جعفر كان من الباطنيّة والمرزبان من الديلم وهم شيعة. وكاتب عليّ بن جعفر أصحاب ديسم واستمالهم واستفسدهم عليه وخصوصا الديلم، ثم التفتوا للحرب وجاء الديلم إلى المرزبان واستأمن معهم كثير من الأكراد، وهرب ديسم في فلّ من أصحابه إلى أرمينية واستجار بجاحق بن الديوانيّ فأجاره وأكرمه، وندم على ما فرّط في إبعاد الأكراد وهم على مذهبه في الخارجيّة. وملك المرزبان أذربيجان واستولى عليها. ثم استوحش منه عليّ بن جعفر وزير ديسم وتنكّر له أصحاب المرزبان، فأطمعه المرزبان فأخذ أموالهم وحملهم على طاعة ديسم، وقتل الديلم عندهم من جند المرزبان ففعلوا. وجاء ديسم فملكها وفرّ إليه من كان عند المرزبان حتى اشتدّ عليه الحصار، واستصلح أثناء ذلك الوزير عليّ بن جعفر، ثم خرجوا من توزير [1] ، ولحق ديسم بأردبيل، وجاء عليّ بن جعفر إلى المرزبان. ثم حاصر المرزبان أردبيل حتى نزل له ديسم على الأمان وملكها صلحا. وملك توزير كذلك، ووفّى له، ثم طلب ديسم أن يبعثه إلى قلعته بالطرم فبعثه بأهله وولده وأقام هنالك.
خبر سيف الدولة بواسط
لما فرّ بنو البريدي عن واسط إلى البصرة ونزل بها سيف الدولة أراد الانحدار خلفهم لانتزاع البصرة منهم، واستمدّ أخاه ناصر الدولة فأمدّه بمال مع أبي عبد الله الكوفيّ، وكان تورون وجحجح يستطيلان عليه، فأراد الاستئثار بالمال فردّه سيف الدولة مع الكوفيّ إلى أخيه، وأذن لتورون في مال الجامدة ولجحجح في مال المدار.
وكان من قبل يراسل الأتراك وملك الشام ومصر معه فلا يجيبونه. ثم ثاروا عليه في شعبان من سنة إحدى وثلاثين، فهرب من معسكره ونهب سواده وقتل جماعة من أصحابه. وكان ناصر الدولة لما أخبره أبو عبد الله الكوفي بخبر أخيه في واسط، برز يسير إلى الموصل، وركب إليه المتّقي يستمهله، فوقف حتى عاد وأغذّ السير لثلاثة عشر شهرا من إمارته، فثار الديلم والأتراك ونهبوا داره، ودبّر الأمور أبو إسحاق القراريطي من غير لقب الوزارة. وعزل أبو العبّاس الأصبهاني لأحد وخمسين يوما من وزارته، ثم تنازع الإمارة بواسط بعد سيف الدولة تورون وجحجح، واستقرّ الحال
__________
[1] تبريز: ابن الأثير ج 8 ص 387.(3/514)
أن يكون تورون أميرا وجحجح صاحب الجيش. ثم طمع ابن البريدي في واسط وأصعد إليها وطلب من تورون أن يضمّنه إيّاها، فردّه ردّا جميلا. وكان قد سار جحجح لمدافعته فمرّ به الرسول في طريقه وحادثة طويلا، وسعى إلى تورون بأنه لحق بابن البريدي فأسرى إليه وكبسه منتصف رمضان، فقبض عليه وجاء به إلى واسط فسمله، وبلغ الخبر إلى سيف الدولة وكان لحق بأخيه، فعاد إلى بغداد منتصف رمضان، وطلب المال من المتّقي لمدافعة تورون، فبعث أربعمائة ألف درهم وفرّقها في أصحابه وظهر له من كان مستخفيا ببغداد وجاء تورون من واسط بعد أن خلّف بها كيغلغ. فلمّا أحس به سيف الدولة رحل فيمن انضم إليه من أجناد واسط وفيهم الحسن بن هارون، وسار إلى الموصل ولم يعاود بنو حمدان بعدها بغداد.
امارة تورون ثم وحشته مع المتقي
لما سار سيف الدولة عن بغداد دخلها تورون آخر رمضان سنة إحدى وثلاثين، فولّاه المتّقي أمير الأمراء، وجعل النظر في الوزارة لأبي جعفر الكرخيّ كما كان الكوفيّ.
ولما سار تورون عن واسط خالفه إليها البريدي فملكها. ثم انحدر تورون أوّل ذي القعدة لقتل البريدي، وقد كان يوسف بن وجيه صاحب عمان سار في المراكب إلى البصرة، وحارب ابن البريدي حتى أشرفوا على الهلاك. ثم احترقت مراكب عمان بحيلة دبّرها بعض الملّاحين ونهب منها مال عظيم. ورجع يوسف بن وجيه مهزوما في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين، وهرب في هذه الفتنة أبو جعفر بن شيرزاد من تورون فاشتمل عليه، وكان تورون عند إصعاده من بغداد استخلف مكانه محمد بن ينال الترجمان. ثم تنكّر فارتاب محمد، وارتاب الوزير أبو الحسن بن مقلة بمكان ابن شيرزاد من تورون وخافا غائلته وخوّفا المتّقي كذلك، وأوهماه أنّ البريدي ضمنه من تورون بخمسمائة ألف دينار التي أخذها من تركة يحكم، وأنّ ابن شيرزاد جاء عن البريدي ليخلفه ويسلّمه، فانزعج لذلك وعزم على المسير إلى ابن حمدان، وكتبوا إليه أن ينفذ عسكرا يسير صحبته.
مسير المتقي إلى الموصل
ولما تمت سعاية ابن مقلة وابن ينال بتورون مع المتّقي اتّفق وصول ابن شيرزاد إلى بغداد أوّل اثنتين وثلاثين في ثلاثمائة فارس، وأقام بدست الأمر والنهي لا يعرج على(3/515)
المتّقي في شيء. وكان المتّقي قد طلب من ناصر الدولة بن حمدان عسكرا يصحبه إلى الموصل، فبعثهم ابن عمّه ابو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلمّا وصلوا بغداد اختفى ابن شيرزاد وخرج المتّقي إليهم في حرمه وولده، ومعه وزيره وأعيان دولته مثل سلامة الطولوني وأبي زكريا يحيى بن سعيد السوسي وأبي محمد المارداني وأبي إسحاق القراريطي وأبي عبد الله الموسوي وثابت بن سنان بن ثابت بن قرّة الطبيب، وأبي نصر بن محمد بن ينال الترجمان. وساروا إلى تكريت وظهر ابن شيرزاد في بغداد، وظلم الناس وصادرهم، وبعث إلى تورون في واسط بخبر المتّقي، فعقد ضمان واسط على ابن البريدي، وزوّجه ابنته، وسار إلى بغداد. وجاء سيف الدولة إلى المتّقي بتكريت. ثم بعث المتّقي إلى ناصر الدولة يستحثّه، فوصل اليه في ربيع الآخر، وركب المتّقي من تكريت إلى الموصل، وأقام هو بتكريت. وسار تورون لحربه فتقدّم إليه أخوه سيف الدولة فاقتتلوا أياما. ثم انهزم سيف الدولة وغنم تورون سواده وسواد أخيه، ولحقوا بالموصل وتورون في اتّباعهم. ثم ساروا عنها مع المتّقي إلى نصيبين، ودخل تورون الموصل ولحق المتّقي بالرقّة، وراسل تورون بأنّ وحشته لأجل ابن البريدي، وأنّ رضاه في إصلاح بني حمدان، فصالحهما تورون وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين بثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم لكل سنة، وعاد تورون إلى بغداد وأقام المتّقي وبنو حمدان بالرقّة.
مسير ابن بويه الى واسط وعوده عنها ثم استيلاؤه عليها
كان معزّ الدولة بن بويه بالأهواز، وكان ابن البريدي يطمعه في كل وقت في ملك العراق، وكان قد وعده أن يمدّه واسط. فلمّا أصعد تورون إلى الموصل خالفه معزّ الدولة إلى واسط وأخلف ابن البريدي وعده في المدد. وعاد تورون من الموصل إلى بغداد، وانحدر منها للقاء معزّ الدولة منتصف ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين، واقتتلوا بقباب حميد بضعة عشر يوما. ثم تأخر تورون إلى نهر ديالى فعبره ومنع الديلم من عبوره بمن كان معه من المقاتلة في الماء، وذهب ابن بويه ليصعد ويتمكن من الماء، فبعث تورون بعض أصحابه فعبروا ديالى وكمنوا له حتى إذا صار مصعدا خرجوا عليه على غير أهبه، فانهزم هو ووزيره الصهيري [1] وأسر منهم أربعة عشر
__________
[1] الصيمري وقد مرّ ذكره من قبل راجع ابن الأثير ج 8 ص 408.(3/516)
قائدا واستأمن كثير من الديلم إلى تورون، ولحق ابن بويه والصهيري بالسوس. ثم عاد إلى واسط ثانية فملكها ولحق أصحاب بني البريدي بالبصرة.
قتل ابن البريدي أخاه ثم وفاته
كان أبو عبد الله بن البريدي قد استهلك أمواله في هذه النوائب التي تنوبه، واستقرض من أخيه أبي يوسف مرّة بعد مرّة، وكان أثرى منه ومال الجند إليه لثروته. وكان يعيب على أخيه تبذيره وسوء تدبيره. ثم نمي الخبر إليه أنه يريد المكر به، والاستبداد بالأمر. وتنكّر كل واحد منهما للآخر، ثم أكمن أبو عبد الله غلمانه في طريق أبي يوسف فقتلوه، وشغب الجند لذلك فأراهم شلوه فافترقوا، ودخل دار أخيه وأخذ ما فيها من الأموال، وجواهر نفيسة كان باعها له بخمسين ألف درهم، وكان أصلها ليحكم وهبها لبنته حين زوّجها له، وأخذ يحكم من دار الخلافة، فاحتاج إليها أبو عبد الله بعد فباعها له وبخسه أبو يوسف في قيمتها. وكان ذلك من دواعي العداوة بينهما. ثم هلك أبو عبد الله بعد مهلك أخيه بثمانية أشهر، وقام بالأمر بعده بالبصرة أخوهما أبو الحسن، فأساء السيرة في الجند فثاروا به ليقتلوه، فهرب منهم إلى هجر مستجيرا بالقرامطة، وولّوا عليهم بالبصرة أبا القاسم ابن أخيه أبي عبد الله، وأمدّ أبو طاهر القرمطيّ أبا الحسن، وبعث معه أخويه لحصار البصرة فامتنعت عليهم، وأصلحوا بين أبي القاسم وعمّه، ودخل البصرة وسار منها إلى تورون ببغداد. ثم طمع يأنس مولى أبي عبد الله في الرئاسة وداخل بعض قوّاد الديلم في الثورة بأبي القاسم، واجتمع الديلم إلى القائد وبعث أبو القاسم وليه يأنس فهمّ به ليفرد بالأمر، فهرب يأنس واختفى وتفرّق الديلم واختفى القائد. ثم قبض عليه ونفاه وقبض على يأنس بعد أيام وصادره على مائة ألف دينار، وقتله. ولما قدم أبو الحسين البريدي إلى بغداد مستأمنا إلى تورون فأمّنه وطلب الإمداد على ابن أخيه، وبذل في ذلك أموالا. ثم بعث ابن أخيه من البصرة بالأموال فأقرّه على عمله وشعر أبو الحسن بذلك فسعى عند ابن تورون في ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه، وضرب واستظهر أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي بفتاوى الفقهاء والقضاة بإباحة دم أبي الحسين، كانت عنده من أيام ناصر الدولة، وأحضروا بدار المتّقي وسئلوا عن فتاويهم، فاعترفوا بأنهم أفتوا بها، فقتل وصلب ثم أحرق ونهب داره. وكان ذلك منتصف ذي الحجة من السنة، وكان ذلك آخر أمر البريديين.(3/517)
الصوائف أيام المتّقي
خرج الروم سنة ثلاثين أيّام المتّقي وانتهوا إلى قرب حلب فعاثوا في البلاد وبلغ سبيهم خمسة آلاف. وفيها دخل ثمل من ناحية طرسوس فعاث في بلاد الروم، وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم، وأسر عدّة من بطارقتهم. وفي سنة إحدى وثلاثين بعث ملك الروم إلى المتّقي يطلب منه منديلا في بيعة الرّها زعموا أنّ المسيح مسح به وجهه، فارتسمت فيه صورته، وأنه يطلق فيه عددا كثيرا من أسرى المسلمين، واختلف الفقهاء والقضاة في إسعافه بذلك، وفيه غضاضة أو منعه ويبقى المسلمون بحال الأسر. فأشار عليه عليّ ابن عيسى بإسعافه لخلاص المسلمين، فأمر المتّقي بتسليمه إليهم. وبعث إلى ملك الروم من يقوم بتسليم الأسرى. وفي سنة اثنتين وثلاثين خرجت طوارق من الروس [1] في البحر إلى نواحي أذربيجان، ودخلوا في نهر اللكز إلى بردعة. وبها نائب المرزبان ابن محمد بن مسافر ملك الديلم بأذربيجان، فخرج في جموع الديلم والمطوعة فقتلوهم، وقاتلوهم فهزموهم الروس وملكوا البلد، وجاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية لقتالهم فامتنعوا بها، ورماهم بعض العامّة بالحجارة فأخرجوهم من البلد وقاتلوا من بقي، وغنموا أموالهم واستبدّوا بأولادهم ونساءهم. واستنفر المرزبان الناس وزحف إليهم في ثلاثين ألفا، فقاتلوهم فامتنعوا عليه فأكمن لهم بعض الأيام فهزمهم وقتل أميرهم، ونجا الباقون إلى حصن البلد، وحاصرهم المرزبان وصابرهم. ثم جاءه الخبر بأنّ أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان بلغ سلماس موجها إلى أذربيجان بعثه إليها ابن عمّه ناصر الدولة ليتملكها، فجهّز عسكرا لحصار الروس في بردعة، وسار إلى قتال ابن حمدان. فارتحل ابن حمدان راجعا إلى ابن عمه باستدعائه بالانحدار إلى بغداد. لما مات تورون وأقام العسكر على حصار الروس ببردعة، حتى هربوا من البلد وحملوا ما قدروا عليه، وطهّر الله البلد منهم. وفيها ملك الروم رأس عين واستباحوها ثلاثا وقاتلهم الأعراب ففارقوها.
__________
[1] الروس وهم المسمون الآن بالموسقو وهم عدد كثير (أهـ-) من خط الشيخ العطار.(3/518)
الولايات أيام المتقى
قد تقدّم لنا أنه لم يكن بقي في تصريف الخليفة إلّا أعمال الأهواز والبصرة وواسط والجزيرة والموصل لبني حمدان. واستولى معزّ الدولة على الأهواز ثم على واسط، وبقيت البصرة بيد أبي عبد الله بن البريدي واستولى على بغداد مع المتّقى يحكم، ثم ابن البريدي، ثم تورتكين الديلميّ، ثم ابن رائق ثانية، ثم ابن البريدي ثانية، ثم حمدان، ثم تورون. يختلفون على المتّقى واحدا بعد واحد، وهو مغلب لهم والحلّ والعقد والإبرام والنقض بأيديهم، ووزير الخليفة عامل من عمّالهم متصرّف تحت أحكامهم، وآخر من دبّر الأمور أبو عبد الله الكوفي كاتب تورون، وكان قبله كاتب ابن رائق، وكان على الحجبة بدر بن الجرسيّ، فعزل عنها سنة ثلاثين وجعل مكانه سلامة الطولوني وولي بدر طريق الفرات ففزع إلى الإخشيد واستأمن إليه فولّاه دمشق. وكان من المستبدّين في النواحي يوسف بن وجيه، وكان صاحب الشرطة ببغداد أبا العبّاس الديلميّ.
خلع المتّقي وولاية المستكفي
لم يزل المتّقي عند بني حمدان من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين إلى آخر السنة، ثم آنس منهم الضجر واضطرّ لمراجعة تورون، فأرسل إليه الحسن بن هارون وأبا عبد الله بن أبي موسى الهاشميّ في الصلح، وكتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فجاءه وانتهى إلى حلب وبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمّه ناصر الدولة، فارتحل عنها وتخلّف عنه ابن مقاتل، وقد كان صادره ناصر الدولة على خمسين ألف دينار، فاستقدم الإخشيد وولّاه خراج مصر. وسار الإخشيد من حلب ولقي المتّقي بالرقّة، وأهدى إليه والي الوزير بن الحسين بن مقلة وسائر الحاشية، واجتهد به أن يسير معه إلى مصر ليقيم خلافته هنالك فأبى، فخوّفه من تورون فلم يقبل. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر فيحكّمه في البلاد فأبى، وكانوا ينتظرون عود رسلهم من تورون، فبعثوا إليهم بيمين تورون والوزير ابن شيرزاد بمحضر القضاة والعدول والعبّاسيّين والعلويّين وغيرهم من طبقات الناس. وجاء الكتاب بخطوطهم بذلك وتأكيد اليمين، ففارق المتّقي(3/519)
الإخشيد وانحدر من الوقت في الفرات آخر المحرّم سنة ثلاث وثلاثين، ولقيه تورون بالسندية فقبّل الأرض وقال: قد وفّيت بيميني! ووكّل به وبأصحابه وأنزله في خيمته. ثم سمله لثلاث سنين ونصف من خلافته، وأحضر أبا القاسم عبد الله بن المكتفي فبايعه الناس على طبقاتهم، ولقّب المستكفي، وجيء بالمتّقي فبايعه وأخذت منه البردة والقضيب واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامريّ، فكان له اسم الوزارة على سنن من قبله، والأمور راجعة لابن شيرزاد كاتب تورون. ثم خلع المستكفي على تورون وتوجه وحبس المتّقي. وطلب أبا القاسم الفضل بن المقتدر الّذي لقّب فيما بعد بالمطيع، فاختفى سائر أيامه وهدمت داره.
وفاة توزون وامارة ابن شيرزاد
وفي المحرّم من سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة مات توزون ببغداد لست سنين وخمسة أشهر من إمارته، وكان ابن شيرزاد كاتبه أيامه كلّها، وبعثه قبل موته لاستخلاص الأموال من هيت. فلما بلغه خبر الوفاة عزم على عقد الإمارة لناصر الدولة بن حمدان، فأبى الجند من ذلك واضطربوا وعقدوا له الرئاسة عليهم، واجتمعوا عليه وحلفوا، وبعث إلى المستكفي ليحلف له، فأجابه وجلف له بحضرة القضاة والعدول، ودخل إليه ابن شيرزاد فولّاه أمير الأمراء، وزاد في الأرزاق زيادة متّسعة فضاقت عليه الأموال، فبعث أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشميّ إلى ابن حمدان يطالبه بالمال ويعده بإمارة الأمراء، فأنفذ إليه خمسمائة ألف درهم وطعاما. وفرّقها في الجند فلم تكف ففرض الأموال على العمّال والكتّاب والتجّار لأرزاق الجند، ومدّت الأيدي إلى أموال الناس، وفشا الظلم وظهرت اللصوص وكبسوا المنازل، وأخذ الناس في الخلاص من بغداد. ثم استعمل على واسط ينال كوشه، وعلى تكريت الفتح السيكري، فسار إلى ابن حمدان ودعا له شكرا فولّاه عليها من قبله.
استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد واندراج أحكام الخلافة في سلطانهم
قد تقدّم لنا استبداد أهل النواحي على الخلافة منذ أيام المتوكّل، ولم يزل نطاق الدولة العبّاسية يتضايق شيئا فشيئا، وأهل الدولة يستبدّون واحدا بعد واحد إلى أن(3/520)
أحاطوا ببغداد وصاروا ولاة متعدّدة يفرد كل واحد منهم بالذكر وسياقة الخبر إلى آخرها. وكان من أقرب المستبدّين إلى مقر الخلافة بنو بويه بأصبهان وفارس، ومعزّ الدولة منهم بالأهواز. وقد تغلّب على واسط، ثم انتزعت منه. وبنو حمدان بالموصل والجزيرة، وقد تغلب على هيت وصارت تحت ملكهم، ولم يبق للخلفاء إلّا بغداد ونواحيها ما بين دجلة والفرات وأمراؤهم مع ذلك مستبدّون عليهم، ويسمّون القائم بدولتهم أمير الأمراء كما مرّ في أخبارهم إلى أن انتهى ذلك إلى دولة المتّقي والقائم بها ابن شيرزاد. وولي على واسط ينال كوشه كما قلنا فانحرف عن ابن شيرزاد وكاتب معزّ الدولة، وقام بدعوته في واسط واستدعاه لملك بغداد. فزحف في عساكر الديلم إليها ولقيه ابن شيرزاد والأتراك وهربوا إلى ابن حمدان بالموصل، واختفى المستكفي وقدّم معزّ الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلّبيّ إلى بغداد، فدخلها وظهر الخليفة، فظهر عنده المهلبيّ وجدّد له البيعة عن معزّ الدولة أحمد بن بويه، وعن أخويه عماد الدولة عليّ وركن الدولة الحسن. وولّاهم المستكفي على أعمالهم ولقبهم بهذه الألقاب ورسمها على سكّته. ثم جاءه معزّ الدولة إلى بغداد وملكها، وصرف الخليفة في حكمه، واختصّ باسم السلطان. فبقيت أخبار الدولة إنما تؤثر عنهم، وإن كان منها ما يختص بالخليفة فقليل. فلذلك صارت أخبار هؤلاء الخلفاء منذ المستكفي إلى المتّقي مندرجة في أخبار بني بويه والسلجوقيّة من بعدهم لعطلهم من التصرّف إلا قليلا يختصّ بالخلفاء نحن ذاكروه ونرجئ بقية أخبارهم إلى أخبار الديلم والسلجوقيّة الغالبين على الدولة عند ما نفرد دولتهم كما شرطناه.
الخبر عن الخلفاء من بني العباس المغلبين لدولة بني بويه من السلجوقية من بعدهم من لدن المستكفي إلى المتقي وما لهم من الأحوال الخاصة بهم ببغداد ونواحيها
لما دخل معزّ الدولة بن بويه إلى بغداد غلب على المستكفي وبقي في كفالته، وكان المستكفي في سنة ثلاث وثلاثين قبلها قبض على كاتبه أبي عبد الله بن أبي سليمان، وعلى أخيه، واستكتب أبا أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي في خاص أمره،(3/521)
وكان قبله كاتبا لابن حمدان، وكان يكتب للمستكفي قبل الخلافة. فلما نصّب للخلافة قدم من الموصل فاستكتبه المستكفي في هذه السنة على وزيره أبي الفرج لاثنتين وأربعين يوما من وزارته، وصادره على ثلاثمائة ألف درهم. ولما استولى معزّ الدولة ببغداد على الأمر وبعث أبو القاسم البريدي صاحب البصرة ضمن واسط وأعمالها وعقد له عليها.
خلع المستكفي وبيعة المطيع
وأقام المستكفي بعد استيلاء معزّ الدولة على الأمر أشهرا قلائل، ثم بلغ معزّ الدولة أنّ المستكفي يسعى في إقامة غيره، فتنكّر له، ثم أجلسه في يوم مشهود لحضور رسول من صاحب خراسان، وحضر هو في قومه وعشيرته، وأمر رجلين من نقباء الديلم جاءا ليقبّلا يد المستكفي، ثم جذباه عن سريره وساقاه ماشيا. وركب معزّ الدولة وجاء به إلى داره فاعتقله بها، واضطرب الناس وعظم النهب ونهب دار الخلافة، وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي، وكان ذلك في جمادى الآخرة لسنة وأربعة أشهر من خلافته. ثم بويع أبو القاسم الفضل بن المقتدر، وقد كان المستكفي طلبه حين ولي لاطلاعه على شأنه في طلب الخلافة، فلم يظفر به واختفى. فلما جاء معزّ الدولة تحوّل إلى داره واختفى عنده، فلما قبض على المستكفي بويع له ولقّب المطيع للَّه، ثم أحضر المستكفي عنده فأشهد على نفسه بالخلع، وسلّم عليه بالخلافة، ولم يبق للخليفة من الأمر شيء البتة منذ أيام معزّ الدولة. ونظر وزير الخليفة مقصور على أقطاعه ونفقات داره والوزارة منسوبة إلى معزّ الدولة وقومه من الديلم شيعة للعلويّة منذ إسلامهم على يد الأطروش، فلم يكونوا من شيعة العبّاسية في شيء ولقد يقال بأنّ معزّ الدولة اعتزم على نقل الخلافة منهم إلى العلويّة، فقال له بعض أصحابه.
لا تولّ أحدا يشركك قومك كلّهم في محبته والاشتمال عليه، وربما يصير لهم دونك، فأعرض عن ذلك وسلبهم الأمر والنهي، وتسلّم عمّاله وجنده من الديلم وغيرهم أعمال العراق وسائر أراضيه، وصار الخليفة إنما يتناول منه ما يقطعه معزّ الدولة ومن بعده فما يسدّ بعض حاجاته. نعم إنهم كانوا يفردونهم بالسرير والمنبر والسكّة والختم على الرسائل والصكوك والجلوس للوفد وإجلالهم في التحية والخطاب، وكل ذلك طوع القائم على الدولة، وكان يفرد في كل دولة بني بويه والسلجوقية بلقب السلطان(3/522)
مما لا يشاركه فيه أحد، ومعنى الملك من تصريف القدرة وإظهار الأبهة والعزّ حاصل له دون الخليفة وغيره، وكانت الخلافة حاصلة للعبّاسيّ المنصوب لفظا مسلوبة معنى، والله المدبّر للأمور لا إله غيره.
انقلاب حال الدولة بما تجدّد في الجباية والأقطاع
لما استولى معزّ الدولة طلب الجند أرزاقهم على عادتهم وأكثر لسبب ما تجدّد من الاستيلاء الّذي لم يكن له، فاضطرّ إلى ضرب المكوس وأخذ أموال الناس من غير وجهها، وأقطع قوّاده وأصحابه من أهل عصبيته وغير المساهمين له في الأمر جميع القرى التي بجانب السلطان، فارتفعت عنها أيدي العمّال وبطلت الدواوين واختلف حال القرى في العمارة عما كان في أيدي القوّاد والرؤساء، حصل بهم لأهلها الرّفق فزادت عمارتها وتوفّر دخلها. ولم تكن مناظرتهم في ذلك ولا تقديره عليهم، وما كان بأيدي العامّة والأتباع عظم خرابه لما كان يعدم من الغلاء والنهب واختلاف الأيدي وما يزيد الآن من الظلم ومصادرات الرعايا والحيف في الجباية وإهمال النظر في تعديل القناطر والمشارب، وقسّم المياه على الأرضين فإذا خربت قراهم ردّوها وطلبوا العوض عنها فيصير الآخر منها لما صار إليه الأوّل. ثم أمر معزّ الدولة قوّاده وأصحابه بحماية الأقطاع والضياع وولاتها، وصارت الجبايات لنظرهم والتعويل في المرتفع على أخبارهم. فلا يقدر أهل الدواوين والحسابات على تحقيق ذلك عليهم، ولم يقف عند ذلك على غاية. فبطلت الأموال وصار جمعها من المكوس والظلامات، وعجز معزّ الدولة عن ذخيرة يعدّها لنوائب سلطانه. ثم استكثر من الموالي الأتراك ليجدع بهم من أنوف قومه، وفرض لهم الأرزاق وزاد لهم الأقطاع، فعظمت غيرة قومه من ذلك وآل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في طبيعة الدول.
دولة بني حمدان مسير ابن حمدان الى بغداد
ولما استولى معزّ الدولة على بغداد وخلع المستكفي، بلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان، فشقّ ذلك عليه، وسار من الموصل إلى بغداد وانتهى الى سامرّا في شعبان سنة أربع. وكان معزّ الدولة حين سمع قدوم عساكره مع ينال كوشه وقائد آخر،(3/523)
فقتل القائد ولحق بناصر الدولة [1] . وجاء ناصر الدولة إلى بغداد فأقام بها وخالفه معزّ الدولة إلى تكريت فنهبها لأنها من أعماله. ثم عاد معزّ الدولة والمطيع فنزلوا بالجانب الغربي من بغداد، وقاتلوا ناصر الدولة بالجانب الشرقي وتقدّم ناصر الدولة إلى الأعراب بالجانب الغربي بقطع الميرة عن معزّ الدولة فغلت الأسعار وعزّت الأقوات، ومنع ناصر الدولة من الخطبة للمطيع والمعاملة بسكّته، ودعا للمتّقي وبيّت معز الدولة مرارا. وضاق الأمر به، واعتزم على ترك بغداد والعود إلى الأهواز. ثم أظهر الرحيل ذات ليلة وأمر وزيره أبا جعفر الصهيري [2] بالعبور في أكثر العساكر، وأقام بالكينة مكانه، وجاء ينال كوشه لقتاله فانهزم واضطرب عسكر ناصر الدولة وأجفلوا، وغنم الديلم أموالهم وأظهرهم. ثم أمّن معزّ الدولة الناس وعاد المطيع إلى داره في محرّم سنة خمس وثلاثين وقام التورونية عليه، فلمّا شعروا به نكروه وهمّوا بقتله، فأسرى هاربا ومعه ابن شيرزاد، وفرّ إلى الجانب الغربي. ثم لحق بالقرامطة فأجاروه وبعثوه إلى الموصل.
ثم استقرّ الصلح بينه وبين الدولة كما طلب، ولما فرّ عن الأتراك اتفقوا على تكين الشيرازي فولّوه عليهم وقبضوا على من تخلّف من كتابه وأصحابه، وساروا في اتّباعه إلى نصيبين، ثم إلى سنجار، ثم إلى الحديثة، ثم إلى السن، ولحق هنالك عسكر معزّ الدولة مع وزيره أبي جعفر الصهيري، وقد كان استمدّه ناصر الدولة. وسار ناصر الدولة وابن الصهيري إلى الموصل، فنزلوا عليها وأخذ الصهيري من ناصر الدولة ابن شيرزاد وحمله إلى معزّ الدولة وذلك سنة خمس وثلاثين.
استيلاء معزّ الدولة على البصرة
وفي هذه السنة انتقض أبو القاسم البريدي بالبصرة، فجهّز معز الدولة الجيش جماعة أعيانهم إلى واسط، ولقيهم جيش ابن البريدي في الماء على الظهر، فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة. ثم سار معزّ الدولة سنة ست وثلاثين إلى البصرة
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 453: «وفيها- 334- في رجب سيّر معزّ الدولة عسكرا فيهم موسى فيادة وينال كوشة الى الموصل في مقدمته، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشة بموسى فيادة ونهب سواده، ومضى هو ومن معه الى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل نحو العراق، ووصل ناصر الدولة الى سامرّا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معزّ الدولة بعكبرا.»
[2] الصميري: وقد مرّ ذكره قبل ذلك.(3/524)
ومعه المطيع لاستنقاذها من يد أبي القاسم بن البريدي وسلكوا إليها البرية، فبعث القرامطة يعذلون في ذلك معزّ الدولة فكتب يهدّدهم. ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم، وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه، وملك معزّ الدولة البصرة. ثم سار منها إلى الأهواز لتلقي أخيه عماد الدولة، وترك المطيع وأبا جعفر الصهيري بالبصرة. ولقي أخاه بأرّجان. ثم عاد إلى بغداد والمطيع معه وأراد السير إلى الموصل فأرسل إليه ناصر الدولة في الصلح وحمل المال فتركه. ثم انتقض سنة سبع وثلاثين فسار إليه معزّ الدولة، وملك الموصل، ولحق ناصر الدولة بنصيبين، وأخذ معزّ الدولة في ظلم الرعايا وعسفهم. ثم بعث إليه أخوه ركن الدولة بأصبهان بأنّ عسكر خراسان قصدت جرجان والريّ، واستمدّه فاضطرّ معزّ الدولة إلى صلح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة وما ملكه سيف الدولة من الشام ودمشق وحلب على ثمانية آلاف ألف ألف درهم، ويخطب لعماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة بني بويه، فاستقرّ الصلح على ذلك وعاد إلى بغداد.
ابتداء أمر بني شاهين بالبطيحة
كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة، وحصلت عنده جبايات، فهرب إلى البطيحة خوفا من الحكّام، وأقام بين القصب والآجام يقتات بصيد السمك والطير وكشف سابلة البطيحة. واجتمع عليه جماعة من الصيّادين واللصوص. ثم اشتدّ خوفه فاستأمن إلى أبي القاسم بن البريدي صاحب البصرة نقله جماعة الجامدة ونواحي البطائح. وجمع السلاح واتخذ مقاتل على تلال البطيحة وغلب على نواحيها، وسرّح معزّ الدولة وزيره أبا جعفر الصهيري سنة ثمان وثلاثين فقاتله وهرب واستأمن أهله وعياله. ثم جاء الخبر إلى معزّ الدولة بموت أخيه عماد الدولة بفارس، واضطراب أحواله بها. فكتب إلى الصهيري بالفرار إلى شيرزاد لإصلاح الأمور، فسار إليها وعاد عمران بن شاهين إلى البطيحة، واجتمع إليه أصحابه وقوي أمره. وبعث معزّ الدولة إلى قتاله روزبهان من أعيان عسكره، فأطال حصاره في مضايق البطيحة. ثم ناجزه الحرب فهزمه عمران وهرب عسكره، وصار أصحابه يطلبون البذرقة والخفارة من جند السلطان في السابلة، وانقطع طريق البصرة إلّا على الظهر. وكان الصهيري قد هلك وولّى مكانه المهلّبيّ، فكتب معزّ الدولة إلى المهلّبيّ وهو بالبصرة، فصعد إلى(3/525)
واسط وأمدّه بالقوّاد والسلاح، وأطلق يده في الإنفاق. فزحف إلى البطيحة وضيّق على عمران فانتهى إلى مضايق خفيّة، وأشار عليه روزبهان بمعاجلة القوم، وكتب إلى معزّ الدولة يشكو المطاولة من المهلّبيّ، فكتب إليه معزّ الدولة بالاستبطاء فبادر إلى المناجزة وتوغّل في تلك المضايق، فانهزم وقتل من أصحابه وأسر ونجا هو سباحة في الماء، وأسر عمران أكابر القوّاد حتى صالحه معزّ الدولة وقلّده البطائح وأطلق له أهله على أن يطلق القوّاد الذين في أسره فأطلقهم.
موت الصهيري ووزارة المهلبي
كان أبو جعفر محمد بن أحمد الصهيري وزيرا لمعزّ الدولة، وكان قد سار لقتال عمران واستخلف مكانه أبا محمد الحسن بن محمد المهلّبيّ، فعرفت كفايته وإصلاحه وأمانته، وتوفي أبو جعفر الصهيري محاصرا لعمران، فولّى معزّ الدولة مكانه أبا محمد المهلبيّ، فأحسن السيرة وأزال المظالم وخصوصا عن البصرة فكان فيها شعب كثيرة من المظالم من أيام أبي البريدي، وتنقّل في البلاد لكشف المظالم وتخليص الحقوق، فحسن أثره ونقم عليه معزّ الدولة بعض الأمور فنكبه سنة إحدى وأربعين وحبسه في داره ولم يعزله.
حصار البصرة
قد تقدّم لنا أنّ القرامطة أنكروا على معز الدولة مسيره إلى البصرة على بلادهم.
وذكرنا ما دار بينهم في ذلك. ولمّا علم يوسف بن وجيه استيحاشهم بعث إليهم يطمعهم في النصرة، واستمدّهم فأمدّوه. وسار في البحر سنة إحدى وأربعين، وبلغ الخبر إلى الوزير المهلبيّ، وقد قدم من شأن الأهواز. فسار إلى البصرة وسبق إليها ابن وجيه وقاتله فهزمه وظفر بمراكبه.
استيلاء معز الدولة على الموصل وعوده
قد تقدّم لنا صلح معزّ الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة. فلما كانت سنة سبع وأربعين أخرج حمل المال، فسار معزّ الدولة إلى الموصل في جمادى ومعه وزيره المهلبي، فاستولى على الموصل ولحق ناصر الدولة بنصيبين ومعه كتابه وجميع أصحابه، وحاشيته، ومن يعرف وجوه المنافع، وأنزلهم في قلعة كواشي وغيرها.(3/526)
وأمر الأعراب بقطع الميرة عن الموصل فضاقت الأبواب على عسكر معزّ الدولة، فسار عن الموصل إلى نصيبين واستخلف عليها سبكتكين الحاجب الكبير، وبلغه في طريقه أنّ أولاد ناصر الدولة بسنجار في عسكر، فبعث عسكرا فكبسوهم واشتغلوا بالنهب، فعاد إليهم أولاد ناصر الدولة وهم غازون فاستلحموهم، وسار ناصر الدولة عن نصيبين إلى ميافارقين. ورجع أصحابه إلى معزّ الدولة مستأمنين، فسار هو إلى أخيه سيف الدولة بحلب فتلقّاه وأكرمه وتراسلوا في الصلح على ألفي ألف درهم وتسعمائة ألف درهم، وإطلاق من أسر بسنجار وأن يكون ذلك في ضمان سيف الدولة فتمّ بينهما، وعاد معزّ الدولة إلى العراق في محرّم سنة ثمان وأربعين.
بناء معز الدولة ببغداد
أصاب معزّ الدولة سنة خمسين مرض أشفي منه حتى وصّى، واستوخم بغداد فارتحل إلى كلواذا ليسر إلى الأهواز، وأسف أصحابه لمفارقة بغداد، فأشاروا عليه أن يبني لسكناه في أعاليها. فبنى دارا أنفق عليها ألف ألف دينار، وصادر فيها جماعة من الناس.
ظهور الكتابة على المساجد
كان الديلم كما تقدّم لنا شيعة لإسلامهم على يد الأطروش، وقد ذكرنا ما منع بني بويه من تحويل الخلافة عن العبّاسية إليهم. فلما كان سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة أصبح مكتوبا على باب الجامع ببغداد: لعن صريح في معاوية ومن غصب فاطمة فدك، ومن منع من دفن الحسن عند جدّه ومن نفى أبا ذر، ومن أخرج العبّاس من الشورى، ونسب ذلك إلى معزّ الدولة. ثم محى من الليلة القابلة، فأراد معزّ الدولة إعادته، فأشار المهلبيّ بأن يكتب مكان المحو: لعن معاوية فقط والظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة أمر الناس بإظهار الزينة والفرح لعبد العزيز من أعيان الشيعة. وفي السنة بعدها أمر الناس في يوم عاشوراء أن يغلقوا دكاكينهم ويقعدوا عن البيع والشراء ويلبسوا المسوح، ويعلنوا بالنياحة، وتخرج النساء مسبّلات الشعور مسوّدات الوجوه قد شققن ثيابهنّ ولطمن خدودهنّ حزنا على الحسين، ففعل الناس ذلك. ولم يقدر أهل السنّة على منعه لأنّ السلطان للشيعة وأعيد ذلك سنة ثلاث وخمسين فوقعت فتنة بين أهل السنة والشيعة ونهب الأموال.(3/527)
استيلاء معز الدولة على عمان وحصاره البطائح
انحدر معز الدولة سنة خمس وخمسين إلى واسط لقتال عمران بن شاهين بالبطائح فأنفذ الجيش من هنالك مع أبي الفضل العبّاس بن الحسن، وسار إلى الأبلّة فأنفذ الجيش إلى عمان، وكان القرامطة قد استولوا عليها وهرب عنها صاحبها نافع، وبقي أمرها فوضى، فاتفق قاضيها وأهل البلد أن ينصّبوا عليهم رجلا منهم فنصّبوه، ثم قتله بعضهم فولّوا آخر من قرابة القاضي يعرف بعبد الرحمن بن أحمد بن مروان، واستكتب عليّ بن أحمد الّذي كان وصل مع القرامطة كاتبا، وحضر وقت العطاء، فاختلف الزنج والبيض في الرضا بالمساواة وبعدمها واقتتلوا، فغلب الزنج وأخرجوا عبد الوهاب واستقرّ علي بن أحمد أميرا. فلمّا جاء معزّ الدولة إلى واسط هذه السنة، قدم عليه نافع الأسود صاحب عمان مستنجدا به، فانحدر به من الأبلّة، وجهّز له المراكب لحمل العساكر، وعليهم أبو الفرج محمد بن العبّاس بن فسانجس وهي مائة قطعة، فساروا إلى عمان وملكوها تاسع ذي الحجة من سنة خمس وخمسين، وقتلوا من أهلها وأحرقوا مراكبها، وكانت تسعة وثمانين، وعاد معزّ الدولة إلى واسط، وحاصر عمران، وأقام هنالك فاعتلّ وصالح عمران وانصرف عنه.
وفاة الوزير المهلبي
سار الوزير المهلبي في جمادى سنة اثنتين وخمسين إلى عمان ليفتحها فاعتلّ في طريقه ورجع إلى بغداد فمات في شعبان قبل وصوله، وحمل فدفن بها لثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر من وزارته. وقبض معزّ الدولة أمواله وذخائره وصارت إليه وحواشيه، ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العبّاس بن فسانجس ولم يلقّب أحد منهما بوزارة.
وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار
ولما رجع معزّ الدولة إلى بغداد اشتدّ مرضه فعهد بالسلطنة إلى ابنه عزّ الدولة، وتصدّق وأعتق. وتوفي في ربيع من سنة ست وخمسين لاثنتين وعشرين سنة من سلطنته، وولّى ابنه عز الدولة بختيار وقد كان أوصاه بطاعة عمّه ركن الدولة، وبطاعة ابنه عضد الدولة، لأنه كان أكبر سنا، وأخبر بالسياسة ووصّاه بحاجبه(3/528)
سبكتكين وبكاتبيه أبي الفضل العبّاس وأبي الفرج، فخالف وصاياه وعكف على اللهو وأوحش هؤلاء، ونفى كبار الديلم شرها في أقطاعاتهم. وشغب عليه الأصاعد فذادهم واقتدى بهم الأتراك، وجاء أبو الفرج محمد بن العبّاس من عمان بعد أن سلّمها إلى نوّاب عضد الدولة الذين كانوا في أمداده، وخشي أن يؤمر بالمقام بها وينفرد أبو الفضل صاحبه بالوزارة ببغداد، فكان كما ظنّ. ثم انتقض بالبصرة حبشيّ بن معز الدولة على أخيه بختيار سنة ست وخمسين، فبعث الوزير أبو الفضل العبّاس فسار موريا بالأهواز ونزل واسط وكتب إلى حبشي بأنه جاء ليسلمه البصرة وطلب منه المعونة على أمره فأنفذ اليه مائتي ألف درهم وأرسل الوزير خلال ذلك إلى عسكر الأهواز أن يوافوه بالأبلّة لموعد ضربه لهم، فوافوه وكبسوا حبشيا بالبصرة وحبسوه برامهرمز ونهبوا أمواله، وكان من جملة ما أخذ له عشرة آلاف مجلّد من الكتب وبعث ركن الدولة بتخليص حبشي ابن أخيه وجعله عند عضد الدولة فأقطعه إلى أن مات سنة سبع وستين.
عزل أبي الفضل ووزارة ابن بقية
لما ولى أبو الفضل وزارة بختيار كثر ظلمه وعسفه، وكان محمد بن بقية من حاشية بختيار، وكان يتولّى له المطبخ. فلما كثر شغب الناس من أبي الفضل عزله بختيار سنة اثنتين وستين وولّى مكانه محمد بن بقية، فانتشر الظلم أكثر، وخربت النواحي وظهرت العيّارون ووقعت الفتن بين الأتراك وبختيار، فأصلح ابن بقية بينهم وركب سبكتكين بالأتراك إلى بختيار، ثم أفسد بينهم وتحرّك الديلم على سبكتكين وأصحابه فأرضاهم بختيار بالمال ورجعوا عن ذلك. [1] كان ناصر الدولة بن حمدان قد قبض عليه ابنه أبو ثعلب وحبسه سنة ست وخمسين وطمع في المسير إلى بغداد، وجاء أخوه حمدان وإبراهيم فازعين إلى بختيار ومستنجدين به فشغل عنهما بما كان فيه من شأن البطيحة وعمان، حتى إذا قضى وطره من ذلك وعزل أبا الفضل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 631: «في هذه السنة- 363- في ربيع الأول سار بختيار الى الموصل ليستولي عليها وعلى اعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان. وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم الى بختيار، واستجارتهما به وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب. فوعدهما ان ينصرهما ويخلّص أعمالهما وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها» .(3/529)
الوزير واستوزر ابن بقية حمله على ذلك وأغراه به. فسار إلى الموصل ونزلها في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين. ولحق ابو ثعلب بسنجار بأصحابه وكتّابه ودواوينه. ثم سار إلى بغداد وبعث بختيار في أثره الوزير ابن بقية وسبكتكين فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين يحاربه في ظاهرها. ووقعت الفتنة داخل بغداد في الجانب الغربي بين أهل السنّة والشيعة. واتّفق سبكتكين وأبو ثعلب على أن يقبضا على الخليفة والوزير وأهل بختيار، ويعود سبكتكين إلى بغداد مستوليا وأبو ثعلب إلى الموصل. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك وتوقّف، وجاءه الوزير ابن بقية وأرسلوا إلى أبي ثعلب في الصلح.
وأن يضمن البلاد ويردّ على أخيه حمدان أقطاعه وأملاكه إلّا ماردين، وعاد أبو ثعلب إلى الموصل ورحل بختيار، وسار سبكتكين للقائه واجتمع بختيار وأبو ثعلب على الموصل، وطلب أبو ثعلب زوجته ابنة بختيار وأن يحطّ عنه من الضمان ويلقّب لقبا سلطانيا فأجيب إلى ذلك خشية منه، ورحل بختيار إلى بغداد. وسرّ أهل الموصل برحيله لما نالهم منه، وبلغه في طريقه أنّ أبا ثعلب قتل قوما من أصحابه.
وكانوا استأمنوا البختيار وزحفوا لنقل أهلهم وأموالهم فاشتدّ ذلك عليه، وكتب إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب ابن سبكتكين يستقدمهما في العساكر، فجاءوا وعادوا إلى الموصل، وعزم على طلبه حيث سار. فأرسل أبو ثعلب في الصلح. وجاء الشريف أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي وحلف على العلم في قتل أولئك المستأمنة، وعاد الصلح والاتفاق كما كان، ورجع بختيار إلى بغداد وبعث ابنته إلى زوجها أبي ثعلب.
الفتنة بين بختيار وسبكتكين والأتراك
كان بختيار قد قلّت عنده الأموال وكثرت مطالب الجند وشغبهم، فكان يحاول على جمع الأموال فتوجه إلى الموصل لذلك، ثم رجع فتوجه إلى الأهواز ليجدّد ريعه إلى مصادرة عاملها، وتخلّف عنه سبكتكين والأتراك الذين معه، ووقعت فتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز واقتتلوا ولجّ الأتراك في طلب ثأرهم، وأشار عليه أصحاب الديلم بقبض رؤساء الأتراك وقوّادهم ففعل، وكان من جملتهم عامل الأهواز وكاتبه، ونهبت أموالهم وبيوتهم، ونودي في البلد باستباحتهم، وبلغ الخبر إلى سبكتكين وهو ببغداد فنقض طاعة بختيار وركب في الأتراك وحاصر داره يومين(3/530)
وأحرقها وأخذ أخويه وأمّهما فبعثهم إلى واسط في ذي القعدة سنة ثلاث وستين، وانحدر المطيع معهم فردّه وترك الأتراك في دور الديلم ونهبوها وثارت العامة مع سبكتكين لأنّ الديلم كانوا شيعة وسفكت الدماء وأحرق الكرخ وظهر أهل السنّة.
خلع المطيع وولاية الطائع
كان المطيع قد أصابه الفالج وعجز عن الحركة وكان يتستّر به وانكشف حاله بسبكتكين في هذه الواقعة، فدعاه إلى أن يخلع نفسه ويسلّم الخلافة عبد الكريم ففعل ذلك منتصف ذي القعدة سنة ثلاث وستين لست وعشرين سنة ونصف من خلافته، وبويع ابنه عبد الكريم ولقب الطائع.
الصوائف
وعادت الصوائف منذ استبدّ ناصر الدولة بن حمدان بالموصل وأعمالها، وملك سيف الدولة أخوه مدينتي حلب وحمص سنة ثلاث وثلاثين، فصار أمر الصوائف إليه فنذكرها في أخبار دولتهم. فقد كان لسيف الدولة فيها آثار وكان للروم في أيامه جولات حسنت فيها مدافعته. وأمّا الولايات فانقطعت منذ استيلاء معزّ الدولة على العراق، وانقسمت الدولة الإسلامية دولا نذكر ولايات كلّ منها في أخبارها عند انفرادها على ما شرطناه.
فتنة سبكتكين وموته وامارة افتكين [1]
لما وقع بختيار في الأتراك بالأهواز ما وقع وانتقض سبكتكين ببغداد عمد بختيار إلى من حبسه من الأتراك فأطلقهم، وولّى منهم على الأتراك زادويه الّذي كان عامل الأهواز، وسار إلى واسط للقائه وأخويه، وكتب إلى عمه ركن الدولة وابن عمه عضد الدولة يستنجدهما، وإلى أبي ثعلب بن حمدان في المدد بنفسه، ويسقط عنه مال الأقطاع، وإلى عمران بن شاهين بالبطيحة كذلك، فجهّز إليه عمّه ركن الدولة العسكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وكتب إلى ابن عمّه عضد الدولة بالمسير معه فتثاقل وتربّص بختيار طمعا في ملك العراق. وأمّا عمران بن شاهين فدافع واعتذر
__________
[1] ألفتكين: ابن الأثير ج 8 ص 648.(3/531)
بأنّ عسكره لا يفتكون في الديلم لما كان بينهم، وأمّا أبو ثعلب فبعث أخاه أبا عبد الله الحسين في عسكر إلى تكريت. فلما سار الأتراك عن بغداد إلى واسط لقتال بختيار وجاء هو إليها ليقيم الحجة في سقوط الأقطاع عنه، ووجد الفتنة حامية بين العيّارين فكفّ القسامة وانتظر ما يقع ببختيار فيدخل بغداد ويملكها. ولمّا سار الأتراك إلى واسط حملوا معهم خليفتهم الطائع للَّه وأباه المطيع المخلوع، وانتهوا إلى دير العاقول فهلك المطيع وسبكتكين معا، وولى الأتراك عليهم أفتكين من أكابر قوّادهم ومولى معزّ الدولة، فانتظم أمرهم وساروا إلى واسط وحاصروا بها بختيار خمسين يوما حتى اشتدّ عليه الحصار وهو يستحثّ عضد الدولة.
نكبة بختيار على يد عضد الدولة ثم عوده الى ملكه
لما تتابعت كتب بختيار إلى عضد الدولة باستحثاثه سار في عساكر فارس، وجاءه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه إلى الأهواز في عساكر الريّ وساروا إلى واسط، وأجفل عنها أفتكين والأتراك إلى بغداد ورجع أبو ثعلب إلى الموصل. ولما جاء عضد الدولة إلى واسط سار إلى بغداد في الجانب الشرقي، وسار بختيار في الجانب الغربي وحاصروا الأتراك ببغداد من جميع الجهات. وأرسل بختيار إلى ضبّة بن محمد الأسدي من أهل عين النمر وإلى أبي سنان وأبي ثعلب بن حمدان بقطع الميرة والإغارة على النواحي فغلا السعر ببغداد وثار العيّارون ووقع النهب، وكبس أفتكين المنازل في طلب الطعام فعظم الهرج، وخرج أفتكين والأتراك للحرب فلقيهم عضد الدولة فهزمهم وقتل أكثرهم واستباحهم، ولحقوا بتكريت وحملوا الخليفة معهم، ودخل عضد الدولة إلى بغداد في جمادى سنة أربع وستين. وحاول في ردّ الخليفة الطائع فردّه وأنزله بداره وركب للقائه الماء في يوم مشهود. ثم وضع الجند على بختيار فشغبوا عليه في طلب أرزاقهم وأشار عليه بالغلظة عليهم، والاستعفاء من الإمارة، وأنّه عند ذلك يتوسّط في الإصلاح فأظهر بختيار التخلّي، وصرف الكتّاب والحجّاب ثقة بعضد الدولة، وتردّد السفراء بينهم ثلاثا ثم قبض عضد الدولة على بختيار وإخوته ووكّل بهم، وجمع الناس وأعلمهم بعجز بختيار ووعدهم بحسن النظر وقام بواجبات الخلافة. وكان المرزبان بن بختيار أميرا بالبصرة فامتنع فيها على عضد الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على أبيه بختيار من ابنه عضد الدولة ووزيره ابن(3/532)
العميد، فأصابه من ذلك المقيم المقعد حتى لقد طرقه المرض الّذي لم يستقل منه.
وكان ابن بقية وزير بختيار قد سار إلى عضد الدولة وضمّنه واسط وأعمالها فانتقض عليه بها، وداخل عمران بن شاهين في الخلافة فأجابه، وكتب إلى مهل بن بشر وزير أفتكين بالأهواز وقد كان عضد الدولة ضمّنه إياها وبعثه إليها مع جيش بختيار فاستماله ابن بقية، وخرجت إليه جيوش عضد الدولة فهزمهم، وكاتب أباه ركن الدولة بالأحوال، وأوعز ركن الدولة إليه وإلى المرزبان بالبصرة على المسير بالعراق لإعادة بختيار. واضطربت النواحي على عضد الدولة لإنكار أبيه، وانقطع عن مدد فارس وطمع فيه الأعداء، فبعث أبا الفتح بن العميد إلى أبيه يعتذر عمّا وقع، وأنّ بختيار عجز ولا يقدر على المملكة وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم، ويبعث بختيار وإخوته إليه لينزله بأيّ الأعمال أحب، ويخبر أباه في نزوله العراق لتدبير الخلافة ويعود هو إلى فارس، وتهدد أباه بقتل بختيار وإخوته وجميع شيعهم إن لم يوافق على واحدة من هذه. فخاف ابن العميد غائلة هذه الرسالة وأشار بإرسال غيره وأن يمضي هو بعدها كالمصلح فبعث عضد الدولة غيره. فلمّا ألقى الرسالة غضب ركن الدولة ووثب إلى الرسول ليقتله، ثم ردّه بعد أن سكن غضبه، وحمله إلى عضد الدولة من الشتم والتقريع على ما فعله وعلى ما يطلب منه من كل صعب من القول. وجاء ابن العميد على أثر ذلك فحجبه وتهدّده، ثم لم يزل يسترضيه بجهده واعتذر بأن قبوله لهذه الرسالة حيلة على الوصول إليه والخلاص من عضد الدولة، وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس وتقرير بختيار بالعراق، فأجاب عضد الدولة إلى ذلك وأفرج عن بختيار وردّه إلى السلطنة على أن يكون نائبا عنه ويخطب عنه، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لعجز بختيار، وردّ عليهم ما أخذ لهم وسار إلى فارس وأمر ابن العميد أن يلحق به بعد ثلاث فتشاغل مع بختيار باللذات ووعده أن يصير إلى وزارته بعد ركن الدولة. وأرسل بختيار عن ابن بقية فقام بأمر الدولة واحتجن الأموال فإذا طولب بها دسّ للجند فشغبوا حتى تنكّر له بختيار واستوحش هو.
خبر افتكين
ولما انهزم أفتكين من عضد الدولة بالمدائن لحق بالشام ونزل قريبا من حمص، وقصد ظالم بن موهوب أمير بني عقيل العلويّة بالشام فلم يتمكن منه، وسار أفتكين إلى(3/533)
دمشق وأميرها ريّان خادم المعز لدين الله العلويّ وقد غلب عليه الأحداث فخرج إليه مشيخة البلد وسألوه أن يملكهم ويكفّ عنهم سرّ الأحداث وظلم العمّال، واعتقاد الرافضة فاستحلفهم على ذلك ودخل دمشق وخطب فيها للطائع في شعبان سنة أربع وستين. ورجع أيدي العرب من ضواحيها وفتك فيهم وكثرت جموعه وأمواله وكاتب المعزّ بمصر يداريه بالانقياد، فكتب يشكره ويستدعيه ليولّيه من جهته، فلم يثق إليه فتجهّز لقصده، ومات في طريقه سنة خمس وستين كما نذكر بقية خبره في دولتهم.
ملك عضد الدولة بغداد وقتل بختيار
ولما انصرف عضد الدولة إلى فارس كما ذكرناه أقام بها قليلا ثم مات أبوه ركن الدولة سنة ست وستين بعد أن رضي عنه وعهد له بالملك كما نذكره في خبره. فلمّا مات شرع بختيار ووزيره ابن بقية في استمالة أهل أعماله مثل أخيه فخر الدولة وحسنويه الكردي وطلب ابن حمدان وعمران بن شاهين في عدوانه فسار عضد الدولة لطلب العراق واستمدّ حسنويه وابن حمدان فواعداه ولم يبعداه فسار إلى الأهواز، ثم سار إلى بغداد، ولقيه بختيار فهزمه عضد الدولة واستولى على أمواله وأثقاله ولحق بواسط، وحمل إليه ابن شاهين أموالا وهدايا ودخل إليه مؤكدا للاستجارة به. ثم صعد إلى واسط، وبعث عضد الدولة عسكرا إلى البصرة فملكوها، وكانت مصر شيعة له دون ربيعة. وجمع بختيار ما كان له ببغداد والبصرة في واسط وقبض على ابن بقية وأرسل عضد الدولة في الصلح واختلفت الرسائل، وجاءه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في ألف فارس مددا فانتقض وسار إلى بغداد وسار عضد الدولة إلى واسط ثم إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهم مائة وعشرين سنة. ثم دخلت سنة سبع وستين فقبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميدي وزير أبيه وجدع أنفه وسمل إحدى عينيه لما بلغه عنه في مقامه بالفرات عند بختيار. ولما اطلع عليه من مكاتبته إيّاه فبعث إلى أخيه فخر الدولة بالريّ بالقبض عليه وعلى أهله فقبض عليه وأخذ داره بما فيها. ثم سار عضد الدولة إلى بغداد سنة وسبع وستين.
وبعث إلى بختيار يخيّره في الأعمال فأجاب إلى طاعته، وأمره بإنفاذ ابن بقية إليه ففقأ عينيه وأنفذه، وخرج عن بغداد بقصد الشام، ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها وضرب على بابه ثلاث توتات ولم يكن شيء من ذلك لمن قبله، وأمر(3/534)
بابن بقية فرمي بين الفيلة فقتلته. ولما سار بختيار إلى الشام ومعه حمدان أخو أبي ثعلب وانتهوا إلى عكبرا أحسن له حمدان وقصد الموصل. وكان عضد الدولة قد استحلفه أن لا يدخل ولاية أبي ثعلب فنكث وقصدها، وجاءته رسل أبي ثعلب بتكريت في إسلام أخيه حمدان إليه فيمدّه بنفسه، ويعيده إلى ملكه فقبض على حمدان وبعثه مع نوّابه فحبسه وسار أبو ثعلب إليه في عشرين ألف مقاتل [1] .
وزحفوا إلى بغداد ولقيهما عضد الدولة فهزمهما وأمر ببختيار فقتل صبرا في عدّة من أصحابه لإحدى عشرة سنة من ملكه.
استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدان
ثم سار عضد الدولة بعد الهزيمة ومقتل بختيار إلى الموصل فملكها منتصف ذي القعدة من سنة سبع وستين، وكان حمل معه الميرة والعلوفات فأقام في رغد، وبثّ السراة في طلب أبي ثعلب، وراسله في ضمان البلاد على عادته فلم يجبه، فسار إلى نصيبين ومعه المرزبان بن بختيار وأبو إسحاق وطاهر أخو بختيار وأمّهم، فبعث عضد الدولة عسكرا إلى جزيرة ابن عمر مع حاجبه أبي عمر لحرب طغان [2] ، وعسكرا إلى نصيبين مع أبي الوفاء طاهر بن محمد ففارقها أبو ثعلب إلى ميافارقين واتّبعه أبو الوفاء إليها فامتنعت عليه. ولحق أبو ثعلب بأردن الروم ثم بالحسنيّة من أعمال الجزيرة، وتتبع أبو ثعلب قلاعه وأخذ أمواله في كواشي وغيرها، وعاد إلى ميافارقين. ثم سار عضد الدولة إليه بنفسه واستأمن إليه كثير من أصحابه، ورجع إلى الموصل وبعث العسكر في اتباعه فدخل بلاده فصاهره وردّ الرومي المملك عليهم في غير بيت الملك ليستعين به على أمره، واتبعه عسكر عضد الدولة فهزمهم ونجا إلى بلاد الروم لمساعدة
__________
[1] العبارة مشوشة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 691: «فسار بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلّفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودّة ومكاتبة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار الى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله ان يقبض على أخيه حمدان ويسلّمه إليه، وإذا فعل سار بنفسه وعساكره اليه، وقاتل معه عضد الدولة وإعادة الى ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلّمه الى نواب أبي تغلب، وسارا جميعا نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل» والملاحظ ان ابن خلدون يذكر ابن تغلب ابن ثعلب والثعلبي بدل التغلبي وقد أشرنا الى هذا في مكان سابق من هذا الكتاب.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 692: «فسيّر عضد الدولة سرية عليها حاجبه ابو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر» .(3/535)
ورد على شأنه لما يؤمّل من نصرته إياه. واتفق أن وردا انهزم فيئس منه أبو ثعلب وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد شهرين، حتى فتح عضد الدولة جميع بلاده كما يذكر في أخبار دولتهم، واستخلف أبا الوفاء على الموصل وعاد إلى بغداد وانقطع ملك بني حمدان عن الموصل حينا من الدهر.
وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة
ثم توفي عضد الدولة في شوّال سنة اثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من ملكه، واجتمع القوّاد والأمراء على ولاية ابنه كاليجار المرزبان وبايعوه ولقّبوه صمصام الدولة. وجاءه الطائع معزيا في أبيه، وبعث أخويه أبا الحسين أحمد وأبا طاهر فيروز شاه فانتقض أخوهم شرف الدولة بكرمان في فارس، وسبق إليها أخويه وملكها وأقاما بالأهواز، وقطع خطبة صمصام الدولة أخيه وخطب لنفسه، وتلقّب تاج الدولة. وبعث إليه صمصام الدولة عسكرا صحبة علي بن دنقش حاجب أبيه، وبعث شرف الدولة عسكره مع الأمير أبي الأغر دفليس بن عفيف الأسدي، والتقيا عند قرقوب، فانهزم ابن دنقش في ربيع سنة ثلاث وسبعين وأسر واستولى أبو الحسن على الأهواز ورامهرمز، وطمع في الملك. ثم إنّ أسفار بن كردويه من أكابر الديلم قام بدعوة شرف الدولة ببغداد سنة خمس وسبعين، واستمال كثيرا من العسكر، واتّفقوا على ولاية أبي نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه شرف الدولة، وراسلهم صمصام الدولة في الرجوع عن ذلك فلم يزدهم إلا تماديا. وأجابه فولاد بن مابدرار أنفة من متابعة أسفار وقاتله فهزمه. وأخذ أبا مضلّ أسيرا وأحضره عند أخيه صمصام الدولة، واتّهم وزيره ابن سعدان بمداخلتهم فقتله، ومضى أسفار إلى أبي الحسين بن عضد الدولة وباقي الديلم إلى شرف الدولة. وسار شرف الدولة إلى الأهواز فملكها من يد أخيه الحسين. ثم ملك البصرة من يده أخيه أبي طاهر وراسله صمصام الدولة في الصلح فاتفقوا على الخطبة لشرف الدولة بالعراق، وبعث إليه بالخلع والألقاب من الطائع.
نكبة صمصام الدولة وولاية أخيه شرف الدولة
لما ملك شرف الدولة من يد أخيه أبي طاهر سار إلى واسط فملكها، وعمد صمصام الدولة إلى أخيه أبي نصر وكان محبوسا عنده فأطلقه وبعثه إلى أخيه شرف الدولة(3/536)
بواسط يستعطفه به، فلم يلتفت إليه. وجزع صمصام الدولة واستشار أصحابه في طاعة أخيه شرف الدولة فخوّفوه عاقبته، وأشار بعضهم بالصعود إلى عكبرا ثم منها إلى الموصل وبلاد الجبل حتى يحدث من أمر الله في فتنة بين الأتراك والديلم أو غير ذلك ما يسهل العود، وأشار بعضهم بمكاتبة عمّه فخر الدولة والمسير على طريق أصبهان فيخالف شرف الدولة إلى فارس فربّما يقع الصلح على ذلك. فأعرض صمصام الدولة عن ذلك كله وركب البحر إلى أخيه شرف الدولة فتلقاه وأكرمه. ثم قبض عليه لأربع سنين من إمارته، وسار إلى بغداد في شهر رمضان من سنة ست وسبعين فوصلها وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله. واستفحل ملكه واستطال الديلم على الأتراك بكثرتهم فإنّهم بلغوا خمسة عشر ألفا، والأتراك ثلاثة آلاف. ثم كثرت المنازعات بينهم وعضّ الديلم وقتلوا منهم وغنموا أموالهم وسار بعضهم فذهب في الأرض، ودخل الآخرون مع شرف الدولة إلى بغداد، وخرج الطائع لتلقّيه وهنّأه وأصلح شرف الدولة بين الفريقين، وبعث صمصام الدولة إلى فارس فاعتقل بها واستوزر شرف الدولة أبا منصور بن صالحان.
ابتداء دولة باد وبني مروان بالموصل
قد تقدّم لنا أنّ عضد الدولة استولى على ملك بني حمدان بالموصل سنة سبع وستين، ثم استولى على ميافارقين وآمد وسائر ديار بكر من أعمالهم، وعلى ديار مضر أيضا من أعمالهم سنة ثمان وستين وولّى عليها أبا الوفاء من قوّاده، وذهب ملك بني حمدان من هذه النواحي وكان في ثغور ديار بكر جماعة من الأكراد الحميدية مقدّمهم أبو عبد الله الحسين بن دوشتك، ولقبه باد وكان كثير الغزو بتلك البلاد وإخافة سبلها. وقال ابن الأثير حدّثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية أنّ اسمه باد وكنيته أبو شجاع وأنّ الحسين هو أخوه وأنّ أوّل أمره أنه ملك أرجيش من بلاد أرمينية فقوي أهـ-. ولما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده وهمّ بقبضه، ثم سأل عنه فافتقده وكفّ عن طلبه.
فلما مات عضد الدولة استفحل أمره واستولى على ميافارقين، وكثير من ديار بكر، ثم على نصيبين. وقال ابن الأثير: سار من أرمينية إلى ديار بكر فملك ثم ميافارقين، وبعث صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير فهزمهم وأسر جماعة منهم، فبعث عساكر أخرى مع أبي القاسم سعيد بن الحاجب فلقيهم في بلد كواشى وهزمهم، وقتل منهم وأسر، ثم قتل الأسرى صبرا. ونجا سعيد إلى الموصل وباد(3/537)
في اتباعه فثار به [1] أهل الموصل نفورا من سوء سيرة الديلم فهرب منها ودخل باد وملك الموصل. وحدّث نفسه بالمسير إلى صمصام الدولة ببغداد وانتزاع بغداد من يد الديلم واحتفل فيه ولقيهم باد في صفر من سنة أربع وسبعين فهزموه وملكوا الموصل.
ولحق باد بديار بكر وجمع عليه عساكر. وكان بنو سيف الدولة بن حمدان بحلب قد ملكها معهم سعد الدولة ابنه بعد مهلكه، فبعث إليه صمصام الدولة أن يكفيه أمر باد على أن يسلّم إليه ديار بكر، فبعث سعد الدولة إليه جيشا فلم يكن لهم طاقة، وزحفوا إلى حلب فبعث سعد الدولة من اغتاله في مرقده بخيمته من البادية وضربه فاعتل وأشفى على الموت، وبعث إلى سعد وزياد الأميرين بالموصل فصالحهما على أن تكون ديار بكر والنصف من طور عبدين لباد، ورجع زياد إلى بغداد وهو الّذي جاء بعساكر الديلم وانهزم باد أمامه. ثم توفي سعد الحاجب بالموصل سنة سبع وسبعين فتجدّد لباد الطمع في ملكها، وبعث شرف الدولة على الموصل أبا نصر خواشاذه فدخل الموصل واستمدّ العساكر والأموال فأبطأت عنه فدعا العرب من بني عقيل وبني نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها. واستولى باد على طور عبدين وأقام بالجبل، وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فانهزم وقتل. وبينما خواشاذه يتجهّز لقتال باد جاءه الجند بموت شرف الدولة. ثم جاء أبو إبراهيم وأبو الحسين [2] ابنا ناصر الدولة بن حمدان أميرين على الموصل من قبل بهاء الدولة، وبقيت في ملكهما إلى سنة إحدى وثمانين، فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر الحجّاج بن هرمز فملكها، وزحف إليه أبو الرواد محمد بن المسيّب أمير بني عقيل فقاتله وبالغ في مدافعته واستمدّ بهاء الدولة فبعث إليه الوزير أبا القاسم عليّ بن أحمد وسار أوّل سنة اثنتين وثمانين وكتب إلى أبي جعفر بالقبض عليه بسعاية ابن المعلم، وشعر الوزير بذلك فصالح أبا الرواد ورجع ووجد بهاء الدولة قد قبض على ابن المعلّم وقتله.
وفاة شرف الدولة وملك بهاء الدولة
ثم توفي شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك [3] بن عضد الدولة في جمادى سنة تسع.
وسبعين لسنتين وثمانية أشهر من إمارته ودفن بمشهد على بعد أن طالت علّته
__________
[1] الضمير يعود الى سعيد.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 66: «ابو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين» .
[3] أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة: ابن الأثير ج 9 ص 61.(3/538)
بالاستسقاء، وبعث وهو عليل إلى أخيه صمصام الدولة بفارس فشمله، وبعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس ومعه الخزائن والعدد وجملة من الأتراك. وسئل شرف الدولة في العهد فملكه وأبي أن يعهد [1] واستخلف أخاه بهاء الدولة لحفظ الأمور في حياته.
فلما مات قعد في المملكة وجاء الطائع للعزاء وخلع عليه للسلطنة فأقرّ أبا منصور بن صالحان على وزارته، وبعث أبا طاهر إبراهيم وأبا عبد الله الحسين ابني ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل، وكان في خدمته شرف الدولة فاستأذنا بهاء الدولة بعد موته في الإصعاد إلى الموصل فأذن لهما. ثم ندم على ما فرّط في أمرهما وكتب إلى خواشاذه بمدافعتهما فامتنعا وجاءا ونزلا بظاهر الموصل. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك وخرجوا إلى بني حمدان، وقاتلوا الديلم فهزموهم، وقتل الديلم كثيرا منهم واعتصم الباقون بدار الإمارة فأخرجوهم على الأمان ولحقوا ببغداد، وملك بنو حمدان الموصل. وكان أبو علي بن شرف الدولة لما انصرف إلى فارس بلغه موت ابنه بالبصرة، فبعث العيال والأموال في البحر إلى أرّجان وسار هو إليها. ثم سار إلى شيراز فوافاه بها عمّه صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر قد أطلقهما الموكّلون بهما ومعهما قولاد، وجاءوا إلى شيراز، واجتمع عليهم الديلم وخرج أبو علي إلى الأتراك فاجتمعوا عليه، وقاتل صمصام الدولة والديلم أياما. ثم سار إلى نسا [2] فملكها وقتل الديلم بها. ثم سار إلى أرّجان وبعث الأتراك إلى شيراز لقتال صمصام الدولة فنهبوا البلد وعادوا إليه بأرّجان. ثم بعث بهاء الدولة إلى علي ابن أخيه يستقدمه، واستمال الأتراك سرّا فحملوا أبا علي على المسير إليه فسار في جمادى سنة ثمانين فأكرمه ثم قبض عليه وقتله.
ثم وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم واقتتلوا خمسة أيام. ثم راسلهم بهاء الدولة في الصلح فلم يجيبوا وقتلوا رسله فظاهر الأتراك عليهم فغلبوهم، واشتدّت شوكة الأتراك من يومئذ وضعف أمر الديلم وصالح بينهم على ذلك وقبض على بعض الديلم وافترقوا.
__________
[1] المعنى غير واضح والجملة مرتبكة وفي الكامل ج 9 ص 62: «فلما أيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه ان يملّك أحدا، فقال: انا في شغل عمّا تدعونني اليه» .
[2] فسا: المرجع السابق. ج 63.(3/539)
خروج القادر الى البطيحة
كان إسحاق بن المقتدر لما توفي ترك ابنه أبا العبّاس أحمد الّذي لقّب بالقادر، فجرت بينه وبين أخت له منازعة في ضيعة، ومرض الطائع مرضا مخوفا ثم أبلّ فسعت تلك الأخت بأخيها، وأنه طلب الخلافة في مرض الطائع فأنفذ أبا الحسين بن حاجب النعمان في جماعة للقبض عليه، وكان بالحريم الظاهري فغلبهم النساء عليه، وخرج من داره متسترا ثم لحق بالبطيحة ونزل على مهذب الدولة فبالغ في خدمته إلى أن أتاه بشير الخلافة.
فتنة صمصام الدولة
لما تغلّب صمصام الدولة على بلاد فارس وجاء أبو علي شرف الدولة إلى عمّه بهاء الدولة فقتله كما ذكرنا، سار بهاء الدولة من بغداد إلى خوزستان سنة ثمانين وثلاثمائة قاصدا بلاد فارس. واستخلف أبا نصر خواشاذه على بغداد، ولما بلغ خوزستان أتاه نعي أخيه أبي طاهر فجلس للعزاء به. ثم سار إلى أرّجان فملكها وأخذ ما فيها من الأموال وكان ألف ألف دينار وثمانية آلاف درهم، وكثيرا من الثياب والجواهر، وشغب الجند لذلك فأطلق تلك الأموال كلّها لهم، ثم سارت مقدّمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان، وبها عسكر صمصام الدولة فانهزموا وثبت أبو العلاء ابن الفضل في نواحي فارس. ثم بعث صمصام الدولة عسكره وعليهم قولاد بن مابدان فهزموا أبا العلاء وعاد إلى أرّجان، وجاءه صمصام الدولة من شيراز إلى قولاد، ثم وقع الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرّجان ولبهاء الدولة خوزستان وما وراءها من ملك العراق، وأن يكون لكل واحد منهما أقطاع في بلد صاحبه، وتعاقدا على ذلك، ورجع بهاء الدولة إلى بغداد فوجد الفتنة بين أهل السنّة والشيعة بجانب بغداد، وقد كثر القتل والنهب والتخريب فأصلح ذلك. وكان قبل سيره إلى خوزستان قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير، وكان الحكم والتدبير في دولته لأبي الحسين بن المعلّم.
خلع الطائع وبيعة القادر
ثم إنّ بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شغب الجند ومطالباتهم، وقبض على(3/540)
وزيره سابور فلم يغن عنه، وامتدّت عيناه إلى أموال الطائع وهمّ بالقبض عليه، وحسّن له ذلك أبو الحسين بن المعلّم الغالب على هواه فتقدّم إلى الطائع بالجيوش لحضوره في خدمته فجلس وجلس بهاء الدولة على كرسيّ، ثم جاء بعض الديلم يقبّل يد الطائع فجذبه عن سريره وأخرجه، ونهب قصور الخلافة وفشا النهب في الناس، وحمل الطائع إلى دار بهاء الدولة فأشهد عليه بالخلع سنة إحدى وثمانين لسبع عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وأرسل بهاء الدولة خواص أصحابه إلى البطيحة ليحضروا القادر باللَّه أبا العبّاس أحمد ابن إسحاق بن المقتدر ليبايعوه، فجاءوا به بعد أن بايع مهذّب الدولة صاحب البطيحة في خدمته وسار بهاء الدولة وأعيان الناس لتلقّيه فتلقّوه برحيل، ودخل دار الخلافة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، وخطب له صبيحتها وكانت مدّة إقامته بالبطيحة ثلاث سنين غير شهر، ولم يخطب له بخراسان وأقاموا على بيعة الطائع فأنزله بحجرة من قصره، ووكّل عليه من يقوم بخدمته على أتمّ الوجوه، وأجرى أحواله على ما كان عليه في الخلافة إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين فصلّى عليه ودفنه.
ملك صمصام الدولة الأهواز وعودها لبهاء الدولة ثم استيلاؤه ثانيا عليها
قد تقدّم لنا ما وقع بين بهاء الدولة وصمصام الدولة من الصلح على أن يكون له فارس ولبهاء الدولة خوزستان وما وراءها، وذلك سنة ثمان. ولما كانت سنة ثلاث وثمانين تحيّل بهاء الدولة فبعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز على أن يبعث إليه الجيوش مفترقة، فإذا اجتمعت كبس بلاد فارس على حين غفلة. وشعر صمصام الدولة بذلك قبل اجتماع العساكر، فبعث عساكره إلى خوزستان، ثم جاءت عساكر العراق والتقوا فانهزم ابو العلاء، وحمل إلى صمصام الدولة أسيرا فاعتقله، وبعث بهاء الدولة وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط يحاول له جمع المال فهرب إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة. ثم كثر شغب الديلم على بهاء الدولة ونهبوا دار الوزير نصر بن سابور واستعفى واستوزر أبا القاسم عليّ بن أحمد. ثم هرب وعاد سابور إلى الوزارة وأصلح الديلم، ثم أنفذ بهاء الدولة عسكره إلى الأهواز سنة أربع وثمانين وعليهم طغان التركي، وانتهوا إلى السوس فارتحل عنها أصحاب(3/541)
صمصام الدولة وملكها طغان، وكان أكثر أصحابه الترك وأكثر أصحاب صمصام الدولة الديلم ومعه تميم وأسد، فزحف إلى طغان بالأهواز، وأسرى من تستر ليكبس الأتراك الذين مع طغان فقتل في طريقه [1] وأصبح دونهم بمرأى منهم فركبوا لقتاله وأكمنوا له ثم قاتلوه فهزموه وفتكوا في الديلم بالقتل حربا وصبرا. وجاء الخبر إلى بهاء الدولة بواسط فسار إلى الأهواز فترك بها طغان، ورجع ولحق صمصام الدولة بفارس فاستلحم من وجد بها من الأتراك وهرب فلّهم إلى كرمان، واستأذنوا ملك السّند في اللحاق بأرضه فأذن لهم، ثم ركب لتلقيهم فقتلهم عن آخرهم. ثم جهّز صمصام الدولة عساكره إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن وكان أفتكين برامهرمز من قبل بهاء الدولة مكان أبي كاليجار المرزبان بن سفهيعون [2] وجاء بهاء الدولة إلى خوزستان للعلاء قائد صمصام الدولة، وكاتبه وكاتب أفتكين وابن مكرم إلى أن قرب منهم، وملك البلد من أيديهم وأقاموا بظاهرها، واستمدّوا بهاء الدولة فأمدّهم بثمانين من الأتراك فقتلوهم عن آخرهم، وسار بهاء الدولة نحو الأهواز، ثم عاد إلى البصرة وعاد ابن مكرم إلى عسكر مكرم والعلاء والديلم في اتّباعه إلى أن جاوزوا تستر إليه فاقتتلوا طويلا وأصحاب بهاء الدولة من تستر إلى رامهرمز وهم الأتراك وأصحاب صمصام لدولة من تستر إلى أرّجان فاقتتلوا ستة أشهر ورجعوا إلى الأهواز ثم رحل الأتراك إلى واسط واتبعهم العلاء قليلا ثم رجع وأقام بعسكر مكرم.
ملك صمصام الدولة البصرة
لما رحل بهاء الدولة إلى البصرة استأمن كثير من الديلم الذين معه إلى العلاء نحو من أربعمائة، فبعثهم مع قائده السكرستان [3] الى البصرة وقاتلوا أصحاب بهاء الدولة.
__________
[1] الظاهر من المعنى ان صمصام الدولة هو الّذي قتل ولكن المقصود غير ذلك وفي الكامل ج 9 ص 104: «وتوجه صمصام الدولة الى الأهواز ومعه عساكر الديلم وتميم وأسد. فلما بلغ تستر وصل ليلا ليكبس الأتراك من عسكر بهاء الدولة. فضلّ الأولاء في الطريق. فأصبح على بعد منهم.
ورأتهم طلائع الأتراك فعادوا بالخبر، فحذروا واجتمعوا. واصطفوا وجعل مقدّمهم واسمه طغان كمينا.
فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم فكانت الهزيمة. وانهزم صمصام الدولة ومن معه من الديلم.
وكانوا الوفاء كثيرة. واستأمن منهم أكثر من ألفي رجل، وغنم الأتراك من اثقالهم شيئا كثيرا» .
[2] أبي كاليجار المرزبان بن شهفيروز: ابن الأثير ج 9 ص 112.
[3] لشكرستان: ابن الأثير ج 9 ص 123.(3/542)
ومال إليهم أهل البلد ومقدّمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلويّ وارتاب بهم بهاء الدولة فهرب الكثير منهم إلى السكرستان وحملوه في السفن فأدخلوه البصرة. وخرج بهاء الدولة وأصحابه فكتب إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة يغريه بالبصرة، فبعث إليها جيشا مع قائده عبد الله بن مرزوق فغلب عليها السكرستان، وملكها المهذّب الدولة، ثم عاد السكرستان وقاتلها وكاتب مهذب الدولة بالصلح والطاعة والخطبة له بالبصرة، وأعطى ابنه رهينة على ذلك، فأجابه وملك البصرة وعسف بهم، وكان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذّب الدولة. ثم إنّ العلاء ابن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان توفي بعسكر مكرم فبعث مكانه أبا علي إسماعيل بن أستاذهرمز وسار الى جنديسابور فدفع عنها أصحاب بهاء الدولة وأزاح الأتراك عن ثغر خراسان جملة وعادوا إلى واسط وكاتب جماعة منهم ففزعوا إليه، ثم زحف إليهم أبو محمد مكرم، والأتراك وجرت بينهم وقائع، ثم انتقض أبو عليّ إسماعيل بن أستاذ هرمز ورجع إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط سنة ثمان وثمانين فاستوزره ودبّر أمره واستدعاه إلى مظاهرة قائده ابن مكرم بعسكر مكرم، فسار إليه وكانت من إسماعيل خديعة تورّط فيها بهاء الدولة واستمدّ بدر بن حسنويه، فأمدّه بعض الشيء وكاد يهلك، ثم جاءه الفرج بقتل صمصام الدولة.
مقتل صمصام الدولة
كان صمصام الدولة بن عضد الدولة مستوليا على فارس كما ذكرناه، وكان أبو القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين ببعض قلاع فارس، فجرّد الموكّلين بهما في القلعة وأخرجوا عنها واجتمع إليهما من الأكراد وكان جماعة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لما أسقطهم من الديوان، فلحقوا بابني بختيار وقصدوا أرّجان وتجهّز صمصام الدولة إليهم وكان أبو علي بن استاذ هرمز مقيما بنسا فثار به الجند، وحبسه ابنا بختيار ثم نجا. وقصد صمصام الدولة القلعة التي على شيراز ليتمنع فيها إلى أن يأتيه المدد، فلم يمكنه أن يأتيها من ذلك، وأشار عليه باللحاق بأبي علي بن أستاذ هرمز أو بالأكراد، وجاءته منهم طائفة فخرج معهم بأمواله فنهبوه وسار إلى الرودمان على مرحلتين من شيراز. وجاء أبو النصر بن بختيار إلى شيراز فقبض صاحب الرودمان على صمصام الدولة، وأخذه منه أبو نصر وقتله في ذي الحجّة سنة ثمان وثمانين لتسع سنين من إمارته على فارس.(3/543)
استيلاء بهاء الدولة على فارس
ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار بلاد فارس، كتبا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز في الأهواز بأخذ الطاعة لهما من الديلم، ومحاربة بهاء الدولة فخافهما أبو علي بما كان من قتله أخويهما، وأغرى الديلم بطاعة بهاء الدولة. وراسله واستحلفه لهم فحلف وضمن لهم غائلة الأتراك الذين معه، وأغراهم بثأر أخيه من ابني بختيار فدخلوا في طاعته، وجاءه وفد من أعيانهم فاستوثقوا منه وكتبوا إلى من كان بالسوس منهم بذلك. وركب بهاء الدولة إلى نائب السوس فقاتلوه أوّلا ثم اجتمعوا عليه وساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز وأرّجان، وملكوا سائر بلاد خوزستان. وسار أبو علي ابن إسماعيل إلى شيراز وقاتلهم وتسرّب إليه أصحاب ابني بختيار فاستولى على شيراز سنة تسع وثمانين، ولحق أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم وأبو القاسم ببدر بن حسنويه، ثم بالبطيحة، وكتب أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح فجاءه وترك شيراز وأحرق قرية الرودمان حيث قتل أخوه صمصام الدولة، واستأصل أهلها وبعث عسكرا مع أبي الفتح إلى جعفر بن أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها. ولما لحق أبو القاسم بن بختيار ببلاد الديلم، كاتب من هنالك الديلم الذين بكرمان وفارس تسلمهم فأجابوه وسار إلى بلاد فارس، واجتمع عليه كثير من الزطّ والديلم والأتراك. ثم سار إلى كرمان وبها أبو جعفر بن أستاذ هرمز فهزمه إلى السرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وأكثر كرمان، وبعث بهاء الدولة الموفّق بن علي بن إسماعيل في العساكر إلى جيرفت فاستأمن إليه من كان بها من أصحاب بختيار، وملكها، وتجرّد في جماعة من شجعان أصحابه لاتباع ابن بختيار فلحقه بدارين، وقاتله فغدر به بعض أصحابه فقتله وحمل رأسه إلى الموفّق، واستولى على بلاد كرمان وإسماعيل عليها، وعاد إلى بهاء الدولة فتلقّاه وعظّمه واستعفى الموفّق من الخدمة فلم يعفه، ولجّ الموفق في ذلك فقبض عليه بهاء الدولة، وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على ذويه، ثم قتله سنة اربع وتسعين واستعمل بهاء الدولة أبا محمد مكرما على عمان.
الخبر عن وزراء بهاء الدولة
قد ذكرنا أنّ بهاء الدولة كان استوزر أبا نصر بن سابور بن أردشير ببغداد وقبض على وزيره أبي منصور بن صالحان قبل مسيره إلى خوزستان، وأنّ أبا الحسن بن المعلّم(3/544)
كان يدبّر دولته وذلك منذ سنة ثمانين، فاستولى ابن المعلّم على الأمور وانصرفت إليه الوجوه، فأساء السيرة وسعى في أبي نصر خواشاده وأبي عبد الله بن طاهر فقبضهما بهاء الدولة مرجعه من خوزستان، وشغب الجند وطلبوا تسليمه إليهم، ولاطفهم فلم يرجعوا فقبض عليه وسلّمه إليهم فقتلوه وذلك سنة اثنتين وثمانين. ثم قبض على وزيره أبي نصر بالأهواز سنة إحدى وثمانين، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، ثم استوزر بعده أبا القاسم علي بن أحمد وقبض عليه سنة اثنتين وثمانين لاتّهامه بمداخلة الجند في أمر ابن المعلّم، واستوزر أبا نصر بن سابور وأبا منصور بن صالحان جميعا. وشغب الجند على أبي نصر ونهبوا داره سنة ثلاث وثمانين فاستعفى رفيقه ابن صالحان فاستوزر أبا القاسم علي بن أحمد، ثم هرب وعاد أبو نصر إلى الوزارة بعد أن أصلح أمور الديلم فاستوزر مكانه الفاضل، وقبض عليه سنة ست وثمانين واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير فبقي شهرين، وفرّق أموال بهاء الدولة في القوّاد ثم هرب إلى البطيحة فاستوزر بهاء الدولة مكانه عيسى بن ماسرخس.
ولاية العراق
كان بهاء الدولة منذ استولى على فارس سنة تسع وثمانين أقام بها وولّى على خوزستان والعراق أبا جعفر الحجّاج بن هرمز فنزل بغداد ولقيه عميد الدولة فساءت سيرته وفسدت أموال البلاد وعظمت الفتنة ببغداد بين الشيعة وأهل السنّة وتطاول الدعّار والعيّارون فعزله بهاء الدولة سنة تسعين، وولّى مكانه أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز، ولقيه عميد الجيوش فأحسن السيرة وحسم الفتنة، وحمل إلى بهاء الدولة أموالا جليلة. ثم ولّى مكانه سنة إحدى وتسعين أبا نصر سابور، وثار به الأتراك ببغداد فهرب منهم ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ والأتراك، وكان أهل السنّة مع الأتراك ثم مشى الأعلام بينهم في الصلح فتهادنوا.
انقراض دول وابتداء أخرى في النواحي
وفي سنة ثمانين ابتدأت دولة بني مروان بديار بكر بعد مقتل خالهم باد، وقد مرّ ذكره. وفي سنة اثنتين وثمانين انقرضت دولة بني حمدان بالموصل وابتدئت دولة بني المسيّب من عقيب كما نذكرها. وفي سنة أربع وثمانين انقرضت دولة بني سامان من(3/545)
خراسان وابتدئت دولة بني سبكتكين فيها. وفي سنة تسع وثمانين انقرضت دولة بني سامان مما وراء النهر وانقسمت بنو سبكتكين وملك الخاقان ملك الترك. وفي سنة ثمان وثمانين ابتدئت دولة بني حسنويه الأكراد بخراسان. وفي سنة تسع وتسعين كان ابتداء دولة بني صالح بن مرداس من بني كلاب بحلب كما نستوفي سياقة أخبارهم في دولهم منفردة كما شرطناه.
ظهور بني مزيد
وفي سنة سبع وثمانين خرج أبو الحسن عليّ بن مزيد في قومه بني أسد ونقض طاعة بهاء الدولة، فبعث إليه العساكر فهرب أمامهم وأبعد حتى امتنع عليهم. ثم بعث في الصلح والاستقامة، وراجع الطاعة، ثم رجع إلى انتقاضه سنة اثنتين وتسعين.
واجتمع مع قراوش بن المقلّد صاحب الموصل وقومه بني عقيل فحاصروا المدائن. ثم بعث إليهم أبو جعفر الحجّاج وهو نائب بغداد العساكر فدفعوهم عنها، وخرج الحجّاج واستنجد خفاجة فجاء من الشام وقاتل بني عقيل وبني أسد فهزموه. ثم خرج إليهم ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر، واستباح ملك بني مزيد وظهر في بغداد في مغيب أبي جعفر من الفتنة والفساد والقتل والنهب ما لا يحصى فكان ذلك السبب في أن بعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر أستاذ هرمز كما مرّ.
ولقيه عميد الجيوش فسكن الفتنة وأمّن الناس. ولما عزل أبو جعفر أقام بنواحي الكوفة وارتاب به أبو عليّ فجمع الديلم والأتراك وخفاجة. وسار إليه واقتتلوا بالنعمانيّة وذلك سنة ثلاث وتسعين، فانهزم أبو جعفر وسار أبو عليّ إلى خوزستان، ثم إلى السوس، فعاد أبو جعفر إلى الكوفة ورجع أبو علي في اتباعه فلم تزل الفتنة بينهما، وكلّ واحد منهما يستنجد ببني عقيل وبني أسد وخفاجة، حتى أرسل بهاء الدولة عن أبي علي وبعثه إلى البطيحة لفتنة بني واصل كما نذكره في دولتهم. ولما كانت سنة سبع وتسعين جمع أبو جعفر وسار لحصار بغداد وأمدّه ابن حسنويه أمير الأكراد، وذلك أنّ عميد الجيوش ولّى على طريق خراسان أبا الفضل بن عنّان، وكان عدوّا لبدر بن حسنويه فارتاب لذلك، واستدعى أبا جعفر وجمع له جموعا من أمراء الأكراد منهم هندي بن سعد وأبو عيسى شادي بن محمد، ورزام بن محمد وكان أبو الحسن عليّ بن مزيد الأسدي انصرف عن بهاء الدولة مغاضبا له، فسار معهم وكانوا(3/546)
عشرة آلاف وحاصروا بغداد وبها أبو الفتح بن عنّان شهرا. ثم جاءهم الخبر بانهزام ابن واصل بالبطيحة الّذي سار عميد الجيوش إليه فافترقوا، وعاد ابن مزيد إلى بلده وسار أبو جعفر إلى حلوان وأرسل بهاء الدولة في الطاعة وحضر عنده بتستر فأعرض عنه رغبا لعميد الجيوش.
فتنة بني مزيد وبني دبيس
كان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيما عند أصهاره بني دبيس في جزيرتهم بخوزستان، فقتل أبو الغنائم بعض رجالاتهم ولحق بأخيه أبي الحسن، فانحدر أبو الحسن إليهم في ألفي فارس، واستمدّ عميد الجيوش فأمدّه بعسكر من الديلم ولقيهم فانهزم أبو الحسن، وقتل أخوه أبو الغنائم.
ظهور دعوة العلوية بالكوفة والموصل
وفي أوّل المائة الخامسة خطب قرواش بن المقلّد أمير بني عقيل لصاحب مصر الحاكم العلويّ في جميع أعماله: وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة، فبعث القادر القاضي أبا بكر الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرّفه فأكرمه، وكتب إلى عميد الجيوش بمحاورة قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار يستعين بها. وسار عميد الجيوش لذلك فراجع قرواش الطاعة وقطع خطبة العلويين، وكان ذلك داعيا في كتابه المحضر بالطعن في نسب العلويّة بمصر، شهد فيه الرضي والمرتضى وابن البطحاوي وابن الأزرق والزكي وأبو يعلى عمر بن محمد، ومن العلماء والقضاة ابن الأكفاني وابن الجزري وأبو العبّاس الأبي وردي وأبو حامد الأسفرايني والكستلي والقدوري والصهيري وأبو عبد الله البيضاوي وأبو الفضل النسويّ وأبو عبد الله النعمان فقيه الشيعة.
ثم كتب ببغداد محضر آخر بمثل ذلك سنة أربع وأربعين وزيد فيه انتسابهم إلى الديصانية من المجوس وبني القدّاح من اليهود، وكتب فيه العلويّة والعبّاسيّة والفقهاء والقضاة وعملت به نسخ وبعث بها إلى البلاد.
وفاة عميد الجيوش وولاية فخر الملك
كان عميد الجيوش أبو علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز وكان أبو جعفر هذا من حجّاب عضد الدولة، وجعل ابنه أبا عليّ في خدمة ابن صمصام الدولة، فلما قتل رجع إلى(3/547)
خدمة بهاء الدولة، ولما استولى الخراب على بغداد وظهر العيّارون بعثه بهاء الدولة عليها فأصلحها وقمع المفسدين. ومات لثمان سنين ونصف من ولايته إلى أوّل المائة الخامسة. وولّى بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب. فوصل بغداد وأحسن السياسة واستقامت الأمور به. واتفق لأوّل قدومه وفاة أبي الفتح محمد بن عنّان صاحب طريق خراسان بحلوان لعشرين سنة من إمارته. وكان كثير الأجلاب على بغداد. فلما توفي ولّى ابنه أبو الشوك وقام مقامه فبعث فخر الملك العساكر لقتاله فهزموه إلى حلوان. ثم راجع الطاعة وأصلح حاله.
مقتل فخر الملك وولاية ابن سهلان
كان فخر الملك أبو غالب من أعظم وزراء بني بويه، وولى نيابة بغداد لسلطان الدولة خمس سنين وأربعة أشهر. ثم قبض عليه وقتله في ربيعة سنة ست وأربعمائة، وولّى مكانه أبا محمد الحسن بن سهلان ولقبه عميد أصحاب الجيوش. وسار سنة تسع إلى بغداد وجرد من الطريق مع طراد بن دشير الأسديّ في طلب مهارش ومضر ابني دشير. وكان مضر قد قبض عليه قديما بأمر فخر الملك. فأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد منه ويولّيها طرادا. فساروا عن المدار واتبعهم ولحق الحسن بن دبيس آخرهم فأوقع به واستباحة. ثم استأمن له مضر ومهارش فأمّنهما وأشرك معهما طرادا في الجزيرة، ورجع وأنكر عليه سلطان الدولة فعله. ووصل إلى واسط والفتنة قائمة فأصلحها. ثم بلغه اشتداد الفتن ببغداد فسار وأصلحها وكان أمر الديلم قد ضعف ببغداد وخرجوا إلى واسط.
الفتنة بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس
قد ذكرنا ان سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس على كرمان. فلما سار إليها اجتمع إليه الديلم وحملوه على الانتقاض وانتزاع الملك من يد أخيه. فسار سنة ثمان إلى شيراز. ثم سار منها ولقيه سلطان الدولة فهزمه وعاد إلى كرمان. واتبعه سلطان الدولة فخرج هاربا من كرمان. ولحق محمود بن سبكتكين مستنجدا به فأكرمه وأمدّه بالعساكر. وعليهم أبو سعيد الطائي من أعيان قوّاده. فسار إلى كرمان وملكها. ثم إلى شيراز كذلك. وعاد سلطان الدولة لحربه فهزمه وأخرجه(3/548)
من بلاد فارس إلى كرمان، وبعث الجيوش في أثره فانتزعوا كرمان منه. ولحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب همذان، وترك ابن سبكتكين لأنه أساء معاملة قائده أبي سعيد الطائي. ثم فارق شمس الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة فأكرمه، وبعث إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالا وثيابا وعرض عليه المسير إليه فأبى وأرسل أخاه سلطان الدولة في المراجعة وأعاده إلى ولاية كرمان، وقبض سلطان الدولة سنة تسع على وزير بن فانجس وإخوته، وولّى مكانه أبا غالب الحسن بن منصور.
خروج الترك من الصين
وفي سنة ثمان وأربعين خرجت من المفازة التي بين الصين وما وراء النهر أمّة عظيمة من الترك تزيد على ثلاثمائة ألف خيمة ويسمّون الخيمة (جذكان) ، ويتخذونها من الجلود. وكان معظمهم من الخطا قد ظهروا في ملك تركستان، فمرض ملكها طغان فساروا إليها وعاثوا فيها. ثم أبلّ طغان واستنفر المسلمين من جميع النواحي وسار إليهم في مائة وعشرين ألفا فهزموا أمامه واتّبعهم مسيرة ثلاثة أشهر، ثم كبسهم فقتل منهم نحوا من مائتي ألف وأسر مائة ألف، وغنم من الدواب والبيوت وأواني الذهب والفضّة من معمول الصين ما لا يعبّر عنه.
ملك مشرف الدولة وغلبه على سلطان الدولة
لم يزل سلطان الدولة ثابت القدم في ملكه بالعراق إلى سنة إحدى عشرة وأربعمائة فشغب عليه الجند ونادوا بشعار أخيه مشرف الدولة فأشير عليه بحبسه فعفّ عن ذلك وأراد الانحدار إلى واسط فطلبه الجند في الاستخلاف فاستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق، وسار إلى الأهواز، فلمّا بلغ تستر استوزر سهلان، وقد كان اتفق مع أخيه مشرف الدولة الوزير ابن سهلان أن لا يستوزره، فاستوحش لذلك مشرف الدولة، وبعث سلطان الدولة الوزير ابن سهلان ليخرجه من العراق فجمع أتراك واسط وأبا الأغر دبيس بن عليّ بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط فهزمه وحاصره بها حتى اشتدّ حصاره، وجهده الحصار فصالحه ونزل عن واسط فملكها في ذي الحجّة من سنة إحدى عشرة. وسار الديلم الذين بواسط في خدمته، وسار أخوه جلال الدولة أبو طاهر صاحب البصرة إلى وفاته وخطب له ببغداد، وقبض على ابن(3/549)
سهلان وكحّله. وسار سلطان الدولة إلى أرّجان ثم رجع إلى الأهواز وثار عليه الأتراك الذين هنالك، ودعوا بشعار مشرف الدولة، وخرجوا إلى السابلة فأفسدوها، وعاد مشرف الدولة إلى بغداد فخطب له بها سنة اثنتي عشرة، وطلب منه الديلم أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان فبعث معهم وزيره أبا غالب، فلمّا وصلوا إلى الأهواز انتقضوا ونادوا بشعار سلطان الدولة، وقتلوا أبا غالب لسنة ونصف من وزارته. ولحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس بالجزيرة. وبلغ سلطان الدولة قتل أبي غالب وافتراق الديلم فأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز وملكها. ثم وقع الصلح بينهما على يد أبي محمد بن أبي مكرم ومؤيد الملك الرخّجي على أن تكون العراق لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة واستوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخّجي ولقّبه مؤيد الملك بعد قتل أبي غالب ومصادرة ابنه أبي العبّاس. ثم قبض عليه سنة أربع عشرة بعد حول من وزارته بسعاية الأثير الخادم فيه واستوزر مكانه أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، كان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، وهرب إلى مصر وخدم الحاكم فقتله وهرب ابنه أبو القاسم هذا إلى الشام، وحمل حسّان بن الفرج الجرّاح الطائي على نقض طاعة الحاكم والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر العلويّ أمير مكة، فاستقدمه إلى الرملة وبايعه. ثم خلفه وعاد إلى مكة وقصد أبو القاسم العراق، واتصل بالوزير فخر الملك وأمره القادر بإبعاده، فلحق بقرواش أمير الموصل، وكتب له ثم عاد إلى العراق وتنقّلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخّجي، وكان خبيثا محتالا حسودا.
ثم قدم مشرف الدولة إلى بغداد سنة أربع عشرة ولقيه القادر ولم يلق أحدا قبله.
الخبر عن وحشة الأكراد وفتنة الكوفة
كان الأثير عنبر الخادم مستوليا في دولة مشرف الدولة الوزير أبي القاسم المغربي عديله في حملها فنقم الأتراك عليهما، وطلب من مشرف الدولة الخراج [1] من بغداد خوفا على أنفسهما، فخرج معهما غضبا على الأتراك، ونزلوا على قرواش بالسّندية. واستعظم الأتراك ذلك، وبعثوا بالاعتذار والرغبة. وقال أبو
__________
[1] مقتضى السياق: الخروج من بغداد.(3/550)
القاسم المغربي دخل بغداد إنما هو أربعمائة ألف وخرجها ستمائة فاتركوا مائة واحتمل مائة فأجابوه إلى ذلك خداعا. وشعر بوصولهم فهرب لعشرة أشهر من وزارته. ثم كانت فتنة بالكوفة بين العلويّة والعبّاسيّة. وكان لأبي القاسم المغربي صهر وصداقة في العلويّة فاستعدى العبّاسيون المغربيّ عليهم فلم يعدهم [1] لمكان المغربي. وأمرهم بالصلح فرجعوا إلى الكوفة. واستمدّ كل واحد منهم خفاجة فأمدوهم وافترقوا عليهم. واقتتل العلويّة والعبّاسيّة فغلبهم العلويّة ولحقوا ببغداد. ومنعوا الخطبة يوم الجمعة. وقتلوا بعض قرابة العلويّة الذين بالكوفة. فعهد القادر للمرتضى أن يصرف أبا الحسن عليّ بن أبي طالب ابن عمر عن نقابة الكوفة. ويردّها إلى المختار صاحب العبّاسيّة. وبلغ ذلك المغربي عند قرواش بسرّ من رأى فشرع في إرغام القادر. وبعث القادر إلى قرواش بطرده فلحق بابن مروان في ديار بكر.
وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه جلال الدولة
ثم توفي مشرف الدولة أبو عليّ بن بهاء الدولة سنة ست عشرة في ربيع لخمس سنين من ملكه، وولّى مكانه بالعراق أخوه أبو طاهر جلال الدولة صاحب البصرة وخطب له ببغداد، واستقدم فبلغ واسط ثم عاد إلى البصرة فقطعت خطبته وخطب ببغداد في شوّال لابن أخيه أبي كاليجار بن سلطان الدولة، وهو بخوزستان يحارب عمّه أبا الفوارس صاحب كرمان. وسمع جلال الدولة بذلك فبادر إلى بغداد ومعه وزيره أبو سعد ابن ماكولا. ولقيه عسكرها فردّوه أقبح ردّ ونهبوا خزائنه فعاد إلى البصرة، واستحثوا أبا كاليجار فتباطأ لشغله بحرب عمّه، وسار إلى كرمان لقتال عمّه فملكها واعتصم عمّه بالجبال. ثم تراسلا واصطلحا على أن تبقى كرمان لأبي الفوارس وتكون بلاد فارس لأبي كاليجار.
قدوم جلال الدولة إلى بغداد
ولما رأى الأتراك اختلال الأحوال وضعف الدولة بفتنة العامّة وتسلط العرب والأكراد بحصار بغداد، وطمعهم فيها وأنّهم بقوا فوضى، وندموا على ما كان منهم في ردّ جلال الدولة، اجتمعوا إلى الخليفة يرغبون إلى ان يحضر جلال الدولة من البصرة
__________
[1] أي لم يغيثهم.(3/551)
ليقيم أمر الدولة فبعث إليه القاضي أبا جعفر السمناني بالعهد عليه. وعلى القوّاد فسار جلال الدولة إلى بغداد في جمادى من سنة ثمان عشرة. وركب الخليفة في الطيار لتلقّيه فدخل ونزل التجيبي وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات. ومنعه الخليفة من ذلك فقطعه مغاضبا. ثم أذن له الخليفة فيه فأعاده. وأرسل مؤيد الملك أبا علي الرخّجي إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش يستدعيه يعتذر عن الأتراك. ثم شغب الأتراك عليه سنة تسع عشرة وحاصروه بداره وطلبوا من الوزير أبي علي بن ماكولا أرزاقهم. ونهبوا دوره ودور الكتّاب والحواشي. وبعث القادر من أصلح بينهم وبينه فسكن شغبهم. ثم خالفوا أبا كاليجار بن سلطان الدولة إلى البصرة فملكها، ثم ملك كرمان بعد وفاة صاحبها قوام الدولة أبي الفوارس بن بهاء الدولة كما نذكر في أخبارهم في دولتهم عند إفرادها بالذكر فنستوفي أخبارهم ودول سائر بني بويه وبني وشمكير وبني المرزبان وغيرهم من الديلم في النواحي.
مسير جلال الدولة إلى الأهواز
كان نور الدولة دبيس بن عليّ بن مزيد صاحب الحلّة، ولم تكن الحلّة يومئذ بمدينة، قد خطب لأبي كاليجار لمضايقة المقلّد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد وجمع عليه منيعا أمير بني خفاجة وعساكر بغداد، فخطب هو لأبي كاليجار واستدعاه لملك واسط وبها الملك العزيز بن جلال الدولة فلحق بالنعمانيّة وتركها وضيّق عليه نور الدولة من كل جهة فتفرق ناس من أصحابه وهلك الكثير من أثقاله واستولى أبو كاليجار على واسط ثم خطب له في البطيحة وأرسل إلى قرواش صاحب الموصل وعنده الأثير عنبر يستدعيهما إلى بغداد، فانحدر عنبر إلى الكحيل ومات به.
وقعد قرواش وجمع جلال الدولة عساكره ببغداد، واستمدّ أبا الشوك وغيره، وانحدر إلى واسط وأقام هنالك من غير قتال، وضاقت عليه الأحوال. واعتزم أبو كاليجار على مخالفته إلى بغداد، وجاءه كتاب أبي الشوك بزحف عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق، ويشير بالصلح والاجتماع لمدافعتهم، فأنفذ أبو كاليجار الكتاب لجلال الدولة فلم ينته عن قصده، ودخل الأهواز فنهبها، وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، واستباح العرب والأكراد سائر البلد وحمل حريم كاليجار إلى بغداد سبيا فماتت أمه في الطريق. وسار أبو كاليجار لاعتراض جلال الدولة وتخلّف عنه دبيس(3/552)
لدفع خفاجة عن أصحابه. واقتتلوا في ربيع سنة إحدى وعشرين ثلاثة أيام فانهزم أبو كاليجار، وقتل من أصحابه ألفان. ودبيس لما فارق أبا كاليجار وصل الى بلده وجمع إليه جماعة من قومه، وكانوا منتقضين عليه بالجامعين فأوقع بهم وحبس منهم وردّهم إلى وفاقه. ثم لقي المقلّد بن أبي الأغر وعساكر جلال الدولة فانهزم أمامهم وأسر جماعة من أصحابه، وسار منهزما إلى أبي سنان غريب بن مكين فأصلح حاله مع جلال الدولة وأعاده إلى ولايته على ضمان عشرة آلاف دينار، وسمع بذلك المقلّد فجمع خفاجة ونهبوا النيل وسورا وأحرقوا منازلها. ثم عبر المقلّد إلى أبي الشوك فأصلح أمره مع جلال الدولة. ثم بعث جلال الدولة سنة إحدى وعشرين عسكره إلى المدار فملكها من يد أصحاب أبي كاليجار، واستباحوها، وبعث أبو كاليجار عسكره لمدافعتهم فهزموهم وثار أهل البلد بهم فقتلوهم، ولحق من نجا منهم بواسط وعادت المدار إلى أبي كاليجار.
استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا وانتزاعها منه
لما استولى جلال الدولة على واسط نزل بها ولده وبعث وزيره أبا عليّ بن ماكولا إلى البطائح فملكها. ثم بعثه إلى البصرة وبها أبو منصور بختيار بن عليّ من قبل أبي كاليجار. فسار في السفن وعليهم أبو عبد الله الشرابي صاحب البطيحة فلقى بختيار وهزمه. ثم سار الوزير أبو علي في أثره في السفن فهزمه بختيار. وسيق إليه أسيرا فأكرمه وبعثه إلى أبي كاليجار فأقام عنده، وقتله غلمانه خوفا منه لقبيح منهم اطلع عليه. وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة ومكوسا فاضحة. ولما أصيب الوزير أبو علي بعث جلال الدولة من كان عنده من جند البصرة فقاتلوا عسكر أبي كاليجار، وهزموهم وملكوا البصرة ونجا من كان بها إلى أبي منصور بختيار بالأبلّة.
وبعث السفن لقتال من بالبصرة فظفر بهم أصحاب جلال الدولة فسار بختيار بنفسه وقاتلهم، وانهزم وقتل وأخذ كثير من السفهاء. وعزم الأتراك بالبصرة على المسير إلى الأبلّة وطلبوا المال من العامل فاختلفوا وتنازعوا وافترقوا، ورجع صاحب البطيحة، واستأمن آخرون إلى أبي الفرج ابن مسافجس وزير أبي كاليجار. وجاء إلى البصرة فملكها. ثم توفي بختيار نائب الملك أبي كاليجار في البصرة، وقام بعده صهره أبو القاسم بطاعة أبي كاليجار في البصرة. ثم استوحش وانتقض وبعث بالطاعة لجلال(3/553)
الدولة وخطب له، وبعث إلى ابنه العزيز بواسط يستدعيه فسار إليه وأخرج عساكر أبي كاليجار وأقام معه إلى سنة خمس وعشرين والحكم لأبي القاسم. ثم أغراه الديلم به وأنه يتغلّب عليهم، فأخرجه العزيز وامتنع بالأبلّة وحاربهم أياما، وأخرج العزيز عن البصرة، ولحق بواسط وعاد أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.
وفاة القادر ونصب القائم
ثم توفي القادر باللَّه سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة لإحدى وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته، وكانت الخلافة قبلها قد ذهب رونقها بجسارة الديلم والأتراك عليها، فأعاد إليها أبهتها وجدّد ناموسها، وكان له في قلوب الناس هيبة. ولما توفي نصّب للخلافة ابنه أبو جعفر عبد الله، وقد كان أبوه بايع له بالعهد في السنة قبلها لمرض طرقه وأرجف الناس بموته، فبويع الآن واستقرّت له الخلافة ولقّب القائم بأمر الله.
وأوّل من بايعه الشريف المرتضى. وبعث القاضي أبا الحسن الماوردي إلى أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده. فأجاب وبعث بالهدايا. ووقعت لأوّل بيعته فتنة بين أهل السنّة والشيعة، وعظم الهرج والنهب والقتل وخربت فيها أسواق وقتل كثير من جباة المكوس. وأصيب أهل الكرخ وتطرّق الدعّار إلى كبس المنازل ليلا، وتنادى الجند بكراهية جلال الدولة وقطع خطبته. ولم يجبهم القائم إلى ذلك وفرّق جلال الدولة فيهم الأموال فسكنوا، وقعد في بيته وأخرج دوابه من الإصطبل وأطلقها بغير سائس ولا حافظ لقلّة العلف. وطلب الأتراك منه أن يحملهم في كل وقت فأطلقها، وكانت خمسة عشر وفقد الجاري فطرد الطواشي والحواشي والأتباع وأغلق باب داره والفتنة تتزايد إلى آخر السنة.
وثوب الجند بجلال الدولة وخروجه من بغداد
ثم جاء الأتراك سنة ست وعشرين إلى جلال الدولة فنهبوا داره وكتبه ودواوينه، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهيليّ فهرب إلى حلّة غريب بن مكين، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا ببغداد لأبي كاليجار وهو بالأهواز واستقدموه فأشار عليه بعض أصحابه بالامتناع فاعتذر إليهم فأعادوا لجلال الدولة. وساروا إليه معتذرين وأعادوه بعد ثلاثة وأربعين يوما واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، ثم عزله واستوزر(3/554)
عميد الملك أبا سعيد عبد الرحيم. ثم أمره بمصادرة أبي المعمّر بن الحسين البساسيري فاعتقله في داره، وجاء الأتراك لمنعه فضربوا الوزير ومزّقوا ثيابه وأدموه. وركب جلال الدولة فأطفأ الفتنة وأخذ من البساسيري ألف دينار وأطلقه، واختفى الوزير.
ثم شغب الجند ثانيا في رمضان وأنكروا تقديم الوزير أبي القاسم من غير علمهم وأنه يريد التعرّض لأموالهم فوثبوا به ونهبوا داره وأخرجوه إلى مسجد هنالك فوكّلوا به فوثب العامّة مع بعض القوّاد من أصحابه فأطلقوه وأعادوه إلى داره. وذهب هو في الليل إلى الكرخ بحرمة ووزيره أبو القاسم معه. واختلف الجند في أمره وأرسلوا إليه بأن يملّكوا بعض أولاده الأصاغر، وينحدر هو إلى واسط، وهو في خلال ذلك يستميلهم حتى فرّق جماعتهم، وجاء الكثير إليه فأعادوه إلى داره، واستخلف البساسيري في جماعة للجانب الغربي سنة خمس وعشرين لاشتداد أمر العيّارين ببغداد، وكثرة الهرج وكفايته هو ونهضته [1] . ثم عاد أمر الخلافة والسلطنة إلى أن اضمحل وتلاشى، وخرج بعض الجند إلى قرية فلقيهم أكراد وأخذوا دوابهم وجاءوا إلى بستان القائم فتعلّلوا على عمّاله بأنهم لم يدفعوا عنهم، ونهبوا ثمرة البستان، وعجز جلال الدولة عن عتاب الأكراد وعقاب الجند، وسخط القائم أمره وتقدّم إلى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل المراتب الدينية، فرغب جلال الدولة من الجند أن يحملهم إلى ديوان الخلافة فحملوا وأطلقوا، وعظم أمر العيّارين وصاروا في حماية الجند وانتشر العرب في النواحي فنهبوها وأفسدوا السابلة. وبلغوا جامع المنصور من البلد، وسلبوا النساء في المقبرة.
ولحق الوزير أبو سعيد وزير جلال الدولة بابي الشوك مفارقا للوزارة، ووزر بعده أبا القاسم فكثرت مطالبات الجند عليه فهرب وأخذه الجند وجاءوا به الى دار الملك حاسرا عاريا إلّا من قميص خلق، وذلك لشهرين من وزارته، وعاد سعيد بن عبد الرحيم إلى الوزارة. ثم ثار الجند سنة سبع وعشرين بجلال الدولة وأخرجوه من بغداد بعد ان استمهلهم ثلاثا فأبوا ورموه بالحجارة فأصابوه، ومضى الى دار المرتضى بالكرخ. وسار منها إلى رافع بن الحسين بن مكن بتكريت، ونهب الأتراك داره، وقلعوا أبوابها، ثم أصلح القائم شأنه مع الجند، وأعاده وقبض على وزيره أبي سعيد
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وغير مفهومة وفي الكامل لابن الأثير ج 9 ص 437: «وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم، وعجز عنهم نواب السلطان، فاستعملوا البساسيري لكفايته ونهضته.»(3/555)
ابن عبد الرحيم، وهي وزارته السادسة. وفي هذه السنة نهى القائم عن التعامل بالدنانير المعزيّة، وتقدّم إلى الشهود أن لا يذكروها في كتب التعامل.
الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار
ترددت الرسل سنة ثمان وعشرين بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار حتى انعقد بينهما الصلح على يد القاضي أبي الحسن الماوردي وأبي عبد الله المردوسي، واستحلف كل واحد منهما للآخر، وأظهر جلال الدولة سنة تسع وعشرين من القائم الخطاب بملك الملوك فردّ ذلك الى الفتيا، وأجازه القاضي أبو الطيّب الطبريّ، والقاضي أبو عبد الله الصهيري، والقاضي ابن البيضاوي وأبو القاسم الكرخي، ومنع منه القاضي أبو الحسن الماوردي وردّ عليهم فأخذ بفتواهم، وخطب له بملك الملوك. وكان الماوردي من أخصّ الناس بجلال الدولة، وكان يتردّد إليه. ثم انقطع عنه بهذه الفتيا، ولزم بيته من رمضان الى النحر فاستدعاه جلال الدولة وحضر خائفا، وشكره على القول بالحق، وعدم المحاباة، وقد عدت إلى ما تحب فشكره ودعا له، وأذن للحاضرين بالانصراف معه، وكان الاذن لهم تبعا له.
استيلاء أبي كاليجار على البصرة
وفي سنة إحدى وثلاثين بعث ابو كاليجار عساكره الى البصرة مع العادل أبي منصور ابن مافنّة، وكانت في ولاية الظهير أبي القاسم بن [1] وليها بعد بختيار، انتقض عليه مرّة ثم عاد، وكان يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار، وكثرت أمواله ودامت دولته. ثم تعرّض ملا الحسين بن أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان فكاتب ابا كاليجار وضمن البصرة بزيادة ثلاثين ألف دينار، وبعث ابو كاليجار العساكر مع ابن مسافيه [2] كما ذكرنا. وجاء المدد من عمان إلى البصرة، وملكوها وقبض على الظهير أبي القاسم، وأخذت أمواله وصودر على مائتي ألف دينار فأعطاها، وجاء الملك أبو كاليجار البصرة فأقام بها أياما وولّى فيها ابنه عزّ الملوك ومعه الوزير أبو الفرج بن فسانجس، ثم عاد الى الأهواز وحمل معه الظهير.
__________
[1] بياض بالأصل وهو ابو القاسم بن مكرم.
[2] هذا وقد ورد اسمه خطأ: ابن ما فنّه.(3/556)
شغب الأتراك على جلال الدولة
ثم شغب الأتراك على جلال الدولة سنة اثنتين وثلاثين وخيّموا بظاهر البلد ونهبوا منها مواضع. وخيّم جلال الدولة بالجانب الغربي وأراد الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه فاستمد دبيس بن مزيد وقرواشا صاحب الموصل فأمدّوه بالعساكر. ثم صلحت الأحوال بينهم وعاد إلى داره وطمع الأتراك وكثر نهبهم وتعدّيهم وفسدت الأمور بالكلية.
ابتداء دولة السلجوقية
قد تقدّم لنا أنّ أمم الترك في الربع الشرقي الشمالي من المعمور، ما بين الصين إلى تركستان إلى خوارزم والشاش وفرغانة، وما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ، وأن المسلمين أزاحوهم أوّل الملّة عن بلاد ما وراء النهر وغلبوهم عليها، وبقيت تركستان وكاشغر والشاش وفرغانة بأيديهم يؤدّون عليها الجزاء [1] . ثم أسلموا عليها فكان لهم بتركستان ملك ودولة، نذكرها فيما بعد، فإن استفحالها كان في دولة بني سامان جيرانهم فيما وراء النهر. وكان في المفازة بين تركستان وبلاد الصين أمم من الترك لا يحصيهم إلا خالقهم لاتساع هذه المفازة وبعد أقطارها فإنّها فيما يقال مسيرة شهر من كل جهة، فكان هنالك أحياء بادون منتجعون رجالة غذاؤهم اللحوم والألبان والذرة في بعض الأحيان ومراكبهم الخيل، ومنها كسبهم وعليها قيامهم وعلى الشاء والبقر من بين الأنعام، فلم يزالوا بتلك القفار مذودين عن العمران بالحامية، المالكين له في كل جهة. وكان من أممهم الغز والخطا والتتر وقد تقدّم ذكر هؤلاء الشعوب.
فلما انتهت دولة ملوك تركستان وكان شغر [2] إلى غايتها، وأخذت في الاضمحلال والتلاشي كما هو شأن الدول وطبيعتها. تقدّم هؤلاء إلى بلاد تركستان فأجلبوا عليها بما كان غالب معاشهم في تخطّف الناس من السبل، وتناول الرزق بالرماح شأن أهل القفر البادين، وأقاموا بمفازة بخارى. ثم انقرضت دولة بني سامان ودولة أهل تركستان. واستولى محمود بن سبكتكين من قوّاد بني سامان وصنائعهم على ذلك كله. وعبر بعض الأيام إلى بخارى فحضر عنده أرسلان بن سلجوق فقبض عليه.
__________
[1] جمع جزية.
[2] شغر الناس تفرقوا.(3/557)
وبعث به إلى بلاد الهند فحبسه، وسار إلى أحيائه فاستباحها، ولحق بخراسان وسارت العساكر في اتّباعهم فلحقوا بأصبهان وهمّ صاحبها علاء الدولة بن كالويه بالغدر بهم، وشعروا بذلك فقاتلوه بأصبهان فغلبهم، فانصرفوا إلى أذربيجان فقاتلهم صاحبها وهشودان من بني المرزبان. وكانوا لمّا قصدوا أصبهان بقي فلّهم بنواحي خوارزم فعاثوا في البلاد، وخرج إليهم صاحب طوس وقاتلهم. وجاء محمود بن سبكتكين فسار في اتّباعهم من رستاق إلى جرجان، ورجع عنهم، ثم استأمنوا فاستخدمهم وتقدّمهم يغمر، وأنزل ابنه بالريّ. ثم مات محمود وولي أخوه مسعود، وشغل بحروب الهند فانتقضوا وبعث إليهم قائدا في العساكر، وكانوا يسمّون العراقية وأمراؤهم يومئذ كوكاش ومرقا وكول ويغمر وباصعكي، ووصلوا إلى الدامغان فاستباحوها، ثم سمنان، ثم عاثوا في أعمال الريّ واجتمع صاحب طبرستان وصاحب الريّ مع قائد مسعود وقاتلوهم فهزمهم الغزّ وفتكوا فيهم وقصدوا الريّ فملكوه، وهرب صاحبه إلى بعض قلاعه فتحصّن بها، وذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة.
واستألفهم علاء الدولة بن كالويه ليدافع بهم ابن سبكتكين فأجابوه أوّلا، ثم انتقضوا. وأمّا الذين قصدوا أذربيجان منهم، ومقدّموهم بوقا وكوكباش [1] ومنصور ودانا فاستألفهم وهشودان ليستظهر بهم، فلم يحصل على بغيته من ذلك. وساروا إلى مراغة سنة تسع وعشرين فاستباحوها، ونالوا من الأكراد الهديانيّة فحاربوهم وغلبوهم وافترقوا فرقتين، فرجع بوقا إلى أصحابهم الذين بالريّ، وسار منصور وكوكباش إلى همذان، وبها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كالويه فظاهرهم على حصاره متّى خسرو بن مجد الدولة فلمّا جهده الحصار لحق بأصبهان وترك البلد فدخلوها واستباحوها، وفعلوا في الكرخ مثل ذلك، وحاصروا قزوين حتى أطاعوهم وبذلوا لهم سبعة آلاف دينار. وسار طائفة منهم إلى بلد الأرمن فاستباحوها وأثخنوا فيها ورجعوا إلى أرمينية. ثم رجعوا من الريّ إلى حصار همذان فتركها أبو كاليجار وملكوها سنة ثلاثين ومعهم متى خسرو المذكور فاستباحوا تلك النواحي إلى أستراباذ، وقاتلهم أبو الفتح بن أبي الشوك صاحب الدّينور فهزمهم وأسر منهم وصالحوه على إطلاق أسراهم. ثم مكروا بأبي كاليجار أن يكون معهم ويدبّر أمرهم، وغدروا به ونهبوه.
وخرج علاء الدولة من أصبهان فلقي طائفة منهم فأوقع بهم وأثخن فيهم وأوقع وهشودان بمن كان منهم في أذربيجان وظفر بهم الأكراد وأثخنوا فيهم. وفرّقوا
__________
[1] وفي الكامل ج 9 ص 379: كوكتاش.(3/558)
جماعتهم. ثم توفي كول أمير الفرق الذين بالري، وكانوا لما أجازوا من وراء النهر إلى خراسان بقي بمواطنهم الأولى هنالك طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق وإخوته داود وسعدان وينال وهمغري فخرجوا إلى خراسان من بعدهم. وكانوا اشدّ منهم شوكة وأقوى عليهم سلطانا فسار ينال أخو طغرلبك إلى الريّ فهربوا إلى أذربيجان ثم إلى جزيرة ابن عمر وديار بكر. ومكر سليمان بن نصير الدولة بن مروان صاحب الجزيرة بمنصور بن غزّ علي منهم فحبسه وافترق أصحابه، وبعث قرواش صاحب الموصل إليهم جيشه فطردهم وافترقت جموعهم، ولحق الغزّ بديار بكر وأثخنوا فيها، وأطلق نصير الدولة أميرهم منصورا من يد ابنه فلم ينتفع منهم بذلك. وقاتلهم صاحب الموصل فحاصروه ثم ركب في السفين ونجا إلى السّند وملكوا البلد وعاثوا فيها. وبعث قراوش إلى الملك جلال الدولة يستنجده، وإلى دبيس بن مزيد وأمراء العرب.
وفرض الغزّ على أهل الموصل عشرين ألف دينار فثار الناس بهم، وكان كوكباش قد فارق الموصل فرجع ودخلها عنوة في رجب سنة خمس وثلاثين، وأفحش في القتل والنهب. وكانوا يخطبون للخليفة ولطغرلبك بعده، فكتب الملك جلال الدولة إلى طغرلبك يشكو له بأحوالهم، فكتب إليه أنّ هؤلاء الغز كانوا في خدمتنا وطاعتنا حتى حدث بيننا وبين محمود بن سبكتكين ما علمتم، ونهضنا إليه، وساروا في خدمتنا في نواحي خراسان فتجاوزوا حدود الطاعة وملكة الهيبة، ولا بدّ من إنزال العقوبة بهم.
وبعث إلى نصير الدولة بعده يكفّهم عنه. وسار دبيس بن مزيد وبنو عقيل إلى قرواش حاجب الموصل وقعد جلال الدولة عن إنجاده لما نزل به من الأتراك. وسمع الغزّ بجموع قرواش فبعثوا إلى من كان بديار بكر منهم واجتمعوا إليهم، واقتتل الفريقان فانهزم العرب أوّل النهار، ثم أتيحت لهم الكرّة على الغزّ فهزموهم واستباحوهم وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، واتّبعهم قرواش إلى نصيبين ورجع عنهم فساروا إلى ديار بكر وبلاد الأرمن والروم، وكثر عيثهم فيها وكان طغرلبك وإخوته لما جاءوا إلى خراسان طالت الحروب بينهم وبين عساكر بني سبكتكين حتى غلبوهم وحصل لهم الظفر، وهزموا سياوشي حاجب مسعود آخر هزائمهم، وملكوا هراة فهرب عنها سياوشي الحاجب ولحق بغزنة، وزحف إليهم مسعود ودخلوا البرية، ولم يزل في اتّباعهم ثلاث سنين. ثم انتهزوا فيه الفرصة باختلاف عسكره يوما على الماء فانهزموا وغنموا عسكره وسار طغرلبك إلى نيسابور سنة إحدى وثلاثين فملكها وسكن(3/559)
السادياج، وخطب له بالسلطان الأعظم العمّال في النواحي. وكان الدعار قد اشتدّ ضررهم بنيسابور فسدّ أمرهم وحسم عللهم، واستولى السلجوقية على جميع البلاد.
وسار بيقو إلى هراة فملكها وسار داود إلى بلخ وبها القوتباق حاجب مسعود فحاصره، وعجز مسعود عن إمداده فسلّم البلد لداود، واستقلّ السلجوقية بملك البلاد أجمع. ثم ملك طغرلبك طبرستان وجرجان من يد أنوشروان بن متوجهر قابوس، وضمنها أنوشروان بثلاثين ألف دينار، وولّى على جرجان مرداويج من أصحابه بخمسين ألف دينار، وبعث القائم القاضي أبا الحسن الماوردي إلى طغرلبك فقرّر الصلح بينه وبين جلال الدولة القائم بدولته ورجع بطاعته.
فتنة قرواش مع جلال الدولة
كان قرواش قد أنفذ عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت، واستغاث بجلال الدولة، وأمر قرواشا بالكفّ عنه فلم يفعل وسار لحصاره بنفسه.
وبعث إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم على جلال الدولة فاطلع على ذلك فبعث أبا الحرث أرسلان البساسيري في صفر سنة اثنتين وثلاثين للقبض على نائب قرواش بالسندسيّة، واعترضه العرب فمنعوه ورجع وأقاموا بين صرصر وبغداد يفسدون السابلة، وجمع جلال الدولة العساكر وخرج إلى الأنبار وبها قرواش فحاصرها. ثم اختلفت عقيل على قرواش فرجع إلى مصالحة جلال الدولة.
وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار
لمّا قلّت الجبايات ببغداد مدّ جلال الدولة يده إلى الجوالي فأخذها وكانت خاصة بالخليفة. ثم توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة من ملكه. ولما مات خاف حاشيته من الأتراك والعامّة فانتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم وأصحابه الأكابر إلى حرم دار الخلافة، واجتمع القوّاد للمدافعة عنهم وكاتبوا الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة في واسط بالطاعة واستقدموه وطلبوا حتى البيعة فراوضهم فيها، فكاتبهم أبو كاليجار عنها فعدلوا إليه، وجاء العزيز من واسط وانتهى إلى النعمانيّة فغدر به عسكره، ورجعوا إلى واسط وخطبوا لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد، ثم إلى(3/560)
قرواش بن المقلّد، ثم فارقه إلى أبي الشوك فغدر به فسار إلى ينال أخي طغرلبك فأقام عنده مدّة. ثم قصد بغداد مختفيا فظهر على بعض أصحابه فقتله، ولحق هو بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين سنة إحدى وأربعين. وأمّا أبو كاليجار فخطب له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين. وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار وبأموال أخرى فرقت إلى الجند ولقّبه القائم بمحي الدين، وخطب له أبو الشوك ودبيس بن مزيد ونصير الدولة بن مروان بأعمالهم. وسار إلى بغداد ومعه وزيره أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس. وهمّ القائم لاستقباله فاستعفى من ذلك، وخلع على أرباب الجيوش، وهم البساسيري والنساوري والهمّام أبو اللقاء. وأخرج عميد الدولة أبا سعيد من بغداد فمضى إلى تكريت، وعاد أبو منصور بن علاء الدولة بن كالويه صاحب أصبهان إلى طاعته، وخطب له على منبره انحرافا عن طغرلبك. ثم راجعه بعد الحصار واصطلحا على مال يحمله، وبعث أبو كاليجار إلى السلطان طغرلبك في الصلح وزوّجه ابنته فأجاب وتمّ بينهما سنة تسع وثلاثين.
وفاة أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم
كان أبو كاليجار والمرزبان بن سلطان الدولة قد سارا سنة أربعين إلى نواحي كرمان، وكان صاحبها بهرام بن لشكرستان من وجوه الديلم قد منع الحمل فتنكّر له أبو كاليجار، وبعث إلى أبي كاليجار يحتمي به، وهو بقلعة برد شير فملكها من يده، وقتل بهرام بعض الجند الذين ظهر منهم على الميل لأبي كاليجار فسار إليه ومرض في طريقه، ومات بمدينة جنايا في سنة أربعين لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه. ولما توفي نهب الأتراك معسكره وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور، وأرادوا نهبه فمنعهم الديلم، وساروا إلى شيراز فملكها أبو منصور واستوحش الوزير منه فلحق ببعض قلاعه، وامتنع بها، ووصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز فبايع له الجند وبعث إلى الخليفة في الخطبة والتلقّب بالملك الرحيم فأجابه إلى ما سأل إلّا اللقب بالرحيم للمانع الشرعي من ذلك. واستقرّ ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة، وكان بها أخوه أبو علي، واستولى أخوه أبو منصور كما ذكرنا على شيراز فبعث الملك الرحيم أخاه أبا سعد في العساكر فملكها، وقبض على أخيه أبي منصور، وسار العزيز جلال الدولة من(3/561)
عند قرواش إلى البصرة فدافعه أبو علي بن كاليجار عنها. ثم سار الملك الرحيم إلى خوزستان. وأطاعه من بها من الجند وكثرت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة.
مسير الملك الرحيم الى فارس
ثم سار الملك الرحيم من الأهواز إلى فارس سنة إحدى وأربعين، وخيّم بظاهر شيراز.
ووقعت فتنة بين أتراك شيراز وبغداد فرحل أتراك بغداد إلى العراق. وتبعهم الملك الرحيم لانحرافه عن أتراك شيراز. وكان أيضا منحرفا عن الديلم بفارس لميلهم إلى أخيه فلاستون بإصطخر، وانتهى إلى الأهواز فأقام بها واستخلف بأرّجان أخويه أبا سعد وأبا طالب فزحف إليهما أخوهما فلاستون، وخرج الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز للقائهم فلقيهم وانهزم إلى البصرة، ثم إلى واسط. وسارت عساكر فارس إلى الأهواز فملكوها وخيّموا بظاهرها. ثم شغبوا على أبي منصور، وجاء بعضهم إلى الملك الرحيم فبعث إلى بغداد واستقرّ الجند الذين بها، وسار إلى الأهواز فملكها وأقام ينتظر عسكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة اثنتين وأربعين. ثم تقدّم سنة ثلاث وأربعين ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما. وسار هزارشب بن تنكير ومنصور بن الحسين الأسدي فيمن معهما من الديلم والأكراد من أرّجان إلى تستر فسبقهم الملك الرحيم إليها وغلبهم عليها. ثم زحف في عسكر هزارشب فوافاه أميره أبو منصور بمدينة شيراز فاضطربوا ورجعوا. ولحق منهم جماعة بالملك الرحيم فبعث عساكر إلى رامهرمز وبها أصحاب أبي منصور فحاصرها وملكها في ربيع سنة ثلاث وأربعين. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر إلى بلاد فارس لأنّ أخاه أبا نصر خسرو كان بإصطخر، ضجر من تغلّب هزارشب بن تنكير صاحب أخيه أبي منصور فكتب إلى أخيه الملك الرحيم بالطاعة فبعث إليه أخاه أبا سعد فأدخله إصطخر وملكه. ثم اجتمع أبو منصور فلاستون وهزارشب ومنصور بن الحسين الأسدي، وساروا للقاء الملك الرحيم بالأهواز، واستمدّوا السلطان طغرلبك وأبوا طاعته، فبعث إليهم عسكرا، وكان قد ملك أصبهان واستطال وافترق كثير من أصحاب الملك الرحيم عنه، مثل البساسيري ودبيس بن مزيد والعرب والأكراد وبقي في الديلم الأهوازية وبعض الأتراك من بغداد ورأى أن يعود من عسكر مكرم إلى الأهواز ليتحصّن بها وينتظر عسكر بغداد. ثم بعث أخاه أبا سعد إلى فارس كما ذكرنا ليشغل أبا منصور(3/562)
وهزارشب ومن معهما عن قصده فلم يعرجوا على ذلك. وساروا إليه بالأهواز وقاتلهم فانهزم الى واسط ونهب الأهواز وفقد في الواقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي عبد الرحيم فلم يوقف له على خبر. وسار أبو منصور وأصحابه إلى شيراز لأجل أبي سعد وأصحابه فلقيهم قريبا منها، وهزمهم مرّات واستأمن إليه الكثير منهم، واعتصم أبو منصور ببعض القلاع وأعيدت الخطبة بالأهواز للملك الرحيم، واستدعاه الجند بها وعظمت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة في غيبة الملك الرحيم واقتتلوا، وبعث القائم نقيب العلويين ونقيب العبّاسيّين لكشف الأمر بينهما فلم يوقف على يقين في ذلك. وزاد الأمر وأحرقت مشاهد العظماء من أهل البيت، وبلغ الخبر إلى دبيس ابن مزيد فاتّهم القائم بالمداهنة في ذلك فقطع الخطبة له ثم عوتب فاستعتب وعاد إلى حاله.
مهادنة طغرلبك للقائم
قد تقدّم لنا شأن الغزّ واستيلائهم على خراسان من يد بني سبكتكين عام اثنتين وثلاثين، ثم استيلاء طغرلبك على أصبهان من يد ابن كالويه سنة اثنتين وأربعين.
ثم بعث السلطان طغرلبك أرسلان بن أخيه داود إلى بلاد فارس فافتتحها سنة اثنتين وأربعين، واستلحم من كان بها من الديلم، ونزل مدينة نسا وبعث إليه القائم بأمر الله بالخلع والألقاب، وولّاه على ما غلب عليه فبعث إليه طغرلبك بعشرة آلاف دينار، وأعلاق نفيسة من الجواهر والثياب والطيب، وإلى الحاشية بخمسة آلاف دينار، وللوزير رئيس الرؤساء بألفين، وحضروا العيد في سنة ثلاث وأربعين ببغداد فأمر الخليفة بالاحتفال في الزينة والمراكب والسلاح. ثم سار الغزّ سنة أربع وأربعين إلى شيراز وبها الأمير أبو سعد أخو الملك الرحيم فقاتلهم وهزمهم كما نذكر في أخبارهم.
استيلاء الملك الرحيم على البصرة من يد أخيه
ثم بعث الملك الرحيم سنة أربع وأربعين جيوشه إلى البصرة مع بصيرة البساسيري فحاصروا بها أخاه أبا عليّ وقاتلوا عسكره في السفن فهزموهم وملكوا عليهم دجلة والأنهر. وجاء الملك الرحيم فالعسكر في البرّ واستأمن إليه قبائل ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم بخوزستان بطاعتهم. ومضى أخوه أبو علي إلى(3/563)
شطّ عمان وتحصّن به فسار إليه الملك الرحيم، وملك عليه شط عمان ولحق بعبادان، وسار منها إلى أرّجان. ثم لحق بالسلطان طغرلبك بأصبهان فأكرمه وأصهر إليه، وأقطع له وأنزله بقلعة من أعمال جرباذقان. وولّى الملك الرحيم وزيره البساسيري على البصرة، وسار إلى الأهواز وأرسل منصور بن الحسين وهزارشب في تسليم أرّجان وتستر فتسلمها واصطلحا. وكان المقدّم على أرّجان فولاذ بن خسرو من الديلم فرجع إلى طاعة الملك الرحيم سنة خمس وأربعين.
فتنة ابن أبي الشوك ثم طاعته
كان سعدي بن أبي الشوك قد أعطى طاعته للسلطان طغرلبك بنواحي الريّ، وسار في خدمته، وبعثه سنة أربع وأربعين في العساكر إلى نواحي العراق فبلغ النعمانيّة وكثر عيثه، وراسله ملد [1] من بني عقيل قرابة قريش بن بدران في الاستظهار له على قريش ومهلهل أخي أبي الشوك فوعدهم، فسار إليهم مهلهل وأوقع بهم على عكبرا فساروا الى سعدى وشكوا اليه وهو على سامرا فسار وأوقع بعمّه مهلهل وأسره وعاد إلى حلوان وهمّ الملك الرحيم بتجهيز العساكر إليه بحلوان واستقدم دبيس بن مزيد لذلك. ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين ببغداد من أهل الكرخ وأهل السنّة، ودخلها طوائف من الأتراك، وعمّ الشرّ واطرحت مراقبة السلطان، وركب القوّاد لحسم العلّة فقتلوا علويا من أهل الكرخ فنادت نساؤه بالويل فقاتلهم العامّة، وأضرم النار في الكرخ بعض الأتراك فاحترق جميعه. ثم بعث القائم وسكن الأمر، وكان مهلهل لما أسر سار ابنه بدر إلى طغرلبك وابن سعدي كان عنده رهينة، وبعث إلى سعدي بإطلاق مهلهل عند ذلك، فامتنع سعدي من ذلك وانتقض على طغرلبك، وسار من همذان إلى حلوان وقاتلها فامتنعت عليه، فكاتب الملك الرحيم بالطاعة ولحقه عساكر طغرلبك فهزموه، ولحق ببعض القلاع هنالك وسار بدر في اتباعه إلى شهرزور، ثم جاءه الخبر بأنّ جمعا من الأكراد والأتراك قد أفسدوا السابلة وأكثروا العيث، فخرج إليهم البساسيري واتبعهم إلى البواريج وأوقع بالطوائف منهم واستباحهم وعبروا الزاب فلم يمكنه العود إليهم ونجوا.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 590: «فأرسل إليه ولده مع أولاد الزّرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمّه مهلهل وقريش بن بدران» .(3/564)
فتنة الأتراك
وفي سنة ست وأربعين شغب الأتراك على وزير الملك الرحيم في مطالبة أرزاقهم واستعدوه عليه فلم يعدهم فشكوا من الديوان وانصرفوا مغضبين، وباكروا من الغد لحصار دار الخليفة، وحضر البساسيري واستكشف حال الوزير فلم يقف له على خبر. وكبست الدور في طلبه فكان ذلك وسيلة للأتراك في نهب دور الناس. واجتمع أهل المحال لمنعهم، ونهاهم الخليفة فلم ينتهوا فهمّ بالرحلة عن بغداد. ثم ظهر الوزير وأنصفهم في أرزاقهم فتمادوا على بغيهم وعسفهم، واشتدّ عيث الأكراد والأعراب في النواحي فخربت البلاد، وتفرّق أهلها، وأغار أصحاب ابن بدران بالبرد وكبسوا حلل كامل بن محمد بن المسيّب ونهبوها. ونهبوا في جملتها ظهرا وأنعاما للبساسيري وانحل أمر الملك والسلطنة بالكلية.
استيلاء طغرلبك على أذربيجان وعلى أرمينية والموصل
سار طغرلبك سنة أربعين إلى أذربيجان فأطاعه صاحب قبرير أبو منصور وشهودان ابن محمد [1] وخطب له ورهن ولده عنده. ثم أطاعه صاحب جنده [2] أبو الأسوار ثم تبايع سائر النواحي على الطاعة وأخذ رهنهم. وسار إلى أرمينية فحاصر ملازكرد [3] وامتنعت عليه فخرّب ما جاورها من البلاد. وبعث إليه نصير الدولة بن مروان بالهدايا وقد كان دخل في طاعته من قبل وسار السلطان طغرلبك لغزو بلاد الروم واكتسحها الى أن أردن الروم، ورجع إلى أذربيجان ثم إلى الريّ، وخطب له قريش بن بدران صاحب الموصل في جميع أعماله وزحف إلى الأنبار ففتحها ونهب ما فيها البساسيري فانتقض لذلك وسار في العساكر إلى الأنبار فاستعاده من يده.
__________
[1] بياض بالأصل والأسماء محرفة وفي الكامل ج 9 ص 598: «في هذه السنة- 445- سار طغرلبك الى آذربيجان، فقصد تبريز وصاحبها الأمير أبو منصور وهسوذان بن محمد الرواديّ، فأطاعه وخطب له وحمل اليه ما أرضاه به.»
[2] جنزة: المرجع السابق.
[3] ملازكرد: المرجع السابق ص 599.(3/565)
وحشة البساسيري
كان أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المجلبان صاحبي قريش بن بدران وبعثهما إلى القائم سرّا من البساسيري بما فعل بالأنبار فانتقض البساسيري لذلك، واستوحش من القائم ومن رئيس الرؤساء، وأسقط مشاهراتهم ومشاهرة حواشيهم، وهمّ بهدم منازل بني المجلبان. ثم أقسر وسار إلى الأنبار وبها أبو القاسم بن المجلبان، وجاءه دبيس بن مزيد ممدّا له فحاصر الأنبار وفتحها عنوة ونهبها وأسر من أهلها خمسمائة، ومائة من بني خفاجة وأسر أبا الغنائم وجاء به إلى بغداد فأدخله على جمل، وشفع دبيس بن مزيد في قتله، وجاء إلى مقابل التاج من دار الخليفة فقبل الأرض وعاد إلى منزله.
وصول الغز الى الدسكرة ونواحي بغداد
وفي شوّال من سنة ست وأربعين وصل صاحب حلوان من الغزّ وهو إبراهيم بن إسحاق إلى الدسكرة فافتتحها ونهبها وصادر النساء. ثم سار إلى رسغباد [1] وقلعة البردان وهي لسعدي ابن أبي الشوك، وبها أمواله فامتنعت عليه فخرّب ما حولها من القرى ونهبها. وقوي طمع الغزّ في البلاد وضعف أمر الديلم والأتراك. ثم بعث طغرلبك أبا عليّ بن أبي كاليجار الّذي كان بالبصرة في جيش من الغزّ إلى خوزستان فاستولى على الأهواز وملكها ونهب الغزّ الذين معه أموال الناس ولقوا منهم عناء.
استيلاء الملك الرحيم على شيراز
وفي سنة سبع وأربعين سار فولاذ الّذي كان بقلعة إصطخر من الديلم. وقد ذكرناه إلى شيراز فملكها من يد أبي منصور فولاستون بن أبي كاليجار. وكان خطب بها للسلطان طغرلبك فخطب فولاذ بها للملك الرحيم ولأخيه أبي سعد يخادعهما بذلك.
وكان أبو سعد بأرّجان فاجتمع هو وأخوه أبو منصور على حصار شيراز في طاعة أخيهما الملك واشتدّ الحصار على فولاذ وعدمت الأقوات فهرب عنها إلى قلعة إصطخر وملك الأخوان شيراز وخطبا لأخيهما الملك الرحيم.
__________
[1] روشنقباذ: ابن الأثير ج 9 ص 603.(3/566)
وثوب الأتراك ببغداد بالبساسيري
قد ذكرنا تأكد الوحشة بين البساسيري ورئيس الرؤساء. ثم تأكدت سنة سبع وأربعين وعظمت الفتنة بالجانب الشرقي بين العامّة وبين أهل السنّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضروا الديوان حتى أذن لهم في ذلك وتعرّضوا لبعض سفن البساسيري منحدرة إليه بواسط، وكشفوا فيها عن جرار خمر، فجاءوا إلى أصحاب الديوان الذين أمروا بمساعدتهم واستدعوهم لكسرها فكسروها، واستوحش لذلك البساسيري ونسبه إلى رئيس الرؤساء. واستفتى الفقهاء في أنّ ذلك تعدّ على سفينته فأفتاه الحنفية بذلك. ووضع رئيس الرؤساء الأعيان على البساسيري بإذن من دار الخلافة، وأظهر معايبه. وبالغوا في ذلك، ثم قصدوا في رمضان دور البساسيري بإذن من دار الخلافة فنهبوها وأحرقوها، ووكّلوا بحرمة وحاشيته وأعلن رئيس الرؤساء بذمّ البساسيري وأنه يكاتب المستنصر صاحب مصر فبعث القائم إلى الملك الرحيم فأمره بإبعاده فأبعده.
استيلاء السلطان طغرلبك على بغداد والخلعة والخطبة له
قد ذكرنا من قبل رجوع السلطان طغرلبك من غزو الروم إلى الريّ، ثم رجع إلى همذان، ثم سار إلى حلوان عازما على الحجّ والاجتياز بالشام لإزالته من يد العلوية.
وأجفل الناس إلى غربيّ بغداد، وعظم الإرجاف ببغداد ونواحيها، وخيّم الأتراك بظاهر البلد. وجاء الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد البساسيري عنه كما أمره القائم فسار إلى بلد دبيس بن مزيد لصهر بينهما. وبعث طغرلبك إلى لقائهما بالطاعة وإلى الأتراك بالمقاربة والوعد فلم يقبلوا، وطلبوا من القائم إعادة البساسيري لأنه كبيرهم. ولما وصل الملك الرحيم سأل من الخليفة إصلاح أمره مع السلطان طغرلبك فأشار القائم بأن يقوّض الأجناد خيامهم ويخيّموا بالحريم الخلافي، ويبعثوا جميعا إلى طغرلبك بالطاعة، فقبلوا إشارته وبعثوا إلى طغرلبك بذلك فأجاب بالقبول والإحسان. وأمر القائم بالخطبة لطغرلبك على منابر بغداد فخطب آخر رمضان من سنة سبع وأربعين، واستأذن في لقاء الخليفة وخرج إليه رؤساء الناس في موكب من القضاة(3/567)
والفقهاء والأشراف وأعيان الديلم. وبعث طغرلبك للقائم وزيره أبا نصر الكندريّ وأبلغه رسالة القائم واستخلفه له وللملك الرحيم وأمراء الأجناد. ودخل طغرلبك بغداد ونزل بباب الشمّاسيّة لخمس بقين من رمضان، وجاء هنالك قريش بن بدران صاحب الموصل وكان من قبل في طاعته.
القبض على الملك الرحيم وانقراض دولة بني بويه
ولما نزل طغرلبك بغداد وافترق أهل عسكره في البلد يقضون بعض حاجاتهم، فوقعت بينهم وبين بعض العامّة منازعة فصاحوا بهم ورجموهم، وظنّ الناس أنّ الملك الرحيم قد اعتزم على قتال طغرلبك فتواثبوا بالغزّ من كل جهة. إلّا أهل الكرخ فإنهم سألوا [1] من وقع إليهم من الغز. وأرسل عميد الملك وزير طغرلبك عن عدنان ابن الرضي نقيب العلويّين، وكان مسكنه بالكرخ فشكره عن السلطان طغرلبك.
ودخل أعيان الديلم وأصحاب الملك الرحيم إلى دار الخلافة نفيا للتهمة عنهم.
وركب أصحاب طغرلبك فقاتلوا العامّة وهزموهم وقتلوا منهم خلقا ونهبوا سائر الدروب ودور رئيس الرؤساء وأصحابه والرصافة، ودور الخلفاء، وكان بها أموال الناس نقلت إليها للحرمة فنهب الجميع، واشتدّ البلاء وعظم الخوف وأرسل طغرلبك إلى القائم بالعتاب ونسبة ما وقع إلى الملك الرحيم والديلم، وأنهم انحرفوا، وكانوا برآء من ذلك. وتقدّم إليهم الخليفة بالحضور عند طغرلبك مع رسوله، فلمّا وصلوا إلى الخيام نهبها الغزّ ونهبوا رسل القائم معهم، ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم ومن معه، وبعث بالملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وكان ذلك لست سنين من ملكه. ونهب في تلك الهيعة قريش بن بدران صاحب الموصل، ومن معه من العرب، ونجا سليبا إلى خيمة بدر بن المهلهل، واتصل بطغرلبك خبره فأرسل إليه وخلع عليه وأعاده الى مخيّمه، وبعث القائم إلى طغرلبك بإنكار ما وقع في إخفار ذمّته في الملك الرحيم وأصحابه، وأنه يتحوّل عن بغداد فأطلق له بعضهم
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 611: «وأقبلوا من كل حدب ينسلون يقتلون من الغزّ من وجد في محال بغداد، إلا أهل الكرخ فإنّهم لم يتعرّضوا الى الغزّ، بل جمعوهم وحفظوهم.»(3/568)
بلكسكسالربه [1] وأنزع الاقطاعات من يد أصحابه الملك الرحيم فلحقوا بالبساسيري وكثر جمعه، وبعث طغرلبك إلى دبيس بالطاعة وإنفاذ البساسيري فخطب له في بلاده، وطرد البساسيري فسار إلى رحبة ملك، وكاتب المستنصر العلويّ صاحب مصر وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك الجند وأهملهم وانتشر الغزّ السلجوقية في سواد بغداد فنهبوا الجانب الغربي من تكريت إلى النيل، والجانب الشرقي إلى النهر وأنات [2] وخرّب السواد وانجلى أهله وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزارشب بن شكر بن عياض [3] بثلاثمائة وستين ألف دينار، وأقطعه أرّجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز دون ما سواها. وأقطع أبا علي بن كاليجار ويسين [4] وأعمالها وأمر أهل الكرخ بزيادة الصلاة خير من النوم في نداء الصبح، وأمر بعمارة دار المملكة وانتقل إليها في شوّال. وتوفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن القائم باللَّه في ذي القعدة من هذه السنة. ثم انكح السلطان طغرلبك من القائم باللَّه خديجة بنت أخيه داود واسمها أرسلان خاتون، وحضر للعقد عميد الملك الكندي وزير طغرلبك وأبو علي بن أبي كاليجار وهزارشب بن شكر بن عياض الكرديّ وابن أبي الشوك وغيرهم من أمراء الأتراك من عسكر طغرلبك. وخطب رئيس الرؤساء وولي العقد وقبل الخليفة بنفسه. وحضر نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمّام، ونقيب العلويّين عدنان ابن الرضي [5] والقاضي أبو الحسن الماوردي وغيرهم.
انتقاض أبي الغنائم بواسط
كان رئيس الرؤساء سعى لأبي الغنائم بن المجلبان في ولاية واسط وأعمالها، فوليها وصادر أعيانها، وجنّد جماعة وتقوّى بأهل البطيحة، وخندق على واسط، وخطب
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 613: «وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه ونهب بغداد، ويقول: إنهم إنما خرجوا إليك بأمري وأماني، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد، فاني إنما اخترتك واستدعيتك اعتقادا مني أنّ تعظيم الأوامر الشريفة يزداد، وحرمة الحريم تعظم، وأرى الأمر بالضد، فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الرحيم، وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصّلونها لأنفسهم. فتوجه كثير منهم الى البساسيري ولزموه، فكثر جمعه ونفق سوقه.»
[2] ومن الشرقي الى النهروان: المرجع السابق.
[3] هزارسب بن بنكير بن عياض: المرجع السابق.
[4] قرميسين: المرجع السابق ص 614.
[5] وهو عدنان بن الشريف الرضي.(3/569)
للمستنصر العلويّ بمصر فسار أبو نصر عميد العراق لحربه فهزمه وأسر من أصحابه.
ووصل الى السور فحاصره حتى تسلّم البلد. ومرّ أبو الغنائم ومعه الوزير ابن فسانجس ورجع عميد العراق إلى بغداد بعد أن ولّى على واسط منصور بن الحسين فعاد ابن فسانجس إلى واسط وأعاد خطبة العلويّ وقتل من وجده من الغزّ. ومضى منصور بن الحسين إلى المدار وبعث يطلب المدد فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء بحصار واسط فحاصرها، وقاتله ابن فسانجس فهزمه وضيّق حصاره. واستأمن إليه جماعة من أهل واسط فملكها وهرب فسانجس واتبعوه فأدركوه وحمل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين فشهّر وقتل.
الوقعة بين البساسيري وقطلمش
وفي سلخ شوّال من سنة ثمان وأربعين سار قطلمش وهو ابن عم السلطان طغرلبك وجدّ بني قليج أرسلان ملوك البلاد الروم، فسار ومعه قريش بن بدران صاحب الموصل لقتال البساسيري ودبيس، وسار بهم إلى الموصل وخطبوا بها للمستنصر العلويّ صاحب مصر وبعث إليهم بالخلع. وكان معهم جابر بن ناشب وأبو الحسن وعبد الرحيم [1] وأبو الفتح ابن ورائر [2] ونصر بن عمر ومحمد بن حمّاد.
مسير طغرلبك إلى الموصل
لما كان السلطان طغرلبك قد ثقلت وطأته على العامّة ببغداد، وفشا الضرر والأذى فيهم من معسكره فكاتبه القائم يعظه ويذكّره، ويصف له ما الناس فيه فأجابه السلطان بالاعتذار بكثرة العساكر. ثم رأى رؤيا في ليلته كأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوبّخه على ذلك. فبعث وزيره عميد الملك إلى القائم بطاعة أمره فيما أمر، وأخرج الجند من وراء العامّة ورفع المصادرات. ثم بلغه خبر وقعة قطلمش مع البساسيري وانحراف قريش صاحب الموصل إلى العلويّة، فتجهز وسار عن بغداد ثلاثة عشر شهر من نزوله عليها، ونهبت عساكره أوانا وعكبرا، وحاصر تكريت حتى رجع صاحبها نصر بن عيسى إلى الدعوة العبّاسيّة، وقتله السلطان، ورجع
__________
[1] هو أبو الحسن بن عبد الرحيم.
[2] ابو الفتح بن ورّام: ابن الأثير ج 9 ص 626.(3/570)
عنه إلى البواريج فتوفي نصر وخافت أمّه غريبة بنت غريب بن حكن [1] أن يملك البلد أخوه أبو الغشّام، فاستخلفت أبا الغنائم بن المجلبان ولحقت بالموصل، ونزلت على دبيس بن مزيد. وأرسل أبو الغنائم رئيس الرؤساء فأصلح حاله ورجع إلى بغداد وسلّم له تكريت، وأقام السلطان بالبواريخ [2] إلى سنة تسع وأربعين، وجاءه أخوه ياقوتي في العساكر فسار إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارشب بن شكر الكردي، وأراد العسكر نهبها فمنعهم السلطان. ثم أذن لهم في اللحاق إلى الموصل، وتوجه إلى نصيبين، وبعث هزارشب إلى البرّيّة في ألف فارس ليصيب من العرب، فسار حتى قارب رحالهم، وأكمن الكمائن، وقاتلهم ساعة. ثم استطرهم واتّبعوه فخرجت عليهم الكمائن فانهزموا وأثخن فيهم الغزّ بالقتل والأسر. وكان فيهم جماعة من بني نمير أصحاب حرّان والرقّة، وحمل الأسرى إلى السلطان فقتلهم أجمعين. ثم بعث دبيس وقريش إلى هزارشب يستعطف لهم السلطان فقبل السلطان ذلك منهما، وورد أمر البساسيري إلى الخليفة ومعه الأتراك البغداديون، وقتل ابن المقلّد وجماعة من عقيل إلى الرحبة، وأرسل السلطان إليهما أبا الفتح بن ورّام يستخبرهما فجاء بطاعتهما، وبمسير هزارشب إليهما فأذن له السلطان في المسير، وجاء إليهما واستحلفهما وحثّهما على الحضور فخافا. وأرسل قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر، ودبيس ابنه منصورا فأكرمهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما. وكان لقريش نهر الملك وباذروبا والأنبار وهيت ودجيل ونهر بيطر وعكبرا وأوانا وتكريت والموصل ونصيبين. ثم سار السلطان إلى ديار بكر فحاصر جزيرة ابن عمر، وبعث إليه يستعطفه ويبذل له المال، وجاء إبراهيم ينال أخو السلطان وهو محاصر، ولقيه الأمراء والناس، وبعث هزارشب إلى دبيس وقريش يحذرهما فانحدر دبيس إلى بلده بالعراق. وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم، وشكا قطلمش ما أصاب أهل سنجار منه عند هزيمته أمام قريش ودبيس، فبعث العساكر إليها، وحاصرها ففتحها عنوة واستباحها، وقتل أميرها عليّ بن مرجى [3] وشفع إبراهيم في الباقين فتركها وسلّمها الله وسلّم معها الموصل وأعمالها ورجع إلى بغداد في سنة تسع وأربعين فخرج رئيس
__________
[1] اميرة بنت غريب بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 627.
[2] تردد هذا الاسم في محلات عديدة البواريخ وهي البواريج كما عند ابن الأثير ج 9 ص 627.
[3] مجلى بن مرجا: ابن الأثير ج 9 ص 631.(3/571)
الرؤساء للقائه عن القائم، وبلغه سلامه وهديته، وهي جام من ذهب فيه جواهر، وألبسه لباس الخليفة وعمامته فقبل السلطان ذلك بالشكر والخضوع والدعاء، وطلب لقاء الخليفة، فأسعف وجلس له جلوسا فخما. وجاء السلطان في البحر فقرّب له لما نزل من السهيرية من مراكب الخليفة، والقائم على سرير علوّه سبعة أذرع متوشحا البردة وبيده القضيب، وقبالته كرسيّ لجلوس السلطان فقبّل الأرض وجلس على الكرسي، وقال له رئيس الرؤساء عن القائم: أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك، وولّاك ما ولّاه الله من بلاده، وردّ إليك مراعاة عباده فاتق الله فيما ولّاك واعرف نعمته عليك، واجتهد في نشر العدل وكفّ الظلم وإصلاح الرعيّة، فقبّل الأرض، وأفيضت عليه الخلع وخوطب بملك المشرق والمغرب، وقبّل يد الخليفة ووضعها على عينيه ودفع إليه كتاب العهد، وخرج فبعث إلى القائم خمسين ألف دينار وخمسين مملوكا من الأتراك منتقين بخيولهم وسلاحهم، إلى ما في معنى ذلك من الثياب والطيب وغيرهما.
فتنة ينال مع أخيه طغرلبك ومقتله
كان إبراهيم ينال قد ملك بلاد الجبل وهمذان واستولى على الجهات من نواحيها إلى حلوان أعوام سنة سبع وثلاثين. ثم استوحش من السلطان طغرلبك بما طلب منه أن يسلّم إليه مدينة همذان والقلاع فأبى من ذلك ينال، وجمع جموعا وتلاقيا فانهزم ينال وتحصّن بقلعة سرماج فملكها عليه بعد الحصار، واستنزله منها، وذلك سنة إحدى وأربعين. وأحسن إليه طغرلبك وخيّره بين المقام معه أو اقطاع الأعمال فاختار المقام.
ثم لمّا ملك طغرلبك بغداد وخطب له بها سنة سبع وأربعين، أخرج إليه البساسيري مع قريش بن بدران صاحب الموصل ودبيس بن مزيد صاحب الحلّة، وسار طغرلبك إليهم من بغداد، ولحقه أخوه إبراهيم ينال فلمّا ملك الموصل سلّمها إليه وجعلها لنظره مع سنجار والرحبة وسائر تلك الأعمال التي لقريش، ورجع إلى بغداد سنة تسع وأربعين. ثم بلغه سنة خمسين بعدها أنّه سار إلى بلاد الجبل فاستراب به وبعث إليه يستقدمه بكتابه وكتاب القائم مع العهد الكندي فقدم معه. وفي خلال ذلك قصد البساسيري وقريش بن بدران الموصل فملكاها جفلوا عنها فاتبعهم إلى نصيبين، وخالفه أخوه إبراهيم ينال إلى همذان في رمضان سنة خمسين. يقال إنّ(3/572)
العلويّ صاحب مصر والبساسيري كاتبوه واستمالوه وأطمعوه في السلطنة، فسار السلطان في اتباعه من نصيبين، وردّ وزيره عميد الملك الكندي وزوجته خاتون إلى بغداد، ووصل إلى همذان ولحق به من كان ببغداد من الأتراك فحاصر همذان في قلعة من العسكر، واجتمع لأخيه خلق كثير من الترك وحلف لهم أن لا يصالح طغرلبك ولا يدخل بهم العراق لكثرة نفقاته. وجاءه محمد وأحمد ابنا أخيه أرباش بأمداد من الغزّ فقوي بهم، ووهن طغرلبك فأفرج عنه إلى الريّ، وكاتب إلى أرسلان ابن أخيه داود، وقد كان ملك خراسان بعد أبيه سنة إحدى وخمسين كما يذكر في أخبارهم، فزحف إليه في العساكر ومعه أخواه ياقوت وقاروت بك، ولقيهم إبراهيم فيمن معه فانهزم، وجيء به وبابني أخيه محمد وأحمد أسرى إلى طغرلبك فقتلهم جميعا ورجع إلى بغداد لاسترجاع القائم.
دخول البساسيري بغداد وخلع القائم ثم عوده
قد ذكرنا أنّ طغرلبك سار إلى همذان لقتال أخيه وترك وزيره عميد الملك الكندي ببغداد مع الخليفة، وكان البساسيري وقريش بن بدران فارقا الموصل عند زحف السلطان طغرلبك إليهما، فلما سار عن بغداد لقتال أخيه بهمذان خالفه البساسيري وقريش إلى بغداد فكثر الإرجاف بذلك، وبعث عن دبيس بن مزيد حاجبه ببغداد ونزلوا بالجانب الشرقي، وطلب من القائم الخروج معه إلى إحيائه، واستدعى هزارشب من واسط للمدافعة، واستمهل في ذلك فقال العرب: لا نشير فأشيروا بنظركم، وجاء البساسيري ثامن ذي القعدة سنة خمسين في أربعمائة غلام على غاية من سوء الحال ومعه أبو الحسين بن عبد الرحيم، وجاء حسين بن بدران في مائة فارس وخيّموا مفترقين عن البلد، واجتمع العسكر والقوم إلى عميد العراق، وأقاموا إزاء البساسيري وخطب البساسيري ببغداد للمستنصر العلويّ صاحب مصر بجامع المنصور، ثم بالرصافة، وأمر بالأذان بحيّ على خير العمل، وخيّم بالزاهر، وكان هوى البساسيري لمذاهب الشيعة، وترك أهل السنّة للانحراف عن الأتراك فرأى الكندي المطاولة لانتظار السلطان، ورأى رئيس الرؤساء المناجزة وكان غير بصير بالحرب، فخرج لقتالهم في غفلة من الكنديّ، فانهزم وقتل من أصحابه خلق، ونهب باب الأزج وهو باب الخلافة.(3/573)
وهرب أهل الحريم الخلافي فاستدعى القائم العميد الكندي للمدافعة عن دار الخلافة فلم يرعهم إلّا اقتحام العدوّ عليهم من الباب النوبي، فركب الخليفة ولبس السواد، والنهب قد وصل باب الفردوس، والعميد الكندي قد استأمن الى قريش فرجع ونادى بقريش من السور فاستأمن إليه على لسان رئيس الرؤساء، واستأمن هو أيضا معه، وخرجا إليه وسارا معه ونكر البساسيري على قريش نقضه لما تعاهدا عليه، فقال: إنما تعاهدنا على الشركة فيما يستولي عليه، وهذا رئيس الرؤساء لك والخليفة لي.
ولما حضر رئيس الرؤساء عند البساسيري وبّخه وسأله العفو فأبى منه، وحمل قريش القائم الى معسكره على هيئته، ووضع خاتون بنت أخي السلطان طغرلبك في يد بعض الثقات من خواصّه وأمره بخدمتها، وبعث القائم ابن عمّه مهارش فسار به إلى بلده حديثة خان وأنزله بها. وأقام البساسيري ببغداد وصلّى عيد النحر بالألوية المصريّة وأحسن إلى الناس وأجرى أرزاق الفقهاء ولم يتعصّب المذهب. وأنزل أمّ القائم بدارها وسهّل جرايتها، وولى محمود بن الأفرم على الكوفة، وسعى الفرات وأخرج رئيس الرؤساء من محبسه آخر ذي الحجة فصلبه عند التجيبيّ لخمسين سنة من تردّده في الوزارة. وكان ابن ماكولا قد قبل شهادته سنة أربع عشرة، وبعث البساسيري الى المستنصر العلويّ بالفتح والخطبة له بالعراق، وكان هنالك أبو الغرج ابن أخي أبي القائم المغربي، فاستهان بفعله وخوّفه عاقبته، وأبطأت أجوبته مدّة، ثم جاءت بغير ما أمل، وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها، وأراد قصر الأهواز فبعث صاحبها هزارشب بن شكر فأصلح أمره على مال يحمله. ورجع البساسيري إلى واسط في شعبان سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي إلى هزارشب، وقد كان ولّى بغداد أباه على ما يذكر. ثم جاء الخبر إلى البساسيري بظفر طغرلبك بأخيه، وبعث إليه والي قريش في إعادة الخليفة إلى داره، ويقيم طغرلبك، وتكون الخطبة والسكّة له فأبى البساسيري من ذلك، فسار طغرلبك إلى العراق، وانتهى إلى قصر شيرين، وأجفل الناس بين يديه. ورحل أهل الكرخ بأهليهم وأولادهم برّا وبحرا، وكثر عيث بني شيبان في الناس، وارتحل البساسيري بأهله وولده ساوس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين لحول كامل.
من دخوله وكثر الهرج في المدينة والنهب والإحراق. ورحل طغرلبك إلى بغداد بعد أن(3/574)
أرسل من طريقه الأستاذ أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران بالشكر على فعله في القائم وفي خاتون بنت أخيه زوجة القائم، وأنّ أبا بكر بن فورك جاء بإحضارهما والقيام بخدمتهما، وقد كان قريش بعث إلى مهارش بأن يدخل معهم إلى البريّة بالخليفة ليصدّ ذلك طغرلبك عن العراق، ويتحكّم عليه بما يريد فأبى مهارش لنقض البساسيري عهوده، واعتذر بأنه قد عاهد الخليفة القائم بما لا يمكن نقضه ورحل بالخليفة إلى العراق، وجعل طريقه على بدران بن مهلهل. وجاء أبو فورك إلى بدر فحمله معه إلى الخليفة وأبلغه رسالة طغرلبك وهداياه، وبعث طغرلبك للقائه وزيره الكنديّ والأمراء والحجّاب بالخيام والسرادقات والمقرّبات بالمراكب الذهبيّة فلقوه في بلد بدر. ثم خرج السلطان فلقيه بالنهروان واعتذر عن تأخّره بوفاة أخيه داود بخراسان وعصيان إبراهيم بهمذان، وأنه قتله على عصيان. وأقام حتى رتّب أولاد داود في مملكته وقال إنه يسير إلى الشام في اتّباع البساسيري. وطلب صاحب مصر فقلّده القائم سيفه إذ لم يجد سواه، وأبدى وجهه للأمراء فحيّوه وانصرفوا. وتقدّم طغرلبك إلى بغداد فجلس في الباب النوبي مكان الحاجب، وجاء القائم فأخذ طغرلبك بلجام بغلته إلى باب داره وذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسار السلطان إلى معسكره وأخذ في تدبير أموره.
مقتل البساسيري
ثم أرسل السلطان طغرلبك خمارتكين في ألفين إلى الكوفة، واستقرّ معه سرايا بن منيع في بني خفاجة، وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس وقريش والبساسيري- وقد كانوا نهبوا الكوفة- إلّا والعساكر قد طلعت عليهم من طريق الكوفة، فأجفلوا نحو البطيحة. وسار دبيس ليردّ العرب إلى القتال فلم يرجعوا، ومضى معهم، ووقف البساسيري وقريش فقتل من أصحابهما جماعة وأسر أبو الفتح ابن ورّام ومنصور بن بدران وحمّاد بن دبيس، وأصاب البساسيري سهم فسقط عن فرسه، وأخذ رأسه لمتنكيرز [1] وأتى العميد الكندريّ وحمله إلى السلطان، وغنم العسكر جميع أموالهم وأهليهم، وحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فعلّق قبالة
__________
[1] كمشتكين: ابن الأثير ج 9 ص 649.(3/575)
النوبي في منتصف ذي الحجة. ولحق دبيس بالبطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان هذا البساسيري من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة اسمه أرسلان وكنيته أبو الحرث ونسبه في الترك. وهذه النسبة المعروفة له نسبة إلى مدينة بفارس حرفها الأوّل متوسّط بين الفاء والباء، والنسبة إليها فسوي، ومنها أبو علي الفارسيّ صاحب الإيضاح. وكان أوّلا ينسب إليها فلذلك قيل فيه هو بساسيري [1] .
مسير السلطان الى واسط وطاعة دبيس
ثم انحدر السلطان الى واسط أول سنة اثنتين وخمسين وحضر عنده هزارشب بن شكر من الأهواز، وأصلح حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين، أحضرهما عند السلطان وضمن واسط أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار، وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفّر، وأصعد السلطان إلى بغداد، واجتمع بالخليفة، ثم سار إلى بلد الجبل في ربيع سنة اثنتين وخمسين. وأنزل ببغداد الأمير برسو شحنة، وضمن أبو الفتح المظفّر بن الحسين في ثلاث سنين بأربعمائة ألف دينار، وردّ إلى محمود الأخرم إمارة بني خفاجة، وولّاه الكوفة وسقى الفرات وخواصّ السلطان بأربعة آلاف دينار في كل سنة.
وزارة القائم
ولما عاد القائم إلى بغداد ولّى أبا تراب الأشيري على الأنهار وحضور المراكب، ولقّبه حاجب الحجّاب، وكان خدمه بالحديثة ثم سعى الشيخ أبو منصور في وزارة أبي الفتح بن أحمد بن دارست على أن يحمل مالا فأجيب وأحضر من الأهواز في منتصف ربيع من سنة ثلاث وخمسين فاستوزره وكان من قبل تاجرا لأبي كاليجار، ثم ظهر عجزه في استيفاء الأموال فعزله، وعاد إلى الأهواز. وقدّم أثر ذلك أبو نصر بن جهير وزير نصير الدولة بن مروان نازعا منه إلى الخليفة القائم فقبله واستوزره، ولقّبه فخر الدولة.
__________
[1] عبارة أبي الفداء بسا، وهي بالعربية فسا من اللباب. بفتح الباء الموحدة والسين المهملة، ثم ألف.
ومدينة فسا عن ابن حوقل أكبر مدينة في كورة دارابجرد، وتقارب في الكبر شيراز. وفي اللباب ينسب إليها بالعربية فسوي، وأهل فارس ينسبون اليها البساسيري، وسيد أرسلان التركي من فسا فنسب الغلام اليه، واشتهر بالبساسيري، والبساسيري المذكور له ذكر مشهور في التواريخ وهو الّذي خطب لخلفاء مصر في بغداد، وطرد القائم العباسي عن بغداد، أهـ. باختصار.(3/576)
عقد طغرلبك على ابنه الخليفة
كان السلطان طغرلبك قد خطب من القائم ابنته على يد أبي سعد قاضي الريّ سنة ثلاث وخمسين، فاستنكف من ذلك. ثم بعث أبا محمد التميمي في الاستعفاء من ذلك وإلّا فيشترط ثلاثمائة ألف دينار وواسط وأعمالها. فلما ذكر التميمي ذلك للوزير عميد الملك بنى الأمر على الإجابة قال: ولا يحسن الاستعفاء، ولا يليق بالخليفة طلب المال، وأخبر السلطان بذلك فسرّ به وأشاعه في الناس ولقّب وزيره عميد الملك وأتى أرسلان خاتون زوجة القائم ومعه مائة ألف ألف دينار وما يناسبها من الجواهر والجوار، وبعث معهم قرامرد بن كاكويه [1] وغيره من أمراء الريّ، فلمّا وصلوا إلى القائم استشاط وهمّ بالخروج من بغداد. وقال له العميد: ما جمع لك في الأوّل بين الامتناع والاقتراح وخرج مغضبا إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة والشيخ أبو منصور بن يوسف. وكتب من الديوان إلى خمارتكين من أصحاب السلطان بالشكوى من عميد الملك وجاءه الجواب بالرفق. ولم يزل عميد الملك يريّض الخليفة وهو يتمنّع إلى أن رحل في جمادى من سنة أربع وخمسين. ورجع إلى السلطان وعرّفه بالحال، ونسب القضية إلى خمارتكين فتنكر له السلطان وهرب، واتّبعه أولاد ينال فقتلوه بثأر أبيهم، وجعل مكانه سارتكين [2] وبعث للوزير بشأنه. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب، وطلب بنت أخي زوجة القائم فأجاب الخليفة حينئذ إلى الإصهار، وفوّض إلى الوزير عميد الكندريّ عقد النكاح على ابنته للسلطان، وكتب بذلك إلى أبي الغنائم المجلبان فعقد عليها في شعبان من تلك السنة بظاهر تبريز. وحمل السلطان للخليفة أموالا كثيرة وجواهر لوليّ العهد وللمخطوبة، وأقطع ما كان بالعراق لزوجته خاتون المتوفاة للسيدة بنت الخليفة.
وتوجّه السلطان في المحرم سنة خمس وخمسين من أرمينية إلى بغداد ومعه من الأمراء أبو علي بن أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزار وأبو منصور بن قرامرد بن كاكويه، وخرج الوزير ابن جهير فتلقّاه، وترك عسكره بالجانب الغربي، ونادى الناس بهم. وجاء الوزير ابن العميد لطلب المخطوبة فأفرد له القائم دورا لسكناه وسكنى
__________
[1] فرامرز بن كاكويه: ابن الأثير ج 10 ص 21.
[2] ساوتكين: ابن الأثير ج 10 ص 22.(3/577)
حاشيته، وانتقلت المخطوبة إليها وجلست على سرير ملبّس بالذهب، ودخل السلطان فقبّل الأرض، وحمل لها مالا كثيرا من الجواهر وأولم أياما، وخلع على جميع أمرائه وأصحابه، وعقد ضمان بغداد على أبي سعد الفارسيّ بمائة وخمسين ألف دينار، وأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس، وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة، وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن فضلان بمائتي ألف.
وفاة السلطان طغرلبك وملك ابن أخيه داود
ثم سار السلطان طغرلبك من بغداد في ربيع الآخر إلى بلد الجبل، فلمّا وصل الريّ أصابه المرض وتوفي ثامن رمضان من سنة خمس وخمسين، وبلغ خبر وفاته إلى بغداد فاضطربت، واستقدم القائم مسلم بن قريش صاحب الموصل ودبيس بن مزيد وهزارشب صاحب الأهواز وبني ورّام وبدر بن مهلهل فقدموا، وأقام أبو سعد الفارسيّ ضامن بغداد سورا على قصر عيسى، وجمع الغلال، وخرج مسلم بن قريش من بغداد فنهب النواحي، وسار دبيس بن مزيد وبنو خفاجة وبنو ورّام والأكراد لقتاله. ثم استتيب ورجع إلى الطاعة وتوفي أبو الفتح بن ورّام مقدّم الأكراد والجاوانيّة، وحمل العامّة السلاح لقتال الأعراب فكانت سببا لكثرة الذعّار. ولما مات طغرلبك بايع عميد الدولة الكندريّ بالسلطنة لسليمان بن داود، وجعفر بك، وكان ربيب السلطان طغرلبك خلّف أخاه جعفر بك داود على أمّه، وعهد إليه بالملك، فلما خطب له اختلف عليه الأمر وسار باغي سيان وأرذم إلى قزوين فخطب لأخيه ألب أرسلان وهو محمد بن داود، وهو يومئذ صاحب خراسان ووزيره نظام الملك سار إلى المذكور، وسأل الناس إليه وشعر الكندري باختلال أمره فخطب بالريّ للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان. وزحف ألب أرسلان في العساكر من خراسان إلى الريّ فلقيه الناس جميعا ودخلوا في طاعته، وجاء عميد الملك الكندريّ إلى وزيره نظام الملك فخدمه وهاداه فلم يغن عنه، وخشي السلطان غائلته فقبض عليه سنة ست وخمسين وحبسه بمروالروذ. ثم بعث بعد سنة من محبسه بقتله في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين، وكان من أهل نيسابور كاتبا بليغا. فلمّا ملك طغرلبك نيسابور، وطلب كاتبا فدلّه عليه الموفّق والد أبي سهل فاستكتبه(3/578)
واستخلصه، وكان خصيّا يقال إنّ طغرلبك خصاه لأنه تزوّج بامرأة خطبها له، وغطّى عليه فظفر به فحاصره وأقرّه على خدمته. وقيل أشاع عند أعدائه أنه تزوّجها ولم يكن ذلك فخصى نفسه ليأمن من غائلته، وكان شديد التعصّب على الشافعيّة والأشعريّة. واستأذن السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، ثم أضاف إليهم الأشعرية فاستعظم ذلك أئمة السنة. وفارق خراسان أبو القاسم القشيري ثم أبو المعالي إلى مكّة فأقام أربعة سنين يتردّد بين الحرمين يدرّس ويفتي حتى لقّب إمام الحرمين.
فلمّا جاء دولة ألب أرسلان أحضرهم نظام الملك وزيره فأحسن إليهم وأعاد السلطان ألب أرسلان السيدة بنت الخليفة التي كانت زوجة طغرلبك إلى بغداد، وبعث في خدمتها الأمير أيتكين السليماني، وولّاه شحنة ببغداد، وبعث معها أيضا أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفّق لطلب الخطبة ببغداد فمات في طريقه، وكان من رؤساء الشافعيّة بنيسابور. وبعث السلطان مكانه العميد أبا الفتح المظفّر بن الحسين فمات أيضا في طريقه، فبعث وزيره نظام الملك، وخرج عميد الملك ابن الوزير فخر الدولة بن جهيّر لتلقّيهم، وجلس لهم القائم جلوسا فخما في جمادى الأولى من سنة ست وخمسين، وساق الرسل بتقليد ألب أرسلان السلطنة، وسلّمت إليهم الخلع بمشهد من الناس، ولقّب ضياء الدولة، وأمر بالخطبة له على منابر بغداد، وأن يخاطب بالولد المؤيد حسب اقتراحه، فأرسل إلى الديوان لأخذ البيعة النقيب طراد الزينبي، فأرسل إليه بنقجوان من أذربيجان، وبايع وانتقض على السلطان ألب أرسلان من السلجوقية صاحب هراة وصغانيان، فسار إليهم وظفر بهم كما نذكر في أخبارهم ودولتهم عند إفرادها بالذكر انتهى.
فتنة قطلمش والجهاد بعدها
كان قطلمش هذا من كبار السلجوقية وأقربهم نسبا إلى السلطان طغرلبك، ومن أهل بيته، وكان قد استولى على قومة واقصراي [1] وملطية، وهو الّذي بعثه السلطان طغرلبك أوّل ما ملك بغداد سنة تسع وأربعين لقتال البساسيري وقريش بن بدران صاحب الموصل، ولقيهم على سنجار الريّ. فجهّز ألب أرسلان العساكر من نيسابور في المحرّم من سنة سبع وخمسين، وساروا على المفارقة فسبقوا قطلمش إلى
__________
[1] قونية وأقصرا: ابن الأثير ج 10 ص 36.(3/579)
الريّ وجاء كتاب السلطان إليه ولقيه فلم يثبت ومضى منهزما واستباح السلطان عسكره قتلا وأسرا وأجلت الواقعة عنه قتيلا، فحزن له السلطان ودفنه. ثم سار إلى بلاد الروم معتزما على الجهاد، ومرّ بأذربيجان ولقيه طغرتكين [1] من أمراء التركمان في عشيرة، وكان ممارسا للجهاد فحثّه على قصده، وسلك دليلا بين يديه فوصل إلى نجران على نهر أرس وأمر بعمل السفن لعبوره، وبعث عساكر لقتال خويّ وسلماس من حصون أذربيجان، وسار هو في العساكر فدخل بلاد الكرخ وفتح قلاعها واحدة بعد واحدة كما نذكر في أخبارهم. ودوّخ بلادهم وأحرق مدنهم وحصونهم، وسار إلى مدينة آي من بلاد الديلم فافتتحها وأثخن فيها وبعث بالبشائر إلى بغداد وصالحه ملك الكرخ على الجزية ورجع إلى أصبهان. ثم سار منها إلى كرمان فأطاعه أخوه قاروت بن داود جعفر بك. ثم سار إلى مرو وأصهر إليه خاقان ملك ما وراء النهر بابنته لابنه ملك شاه، وصاحب غزنة بابنته لابنه الآخر انتهى.
العهد بالسلطنة لملكشاه بن ألب ارسلان
وفي سنة ثمان وخمسين عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملك شاه، واستخلف له الأمراء وخلع عليهم وأمر بالخطبة له في سائر أعماله، وأقطع بلخ لأخيه سليمان وخوارزم لأخيه ازعزا. [2] ومرو لابنه أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس ومازنداران للأمير ابتايخ وبيغوا [3] وجعل ولاية نقشوان [4] ونواحيها لمسعود بن ازناس [5] وكان وزيره نظام الملك قد ابتدأ سنة سبع وخمسين بناء المدرسة النظاميّة ببغداد، وتمّت عمارتها في ذي القعدة سنة تسع وخمسين، وعيّن للتدريس بها الشيخ إسحاق الشيرازي، واجتمع الناس لحضور درسه، وتخلّف لأنه سمع أن في مكانها غصبا. وبقي الناس في انتظاره حتى يئسوا منه، فقال الشيخ أبو منصور: لا ينفصل هذا الجمع إلا عن تدريس، وكان أبو منصور الصبّاغ حاضرا فدرّس وأقام مدرّسا عشرين يوما حتى سمع أبو إسحاق الشيرازي بالتدريس فاستقرّ بها.
__________
[1] طغركين: ابن الأثير ج 10 ص 37.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 50: «وخوارزم لأخيه أرسلان ارغو.»
[3] إينانج تيغو: ابن الأثير ج 10 ص 50.
[4] ولاية بغشور: ابن الأثير ج 10 ص 50.
[5] مسعود بن أرتاش.(3/580)
وزراء الخليفة
كان فخر الدولة بن جهير وزير القائم كما ذكرناه، ثم عزله سنة ستين وأربعمائة فلحق بنور الدولة دبيس بن مزيد بالقلوجة، وبعث القائم عن أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع، وكان يكتب لهزارسب بن عوض صاحب الأهواز فاستقدمه ليولّيه الوزارة، فقدم ومات في طريقه، ونفع دبيس بن مزيد في فخر الدولة بن جهيّر فأعيد إلى وزارته سنة إحدى وستين في صفر.
الخطبة بمكة
وفي سنة اثنتين وستين خطب محمد بن أبي هاشم بمكّة للقائم وللسلطان ألب أرسلان، وأسقط خطبة العلويّ صاحب مصر وترك حيّ على خير العمل من الأذان، وبعث ابنه وافدا على السلطان بذلك فأعطاه ثلاثين ألف دينار، وخلعا نفيسة ورتّب كل سنة عشرة آلاف دينار.
طاعة دبيس ومسلم بن قريش
كان مسلم بن قريش منتقضا على السلطان، وكان هزارشب بن شكر بن عوض قد أغرى السلطان بدبيس بن مزيد ليأخذ بلاده فانتقض. ثم هلك هزارشب سنة اثنتين وستين بأصبهان منصرفا من وفادته على السلطان بخراسان، فوفد دبيس على السلطان ومعه مشرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل، وخرج نظام الملك لتلقّيهما وأكرمهما السلطان ورجعا إلى الطاعة.
الخطبة العباسية بحلب واستيلاء السلطان عليها
كان محمود بن صالح بن مراد قد استولى هو وقومه على مدينة حلب، وكانت للعلويّ صاحب مصر. فلمّا رأى إقبال دولة ألب أرسلان وقوّتها خافه على بلده فحملهم على الدخول في دعوة القائم، وخطب له على منابر حلب سنة ثلاث وستين، وكتب بذلك إلى القائم، فبعث إليه نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبيّ بالخلع، ثم سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب ومرّ بديار بكر فخرج إليه صاحبها ابن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار. ومرّ بآمد فامتنعت عليه وبالرها كذلك. ثم نزل على حلب(3/581)
وبعث إليه صاحبها محمود مع نقيب النقباء طراد بالاستعفاء من الحضور فألحّ في ذلك، وحاصره فلما اشتدّ عليه الحصار خرج ليلا إلى السلطان، ومعه أمّه منيعة بنت وثاب النميري ملقيا بنفسه فأكرمه السلطان وخلع عليه وأعاده إلى بلده فقام بطاعته.
واقعة السلطان مع ملك الروم وأسره
كان ملك الروم في القسطنطينية وهو أرمانوس قد خرج سنة اثنتين وستين إلى بلاد الشام في عساكر كثيفة، ونزل على منبج ونهبها وقتل أهلها، وزحف إليه محمود بن صالح بن مرداس وابن حسّان الطائي في بني كلاب وطيِّئ ومن إليهم من جموع العرب فهزمهم، وطال عليه المقام على منبج وعزّت الأقوات فرجع إلى بلاده، واحتشد وسار في مائتي ألف من الزنج والروم والروس والكرخ، وخرج في احتفال إلى أعمال خلاط ووصل الى ملاذجرد. وكان السلطان ألب أرسلان بمدينة خويّ من أذربيجان عند عوده من حلب فتشوّق إلى الجهاد، ولم يتمكن من الاحتشاد، فبعث أثقاله وزوجته مع نظام الملك إلى همذان وسار فيمن حضره من العساكر.
وكانوا خمسة عشر ألفا ووطّن نفسه على الاستماتة، فلقيت مقدّمته عند خلاط جموع الروسية في عشرة آلاف فانهزموا وجيء بملكهم إلى السلطان فحبسه، وبعث بالأسلاب إلى نظام الملك ليرسلها الى بغداد. ثم تقارب العسكران وجنح السلطان للمهادنة فأبى ملك الروم فاعتزم السلطان وزحف وأكثر من الدعاء والبكاء. وعفّر وجهه بالتراب. ثم حمل عليهم فهزمهم وامتلأت الأرض باشلائهم وأسر الملك أرمانوس، جاء به بعض الغلمان أسيرا فضربه السلطان على رأسه ثلاثا ووبّخه. ثم فاداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وعلى أن يطلق كل أسير عنده، وأن تكون عساكر الروم مددا للسلطان متى يطلبها. وتمّ الصلح على ذلك لمدّة خمسين سنة. وأعطاه السلطان عشرة آلاف دينار وخلع عليه وأطلقه، ووثب ميخاييل على الروم فملك عليهم مكان أرمانوس فجمع ما عنده من الأموال فكان مائتي ألف دينار، وجيء بطبق مملوء بجواهر قيمته تسعون ألفا. ثم استولى أرمانوس بعد ذلك على أعمال الأرمن وبلادهم.(3/582)
شحنة بغداد
قد ذكرنا أنّ السلطان ألب أرسلان ولّى لأوّل ملكه أيتكين السليماني شحنة ببغداد سنة ست وخمسين فأقام فيها مدّة، ثم سار إلى السلطان في بعض مهمّاته، واستخلف ابنه مكانه فأساء السيرة، وقتل بعض المماليك الداريّة فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، وخوطب بعزله. وكان نظام الملك يعنى به فكتب فيه بالشفاعة، وورد سنة أربع وستين فقصد دار الخلافة وسأل العفو فلم يجب، وبعث إلى تكريت ليسوغها [1] بإقطاع السلطان فبرز المرسوم من ديوان الخلافة بمنع ذلك. ولما رأى السلطان ونظام الملك إصرار القائم على عزله، بعث السلطان مكانه سعد الدولة كوهرابين [2] أتباعا لمرضاة الخليفة. ولما ورد بغداد خرج الناس للقائه وجلس له القائم واستقرّ شحنة.
مقتل السلطان ألب أرسلان وملك ابنه ملك شاه
سار السلطان ألب أرسلان محمد إلى ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك تكين، وذلك سنة خمس وستين، وعبر على جسر عقده على جيحون في نيّف وعشرين يوما، وعسكره تزيد على مائتي ألف. وجيء له بمستحفظ القلاع، ويعرف بيوسف الخوارزمي فأمر بعقابه على ارتكابه فأفحش في سبّ السلطان فغضب وأمر بإطلاقه، ورماه بسهم فأخطأه، فسيّر إليه يوسف، وقام السلطان عن سريره فعثر ووقع فضربه بسكينة، وضرب سعد الدولة، ودخل السلطان خيمته جريحا. وقتل الأتراك يوسف هذا، ومات السلطان من جراحته عاشر ربيع سنة خمس وستين لتسع سنين ونصف من ملكه، ودفن بمرو عند أبيه، وكان كريما عادلا كثير الشكر لنعمة الله والصدقة، واتّسع ملكه حتى قيل فيه سلطان العالم. ولما مات وقد أوصى بالملك لابنه ملك شاه فجلس للملك، وأخذ له البيعة وزيره نظام الملك، وأرسل إلى بغداد فخطب له على منابرها، وكان ألب أرسلان اوصى أن يعطي أخوه قاروت بك أعمال فارس وكرمان وشيئا عيّنه من المال، وكان بكرمان. وأن يعطي ابنه إياس بن ألب أرسلان
__________
[1] هكذا بالأصل ويسوغ بمعنى يسهل ولا يلتئم. وفي الكامل ج 10 ص 70: «وكان نظام الملك يعنى بالسليماني فأضاف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها من ديوان الخلافة بالتوقف عن تسليمها.»
[2] كوهرائين: المرجع السابق.(3/583)
ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وعهد بقتال من لم يقض بوصيّته.
وعاد ملك شاه من بلاد ما وراء النهر فعبر الجسر في ثلاثة أيام، وزاد الجند في أرزاقهم سبعمائة ألف دينار، ونزل نيسابور وأرسل إلى ملوك الأطراف بالطاعة والخطبة فأجابوا. وأنزل أخاه إياس بن ألب أرسلان ببلخ وسار إلى الريّ. ثم فوّض إلى نظام الملك وأقطعه مدينة طوس التي هي منشؤه وغيرها، ولقّبه ألقابا منها أتابك ومعناها الأمير الوالد، فحمل الدولة بصرامة وكفاية وحسن سيرة، وبعث كوهرابين الشحنة إلى بغداد سنة ست وستين لاقتضاء العهد، فجلس له القائم وعلى رأسه حافده ووليّ عهده المقتدي بأمر الله، وسلم الى سعد الدولة كوهرابين عهد السلطان ملك شاه بعد ان قرأ الوزير أوّله في المحفل وعقد له اللواء بيده ودفعه إليه.
وفاة القائم ونصب المقتدي للخلافة
ثم توفي القائم بأمر الله أبو جعفر بن القادر افتصد منتصف شعبان من سنة سبع وستين ونام فانفجر فصاده، وسقطت قوّته، ولما أيقن بالموت أحضر حافده أبا القاسم عبد الله ابن ابنه ذخيرة الدين محمد، وأحضر الوزير ابن جهير والنقباء والقضاة وغيرهم، وعهد له بالخلافة. ثم مات لخمس وأربعين سنة من خلافته. وصلّى عليه المقتدي، وبويع بعهد جده، وحضر بيعته مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة، وأبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر بن الصبّاغ، ونقيب النقباء طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغانيّ، وغيرهم من الأعيان والأماثل. ولما فرغوا من البيعة صلّى بهم العصر ولم يكن للقائم عقب ذكر غيره لأنّ ابنه ذخيرة الدين أبا العبّاس محمدا توفي في حياته ولم يكن له غيره فاعتمد القائم لذلك. ثم جاءت جاريته أرجوان بعد موته لستة أشهر بولد ذكر فعظم سرور القائم به، ولما كانت حادثة البساسيري حمله أبو الغنائم بن المجلبان إلى حرّان وهو ابن أربع سنين، وأعاده عند عود القائم إلى داره.
فلما بلغ الحلم عهد له القائم بالخلافة ولما تمت بيعته لقّب المقتدي وأقرّ فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية جدّه القائم بذلك. وبعث ابن عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لأخذ البيعة في رمضان من سنة سبع وستين، وبعث معه من الهدايا ما يجلّ عن الوصف. وقدم سعد الدولة كوهرابين سنة ثمان وستين إلى بغداد شحنة، ومعه(3/584)
العميد أبو نصر ناظرا في أعمال بغداد، وقدم مؤيد الملك بن نظام الملك سنة سبعين للإقامة ببغداد، ونزل بالدار التي بجوار مدرستهم.
عزل الوزير ابن جهير ووزارة أبي شجاع
كان أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيريّ قد حجّ سنة تسع وستين، فورد بغداد منصرفا من الحجّ، ووعظ الناس بالنظاميّة، وفي رباط شيخ الشيوخ، ونصر مذهب الأشعريّ فأنكر عليه الحنابلة، وكثر التعصّب من الجانبين، وحدثت الفتنة والنهب عند المدرسة النظاميّة، فأرسل مؤيد الملك إلى العميد والشحنة فحضروا في الجند، وعظمت الفتنة ونسب ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير، وعظم ذلك على عضد الدولة فأعاد كوهرابين إلى الشحنة ببغداد وأوصاه المقتدي بعزل فخر الدولة من الوزارة، وأمر كوهرابين بالقبض على أصحابه ونمي الخبر إلى بني جهير فبادر عميد الدولة ابن الوزير إلى نظام الملك يستعطفه. ولما بلغ كوهرابين رسالة الملك إلى المقتدى أمر فخر الدولة بلزوم منزله. ثم جاء ابنه عميد الدولة، وقد استصلح نظام الملك في الشفاعة لهم، فأعيد عميد الملك إلى الوزارة دون أبيه فخر الدولة وذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين.
استيلاء تتش بن ألب أرسلان على دمشق وابتداء دولته ودولة نفيه فيها
كان أتسز بهمزة وسين وزاي بن أبق [1] الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه وقد سار سنة ثلاث وستين إلى فلسطين من الشام ففتح مدينة الرملة، ثم حاصر بيت المقدس وفتحها من يد العلويين أصحاب مصر، وملك ما يجاورها ما عدا عسقلان. ثم حاصر دمشق حتى جهدها الحصار فرجع وبقي يردّد الغزوات إليها كل سنة. ثم حاصرها سنة سبع وستين وبها المعلّى بن حمدرة [2] من قبل المنتصر العبيدي
__________
[1] أتسز بن اوق الخوارزمي: ابن الأثير ج 10 ص 68.
[2] المعلّى بن حيدرة: ابن الأثير ج 10 ص 99.(3/585)
فأقام عليها شهرا. ثم أقلع ديار أهل دمشق [1] بالمعلّى لسوء سيرته فهرب إلى بانياس ثم إلى صور، ثم أخذ إلى مصر وجلس بها ومات محبوسا واجتمع المصامدة بعد هربه من دمشق وولّوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي ولقّبوه زين الدولة. ثم اختلفوا عليه ووقعت الفتنة، وغلت الأسعار ورجع أتسز إلى حصارها فنزل له عنها انتصار على الأمان، وعوّضه عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل، وخطب فيها أتسز للمقتدي العبّاسي في ذي القعدة سنة ثمان وستين. وتغلّب على أكثر الشام ومنع من الأذان بحيّ على خير العمل. ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها حتى أشرف على أخذها. ثم انهزم من غير قتال ورجع إلى دمشق وقد انتقض عليه أكثر بلاد الشام، فشكر لأهل دمشق صونهم لمخلّفه وأمواله، ورفع عنهم خراج سنة وبلغه أنّ أهل القدس وثبوا بأصحابه ومخلفه وحصروهم في محراب داود عليه السلام، فسار إليهم وقاتلهم فملكهم عنوة وقتلهم في كل مكان إلّا من كان عند الصخرة. ثم إنّ السلطان ملك شاه أقطع أخاه تاج الدولة تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه من نواحيها، فسار إلى حلب سنة إحدى وسبعين وحاصرها وضيّق عليها، وكانت معه جموع كثيرة من التركمان. وكان صاحب مصر قد بعث عساكره مع قائده نصير الدولة لحصار دمشق فأحاطوا بها، وبعث أتسز إلى تتش وهو على حلب يستمدّه فسار إليه، وأجفلت العساكر المصرية عن دمشق، وجاء إليها تتش فخرج أتسز للقائه بظاهر البلد فتجنى عليه حيث لم يستعد للقائه، وقبض عليه وقتله لوقته، وملك البلد وأحسن السيرة فيها وذلك سنة إحدى وسبعين فيما قال الهمذاني. وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر إنّ ذلك كان سنة اثنتين وسبعين. وقال ابن الأثير والشاميّون في هذا الاسم افسلس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي [2] .
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 99: «فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار الى دمشق فحصرها وأميرها المعلّى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر، فلم يقدر عليها، فانصرف عنها في شوال، فهرب أميرها المعلّى في ذي الحجة. وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه، وثار به العسكر، وأعانهم العامة فهرب منها الى بانياس، ثم منها الى صور، ثم أخذ الى مصر فحبس بها فمات محبوسا» .
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 103: «هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي» .(3/586)
سفارة الشيخ أبى إسحاق الشيرازي عن الخليفة
كان عميد العراق أبو الفتح بن أبى الليث قد أساء السيرة وأساء إلى الرعيّة وعسفهم، واطرح جانب الخليفة المقتدي وحواشيه فاستدعى المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وبعثه إلى السلطان ملك شاه والوزير نظام الملك بالشكوى من ابن العميد، فسار لذلك ومعه جماعة من أعيان الشافعيّة منهم أبو بكر الشاشي وغيره، وذلك سنة خمس وخمسين. وتنافس أهل البلاد في لقائه والتمسّح بأطرافه والتماس البركة في ملبوسه ومركوبة، وكان أهل البلاد إذا مرّ بهم يتسايلون إليه ويزدحمون على ركابه، وينشدون على موكبه كل أحد ما يناسب ذلك، وصدر الأمر بإهانة ابن العميد ورفع يده عما يتعلق بحواشي المقتدي، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مناظرة بحضرة نظام الملك ذكرها الناس في كتبهم انتهى.
عزل ابن جهير عن الوزارة وإمارته على ديار بكر
ثم إنّ عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير عزله الخليفة المقتدي عن الوزارة ووصل يوم عزل رسول من قبل السلطان ونظام الملك يطلب بني جهير فأذن لهم وساروا بأهلهم إلى السلطان فلقّاهم كرامة وبرّا، وعقد لفخر الدولة على ديار بكر وكان بني مروان وبعث معه العساكر سنة وأعطاه الآلة وأذن له أن يخطب فيها لنفسه، ويكتب اسمه في السكّة فسار لذلك سنة ست وسبعين ثم بعث إليه السلطان سنة سبع وسبعين بمدد العساكر مع الأمير أرتق بن اكسب جلّ أصحاب ماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان قد استمدّ فخر الدولة بن جهير بنواحيها، وكان معه جماعة من التركمان فتقدّموا إلى قتل مشرف الدولة، وانهزم أمامهم وغنم التركمان من كان معه من أحياء العرب، ودخل آمد فحصره بها فخر الدولة وأرتق، فراسل أرتق وبذل له مالا على الخروج من ناحيته، فأذن له وخرج. ورجع ابن جهير الى ميافارقين ومعه بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب الحلّة والنيل والجامعين وابنه سيف الدولة صدقة ففارقوه إلى العراق، وسار هو إلى خلاط. وكان السلطان لما بلغه انهزام مشرف الدولة وحصاره بآمد بعث عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير في عسكره إلى الموصل ومعه قسيم الدولة آق سنقر جدّ نور الدين العادل، وكاتب أمراء التركمان بطاعته وساروا(3/587)
إلى الموصل فملكوها. وسار السلطان بنفسه إليها وقارن ذلك خلوص مشرف الدولة من حصار آمد فراسل مؤيد الدولة بن نظام الملك وهو على الرحبة، وأهدى له فسعى له عند السلطان وأحضره وأهدى للسلطان سوابق خيله وصالحه وأقرّه على بلاده، وعاد إلى خراسان. ولم يزل فخر الدولة بن جهير في طلب ديار بكر حتى ملكها. فأنفذ إليه زعيم الرؤساء القاسم سنة ثمان وسبعين، وحاصرها وضيّق عليها حتى غدر بها بعض أهل العسكر من خارج وملكها. وعمد أهل البلد إلى بيوت النصارى بينهم فنهبوها بما [1] كانوا عمّال بني مروان، وكان لهم جور على الناس. وكان فخر الدولة مقيما على ميافارقين محاصرا لها، وجاءه سعد الدولة كوهرابين في العسكر مددا من عند السلطان فخرج في حصارها وسقط بعض الأيام جانب من سورها فدهش أهل البلد وتنادوا بشعار السلطان ملك شاه، واقتحم فخر الدولة البلد واستولى على ما كان لبني مروان، وبعث بأموالهم إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فلحقه بأصبهان سنة ثمان وسبعين. ثم بعث فخر الدولة أيضا عسكرا إلى جزيرة ابن عمر وحاصروها حتى جهدهم الحصار، فوثب طائفة من أهل البلد بعاملها، وفتحوا الباب، ودخل مقدّم العسكر فملك البلد ودخل سنة ثمان وسبعين. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر واستولى عليها فخر الدولة بن جهير، ثم أخذها السلطان من يده وسار إلى الموصل فتوفي بها، وكان مولده بها واستخدم لبرلة بن مقلة [2] وسفر عنه إلى ملك الروم. ثم سار إلى حلب ووزر لمعزّ الدولة أبي هال بن صالح. ثم مضى إلى ملطية ثم إلى مروان بديار بكر، فوزر له ولولده. ثم سار إلى بغداد ووزر للخليفة كما مرّ في آخر ما ذكرنا، وتوفي سنة ثلاث وثمانين انتهى.
خبر الوزارة
لما عزل الخليفة المقتدي عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين رتّب في الديوان أبا الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء. ثم استوزر أبا شجاع محمد بن الحسين فلم يزل في الوزارة إلى سنة أربع وثمانين فتعرّض لأبي سعد بن سمحاء اليهودي كان وكيلا للسلطان، ونظام الملك، وسار كوهرابين الشحنة إلى السلطان بأصبهان، فمضى
__________
[1] مقتضى السياق لأنهم كانوا.
[2] بركة بن المقلد: ابن الأثير ج 10 ص 182.(3/588)
اليهودي في ركابه، وسمع المقتدي بذلك فخرج توقيعه بإلزام أهل الذمة بالغيار فأسلم بعضهم وهرب بعضهم. وكان ممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وقرابته، ولما وصل كوهرابين وأبو سعد إلى السلطان وعظمت سعايتهما في الوزير أبي شجاع فكتب السلطان ونظام الملك إلى المقتدي في عزله فعزله، وأمره بلزوم بيته، وولّى مكانه أبا سعد بن موصلايا الكاتب، وبعث المقتدي اليهما في عميد الدولة بن جهير فبعثا به إليه واستوزره سنة أربع وثمانين، وركب إليه نظام الدولة فهنّأه بالوزارة في بيته، وتوفي الوزير أبو شجاع سنة ثمان وثمانين.
استيلاء السلطان على حلب
قد ذكرنا من قبل استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب، وخطبة صاحبها محمود ابن صالح بن مرداس على منابره باسمه سنة ثلاث وستين. ثم عاد بعد ذلك إلى طاعة العلويّة بمصر. ثم انتقضت دولة بني مرداس بها، وعادت رياستها شورى في مشيختها، وطاعتهم لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكبيرهم ابن الحثيثي. واستقرّ ملك سليمان بن قطلمش ببلاد الروم، وملك أنطاكية سنة سبع وسبعين. وتنازع مع مشرف الدولة ابن قريش ملك حلب وتزاحفا فقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش سنة تسع وسبعين. وكتب إلى أهل حلب يستدعيهم إلى طاعته فاستمهلوه إلى أن يكاتبوا السلطان ملك شاه. فإنّ الكل كانوا في طاعته وكتبوا إلى تتش أخي السلطان وهو بدمشق أن يملّكوه فسار إليهم ومعه أرتق بن أكسب، كان قد لحق به عند ما جاء السلطان إلى الموصل وفتحها خشية مما فعله في خلاص مسلم بن قريش من حصار آمد فأقطعه تتش بيت المقدس. فلما جاء تتش إلى حلب وحاصر القلعة، وبها سالم بن مالك بن بدران ابن عمّ مشرف الدولة مسلم بن قريش، وكان ابن الحثيثي وأهل حلب قد كاتبوا السلطان ملك شاه أن يسلّموا إليه البلد، فسار من أصبهان في جمادى سنة تسع وستين، ومرّ بالموصل ثم بحرّان فتسلّمها وأقطعها محمد بن مسلم بن قريش، ثم بالرها فملكها من يد الروم، ثم بقلعة جعفر فحاصرها وملكها من يد بعض بني قشير، ثم بمنبج فملكها ثم عبر الفرات إلى حلب فأجفل أخوه تتش إلى البريّة ومعه أرتق. ثم عاد إلى دمشق وكان سالم بن مالك ممتنعا بالقلعة فاستنزله منها وأقطعه قلعة جعبر فلم تزل بيده ويد بنيه حتى ملكها منهم نور الدين العادل، وبعث إلى(3/589)
السلطان بالطاعة على شيراز، وولّى السلطان على حلب قسيم الدولة صاحب شيراز نصر بن عليّ بن منقذ الكناني وسلّم إليه اللاذقية وكفر طاب وفامية، فأقرّ على شيراز، وولّى السلطان على حلب قسيم الدولة آق سنقر جدّ نور الدين العادل، ورحل إلى العراق وطلب أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فحمله معه وأنزله بديار بكر فتوفي فيها بحلل إملاق. ودخل السلطان بغداد في ذي الحجة من سنة تسع وسبعين وأهدى إلى المقتدي وخلع عليه الخليفة، وقد جلس له في مجلس حفل ونظام الملك قائم يقدّم أمراء السلطان واحدا بعد واحد آخر للسلام للخليفة، ويعرّف بأسمائهم وأنسابهم ومراتبهم. ثم فوّض الخليفة المقتدي إلى السلطان أمور الدولة، وقبّل يده وانصرف. ودخل نظام الملك إلى مدرسته فجلس في خزانة الكتب وأسمع جزء حديث وأملى آخر. وأقام السلطان ببغداد شهرا ورحل في صفر من سنة ثمانين إلى أصبهان وجاء إلى بغداد مرّة أخرى في رمضان من سنة أربع وثمانين ونزل بدار الملك وقدّم عليه أخوه تاج الدولة تتش وقسيم الدولة آق سنقر من حلب، وغيرهما من أمراء النواحي. وعمل ليلة الميعاد من سنة خمس وثمانين، لم ير أهل بغداد مثله وأخذ الأمراء في بناء الدور ببغداد لسكناهم عند قدومهم فلم تمهلهم الأيام لذلك.
فتنة بغداد
كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدإ الخليفة فيما علمناه، واضطربت آخر الدولة العبّاسيّة بالفتن، وكثر فيها المفسدون والدعّار والعيارون من الرّها، وأعيا على الحكّام أمرهم، وربما أركبوا العساكر لقتالهم ويثخنون فيهم فلم يحسم ذلك من عللهم شيئا وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنّة والشيعة من الخلاف في الإمامة ومذاهبها، وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات، ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد، وحاشاه منه، فيقع الجدال والنكير ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام. وتكرّر ذلك منذ حجر الخلفاء. ولم يقدر بنو بويه ولا السلجوقيّة على حسم ذلك منها لسكنى أولئك بفارس، وهؤلاء بأصبهان، وبعدهم عن بغداد والشوكة التي تكون بها حسم العلل لاتفاقهم. وإنما تكون ببغداد شحنة تحسم ما خفّ من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة، ولم يحصل من ملوكهم اهتمام لحسم ذلك(3/590)
لاشتغالهم بما هو أعظم منه في الدولة والنواحي. وعامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم فاستمرّت هذه العلّة ببغداد، ولم يقلع عنها إلى أن اختلفت جدّتها وتلاشى عمرانها، وبقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام.
مقتل نظام الملك وأخباره
كان من أبناء الدهاقين بطوس أبو علي الحسين بن عليّ بن إسحاق، فشبّ وقرأ بها وسمع الحديث الكبير وتعلّق بالأحكام السلطانية وظهرت فيها كفايته، وكان يعرف بحسن الطوسي. وكان أميره الّذي يستخدمه يصادره كل سنة فهرب منه إلى داود وحفري بك، وطلبه مخدومه الأمير فمنعه، وخدم أبا علي بن شادان متولّي الأعمال ببلخ لحفري بك أخي السلطان طغرلبك، وهو والد السلطان ألب أرسلان. ولما مات أبو علي وقد عرف نظام الملك هذا بالكفاية والأمانة أوصى به ألب أرسلان فأقام بأمور دولته ودولة ابنه ملك شاه من بعده، وبلغ المبالغ كما مرّ واستولى على الدولة.
وولّى أولاده الأعمال وكان فيمن ولّاه منهم ابن ابنه عثمان جمال. وولّى على مرو، وبعث السلطان إليها شحنة من أعظم أمرائه، وقع بينه وبين عثمان نزاع فحملته الحداثة والإدلال بجاهه على أن قبض على الأمير وعاقبه، فانطلق إلى السلطان مستغيثا، وامتعض لها السلطان وبعث إلى نظام الملك بالنكير مع خواصه وثقاته فحملته الدالة على تحقيق تعديد حقوقه على السلطان، وإطلاق القول في العتاب والتهديد بطوارق الزمن. وأرادوا طي ذلك عن السلطان فوشى به بعضهم. فلما كان رمضان من سنة خمس وثمانين، والسلطان على نهاوند عائدا من أصبهان إلى بغداد، وقد انصرف الملك يومه ذلك من خيمة السلطان إلى خيمته، فاعترضه صبيّ قيل إنه من الباطنة في صورة مستغيث فطعنه بسكينة فمات، وهرب الصبي فأدرك وقتل، وجاء السلطان إلى خيمة نظام الملك يومه، وسكن أصحابه وعسكره، وذلك لثلاثين سنة من وزارته سوى ما وزر لأبيه ألب أرسلان أيام إمارته بخراسان.
وفاة السلطان ملك شاه وملك ابنه محمود
لما قتل نظام الملك على نهاوند كما ذكرناه سار السلطان لوجهه، ودخل بغداد آخر رمضان من سنته، ولقيه الوزير عميد الدولة بن جهير واعتزم السلطان أن يولّي،(3/591)
وزارته تاج الملك وهو الّذي سعى بنظام الملك، وكانت قد ظهرت كفايته. فلما صلّى السلطان العيد عاد إلى بيته وقد طرقه المرض، وتوفي منتصف شوّال، فكتمت زوجته تركمان خاتون موته وأنزلت أموالها وأموال أهل الدولة بحريم دار الخلافة، وارتحلت إلى أصبهان، وسلّوا السلطان معها في تابوته وقد بذلت الأموال للأمراء على طاعة ابنها محمود والبيعة له فبايعوه، وقدمت من طريق قوام الدولة كربوقا الّذي ملك الموصل من بعد ذلك، فسار بخاتم السلطان لنائب القلعة وتسلّمها. ولما بايعت لولدها محمود وعمره يومئذ أربع سنين بعثت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة له فأجابها على شرط أن يكون أنز من أمراء أبيه هو القائم بتدبير الملك، وأن يصدر عن رأي الوزير تاج الملك، ويكون له ترتيب العمّال وجباية الأموال فأبت أوّلا من قبول هذا الشرط، حتى جاءها الإمام أبو حامد الغزالي وأخبرها أنّ الشرع لا يجير تصرفاته فأذعنت لذلك، فخطب لابنها آخر شوّال من السنة، ولقّب ناصر الدولة والدين، وكتب إلى الحرمين الشريفين فخطب له بهما.
ثورة بركيارق بملك شاه
كانت تركمان خاتون عند موت السلطان ملك شاه قد كتمت موته وبايعت لابنها محمود كما قلناه، وبعثت إلى أصبهان سرّا في القبض على بركيارق ابن السلطان ملك شاه خوفا من أن ينازع ابنها محمود فحبس. فلما ظهر موت ملك شاه وثب مماليك بركيارق ونظام الملك على سلاح كان له بأصبهان وثاروا في البلد وأخرجوا بركيارق في محبسه وبايعوه وخطبوا له بأصبهان. وكانت أمّه زبيدة بنت عم ملك شاه وهو ياقولي خائفة على ولدها من خاتون أمّ محمود، وكان تاج الملك قد تقدّم إلى أصبهان وطالبه العسكر بالأموال فطلع إلى بعض القلاع لينزل منها المال وامتنع منها خوفا من مماليك نظام الملك. ولما وصلت تركمان خاتون إلى أصبهان جاءها فقبلت عذره. وكان بركيارق لما أقامت خاتون ابنها محمودا بأصبهان خرج فيمن معه من النظامية إلى الريّ واجتمع معه بعض أمراء أبيه وبعثت خاتون العساكر إلى قتاله، وفيهم أمراء ملك شاه. فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركيارق واشتدّ القتال فانهزم عسكر محمود وخاتون، وعادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في أثرهم فحاصرهم بها.(3/592)
مقتل تاج الملك
كان الوزير تاج الملك قد حضر مع عسكر خاتون وشهد وقعة بركيارق. فلما انهزموا سار إلى قلعة يزدجرد فحبس في طريقه، وحمل إلى بركيارق وهو محاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته فأجمع أن يستوزره، وأصلح هو النظاميّة وبذل لهم مائتي ألف دينار واسترضاهم بها. ونمي ذلك إلى عثمان نائب نظام الملك فوضع الغلمان الأصاغر عليه الطالبين ثأر سيدهم وأغراهم فقتلوه وقطعوه قطعا [1] وذلك في المحرّم سنة ست وثمانين. ثم خرج إلى بركيارق من أصبهان وهو محاصر لها عزّ الملك أبو عبد الله بن الحسين بن نظام الملك وكان على خوارزم، ووفد على السلطان ملك شاه قبل مقتل أبيه. ثم كان ملكهما فأقام هو بأصبهان وخرج إلى بركيارق وهو يحاصرها فاستوزره وفوّض إليه أمر دولته انتهى.
الخطبة لبركيارق ببغداد
ثم قدم بركيارق بغداد سنة ست وثمانين، وطلب من المقتدي الخطبة فخطب له على منابرها ولقّب ركن الدين وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير إليه الخلع فلبسها وتوفي المقتدي وهو مقيم ببغداد.
وفاة المقتدي ونصب المستظهر للخلافة
ثم توفي المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله في منتصف محرّم سنة سبع وثمانين، وكان موته فجأة، أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم عليه فقرأه ووضعه. ثم قدّم إليه طعام فأكل منه ثم غشي عليه فمات، وحضر الوزير فجهزوا جنازته وصلّى عليه ابنه أبو العبّاس أحمد ودفن وذلك لتسع عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وكانت له قوّة وهمّة لولا أنه كان مغلبا، وعظمت عمارة بغداد في أيامه، وأظنّ ذلك لاستفحال دولة بني طغرلبك. ولما توفي المقتدي وحضر الوزير أحضر ابنه أبا العباس أحمد الحاشية فبايعوه ولقّبوه المستظهر، وركب الوزير إلى بركيارق وأخذ بيعته للمستظهر. ثم حضر بركيارق لثالثة من وفاته ومعه وزيره عزّ الملك بن نظام الملك وأخوه بهاء الملك، وأمر السلطان بأرباب
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 216: «فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة وان لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا وفصّلوه أجزاء» .(3/593)
المناصب فجمعوا وحضر النقيبان طراد العبّاسى والمعمّر العلويّ، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغانيّ والغزالي والشاشي وغيرهم فحبسوا في العراء وبايعوا.
أخبار تتش وانتقاضه وحروبه ومقتله
قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ تتش بن السلطان ألب أرسلان استقل بملك دمشق وأعمالها، وأنه وفد على السلطان ملك شاه ببغداد قبل موته وانصرف، وبلغه خبر وفاته بهيت فملكها وسار إلى دمشق فجمع العساكر، وزحف إلى حلب فأطاعه صاحبها قسيم الدولة آق سنقر. وسار معه، وكتب إلى ناعيسان صاحب أنطاكية وإلى برار صاحب الرها وحرّان يشير عليهما بطاعة تتش حتى يصلح حال أولاد ملك شاه فقبلوا منه، وخطبوا له في بلادهم وساروا معه فحضر الرحبة وملكها في المحرّم سنة ست وثمانين، وخطب فيها لنفسه. ثم فتح نصيبين عنوة وعاث فيها وسلّمها لمحمد بن مشرف الدولة وسار يريد الموصل ولقيه الكافي فخر الدولة بن جهير وكان في جزيرة ابن عمر فاستوزره وبعث إلى إبراهيم بن مشرف الدولة مسلم بن قريش وهو يومئذ ملك الموصل يأمره بالخطبة له، وتسهيل طريقه إلى بغداد فأبى من ذلك وزحف إليه تتش وهو في عشرة آلاف وآق سنقر على ميمنته وتوزران [1] على ميسرته، وإبراهيم في ستين ألفا والتقوا فانهزم إبراهيم وأخذ أسيرا وقتل جماعة من أمراء العرب صبرا، وملك تاج الدولة تتش الموصل، وولّى عليها عليّ بن مشرف الدولة. وفوّض إليه أمر صفيّة عمة تتش وبعث إلى بغداد يطلب مساعدة كوهرابين الشحنة فجاء العذر بانتظار الرسل من العسكر، فسار إلى ديار بكر وملكها، ثم إلى أذربيجان، وبلغ خبره إلى بركيارق، وقد استولى على همذان والريّ فسار لمدافعته، فلمّا التقى العسكران جنح آق سنقر إلى بركيارق وفاوض توران في ذلك، وأنهما إنّما اتّبعا تتش حتى يظهر أمر أولاد ملك شاه، فوافقه على ذلك، وسارا معا إلى بركيارق فانهزم تتش وعاد إلى دمشق، واستفحل بركيارق وجاءه كوهرابين يعتذر من مساعدته لتتش في الخطبة فلم يقبله، وعزله وولّى الأمير نكبرد شحنة بغداد مكانه. ثم خطب لبركيارق ببغداد كما قدّمناه.
ومات المقتدي ونصب المستظهر، ولما عاد تتش من أذربيجان إلى الشام جمع العساكر وسار إلى حلب لقتال آق سنقر، وبعث بركيارق كربوقا الّذي صار أمير الموصل مددا لآقسنقر، ولقيهم تتش قريبا من حلب فهزمهم وأسر آق سنقر فقتله صبرا. ولحق
__________
[1] توزون: الكامل في التاريخ ج 8 ص 301 ووردت أيضا توران.(3/594)
توران وكربوقا بحلب، وحاصرهما تتش فملكها وأخذهما أسيرين، وبعث إلى حرّان والرّها في الطاعة، وكانتا لتوران فامتنعوا، فبعث برأسه إليهم وأطاعوه، وحبس كربوقا في حمص إلى أن أطاعه رضوان بعد قتل أبيه تتش. ثم سار تتش إلى الجزيرة فملكها، ثم ديار بكر ثم خلاط وأرمينية، ثم أذربيجان. ثم سار إلى همذان فملكها، وكان بها فخر الدولة نظام الملك، سار من حرّان لخدمة بركيارق فلقيه الأمير تاج من عسكر محمود بن ملك شاه بأصبهان، فنهب ماله ونجا بنفسه إلى همذان، وصادف بها تتش وشفع فيه باغسيان وأشار بوزارته فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من المستظهر وبعث يوسف بن أبق التركماني شحنته إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخولها. وكان بركيارق قد سار إلى نصيبين وعبر دجلة فوق الموصل إلى أربل، ثم إلى بلد سرخاب بن بدر حتى إذا كان بينه وبين عمّه تسعة فراسخ، وهو في ألف رجل وعمّه في خمسين ألفا، فبيّته بعض الأمراء من عسكر عمّه فانهزم إلى أصبهان، وبها محمود ابن أخيه، وقد ماتت أمّه تركمان خاتون فأدخله أمراء محمود، واحتاطوا عليه. ثم مات محمود سلخ شوّال من سنة سبع وثمانين، واستولى بركيارق على الأمر، وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره في ذي الحجّة، واستمال الأمراء فرجعوا إليه وكثر جمعه. وكان تتش بعد هزيمة بركيارق قد اختلف عليه الأمراء وراسل أمراء أصبهان يدعوهم إلى طاعته فواعدوه انتظار بركيارق، وكان قد أصابه الجدري، فلمّا أبلّ نبذوا إليه عهده، وساروا مع بركيارق من أصبهان، وأقبلت إليهم العساكر من كل مكان وانتهوا إلى ثلاثين ألفا والتقوا قريبا من الريّ فانهزم تتش وقتله بعض أصحاب آق سنقر، وكان قد حبس وزيره فخر الملك بن نظام الملك فأطلق ذلك اليوم، واستفحل أمر بركيارق وخطب له ببغداد.
ظهور السلطان ملك شاه والخطبة له ببغداد
كان السلطان بركيارق قد ولّى على خراسان وأعمالها أخاه لأبيه سنجر فاستقل بأعمال خراسان كما يذكر في أخبار دولتهم عند انفرادها بالذكر. وإنما نذكر هنا من أخبارهم ما يتعلّق بالخلافة والخطبة لهم ببغداد، لأنّ مساق الكلام هنا إنما هو عن أخبار دولة بني العبّاس، ومن وزر لهم أو تغلّب خاصة. وكان لسنجر بن ملك شاه أخ شقيق اسمه محمد، ولمّا هلك السلطان ملك شاه سار مع أخيه محمود وتركمان خاتون إلى(3/595)
أصبهان. فلمّا حاصرهم بركيارق لحق به أخوه محمد هذا وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين، وأقطعه دجلة وأعمالها وبعث معه قطلغ تكين أتابك. فلمّا استوى على أمره قتله أنفة من حجره. ثم لحق به مؤيد الملك بن عبيد الله بن نظام الملك، كان مع الأمير أنز وداخله في الخلاف على السلطان بركيارق. فلما قتل أنز كما نذكر في أخبارهم لحق مؤيد الملك بمحمد بن السلطان ملك شاه، وأشار عليه ففعل وخطب لنفسه. واستوزر مؤيد الملك، وقارن ذلك أنّ السلطان بركيارق قتل خاله مجد الملك البارسلاني فاستوحش منه أمراؤه، ولحقوا بأخيه محمد وسار بركيارق إلى الريّ واجتمع له بها عساكر وجاء عزّ الملك منصور بن نظام الملك في عساكر، وبينما هو في الريّ إذ بلغه مسير أخيه محمد إليه فأجفل راجعا إلى أصبهان فمنعه أهلها الدخول، فسار إلى خوزستان. وجاء السلطان محمد إلى الريّ أوّل ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين، ووجد أم بركيارق بها وهي زبيدة خاتون فحبسها مؤيد الملك وقتلها، واستفحل ملك محمد، وجاءه سعد الدولة كوهرابين شحنة بغداد وكان مستوحشا من بركيارق، وجاء معه كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، وسرخاب ابن بدر صاحب كركور فلقوه جميعا بقمّ وسار كربوقا وجكرمش معه إلى أصبهان، وردّ كوهرابين إلى بغداد في طلب الخطبة من الخليفة، وأن يكون شحنة [1] بها فأجابه المستظهر إلى ذلك وخطب له منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين ولقب غياث الدنيا والدين.
اعادة الخطبة لبركيارق
لما سار بركيارق مجفلا من الريّ إلى خوزستان أمام أخيه محمد، وأمير عسكره يومئذ ينال بن أنوش تكين الحسامي، ومعه جماعة من الأمراء، أجمع المسير إلى العراق، فسار إلى واسط، وجاءه صدقة بن مزيد صاحب الحلّة. ثم سار إلى بغداد فخطب له بها منتصف صفر من سنة ثلاث وتسعين. ولحق سعد الدولة كوهرابين ببعض الحصون هنالك ومعه أبو الغازي بن أرتق وغيره من الأمراء، وأرسل إلى السلطان محمد ووزيره مؤيد الملك يستحثّهما في الوصول، فبعث إليه كربوقا صاحب
__________
[1] الشحنة: الحامية وقد استعملها ابن خلدون بمعنى القائد أو رئيس الشرطة وفي لسان العرب: وبالبلد شحنة من الخيل اي رابطة. قال ابن بري: وقول العامة في الشحنة إنه الأمير غلط. وقال الأزهري شحنة الكورة من فيهم الكفاية لضبطها من أولياء السلطان.(3/596)
الموصل وجكرمش صاحب الجزيرة فلم يرضه. وطلب جكرمش العود إلى بلده فأطلقه. ثم نزع كوهرابين ومن معه من الأمراء إلى بركيارق باغزاء كربوقا صاحب الموصل، وكاتبوه فخرج إليهم ودخلوا معه بغداد واستوزره الأغرّ ابو المحاسن عبد الجليل بن عليّ بن محمد الدهستانيّ، وقبض على عميد الدولة ابن جهير وزير الخليفة وطالبه بأموال ديار بكر والموصل في ولايته وولاية أبيه، وصادره على مائة وستين ألف دينار فحملها إليه وخلع المستظهر على السلطان بركيارق واستقرّ أمره.
المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد وقتل كوهرابين والخطبة لمحمد
ثم سار بركيارق من بغداد إلى شهرزور لقتال أخيه محمد، واجتمع إليه عسكر عظيم من التركمان، وكاتبه رئيس همذان بالمسير إليه فعدا عنه، ولقي أخاه محمدا على فراسخ من همذان ومحمد في عشرين ألف مقاتل، ومعه الأمير سرخو شحنة أصبهان وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز، وعلى ميسرته مؤيد الملك والنظامية. ومع بركيارق في لقلب وزيره أبو المحاسن، وفي ميمنته كوهرابين وصدقة بن مزيد وسرخاب بن بدر.
وفي ميسرته كربوقا وغيره من الأمراء. فحمل كوهرابين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد فانهزموا حتى نهبت خيامهم. ثم حملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزمت، وحمل محمد معهم فانهزم بركيارق، ورجع كوهرابين للمنهزمين فكبا به فرسه وقتل، وافترقت عساكر بركيارق وأسر وزيره أبو المحاسن فأكرمه مؤيد الملك وأنزله وأعاده إلى بغداد ليخاطب المستظهر في إعادة الخطبة للسلطان محمد ففعل، وخطب له ببغداد منتصف رجب سنة ثلاث وتسعين. وابتداء أمر كوهرابين أنه كان لامرأة بخوزستان وصار خادما للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة. وحظي عنده وكان يستعرض حوائج تلك المرأة وأصاب أهلها منه خيرا. وأرسله أبو كاليجار مع ولده أبي نصر إلى بغداد، فلمّا قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى محبسه بقلعة طبرك. ولمّا مات أبو نصر سار إلى خدمة السلطان ألب أرسلان فحظي عنده وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد، وكان حاضرا معه يوم قتله يوسف الخوارزمي ووقّاه بنفسه. ثم بعثه ابنه ملك شاه إلى بغداد لإحضار الخلع والتقليد، واستقرّ(3/597)
شحنة ببغداد إلى أن قتل، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الكلمة وكمال القدرة وخدمة الأمراء والأعيان وطاعتهم انتهى.
مصاف بركيارق مع أخيه سنجر
ولما انهزم السلطان بركيارق من أخيه محمد لحق بالريّ واستدعى شيعته وأنصاره من الأمراء فلحقوا به. ثم ساروا إلى أسفراين وكاتب الأمير داود حبشر بن التونطاق يستدعيه وهو صاحب خراسان وطبرستان ومنزله بالدامغان، فأشار عليه باللحاق بنيسابور حتى يأتيه. فدخل نيسابور وقبض على رؤسائها، ثم أطلقهم وأساء التصرّف. ثم أعاد الكتاب إلى داود حبشي بالاستدعاء فاعتذر بأنّ السلطان سنجر زحف إليه في عساكر بلخ. ثم سأل منه المدد فسار بركيارق إليه في ألف فارس وهو في عشرين ألفا والتقوا بسنجر عند النوشجان وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته كوكر، ومعه في القلب رستم. فحمل بركيارق على رستم فقتله وانهزم أصحابه ونهب عسكرهم، وكادت الهزيمة تتم عليهم. ثم حمل برغش وكوكر على عسكر بركيارق وهم مشتغلون بالنهب فانهزموا، وانهزم بركيارق. وجاء بعض التركمان بالأمير داود حبشي أسيرا إلى برغش فقتله ولحق بركيارق بجرجان ثم بالدامغان، وقطع البريّة إلى أصبهان بمراسلة أهلها فسبقه أخوه محمد إليها فعاد أسيرهم انتهى.
عزل الوزير عميد الدولة بن جهير ووفاته
قد ذكرنا أنّ وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن أسر في المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد، وأنّ مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد أطلقه واصطنعه وضمنه عمارة بغداد، وحمله طلب الخطبة لمحمد ببغداد من المستظهر فخطب له، وكان فيما حمله للمستظهر عزل وزيره عميد الدولة بن جهير. وبلغ ذلك عميد الدولة فأرسل من يعترض الأغر ويقتله فامتنع بعقر باب. ثم صالحه ذلك الّذي اعترضه وطلب لقاءه فلقيه، ودسّ الأغر إلى أبي الغازي بن أرتق، وكان وصل معه وسبقه إلى بغداد، فرجع إليه ليلا ويئس منه ذلك الّذي اعترضه، ووصل الأغرّ بغداد، وبلغ إلى المستظهر رسالة مؤيد الدولة في عزل عميد الدولة فقبض عليه في رمضان من سنة(3/598)
ثلاث وتسعين، وعلى إخوته، وصودر على خمسة وعشرين ألف دينار، وبقي محبوسا بدار الخلافة إلى أن هلك في محبسه.
المصاف الثاني بين بركيارق وأخيه محمد ومقتل مؤيد الملك والخطبة لبركيارق
قد ذكرنا أنّ بركيارق لمّا انهزم أمام أخيه محمد في المصاف الأوّل سار إلى أصبهان، ولم يدخلها فمضى إلى عسكر مكرم إلى خوزستان وجاءه الأميران زنكي وألبكي ابنا برسق. ثم سار إلى همذان فكاتبه أياز من كبار أمراء محمد بما كان استوحش منه فجاءه في خمسة آلاف فارس وأغراه باللقاء فارتحل لذلك. ثم استأمن إليه سرخاب ابن كنخسرو صاحب آوة فاجتمع له خمسون ألفا من المقاتلة، وبقي أخوه في خمسة عشر ألفا. ثم اقتتلوا أول جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين، وأصحاب محمد يغدون على محمد شيئا فشيئا مستأمنين. ثم انهزم آخر النهار وأسر وزيره مؤيد الملك، وأحضره عند بركيارق غلام لمجد الملك البارسلاني ثار منه مولاه، فلمّا حضر وبّخه بركيارق وقتله وبعث الوزير أبو المحاسن من يسلم إليه أمواله، وصادر عليها قرابته، في بغداد وفي غير بغداد من بلاد العجم. ويقال كان فيما أخذ له قطعة من البلخش زنة إحدى وأربعين مثقالا. ثم سار بركيارق إلى الريّ ولقيه هناك كربوقا صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد، واجتمعت إليه نحو من مائة ألف فارس حتى ضاقت بهم البلاد ففرق العساكر. وعاد دبيس إلى أبيه وسار كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن إسماعيل بن ياقوتا، كان خرج على السلطان هنالك وسار أياز إلى همذان ليقضي الصوم عند أهله ويعود، فبقي بركيارق في خفّ من الجنود. وكان محمد أخوه لما انهزم لجهات همذان سار إلى شقيقه بخراسان فانتهى إلى جرجان، وبعث يطلب منه المدد فأمدّه بالمال أوّلا. ثم سار إليه بنفسه إلى جرجان وسار معه إلى الدامغان وخرّب عسكر خراسان ما مروا به من البلاد، وانتهوا إلى الريّ، واجتمعت إليهم النظامية وبلغهم افتراق العساكر عن بركيارق فأغذّوا إليه السير فرحل إلى همذان فبلغه أن أياز راسل محمدا، فقصد خوزستان وانتهى إلى تستر، واستدعى بني برسق فقعدوا عنه لما بلغهم مراسلة أياز للسلطان، فسار بركيارق نحو العراق، وكان أياز راسل محمدا في الكون معه فلم يقبله فسار من همذان، ولحق بركيارق إلى حلوان(3/599)
وساروا جميعا إلى بغداد. واستولى محمد على مخلّف أياز بهمذان وحلوان وكان شيئا مما لا يعبّر عنه. وصادر جماعة من أصحاب أياز من أهل همذان، ووصل بركيارق إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة أربع وتسعين، وبعث المستظهر لتلقّيه أمين الدولة بن موصلايا في المراكب، وكان بركيارق مريضا فلزم بيته، وبعث المستظهر في عيد الأضحى إلى داره منبرا خطب عليه باسمه، وتخلّف بركيارق عن شهود العيد لمرضه، وضاقت عليه الأموال فطلب الإعانة من المستظهر، وحمل إليه خمسين ألف دينار بعد المراجعات، ومد يده إلى أموال الناس وصادرهم فضجّوا، وارتكب خطيئة شنعاء في قاضي جبلة وهو أبو محمد عبد الله بن منصور. وكان من خبره أنّ أباه منصورا كان قاضيا بجبلة في ملكة الروم، فلما ملكها المسلمون وصارت في يد أبي الحسن عليّ بن عمّار صاحب طرابلس أقرّه على القضاء بها. وتوفي فقام ابنه أبو محمد هذا مقامه ولبس شعار الجنديّة وكان شهما، فهمّ ابن عمّار بالقبض عليه، وشعر فانتقض وخطب للخلفاء العبّاسية. وكان ابن عمّار يخطب للعلويّة بمصر، وطالت منازلة الفرنج بحصن جبلة إلى أن ضجر أبو محمد هذا، وبعث إلى صاحب دمشق وهو يومئذ طغتكين الأتابك أن يسلّم إليه البلد، فبعث ابنه تاج الملوك موري وتسلّم منه البلد، وجاء به إلى دمشق وبذل لهم فيه ابن عمّار ثلاثين ألف دينار دون أمواله، فلم يرضوا بإخفار ذمتهم وسار عنهم إلى بغداد، ولقي بها بركيارق فأحضره الوزير أبو المحاسن وطلبه في ثلاثين ألف دينار، فأجاب وأحالهم على منزله بالأنبار، فبعث الوزير من أتاه بجميع ما فيه، وكان لا يعبّر فكانت من المنكرات التي أتاها بركيارق.
ثم بعث الوزير إلى صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب حلب يطلب منه ألف ألف دينار متخلّفة من مال الجباية، وتهدّده عليها فغضب وانتقض وخطب لمحمد، وبعث إليه بركيارق الأمير أياز يستقدمه فلم يجب، وبعث إلى الكوفة وطرد عنها نائب بركيارق واستضافها إليه.
استيلاء محمد على بغداد
قد ذكرنا استيلاء محمد على همذان في آخر ذي الحجة من سنة أربع وتسعين، ومعه أخوه سنجر. وذهب بركيارق إلى بغداد فاستولى عليها وأساء السيرة بها، وبلغ الخبر إلى محمد فسار من همذان في عشرة آلاف فارس، ولقيه بحلوان أبو الغازي بن أرتق شحنته ببغداد في عساكره وأتباعه. وكان بركيارق في شدّة من المرض، قد أشرف(3/600)
على الهلاك فاضطرب أصحابه وعبروا به إلى الجانب الغربي حتى إذا وصل محمد بغداد وتراءى الجمعان من عدوتي دجلة ذهب بركيارق وأصحابه إلى واسط ودخل محمد بغداد، وجاءه توقيع المستظهر بالانتقاض مما وقع به بركيارق، وخطب له على منابر بغداد، وجاءه صدقة بن منصور صاحب الحلّة فأخرج الناس للقائه ونزل سنجر بدار كوهرابين، واستوزر محمد بعد مؤيد الملك خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين، فقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين انتهى.
المصاف الثالث والرابع وما تخلل بينهما من الصلح ولم يتم
ثم ارتحل السلطان وأخوه سنجر عن بغداد منتصف المحرّم من سنة خمس وتسعين، وقصد سنجر خراسان ومحمد همذان، فاعترض بركيارق خاص الخليفة المستظهر، وأبلغه القبيح فاستدعى المستظهر محمدا لقتال بركيارق فجاء إليه وقال: انا أكفيكه.
ورتّب أبا المعالي شحنة ببغداد، وكان بركيارق بواسط كما قلنا، فلما أبلّ من مرضه عبر إلى الجانب الشرقي بعد جهد وصعوبة لفرار الناس من واسط لسوء سيرتهم. ثم سار إلى بلاد بني برسق حتى أطاعوا واستقاموا وساروا معه فاتبع أخاه محمدا إلى نهاوند وتصافوا يومين ومنعهما شدّة البرد من القتال. ثم اجتمع أياز والوزير الأغر من عسكر بركيارق وبلد أجى وغيرهم من الأمراء من عسكر محمد. تفاوضوا في شكوى ما نزل بهم من هذه الفتنة، ثم اتفقوا على أن تكون السلطنة بالعراق لبركيارق ويكون لمحمد من البلاد الحيرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل على أن يمدّه بركيارق بالعسكر متى احتاج إليه على من يمتنع عليه منها. وتحالفا على ذلك وافترقا في ربيع الأوّل سنة خمس وتسعين، ثم سار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى قزوين، وبدا له في الصلح واتّهم الأمراء الذين سعوا فيه، وأسرّ إلى رئيس قزوين أن يدعوهم إلى صنيع عنده، وغدر بهم محمد فقتل بعضا وسمل بعضا وأظهر الفتنة. وكان الأمير ينال بن أنوش تكين قد فارق بركيارق، وأقام مجاهدا للباطنية في الجبال والقلاع فلقي محمدا وسار معه إلى الريّ، وبلغ الخبر إلى بركيارق فأغذّ إليه السير في ثمان ليال واصطفّوا في التاسع وكلا الفريقين في عشرة آلاف مقاتل. وحمل سرخاب بن(3/601)
كنجسرو الديلميّ صاحب آوة [1] ومن أصحاب بركيارق على ينال بن أنوش تكين فهزمه، وانهزم معه عسكر محمد، وافترقوا فلحق فريق بطبرستان وآخر بقزوين، ولحق محمد بأصبهان في سبعين فارسا، واتّبعه أياز وألبكي بن برسق فنجا إلى البلد وبها نوّابه، فلمّ ما تشعّث من السور، وكان من بناء علاء الدين بن كاكويه سنة تسع وعشرين لقتال طغرلبك وحفر الخنادق وأبعد مهواها وأجرى فيها المياه، ونصب المجانيق، واستعدّ للحصار. وجاء بركيارق في جمادى ومعه خمسة عشر ألف فارس ومائة ألف من الرجل والأتباع، فحاصرها حتى جهدهم الحصار وعدمت الأقوات والعلوفة، فخرج محمد عن البلد في عيد الأضحى من سنته في مائة وخمسين فارسا، ومعه ينال، ونزل في الأمراء، وبعث بركيارق في اتباعه الأمير أياز. وكانت خيل محمد ضامرة من الجوع، فالتفت إلى أياز يذكّره العهود فرجع عنه بعد أن نهب منه خيلا ومالا، وأخذ علمه وجنده وعاد إلى بركيارق. ثم شدّ بركيارق في حصار أصبهان، وزحف بالسلاليم والذبابات، وجمع الأيدي على الخندق فطمّه، وتعلّق الناس بالسور فاستمات أهل البلد ودفعوهم. وعلم بركيارق امتناعها فرحل عنها ثامن عشر ذي الحجّة. وجمّر عسكرا مع ابنه ملك شاه وترشك الصوالي على البلد القديم الّذي يسمّى شهرستان، وسار إلى همذان بعد أن كان قتل على أصبهان وزيره الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني، اعترضه في ركوبه من خيمته إلى خدمة السلطان متظلم فطعنه وأشواه، ورجع إلى خيمته فمات، وذهب للتجّار الذين كانوا يعاملونه أموال عظيمة لأنّ الجباية كانت ضاقت بالفتن، فاحتاج إلى الاستدانة، ونفر منه التجّار لذلك. ثم عامله بعضهم فذهب ما لهم بموته، وكان أخوه العميد المهذّب أبو محمد قد سار إلى بغداد لينوب عنه حين عقد الأمراء الصلح بين بركيارق ومحمد، فقبض عليه الشحنة ببغداد أبو الغازي بن أرتق وكان على طاعة محمد.
الشحنة ببغداد والخطبة لبركيارق
كان أبو الغازي [2] بن أرتق شحنة ببغداد وولّاه عليها السلطان محمد عند استيلائه في المصاف الأوّل، وكان طريق خراسان إليه فعاد بعض الأيام منها إلى بغداد، وضرب
__________
[1] سرخاب بن كيخسرو الديلميّ صاحب أبة: ابن الأثير ج 10 ص 332.
[2] إيلغازي: ابن الأثير ج 10 ص 337.(3/602)
فارس من أصحابه بعض الملّاحين بسهم في ملاحاة وقعت بينهم عند العبور فقتله فثارت بهم العامة وأمسكوا القاتل، وجاءوا به إلى باب النوبة في دار الخلافة ولقيهم ولد أبي الغازي فاستنقذه من أيديهم فرجموه، وجاء إلى أبيه مستغيثا وركب إلى محلة الملّاحين فنهبها وعطف عليه العيّارون فقتلوا من أصحابه، وركبوا السفين للنجاة فهرب الملّاحون وتركوهم فغرقوا، وجمع أبو الغازي التركماني لنهب الجانب الغربي، فبعث إليه المستظهر قاضي القضاة والكيا الهرّاسي مدرّس النظامية بالامتناع من ذلك فاقتصر ابو الغازي أثناء ذلك متمسكا بطاعة السلطان محمد. فلمّا انهزم محمد وانطلق من حصار أصبهان واستولى بركيارق على الريّ بعث في منتصف ربيع الأوّل من سنة ست وتسعين من همذان كمستكين القيصراني شحنة إلى بغداد. فلما سمع أبو الغازي بعث إلى أخيه سقمان بحصن كيفا يستدعيه للدفاع. وجاءه سقمان ومرّ بتكريت فنهبها، ووصل كمستكين ولقيه شيعة بركيارق وأشاروا عليه بالمعاجلة، ووصل إلى بغداد منتصف ربيع. وخرج ابو الغازي وأخوه سقمان إلى دجيل ونهبا بعض قراها، واتبعهما طائفة من عسكر كمستكين. ثم رجعوا عنهما وخطب للسلطان بركيارق ببغداد وبعث كمستكين إلى سيف الدولة صدقة بالحلّة عنه وعن المستظهر بطاعة بركيارق فلم يجب، وكشف القناع وسار إلى جسر صرصر فقطعت الخطبة على منابر بغداد فلم يذكر أحد عليها من السلاطين. واقتصر على الخليفة فقط. وبعث سيف الدولة صدقة إلى أبي الغازي وسقمان بأنه جاء لنصرتهما فعادوا إلى دجيل وعاثوا في البلاد، واجتمع لذلك حشد العرب والأكراد مع سيف الدولة، وبعث إليه المستظهر في الإصلاح، وخيّموا جميعا بالرملة وقاتلهم العامّة وبعث الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ وتاج رؤساء الرئاسة ابن الموصلايا إلى سيف الدولة بكفّ الأيدي عن الفساد، فاشترطوا خروج كمستكين القيصراني شحنة بركيارق وإعادة الخطبة للسلطان محمد، فتم الأمر على ذلك، وعاد سيف الدولة إلى الحلّة وعاد القيصراني إلى واسط، وخطب بها لبركيارق فسار إليه صدقة وأبو الغازي، وفارقها القيصراني فاتّبعه سيف الدولة. ثم استأمن ورجع إليه فأكرمه وخطب للسلطان محمد بواسط، وبعده لسيف الدولة وأبي الغازي واستناب كل واحد ولده، ورجع ابو الغازي إلى بغداد وسيف الدولة إلى الحلّة، وبعث ولده منصورا إلى المستظهر يخطب رضاه بما كان منه في هذه الحادثة فأجيب إلى ذلك.(3/603)
استيلاء ينال على الريّ بدعوة السلطان محمد ومسيره إلى العراق
كانت الخطبة بالريّ للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من الحصار بأصبهان، بعث ينال بن أنوش تكين الحسامي إلى الريّ ليقيم الخطبة له بها فسار ومعه أخوه عليّ، وعسف الرعايا. ثم بعث السلطان بركيارق إليه برسق بن برسق في العساكر فقاتله على الريّ، وانهزم ينال وأخوه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين، وذهب عليّ إلى قزوين وسلك ينال على الجبال إلى بغداد وتقطّع أصحابه في الأوعار وقتلوا، ووصل إلى بغداد في سبعمائة رجل، وأكرمه المستظهر واجتمع هو وأبو الغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة، فاستحلفوه على طاعة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة واستحلفوه على ذلك. واستقرّ ينال ببغداد في طاعة السلطان محمد، وتزوّج أخت أبي الغازي كانت تحت تاج الدولة تتش. وعسف بالناس وصادر العمّال واستطال أصحابه على العامّة بالضرب والقتل. وبعث إليه المستظهر مع القاضي الدامغانيّ بالنهي عن ذلك وتقبيح فعله، ثم مع إيلغازي فأجاب وحلف على كفّ أصحابه ومنعهم. واستمرّ على قبح السيرة فبعث المستظهر إلى سيف الدولة صداقة يستدعيه لكفّ عدوانه، فجاء إلى بغداد في شوّال من سنة ست وتسعين، وخيّم بالمنجمي ودعا ينالا للرحمة عن العراق على أن يدفع إليه. وعاد إلى الحلّة وسار ينال مستهل ذي القعدة إلى أوانا ففعل من النهب والعسف أقبح مما فعل ببغداد، فبعث المستظهر إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس، وساروا إليه مع جماعة من أصحاب المستظهر وأبي الغازي الشحنة، وذهب ينال أمامهم إلى أذربيجان قاصدا إلى السلطان محمد ورجع أبو الغازي والعساكر عنه.
المصاف الخامس بين السلطانين
كانت كنجة وبلاد أرزن [1] للسلطان محمد وعسكره مقيم بها مع الأمير عز علي [2] فلما طال حصاره بأصبهان جاءوا لنصرته، ومعهم منصور بن نظام الملك ومحمد بن
__________
[1] كنجة وبلاد ارّان: ابن الأثير ج 10 ص 359.
[2] غزغلي: المرجع السابق.(3/604)
أخيه مؤيد الملك، ووصلوا إلى الريّ آخر ذي الحجّة سنة خمس وتسعين، وفارقه عسكر بركيارق. ثم خرج محمد من أصبهان فساروا إليه ولقوة بهمذان، ومعه ينال وعلي ابنا أنوش تكين فاجتمعوا في ستة آلاف فارس. وسار ينال وأخوه على الريّ وأزعجتهم عنها عساكر بركيارق كما مرّ. ثم جاءهم الخبر في همذان بزحف بركيارق إليهم، فسار محمد إلى بلاد شروان. ولما انتهى إلى أردبيل بعث إليه مودود بن إسماعيل ابن ياقوتي، وكان أميرا على بيلقان من أذربيجان، وكان أبوه إسماعيل خال بركيارق، وانتقض عليه أوّل أمره فقتله فكان مودود يطالبه بثأر أبيه، وكانت أخته تحت محمد فبعث إليه وجاءه الى بيلقان. وتوفي مودود اثر قدومه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين، فاجتمع عسكره على الطاعة لمحمد وفيهم سقمان القطبي [1] صاحب خلاط وأرمينية ومحمد بن غاغيسا، كان أبوه صاحب أنطاكية. وكان ألب أرسلان ابن السبع الأحمر. ولما بلغ بركيارق اجتماعهم لحربه أغذّ السير إليهم فوصل وقاتلهم على باب خوي من أذربيجان من المغرب إلى العشاء. ثم حمل أياز من أصحاب بركيارق على عسكر محمد فانهزموا، وسار إلى خلاط ومعه سقمان القطبي ولقيه الأمير عليّ صاحب أرزن الروم، ثم سار إلى [2] وبها منوجهر أخو فضلون الروادي. ثم سار إلى تبريز ولحق محمد بن مؤيد الملك بديار بكر، وسار منها إلى بغداد وكان من خبره أنه كان مقيما ببغداد مجاورا للمدرسة النظامية فشكا الجيران منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرابين بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة. ثم سار سنة اثنتين وتسعين إلى محمد الملك الباسلاني [3] وأبوه حينئذ بكنجة عند السلطان محمد قبل أن يدعو لنفسه. ثم سار بعد أن قتل محمد الملك إلى والده مؤيد الملك، وهو وزير السلطان محمد. ثم قتل أبوه واتصل هو بالسلطان، وحضر هذه الحروب كما ذكرنا. وأمّا السلطان بركيارق بعد هزيمة محمد فإنه نزل جبل بين مراغة وتبريز وأقام به حولا، وكان خليفة المستظهر سديد الملك أبو المعالي كما ذكرناه. ثم قبض عليه منتصف رجب سنة ست وتسعين وحبس بدار الخليفة مع أهله كانوا قد وردوا عليه من أصبهان. وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة لأنه كان يتصرّف
__________
[1] سكمان القبطي: ابن الأثير ج 10 ص 361.
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 361: «وتوجه الى آني، وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي.»
[3] مجد الملك البلاساني: ابن الأثير ج 10 ص 361.(3/605)
في أعمال السلاطين، وليست فيها هذه القوانين. ولما قبض عاد أمين الدولة أبو سعد ابن الموصلايا إلى النظر في الديوان وبعث المستظهر عن زعيم الرؤساء أبي القاسم بن جهير من الحلّة، وكان ذهب إليها في السنة قبلها مستجيرا بسيف الدولة صدقة لأنّ خاله أمين الدولة أبا سعد بن الموصلايا كان الوزير الأعز وزير بركيارق يشيع عنه أنه الّذي يحمل المستظهر على موالاة السلطان محمد، والخطبة له دون بركيارق، فاعتزل أمين الدولة الديوان وسار ابن أخته هذا أبو القاسم بن جهير مستجيرا بصاحب الحلّة فاستقدمه الخليفة الآن. وخرج أرباب الدولة لاستقباله، وخلع عليه للوزارة ولقيه قوام الدولة، ثم عزله على رأس المائة الخامسة. واستجار سيف الدولة صدقة بن منصور ببغداد فأجاره وبعث عنه إلى الحلّة وذلك لثلاث سنين ونصف من وزارته، وناب في مكانه القاضي أبو الحسن بن الدامغانيّ أياما. ثم استوزر مكانه أبا المعالي بن محمد بن المطلب في المحرّم سنة إحدى وخمسمائة، ثم عزله سنة اثنتين بإشارة السلطان محمد، وأعاده بإذنه على شرطية العدل وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمّة. ثم عزل في رجب من سنة اثنتين وخمسين، واستوزر أبا القاسم بن جهير سنة تسع وخمسين، واستوزر بعده الربيع أبا منصور بن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد
ولما تطاولت الفتنة بين السلطانين، وكثر النهب والهرج وخربت القرى، واستطال الأمر عليهم وكان السلطان بركيارق بالريّ والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين، وكان السلطان محمد بأذربيجان والخطبة له بها وببلاد أرّان وأرمينية وأصبهان والعراق جميعه إلّا تكريت. وأمّا البطائح فبعضها لهذا وبعضها لهذا، والخطبة بالبصرة لهما جميعا وأمّا خراسان من جرجان إلى ما وراء النهر، فكان يخطب فيها لسنجر بعد أخيه السلطان محمد. فلمّا استبصر بركيارق في ذلك، ورأى تحكّم الأمراء عليه، وقلّة المال، جنح إلى الصلح وبعث القاضي أبا المظفّر الجرجاني الحنفيّ وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفّار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في الصلح، فوصلا إليه بمراغة وذكراه ووعظاه فأجاب إلى الصلح على أنّ السلطان لبركيارق، ولا يمنع محمدا من اتخاذ(3/606)
الآلة، ولا يذكر أحد منهما مع صاحبه في الخطبة في البلاد التي صارت إليه وتكون المكاتبة من وزيريهما في الشؤون لا يكاتب أحدهما الآخر، ولا يعارض أحد من العسكر في الذهاب إلى أيهما شاء، ويكون للسلطان محمد من نهر اسبيدروذ إلى الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام، وأن يدخل سيف الدولة صدقة بأعماله في خلفه وبلاده والسلطنة كلّها، وبقية الأعمال والبلاد كلها للسلطان بركيارق.
وبعث محمد إلى أصحابه بأصبهان بالإفراج عنها لأصحاب أخيه، وجاءوا بحريم محمد إليه بعد أن دعاهم السلطان بركيارق إلى خدمته فامتنعوا فأكرمهم، وحمل حريم أخيه وزوّدهم بالأموال، وبعث العساكر في خدمتهم. ثم بعث السلطان بركيارق إلى المستظهر بما استقرّ عليه الحال في الصلح بينهم، وحضر أبو الغازي بالديوان وهو شحنة محمد وشيعته، إلا أنه وقف مع الصلح، فسأل الخطبة لبركيارق فأمر بها المستظهر، وخطب له على منابر بغداد وواسط في جمادى سنة سبع وتسعين، ونكر الأمير صدقة صاحب الحلّة الخطبة لبركيارق وكان شيعة لمحمد.
وكتب إلى الخليفة بالنكير على أبي الغازي وأنه سائر لإخراجه عن بغداد، فجمع أبو الغازي التركمان، وفارق بغداد الى عقرقوبا [1] وجاء سيف الدولة صدقة ونزل مقابل التاج وقبّل الأرض وخيّم بالجانب الغربي. وأرسل إليه أبو الغازي يعتذر عن طاعة بركيارق بالصلح الواقع، وأنّ إقطاعه بحلوان في جملة بلاده التي وقع الصلح عليها وبغداد التي هو شحنه فيها قد صارت له فقبل ورضي، وعاد إلى الحلّة وبعث المستظهر في ذي القعدة من سنة سبع وتسعين الخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والخطير وزير بركيارق، وبعث معهما العهد له بالسلطنة واستحلفه الرسل على طاعة المستظهر ورجعوا.
وفاة السلطان بركيارق وملك ابنه ملك شاه
كان السلطان بركيارق بعد الصلح وانعقاده أقام بأصبهان أشهرا وطرقه المرض فسار إلى بغداد، فلمّا بلغ بلد يزدجرد اشتدّ مرضه وأقام بها أربعين يوما حتى أشفى على الموت، فأحضر ولده ملك شاه وجماعة الأمراء، وولّاه عهده في السلطنة، وهو ابن خمس سنين وجعل الأمير أياز أتابكه، وأوصاهم بالطاعة لهما واستحلفهم على ذلك، وأمرهم بالمسير إلى بغداد وتخلّف عنهم ليعود إلى أصبهان فتوفي في شهر ربيع
__________
[1] يعقوبا: ابن الأثير ج 10 ص 372.(3/607)
الآخر سنة ثمان وتسعين. وبلغ الخبر إلى ابنه ملك شاه والأمير أياز على اثني عشر فرسخا من بلد يزدجرد [1] فرجعوا، وحضروا لتجهيزه وبعثوا به إلى أصبهان للدفن بها في تربة أعدّها، وأحضر أياز السرادقات والخيام والخفر والشمسة، وجميع آلات السلطنة فجعلها الملك شاه. وكان أبو الغازي شحنة ببغداد وقد حضر عند السلطان بركيارق بأصبهان في المحرّم وحثّه على المسير إلى بغداد، فلما مات بركيارق سار مع ابنه ملك شاه والأمير أياز ووصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر في خمسة آلاف فارس، وركب الوزير أبو القاسم عليّ بن جهير لتلقّيهم فلقيهم بديالى، وأحضر أبو الغازي والأمير طما يدل [2] بالديوان وطلبوا الخطبة لملك شاه بن بركيارق فأجاب المستظهر إلى ذلك وخطب له ولقّب بألقاب جدّه ملك شاه ونثرت الدنانير عند الخطبة.
وصول السلطان محمد الى بغداد واستبداده بالسلطنة والخطبة ومقتل أياز
كان محمد بعد صلحه مع أخيه بركيارق قد اعتزم على المسير الى الموصل ليتناولها من يد جكرمش لما كانت من البلاد التي عقد عليها وكان بتبريز ينتظر وصول أصحابه من أذربيجان، فلمّا وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره في حفظ أصبهان.
ثم رحل في صفر سنة ثمان وتسعين يريد الموصل وسمع جكرمش فاستعدّ للحصار وأمر أهل السواد بدخول البلد. وجاء محمد فحاصره وبعث إليه كتب أخيه بأنّ الموصل والجزيرة من قسمته، وأراه إيمانه بذلك، ووعده بأن يقرّه على ولايتها فقال جكرمش: قد جاءتني كتب بركيارق بعد الصلح بخلاف هذا فاشتدّ محمد في حصاره، وقتل بين الفريقين خلق، ونقب السور ليلة فأصبحوا وأعادوه، ووصل الخبر إلى جكرمش بوفاة بركيارق عاشر جمادى فاستشار أصحابه ورأى المصلحة في طاعة السلطان محمد فأرسل إليه بالطاعة، وأن يدخل إليه وزيره بعد الملك فدخل، وأشار عليه بالحضور عند السلطان فحضر، وأقبل السلطان عليه وردّه لجيشه لما توقع من ارتياب أهل البلد بخروجه، وأكثر من الهدايا والتحف للسلطان ولوزيره. ولما بلغ وفاة أخيه بركيارق سار إلى بغداد ومعه سقمان القطبي نسبة إلى قطب الدولة
__________
[1] بروجرد: ابن الأثير ج 10 ص 380 وقد مرّ ذكرها من قبل.
[2] طغايرك: ابن الأثير ج 10 ص 382.(3/608)
إسماعيل بن ياقوتا بن داود، وداود هو حقربيك وأبو ألب أرسلان، وسار معه جكرمش وصاحب الموصل وغيرهما من الأمراء. وكان سيف الدولة صاحب الحلة قد جمع عسكرا خمسة عشر ألفا من الفرسان وعشرة آلاف رجل، وبعث ولديه بدران ودبيس إلى السلطان محمد يستحثّه على بغداد. ولمّا سمع الأمير أياز بقدومه، خرج هو وعسكره وخيّموا خارج بغداد واستشار أصحابه فصمّموا على الحرب، وأشار وزيره أبو المحاسن بطاعة السلطان محمد وخوّفه عاقبة خلافه وسفّه آراءهم في حربه، وأطمعه في زيادة الأقطاع، وتردّد أياز في أمره وجمع السفن عنده، وضبط المثار ووصل السلطان محمد آخر جمادى من سنة ثمان وتسعين، ونزل بالجانب الغربي وخطب له هنالك، ولملك شاه بالجانب الشرقي. واقتصر خطيب جامع المنصور على الدعاء للمستظهر ولسلطان العالم فقط. وجمع أياز أصحابه لليمين فأبوا من المعاودة وقالوا لا فائدة فيها والوفاء إنما يكون بواحدة فارتاب أياز بهم، وبعث وزيره المصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد في الصلح، وتسليم الأمر فلقي أوّلا وزيره سعد الملك أبا المحاسن سعد بن محمد وأخبر فأحضره عند السلطان محمد وأدى رسالة أياز والعذر عما كان منه أيام بركيارق فقبله السلطان وأعتبه، وأجابه إلى اليمين وحضر من الغد القاضي والنقيبان واستحلف الكيا الهرّاسي مدرس النظامية بمحضر القاضي وزير أياز بمحضرهم لملك شاه ولأياز وللأمراء الذين معه، فقال: أمّا ملك شاه فهو ابني وأمّا أياز والأمراء فأحلف لهم إلّا ينال بن أنوش، وسار واستحلفه الكيا الهرّاسي مدرّس النظامية بمحضر القاضي والنقيبين. ثم حضر أياز من الغد ووصل سيف الدولة صدقة وركب السلطان للقائهما وأحسن إليهما، وعمل أياز دعوة في داره وهي دار كوهرابين وحضر عنده السلطان وأتحفه بأشياء كثيرة منها حبل البلخش الّذي كان أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك. وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد.
وكان أياز قد تقدّم إلى غلمانه يلبس السلاح ليعرضهم على السلطان، وحضر عندهم بعض الصفاعين فأخذوا معه في السخرية وألبسوه درعا تحت قميصه، وجعلوا يتناولونه بأيديهم فهرب منهم إلى خواص السلطان، ورآه السلطان متسلحا فأمر بعض غلمانه فالتمسوه وقد وجدوا السلاح فارتاب ونهض من دار أياز. ثم استدعاه بعد أيام ومعه جكرمش وسائر الأمراء فلما حضر وقف عليهم بعض قوّاده وقال لهم أن قليج أرسلان ابن سليمان بن قطلمش قصد ديار بكر ليملكها فأشيروا بمن نسيّر لقتاله، فأشاروا جميعا(3/609)
بالأمير أياز، وطلب هو مسير سيف الدولة صدقة معه فاستدعى أياز وصدقة ليفاوضهم في ذلك فنهضوا إليه، وقد أعدّ جماعة من خواصه لقتل أياز فلما دخلوا ضرب أياز فقطع رأسه ولف شلوه في مشلح وألقي على الطريق. وركب عسكره فنهبوا داره وأرسل السلطان لحمايتها فافترقوا واختفى وزيره. ثم حمل إلى دار الوزير سعد الملك وقتل في رمضان من سنته. وكان من بيت رياسة بهمذان وكان أياز من مماليك السلطان ملك شاه، وصار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدا، وكان شجاعا حسن الرأي في الحرب واستبدّ السلطان محمد بالسلطنة وأحسن السيرة، ورفع الضرائب، وكتب بها الألواح ونصبت في الأسواق وعظم فساد التركمان بطريق خراسان، وهي من أعمال العراق فبعث أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد بدل ابن أخيه بهرام بن أرتق على ذلك البلد فحماه وكفّ الفساد منه. وسار إلى حصن من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه. ثم ولّى السلطان محمد سنقر البرسقي شحنة بالعراق وكان معه في حروبه وأقطع الأمير قاياز الكوفة وأمر صدقة صاحب الحلّة أن يحمي أصحابه من خفاجة. ولما كان شهر رمضان من سنة ثمانية وتسعين عاد السلطان محمد إلى أصبهان وأحسن فيهم السيرة وكفّ عنهم الأيدي العادية.
الشحنة ببغداد
كان السلطان قد قبض سنة اثنتين وخمسين على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد صاحب المخزن، وعلي بن الفرج ابن رئيس الرؤساء واعتقلهما وصادرهما على مال يحملانه، وأرسل مجاهد الدين لقبض المال، وأمره بعمارة دار الملك فاضطلع بعمارتها، وأحسن السيرة في الناس وقدم السلطان أثر ذلك إلى بغداد فشكر سيرته، وولّاه شحنة بالعراق وعاد إلى أصبهان.
وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود
ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة من سنة إحدى وخمسمائة، وقد كان عهد لولده محمود وهو يومئذ غلام محتلم، وأمره بالجلوس على التخت بالتاج والسوارين وذلك لاثنتي عشرة سنة ونصف من استبداده بالملك واجتماع الناس عليه بعد أخيه. وولي بعده ابنه محمود وبايعه أمراء السلجوقية، ودبّر دولته الوزير الرسب(3/610)
أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير أبيه، وبعث إلى المستظهر في الخطبة فخطب له على منابر بغداد منتصف المحرّم سنة اثنتي عشرة، وكان آق سنقر البرسقي مقيما بالرحبة استخلف بها ابنه مسعودا، وسار إلى السلطان محمد يطلب الزيادة في الأقطاع والولاية ولقيه خبر وفاته قريبا من بغداد فمنعه بهروز الشحنة من دخولها، وسار إلى أصبهان فلقيه بحلوان توقيع السلطان محمود بأن يكون شحنة بغداد لسعي الأمراء له في ذلك تعصبا على مجاهد الدين بهروز وغيره منه لمكانه عند السلطان محمد. ولما رجع آق سنقر إلى بغداد هرب مجاهد الدين بهروز إلى تكريت وكانت من أعماله. ثم عزل السلطان محمود آق سنقر وولّى شحنة بغداد الأمير منكبرس حاكما في دولته بأصبهان، فبعث نائبا عنه ببغداد والعراق الأمير حسين بن أروبك أحد أمراء الأتراك. ورغب البرسقي من المستظهر بالعدة فلم يتوقّف فسار آق سنقر إليه وقاتله، وانهزم الأمير حسين وقتل أخوه وعاد إلى عسكر السلطان وذلك في ربيع الأوّل من سنة اثنتي عشرة.
وفاة المستظهر وخلافة المسترشد
ثم توفي المستظهر باللَّه أبو العبّاس أحمد بن المقتدي باللَّه أبو القاسم عبد الله بن القائم باللَّه في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة لأربع وعشرين سنة وثلاثة أشهر من خلافته، وبويع بعده ابنه المسترشد باللَّه الفضل، وكان ولي عهده منذ ثلاث وعشرين سنة وبايعه أخوه عبد الله محمد وهو المقتدي، وأبو طالب العبّاس وعمومته بنو المقتدي وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وتولى أخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغانيّ، وكان نائبا عن الوزارة فأقرّه المسترشد عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا للمسترشد، وأحمد بن أبي داود [1] للواثق والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق للمعتضد. ثم عزل المسترشد قاضي القضاة عن نيابة الوزارة واستوزر أبا شجاع محمد بن الرسب أبي منصور، خاطبه أبوه وزير السلطان محمود وابنه محمد في شأنه فاستوزره، ثم عزله سنة عشر واستوزر مكانه جلال الدين عميد الدولة أبا علي بن صدقة، وهو عمّ جلال الدين أبي الرضى بن صدقة وزير الراشد.
__________
[1] احمد بن أبي دؤاد: وهو اياد، وكان ذو نفوذ وجاه في دولتي المعتصم والواثق (البيان والتبيين للجاحظ ج 2 ص 190) .(3/611)
ولما شغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه الأمير أبو الحسن في السفن مع ثلاثة نفر وانحدر إلى المدائن، ومنها إلى الحلّة فأكرمه دبيس، وأهمّ ذلك المسترشد وبعث إلى دبيس في إعادته مع النقيب علي بن طراد الرثيني فاعتذر بالذمام، وأنه لا يكرهه فخطب النقيب أبا الحسن أخا الخليفة في الرجوع فاعتذر بالخوف، وطلب الأمان.
ثم حدث من البرسقي ودبيس ما نذكره فتأخر ذلك إلى صفر من سنته وهي سنة ثلاث عشرة، فسار أبو الحسن بن المستظهر إلى واسط وملكها، فبادر المسترشد إلى ولاية العهد لابنه جعفر المنصور ابن اثنتي عشر سنة، فخطب له وكتب إلى البلاد بذلك، وكتب إلى دبيس بمعاجلة أخيه أبي الحسن فإنه فارق ذمامه فبعث دبيس العساكر إلى واسط فهرب منها، وصادفوه عند الصبح فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد والأتراك عنه، وقبض عليه بعض الفرق وجاءوا به إلى دبيس فأكرمه المسترشد وأمّنه وأنزله أحسن نزل.
انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود ثم مصالحته واستقرار جكرمش شحنة ببغداد
كان السلطان محمد قد أنزل ابنه مسعودا بالحلّة وجعل معه حيوس بك أتابك، فلما ملك السلطان محمود بعده وفاة أبيه، ثم ولي المسترشد الخلافة بعد أبيه، وكان دبيس صاحب الحلة ممرضا في طاعته، وكان آق سنقر البرسقي شحنة بالعراق كما ذكرناه، أراد قصد الحلّة وأخلى دبيس عنها، وجمع لذلك جموعا من العرب والأكراد، وبرز من بغداد في جمادى سنة اثنتي عشرة، وبلغ الخبر إلى الملك مسعود بالموصل وأنّ العراق خال من الحامية، فأشار عليه أصحابه بقصد العراق للسلطنة فلا مانع دونها. فسار في جيوش كثيرة ومعه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمّار صاحب طرابلس، وسيأتي خبره، وقسيم الدولة زنكي بن آق سنقر ابن الملك العادل، وصاحب سنجار، وأبو الهيجاء صاحب اربل، وكربادي بن خراسان التركماني صاحب البواريج. ولما قربوا من العراق خافهم آق سنقر البرسقي بمكان حيوس بك من الملك المسعود، وأمّا هو فقد كان أبوه محمد جعله أتابك لابنه مسعود فسار البرسقي لقتالهم، وبعثوا إليه الأمير كربادي في الصلح، وأنهم إنما جاءوا بحدّة له على دبيس فقبل، وتعاهدوا ورجعوا إلى بغداد كما مرّ خبره، وسار البرسقي لقتاله فاجتمع مع(3/612)
دبيس بن صدقة واتفقا على المعاضدة، وسار الملك مسعود ومن معه إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس. ثم بلغهم كثرة جموعهما فعاد الملك مسعود والبرسقي وحيوس بك، وعبروا نهر صرصر وحفظ المخاضات وأفحش الطائفتان في نهب السواد واستباحته بنهر الملك ونهر صرصر ونهر عيسى ودجيل. وبعث المسترشد إلى الملك مسعود والبرسقي بالنكير عليهم فأنكر البرسقي وقوع شيء من ذلك، واعتزم على العود إلى بغداد، وبلغه أنّ دبيس ومنكبرس قد جهّز العساكر إليها مع منصور أخي دبيس وحسن بن أو ربك ربيب منكبرس فأغذّ السير وخلّف ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر، واستصحب عماد الدين زنكي بن آق سنقر. وجاءوا بغداد ليلا فمنعوا عساكر منكبرس ودبيس من العبور. ثم انعقد الصلح بين منكبرس والملك مسعود وكان سببه أنّ حيوس بك كاتب السلطان محمود وهو بالموصل في طلب الزيادة له وللملك مسعود، فجاء كتاب الرسول بأنه أقطعهم أذربيجان. ثم بلغه قصدهم بغداد فاتهمهم بالانتقاض وجهّز العساكر إلى الموصل وسقط الكتاب بيد منكبرس، وكان على أم الملك مسعود فبعث به إلى حيوس بك وداخله في الصلح والرجوع عمّا هم فيه فاصطلحوا واتفقوا. وبلغ الخبر إلى البرسقي فجاء إلى الملك مسعود وأخذ ماله وتركه، وعاد إلى بغداد فخيّم بجانب منها، وجاء الملك مسعود وحيوس بك فخيّما في جانب آخر، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيّما كذلك، وتفرّق على البرسقي أصحابه وجموعه وسار عن العراق إلى الملك مسعود فأقام معه، واستقرّ منكبرس شحنة ببغداد وعاد دبيس إلى الحلة، وأساء منكبرس السيرة في بغداد بالظلم والعسف، وانطلاق أيدي أصحابه بالفساد حتى ضجر الناس، وبعث عنه السلطان محمود فسار إليه وكفى الناس شرّه.
انتقاض الملك طغرل على أخيه السلطان محمود
كان الملك طغرل قد أقطعه أبوه السلطان محمد سنة أربع وخمسين وخمسمائة ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شركير، وكان قد افتتح كثيرا من قلاع الإسماعيلية فاتسع ملك طغرل بها، ولما مات السلطان محمد بعث السلطان محمود الأمير كتبغري أتابك طغرل، وأمره أن يحمله إليه، وحسن له المخالفة فانتقض سنة ثلاث عشرة، فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار وتحف وودّعه بإقطاع كثيرة،(3/613)
وطلبه في الوصول فمنعه كتبغري وأجاب بأننا في الطاعة، ومعنا العساكر وإلى أيّ جهة أراد السلطان قصدنا. فاعتزم السلطان على السير إليهم وسار من همذان في جمادى سنة ثلاث عشرة في عشرة آلاف غازيا وجاء النذير إلى كتبغري بمسيره، فأجفل هو وطغرل إلى قلعة سرجهان، وجاء السلطان إلى العسكر بزنجان فنهبه وأخذ من خزانة طغرل ثلاثمائة ألف دينار، وأقام بزنجان وتوجّه منها إلى الريّ وكتبغري من سرجهان بكنجة، وقصده أصحابه وقويت شوكته وتأكدت الوحشة بينه وبين أخيه السلطان محمود.
الفتنة بين السلطان محمود وعمه سنجر صاحب خراسان والخطبة ببغداد لسنجر
كان الملك سنجر أميرا على خراسان وما وراء النهر منذ أيام شقيقة السلطان محمد الأولى مع بركيارق. ولما توفي السلطان محمد جزع له جزعا شديدا حتى أغلق البلد للعزاء، وتقدّم للخطبة بذكر آثاره ومحاسن سيره من قتال الباطنية وإطلاق المكوس وغير ذلك. وبلغه ملك ابنه محمود مكانه وتغلب الأمراء عليه، فنكر ذلك واعتزم على قصد بلد الجبل والعراق، وأتى له محمود ابن أخيه، وكان يلقّب بناصر الدين فتلقّب بمعز الدين لقب أبيه ملك شاه. وبعث إليه السلطان محمود بالهدايا والتحف مع شرف الدولة أنوشروان بن خالد، وفخر الدولة طغايرك بن أكفر بن وبذل عن مازندران مائتي ألف دينار كل سنة فتجهّز لذلك، ونكر على محمود تغلّب وزيره أبي منصور وأمير حاجب عليّ بن عمر عليه، وسار وعلى مقدّمته الأمير أنز، وجهّز السلطان محمود عليّ بن عمر حاجبه وحاجب أبيه في عشرة آلاف فارس، وأقام هو بالري.
فلما قارب الحاجب مقدّمة سنجر مع الأمير أنز بجرجان راسله باللين والخشونة، وأنّ السلطان محمد أوصانا بتعظيم أخيه سنجر واستحلفنا على ذلك إلا أنّا لا نقضي على زوال ملكنا. ثم تهدّده بكثرة العساكر وقوّتها فرجع أنز عن جرجان، واتبعه بعض العساكر فنالوا منه. وعاد عليّ بن عمر إلى السلطان محمود فشكره، وأشار عليه أصحابه بالمقام بالريّ فلم يقبل. ثم ضجر وسار إلى حرقان [1] وتوافت إليه الأمداد من العراق، منكبرس شحنة بغداد في عشرة آلاف فارس، ومنصور أخو دبيس وأمراء
__________
[1] جرجان: ابن الأثير ج 10 ص 551.(3/614)
البلخية [1] وغيرهم. وسار إلى همذان فأقام بها وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر مكانه أبا طالب السميري [2] . ثم جاء السلطان سنجر إلى الريّ في عشرين ألفا وثمانية عشر فيلا ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد، والأمير أنز والأمير قماج، واتصل به علاء الدولة كرساسفا بن قرامرد بن كاكويه [3] صاحب يزد وكان صهر محمد وسنجر على أختهما. واختص بمحمد ودعاه محمود فتأخر عنه فأقطع بلده لقراجا الساقي الّذي ولي بعد ذلك فارس. وسار علاء الدولة إلى سنجر وعرفه حال السلطان محمود واختلاف أصحابه، وفساد بلاده فزحف إليه السلطان محمود من همذان في ثلاثين ألفا، ومعه علي بن عمر أمير حاجب ومنكبرس وأتابكه غزغلي وبنو برسق وسنجق البخاري [4] وقراجا الساقي ومعه تسعمائة حمل من السلاح والتقيا على ساوة في جمادى سنة ثلاث عشرة فانهزمت عساكر السلطان سنجر أولا وثبت هو بين الفيلة والسلطان محمود، واجتمع أصحابه إليه وبلغ الخبر إلى بغداد فأرسل دبيس بن صدقة إلى المسترشد في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له آخر جمادى، وقطعت خطبة محمود بعد الهزيمة إلى أصبهان ومعه وزيره أبو طالب السميري والأمير علي بن عمر وقراجا، واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره. وسار السلطان سنجر من همذان ورأى قلّة عساكره فراسل ابن أخيه في الصلح، وكانت والدته وهي جدّة محمود تحرّضه على ذلك فأجاب إليه. ثم وصل إليه آق سنقر البرسقي الّذي كان شحنة ببغداد، وكان عند الملك مسعود من يوم انصرافه عنها، وجاء رسوله من عند السلطان محمود بأنّ الصلح إنما يوافق عليه الأمراء بعد عود السلطان سنجر إلى خراسان، فأنف من ذلك وسار من همذان الى الكرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح وأن يكون وليّ عهده فأجاب إلى ذلك، وتحالفا عليه وجاء السلطان محمود إلى عمّه سنجر ونزل في بيت والدته وهي جدّة محمود، وحمل إليه هدية حفلة. وكتب السلطان سنجر إلى أعماله بخراسان وغزنة وما وراء النهر وغيرها من الولايات بأن يخطب للسلطان محمود، وكتب إلى بغداد بمثل ذلك،
__________
[1] البكجية: ابن الأثير ج 10 ص 551.
[2] السميرمي: المرجع السابق.
[3] علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه: ابن الأثير ج 10 ص 551.
[4] سنقر البخاري: ابن الأثير ج 10 ص 552.(3/615)
وأعاد عليه جميع البلاد سوى الريّ لئلا تحدّث محمودا نفسه بالانتقاض. ثم قتل السلطان محمود الأمير منكبرس شحنة بغداد لأنه لما انهزم محمود وسار إلى بغداد ليدخلها منعه دبيس فعاد في البلاد، ورجع وقد استقرّ في الصلح فقصد السلطان مستجيرا به فأبى من إجارته ومؤاخذته، وبعثه إلى السلطان محمود فقتله صبرا لما كان يستبد عليه بالأمور. وسار شحنة إلى بغداد على زعمه فحقد له ذلك، وأمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز شحنة بالعراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل به. ثم قتل السلطان محمود حاجبه علي بن عمر وكان قد استخلفه ورفع منزلته فكثرت السعاية فيه فهرب إلى قلعة عند الكرج، كان بها أهله وماله. ثم لحق بخوزستان وكان بيد بني برسق فاقتضى عهودهم وسار إليهم. فلما كان على تستر بعثوا من يقبض عليه فقاتلهم فلم يقرّ عنه وأسروه واستأذنوا السلطان محمودا في أمره فأمر بقتله وحمل رأسه إليه.
انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والفتنة بينهما
كان الملك مسعود قد استقرّ بالموصل وأذربيجان منذ صالحه السلطان محمود عليها بأوّل ملكه، وكان آق سنقر البرسقي مع الملك مسعود منذ فارق شحنة بغداد، وأقطعه مراغة مضافة إلى الرحبة وكان دبيس يكاتب حيوس بك [1] الأتابك في القبض عليه وبعثه الى مولاه السلطان محمود، ويبذل لهم المال على ذلك. وشعر البرسقي ففارقه إلى السلطان محمود، وعاد إلى جميل رأيه فيه. وكان دبيس مع ذلك يغري الأتابك حيوس بك بالخلاف على السلطان محمود، ويعدهم من نفسه المناصرة لينال باختلافهم في تمهيد سلطانه ما ناله أبوه باختلاف بركيارق ومحمد. وكان أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني يكتب للملك محمود، ويرسم الطغري وهي العلامة على مراسيمه، ومنها هباته. وجاء والده أبو إسماعيل من أصبهان فعزل الملك مسعود وزيره أبا علي بن عمار صاحب طرابلس، واستوزره مكانه سنة ثلاث عشرة فحسن له الخلاف الّذي كان دبيس يكاتبهم فيه ويحسّنه لهم. وبلغ السلطان محمودا
__________
[1] جيوش بك: ابن الأثير ج 10 ص 562.(3/616)
خبرهم فكتب يحذّرهم فلم يقبلوا وخلعوا، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النوب الخمس، وذلك سنة أربع عشرة. وكانت عساكر السلطان محمود مفترقة فبادروا إليه والتقوا في عقبة أستراباذ منتصف ربيع الأوّل. والبرسقي في مقدمة محمود، وأبلى يومئذ، واقتتلوا يوما كاملا وانهزمت عساكر مسعود في عشيته وأسر جماعة منهم، وفيهم الوزير الأستاذ أبو إسماعيل الطّغرائي، فأمر السلطان بقتله لسنة من وزارته، وقال هو فاسد العقيدة، وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف في الكيمياء. وقصد الملك مسعود بعد الهزيمة جبلا على اثني عشر فرسخا من مكان الوقعة فاختفى فيه، وبعث يطلب الأمان من أخيه فبعث إليه البرسقي يؤمّنه ويحضره.
وكان بعض الأمراء قد لحق به في الجبل وأشار عليه باللحاق بالموصل، واستمدّ دبيسا فسار لذلك وأدركه البرسقي على ثلاثين فرسخا من مكانه وأمّنه عن أخيه، وأعاده إليه فأريب العساكر للقائه وبالغ في إكرامه وخلطه بنفسه. وأمّا أتابكه حيوس بك فلما افتقد السلطان مسعود سار إلى الموصل وجمع العساكر، وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب. ثم جاء السلطان بهمذان فأمّنه وأحسن إليه. وأمّا دبيس فلما بلغه خبر الهزيمة عاث في البلاد وأخربها وبعث إليه المسترشد بالنكير فلم يقبل، فكتب بشأنه إلى السلطان محمود وخاطبه السلطان في ذلك فلم يقبل، وسار إلى بغداد وخيّم إزاء المسترشد وأظهر أنه يثأر منهم بأبيه. ثم عاد عن بغداد ووصل السلطان في رجب، فبعث دبيس إليه زوجته بنت عميد الدولة بن جهير بمال وهدايا نفيسة وأجيب إلى الصلح على شروط امتنع منها فسار إليه السلطان في شوّال ومعه ألف سفينة. ثم استأمن إلى السلطان فأمّنه وأرسل نساءه إلى البطيحة. وسار إلى أبي الغازي مستجيرا به، ودخل السلطان الحلّة وعاد عنها ولم يزل دبيس عند أبي الغازي. وبعث أخاه منصورا إلى أصحابه من أمراء النواحي ليصلح حاله مع السلطان فلم يتمّ ذلك.
وبعث إليه أخوه منصور يستدعيه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلّة سنة خمس عشرة وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان بالاعتذار والوعد بالطاعة، فلم يقبل منه، وسارت إليه العساكر مع سعد الدولة بن تتش ففارق الحلّة ودخلها سعد وأنزل بالحلّة عسكرا وبالكوفة آخر. ثم راجع دبيس الطاعة على أن يرسل أخاه منصورا رهينة فقبل، ورجع العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.(3/617)
اقطاع الموصل للبرسقي وميافارقين لابي الغازي
ثم أقطع السلطان محمود الموصل وأعمالها، والجزيرة وسنجار وما يضاف إلى ذلك للأمير آق سنقر البرسقي شحنة بغداد، وذلك أنه كان ملازما للسلطان في حروبه ناصحا له وهو الّذي حمل السلطان مسعودا على طاعة أخيه محمود وأحضره عنده، فلما حضر حيوس بك وزيره عند السلطان محمود من الموصل بقيت بدون أمير، فولّى عليها البرسقي سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأمره بمجاهدة الفرنج فأقام في إمارتها دهرا هو وبنوه كما يأتي في أخبارهم. ثم بعث الأمير أبو الغازي بن أرتق ابنه حسام الدين تمرتاش شافعا في دبيس بن صدقة، وأن يضمن الحلّة بألف دينار وفرس في كل يوم، ولم يتمّ ذلك. فلمّا انصرف عن السلطان أقطع أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين وتسلّمها من يد سقمان صاحب خلاط سنة خمس عشرة، وبقيت في يده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة كما يذكر في أخبارهم.
طاعة طغرل لأخيه السلطان محمود
قد تقدّم ذكر انتقاض الملك طغرل بساوة وزنجان على أخيه السلطان محمود بمداخلة أتابكه كتبغري [1] ، وأنّ السلطان محمود المشار إليه أزعجه إلى كنجة، وسار إلى أذربيجان يحاول ملكها. ثم توفي أتابكه كتبغري في شوّال سنة خمس عشرة، وكان آق سنقر الأحمديلي صاحب مراغة فطمع في رتبة كتبغري، وسار إلى طغرل واستدعاه إلى مراغة وقصدوا أردبيل فامتنعت عليهم، فجاءوا إلى تبريز، وبلغهم أنّ السلطان أقطع أذربيجان لحيوس بك، وبعثه في العساكر وأنه سبقهم إلى مراغة فعدلوا عنها وكافئوا صاحب زنجان فأجابهم وسار معهم إلى أبهر، فلم يتمّ لهم مرادهم، وراسلوا السلطان في الطاعة واستقرّ حالهم، وأمّا حيوس بك فوقعت بينه وبين الأمراء من عسكره منافرة، فسعوا به عند السلطان فقتله بتبريز في رمضان من سنته، وكان تركيا من مماليك السلطان محمد، وكان حسن السيرة مضطلعا بالولاية.
ولمّا ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد قد عاثوا في نواحيها، وأخافوا سبلها فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وفتح الكثير منها ببلد الهكّاريّة وبلد الزوزان وبلد النسوية [2] وبلد النحسة، حتى خاف الأكراد واطمأن الناس وأمنت السبل.
__________
[1] كنتغدي: ابن الأثير ج 10 ص 597.
[2] البشنوية: ابن الأثير: ج 10 ص 604.(3/618)
أخبار دبيس مع المسترشد
قد ذكرنا مسير العساكر إلى دبيس مع برسق الكركوي [1] سنة أربع عشرة وكيف وقع الاتفاق وبعث دبيس أخاه منصورا رهينة فجاء برتقش به بغداد سنة ست عشرة، ولم يرض المسترشد ذلك، وكتب إلى السلطان محمود بأنّ دبيس لا يصلحه شيء لأنه مطالب بثأر أبيه، وأشار بأن يبعث عن البرسقي من الموصل لتشديد دبيس ويكون شحنة ببغداد فبعث اليه السلطان وأنزله شحنة ببغداد، وأمره بقتال دبيس، فأقام عشرين شهرا ودبيس معمل في الخلافة. ثم أمره المسترشد بالمسير إليه وإخراجه من الحلّة، فاستقدم البرسقي عساكره من الموصل، وسار إلى الحلّة، ولقيه دبيس فهزم عساكره ورجع إلى بغداد في ربيع من سنة ست عشرة، وكان معه في العسكر مضر [2] بن النفيس بن مهذّب الدولة أحمد بن أبي الخير عامل البطيحة، فغدا عليه عمّه المظفّر بن عماد بن أبي الخير فقتله في انهزامهم. وسار إلى البطيحة فتغلّب عليها، وكاتب دبيس في الطاعة، وأرسل دبيس إلى المسترشد بطاعته، وأن يبعث عمّاله لقرى الخاص يقبضون دخلها على أن يقبض المسترشد على وزيره جلال الدين أبي عليّ بن صدقة فتمّ بينهما ذلك، وقبض المسترشد على وزيره، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضى إلى الموصل، وبلغ الخبر بالهزيمة إلى السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وحبسه، وأذن دبيس لأصحاب الإقطاع بواسط في المسير إلى إقطاعهم، فمنعهم الأتراك بها، فجهّز إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر وامر مظفر بن أبي الخير عامل البطيحة بمساعدته وبعث البرسقي المدد إلى أهل واسط فلقيهم مهلهل بن أبي المظفّر فهزموه وأسروه وجماعة من عسكره واستلحموا كثيرا منهم. وجاء المظفّر أبو الخير على أثره، وأكثر النهب والعيث، وبلغه خبر الهزيمة فرجع وبعث أهل واسط بتذكرة وجدوها مع مهلهل بخطّ دبيس فأمره بالقبض على المظفّر فمال إليهم وانحرف عن دبيس، ثم بلغ دبيس أنّ السلطان محمودا سمل أخاه منصورا، فانتقض ونهب ما كان للخليفة بأعماله، وسار أهل واسط الى
__________
[1] يرنقش الزكوي: ابن الأثير ج 10 ص 598.
[2] نصر بن النفيس: ابن الأثير ج 10 ص 599.(3/619)
النعمانيّة فأجلوا عنها أصحاب دبيس. وتقدّم المسترشد إلى البرسقي بالمسير لحرب دبيس فسار لذلك كما نذكر. ثم أقطع السلطان محمود مدينة واسط للبرسقي مضافة إلى ولاية الموصل فبعث عماد الدين زنكي بن آق سنقر ولد نور الدين العادل.
نكبة الوزير ابن صدقة وولاية نظام الملك
قد ذكرنا آنفا أنّ دبيس اشترط على المسترشد في صلحه معه القبض على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة، فقبض عليه في جمادى سنة ست عشرة، وأقام في نيابة الوزارة شرف الدين عليّ بن طراد الزينبيّ. وهرب جلال الدين أبو الرضي ابن أخي الوزير إلى الموصل. وبعث السلطان محمود إلى المسترشد في أن يستوزر نظام الدولة أبا نصر أحمد بن نظام الملك، وكان السلطان محمود قد استوزر أخاه شمس الملك عثمان عند ما قلّ الباطنية بهمذان [1] وزيره الكمال أبا طالب السميري فقبل المسترشد إشارته، واستوزر نظام الملك، وقد كان وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل ولزم داره ببغداد. فلما وزر وعلم ابن صدقة أنه يخرجه طلب من المسترشد أن يسير إلى سليمان بن مهارش بحديثة غانة، فأذن له، فسار ونهب في طريقه وأسر، ثم خلص إلى مأمنه في واقعة عجيبة. ثم قتل السلطان محمود وزيره شمس الملك فعزل المسترشد أخاه نظام الدين أحمد عن وزارته، وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى مكانه.
واقعة المسترشد مع دبيس
كان دبيس في واقعته مع البرسقي قد أسر عفيفا الخادم، ثم أطلقه سنة سبع عشرة، وحمله إلى المسترشد رسالة بخروج البرسقي للقتال يتهدده بذلك على ما بلغه من سمل أخيه، وحلف لينهبنّ بغداد، فاستطار المسترشد غضبا وأمر البرسقي بالمسير لحربه، فسار في رمضان من سنته. ثم تجهّز للخليفة وبرز من بغداد واستدعى العساكر فجاءه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في بني عقيل، وقرواش بن مسلم وغيرهما. ونهب
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 602: «فأرسل السلطان إلى المسترشد باللَّه في معنى وزارة نظام الملك، وكان أخا شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود، فأجيب الى ذلك واستوزر في شعبان.(3/620)
دبيس نهر الملك من خاص الخليفة ونودي في بغداد بالنفير فلم يتخلّف أحد، وفرّقت فيهم الأموال والسلاح وعسكر المسترشد خارج بغداد في عشر ذي الحجة، وبرز لأربع بعدها وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء، وعلى كتفه البردة وفي يده القضيب وفي وسطه منقطة حديد صيني، ووزيره معه نظام الدين ونقيب الطالبيّين ونقيب النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم. فنزل بخيمة، وبلغ البرسقي خروجه فعاد بعسكره إليه. ونزل المسترشد بالحديثة بنهر الملك واستحلف البرسقي والأمراء على المناصحة، وسار فنزل المباركة، وعبّى البرسقي أصحابه للحرب ووقف المسترشد وراء العسكر في خاصته، وعبّى دبيس أصحابه صفّا واحدا وبين يديهم الإماء تعزف وأصحاب الملاهي، وعسكر الخليفة تتجاذب القراءة والتسبيح مع جنباته، ومع أعلامه كرباوي بن خراسان وفي الساقة سليمان بن مهارش وفي ميمنة البرسقي أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البلخية، فحمل عنتر بن أبي العسكر من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي فدحرجها وقتل ابن أخي أبي بكر.
ثم حمل ثانية كذلك فحمل عماد الدين زنكي بن آق سنقر في عسكر واسط على عنتر بن أبي العسكر فأسره ومن معه. وكان من عسكر المسترشد كمين متوار، فلما التحم الناس خرج الكمين واشتدّ الحرب وجرّد المسترشد سيفه وكبّر وتقدّم فانهزمت عساكر دبيس، وجيء بالأسرى فقتلوا بين يدي الخليفة وسبي نساؤهم، ورجع الخليفة إلى بغداد في عاشوراء من سنة سبع عشرة. وذهب دبيس وخفي أثره قصد غزية من العرب فأبوا من ذلك إيثارا لرضا المسترشد والسلطان، فسار إلى المشقر من البحرين فأجابوه وسار بهم إلى البصرة فنهبوها وقتلوا أميرها، وتقدّم المسترشد للبرسقي بالانحدار إليه بعد أن عنّفه على غفلته عنه، وسمع دبيس ففارق البصرة، وبعث البرسقي عليها زنكي بن آق سنقر فأحسن حمايتها وطرد العرب عن نواحيها، ولحق دبيس بالفرنج في جعبر وحاصر معهم حلب فلم يظفروا وأقلعوا عنها سنة ثمان عشرة، فلحق دبيس بطغرل ابن السلطان محمد وأغراه بالمسترشد وبملك العراق كما نذكر.
ولاية برتقش شحنة بغداد
ثم إنّ المسترشد وقعت بينه وبين البرسقي منافرة فكتب إلى السلطان محمود في عزله عن العراق، وإبعاده إلى الموصل فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى البرسقي بالمسير إلى الموصل لجهاد الإفرنج، وبعث إليه بابن صغير من أولاده يكون معه وولّى على شحنة بغداد برتقش(3/621)
الزكوي، وجاء نائبة إلى بغداد فسلّم إليه البرسقي العمل وسار إلى الموصل بابن السلطان، وبعث إلى عماد الدين زنكي أن يلحق به فسار إلى السلطان، وقدم عليه بالموصل فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها.
وصول الملك طغرل ودبيس إلى العراق
قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة من الشام إلى الملك طغرل فأحسن إليه ورتبه في خاص أمرائه، وجعل دبيس يغريه بالعراق ويضمن له ملكه، فسار لذلك سنة تسع عشرة، ووصلوا دقوقا، فكتب مجاهد الدين مهروز من تكريت إلى المسترشد بخبرهما، فتجهّز إلى دفاعهما وسار إليهما. وأمر برتقش الزكوي الشحنة أن يستنفر ويستبعد فبلغت عدّة العسكر اثني عشر ألفا سوى أهل بغداد، وبرز خامس صفر سنة تسع عشرة، وسار فنزل الخالص، وعدل طغرل إلى طريق خراسان، وأكثرت عساكره النهب، ونزل رباط جلولاء وسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في العساكر، فنزل الدسكرة وجاء المسترشد فنزل معه، وتوجّه طغرل ودبيس فنزلا الهارونية، واتفقا أن يقطعا جسر النهروان فيقيم دبيس على المعابر، ويخالفهم طغرل إلى بغداد، ثم عاقتهم جميعا عوائق المطر وأصابت طغرل الحمّى، وجاء دبيس إلى النهروان ليعبر وقد لحقهم الجوع، فصادف أحمالا من البرّ، والأطعمة جاءت من بغداد للمسترشد فنهبها، وأرجف في معسكر المسترشد أنّ دبيس ملك بغداد فأجفلوا من الدسكرة إلى النهروان وتركوا أثقالهم. ولما حلوا بالنهروان وجدوا دبيس وأصحابه نياما فاستيقظ وقبل الأرض بين يدي المسترشد وتذلّل [1] فهمّ بصلحه ووصل الوزير ابن صدقة فثناه عن ذلك ثم مدّ المسترشد الجسر وعبر ودخل بغداد لفتنة خمسة وعشرين يوما [2] . وسار دبيس إلى طغرل ثم اعتزموا على المسير إلى السلطان سنجر، ومرّوا بهمذان فعاثوا في أعمالها وصادروا، واتبعهم السلطان فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر شاكين من المسترشد والشحنة برتقش.
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 10 ص 627: «ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام، وتقدم الخليفة وأشرف على ديالى ودبيس نازل غرب النهروان، والجسر ممدود شرقي النهروان فلما أبصر دبيس شمسة الخليفة قبّل الأرض بين يدي الخليفة وقال: انا العبد المطرود، فليعف أمير المؤمنين عن عبده.»
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 628: «وسيّر الخليفة عسكرا مع الوزير في أثره، وعاد إلى بغداد فدخلها، وكانت غيبته خمسة وعشرون يوما.»(3/622)
الفتنة بين المسترشد والسلطان محمود
ثم وقعت بين برتقش الزكوي وبين نواب المسترشد نبوة فبعث إليه المسترشد يتهدّده فخافه على نفسه، وسار إلى السلطان محمود في رجب سنة عشرين فحذر منه، وأنه ثاور العساكر ولقي الحروب وقوت نفسه، وأشار بمعاجلته قبل أن يستفحل أمره، ويمتنع عليه فسار السلطان نحو العراق، فبعث إليه المسترشد بالرجوع عن البلاد لما فيها من الغلاء من فتنة دبيس، وبذل له المال، وأن يسير إلى العراق مرّة أخرى، فارتاب السلطان وصدّق ما ظنّه برتقش وأغذّ السير فعبر المسترشد إلى الجانب الغربي مغضبا يظهر الرحيل عن بغداد إذ قصدها السلطان. وصانعه السلطان بالاستعطاف وسؤاله في العود فأبى فغضب السلطان ودخل نحو بغداد. وأقام المسترشد بالجانب الغربي وبعث عفيفا الخادم من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آق سنقر وكان على البصرة كما ذكرناه، فسار إليه وهزمه وقتل من عسكره، ونجا عفيف إلى المسترشد برأسه فجمع المسترشد السفن وسدّ أبواب دار الخلافة إلّا باب النوبي، ووصل السلطان في عشر ذي الحجة من سنة عشرين، ونزل باب الشماسية، ومنع العسكر عن دور الناس.
وراسل المسترشد في العود والصلح فأبى، ونجا جماعة من عسكر السلطان فنهبوا التاج في أوّل المحرّم سنة إحدى وعشرين فضج العامّة لذلك، واجتمعوا، وخرج المسترشد والشماسية على رأسه والوزير بين يديه، وأمر بضرب الطبول ونفخ الأبواق، ونادى بأعلى صوته يا لهاشم! ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة. وكان في الدار رجال مختفون في السراديب فخرجوا على العسكر وهم مشتغلون في نهب الدار فأسروا جماعة منهم ونهب العامّة دور أصحاب السلطان وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق فحفرت ليلا، ومنعوا بغداد عنهم، واعتزموا على كبس السلطان محمود. وجاء عماد الدين زنكي من البصرة في حشود عظيمة ملأت البرّ والبحر فاعتزم السلطان على قتال بغداد، وأذعن المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا وأقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، ومرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان ونظر فيمن يولّيه شحنة العراق مضافا إلى ما بيده، ويثق به في سدّ تلك الخلّة. وحمل إليه الخليفة عند رحيله(3/623)
الهدايا والتحف والألطاف فقبل جميعها. ولما أبعد السلطان عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم عليّ بن الناصر النشاباذي لاتهامه بممالأة المسترشد، واستوزر مكانه شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان مقيما ببغداد فاستدعاه وأهدى إليه الناس حتى الخليفة. وسار من بغداد في شعبان فوصل إلى السلطان بأصبهان وخلع عليه، ثم استعفى لعشرة أشهر وعاد إلى بغداد ولم يزل الوزير أبو القاسم محبوسا إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الريّ في السنة بعدها فأطلقه وأعاده إلى وزارة السلطان.
أخبار دبيس مع السلطان سنجر
لما وصل دبيس إلى السلطان سنجر ومعه طغرل أغرياه بالمسترشد والسلطان محمود، وأنهما عاصيان عليه، وسهّلا عليه أمر العراق فسار إلى الريّ واستدعى السلطان محمودا يختبر طاعته بذلك فبادر للقائه. ولما وصل أمر سنجر العساكر فتلقّوه وأجلسه معه على سريره، وأقام عنده مدّة وأوصاه بدبيس أن يعيده إلى بلده، ورجع سنجر إلى خراسان منتصف ذي الحجة ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد فقدمها في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين واسترضى المسترشد لدبيس فرضى عنه، على شريطة أن يولّيه غير الحلّة فبذل في الموصل مائة ألف دينار. وشعر بذلك زنكي فجاء بنفسه إلى السلطان وهجم على الستر متذمما، وحمل الهدايا وبذل مائة ألف فأعاده السلطان إلى الموصل، وأعاد بهروز شحنة على بغداد، وجعلت الحلّة لنظره. وسار السلطان إلى همذان في جمادى سنة ثلاث وعشرين، ثم مرض السلطان فلحق دبيس بالعراق، وحشد المسترشد لمدافعته، وهرب بهروز من الحلة فدخلها دبيس في رمضان من سنة ثلاث وعشرين. وبعث السلطان في أثره الأميرين اللذين ضمناه له، وهما كزل والأحمديلي، فلما سمع دبيس بهما أرسل إلى المسترشد يستعطفه، وتردّد الرسل وهو يجمع الأموال والرجال حتى بلغ عسكره عشرة آلاف، ووصل الأحمديلي بغداد في شوّال وسار في أثر دبيس. ثم جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بالهدايا وبذل الأموال على الرضا فأبى، ووصل إلى بغداد، ودخل دبيس البرية، وقصد البصرة فأخذ ما كان فيها للخليفة والسلطان، وجاءت العساكر في اتّباعه فدخل البرية انتهى.(3/624)
وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود ثم منازعته عمومه واستقلال مسعود
ثم توفي السلطان محمود في شوّال من سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه، واتفق وزيره أبو القاسم النشاباذي وأتابكه آق سنقر الأحمديلي على ولاية ابنه داود مكانه وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت الفتنة بهمذان ونواحيها ثم سكنت، فسار الوزير بأمواله إلى الريّ ليأمن في إيالة السلطان سنجر. ثم إنّ الملك داود سار في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين من همذان إلى ربكان، وبعث إلى المسترشد ببغداد في الخطبة، وأتاه الخبر بأنّ عمه مسعودا سار من جرجان إلى تبريز، وملكها فسار إليه وحصره في تبريز إلى سلخ المحرّم من سنة ست وعشرين، ثم اصطلحا وأفرج داود عن تبريز، وخرج السلطان مسعود منها، واجتمعت عليه العساكر فانتقض وسار إلى همذان. وأرسل الى المسترشد في الخطبة فأجابهم جميعا بأنّ الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر بأنّ الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر بأنّ الخطبة إنما ينبغي أن تكون لك وحدك فوقع ذلك منه أحسن موقع، وكاتب السلطان مسعود عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأجابه وسار إليه وانتهى إلى المعشوق. وبينما هم في ذلك إذ سار قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان بالملك سلجوق شاه ابن السلطان محمد، وكان أتابكه فدخل بغداد في عسكر كبير، ونزل دار السلطان واستخلفه المسترشد لنفسه، ووصل مسعود إلى عباسة فبرزوا للقائه، وجاءهم خبر عماد الدين زنكي فعبر قراجا إلى الجانب الغربي للقائه، وواقعه فهزمه، وسار منهزما إلى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين، فهيّأ له الجسر للعبور، وعبر فأمن وسار لوجهه. وجاء السلطان مسعود من العبّاسة للقاء أخيه سلجوق ومن معه مدلا بمكان زنكي وعسكره من ورائهم، وبلغه خبر انهزامهم فنكص على عقبه، وراسل المسترشد بأنّ السلطان سنجر وصل إليّ وطلب الاتفاق من المسترشد وأخيه سلجوق شاه وقراجا على قتال سنجر، على أن يكون العراق للمسترشد يتصرّف فيه نوابه، والسلطنة لمسعود وسلجوق شاه ولي عهده فأجابوه إلى ذلك وجاء بغداد في جمادى الأولى سنة ست وعشرين، وتعاهدوا على ذلك.(3/625)
واقعة مسعود مع سنجر وهزيمته وسلطنة طغرل
لما توفي السلطان محمود وولي ابنه داود مكانه، نكر ذلك عمّه السلطان سنجر عليهم، وسار إلى بلاد الجبل ومعه طغرل ابن أخيه السلطان محمد، كان عنده منذ وصوله مع دبيس فوصل إلى الريّ، ثم إلى همذان، وسار السلطان مسعود وأخوه سلجوق وقراجا الساقي أتابك سلجوق للقائه. وكان المسترشد قد عاهدهم على الخروج وألزموه ذلك. ثم إنّ السلطان سنجر بعث إلى دبيس وأقطعه الحلّة وأمره بالمسير إلى بغداد، وبعث إلى عماد الدين زنكي بولاية شحنكيّة بغداد، والسير إليها فبلغ المسترشد خبر مسيرهما فرجع لمدافعتهما. وسار السلطان مسعود وأصحابه للقاء السلطان سنجر، ونزل أستراباذ في مائة ألف من العسكر فخاموا عن لقائه، ورجعوا أربع مراحل فاتبعهم سنجر، وتراءى الجمعان عند الدّينور ثامن رجب، فاقتتلوا وعلى ميمنة مسعود قراجا الساقي وكزل، وعلى ميسرته برتقش بازدار، ويوسف حاروس [1] فحمل قراجا الساقي في عشرة آلاف على السلطان سنجر، حتى تورّط في مضافه فانعطفوا عليه من الجانبين، وأخذ أسيرا بعد جراحات. وانهزم مسعود وأصحابه وقتل بعضهم، وفيهم يومئذ يوسف حاروس، وأسر آخرون فيهم قراجا فأحضر عند السلطان سنجر فوبّخه، ثم أمر بقتله. وجاء السلطان مسعود إليه فأكرمه وعاتبه على مخالفته وأعاده أميرا إلى كنجة. وولّى الملك طغرل ابن أخيه محمدا في السلطنة وجعل وزيره أبا القاسم النشاباذي وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان ووصل نيسابور في عاشر رمضان من سنته. وأمّا الخليفة فرجع إلى بغداد كما قلناه لمدافعة دبيس وزنكي، وبلغه الخبر بهزيمة السلطان مسعود، فعبر إلى الجانب الغربي وسار إلى العبّاسة [2] ، ولقيهما بحصن البرامكة آخر رجب. وكان في ميمنته جمال الدولة إقبال، وفي ميسرته مطر الخادم فانهزم إقبال لحملة زنكي، وحمل الخليفة ومطر على دبيس فانهزم، وتبعه زنكي فاستمرّت الهزيمة عليهم وافترقوا، ومضى دبيس إلى الحلّة وكانت بيد إقبال، وجاءه المدد من بغداد فلقي دبيس وهزمه، ثم تخلّص بعد
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 677: «وعلى ميمنته قراجة الساقي والأمير قزل، وعلى ميسرته يرنقش بازدار، ويوسف جاووش، وغيرهما، وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام» .
[2] العباسية: ابن الأثير ج 10 ص 678.(3/626)
الجهد، وقصد واسط وأطاعه عسكرها إلى أن خلت سنة سبع وعشرين، فجاءهم إقبال وبرتقش بازدار، وزحفوا في العساكر برّا وبحرا فانهزمت أهل واسط. ولمّا استقرّ طغرل بالسلطنة وعاد عمّه سنجر إلى خراسان لخلاف أحمد خان صاحب ما وراء النهر عليه، وكان داود ببلاد أذربيجان وكنجة فانتقض وجمع العساكر وسار إلى همذان وبرز إليه طغرل وفي ميمنته ابن برسق وفي ميسرته كزل وفي مقدّمته آق سنقر. وسار إليه داود في ميمنته برتقش الزكويّ والتقيا في رمضان سنة ست وعشرين فأمسك برتقش عن القتال، واستراب التركمان منه فنهبوا خيمته، واضطرب عسكر داود لذلك فهرب أتابكه آق سنقر الأحمديلي، واستمرّت الهزيمة عليهم وأسر برتقش الزكوي، ومضى داود ثم قدم بغداد ومعه أتابكه آق سنقر الأحمديلي فأنزله الخليفة بدار السلطان وأكرمه. ولمّا بلغ السلطان مسعودا هزيمة داود ووصوله الى بغداد قدم إليها وخرج داود لتلقيه، وترجّل له عن فرسه، ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر سنة سبع وعشرين، وخطب له على منابر بغداد ولداود بعده، واتفقا مع المسترشد بالسير إلى أذربيجان وأن يمدّهما، وسارا لذلك، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وحاصر جماعة من الأمراء بأردبيل ثم هزمهم وقتل منهم، وسار إلى همذان وبرز أخو طغرل للقائه فانهزم، واستولى مسعود على همذان وقتل آق سنقر، قتله الباطنية ويقال بدسيسة السلطان محمود. ولما انهزم طغرل قصد الريّ وبلغ قمّ، ثم عاد إلى أصبهان ليمتنع بها وسار أخوه مسعود للحصار فارتاب طغرل بأهل أصبهان، وسار إلى بلاد فارس فاتبعه مسعود، واستأمن إليه بعض أمراء طغرل فارتاب بالباقين، وانهزم إلى الريّ في رمضان من سنته، واتّبعه مسعود فلحقه بالريّ، وقاتله فانهزم طغرل وأسر جماعة من أمرائه. وعاد مسعود إلى همذان ظافرا، وعند ما قصد طغرل الريّ من فارس قتل في طريقه وزيره أبا القاسم النشاباذي في شوّال من سنته لموجدة وجدها عليه.
مسير المسترشد لحصار الموصل
لما انهزم عماد الدين زنكي أمام المسترشد كما قلنا لحق بالموصل، وشغل سلاطين السلجوقية في همذان بالخلف الواقع بينهم، وجماعة من أمراء السلجوقية إلى بغداد فرارا من الفتنة فقوي بهم المسترشد، وبعث إلى عماد الدين زنكي بعض شيوخ(3/627)
الصوفيّة من حضرته فأغلظ له في الموعظة فأهانه زنكي وحبسه، فاعتزم المسترشد على حصار الموصل وبعث بذلك إلى السلطان مسعود، وسار من بغداد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين في ثلاثين ألف مقاتل. ولما قارب الموصل فارقها زنكي ونزل بها نائبة نصير الدين حقر، ولحق بسنجر وأقام يقطع المدد والميرة عن عسكر المسترشد حتى ضاقت بهم الأمور، وحاصرها المسترشد ثلاثة أشهر فامتنعت عليه ورحل عائدا إلى بغداد، فوصل يوم عرفة من سنته. يقال إن مطرا الخادم جاء من عسكر السلطان مسعود لأنه قاصد العراق فارتحل لذلك.
مصاف طغرل ومسعود وانهزام مسعود
ولما عاد مسعود الى همذان بعد انهزام أخيه طغرل، بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه وحصره ببعض قلاعها، فخالفه طغرل إلى بلاد الجبل، واجتمعت عليه العساكر ففتح كثيرا من البلاد، وقصد مسعودا وانتهى إلى قزوين فسار مسعود للقائه، وهرب من عسكره جماعة كان طغرل قد داخلهم واستمالهم، فولّى مسعود منهزما آخر رمضان سنة ثمان وعشرين، واستأذن المسترشد في دخول بغداد وكان نائبة بأصبهان البقش السلاميّ، ومعه أخوه سلجوق شاه، فلمّا بلغهم خبر الهزيمة لحقوا ببغداد، ونزل سلجوق بدار السلطان، وبعث إليه الخليفة بعشرة آلاف دينار. ثم قدم مسعود بعدهم ولقي في طريقه شدة وأصحابه بين راجلين وركاب فبعث إليهم المسترشد بالمقام والخيام والأموال والثياب والآلات، وقرّب إليهم المنازل، ونزل مسعود بدار السلطنة ببغداد منتصف شوّال سنة ثمان، وأقام طغرل بهمذان.
وفاة طغرل واستيلاء السلطان مسعود
ولمّا وصل مسعود إلى بغداد أكرمه المسترشد، ووعده بالمسير معه لقتال أخيه طغرل، وأزاح علل عسكره واستحثه لذلك، وكان جماعة من أمراء السلجوقية قد ضجروا من الفتنة، ولحقوا بالمسترشد فساروا معه ودسّ إليهم طغرل بالمواعيد فارتاب المسترشد ببعضهم، واطلع على كتاب طغرل إليه، وقبض عليه ونهب ماله، فلحق الباقون بالسلطان، وبعث فيهم المسترشد فمنعهم السلطان فحدثت بينهم الوحشة لذلك،(3/628)
وبعث السلطان إلى الخليفة يلزمه المسير معه [1] ، وبينا هما على ذلك إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل، في المحرّم من سنة تسع وعشرين، فسار السلطان مسعود إلى همذان وأقبلت إليه العساكر فاستولى عليها، وأطاعه أهل البلاد، واستوزر شرف الدين أنوشروان خالدا، وكان قد سار معه بأهله.
فتنة السلطان مسعود مع المسترشد
لما استولى السلطان مسعود على همذان استوحش منه جماعة من أعيان الأمراء، منهم برتقش وكزل وسنقر والي همذان، وعبد الرحمن بن طغرلبك، ففارقوه ودبيس بن صدقة معهم، واستأمنوا إلى الخليفة ولحقوا بخوزستان وتعاهدوا مع برسق على طاعة المسترشد، وحذّر المسترشد من دبيس وبعث شديد الدولة ابن الأنباري بالأمان للأمراء دون دبيس، ورجع دبيس إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد فأكرمهم المسترشد، واشتدّت وحشة السلطان مسعود لذلك، ومنافرته للمسترشد فاعتزم المسترشد على قتاله، وبرز من بغداد في عاشر [2] رجب وأقام بالشفيع وعصي عليه صاحب البصرة فلم يجبه، وأمراء السلجوقية الذين بقوا معه يحرّضونه على المسير فبعث مقدّمته إلى حلوان. ثم سار من شعبان واستخلف على العراق إقبالا خادمه في ثلاثة آلاف فارس ولحقه برسق بن برسق فبلغ عسكره سبعة آلاف فارس، وكان أصحاب الأعراب يكاتبون المسترشد بالطاعة فاستصلحهم مسعود، ولحقوا به، وبلغ عسكره خمسة عشر ألفا، وتسلّل إليه كثير من عسكر المسترشد حتى بقي في خمسة آلاف، وبعث إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد الدّينور ليلقاه بها بعسكره فجفل للقاء السلطان مسعود، وسار وفي ميمنته برتقش بازدار وكور
__________
[1] هكذا بالأصل والظاهر ان العبارة سقط منها فقره أثناء النسخ أو الطبع وفي الكامل ج 11 ص 19:
«وكان قد اتّصل الأمير ألبقش السلاحيّ وغيره من الأمراء بالخليفة، وطلبوا خدمته، فاستخدمهم واتّفق معهم. واتّفق أن إنسانا أخذ فوجد معه ملطّفات من طغرل الى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم، فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله، فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا الى عسكر السلطان مسعود، فأرسل الخليفة الى مسعود في إعادتهم اليه، فلم يفعل واحتجّ بأشياء، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخّره عن المسير معه، وأرسل اليه يلزمه بالمسير معا أمرا جزما، فيما الأمراء على هذا، إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل»
[2] في العشرين من رجب: ابن الأثير ج 11 ص 25.(3/629)
الدولة سنقر [1] وكزل وبرسق بن برسق، وفي ميسرته جاولي برسقي وسراب سلار [2] وأغلبك الّذي كان قبض عليه من أمراء السلجوقية بموافقتهم السلطان وكان ذلك عاشر رمضان سنة تسع وعشرين. وانحازت ميسرة المسترشد إليه وانطبقت عساكره عليه، وانهزم أصحاب المسترشد وأخذ هو أسيرا بموكبه، وفيهم الوزير شرف الدين عليّ بن طراد الزينبي، وقاضي القضاة والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم. وأنزل المسترشد في خيمة، وحبس الباقون بقلعة سرحاب، وعاد السلطان إلى همذان وبعث الأمير بك آي المحمدي [3] إلى بغداد شحنة، فوصل سلخ رمضان، ومعه عميد [4] فقبضوا أملاك الخليفة وأخذوا غلّاته، وضج الناس ببغداد وبكوا على خليفتهم، وأعول النساء ثم عمد العامّة إلى المنبر فكسروه ومنعوا من الخطبة وتعاقبوا في الأسواق يحثون التراب على رءوسهم، وقاتلوا أصحاب الشحنة فأثخن فيهم بالقتل وهرب الوالي والحاجب وعظمت الفتنة، ثم بلغ السلطان في شوّال أن داود ابن أخيه محمود عصي عليه بالمراغة، فسار لقتاله والمسترشد معه وتردّد الرسل بينهما في الصلح.
مقتل المسترشد وخلافة الراشد
قد ذكرنا مسير المسترشد مع السلطان مسعود إلى مراغة وهو في خيمة موكل به.
وتردّدت الرسل بينهما وتقرّر الصلح على أن يحمل مالا للسلطان ولا يجمع العساكر لحرب ولا فتنة، ولا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما، وركب المسترشد وحملت الغاشية بين يديه وهو على العود إلى بغداد فوصل الخبر بموافاة رسول من السلطان سنجر فتأخّر مسيره لذلك، وركب السلطان مسعود للقاء الرسول، وكانت خيمة المسترشد منفردة العسكر فدخل عليه عشرون رجلا أو يزيدون من الباطنيّة فقتلوه وجدعوه وصلبوه، وذلك سابع عشر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين، لسبع عشرة ونصف من خلافته. وقتل الرجال الذين قتلوه وبويع ابنه أبو جعفر بعهد أبيه اليه بذلك فجددت له البيعة ببغداد في ملأ من الناس، وكان إقبال خادم المسترشد في بغداد، فلمّا وقعت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي وأصعد إلى تكريت،
__________
[1] نور الدولة سنقر: ابن الأثير ج 11 ص 25.
[2] جاولي وبرسق شراب سلار: المرجع السابق.
[3] الأمير بك أبه المحمودي: ابن الأثير ج 11 ص 26.
[4] ليس لها معنى ولعلها عبيد.(3/630)
ونزل على مجاهد الدين بهروز. ثم بعد مقتل المسترشد بأيام قتل دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر مدينة خويّ، أمر السلطان مسعود غلاما أرمنيا بقتله فوقف على رأسه فضربه، وأسقط رأسه، واجتمع إلى أبيه صدقة بالحلّة عساكره ومماليكه واستأمن إليه قطلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك آي شحنة بغداد فأخذ الحلّة من يد صدقة فبعث بعض عسكره إلى المدائن، وخام عن لقائه حتى قدم السلطان إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين فقصده وصالحه ولزم بابه.
الفتنة بين الراشد والسلطان مسعود ولحاقه بالموصل وخلعه
وبعد بيعة الراشد واستقراره في الخلافة وصل برتقش الزكويّ من عند السلطان محمود يطلب من الراشد ما استقرّ على أبيه من المال أيام كونه عندهم، وهو أربعمائة ألف دينار فأجابه بأنه لم يخلف شيئا وأنّ ماله كان معه فنهب. ثم نمي إلى الراشد أنّ برتقش تهجّم على دار الخلافة، وفتّش المال فجمع الراشد العساكر وأصلح السور، ثم ركب برتقش ومعه الأمراء البلخيّة وجاءوا لهجم الدار، وقاتلهم عسكر الخليفة والعامّة فساروا إلى طريق خراسان وانحدر بك آي إلى خراسان، وسار برتقش إلى البندهجين، ونهبت العامّة دار السلطان واشتدّت الوحشة بين السلطان والراشد، وانحرف الناس عن طاعة السلطان إلى الخليفة، وسار داود ابن السلطان في عسكر أذربيجان إلى بغداد، ونزل بدار السلطان في صفر من سنة ثلاثين، ووصل عماد الدين زنكي من الموصل، ووصل برتقش بازدار صاحب قزوين، والبقش الكبير صاحب أصبهان، وصدقة بن دبيس صاحب الحلّة، وابن برسق وابن الأحمديلي وجفل الملك داود برتقش بازدار شحنة ببغداد، وقبض الراشد على ناصح الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير استادار، وعلى جمال الدين إقبال. وكان قدم إليه من تكريت فتنكّر له أصحابه وخانوه، وشفع زنكي في إقبال الخادم فأطلقه وصار عنده، وخرج الوزير جلال الدين أبو الرضا بن صدقة لتلقي زنكي فأقام عنده. ثم شفع فيه وأعاده إلى وزارته ولحق قاضي القضاة الزينبي بزنكي أيضا، وسار معه إلى الموصل، ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض بها بك آي ونهب ماله فانحدر زنكي إليه وصالحه ورجع إلى بغداد. ثم سار السلطان داود نحو طريق خراسان(3/631)
ومعه زنكي لقتال السلطان مسعود، وبرز الراشد أوّل رمضان وسار إلى طريق خراسان ورجع بعد ثلاث وأرسل إلى داود والأمراء بالعود، وقتال مسعود من وراء السور، وراسلهم مسعود بالطاعة والموافقة فأبوا، وتبعهم الخليفة في ذلك. وجاء مسعود فنزل على بغداد وحصرهم فيها، وثار العيّارون وكثر الهرج وأقاموا كذلك نيفا وخمسين، وامتنعوا وأقلع السلطان عنهم. ثم وصله طرنطاني صاحب واسط بالسفن فعاد وعبر إلى الجانب الغربي فاضطرب الراشد وأصحابه، وعاد داود إلى بلاده، وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد وسار معه إلى الموصل، ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين، وأمّن الناس. واستدعى القضاة والفقهاء والشهود وعرض عليهم يمين الراشد بخطّه: إني متى جنّدت جندا، وخرجت ولقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه. ووافقهم على ذلك أصحاب المناصب والولايات، واتفقوا على ذمّه فتقدّم السلطان لخلعه، وقطعت خطبته ببغداد وسائر البلاد في ذي القعدة من سنة ثلاثين لسنة من خلافته.
خلافة المقتفي
ولما قطعت خطبة الراشد استشار السلطان مسعود أعيان بغداد فيمن يولّيه، فأشاروا بمحمد بن المستظهر فقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد، وذكروا ما ارتكبه من أخذ الأموال ومن الأفعال القادحة في الإمامة، وختموا آخر المحضر بأن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماما. وحضر القاضي أبو طاهر بن الكرخي فشهدوا عنده بذلك وحكم بخلعه، ونفّذه القضاة الآخرون وكان قاضي القضاة غائبا عند زنكي بالموصل، وحضر السلطان دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي وصاحب المخزن ابن العسقلاني، وأحضر أبو عبد الله بن المستظهر فدخل إليه السلطان والوزير واستخلفاه. ثم أدخلوا الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء فبايعوه ثامن عشر ذي الحجّة ولقّبوه المقتفي. واستوزر شرف الدين عليّ بن طراد الزينبي وبعث كتاب الحكم بخلع الراشد إلى الآفاق، وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم عليّ بن الحسين فأعاده إلى منصبه، وكمال الدين حمزة بن طلحة صاحب المخزن كذلك.(3/632)
فتنة السلطان مسعود مع داود واجتماع داود للراشد للحرب ومقتل الراشد
ولما بويع للمقتفي والسلطان مسعود ببغداد، وبعث عساكره بطلب الملك داود فلقيه عند مراغة فانهزم داود وملك قراسنقر أذربيجان. ثم قصد داود خوزستان، واجتمع عليه من عساكر التركمان وغيرهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وحاصر تستر وكان السلطان سلجوق شاه بواسط بعث إلى أخيه مسعود يستنجده فأنجده بالعساكر وسار إلى تستر فقاتله داود وهزمه. وكان السلطان مسعود مقيما ببغداد مخافة أن يقصد الراشد العراق من الموصل، وكان قد بعث لزنكي فخطب للمقتفي في رجب سنة إحدى وثلاثين، وسار الراشد من الموصل، فلما بلغ خبر مسيره إلى السلطان مسعود أذن للعسكر في العود إلى بلادهم، وانصرف صدقة بن دبيس صاحب الحلّة بعد أن زوّجه ابنته.
ثم قدم على السلطان مسعود جماعة الأمراء الذين كانوا مع الملك داود مثل البقش السلامي وبرسق بن برسق صاحب تستر وسنقر خمارتكين شحنة همذان، فرضي عنهم ووليّ البقش شحنة ببغداد فظلم الناس وعسفهم. ولما فارق الراشد زنكي من الموصل سار إلى أذربيجان وانتهى إلى مراغة، وكان بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك [1] صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان مسعود فاجتمعوا الى منكبرس صاحب فارس وتعاهدوا على بيعة داود، وأن يردّوا الراشد إلى الخلافة فأجابهم الراشد إلى ذلك، وبلغ الخبر إلى السلطان فسار من بغداد في شعبان سنة اثنتين وثلاثين، وبلغهم قبل وصوله وصول الراشد إليهم فقاتلهم بخوزستان فانهزموا وأسر منكبرس صاحب فارس [2] فقتله السلطان مسعود صبرا، وافترقت عساكره للنهب وفي طلب المنهزمين، ورآه بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك في قلّ من الجنود فحملوا عليه، وقتل بوزابة جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس وابن قراسنقر الأتابك صاحب أذربيجان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم كان قبض عليهم لأوّل الهزيمة وأمسكهم عنده، فلمّا بلغه قتل منكبرس قتلهم جميعا وانصرف
__________
[1] طغايرك: ابن الأثير ج 11 ص 60.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 60: «ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت، فاقتتلوا فهزمهم السلطان مسعود وأخذ الأمير منكبرس أسيرا» .(3/633)
العسكران منهزمين، وقصد مسعود أذربيجان وداود همذان. وجاء إليه الراشد بعد الوقعة وأشار بوزابة وكان كبير القوم بمسيرهم، فسار بهم إلى فارس فملكها وأضافها إلى خوزستان. وسار سلجوق شاه ابن السلطان مسعود ليملكها فدافعه عنها البقش الشحنة ومطر الخادم أمير الحاج، وثار العيّارون أيام تلك الحرب، وعظم الهرج ببغداد، ورحل الناس عنها إلى البلاد. فلمّا انصرف سلجوق شاه واستقرّ البقش الشحنة فتك فيهم بالقتل والصلب. ولما قتل صدقة بن دبيس ولّى السلطان على الحلّة محمدا أخاه وجعل معه مهلهلا أخا عنتر بن أبي العسكر يدبره. ولما وصل الراشد والملك داود إلى خوزستان مع الأمراء على ما ذكرناه، وملكوا فارس، ساروا إلى العراق ومعهم خوارزم شاه. فلما قاربوا الجزيرة خرج السلطان مسعود لمدافعتهم فافترقوا، ومضى الملك داود إلى فارس وخوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده، فسار إلى أصبهان فوثب عليه في طريقه نفر من الخراسانيّة الذين كانوا في خدمته فقتلوه في القيلولة خامس عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان.
وعظم أمر هذه الفتنة واختلفت الأحوال والمواسم وانقطعت كسوة الكعبة في هذه السنة من دار الخلافة من قبل السلاطين، حتى قام بكسوتها تاجر فارسيّ من المترددين إلى الهند، أنفق فيها ثمانية عشر ألف دينار مصرية، وكثر الهرج من العيّارين حتى ركب زعماؤهم الخيول وجمعوا الجموع، وتستر الوالي ببغداد بلباس ابن أخيه سراويل الفتوّة عن زعيمهم ليدخل في جملتهم، وحتى همّ زعيمهم بنقش اسمه في سكة بانبار فحاول الشحنة والوزير على قتله فقتل، ونسب أمر العيّارين إلى البقش الشحنة لما أحدث من الظلم والعسف فقبض عليه السلطان مسعود وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز، ثم أمر بقتله فقتل. ثم قدم السلطان مسعود في ربيع سنة ثلاث وثلاثين في الشتاء، وكان يشتي بالعراق ويصيّف بالجبال. فلما قدم أزال المكوس وكتب بذلك في الألواح فنصبت في الأسواق وعلى أبواب الجامع ورفع عن العامّة نزول الجند عليهم فكثر الدعاء له والثناء عليه.
وزارة الخليفة
وفي سنة أربع وثلاثين وقع بين المقتفي ووزيره عليّ بن طراد الزينبي وحشة بما كان يعترض على المقتفي في أمره، فخاف واستجار بالسلطان مسعود فأجاره، وشفع إلى(3/634)
المقتفي في إعادته فامتنع وأسقط اسمه من الكتب، واستناب المقتفي ابن عمه قاضي القضاة والزينبي، ثم عزله واستناب شديد الدولة الأنباري. ثم وصل السلطان إلى بغداد سنة ست وثلاثين فوجد الوزير شرف الدين الزينبي في داره فبعث وزيره إلى المقتفي شفيعا في إطلاق سبيله إلى بيته فأذن له انتهى.
الشحنة ببغداد
وفي سنة ست وثلاثين عزل مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، وولّى كزل أمير آخر من مماليك السلطان محمود، فكان على البصرة فأضيف إليه شحنكية بغداد، ولمّا وصل السلطان مسعود إلى بغداد ورأى تبسط العيارين وفسادهم أعاد بهروز شحنة، ولم ينتفع الناس بذلك لأنّ العيارين كانوا يتمسّكون بالجاه من أهل الدول فلا يقدر بهروز على منعهم، وكان ابن الوزير وابن قاروت صهر السلطان يقاسمانهم فيما يأخذون من النهب. واتفق سنة ثمان وثمانين أنّ السلطان أرسل نائب الشحنكية ووبّخه على فساد العيّارين فأخبره بشأن صهره وابن وزيره فأقسم ليصلبنه إن لم يصلبهما فأخذ خاتمه على ذلك، وقبض على صهره ابن قاروت فصلبه وهرب ابن الوزير، وقبض على أكثر العيّارين وافترقوا وكفى الناس شرّهم.
انتقاض الاعياص واستبداد الأمراء على الأمير مسعود وقتله إياهم
وفي سنة أربعين سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، ولقي بوزاة الأمير عبّاس صاحب الريّ وتآمرا في الانتقاض على السلطان مسعود، وملكا كثيرا من بلاده فسار السلطان مسعود عن بغداد، ونزل بها الأمير مهلهل والخادم مطر وجماعة من غلمان بهروز. وسار معه الأمير عبد الرحمن طغرلبك، وكان حاجبه ومتحكما في دولته، وكان هواه مع ذينك الملكين، فسار السلطان وعبد الرحمن حتى تقارب العسكران، فلقي سليمان شاه أخاه مسعودا فحنق عليه، وجرى عبد الرحمن في الصلح بين الفريقين، وأضيفت وظيفة أذربيجان وأرمينية الى ما بيده. وسار أبو الفتح ابن هزارشب وزير السلطان مسعود ومعه وزير بوزابة فاستبدّوا على السلطان وحجروه(3/635)
عن التصرّف فيما يريده، وكان بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك خالصة صاحب خلخال وبعض أذربيجان، فلمّا عظم تحكّمه أسرّ السلطان إلى خاص بك بقتل عبد الرحمن، فدسّ ذلك الى جماعة من الأمراء وقتلوه في موكبه، ضربه بعضهم بمقرعة فسقط إلى الأرض ميتا وبلغ إلى السلطان مسعود ببغداد ومعه عبّاس صاحب الريّ في عسكر أكثر من عسكره فامتعض لذلك فتلطّف له السلطان، واستدعاه إلى داره، فلما انفرد عن غلمانه أمر به فقتل. وكان عبّاس من غلمان السلطان محمود وولي الريّ، وجاهد الباطنية وحسنت آثاره فيهم. وكان مقتله في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين. ثم حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت، وبلغ مقتل عبّاس إلى بوزابة فجمع عساكره من فارس وخوزستان: وسار إلى أصبهان فحاصرها، ثم سار إلى السلطان مسعود والتقيا بمرج قراتكين فقتل بوزابة قيل بسهم أصابه وقيل أخذ أسيرا وقتل صبرا، وانهزمت عساكره إلى همذان وخراسان.
انتقاض الأمراء ثانية على السلطان
ولما قتل السلطان من قتل من أمرائه استخلص الأمير خاص بك وأنفذ كلمته في الدولة، ورفع منزلته فحسده كثير من الأمراء وخافوا غائلته وساروا نحو العراق وهم:
إيلدكز المسعودي صاحب كنجة وأرّانية، وقيصر والبقش كون صاحب أعمال الجبل.
وقتل الحاجب وطرنطاي المحمودي شحنة واسط وابن طغايرك. ولما بلغوا حلوان خاف الناس بأعمال العراق وعني المقتفي بإصلاح السور، وبعث إليهم بالنهي عن القدوم فلم ينتهوا ووصلوا في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، والملك محمد ابن السلطان محمود معهم، ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود جلال الشحنة ببغداد إلى تكريت، ووصل إليهم عليّ بن دبيس صاحب الحلّة، ونزل بالجانب الغربي وجنّد المقتفي أجنادا وقتلوهم مع العامّة فكانوا يستطردون للعامّة والجند حتى يبعدوا. ثم يكرّون عليهم فيثخنوا فيهم. ثم كثر عيثهم ونهبهم. ثم اجتمعوا مقابل التاج وقبّلوا الأرض واعتذروا، وتردّدت الرسل ورحلوا إلى النّهروان. وعاد مسعود جلال الشحنة من تكريت إلى بغداد، وافترق هؤلاء الأمراء وفارقوا العراق، والسلطان مع ذلك مقيم ببلد الجبل. وأرسل عمه سنجر إلى الريّ سنة أربع وأربعين فبادر إليه مسعود وترضّاه(3/636)
فأعتبه وقبل عذره. ثم جاءت سنة أربع وأربعين جماعة أخرى من الأمراء وهم البقش كون والطرنطاي وابن دبيس وملك شاه ابن السلطان محمود فراسلوا المقتفي في الخطبة لملك شاه فلم يجبهم، وجمع العساكر وحصّن بغداد وكاتب السلطان مسعودا بالوصول الى بغداد فشغله عمه سنجر إلى الريّ، ولمّا علم البقش مراسلة المقتفي إلى مسعود نهب النهروان، وقبض على عليّ بن دبيس وهرب الطرنطاي إلى النعمانية، ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوّال، ورحل البقش كون من النهروان وأطلق ابن دبيس.
وزارة المقتفي
وفي سنة أربع وأربعين استوزر المقتفي يحيى بن هبيرة وكان صاحب ديوان الزمام وظهرت منه كفاية في حصار بغداد فاستوزره المقتفي.
وفاة السلطان مسعود وملك ملك شاه ابن أخيه محمود
ثم توفي السلطان مسعود أوّل رجب سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وعشرين سنة من بيعته. وعشرين من عوده بعد منازعة إخوته. وكان خاص بك بن سلمكري [1] متغلّبا على دولته. فبايع لملك شاه ابن أخيه السلطان محمود، وخطب له بالسلطنة في همذان، وكان هذا السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقية عن بغداد. وبعث السلطان ملك شاه الأمير شكار كرد [2] في عسكر إلى الحلّة فدخلها، وسار إليه مسعود جلال [3] الشحنة، وأظهر له الاتفاق. ثم قبض عليه وغرّقه واستبدّ بالحلّة وأظهر المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدولة والدين بن هبيرة فعبر الشحنة إليهم الفرات، وقاتلهم فانهزموا وثار أهل الحلّة بدعوة المقتفي ومنعوا الشحنة من الدخول فعاد إلى تكريت ودخل ابن هبيرة الحلّة وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها، وجاءت عساكر السلطان إلى واسط فغلبوا عليها عسكر المقتفي فتجهّز بنفسه، وانتزعها من أيديهم، وسار منها إلى الحلّة. ثم عاد إلى بغداد في عشر ذي
__________
[1] خاصّ بك بن بلنكري: ابن الأثير ج 11 ص 161.
[2] سلاركرد: ابن الأثير ج 11 ص 162.
[3] مسعود بلال: المرجع السابق.(3/637)
القعدة. ثم إنّ خاص بك المتغلّب على السلطان ملك شاه استوحش وتنكّر وأراد الاستبداد فبعث عن الملك محمد ابن السلطان محمد بخوزستان سنة ثمان وأربعين فبايعه أوّل صفر وأهدى إليه وهو مضمر الفتك، فسبقه السلطان محمد لذلك وقتله ثاني يوم البيعة آيدغدي التركماني المعروف بشملة من أصحاب خاص بك ونهاه عن الدخول إلى السلطان محمد، فلم يقبل. فلما قتل خاص بك نهب شملة عسكره ولحق بخوزستان وكان خاص بك صبيّا من التركمان اتصل بالسلطان مسعود واستخلصه وقدّمه على سائر الأمراء.
حروب المقتفى مع أهل الخلاف وحصار البلاد
ثم بعث المقتفي عساكره لحصار تكريت مع ابن الوزير عون الدين والأمير ترشك من خواصه وغيرهما، ووقع بينه وبين ابن الوزير منافرة خشي لها ترشك على نفسه فصالح الشحنة صاحب تكريت، وقبض على ابن الوزير والأمراء، وحبسهم صاحب تكريت وغرق كثير منهم، وسار ترشك والشحنة إلى طريق خراسان فعاثوا فيها وخرج المقتفي في اتباعهم فهربا بين يديه، ووصل تكريت وحاصرها أياما. ثم رجع إلى بغداد وبعث سنة تسع وأربعين بتكريت في ابن الوزير وغيره من المأسورين، فقبض على الرسول فبعث إليهم عسكرا فامتنعوا عليه، فسار المقتفي بنفسه في صفر من سنته وملك تكريت، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها، ورجع في ربيع. ثم بعث الوزير عون الدين في العساكر لحصارها واستكثر من الآلات وضيق عليها. ثم بلغه الخبر بأنّ شحنة مسعود وترشك وصلا في العساكر ومعهم الأمير البقش كون وأنهما استحثّا الملك محمدا لقصد العراق، فلم يتهيأ له فبعث هذا العسكر معهم، وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان، فسار المقتفي للقائهم، وبعث الشحنة مسعود عن أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسا بتكريت فأحضره عنده ليقاتل به المقتفي، والتقوا عند عقر بابل فتنازلوا ثمانية عشر يوما، ثم تناجزوا آخر رجب فانهزمت ميمنة المقتفي إلى بغداد، ونهبت خزائنه وثبت هو واشتد القتال وانهزمت عساكر العجم وظفر المقتفي بهم، وغنم أموال التركمان وسبى نساءهم وأولادهم. ولحق البقش كون ببلد المحلو وقلعة المهاكين وأرسلان بن طغرل، ورجع المقتفي إلى بغداد أوّل شعبان.
وقصد مسعود الشحنة وترشك بلد واسط للعيث فيها، فبعث المقتفي الوزير ابن هبيرة(3/638)
في العساكر فهزمهم. ثم عاد فلقيه المقتفي سلطان العراق وأرسلان بن طغرل، وبعث إليه السلطان محمد في إحضاره عنده. ومات البقش في رمضان من سنته وبقي أرسلان مع ابن البقش، وحسن الخازندار فحملاه إلى الجبل ثم سارا به إلى الركن زوج أمّه، وهو أبو البهلوان وأرسلان وطغرل الّذي قتله خوارزم شاه، وكان آخر السلجوقيّة ثلاثتهم إخوة لأمّ. ثم سار المقتفي سنة خمسين إلى دقوقا فحاصرها أياما، ثم رجع عنها لأنه بلغه أنّ عسكر الموصل تجهّز لمدافعته عنها فرحل.
استيلاء شمله على خوزستان
قد ذكرنا من قبل شأن شملة وأنه من التركمان واسمه آيدغدي وأنه كان من أصحاب خاصّ بك التركماني، وهرب يوم قتل السلطان محمد صاحبه خاص بك بعد أن حذّره منه فلم يقبل، ونجا من الواقعة فجمع جموعا وسار يريد خوزستان وصاحبها يومئذ ملك شاه ابن السلطان محمود بن محمد. وبعث المقتفي عساكره لذلك فلقيهم شملة في رجب وهزمهم وأسر وجوههم. ثم أطلقهم وبعث إلى الخليفة يعتذر فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها من يد ملك شاه ابن السلطان محمود.
إشارة إلى بعض أخبار السلطان سنجر بخوزستان ومبدإ دولة بني خوارزم شاه
كان السلطان سنجر من ولد السلطان ملك شاه لصلبه، ولما استولى بركيارق بن ملك شاه على خوزستان سنة تسعين وأربعمائة من يد عمه أرسلان أرغون، كما نذكر في أخبارهم عند تفردها مستوفى، ولّى عليها أخاه سنجر، وولّى على خوارزم محمد بن أنوش تكين من قبل الأمير داود حبشي بن أليوساق. ثم لما ظهر السلطان محمد ونازع بركيارق وتعاقبا في الملك، وكان سنجر شقيقا لمحمد فولّاه على خراسان، ولم يزل عليها. ولما اختلف أولاد محمد من بعده كان عقيد أمرهم وصاحب شوراهم إذا خلّف له ببغداد مقدّما اسمه على اسم سلطان العراق منهم سنة [1] ثم خرجت أمم الخطا من الترك من مفازة الصين وملكوا ما وراء النهر من يد الجابية ملوك تركستان سنة ست وثلاثين كما نذكر في أخبارهم. وسار سنجر لمدافعتهم فهزموه فوهن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 548 يذكر ابن الأثير أخبار سنجر سنة 513.(3/639)
لذلك فاستبدّ عليه خوارزم شاه بعض الشيء. وكان الخلفاء لما ملكوا بلاد تركستان أزعجوا الغز عنها إلى خراسان وهم بقية السلجوقية هناك. وأجاز السلجوقية لأول دولتهم إلى خراسان فملكوها، وبقي هؤلاء الغز بنواحي تركستان فأجازوا أمام الخطا إلى خراسان، وأقاموا السلطان بها حتى عتوا ونموا. ثم كثر عيثهم وفسادهم وسار إليهم السلطان سنجر سنة ثمان وأربعين فهزموه واستولوا عليه وأسروه، وملكوا بلاد خراسان وافترق أمراؤه على النواحي. ثم ملكوه وهو أسير في أيديهم ذريعة لنهب البلاد واستولوا به على كثير منها، وهرب من أيديهم سنة إحدى وخمسين ولم يقدر على مدافعتهم. ثم توفي سنة اثنتين وخمسين وافترقت بلاد خراسان على أمرائه كما يذكر في أخبارهم. ثم تغلب بنو خوارزم شاه عليها كلها وعلى أصبهان والريّ من ورائها وعلى أعمال غزنة من يد بني سبكتكين وشاركهم فيها النور [1] بعض الشيعة وقام بنو خوارزم شاه مقام السلجوقية إلى أن انقرضت دولتهم على يد جنكزخان ملك التتر من أمم الترك في أوائل المائة السابعة كما يذكر ذلك كله في أخبار كل منهم عند ما نفردها بالذكر إن شاء الله تعالى.
الخطبة ببغداد لسليمان شاه ابن السلطان محمد وحروبه مع السلطان محمد بن محمود
كان سليمان بن محمد عند عمّه سنجر بخراسان منذ أعوام وقد جعله ولي عهده، وخطب له بخراسان فلما غلب الغزّ على سنجر وأسروه تقدّم سليمان شاه على العساكر، ثم غلبتهم الغز فلحق بخوارزم شاه فصاهره أوّلا بابنة أخيه، ثم تنكّر فسار إلى أصبهان فمنعه شحنتها من الدخول فسار إلى قاشان، فبعث إليه السلطان محمد شاه بن محمود فقصد اللحف، ونزل على السيد محسن، وبعث إلى المقتفي ليستأذنه في القدوم، وبعث زوجته وولده رهنا على الطاعة والمناصحة فأذن له، وقدم في خفّ من العساكر ثلاثمائة أو نحوها، وأخرج الوزير عون الدين بن هبيرة ولده لتلقّيه ومعه قاضي القضاة والنقباء، ودخل وعلى رأسه الشمسية، وخلع عليه. ولما كان المحرّم من سنة إحدى وخمسين حضر عند المقتفي بمحضر قاضي القضاة وأعيان العبّاسيين
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 222: العسكر الفوري، واما قوله بعض الشيعة فهم الإسماعيلية وقد أورد ذكرهم ابن الأثير في حوادث 553.(3/640)
واستحلفه على الطاعة، وأن لا يتعرّض للعراق. ثم خطب له ببغداد وبلقب أبيه السلطان محمد، وبعث عسكرا نحو ثلاثة آلاف واستقدم داود صاحب الحلّة فجعل له أمر الحجابة، وسار نحو الجبل في ربيع. وسار المقتفي إلى حلوان وسار إلى ملك شاه بن محمود أخي سليمان صاحب خوزستان فاستحلفه لسليمان شاه وجعله وليّ عهده، وأمدّهما بالمال والأسلحة، وساروا إلى همذان وأصبهان، وجاءهم المذكر صاحب بلاد أرّان فكثر جمعهم وبلغ خبرهم السلطان محمد بن محمود فبعث إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل، ونائبة زين الدين ليستنجدهما فأجاباه، وسار للقاء سليمان شاه وأصحابه فالتقوا في جمادى، وانهزم سليمان شاه وافترقت عساكره.
وسار المذكر إلى بلاده، وسار سليمان شاه إلى بغداد وسلك على شهرزور فاعترضه زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين بالموصل، وكان مقطع شهرزور الأمير بران من جهة زين الدين فاعترضاه وأخذاه أسيرا، وحمل زين الدين إلى الموصل فحبسه بقلعتها، وبعث إلى السلطان محمد بالخبر.
حصار السلطان محمد بغداد
كان السلطان محمد قد بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد فامتنع من إجابته، ثم بايع لعمّه سليمان وخطب له وكان ما قدّمناه من أمره معه. ثم سار السلطان محمد بن همذان في العساكر نحو العراق، فقدم في ذي الحجّة سنة إحدى وخمسين، وجاءته عساكر الموصل مددا من قبل قطب الدين ونائبة زين الدين، واضطربت الناس ببغداد، وأرسل المقتفي عن فضلوبواش [1] صاحب واسط فجاء عسكره. وملك مهلهل الحلّة فاهتمّ ابن هبيرة بأمر الحصار وجمع السفن تحت الناحي [2] ، وقطع الجسر، وأجفل الناس من الجانب الغربي، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة، وفرّق المقتفي السلاح في الجند والعامّة، ومكثوا أياما يقتتلون، ومدّ السلطان جسرا على دجلة فعبر على الجانب الشرقي حتى كان القتال في الجانبين. ونفدت الأقوات في العسكر واشتدّ القتال والحصار على أهل بغداد لانقطاع الميرة والظهر [3] من عسكر الموصل لأنّ نور
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 212: «واضطرب الناس ببغداد وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش صاحب البصرة، وأخذ واسط ... »
[2] تحت التاج: المرجع السابق ص 213.
[3] الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال.(3/641)
الدين محمود بن زنكي وهو أخو قطب الدين الأكبر بعث إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة. ثم بلغ السلطان محمدا أنّ أخاه ملك شاه والمذكر صاحب بلاد أرّان، وأرسلان ابن الملك طغرل بن محمد ساروا إلى همذان وملكوها فارتحل عن بغداد في آخر ربيع سنة اثنتين وخمسين. وسار إلى همذان وعاد زين الدين كوجك إلى الموصل. ولما قصد السلطان محمد همذان صار ملك شاه والمذكر [1] ومن معهما إلى الريّ فقاتلهم شحنتها آبنايخ [2] وهزموه، وأمدّه السلطان محمد بالأمير سقمان بن قيمار [3] فسار لذلك ولقيهما منصرفين عن الريّ قاصدين بغداد فقاتلهما، وانهزم أمامهما فسار السلطان في أثرهما إلى خوزستان، فلما انتهى إلى حلوان جاءه الخبر بأنّ المذكر بالدّينور وبعث إليه آبنايخ بأنه استولى على همذان وأعاد خطبته فيها، فافترقت جموع ملك شاه والمذكر وفارقهم شملة صاحب خوزستان، فعادوا هاربين إلى بلادهم وعاد السلطان محمد إلى همذان.
حروب المقتفي مع أهل النواحي
كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف، وكان في هذه الفتنة قد نهب سواد بغداد وطريق خراسان، فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث وخمسين وضمن له الأمير خلطوا برأس [4] إصلاحه، فسار إليه خاله على أن يشرك المقتفي معه في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعها لهما جميعا ورجع ثم عاد سنقر على أزغش وأخرجه، وانفرد ببلده وخطب للسلطان محمد فسار إليه خلطوا برأس من بغداد في العساكر وهزمه، وملك اللحف وسار سنقر إلى قلعة الماهكي للأمير قايماز العميدي ونزلها في أربعمائة ألف فارس. ثم سار إليه سنقر سنة أربع وخمسين فهزمه ورجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى النعمانية وبعث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال ونهب ترشك مخلفه وحاصر قلعة الماهكي، ثم عاد إلى البندنجين وبعث بالخبر إلى بغداد. ولحق سنقر بملك شاه فأمدّه بخمسمائة فارس وبعث ترشك إلى المقتفي في المدد فأمدّه، وبعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله، وسار إليه فهزمه
__________
[1] ايلدكز: ابن الأثير ج 11 ص 215.
[2] اينانج: المرجع السابق.
[3] سقمس بن قيماز الحراميّ: المرجع السابق.
[4] خطلبرس: (وقد مرّ معنا من قبل) ابن الأثير ج 11 ص 229.(3/642)
واستباح عسكره ونجا سنقر جريحا إلى بلاد العجم فأقام بها. ثم جاء بها سنة أربع وخمسين إلى بغداد، وألقى نفسه تحت التاج فرضي عنه المقتفي. وأذن له في دخول دار الخلافة. ثم زحف إلى قايماز السلطان في ناحية بادرايا سنة ثلاث وخمسين فهزمه وقتله وبعث المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه.
وفاة السلطان محمد بن محمود وملك عمه سليمان شاه ثم ارسلان بن طغرل
ثم إنّ السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لما رجع عن حصار بغداد أصابه مرض السل وطال به، وتوفي بهمذان في ذي الحجّة سنة أربع وخمسين لسبع سنين ونصف من ملكه، وكان له والد فيئس من طاعة الناس له، ودفعه لآقسنقر الأحمديلي وأوصاه عليه فرحل به إلى مراغة. ولما مات السلطان محمد اختلف الأمر فيمن يولّونه، ومال الأكثر إلى سليمان شاه عمّه، وطائفة إلى ملك شاه أخيه، وطائفة إلى أرسلان بن السلطان طغرل الّذي مع الدكز ببلاد أرّان. وبادر ملك شاه أخوه فسار من خوزستان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس، ورحل إلى أصبهان فأطاعه ابن الخجنديّ، وأنفق عليه الأموال وبعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه، وأرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس عنده ليولّوه عليهم، وذلك أوّل سنة خمس وخمسين فأطلقه على أن يكون أتابكا له وجمال الدين وزيره وزيرا وجهّزه بجهاز السلطنة وبعث معه نائبة زين الدين عليّ كوجك في عسكر الموصل. فلما قاربوا بلاد الجبل وأقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمان فارتاب كوجك لذلك، وعاد إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان، ودخل همذان وبايعوا له وخطب له ببغداد. وكثرت جموع ملك شاه بأصبهان وبعث إلى بغداد في الخطبة، وأن يقطع خطبة عمّه ويراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمّته، فمات سنة خمس وخمسين، فأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه.
وعاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلّب عليه منها. واستقرّ سليمان شاه بتلك البلاد، وشغل باللهو والسكر ومنادمة الصفّاعين، وفوض الأمور إلى شرف الدين دوا داره من مشايخ السلجوقيّة، كان ذا دين وعقل وحسن تربية، فشكا(3/643)
الأمراء إليه فدخل عليه وعذله وهو سكران فأمر الصفّاعين بالردّ عليه، وخرج مغضبا. وصحا سليمان فاستدرك أمره بالاعتذار فأظهر القبول، واجتنب الحضور عنده وبعث سليمان إلى ابنايخ صاحب الريّ يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق ونمي الخبر إلى كربازة الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء وقبض عليه وعلى وزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوّال من سنة ست وخمسين فقتل وزيره وخواصّه وحبسه أياما. وخرج ابنايخ صاحب الريّ ونهب البلاد وحاصر همذان وبعث كردباز إلى إلدكز يستدعيه ليبايع لربيبه أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس، ودخل همذان وخطب لربيبه أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة وجعل إلدكز أتابكا له، وأخاه من أمه البهلول بن إلدكز حاجبا. وبعث إلى المقتفي في الخطبة، وأن تعاد الأمور إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطرد رسوله وعاد إليه على أقبح حالة. وبعث إلى ابنايخ صاحب الريّ فحالفه على الاتفاق، وصاهره في ابنته على البهلول وجاءت اليه بهمذان وكان إلدكز من مماليك السلطان مسعود، وأقطعه أرّان وبعض أذربيجان ولم يحضر شيئا من الفتنة، وتزوّج أم أرسلان شاه وزوّجه طغرل فولدت له محمدا البهلوان، وعثمان كزل أرسلان [1] . ثم بعث إلدكز إلى آقسنقر الأحمديليّ صاحب مراغة في الطاعة لأرسلان شاه ربيبه، فامتنع وهدّدهم بالبيعة للطفل الّذي عنده محمود بن ملك شاه. وقد كان الوزير ابن هبيرة أطمعه في الخطبة لذلك الطفل فيما بينهم، فجهز إلدكز العساكر مع ابنه البهلوان وسار إلى مراغة، واستمد آقسنقر ساهرمز صاحب خلاط فأمدّه بالعساكر، والتقى آقسنقر والبهلوان فانهزم البهلوان وعاد إلى همذان.
وعاد آقسنقر إلى مراغة ظافرا. وكان ملك شاه بن محمود لما مات بأصبهان مسموما كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس، ومعه ابنه محمود، فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلغري بقلعة إصطخر، ولما بعث إلدكز إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان وشرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة في التصريف بينهم بعث ابن دكلا وأطمعه في الخطبة لمحمود بن ملك شاه الّذي عنده إن ظفر بإلدكز فأطلقه ابن دكلا وبايع له، وضرب الطبل على بابه خمس نوب.
وبعث إلى ابنايخ [2] صاحب الريّ فوافقه وسار إليه في عشرة آلاف، وبعث إليه
__________
[1] البهلوان محمد وقزل أرسلان عثمان: ابن الأثير ج 11 ص 268.
[2] إينانج: المرجع السابق ص 269.(3/644)
آقسنقر الأحديليّ، وجمع إلدكز العساكر، وسار إلى أصبهان يريد بلاد فارس، وبعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في الطاعة لربيبه أرسلان فأبى، وقال: إنّ المقتفي أقطعني بلاده وأنا سائر إليه. واستمد المقتفي وابن هبيرة فواعدوه وكاتبوا الأمراء الذين مع إلدكز بالتوبيخ على طاعته والانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس، وابنايخ صاحب الريّ، وبدأ إلدكز بقصد ابنايخ. ثم بلغه أنّ زنكي بن دكلا نهب سميرم ونواحيها، فبعث عسكرا نحوا من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم زنكي فهزمهم، فبعث إلدكز إلى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل أرسلان.
وبعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ ولم يحضر بنفسه خوفا على بلاد شملة صاحب خوزستان. ثم التقى إلدكز وابنايخ في شعبان سنة ست وخمسين فانهزم ابنايخ واستبيح عسكره وحاصره إلدكز ثم صالحه ورجع إلى همذان.
وفاة المقتفي وخلافة المستنجد وهو أوّل الخلفاء المستبدّين على أمرهم من بني العبّاس عند تراجع الدولة وضيق نطاقها ما بين الموصل وواسط والبصرة وحلوان
ثم توفي المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته، وهو أول من استبدّ بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أوّل أيام الديلم، فحكم على عسكره وأصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبداد الملوك في الأعمال والنواحي. ولما اشتدّ مرضه تطاول كل من أم ولده إلى ولاية ابنها. وكانت أم المستنجد تخاف عليه، وأمّ أخيه عليّ تروم ولاية ابنها، واعتزمت على قتل المستنجد واستدعته لزيارة أبيه وقد جمعت جواريها وآتت كل واحدة منهنّ سكينا لقتله وأمسكت هي وابنها سيفين، وبلغ الخبر إلى يوسف المستنجد فأحضر أستاذ دار أبيه، وجماعة من الفرّاشين وأفرغ السلاح ودخل معهم الدار، وثار به الجواري فضرب إحداهنّ وأمكنها فهربوا وقبض على أخيه عليّ وأمّه فحبسهما وقسم الجواري بين القتل والتغريق حتى إذا توفي المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه وأوّلهم عمّه أبو طالب، ثم الوزير عون الدين بن هبيرة وقاضي(3/645)
القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له. وأقر ابن هبيرة على الوزارة وأصحاب الولايات على ولايتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقرّب رئيس الرؤساء، وكان أستاذ دار فرفع منزلته عبد الواحد المقتفي، وبعث عن الأمير ترشك سنة ست وخمسين من بلد اللحف وكان مقتطعا بها فاستدعاه لقتال جمع من التركمان أفسدوا في نواحي البندنيجين فامتنع من المجيء وقال: يأتيني العسكر وأنا أقاتل بهم، فبعث إليه المستنجد العساكر مع جماعة من الأمراء فقتلوه وبعثوا برأسه إلى بغداد. ثم استولى بعد ذلك على قلعة الماهكي من يد مولى سنقر الهمذانيّ ولّاه عليها سنقر وضعف عن مقاومة التركمان والأكراد حولها فاستنزله المستنجد عنها بخمسة عشر ألف دينار، وأقام ببغداد. وكانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي التركمان والأكراد.
فتنة خفاجة
اجتمعت خفاجة سنة ست وخمسين إلى الحلّة والكوفة وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر، وكان مقطع الكوفة أرغش وشحنة الحلّة قيصر، وهما من مماليك المستنجد فمنعوهما، فعاثوا في تلك البلاد والنواحي فخرجوا إليهم في أثرهم، واتّبعوهم إلى الرحبة، فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش ولا قيصر، فقاتلوهم فانهزمت العساكر، وقتل قيصر وخرج أرغش ودخل الرحبة، فاستأمن له شحنتها وبعثوه إلى بغداد.
ومات أكثر الناس عطشا في البرّية وتجهّز عون الدين بن هبيرة في العساكر لطلب خفاجة فدخلوا البرية ورجع، وانتهت خفاجة إلى البصرة وبعثوا بالعدوّ وسألوا الصلح فأجيبوا.
إجلاء بني أسد من العراق
كان في نفس المستنجد باللَّه من بني أسد أهل الحلّة لفسادهم ومساعدتهم السلطان محمد في الحصار، فأمر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح، فجمع العساكر وأرسل إلى ابن معروف فقدّم السفن، وهو بأرض البصرة فجاءه في جموع وحاصرهم وطاولهم، فبعث المستنجد يعاتبه ويتّهمه بالتشيّع، فجهّز هو وابن معروف في قتالهم، وسدّ مسالكهم في الماء فاستسلموا، وقتل منهم أربعة آلاف ونودي عليهم بالملا من الحلّة فتفرّقوا في البلاد، ولم يبق بالعراق منهم أحد وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.(3/646)
الفتنة بواسط وما جرت إليه
كان مقطع البصرة منكبرس من موالي المستنجد، وقتله سنة تسع وخمسين، وولّى مكانه كمستكين، وكان ابن سنكاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان، فانتهز الفرصة في البصرة ونهب قراها، وأمر كمستكين بقتاله فعجز عن إقامة العسكر وأصعد ابن سنكاه إلى واسط ونهب سوادها وكان مقطعها خلطوا برس [1] فجمع الجموع وخرج لقتاله، واستمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه فخذلوه، وانهزم وقتله ابن سنكاه سنة إحدى وستين ثم قصد البصرة سنة اثنتين وستين ونهب جهتها الشرقية وخرج إليه كمستكين وواقعه، وسار ابن سنكاه إلى واسط وخافه الناس ولم يصل إليها.
مسير شملة الى العراق
سار شملة صاحب خوزستان إلى العراق سنة اثنتين وستين وانتهى إلى قلعة الماهكيّ وطلب من المستنجد إقطاع البلاد، واشتط في الطلب فبعث المستنجد العساكر لمنعه، وكتب إليه يحذّره عاقبة الخلاف فاعتذر بأنّ إلدكز وربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الّذي عنده، وهو ابن ملك شاه بلاده البصرة وواسط والحلّة، وعرض التوقيع بذلك، وقال أنا أقنع بالثلث منه فأمر المستنجد حينئذ بلعنه، وأنه من الخوارج، وتعبّت العساكر إلى أرغمش المسترشدي بالنعمانيّة والى شرف الدين أبي جعفر البلدي ناظر واسط ليجتمعا على قتال شملة، وكان شملة أرسل مليح ابن أخيه في عسكر لقتال بعض الأكراد فركب إليه أرغمش وأسره وبعض أصحابه، وبعث إلى بغداد، وطلب شملة الصلح فلم يجب إليه. ثم مات أرغمش من سقطة سقطها عن فرسه وبقي العسكر مقيما ورجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره.
وفاة الوزير يحيى
ثم توفي الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن المظفّر بن هبيرة سنة ستين وخمسمائة في جمادى الأولى، وقبض المستنجد على أولاده وأهله وأقامت الوزارة بالنيابة. ثم استوزر المستنجد سنة ثلاث وستين شرف الدين، أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد
__________
[1] هو خطلبرس وقد مرّ ذكره معنا من قبل.(3/647)
المعروف بابن البلديّ ناظر واسط وكان عضد الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكّم في الدولة فأمره المستنجد بكفّ يده وأيدي أصحابه، وطالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره، فخافه العمّال وأهل الدولة وحصّل بذلك أموالا جمّة.
وفاة المستنجد وخلافة المستضيء
كان الخليفة المستنجد قد غلب على دولته استاذ دار عضد الدين ابو الفرج ابن رئيس الرؤساء، وكان أكبر الأمراء ببغداد، وكان يرادفه قطب الدين قايماز المظفري [1] ولما ولّى المستنجد أبا جعفر البلدي على وزارته غضّ من استاذ دار وعارضه في أحكامه فاستحكمت بينهما العداوة، وتنكّر المستنجد لأستاذ دار وصاحبه قطب الدين، فكانا يتّهمان بأنّ ذلك بسعاية الوزير. ومرض المستنجد سنة ست وستين وخمسمائة واشتدّ مرضه فتحيّلا في إهلاكه، يقال إنّهما واضعا [2] عليه الطبيب، وعلم أنّ هلاكه في الحمام فأشار عليه بدخوله فدخله، وأغلقوا عليه بابه فمات. وقيل كتب المستنجد إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على أستاذ دار وقايماز وقتلهما، وأطلعهما الوزير على كتابه فاستدعيا يزدن وأخاه يتماش [3] وفاوضاهما وعرضا عليهما كتابه، واتفقوا على قتله فحملوه إلى الحمّام وأغلقوا عليه الباب وهو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست وستين لإحدى عشرة سنة من خلافته. ولما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء والأجناد متسلّحين، وغشيتهم العامّة واحتفت بهم، وبعث إليه أستاذ دار بأنه إنما كان غشيا عرضا، وقد أفاق أمير المؤمنين وخفّ ما به، فخشي الوزير من دخول الجند إلى دار الخلافة، فعاد إلى داره وافترق الناس. فعند ذلك أغلق أستاذ دار وقايماز أبواب الدار وأحضرا ابن المستنجد أبا محمد الحسن وبايعاه بالخلافة ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه أن يكون عضد الدين وزيرا وابنه كمال الدين أستاذ دار وقطب الدين قايماز أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة. ثم توفي المستنجد وبايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامّة، وأظهر
__________
[1] قطب الدين قايماز المقتفوي: ابن الأثير ج 11 ص 360.
[2] واضعه في الأمير: وافقه فيه، تقول: «هلم أواضعك الرأي» اي أطلعك على رأيي وتطلعني على رأيك. وفي الكامل ج 11 ص 360 «ووضعا الطبيب» .
[3] تنامش: المرجع السابق.(3/648)
العدل وبذل الأموال وسقط في يد الوزير وندم ما فرّط، واستدعي للبيعة، فلما دخل قتلوه وقبض المستضيء على القاضي ابن مزاحم وكان ظلوما جائرا واستصفاه وردّ الظلامات منه على أربابها، وولّى أبا بكر بن نصر بن العطّار صاحب المخزن ولقّبه ظهير الدين.
انقراض الدولة العلوية بمصر وعود الدعوة العبّاسية إليها
ولأوّل خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلويّة بمصر، والخطبة بها للمستضيء من بني العبّاس في شهر المحرّم فاتح سنة سبع وستين وخمسمائة قبل عاشوراء، وكان آخر الخلفاء العبيديّين بها العاضد لدين الله من أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد، وخافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم، وكان مغلبا لوزارته. واستولى شاور منهم وثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن شوار من أهل الدولة من الإسكندرية. وفرّ شاور إلى الشام مستنجدا بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من آقسنقر، وكان من مماليك السلجوقية وأمرائهم المقيمين للدعوة العبّاسية. وكان صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن [1] الكردي هو وأبوه نجم الدين أيوب وعمّه أسد الدين شيركوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام، فلما جاء شاور مستنجدا بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبيّة وكبيرهم أسد فأعاده إلى وزارته، وقتل الضرغام، ولم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام في نجدته. وكان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر والشام وزاحموا ما يليها من الأعمال، وضيّقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس وأيلة عند العقبة. واستولوا على الدولة العلويّة في الضرائب والطلبات وأصبحوا مأوى لمن ينحني عن الدولة. وداخلهم شاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد وبعث عزّ الدين مستصرخا به على الفرنج في ظاهر أمره، ويسرحون في ارتعاء [2] من إبادة شاور والتمكّن منه فوصل لذلك، وولّاه العاضد وزارته وقلّده ما وراء بابه، فقتل الوزير شاور وحسم داءه وكان مهلكه قريبا من وزارته يقال لسنة ويقال لخمسين يوما فاستوزر العاضد مكانه صلاح الدين ابن أخيه
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وهو صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي ابن الأثير ج 11 ص 368.
[2] العبارة غير واضحة ولم نهتد الى تصويبها في المراجع التي بين أيدينا.(3/649)
نجم الدين فقام بالأمر وأخذ في إصلاح الأحوال وهو يعدّ نفسه وعمّه من قبله نائبا عن نور الدين محمود بن زنكي الّذي بعثه وعمّه للقيام بذلك. ولما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين ضعف أمر العاضد وتحكّم صلاح الدين في أموره وأقام خادمه قراقوش للولاية عليه في قصره والتحكّم عليه، فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد ويخطب للمستضيء ففعل ذلك على توقّع النكير من أهل مصر. فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط وانمحت آثار الدولة العلويّة، وتمكنت الدولة العبّاسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب بمصر ثم ملكوا من بعدها أعمال نور الدين بالشام واستضافوا اليمن وطرابلس الغرب واتسع ملكهم كما يذكر في أخبارهم. ولما خطب للمستضيء بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشرا بذلك فضربت البشائر ببغداد، وبعث بالخلع إلى نور الدين وصلاح الدين مع عماد الدين صندل من خوّاص المقتفوية، وهو أستاذ دار المستضيء فجاء إلى نور الدين بدمشق، وبعث الخلع إلى صلاح الدين وللخطباء بمصر وبإسلام السواد.
واستقرّت الدعوة العبّاسية بمصر إلى هذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده يطلب التقليد لما بيده من الأعمال، وهي مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما هو في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم التي لقليج أرسلان وأن يقطع صريعين ودرب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه، فأكرمه الرسول وزاد في الإحسان إليه وكتب له بذلك.
خبر يزدن من أمراء المستضيء
كان يزدن قد ولّاه المستضيء الحلّة فكانت في أعماله، وكانت حمايتها لخفاجة وبني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم، وأمرهم الغضبان فغضب بنو حزن وأغاروا عليهم على السواد، وخرج يزدن في العسكر لقتالهم، ومعه الغضبان وعشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات، فعادت العساكر إلى بغداد، وأعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن. ثم مات يزدن سنة ثمان وستين، وكانت واسط من أقطاعه فاقتطعت لأخيه أيتامش ولقّب علاء الدين.(3/650)
مقتل سنكاه بن أحمد أخي شملة
قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا وعمّه شملة صاحب خوزستان. ثم جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكيّ فبنى بإزائها قلعة ليتمكّن بها من تلك الأعمال، فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم واشتدّ قتاله. ثم انهزم وقتل وعلّق رأسه ببغداد وهدمت القلعة.
وفاة قايماز وهربه
قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز وأنه الّذي بايع للمستضيء وجعله أمير العسكر وجعله عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيرا. ثم استفحل أمر قايماز وغلب على الدولة وحمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج من الوزارة، فلم يمكّنه مخالفته، وعزله سنة سبع وستين فأقام معزولا. وأراد الخليفة سنة تسع وتسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من ذلك، وركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد، وبعث إلى قايماز ولاطفه بالرجوع فيما هم به من وزارة عضد الدين فقال: لا بدّ من إخراجه من بغداد! فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل فأجاره، واستطال قايماز على الدولة وأصهر على علاء الدين يتامش في أخته فزوّجها منه وحملوا الدولة جميعا. ثم سخط قايماز ظهير الدين ابن العطّار صاحب المخزن وكان خاصّا بالخليفة، وطلبه فهرب فأحرق داره.
وجمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة وأن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا منها ابن العطّار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدّامه يستغيثون، ونادى ليخرجوا منها ابن العطّار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدّامه يستغيثون، ونادى في العامّة بطلب قايماز ونهب داره فهرب من ظهر بيته، ونهبت داره وأخذ منها ما لا يحصى من الأموال واقتتل العامّة على [1] ولحق قايماز بالحلّة وتبعه الأمراء، وبعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عبد الرحيم ليسير عن الحلّة إلى الموصل تخوّفا من عوده إلى بغداد فيعود استيلاؤه لمحبّة العامة فيه، وطاعتهم له، فسار إلى الموصل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 434: «فقصد الخلق كلّهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامّة، فهرب من داره من باب فتحه في ظهرها لكثرة الخلق على بابها، وخرج من بغداد ونهبت داره.»(3/651)
وأصابه ومن معه في الطريق عطش فهلك الكثير منهم، وذلك في ذي الحجة من سنة سبعين. وأقام صهره علاء الدين يتامش بالموصل. ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم وأقام بها عاطلا بغير إقطاع، وهو الّذي حمل قايماز على ما كان منه، وولّى الخليفة أستاذ داره سنجر المقتفوي، ثم عزله سنة إحدى وسبعين وولّى مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي ابن الصاحب.
فتنة صاحب خوزستان
قد ذكرنا أنّ ملك شاه بن محمود ابن السلطان محمد استقرّ بخوزستان وذكرنا فتنة شملة مع الخلفاء. ثم مات شملة سنة سبعين وملك ابنه مكانه. ثم مات ملك شاه ابن محمود وبقي ابنه بخوزستان فجاء سنة اثنتين وسبعين إلى العراق، وخرج إلى البندنجين، وعاث في الناس وخرج الوزير عضد الدين أبو الفرج في العساكر ووصل عسكر الحلّة وواسط مع طاش تكين أمير الحاج وغز علي، وساروا للقاء العدوّ وكان معه جموع من التركمان فأجفلوا ونهبتهم عساكر بغداد. ثم ردّهم الملك ابن ملك شاه وأوقعوا بالعسكر أياما ثم مضى الملك إلى مكانه وعادت العساكر إلى بغداد.
مقتل الوزير
قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفّر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، كان أبوه أستاذ دار المقتفي. ولما مات ولي ابنه مكانه. ولما مات المقتفي أقرّه المستنجد ورفع قدره، ثم استوزره المستضيء وكان بينه وبين قايماز ما قدّمناه، وأعاده المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث وسبعين استأذن المستضيء في الحجّ فأذن له وعبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب المناصب، واعترضه متظلّم ينادي بظلامته، ثم طعنه فسقط وجاء ابن المعوز صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر وحملا إلى بيتهما فماتا. وولي الوزير ظهير الدين أبو منصور بن نصر ويعرف بابن العطّار فاستولى على الدولة وتحكّم فيها.
وفاة المستضيء وخلافة الناصر
ثم توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين لتسع سنين ونصف من خلافته، وقام ظهير الدين العطّار في البيعة(3/652)
لابنه أبي العبّاس أحمد ولقّبه الناصر الدين الله فقام بخلافته، وقبض على ظهير الدين بن العطّار وحبسه واستصفاه. ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتا وفطن به العامّة. فتناوله العامّة وبعثوا به، وتحكّم في الدولة أستاذ دار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وكان تولّى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطّار، وبعث الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة. وسار صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان صاحب همذان وأصبهان والريّ فامتنع من البيعة فأغلظ له صدر الدين في القول. وحرّض أصحابه على نقض طاعته إن لم يبايع! فاضطرّ إلى البيعة والخطبة. ثم قبض سنة ثلاث وثمانين على أستاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب وقتله من أجل تحكّمه، وأخذ له أموالا عظيمة. وكان الساعي فيه عند الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه وصنائعه، فلم يزل يسعى فيه عند الناصر حتى أمر بقتله، واستوزر ابن يونس هذا ولقبه جلال الدين وكنيته أبو المظفر ومشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة.
هدم دار السلطنة ببغداد وانقراض ملوك السلجوقية
قد ذكرنا فيما تقدّم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب الدكز، واستيلاء إلدكز عليه وحروبه مع ابنايخ صاحب الريّ. ثم قتله سنة أربع وستين واستولى على الريّ. ثم توفي إلدكز الأتابك بهمذان سنة ثمان وستين، وقام مكانه ابنه محمد البهلوان، وبقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل في كفالته. ثم مات سنة ثلاث وستين ونصّب البهلوان مكانه ابنه طغرل. ثم توفي البهلوان سنة اثنتين وثمانين وفي مملكته همذان والريّ وأصبهان وأذربيجان وأرّانيه وغيرها، وفي كفالته السلطان طغرل بن أرسلان. ولما مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان ويسمّى عثمان، فاستبدّ طغرل وخرج عن الكفالة ولحق به جماعة من الأمراء والجند، واستولى على بعض البلاد ووقعت بينه وبين كزل حروب. ثم قوي أمر طغرل وكثر جمعه وبعث كزل إلى الناصر يحذره من طغرل ويستنجده ويبذل الطاعة على ما يختاره المستضيء رسوله، فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنها. وكانت ولايتهم ببغداد والعراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل ووعده بالنجدة، وانصرف رسول طغرل بغير حراب وأمر الناصر بهدم دار السلطنة ببغداد فمحى أثرها. ثم بعث الناصر وزيره جلال الدين أبا المظفّر عبيد الله بن(3/653)
يونس في العساكر لإنجاد كزل ومدافعة طغرل عن البلاد، فسار لذلك في صفر لسنة أربع وثمانين، واعترضهم طغرل على همذان قبل اجتماعهم بكزل، واقتتلوا ثامن ربيع، وانهزمت عساكر ببغداد وأسروا الوزير. ثم استولى كزل على طغرل وحبسه ببعض القلاع، ودانت له البلاد وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس.
ثم قتل على فراشه سنة سبع وثمانين ولم يعلم قاتله.
استيلاء الناصر على النواحي
توفي الأمير عيسى صاحب تكريت سنة خمس وثمانين قتله إخوته، فبعث الناصر العساكر فحصروها حتى فتحوها على الأمان وجاءوا بإخوة عيسى إلى بغداد فسكنوها وأقطع لهم السلطان. ثم بعث سنة خمس وثمانين عساكره إلى مدينة غانة فحاصروها مدّة وقاتلوها طويلا ثم جهدهم الحصار فنزلوا عنها على الأمان وإقطاع عيونها ووفّى لهم الناصر بذلك.
نهب العرب البصرة
كانت البصرة في ولاية طغرل مملوك الناصر، كان مقطعها واستناب فيها محمد بن إسماعيل، واجتمع بنو عامر بن صعصعة سنة ثمان وثمانين، وأميرهم عميرة وقصدوا البصرة للنهب والعيث. وخرج إليهم محمد بن إسماعيل في صفر فقاتلهم سائر يومه. ثم ثلموا في الليل ثلما في السور ودخلوا البلد وعاثوا فيها قتلا ونهبا. ثم بلغ بني عامر أنّ خفاجة والمشفق ساروا لقتالهم، فرحلوا إليهم وقاتلوهم فهزموهم، وغنموا أموالهم وعادوا إلى البصرة، وقد جمع الأمير أهل السواد فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل العرب البصرة فنهبوها ورحلوا عنها.
استيلاء الناصر على خوزستان ثم أصبهان والريّ وهمذان
كان الناصر قد استناب في الوزارة بعد أسر ابن يونس مؤيد الدين أبا عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصّاب، وكان قد ولي الأعمال في خوزستان وغيرها، وله فيها الأصحاب. ولما توفي صاحبها شملة واختلف أولاده راسله بعضهم في ذلك، فطلب(3/654)
من الناصر أن يرسل معه العساكر ليملكها فأجابه وخرج في العساكر سنة إحدى وتسعين، وحارب أهل خوزستان فملك أوّلا مدينة تستر ثم ملك سائر الحصون والقلاع وأخذ بني شملة ملوكها فبعث بهم إلى بغداد، وولّى الناصر على خوزستان طاش تكين مجير الدين أمير الحاج. ثم سار الوزير إلى جهات الريّ سنة إحدى وتسعين، وجاءه قطلغ ابنايخ بن البهلوان وقد غلبه خوارزم شاه وهزمه عند زنجان، وملك الريّ من يده. وجاء قطلغ إلى الوزير مؤيد ورحل معه إلى همذان وبها ابن خوارزم شاه في العساكر فأجفل عنها إلى الريّ، وملك الوزير همذان ورحل في اتباعهم وملك كل بلد مرّوا بها إلى الري، وأجفل عسكر خوارزم إلى دامغان وبسطام وجرجان.
ورجع الوزير إلى الريّ فأقام بها. ثم انتقض قطلغ بن البهلوان وطمع في الملك فامتنع بالريّ وحاصره الوزير فخرج عنها إلى مدينة آوه فمنعهم الوزير منها ورحل الوزير في أثرهم من الريّ إلى همذان، وبلغه أنّ قطلغ قصد مدينة الكرج فسار إليه وقاتله وهزمه، ورجع إلى همذان فجاءه رسول خوارزم شاه محمد تكش بالنكير على الوزير في أخذ البلاد، ويطلب إعادتها فلم يجبه الوزير إلى ذلك، فسار خوارزم شاه إلى همذان وقد توفي الوزير ابن القصّاب خلال ذلك في شعبان سنة اثنتين وتسعين، فقاتل العساكر التي كانت معه بهمذان وهزمهم، وملك همذان وترك ولده بأصبهان، وكانوا يبغضون الخوارزميّة فبعث صدر الدين الخجنديّ رئيس الشافعيّة إلى الديوان ببغداد يستدعي العساكر لملكها، فجهّز الناصر العساكر مع سيف الدين طغرل يقطع بلد اللحف [1] من العراق، وسار فوصل أصبهان، ونزل ظاهر البلد وفارقها عسكر الخوارزميّة فملكها طغرل وأقام فيها الناصر وكان من مماليك البهلوان.
ولما رجع خوارزم شاه إلى خراسان، واجتمعوا واستولوا على الريّ وقدّموا عليهم كركجه من أعيانهم، وساروا إلى أصبهان فوجدوا بها عسكر الناصر وقد فارقها عسكر الخوارزميّة فملكوا أصبهان، وبعث كركجه إلى بغداد بالطاعة، وأن يكون له الريّ وساوة وقمّ وقاشان. ويكون للناصر أصبهان وهمذان وزنجان وقزوين فكتب له بما طلب وقوي أمره. ثم وصل إلى بغداد أبو الهيجاء السمين من أكابر أمراء بني أيوب وكان في إقطاعه بيت المقدس وأعماله، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل بن صلاح الدين عزلوا أبا الهيجاء عن القدس، فسار إلى بغداد فأكرمه
__________
[1] هي بلدة تقع على حدود فارس وقد مرّ ذكرها معنا من قبل.(3/655)
الناصر وبعثه بالعساكر إلى همذان سنة ثلاث وتسعين فلقي بها أزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه قطلمش، وقد كاتبوا الناصر بالطاعة فداخل أمير علم وقبض على أزبك وابن قطلمش بموافقته، وأنكر الناصر ذلك على أبي الهيجاء وأمره بإطلاقهم.
وبعث إليهم بالخلع فلم يأمنوا، وفارقوا أبا الهيجاء فخشي من الناصر ودخل إلى إربل لأنه كان من أكرادها، ومات قبل وصوله إليها. وأقام كركجه ببلاد الجبل واصطنع رفيقه إيدغمش، واستخلصه ووثق به فاصطنع إيدغمش المماليك وانتقض عليه آخر المائة السادسة، وحاربه فقتله واستولى على البلاد ونصب أزبك بن البهلوان للملك وكفله. ثم توفي طاش تكين أمير خوزستان سنة اثنتين وستمائة وولىّ الناصر مكانه صهره سنجر وهو من مواليه، وسار سنجر سنة ثلاث وستمائة إلى جبال تركستان جبال منيعة بين فارس وعمان وأصبهان وخوزستان وكان صاحب هذه الجبال يعرف بأبي طاهر وكان للناصر مولى اسمه قشتمر من أكابر مواليه ساءه وزير الدولة ببعض الأحوال فلحق بأبي طاهر صاحب تركستان فأكرمه وزوّجه بابنته. ثم مات أبو طاهر فأطاع أهل تلك الولاية قشتمر وملك عليهم، وبعث الناصر إلى سنجر صاحب خوزستان يعضده في العساكر فسار إليه وبذل له الطاعة على البعد. فلم يقبل منه فلقيه وقاتله فانهزم سنجر وقوي قشتمر على أمره وأرسل إلى ابن دكلا صاحب فارس، وإلى إيدغمش صاحب الجبل فاتفق معهما على الامتناع على الناصر واستمرّ حاله.
عزل الوزير نصير الدين
كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلويّ من أهل الريّ من بيت إمارة، وقدم إلى بغداد عند ما ملك الوزير ابن القصّاب الريّ فأقبل عليه الخليفة، وجعله نائب الوزارة. ثم استوزره وجعل ابنه صاحب المخزن فتحكّم في الدولة، وأساء إلى أكابر موالي الناصر، فلما حجّ مظفّر الدين سنقر المعروف بوجه السبع سنة ثلاث وستمائة وكان أميرا ففارق الحاج ومضى إلى الشام، وبعث إلى الناصر أنّ الوزير ينفي عليك مواليك ويريد أن يدّعي الخلافة فعزله الناصر وألزمه بيته. وبعث من كل شيء ملكه، ويطلب الإقامة بالمشهد فأجابه الناصر بالأمان والاتّفاق، وانّ المعزلة [1] لم
__________
[1] اي العزل من الخدمة.(3/656)
تكن لذنب وإنما أكثر الأعداء المقالات فوقع ذلك. واحتز لنفسه موضعا ينتقل إليه موقرا محترما فاختار إيالة الناصر، خوفا أن يذهب الأعداء بنفسه. ولما عزل عاد سنقر أمير الحاج، وعاد أيضا قشتمر، وأقيم نائبا في الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن اسمينا الواسطيّ، ولم يكن له ذلك التحكّم، وقارن ذلك وفاة صاحب المخزن ببغداد أبو فراس نصر بن ناصر بن مكي المدائني فولّى مكانه أبو الفتوح المبارك بن عضد الدين أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء، وأعلى محله، وذلك في المحرّم سنة خمس وستمائة. ثم عزل آخر السنة لعجزه. ثم عزل في ربيع من سنة ست وستمائة فخر الدين بن اسمينا، ونقل إلى المخزن وولّى نيابة الوزارة مكانه مكين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن بدر القمر كاتب الإنشاء ولقّب مؤيد الدين.
انتقاض سنجر بخوزستان
قد ذكرنا ولاية سنجر مولى الناصر على خوزستان بعد طاش تكين أمير الحاج ثم استوحش سنة ست وستمائة واستقدمه الناصر فاعتذر فبعث إليه العساكر مع مؤيد الدين نائب الوزارة، وعزّ الدين بن نجاح الشرابيّ من خواصّ الخليفة. فلمّا قاربته العساكر لحق بصاحب فارس أتابك سعد بن دكلا فأكرمه ومنعه، ووصلت عساكر الخليفة خوزستان في ربيع من سنته وبعثوا إلى سنجر في الرجوع إلى الطاعة فأبى وساروا إلى أرجان لقصد ابن دكلا بشيراز، والرسل تتردّد بينهم. ثم رحلوا في شوّال يريدون شيراز فبعث ابن دكلا إلى الوزير والشرابي بالشفاعة في سنجر واقتضاء الأمان له فأجابوه إلى ذلك، وأعادوا سنجر إلى بغداد في المحرّم سنة ثمان وستمائة، ودخلوا به مقيّدا. وولّى الناصر مولاه ياقوتا أمير الحاج على خوزستان. ثم أطلق الناصر سنجر في صفر من سنة ثمان وستمائة وخلع عليه.
استيلاء منكلى على بلاد الجبل وأصبهان وهرب ايدغمش ثم مقتله ومقتل منكلى وولاية اغلمش
قد ذكرنا استيلاء إيدغمش من أمراء البهلوانية على بلاد الجبل همذان وأصبهان والريّ وما إليها فاستفحل فيها وعظم شأنه وتخطّى إلى أذربيجان وأرانيه فحاصر صاحبها أزبك بن البهلوان. ثم خرج سنة ثمان وستمائة منكلى من البهلوانيّة، ونازعه الملك(3/657)
وأطاعه البهلوانيّة، فاستولى على سائر تلك الأعمال وهرب شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، وأمر النّاصر بتلقيه، فكان يوما مشهودا وخشي منكلى من اتّصاله فأوفد ابنه محمدا في جماعة من العسكر، وتلقّاه الناس على طبقاتهم وقد كان الناصر شرع في إمداد إيدغمش، فأمدّه وسار إلى همذان في جمادى من سنة عشر، ووصل إلى بلاد ابن برجم من التركمان الأيوبيّة، وكان الناصر عزله عن إمارة قومه وولّى أخاه الأصغر، فبعث إلى منكلى بخبر إيدغمش، فبعث العساكر بطلبه فقتلوه وافترق جمعه، وبعث الناصر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرانية يغريه به.
وكان مستوحشا منه وأرسل أيضا إلى جلال الدين صاحب قلعة الموت وغيرها من قلاع الإسماعيليّة من بلاد العجم بمعاضدة أزبك على أن يقتسموا بلاد الجبل. وجمع الخليفة العساكر من الموصل والجزيرة وبغداد وقدم على عسكر بغداد مملوكه مظفر الدين وجه السبع واستقدم مظفّر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك وهو على إربل وشهرزور وأعمالها، وجعله مقدّم العساكر جميعا وساروا إلى همذان فهرب منكلى إلى جبل قريب الكرج وأقاموا عليه يحاصرونه ونزل منكلي في بعض الأيام فقاتل أزبك وهزمه إلى مخيمه. ثم جاء من الغد وقد طمع فيهم فاشتدّوا في قتاله وهزموه فهرب عن البلاد أجمع، وافترقت عساكره واستولت العساكر على البلاد، وأخذ جلال الدين ملك الإسماعيلية منها ما عينته القسمة وولّى أزبك بن البهلوان على بقية البلاد أغلمش مملوك أخيه وعادت العساكر إلى بلادها ومضى منكلى منهزما إلى مدينة ساوة فقبض عليه الشحنة بها وقتله وبعث أزبك برأسه إلى بغداد وذلك في جمادى سنة اثنتي عشرة.
ولاية حافد الناصر على خوزستان
كان للناصر ولد صغير اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن قد رشّحه لولاية العهد وعزل عنها ابنه الأكبر، وكان هذا أحبّ ولده إليه فمات في ذي القعدة سنة عشر فتفجّع له وحزن عليه حزنا لم يسمع بمثله. وشمل الأسف عليه الخاصّ والعام. وكان ترك ولدين لقبهما المؤيد والموفّق فبعثهما الناصر إلى تستر من خوزستان بالعساكر في المحرّم سنة ثلاث عشرة وبعث معهما مؤيد الدين نائب الوزارة، وعزل مؤيد الدين الشرابي فأقاما بها أياما. ثم أعاد الموفّق مع الوزير والشرابي إلى بغداد في شهر ربيع وأقام المؤيد بتستر.(3/658)
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل وطلب الخطبة له ببغداد
كان أغلمش قد استولى على بلاد الجبل كما ذكرناه واستفحل أمره وقوي ملكه فيها.
ثم قتله الباطنيّة سنة أربع عشرة وستمائة. وكان علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه وارث ملك السلجوقيّة قد استولى على خراسان وما وراء النهر فطمع في إضافة هذه البلاد إليه فسار في عساكره واعترضه صاحب بلاد فارس أتابك سعد بن دكلا على أصبهان وقد ساقه من الطمع في البلاد مثل الّذي ساقه فقاتله وهزمه خوارزم وأخذه أسيرا. ثم سار إلى ساوة فملكها ثم قزوين وزنجان وأبهر، ثم همذان ثم أصبهان وقمّ وقاشان. وخطب له صاحب أذربيجان وأرانية وكان يبعث في الخطبة إلى بغداد ولا يجاب، فاعتزم الآن على المسير إليها وقدّم أميرا في خمسة عشر ألف فارس وأقطعه حلوان فنزلها. ثم أتبعه بأمير آخر، فلما سار عن همذان سقط عليهم الثلج وكادوا يهلكون، وتخطّف بقيتهم بنو برجم من التركمان وبنو عكا من الأكراد. واعتزم خوارزم شاه على الرجوع إلى خراسان، وولّى على همذان طابسين وجعل إمارة البلاد كلّها لابنه ركن الدين وأنزل معه عماد الملك المساوي متوليا أمور دولته، وعاد إلى خراسان سنة خمس عشرة وأزال الخطبة للناصر من جميع أعماله.
إجلاء بني معروف عن البطائح
كان بنو معروف هؤلاء من ربيعة ومقدّمهم معلّى، وكانت رحالهم غربيّ الفرات قرب البطائح، فكثر عيثهم وإفسادهم السابلة، وارتفعت شكوى أهل البلاد إلى الديوان منهم، فرسم للشريف سعد متولّي واسط وأعمالها أن يسير إلى قتالهم وإجلائهم، فجمع العساكر من تكريت وهيت والحديثة والأنبار والحلّة والكوفة وواسط والبصرة فهزمهم واستباحهم، وتقسّموا بين القتل والأسر والغرق، وحملت الرءوس إلى بغداد في ذي القعدة سنة عشر.
ظهور التتر
ظهرت هذه الأمة من أجناس الترك سنة ست عشرة وستمائة وكانت جبال طمغاج من أرض الصين بينها وبين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر وكان ملكهم يسمى(3/659)
جنكزخان، من قبيلة يعرفون نوحى [1] فسار إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدي الخطا، ثم حارب خوارزم شاه إلى أن غلبه على ما في يده من خراسان وبلاد الجبل، ثم تخطي أرّانيه فملكها. ثم ساروا إلى بلاد شروان وبلد اللّان واللكز فاستولوا على الأمم المختلفة بتلك الأصقاع. ثم ملكوا بلاد قفجاق وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان فملكوا ذلك كله في سنة أو نحوها، وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمان. وهزموا خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش فلحق بجزيرة في بحر طبرستان فامتنع بها إلى أن مات سنة سبع عشر وستمائة لإحدى إحدى وعشرين سنة من ملكه. ثم هزموا ابنه جلال الدين بغزنة واتبعه جنكزخان إلى نهر السّند فعبر إلى بلاد الهند، وخلص منهم وأقام هنالك مدّة ثم رجع سنة اثنتين وعشرين إلى خوزستان والعراق. ثم ملك أذربيجان وأرمينية إلى أن قتله المظفّر حسبما نذكر ذلك كلّه مقسّما بين دولتهم ودولة بني خوارزم شاه أو مكرّرا فيهما. فهناك تفصيل هذا المحلّ من أخبارهم والله الموفق بمنّه وكرمه.
وفاة الناصر وخلافة الظاهر ابنه
ثم توفي أبو العبّاس أحمد الناصر بن المستضيء في آخر شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين سنة وستمائة لسبع وأربعين سنة من خلافته بعد أن عجز عن الحركة ثلاث سنين من آخر عمره وذهبت إحدى عينيه وضعف بصر الأخرى. وكانت حاله مختلفة في الجدّ واللعب وكان متفنّنا في العلوم وله تآليف في فنون منها متعدّدة، ويقال إنه الّذي أطمع التتر في ملك العراق لما كانت بينه وبين خوارزم شاه من الفتنة، وكان مع ذلك كثيرا ما يشتغل برمي البندق واللعب بالحمام المناسيب [2] ويلبس سراويل الفتوّة شأن العيّارين من أهل بغداد. وكان له فيها سند إلى زعمائها يقتصه على من يلبسه إياها، وكان ذلك كلّه دليلا على هرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها بذهاب ملاكها منهم. ولما توفي بويع ابنه أبو نصر محمّد ولقّب الظاهر، وكان ولّي عهده عهد له أوّلا سنة خمس وثمانين وخمسمائة ثم خلعه من العهد وعهد لأخيه الصغير عليّ لميله
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 12 ص 361: «وكان السبب في ظهورهم ان ملكهم ويسمى بجنكزخان المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار الى نواحي تركستان» .
[2] بمعنى المختارة أو المتأصّلة وهي كلمة عاميّة.(3/660)
إليه. وتوفي سنة اثنتي عشرة فاضطرّ إلى إعادة هذا، فلما بويع بعد أبيه أظهر من العدل والإحسان ما حمد منه ويقال إنه فرّق في العلماء ليلة الفطر التي بويع فيها مائة ألف دينار.
وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر
ثم توفي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة لتسعة أشهر ونصف من ولايته وكانت طريقته مستقيمة وأخباره في العدل مأثورة. ويقال إنه قبل وفاة كتب بخطّه إلى الوزير توقيعا يقرؤه على أهل الدولة فجاء الرسول به، وقال: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم وأنفذ مثال، ثم لا يتبيّن له أثر، بل أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، ثم تناولوا الكتاب وقرءوه فإذا فيه بعد البسملة أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفالا، ولكن لنبلوكم أيّكم أحسن عملا وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا وتقبيح السنّة، وإظهار الباطل الجليّ في صورة الحق الخفيّ حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا للأغراض، انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب، تنطقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، ما طلتم بحقّه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن فقد بدّل الله سبحانه بخوفكم أمنا وفقركم غنى وباطلكم حقا ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصرّ، ولا ينتقم إلّا ممن استمرّ، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه يخاف الله فيخوّفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فان سلكتم مسالك نواب خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلّا هلكتم والسلام. ولما توفي بويع ابنه أبو جعفر المستنصر وسلك مسالك أبيه، إلّا أنه وجد الدولة اختلفت والأعمال قد انتقضت والجباية قد انتقصت أو عدمت، فضاقت عن أرزاق الجند وأعطياتهم فأسقط كثيرا من الجند، واختلفت الأحوال. وهو الّذي أعاد له محمد بن يوسف بن هود دعوة العبّاسية بالأندلس آخر دولة الموحّدين بالمغرب فولّاه عليها، وذلك سنة تسع وعشرين وستمائة كما يذكر في أخبارهم. ولآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غيّاث الدين كنجسرو آخر ملوك بني قليج أرسلان، ثم تخطّوها إلى بلاد أرمينية فملكوها. ثم استأمن إليهم غيّاث الدين فولّوه من قبلهم وفي طاعتهم كما يذكر في أخبارهم إن شاء الله تعالى انتهى.(3/661)
وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد
لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد في النطاق الّذي بقي لهم بعد استبداد أهل النواحي كما قدّمنا. ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة، وتملك التتر سائر البلاد.
وتغلّبوا على ملوك النواحي ودولهم أجمعين، ثم زاحموهم في هذا النطاق وملكوا أكثره، ثم توفي المستنصر سنة إحدى وأربعين لست سنة من خلافته، وبويع بالخلافة ابنه عبد الله ولقّب المستعصم، وكان فقيها محدّثا. وكان وزيره ابن العلقميّ رافضيّا، وكانت الفتنة ببغداد لا تزال متّصلة بين الشيعة وأهل السنّة، وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب، وبين العيّارين والدعّار والمفسدين مبدأ الأمراء الأول، فلا تتجدّد فتنة بين الملوك وأهل الدول، إلّا ويحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصّة زيادة لما يحدث منهم أيام سكون الدول واستقامتها، وضاقت الأحوال على المستعصم فأسقط أهل الجند وفرض أرزاق الباقين على البياعات والأسواق وفي المعايش. فاضطرب الناس وضاقت الأحوال وعظم الهرج ببغداد ووقعت الفتن بين الشيعة وأهل السنّة، وكان مسكن الشيعة بالكرخ في الجانب الغربي، وكان الوزير ابن العلقميّ منهم فسطوا بأهل السنّة، وأنفذ المستعصم ابنه أبا بكر وركن الدين الدوادار، وأمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ، ولم يراع فيه ذمّة الوزير فآسفه ذلك، وتربّص بالدولة وأسقط معظم الجند يموه بأنه يدافع التتر بما يتوفّر من أرزاقهم في الدولة. وزحف هلاكو ملك التتر سنة اثنتين وخمسين إلى العراق وقد فتح الريّ وأصبهان وهمذان وتتّبع قلاع الإسماعيلية، ثم قصد قلعة الموت سنة خمس وخمسين فبلغه في طريقه كتاب ابن الموصلايا صاحب إربل وفيه وصية من ابن العلقميّ وزير المستعصم الى هلاكو يستحثه لقصد بغداد، ويهوّن عليه أمرها، فرجع عن بلاد الإسماعيلية وسار إلى بغداد واستدعى أمراء التتر فجاءه بنحو مقدّم العسكر ببلاد الروم، وقد كانوا ملكوها. ولما قاربوا بغداد برز للقائهم أيبك الدوادار في العساكر فانكشف التتر أوّلا وتذامروا فانهزم المسلمون واعترضتهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة، فتبعهم التتر دونها وقتل الدوادار وأسر الأمراء الذين معه.
ونزل هولاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقميّ فاستأمن لنفسه ورجع(3/662)
بالأمان إلى المستعصم، وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم. فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان فقبض عليه لوقته، وقتل جميع من كان معه. ثم قتل المستعصم شدخا بالعمد ووطأ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت، وذلك سنة ست وخمسين. وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العيث بها أياما وخرج النساء والصبيان وعلى رءوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين. ويقال إنّ الّذي أحصى ذلك اليوم من القتلى ألف ألف وستمائة ألف، واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يبلغه الوصف ولا يحصره الضبط والعدّ، وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة، وكانت شيئا لا يعبّر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأوّل الفتح في كتب الفرس وعلومهم.
واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته. ثم بعث العساكر إلى ميافارقين فحاصروها سنين، ثم جهدهم الحصار واقتحموها عنوة وقتل حاميتها جميعا وأميرهم من بني أيوب، وهو الملك ناصر الدين محمد بن شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب وبايع له صاحب الموصل، وبعث بالهدية والطاعة وولّاه على عمله ثم بعث بالعساكر إلى إربل فحاصرها وامتنعت فرحل العساكر عنها، ثم وصل إليه صاحبها ابن الموصلايا فقتله واستولى على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة كلّها، وتاخم الشام جميع جهاته حتى زحف إليه بعد كما يذكر، وانقرض أمر الخلافة الإسلامية لبني العبّاس ببغداد وأعاد لها ملوك الترك رسما جديدا في خلفاء نصّبوهم هنالك من أعقاب الخلفاء الأوّلين، ولم يزل متصلا لها العهد على ما نذكر الآن. ومن العجب أنّ يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب في ذكر ملاحمه وكلامه على القرآن الّذي دلّ على ظهور الملّة الإسلامية العربية أنّ انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والستمائة، فكان كذلك، وكانت دولة بني العبّاس من يوم بويع للسفّاح سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل المستعصم سنة خمس وستمائة، وخمسمائة سنة وأربعا وعشرين وعدد خلفائهم ببغداد سبعة وثلاثون خليفة. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.(3/663)
الخبر عن الخلفاء العباسيين المنصوبين بمصر من بعد انقراض الخلافة ببغداد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
لما هلك المستعصم ببغداد واستولى التتر على سائر الممالك الإسلامية فافترق شمل الجماعة وانتثر سلك الخلافة وهرب القرابة المرشّحون وغير المرشحين من قصور بغداد فذهبوا في الأرض طولا وعرضا، ولحق بمصر كبيرهم يومئذ أحمد ابن الخليفة الظاهر، وهو عمّ المستعصم وأخو المستنصر، وكان سلطانها يومئذ الملك الظاهر بيبرس ثالث ملوك الترك بعد بني أيوب بمصر والقاهرة، فقام على قدم التعظيم وركب لتلقّيه وسرّ بقدومه، وكان وصوله له سنة تسع وخمسين فجمع الناس على طبقاتهم بمجلس الملك بالقلعة، وحضر القاضي يومئذ تاج ابن بنت الأعز فاثبت نسبه في بيت الخلفاء بشهادة العرب الواصلين معه بالاستفاضة، ولم يكن شخصه خفيّا، وبايع له الظاهر وسائر الناس ونصّبه للخلافة الإسلامية ولقّبوه المستنصر، وخطب له على المنابر ورسم اسمه في السكّة. وصدرت المراسم السلطانية بأخذ البيعة له في سائر أعمال السلطان، وفوّض هو للسلطان الملك الظاهر سائر أعماله، وكتب تقليده بذلك وركب السلطان ثاني يومه إلى خارج البلد، ونصب خيمة يجتمع الناس فيها فاجتمعوا وقرأ كتاب التقليد. وقام السلطان بأمر هذا الخليفة ورتّب له أرباب الوظائف والمناصب الخلافية من كل طبقة، وأجرى الأرزاق السنيّة، وأقام له الفسطاط والآلة. ويقال أنفق عليه في معسكره ذلك ألف ألف دينار من الذهب العين، واعتزم على بعثه إلى بلاد العراق لاسترجاعه ممالك الإسلام من يد أهل الكفر. وقد كان وصل على أثر الخليفة صاحب الموصل وهو إسماعيل الصالح بن لؤلؤ أخرجه التتر من ملكه بعد مهلك أبيه فامتعض له الملك الظاهر، ووعده باسترجاع ملكه وخرج آخر هذه السنة مشيّعا للخليفة ولصالح بن لؤلؤ، ووصل بهما إلى دمشق فبالغ هناك في تكرمتهما وبعث معهما أميرين من أمرائه مددا لهما، وأمرهما أن ينتهيا معهما إلى الفرات. فلمّا وصلوا الفرات بادر الخليفة بالعبور وقصد الصالح بن لؤلؤ الموصل، واتصل الخبر بالتتر فجردوا العساكر للقائه والتقى الجمعان بعانة، وصدموه هنالك فصادمهم قليلا. ثم تكاثروا عليه فلم يكن له بهم طاقة وأبلى في جهادهم طويلا ثم استشهد(3/664)
رحمه الله. وسارت عساكر التتر إلى الموصل فحاصروا الصالح إسماعيل سبعة أشهر، وملكوها عليه عنوة، وقتل رحمه الله. وتطلّب السلطان بمصر الملك الظاهر بعده آخر من أهل هذا البيت يقيم برسم الخلافة الإسلامية، وبينما هو يسائل الركبان عن ذلك، إذ وصل رجل من بغداد ينسب إلى الراشد بن المسترشد. قال صاحب حماة في تاريخه عن نسّابة مصر: إنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي عليّ ابن الأمير حسن بن الراشد. وعند العبّاسيين السليمانيين في درج نسبهم الثابت أنه أحمد بن أبي بكر بن عليّ بن أحمد بن الإمام المسترشد. انتهى كلام صاحب حماة. ولم يكن في آبائه خليفة فيما بينه وبين الراشد. وبايع له بالخلافة الإسلامية ولقبه الحاكم، وفوّض هو إليه الأمور العامّة والخاصة. وخرج هو له عن العهدة وقام حافظا لسياج الدين بإقامة رسم الخلافة. وعمرت بذكره المنابر وزيّنت باسمه السكّة، ولم يزل على هذا الحال أيام الظاهر بيبرس وولديه بعده. ثم أيام الصالح قلاون وابنه الأشرف، وطائفة من دولة ابنه الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة، ونصّب ابنه أبو الربيع سليمان للخلافة بعده ولقبه المستكفي. وحفظ به الرسم وحضر مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون للقاء التتر في النوبتين اللتين لقيهم فيها، فاستوحش منه السلطان بعض أيامه وأنزله بالقلعة، وقطعه عن لقاء الناس عاما أو نحوه. ثم أذن له في النزول إلى بيته ولقائه الناس إذا شاء، وكان ذلك سنة ست وثلاثين. ثم تجدّدت له الوحشة وغرّبه إلى قوص سنة ثمان وثلاثين، ثم هلك الخليفة أبو الربيع سنة أربعين قبل مهلك الملك الناصر رحمهما الله تعالى. وكان عهد بالخلافة لابنه أحمد فبويع له ولقّب الحاكم.
ثم بدا للسلطان في إمضاء عهد أبيه بذلك فعزله، واستبدل منه بأخيه إبراهيم ولقبه الواثق. وكان مهلك الناصر لأشهر قريبة من ذلك، فأعادوا أحمد الحاكم وليّ عهد أبيه سنة إحدى وأربعين، وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين. وهلك رحمه الله فولي من بعده أخوه بكر ولقّب المعتضد، ولم يزل مقيما لرسم الخلافة إلى أن هلك لعشرة أعوام من خلافته سنة ثلاث وستين، ونصّب بعده ابنه محمد ولقّب المتوكّل فأقام برسم الخلافة، وحضر مع السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر عام انتقض عليه الترك في طريقه إلى الحجّ. وفسد أمره ورجع الفلّ إلى مصر، وطلبه أمراء الترك في البيعة له بالسلطنة مع الخلافة فامتنع من ذلك. ثم(3/665)
خلعه أيبك من أمراء الترك المستبدّين أيام سلطانه بالقاهرة سنة تسع وتسعين لمغاضبة وقعت بينهما، ونصّب للخلافة زكريا ابن عمّه إبراهيم الواثق فلم يطل ذلك، وعزل زكريا لأيام قليلة، وأعاده إلى منصبه إلى أن كانت واقعة قرط التركماني من أمراء العساكر بمصر ومداخلته للمفسدين في الثورة بالسلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق سنة خمس وثمانين، وسعى عند السلطان بأنه ممن داخله قرط هذا فاستراب به وحبسه بالقلعة سنة ستين، وأدال منه بعمر ابن عمّه الواثق إبراهيم ولقبه [1] فأقام ثلاثا أو نحوها ثم هلك رحمه الله آخر عام ثمانية وثلاثين، ونصّب السلطان عوضه آخاه زكريا الّذي كان أيبك نصّبه كما قدّمنا ذكره، ثم حدثت فتنة بليقا الناصري صاحب حلب سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وتعالى على السلطان بحبسه الخليفة، وأطال النكير في ذلك فأطلق السلطان الخليفة محمد المتوكل من محبسه بالقلعة وأعاده إلى الخلافة على رسمه الأوّل، وبالغ في تكرمته وجرت فيما بين ذلك خطوب نذكر أخبارها مستوفاة في دولة الترك المقيمين لرسم هؤلاء الخلفاء بمصر. وإنما ذكرنا هنا من أخبارهم ما يتعلق بالخلافة فقط دون اخبار الدولة والسلطان. وهذا الخليفة المتوكّل المنصوب الآن لرسم الخلافة والمعيّن لإقامة المناصب الدينية على مقتضى الشريعة، والمبرك بذكره على منابر هذه الإيالة تعظيما لأبيهم الظاهر، وجريا على سنن التبرك بسلفهم، ولكمال الإيمان في محبتهم وتوفية لشروط الإمامة بينهم وما زال ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالنواحي يطلبون التقليد منه ومن سلفه بمصر ويكاتبون في ذلك ملوك الترك بها من بني قلاون وغيره فيجيبونهم إلى ذلك، ويبعثون إليهم بالتقليد والخلع والأبهة، ويمدّون القائمين بأمورهم بموادّ التأييد والإعانة بمنّ الله وفضله.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نهتد الى لقبه في المراجع التي بين أيدينا.(3/666)
[المجلد الرابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
[تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ]
(أخبار الدولة العلوية المزاحمة لدولة بني العبّاس)
ونبدأ منهم بدولة الأدارسة بالمغرب الأقصى. قد تقدّم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعليّ ابن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة، وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتى قتل المتولون كبر [1] ذلك منهم حجر بن عديّ وأصحابه، ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف، ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخرج عبيد الله بن زياد عن الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليه سليمان بن صرد ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم. ثم خرج المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبا بدم الحسين رضي الله عنه وداعيا لمحمد بن الحنفيّة وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسمّاهم شرطة الله، وزحف إليه عبيد الله بن زياد فهزمه المختار وقتله، وبلغ محمد بن الحنفيّة من
__________
[1] الظاهر من سياق الجملة انها تعني الجزاء ولم نجد في الكتب اللغوية ما يشير الى هذا المعنى وقد جاء «الإثم الكبير» من جملة معانيها. وفي لسان العرب: وقوله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، 24: 11 قال ثعلب: يعني معظم الإفك.(4/5)
أحوال المختار ما نقمه عليه، فكتب إليه بالبراءة منه فصار الى الدعاء لعبد الله بن الزبير. ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن عليّ بن الحسين الى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان فقتل وصلب كذلك، وطلت دماء أهل البيت في كل ناحية، وقد تقدّم ذلك كلّه في أخبار الدولتين. ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلويّة وذهبوا طرائق قددا، فمنهم الإمامية القائلون بوصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بالإمامة، ويسمّونه الوصيّ بذلك، ويتبرءون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم، وخاصموا زيدا بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة. ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل عليّ وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة وإن كان عليّ أفضل، وهذا مذهب زيد واتباعه، وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو. ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفيّة وبنيه من بعد الحسن والحسين ومن هؤلاء كانت شيعة بني العبّاس القائلون بوصيّة أبي هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن عليّ بن عبد الله ابن عبّاس بالإمامة. وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان. ولما صار أمر بني أمية الى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة، وبايعوا بالخلافة سرّا لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنّى بن الحسن بن عليّ وسلّم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدّمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم، ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون أنّ إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربّما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصيّة من زيد بن عليّ. وكان أبو حنيفة يقول بفضله، ويحتج إلى حقّه فتأدّت إليهما المحنة بسبب أيام أبي جعفر المنصور، حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء. (ولما انقرضت) دولة بني أميّة وجاءت دولة بني العبّاس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن، وأنّ محمد بن(4/6)
عبد الله يروم الخروج وأنّ دعاته ظهروا بخراسان فحبس المنصور لذلك بني حسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر، وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بنو عمّه إبراهيم بن الحسن في خمسة وأربعين من أكابرهم وحبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا الطلب محمد بن عبد الله فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها، وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية الى مكة فملكها، وبعث عاملا إلى اليمن، ودعا لنفسه، وخطب على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وتسمّى بالمهديّ وكان يدعى النفس الزكيّة، وحبس رباح بن عثمان المرّيّ عامل المدينة، فبلغ الخبر الى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور (ونصّه) بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين الى محمد بن عبد الله.
أما بعد فإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلّا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم. وأنّ لك ذمة الله وعهده وميثاقه، إن تبت من قبل أن نقدر عليك أن نؤمّنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن تابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من سجن من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه. وإن شئت أن تتوثّق لنفسك فوجّه إليّ من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت والسلام. (فأجابه) محمد بن عبد الله بكتاب نصّه بعد البسملة: من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ابن عبد الله محمد. أمّا بعد طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 1- 6، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الّذي أعطيتني فقد تعلم أنّ الحقّ حقّنا وأنّكم إنّما أعطيتموه بنا، ونهضتم فيه بسعينا وحزتموه بفضلنا، وأنّ أبانا عليّا عليه السلام، كان الوصيّ والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء!(4/7)
وقد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يشدّ بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا ونسيبنا، وإنّا بنو بنته فاطمة في الإسلام من بينكم فإنّا أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أمّا وأبا، لم تلدني العجم ولم تعرف في أمّهات الأولاد، وأنّ الله عزّ وجلّ لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيّين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما وأكثرهم جهادا عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهنّ خديجة بنت خويلد أوّل من آمن باللَّه وصلى إلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المتولدين في الإسلام سيّدا شباب أهل الجنة، ثم قد علمت أن هاشما ولد عليّا مرتين من قبل جدّي الحسن والحسين فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في معنى النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنّة وأهون أهل النار عذابا يوم القيامة، فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنّة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمّنك على نفسك وولدك، وكل ما أصبته إلّا حدّا من حدود الله أو حقّا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك وأحرى بقبول الأمان منك. فأمّا أمانك الّذي عرضت عليّ فهو أيّ الأمانات هي؟ أأمان ابن هبيرة أم أمان عمّك عبد الله بن عليّ أم أمان أبي مسلم؟ والسلام. (فأجابه المنصور) بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله! فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جلّ فخرك بالنساء لتضلّ به الحفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل الله العمّ أبا وبدأ به على الولد فقال جلّ ثناؤه عن نبيّه عليه السلام: واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. ولقد علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي وكفر به اثنان أحدهما أبوك. وأمّا ما ذكرت من النساء وقراباتهنّ فلو أعطى على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كلّه لآمنة بنت وهب، ولكنّ الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. وأمّا ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب فإنّ الله لم يهد أحدا من ولدها إلى الإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنّة غدا. ولكن الله أبى ذلك فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ 28: 56. وأمّا ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب، وفاطمة أمّ الحسين وأنّ هاشما ولد عليّا(4/8)
مرّتين، وأنّ عبد المطلب ولد الحسن مرّتين، فخير الأوّلين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يلده هاشم إلّا مرّة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلّا مرّة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإنّ الله عزّ وجلّ قد أبى ذلك فقال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ من رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، 33: 40 ولكنكم قرابة ابنته وأنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤمّ فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد طلب بها أبوك من كل وجه، وأخرجها تخاصم، ومرضها سرا ودفنها ليلا، وأبى الناس إلا تقديم الشيخين، ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأمر بالصلاة غيره. ثم أخذ الناس رجلا رجلا فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشورى، فكل دفعه عنها، بايع عبد الرحمن عثمان، وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه. ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدّك إلى أبيك الحسن، فسلّمه إلى معاوية بخزف ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حلّه، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأمّا قولك إنّ الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هيّن، ولا ينبغي لمسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يفتخر بالنار، ستردّ فتعلم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. وأمّا قولك لم تلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولاد، وأنك أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا وقدّمت نفسك على من هو خير منك أوّلا وآخرا وأصلا وفصلا، فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى والد والده، فانظر ويحك أين تكون من الله غدا وما ولد قبلكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أفضل من عليّ بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيرا من جدّك حسن بن حسن. ثم ابنه محمد خير من أبيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر وهو خير، ولقد علمت أنّ جدّك عليّا حكّم الحكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فأجمعا على خلعه. ثم خرج عمّك الحسين بن علي بن مرجانة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إلى الشام، ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرّقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا يسيركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم(4/9)
وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة كما يلعن الكفرة، فسفّهناهم وكفّرناهم وبيّنا فضله، وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنّا بما ذكرنا من فضل عليّ قدّمناه على حمزة والعبّاس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلما منهم وابتلى أبوك بالدماء. ولقد علمت أنّ مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعبّاس من دون إخوته فنازعنا فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وليس من عمومته أحد حيّا إلّا العبّاس، وكان وارثه دون عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلّا ولده فاجتمع للعبّاس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب يفضل القديم والحديث ولولا أن العبّاس أخرج إلى بدر كرها لمات عمّاك طالب وعقيل جوعا أو يلحسان جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار. ولقد جاء الإسلام والعبّاس يمون به طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدّى عقيلا يوم بدر، فعززناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثناه دونكم خاتم الأنبياء وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم والسلام. (ثم عقد) أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمّه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر، وقاتله بالمدينة فهزمه وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه عليّ بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استوفيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور، ورجع عيسى إلى المنصور فجهّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه، وقتله حسبما مرّ ذكره لك، وقتل معه عيسى بن زيد بن عليّ فيمن قتل من أصحابه (وزعم ابن قتيبة) أنّ عيسى بن زيد ابن عليّ ثار على المنصور بعد قتل أبى مسلم، ولقيه. في مائة وعشرين ألفا، وقاتله أياما إلى أن همّ المنصور بالفرار، ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة فكان معه لك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.
(ثم خرج بالمدينة أيام المهدي) سنة تسع وستين من بني حسن الحسين بن عليّ بن حسن المثلّث، وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى، وعمّ المهدي، وبويع للرضا من آل محمد وسار الى مكة، وكتب الهادي الى محمد بن سليمان بن علي وقد كان قدم حاجّا من البصرة فولّاه حربه يوم التروية، فقاتله بفجّة على ثلاثة أميال من مكة،(4/10)
وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمّه إدريس بن عبد الله فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعا إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان يتشيّع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الّذي كان به مستخفيا، وحمله على البريد الى المغرب ومعه راشد مولاه فنزل بو ليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة من قبائل البربر، وكبيرهم لعهده فأجاره وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العبّاسية وكشف القناع واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا. وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين. ودخلت ملوك زناتة أجمع في طاعته، واستفحل ملكه، وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشدّ إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشمّاخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه ولحق بإدريس مظهرا للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئا من الدعوة العبّاسية ومنتحلا للطالبيين، واختصه الإمام إدريس وحلي بعينه، وكان قد تأَبَّط سمّا في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه فكان فيها فيما زعموا حتفه، ودفن ببو ليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشمّاخ ولحقه راشد بوادي ملوية فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيها راشد يده، وأجاز الشمّاخ الوادي فأعجزه وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام فأمره ولحق به كثير من العرب من إفريقية والأندلس، وعجز بنو الأغلب أمراء إفريقية عنه فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب الأقصى دولة إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديّين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر، ونعدّد ملوكهم هناك واحدا واحدا، وانقراض دولتهم وعودها، ونستوعب ذلك كلّه لأنه أمسّ بالبربر فإنّهم كانوا القائمين بدعوتهم. (ثم خرج يحيى) أخو محمد بن عبد الله بن حسن وإدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدّت شوكتهم وسرّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطّه، فتمّ بينهما، وجاء به الفضل فوفّى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقا سنيّة، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت(4/11)
فيه من آل الزبير، فيقال أطلقه بعدها، ووصله بمال، ويقال سمّه لشهر من اعتقاله، ويقال أطلقه جعفر بن يحيى افتياتا فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن وخفيت دعوة الزيديّة حينا من الدهر حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره.
(الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد)
كانت الدولة العبّاسية قد تمهدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم، وسكن أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة حتى إذا هلك الرشيد، ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين، ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع، وبقي المأمون مقيما بخراسان تسكينا لأهلها عن ثائرة الفتن، وولي على العراق الحسن بن سهل، اتسع الخرق حينئذ بالعراق وأشيع عن المأمون أنّ الفضل بن سهل غلب عليه، وحجره فامتعض الشيعة لذلك، وتكلّموا، وطمع العلويّة في التوثّب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنّى المقتول بالبصرة أيام المنصور. وكان منهم محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ولقبه أبوه طباطبا، لكنة كانت في لسانه، أيام مرباه بين داياته فلقّب بها، وكان شيعته من الزيديّة وغيرهم يدعون إلى إمامته لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جدّه على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه، ووافاه أبو السرايا السريّ بن منصور كبير بني شيبان فبايعه وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم، وسرّح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله فهزمه طباطبا واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال إنّ أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم فبايع أبو السرايا يومه ذلك لمحمد بن محمد بن زيد بن عليّ زين العابدين، واستبدّ عليه، وزحفت عليه جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا وملك البصرة وواسط والمدائن. وسرّح الحسن بن سهل لحربه هرثمة بن أعين وكان(4/12)
مغضبا فاسترضاه وجهّز له الجيوش، وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه فغلبهم على المدائن، وهزمهم وقتل منهم خلقا، ووجّه أبو السرايا إلى مكّة الحسين الأفطس ابن الحسن بن عليّ زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن حسن المثنّى ابن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يقال له زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكّة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى، فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى، ودخلها الحسين من الغد فعاث في أهل الموسم ما شاء الله. واستخرج الكنز الّذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وقدره فيما قيل مائتا قنطار ثنتان من الذهب فأنفقه وفرّقه في أصحابه ما شاء الله. ثم إنّ هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور ابن المهدي فكان أميرا معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج الى القادسية، ثم الى واسط، ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولاء مغلولا جريحا فقبض عليه عاملها وقدمه الى الحسن بن سهل بالنهروان فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين.
وبلغ الخبر الطالبيّين بمكة فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق، وسمّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه عليّ وحسين فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئا، ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم ابن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسمّي الجزار لكثرة ما قتل من الناس.
وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون فجهّزه لحرب هؤلاء الطالبيين فتوجّه إلى مكة وغلبهم عليها، وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل فاتبعهم إسحاق وهزمهم، ثم طلبهم وطلب محمد الأمان فأمّنه، ودخل مكّة وبايع للمأمون وخطب على المنبر بدعوته، وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيّين وأقاموا فيه الدعوة العباسية، ثم خرج الحسين الأفطس ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون وقتل ابنيه عليّا ومحمدا. ثم إنّ المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعاتهم وكان يرى مثل رأيهم أو قريبا منه في شأن عليّ والسبطين فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة احدى ومائتين، وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدّم إلى الناس فنزع السواد ولبس الخضرة، فحقد بنو العبّاس ذلك من أمره وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين، وخطب له(4/13)
ببغداد وعظمت الفتنة وشخص المأمون من خراسان متلافيا أمر العراق، وهلك عليّ بن موسى في طريقه فجأة، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى بغداد سنة أربع، وقبض على عمّه إبراهيم وعفا عنه وسكن الفتنة. (وفي سنة تسع) بعدها خرج باليمن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يدعو للرّضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه دينارا، واستأمن له فأمّنه وراجع الطاعة. (ثم كثر خروج الزيدية) من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم وهرب إلى مصر خلق، وأخذ منهم خلق، وتتابع دعاتهم. (فأوّل) من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفا من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد فلحق بخراسان، ثم مضى إلى الطالقان ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم. ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه، وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات، ويقال إنه مات مسموما (ثم خرج) من بعده بالكوفة أيضا الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي ابن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين، وزحف إليه ابن شيكال [1] من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج فكان معه، وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله. وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظة من أعلمه أنه من ولد عيسى بن زيد الشهيد وأنه عليّ بن محمد بن زيد بن عيسى. ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد، والحق أنه دعيّ في أهل البيت كما نذكره في أخباره.
وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله، ومحا أثر تلك الدعوة كما قدّمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم. (ثم خرج في الديلم) من ولده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن خرج لخمس وخمسين فملك طبرستان وجرجان وسائر أعمالها، وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة،
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ابن بشكال(4/14)
وورثها من ولد الحسن السبط، ثم من ولد عمر بن عليّ بن زين العابدين الناصر الأطروش وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر وهو ابن عمّ صاحب الطالقان. أسلم الديلم على يد هذا الأطروش وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هنالك دولة، وكانوا سببا لملك الديلم البلاد وتغلّبهم على الخلفاء كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم. (ثم خرج باليمن) من الزيدية من ولد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا أعوام ثمانية وثمانين ومائتين يحيى بن الحسين بن القاسم الرسيّ فاستولى على صعدة وأورث عقبه فيها ملكا باقيا لهذا العهد، وهي مركز الزيدية كما نذكر في أخبارهم. (وفي خلال ذلك خرج بالمدينة) الأخوان محمد وعليّ ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم وعاثا في المدينة عيثا شديدا وتعطلت الصلاة بمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من شهر وذلك سنة إحدى وسبعين. (ثم ظهر بالمغرب) من دعاة الرافضة أبو عبد الله الشيعي في كتامة من قبائل البربر أعوام ستة وثمانين ومائتين داعيا لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر ابن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين فتم أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه. ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فملكها منهم المعزّ لدين الله معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي وشيّد القاهرة. ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على العاضد [1] منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة. (ثم ظهر في سواد الكوفة) سنة ثمان وخمسين ومائتين من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى، ويدعى قرمط، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أنّ أحمد بن الحنفيّة هو المهدي المنتظر، وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام وتلقّب وكرويه بن مهرويه، واستبدّ طائفة منهم بالبحرين ونواحيها ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم. وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العبيديّين بالمغرب وطاعتهم. (ثم كان بالعراق) من دعاة
__________
[1] مقتضى السياق: في أيام(4/15)
الإسماعيلية وهؤلاء الرافضة طوائف آخرون، واستبدوا بكثير من النواحي، ونسب إليهم فيها القلاع قلعة الموت وغيرها، وينسبون تارة إلى القرامطة، وتارة إلى العبيديّين، وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية. (وكان باليمامة ومكة والمدينة) من بعد ذلك دول للزيديّة والرّافضة فكان باليمامة دولة لبني الأخضر، وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنّى، خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين وملك مكة. ثم مات فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة. (وكان بمكة) دولة لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكّة، واستقرّت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم وكبيرهم محمد بن جعفر ابن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وغلب بني حسن على المدينة وداول الخطبة بمكة بين العبّاسيين والعبيديّين واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة، وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد. ملك أوّلهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون وورث دولة الهواشم وملكهم، وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما نذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيديّة. (وبالمدينة) دولة للرافضة لولد الهناء. قال المسبحي: اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم، وفي كتاب العتبي مؤرّخ دولة ابن سبكتكين أنّ مسلما اسمه محمد بن طاهر وكان صديقا لكافور، ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين. واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم والله وارث الأرض ومن عليها
الخبر عن الأدارسة ملوك المغرب الأقصى ومبدإ دولتهم وانقراضها ثم تجدّدها مفترقة في نواحي المغرب
لما خرج حسين بن عليّ بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في(4/16)
ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عمّاه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن علي بعجة على ثلاثة أميال بمكة فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته وانهزموا وأسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان، وظهر يحيى بعد ذلك في الديلم، وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه. (وأمّا إدريس) ففرّ ولحق بمصر، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان واضح يتشيّع، فعلم شأن إدريس وأتاه إلى الموضع الّذي كان به مستخفيا ولم ير شيئا أخلص من أن يحمله على البريد إلى المغرب ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى هو ومولاه راشد، ونزل بولية [1] سنة اثنتين وسبعين وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة وكبيرهم لعهده فأجاره، وأجمع البرابر على القيام بدعوته، وكشف القناع في ذلك، واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسدراتة وغياثة ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة البرابر بالمغرب فبايعوه، وقاموا بأمره. وخطب الناس يوم بويع فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه لا تمدّن الأعناق إلى غيرنا فإنّ الّذي تجدونه عندنا من الحق لا تجدونه عند غيرنا ولحق به من إخوته سليمان، ونزل بأرض زناتة من تلمسان ونواحيها، ونذكر خبره فيما بعد. (ولما استوثق) أمر إدريس وتمّت دعوته زحف إلى البرابرة الذين كانوا بالمغرب على دين المجوسيّة واليهوديّة والنصرانيّة مثل قندلاوة وبهلوانه ومديونة وما زار وفتح تامستا [2] ومدينة شاله وتادلا [3] وكان أكثرهم على دين اليهوديّة والنصرانيّة فأسلموا على يديه طوعا وكرها وهدم معاقلهم وحصونهم. ثم زحف إلى تلمسان وبها من قبائل بني يعرب ومغراوه سنة ثلاث وسبعين، ولقيه أميرها محمد بن حرز بن جزلان فأعطاه الطاعة، وبذل له إدريس الأمان ولسائر زناتة فأمكنه من قياد البلد، وبنى مسجدها وأمر بعمل منبره وكتب اسمه فيه حسبما هو مخطوط في صفح [4] المنبر لهذا العهد.
ورجع إلى مدينة وليلى ثم دسّ إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز ويعرف بالشمّاخ أنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه، ولحق بإدريس مظهرا النزوع
__________
[1] هي وليلى: مدينة بالمغرب قرب طنجة (معجم البلدان)
[2] هي تامست: قرية لكتامة وزناتة قرب المسيلة وأشير بالمغرب (معجم البلدان)
[3] هي تادلة: من جبال البربر بالمغرب قرب تلمسان (معجم البلدان)
[4] جنب المنبر(4/17)
إليه فيمن نزع من وهران المغرب متبرئا من الدعوة العبّاسية ومنتحلا للطلب. واختصه الإمام إدريس وحلا بعينه وكان قد تأَبَّط سمّا في سنون، فناوله إيّاه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيه كما زعموا حتفه ودفن بوليلى سنة خمس وسبعين. وفرّ الشمّاخ ولحقه فيما زعموا راشد بوادي ملويّة فاختلفا ضربتين قطع فيها راشد يد الشمّاخ، وأجاز الوادي فأعجزه، واعتلق بالبرابر من أوربة وغيرهم فجمل من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزه بايعوه حملا ثم رضيعا ثم فصيلا إلى أن شبّ واستنم فبايعوه بجامع وليلى سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة، وكان ابن الأغلب دسّ إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشدا مولاه سنة ست وثمانين، وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبديّ، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلّها واستوثق لهم الملك بها واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم. وسمته على الخرطوم وكأنها خطام، ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه.
ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب، وكثرت حاشية الدولة وأنصارها، وضاقت وليلى بهم فاعتام موضعا لبناء مدينة لهم، وكانت فاس موضعا لبني بوغش وبني الخير من وزاغة، وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم، وأسلموا كلّهم على يده. وكانت بينهم فتن فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ. ثم جاء إلى فاس وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث بعدها اختطّ عدوة القرويّين وبنى مساكنه، وانتقل إليها وأسس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويّين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف، واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العزّ والملك. ثم خرج غازيا المصامدة سنة سبع وتسعين فافتتح بلادهم ودانوا بدعوته. ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين، وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة ومحوا دعوة الخوارج منهم، واقتطع الغربيّين عن دعوة العبّاسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف. ودافع إبراهيم بن(4/18)
الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكاد، واستقاد الأولياء واستمال بهلول بن عبد الواحد المظفري بمن معه من قومه عن طاعة إدريس إلى طاعة هارون الرشيد. ووفد عليه بالقيروان، واستراب إدريس بالبرابرة فصالح إبراهيم بن الأغلب وسكن من غربة. وعجز الأغالبة من بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العبّاس بالمعاذير بالغضّ من إدريس والقدح في نسبه إلى أبيه إدريس بما هو أوهن من خيوط العناكب. (وهلك إدريس) سنة ثلاث عشرة وقام بالأمر من بعده ابنه محمد بعهده إليه فأجمع أمره بوفاة جدّته كنزة أمّ إدريس على أن يشرك إخوته في سلطانه ويقاسم ممالك أبيه. فقسّم المغرب بينهم أعمالا اختصّ منها القاسم بطنجة وبسكرة وسبته وتيطاوين وقلعة حجر النسر وما الى ذلك من البلاد والقبائل واختصّ عمر بتيكيسان وترغة وما بينهما من قبائل صنهاجة وغمارة واختص داود ببلاد هوارة وتسول وتازي وما بينهما من القبائل: مكناسة وغياثة واختص عبد الله باغمات وبلد نفيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الأقصى، واختص يحيى [1] بأصيلا والعرائش وبلاد زوغة وما إلى ذلك. واختص عيسى بشالة وسلا وازمور وتامسنا وما الى ذلك من القبائل واختص حمزة بو ليلى واعمالها وأبقى الباقين في كفالتهم وكفالة جدّتهم كنزة لصغرهم وبقيت تلمسان لولد سليمان بن عبد الله وخرج عيسى بأزمور [2] على أخيه محمد طالبا الأمر لنفسه، فبعث لحربه أخاه عمر بعد أن دعا القاسم لذلك فامتنع. ولما أوقع عمر بعيسى وغلب على ما في يده استنابه إلى أعماله بإذن أخيه محمد. ثم أمره أخوه محمد بالنهوض إلى حرب القاسم لقعوده عن إجابته، في محاربة عيسى فزحف إليه، وأوقع به، واستناب عليه إلى ما في يده فصار الريف البحري كلّه من عمل عمر هذا من تيكيشاش، وبلاد غمارة إلى سبته، ثم إلى طنجة، وهذا ساحل البحر الرومي، ثم ينعطف إلى أصيلا ثم سلا، ثم أزمور وبلاد تامستا، وهذا ساحل البحر الكبير. وتزهّد القاسم وبنى رباطا بساحل أصيلا للعبادة إلى أن هلك، واتسعت ولاية عمر بعمل عيسى والقاسم، وخلصت طويته لأخيه
__________
[1] (هكذا بياض بالأصل والظاهر من النسخة المغربية المجلد السادس المختص ببلاد المغرب ان البياض ترك من قبل الناسخ وذلك دون مبرز)
[2] ربما هي أزمورة: «ثلاث ضمات متواليات، وتشديد الميم، والواو ساكنة وراء مهملة: بلد بالمغرب في جبال البربر» (معجم البلدان)(4/19)
محمد الأمير، وهلك في إمارة أخيه محمد ببلد صنهاجة بموضع يقال له: فجّ الفرص سنة عشرين ومائتين، ودفن بفاس وعمر هذا هو جدّ المحموديّين الدائلين بالأندلس من بني أمية كما نذكره، وعقد الأمير محمد على عمله لولده عليّ بن عمر. ثم كان مهلك الأمير محمد لسبعة أشهر من مهلك أخيه عمر سنة إحدى وعشرين ومائتين بعد أن استخلف ولده عليّا في مرضه وهو ابن تسع سنين فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة وبايعوه غلاما مترعرعا وقاموا بأمره وأحسنوا كفالته وطاعته فكانت أيامه خير أيام، وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه يحيى بن محمد فقام بالأمر، وامتدّ سلطانه وعظمت دولته، وحسنت آثار أيامه. واستجدّت فاس في العمران وبنيت بها الحمامات والفنادق للتجار، وبنيت الأرباض، ورحل إليها الناس من الثغور القاصية واتفق أن نزلتها امرأة من أهل القيروان تسمّى أم البنين بنت محمد الفهريّ، وقال ابن أبي ذرع اسمها فاطمة، وانها من هوّارة، وكانت مثرية بموروث أفادته من ذويها، واعتزمت على صرفه في وجوه الخير فاختطت المسجد الجامع بعدوة القرويّين أصغر ما كان سنة خمس وأربعين في أرض بيضاء كان أقطعها الإمام إدريس، وأنبطت بصحنها بئرا شرابا للناس، فكأنما نبّهت بذلك عزائم الملوك من بعدها، ونقلت إليه الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته وجوار بيته. واختط بعد ذلك أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليغرنيّ صومعته سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، على رأس مائة سنة من اختطاط الجامع حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها. ثم أوسع في خطته المنصور بن أبي عامر، وجلب إليه الماء وأعدّ له السقاية والسلسلة بباب الحفاة منه.
ثم أوسع في خطته آخر ملوك لمتونة من الموحدين، وبني مرين واستمرّت العمارة به، وانصرفت هممهم الى تشييده والمنافسات في الاحتفال به فبلغ الاحتفال فيه ما شاء الله حسبما هو مذكور في تواريخ المغرب وهلك يحيى هذا سنة [1] وولى ابنه يحيى بن يحيى فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم وثارت به العامّة لمركب شنيع أتاه وتولى كبر الثورة عبد الرحمن بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عدوة القرويّين الى عدوة الاندلسيّين فتوارى ليلتين ومات أسفا ليلته. وانقطع الملك من عقب محمد
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد وفاة يحيى بن محمد في المراجع التي بين أيدينا.(4/20)
ابن إدريس، وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمّه عليّ بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه، واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه عبد الرزاق الخارجي، خرج بجبال لمتونة وكان على رأي الصفريّة فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرّ إلى أروبة وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويّين، وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم في جموعه، وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثعلبة بن محارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة من ولد المهلّب بن أبي صفرة. ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقام بالأمر مكانه يحيى بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب، وكان أعلى بني إدريس ملكا وأعظمهم سلطانا، وكان فقيها عارفا بالحديث ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة، وفي أثناء ذلك كله خلط [1] الملك للشيعة بإفريقية، وتغلّبوا على الاسكندرية واختطوا المهديّة كما نذكره في دولة كتامة. ثم طمحوا إلى ملك المغرب وعقدوا لمضالة بن حبوس كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة، فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة، وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب، وأولياء الدولة من أوربة وسائل البرابرة والموالي، والتقوا على مكناسة وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولا وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه، يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر، وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المهديّ وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمّه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ وصاحب سنور وتازير [2] على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى. وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضطغنها كل واحد
__________
[1] هكذا بالأصل وليس لها معنى هنا ولعلها خلص وقد حرّفها الناسخ
[2] وفي نسخة ثانية سنوره تازه(4/21)
لصاحبه حتى إذا عاد مضالة إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغزاه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه، وولىّ على فاس ريحان الكتاميّ. ثم خرج يحيى يريد إفريقية فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنتين وأطلقه ولحق بالمهدية منه إحدى وثلاثين وهلك في حصار أبي يزيد سنة [1] واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاثة عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقب بالحجّام، ونفى ريحان عنها وملكها عامين، وزحف للقاء موسى بن أبي العافية وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزما وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكرا فتدلى من السور فسقط ومات من ليلته وفرّ حامد ابن حمدان إلى المهديّة، وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن ثعلبة بن محارب وابنيه محمدا ويوسف وذهب ملك الأدارسة، واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس، وأخاه الحسن إلى الريف فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن وولّوه عليهم واختط لهم الحصن المعروف بهم لك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك. وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة عليّ بن إدريس سنة تسع عشرة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر فانجابوا له عنها وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد كبير بني محمد فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون، وهو أخو الحسن الحجّام، واسمه القاسم بن محمد بن القاسم، وقام بدعوة الشيعة انحرافا عن أبي العافية ومذاهبه. واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة. ودخلت دعوة المروانيين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلّبت زناتة على الضواحي. ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مغراوة وأقام
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد وفاته في المراجع التي لدينا(4/22)
الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد، وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلّب عليهم المروانيون وأنحنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية. وبعث العزيز العبيديّ بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله. وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب، وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أنّ الأدارسة لما انقرض سلطانهم وصاروا إلى بلاد غمارة واستجدّوا بها رياسة، واستمرّت في بني محمد وبني عمر من ولد إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة.
وكان بنو حمود هؤلاء [1] من غمارة فأجازوا مع البربر حين أجازوا في مظاهرة المستعين. ثم غلبوه بعد ذلك على الأمر وصار لهم ملك الأندلس حسبما نذكر في أخبارهم. (وأما سليمان) أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العبّاسيّين فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس، وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه. ولحق بتلمسان فملكها وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك، وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط، واقتسموا ممالكه ونواحيه فكانت تلمسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الّذي يدّعي بنو عبد الواد نسبه، فإنّ هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى.
وكانت أرشكول لعيسى بن محمد بن سليمان وكان منقطعا إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان، ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش، ولم تزل إمارتها في ولده، ووليها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم، وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعا إلى عبد الرحمن الناصر وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة، ثم انحرف عنهم فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلويّة نابذ أولياء الشيعة فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش، وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول. ثم حاصرها البوري بن موسى
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وبعد مراجعة نسخ اخرى تبين لنا ان الناسخ ترك الفراغ دون مبرر(4/23)
ابن أبي العافية وغلب عليهما، وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة، وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد، ثم ابنه عليّ بن يحيى، وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ففرّ إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقّاهما رحبا وتكرمة.
ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها. وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبطوش بن حناتش بن الحسن ابن محمد بن سليمان، قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جدّا، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية. وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون لك عند البربر والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن صاحب الزنج وتصاريف أمره واضمحلال دعوته)
هذه الدعوة فيها اضطراب منذ أوّلها فلم يتمّ لصاحبها دولة، وذلك أنّ دعاة العلوية منذ زمان المعتصم من الزيدية كما شرحناه، وكان من أعظمهم الذين دعا لهم شيعتهم بالنواحي عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، ولما اشتهر أمره فرّ وقتل ابن عمه عليّ بن محمد بن الحسن بن علي بن عيسى، وبقي هو متغيبا فادّعى صاحب الزنج هذا سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهدي أنه هو، فلما ملك البصرة ظهر هذا المطلوب، ولقيه صاحب الزنج حيّا معروفا بين الناس فرجع عن دعوى نسبه وانتسب إلى يحيى بن يزيد قتيل الجون، ونسبه المسعودي إلى طاهر بن الحسين بن عليّ، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر.
ويشكل [1] ذلك بأنّ الحسين بن فاطمة لم يكن له عقب إلّا من زين العابدين، قاله ابن حزم وغيره، فإن أراد بطاهر طاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن عبيد الله بن
__________
[1] هكذا بالأصل ولعلها يشك وهذا تحريف من الناسخ.(4/24)
الحسن الأصغر بن زين العابدين فتطول سلسلة نسبه، وتشتمل على اثني عشر إلى الحسين بن فاطمة، ويبعد ذلك إلى العصر الّذي ظهر فيه. والّذي عليه المحقّقون الطبري وابن حزم وغيرهما أنه رجل من عبد القيس من قرية تسمّى ودريفن من قرى الري، واسمه علي بن عبد الرحيم حدّثته نفسه بالتوثّب، ورأى كثرة خروج الزيديّة من الفاطميين فانتحل هذا النسب وادّعاه، وليس من أهله. ويصدّق هذا أنه كان خارجيّا على رأي الأزارقة يلعن الطائفتين من أهل الجمل وصفين، وكيف يكون هذا من علويّ صحيح النسب؟ ولأجل انتحاله هذا النسب وبطلانه في دعاويه فسد أمره فقتل ولم تقم له دولة بعد أن فعل الأفاعيل وعاث في جهات البصرة، واستباح الأمصار وخرّبها، وهزم العساكر وقتل الأمراء الأكابر، واتخذ لنفسه حصونا قتل فيها من جاوبه لمكره سنة الله في عباده. (وسياق الخبر عنه) أنه شخص من الذين حجبوا ببغداد مع جماعة من حاشية المنتصر، ثم سار إلى البحرين سنة تسع وأربعين ومائتين فادّعى أنه علويّ من ولد الحسين بن عبيد الله بن العباس بن عليّ، ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل هجر. ثم تحوّل إلى الإحساء، ونزل على بعض بني تميم ومعه قوارة يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع، وقاتل أهل البحرين فهزموه وافترقت العرب عنه، ولحق بالبصرة والفتنة فيها بين البلاليّة والسعديّة، وبلغ خبره محمد بن رجاء العامل فطلبه فهرب وحبس ابنه وزوجته وبعض أصحابه، ولحق هو ببغداد فانتسب إلى عيسى بن زيد الشهيد كما قلناه، وأقام بها حولا، ثم بلغه أنّ البلالية والسعدية أخرجوا محمد بن رجاء من البصرة، وأن أهله خلصوا فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين، ومعه يحيى بن محمد وسليمان بن جامع. ومن أهل بغداد الذين استمالهم جعفر بن محمد الصمد حاني وعلي بن أبان وعبدان غير من سمينا فنزل بظاهر البصرة، ووجّه دعوته إلى العبيد من الزنوج وأفسدهم على مواليهم ورغّبهم في العتق، ثم في الملك، واتخذ راية رسم فيها أنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية. وجاءه موالي العبيد في طلبهم فأمرهم بضربهم وحسبهم، ثم أطلقهم. وتسايل إليه الزنوج واتبعوه وهزم عساكر البصرة والأبلّة وذهب إلى القادسية، وجاءت العساكر من بغداد فهزمهم ونهب النواحي، وجاء المدد إلى البصرة مع جعلان من قوّاد الترك وقاتلوه فهزمهم. ثم ملك الأبلّة واستباحها، وسار إلى الأهواز وبها إبراهيم بن المدير على الخوارج. فافتتحها وأسر ابن(4/25)
المدير سنة ست وخمسين إلى أن فرّ من محبسهم، فبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع وخمسين، وهو يومئذ عامل البصرة وسار من واسط فهزمه علي بن أبان من قوّاد الزنج لحربهم، هزمه إلى البحرين فتحصّن بالبصرة، وزحف علي بن أبان لحصاره حتى نزل على أمانه، ودخلها وأحرق جامعها، ونكب عليه صاحب الزنج فصرفه، وولّى على البصرة مكانه يحيى بن محمد البحراني، وبعث المعتمد محمد بن المولد إلى البصرة فأخرج عنه الزنج، ثم بيتوا محمد بن المولد فهزموه. ثم ساروا إلى الأهواز وعليها منصور الخيّاط فواقع الزنج فغلبوه وكان المعتمد قد استقدم أخاه أبا أحمد الموفّق من مكة وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح.
ثم انهزم سعيد بن صالح فعقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه، ثم قتله الزنج كما قلناه فأمر المعتمد أخاه الموفّق بالمسير إليهم في ربيع سنة ثمان وخمسين، وعلى مقدّمته مفلح فأجفل الزنج عن البصرة، وسار قائدهم عليّ بن أبان فلقي مفلحا فقتل مفلح وانهزم أصحابه ورجع الموفّق إلى سامرّا، وكان اصطيخور ولي الأهواز بعد منصور الخيّاط، وجاءه يحيى بن محمد البحراني من قوّاد الزنج، وبلغهم مسير الموفّق فانهزم يحيى البحراني، ورجع في السفن، فأخذ وحمل إلى سامرّا فقتل [1] . وبعث صاحب الزنج مكانه عليّ بن أبان وسليمان الشعراني [2] فملكوا الأهواز من يد اصطيخور [3] سنة تسع وخمسين، بعد أن هزموه وهرب في السفن فغرق. وسرّح المعتمد لحربهم موسى بن بغا بعد أن عقد له على تلك الأعمال فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة إسحاق بن كيداجق [4] ، وإلى باداورد إبراهيم بن سليمان [5] ، وأقاموا في حروبهم مدّة سنة ونصفها. ثم استعفى موسى بن بغا وولّى على تلك
__________
[1] قصة انهزام يحيى البحراني غير واضحة ومبتورة وفي كتاب «ثورة الزنج» للدكتور فيصل السامر ص 114: «وفي موقعة اخرى جرت في الأهواز جرح وأسر أحد قواد الزنج الكبار وهو يحيى البحراني وأخذ الى سامرّاء حيث ضرب بالسياط على مرأى من الناس وقطعت يداه، ورجلاه ثم ذبح وأحرق» .
[2] هما: علي بن أبان المهلبي وسليمان بن موسى الشعراني.
[3] اصعجور: ابن الأثير ج 7 ص 259
[4] إسحاق بن كنداجق: ابن الأثير ج 7 ص 260
[5] وإلى باذاورد إبراهيم بن سيما: المرجع السابق.(4/26)
الأعمال مكانه مسرور البلخي، وجهّز المعتمد أخاه أبا أحمد الموفّق لحربهم بعد أن عهد له بالخلافة ولقّبه الناصر لدين الله الموفق، وولّي على أعمال المشرق كلها إلى آخر أصفهان وعلى الحجاز، فسار لذلك سنة اثنتين وستين، واعترضه يعقوب الصفّار يريد بغداد فشغل بحربة، وانهزم الصفّار وانتزع من يده ما كان ملكه من الأهواز، وكان مسرور البلخي قد سار إلى المعتمد وحضر معه حرب الصفّار، فاغتنم صاحب الزنج خلوّ تلك النواحي من العسكر وبث سراياه للنهب والتخريب في القادسيّة، وجاءت العساكر من بغداد مع أغرتمش وخشتش [1] فهزمهم الزنج وقائدهم سليمان ابن جامع، وقتل خشتش. وكان علي بن أبان من قوّادهم قد سار إلى الأهواز، وأميرها يومئذ محمد بن هزارمرد الكردي، فبعث مسرور البلخي أحمد بن الينونة [2] للقائهم فغلب أولا على الأهواز عليّ بن أبان. ثم ظاهره محمد بن هزارمرد والأكراد فرجع إلى السوس، وأقام علي بن أبان وصاحبه بتستر، وطمع أنه يخطب لصاحب الزنج فخطب هو للصفّار فاقتتلا، وانهزم علي بن أبان وخرج واضطربت فارس بالفتنة. ثم ملك الصفّار الأهواز وواعد الزنج، وسار سليمان بن جامع من قوّاد الزنج، وولّى الموفّق على مدينة واسط أحمد بن المولد، فزحف إليه الخليل بن أبان فهزمه، واقتحم واسطا واستباحها سنة أربع وستين وضربت خيولهم في نواحي السواد إلى النعمانية إلى جرجرايا فاستباحوها، وسار عليّ بن أبان إلى الأهواز فحاصرها واستعمل الموفّق عليها مسرورا البلخيّ فبعث تكيد البخاريّ [3] إلى تستر فهزمهم علي ابن أبان وجماعة الزنج، وسألوه الموادعة فوادعهم واتهمه مسرور فقبض عليه، وبعث مكانه أغرتمش فهزم الزنج أوّلا ثم هزموه ثانيا فوادعهم. ثم سار علي بن أبان الى محمد بن هزارمرد الكرديّ فغلبه على رامهرمز حتى صالحه عليها على مائتي ألف درهم، وعلى الخطبة له في أعماله. ثم سار ابن أبان لحصار بعض القلاع بالأهواز، فزحف إليه مسرور البلخيّ فهزمه واستباح معسكره. وكان الموفّق لما اقتحم الزنج مدينة واسط بعث ابنه أبا العبّاس سنة ست وستين في عشرة آلاف من المقاتلة، ومعه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصير فكتب إليه نصير بأن سليمان بن جامع أقبل في
__________
[1] حشيش: ابن الأثير ج 7 ص 293
[2] احمد بن ليثويه: ابن الأثير ج 7 ص 294
[3] تكين البخاري: ابن الأثير ج 7 ص 329(4/27)
المقاتلة والسفن برّا وبحرا، وعلى مقدّمته الجناني [1] ، ولحقهم سليمان بن موسى الشعراني بالعساكر، ونزلوا من الطفح إلى أسفل واسط، فسار إليهم أبو العبّاس فهزمهم، فتأخروا وراءهم وأقام على واسط يردّد عليهم الحروب والهزائم مرة بعد أخرى، ثم أمر صاحب الزنج قائده ابن أبان وابن جامع أن يجتمعا لحرب أبي العبّاس بن الموفّق، وبلغ ذلك الموفّق فسار من بغداد في ربيع سنة سبع وستين فانتهى إلى المنيعة، وقاتل الزنج فانهزموا أمامه واتبعهم أصحاب أبي العبّاس ابنه فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا وأسروا، وهدم سور المنيعة وطمس خندقها وهرب الشعراني وابن جامع. وسار أبو العبّاس إلى المنصورة بطهشا [2] فنازلها وغلب عليها، وأفلت ابن جامع إلى واسط وغلب على ما فيها من الذخائر والأموال، وهدم سورها وطمّ خنادقها ورجع إلى واسط. ثم سار الموفّق إلى الزنج بالأهواز واستخلف ابنه هارون على جنده بواسط، وجاءه الخبر برجوع الزنج إلى طهشا والمنصورة، فردّ إليهم من يوقع بهم ومضى لوجهه فانتهى إلى السوس وعليّ بن أبان بالأهواز، فسار إلى صاحبه واستأمن المخلفون لك إلى الموفّق فامّنهم، وسار إلى تستر وأمّن محمد بن عبد الله الكردي، ثم وافى الأهواز وكتب إلى ابنه هارون أن يوافيه بالجند بنهر المبارك من فرات البصرة، وبعث ابنه أبا العبّاس لحرب الخبيث بنهر أبي الخصيب واستأمن إليه جماعة من قوّاده فأمّنهم وكتب إليه بالدعوة والأعذار، وزحف إليه في مدينته المختارة له، وأطلق السفن في البحر وعبّى عساكره وهي نحو من خمسين ألفا والزنج في نحو من ثلاثمائة ألف مقاتل، ونصب الآلات ورتّب المنازل للحصار، وبنى المقاعد للقتال، واختطّ مدينة الموفقية لنزوله، وكتب بحمل الأموال والميرة إليها فحملت، وقطع الميرة.
عن المختارة، وكتب إلى البلاد بإنشاء السفن والاستكثار منها، وقام يحاصرها من شعبان سنة سبع وستين إلى صفر من سنة سبعين. ثم اقتحم عليهم المختارة فملكها وفرّ الخبيث وابنه أنكلاي وابن جامع إلى معقل أعدّه واتبعه طائفة من الجند فانقطعوا عنه، وأمرهم من الغد باتباعه فانهزم وقتل من أصحابه وأسر ابن جامع. ثم قتل صاحب الزنج وجيء برأسه ولحق أنكلاي بالديناري في خمسة آلاف، ولحقهم أصحاب الموفّق فظفروا بهم وأسروهم أجمعين. وكان درمونة من قوّاده قد لحق
__________
[1] الحياتي: ابن الأثير ج 7 ص 338
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 345 طهثا.(4/28)
بالبطيحة، واعتصم بالمغايض والآجام ليقطع الميرة عن أصحاب الموفّق، فلما علم بقتل صاحبه استأمن إلى الموفّق فأمّنه، ثم أقام الموفّق بمدينته قليلا وولّى على البصرة والأبلّة وكور دجلة، ورجع إلى بغداد فدخلها في جمادى سنة سبعين، وكان لصاحب الزنج من الولد محمد ولقبه انكلاي ومعناه بالزنجية ابن الملك، ثم يحيى وسليمان والفضل حبسوا في المطبق إلى أن هلكوا. والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن دعاة الديلم والجيل من العلويّة وما كان لهم من الدولة بطبرستان للدّاعي وأخيه أولا ثم الأطروش وبنيه وتصاريف ذلك إلى انقضائه)
(كان) أبو جعفر المنصور قد اختص من العلوية من بني الحسن السبط حافده الحسن ابن زيد بن الحسن وولّاه المدينة، وهو الّذي امتحن الإمام مالكا رحمه الله كما هو معروف. وهو الّذي أغرى المنصور من قبل ببني حسن وأخبره بدسيسة محمد المهديّ وابنه عبد الله في شأن الدعاء لهم حتى قبض عليهم وحملهم إلى العراق كما قدّمناه.
وكان له عقب بالريّ منهم: الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن والي المدينة، ولما حدث بين عامل طبرستان محمد بن أوس الكافل بها لسليمان بن عبد الله ابن طاهر نائبا عن محمد بن طاهر صاحب خراسان، وبين محمد وجعفر من بني رستم من أهل نواحي طبرستان حادث فتنة، وقد تقدّم ذكرها، أغروا به أهل تلك النواحي وبعثوا إلى الديلم ليستنجدوا بهم عليه، وكانوا على المجوسيّة يومئذ، وهم حرب لمحمد بن أوس لدخوله بلادهم، وقتله وسبيه منهم أيام المسالمة، وملكهم يومئذ وهشوذان بن حسّان فأجابوا ابني رستم إلى حربه. وبعث ابنا رستم إلى محمد بن إبراهيم بطبرستان لكون الدعوة له فامتنع، ودلّهم على الحسن بن زيد بالري فاستدعوه بكتاب محمد بن إبراهيم فشخص إليهم، وقد اتفق الديلم وابنا رستم وأهل ناحيتهم على بيعته فبايعوه، وانضم إليهم أهل جبال طبرستان. وزحف إلى آمد فقاتله ابن أوس دونه، وخالفه الحسن بن زيد في جماعة إلى آمد فملكها، ونجا ابن أوس إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بسارية وزحف إليهم الحسن فخرجوا للقائه فناشبهم(4/29)
الحرب، وبعث بعض قوّاده إلى سارية فملكها، وانهزم سليمان إلى جرجان، واستولى الحسن على معسكره بما فيه وعلى حرمه وأولاده فبعثهم إليه في السفن. ويقال إنّ سليمان انهزم له لدسيسة التشيّع التي كانت في بني طاهر، ثم أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان فملكها وهرب عنها سليمان، ثم بعث الحسن دعاته إلى النواحي وكان يعرف بالداعي العلويّ فبعث الى الري القاسم ابن عمّه علي بن إسماعيل، وبها القاسم بن علي بن زين العابدين السمري فملكها، واستخلف بها محمد بن جعفر بن أحمد بن عيسى بن حسين الصغير ابن زين العابدين. وبعث إلى قزوين الحسين المعروف بالكوكبي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن جعفر، وهزمه وأسره فبعث الحسن بن زيد قائده دواجن إلى محمد بن ميكال فهزمه وقتله، وملك الري من يده، وذلك سنة خمسين ومائتين. ثم زحف سليمان بن عبد الله بن طاهر من جرجان في العساكر فأجفل الحسن بن زيد عن طبرستان إلى الديلم ودخلها سليمان. ثم قصد سارية وأتاه ابنا قاران بن شهرزاد من الديلم وأتاه أهل آمد وغيرهم طائعين فصفح عنهم. ثم سار محمد بن طاهر إلى لقاء الحسن فهزمه، وقتل من أعيان أصحابه ثلاثمائة وأربعين رجلا. ثم زحف موسى بن بغا لحربهم سنة ثلاث وخمسين فلقيه الحسن الكوكبي على قزوين، وانهزم إلى الديلم واستولى موسى بن بغا على قزوين. ثم رجع الكوكبيّ سنة ست وخمسين، فاستولى على الريّ واستولى القاسم بن عليّ بعدها على الكرخ سنة سبع. ثم زحف الحسن بن زيد إلى جرجان وبعث إليهما محمد بن طاهر صاحب خراسان العساكر فهزمهم الحسن، وغلبهم عليها وانتقض أمر ابن طاهر بخراسان من يومئذ واختلف المغلبون عليه، وكان ذلك داعيا إلى انتزاع يعقوب الصفّار خراسان من يده. ثم غلبه الحسن سنة تسع وخمسين على قومس.
(استيلاء الصفار على طبرستان)
كان عبد الله السخري ينازعه يعقوب بن الليث الصفّار الرئاسة بسجستان، فلما استولى يعقوب على الأمر هرب عبد الله إلى نيسابور مستجيرا بابن طاهر فأجاره. فلما هلك يعقوب الصفّار بنيسابور هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد ونزل سارية وبعث فيه(4/30)
يعقوب الصفّار فلم يسلّمه الحسن بن زيد، فسار إليه يعقوب سنة ستين، وهزمه فلحق بأرض الديلم ولحق عبد الله بالري، وملك يعقوب سارية وآمد وجبى خراجها، وسار في طلب الحسن فتعلّق بجبال طبرستان، واعترضه الأمطار والأوحال فلم يخلص إلّا بمشقّة. وكتب إلى الخليفة بخبر الحسن وما فعله معه، وسار إلى الريّ في طلب عبد الله السخري فأمكنه منه، وإلى الريّ فقتله. ثم رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان سنة إحدى وستين، وغلب عليها أصحاب الصفّار وأقطعتها عنهم. ثم انتقض السجستانيّ [1] على يعقوب بن الليث بخراسان وملكها من يده كما ذكرناه، فسار وحاربه أبو طلحة بن شركب وأمره الحسن بن زيد فسار السجستاني إلى محاربته بسبب ذلك سنة خمس وستين، وانتزع جرجان من يده، ثم خرج عنها لقتال عمرو ابن الليث بعد موت أخيه يعقوب كما نذكر في أخبارهم، فملكها الحسن بن زيد. ثم أوقع السجستاني بالحسن بن زيد سنة ست وستين، كبسه بجرجان وهو غاز فهزمه ولحق بآمد وملك سارية، واستخلف عليها الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله الشيعي بن الحسين الأصغر بن زين العابدين [2] . وانصرف فأظهر الحسن بسارية قتل الحسن بن زيد، ودعا لنفسه فبايعه جماعة، ثم وافاه الحسن بن زيد فظفر به وقتله.
(وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه)
ثم توفي الحسن بن زيد صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين وولي مكانه أخوه محمد، وكان قيامهم أولا على ابن طاهر كما ذكرناه. ثم غلب يعقوب الصفّار على خراسان وانتقض عليه أحمد السجستاني، وملكها من يده. ثم مات يعقوب سنة خمس وستين وولي مكانه أخوه عمرو، وزحف إلى خراسان، وقاسم السجستاني فيها وكانت بينهما حروب، وكان الحسن داعي طبرستان يقابلهما جميعا إلى أن هلك، وولي مكانه أخوه كما ذكرناه. وكانت قزوين تغلّب عليها أثناء ذلك عساكر الموفّق ووليها أذكوتكين من مواليهم فزحف إلى الري سنة اثنتين وسبعين، وزحف إليه محمد
__________
[1] الخجستاني: ابن الأثير ج 7 ص 296.
[2] الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيقي: ابن الأثير ج 7 ص 335.(4/31)
بن زيد في عالم كبير من الديلم وأهل طبرستان وخراسان فانهزم، وقتل من عسكره ستة آلاف، وأسر ألفان، وغنم أذكوتكين عسكره جميعا وملك الريّ وفرّق عمّاله في نواحيها. ثم مات السجستاني وقام بأمره في خراسان رافع بن الليث من قوّاد الظاهريّة فغلب محمد بن زيد على طبرستان وجرجان فلحق بالديلم، ثم صالحه سنة إحدى وثمانين وخطب له فيها سنة اثنتين وثمانين على أن ينجده على عمرو بن الليث. وكتب له عمرو بن الليث يعذله عن ذلك فأقصر عنه، فلمّا غلب عمرو على رافع رعى لمحمد ابن زيد خذلانه لرافع فخلّى له عن طبرستان وملكها.
(مقتل محمد بن زيد)
كان عمرو بن الليث لما ملك خراسان، وقتل رافع بن هرثمة، طلب من المعتضد ولاية ما وراء النهر فولّاه. واتصل الخبر بإسماعيل بن أحمد الساماني ملك تلك الناحية فعبر جيحون وهزم جيوش عمرو بن الليث ورجع إلى بخارى، فزحف عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ وأعوزه العبور. وجاء إسماعيل فعبر النهر، وأخذ عليه الجهات بكثرة جموعه فأصبح كالمحاصر، ثم اقتتلوا فانهزم عمرو وأسره إسماعيل وبعث به إلى المعتضد سنة ثمان وثمانين فحبسه إلى أن قتل، وعقد لإسماعيل على ما كان بيد عمرو. ولما اتصل بمحمد بن زيد، واقعة عمرو وأمره سار من طبرستان لا يرى أنّ إسماعيل يقصدها، فلما انتهى إلى جرجان بعث إليه إسماعيل يصدّه عن ذلك فأبى، فسرّح إليه محمد بن هارون، وكان من قوّاد رافع بن هرثمة، وصار من قوّاد إسماعيل ابن سامان فلقي محمد بن زيد على جرجان واقتتلوا فانهزم محمد بن هارون أولا، ثم رجعت الكرّة على محمد بن زيد، وافترقت عساكره وقتل من عسكره عالم وأسر ابنه زيد، وأصابته هو جراحات هلك منها لأيام قلائل، وغنم ابن هارون عسكره بما فيه، وسار إلى طبرستان فملكها وبعث يزيد إلى إسماعيل فأنزله ببخارى، ووسع عليه الإنفاق واشتدّت عليه شوكه الديلم وحاربهم إسماعيل سنة تسع وثمانين، وملكهم يومئذ ابن حسّان فهزمهم، وصارت طبرستان وجرجان في ملك بني سامان مع خراسان، إلى أن ظهر بها الأطروش كما نذكر بعد. ويقال إنّ زيد بن محمد بن زيد ملك طبرستان من بعد ذلك إلى أن توفي وملكها من بعده ابنه الحسن بن زيد.(4/32)
(ظهور الأطروش العلويّ وملكه طبرستان)
الأطروش هذا من ولد عمر بن زين العابدين الّذي كان منهم داعي الطالقان أيام المعتصم، وقد مرّ ذلك. واسم الأطروش الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمر، دخل إلى الديلم بعد مقتل محمد بن زيد وأقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم المساجد وحملهم على رأي الزيديّة فدانوا به.
ثم دعاهم إلى المسير معه إلى طبرستان. وكان عاملها محمد بن نوح من قبل أحمد بن إسماعيل بن سامان، وكان كثير الإحسان إليهم فلم يجيبوا الأطروش إلى البغي عليه. ثم عزل ابن سامان عن طبرستان ابن نوح وولّى عليها غيره، فأساء السيرة فأعاد إليها ابن نوح، ثم مات فاستعمل عليها أبا العبّاس محمد بن إبراهيم صعلوكا فأساء السيرة وتنكّر لرؤساء الديلم، فدعاهم الحسن الأطروش للخروج معه فأجابوه فسار إليهم صعلوك، ولقيهم بشاطئ البحر على مرحلة من سالوس فانهزم وقتل من أصحابه نحو من أربعة آلاف، وحصر الأطروش بقيتهم في سالوس حتى استأمنوا إليه فأمّنهم ونزل آمد. وجاء صهره الحسن بن قاسم بن عليّ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن بن زيد والي المدينة، وقد مر ذكره، فلم يحضر قتل أولئك المستأمنين، واستولى الأطروش على طبرستان وتسمّى الناصر، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، ولحق صعلوك بالريّ، وسار منها إلى بغداد. ثم زحف الناصر سنة اثنتين [وثلاثمائة] فخرج عن آمد ولحق بسالوس، وبث إليه صعلوك العساكر فهزمهم الحسن الداعي وهو الحسن بن زيد. ثم زحفت إليه عساكر خراسان وهي للسعيد نصر بن أحمد فقتلوه سنة أربع وثلاثمائة، وولي صهره وبنوه وكانت بينهم حروب بالديلم كما نذكره. وكان له من الولد أبو القاسم وأبو الحسن وكان قوّاده من الديلم جماعة منهم ليلى بن النعمان، وولّاه صهره الحسن بعد ذلك جرجان، وما كان بن كالي، وكانت له ولاية أستراباذ، ويقرأ من كتاب الديلم، وكان من قوّاده من الديلم جماعة أخرى منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان ومرداويج [1] من أصحاب اسفار
__________
[1] قال المسعودي في مروج الذهب وتفسير مرداويج معلق الرجال وقد يكتب مزداويج بالزاي.
ابن خلدون م 3 ج 4(4/33)
والسيكري من أصحابه أيضا، ومولويه من أصحاب مرداويح، ويأتي الخبر عن جميعهم. وكان الحسن بن قاسم صهر الأطروش، وكان رديفه في الأمر حتى كان يعرف بالداعي الصغير، واستعمل على جرجان سنة ثمان وثلاثمائة ليلى بن النعمان من كبار الديلم. وكان له مكان في قومه، وكان الأطروش وأولاده يلقّبونه المؤيد لدين الله، المنتصر لآل رسول الله، وكانت خراسان يومئذ لنصر بن أحمد من بني سامان.
وكان الدامغان ثغرها من ناحية طبرستان، وكان بها فراتكين من موالي ابن سامان فوقعت بينه وبين ليلى حروب وهزمه ليلى، واستفحل أمره ونزع إليه فارس مولى فراتكين فأكرمه وأصهر إليه بأخته واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص وهو ابن أخت أحمد بن سهل قائد السامانية عند ما نكب خاله أحمد فأمّنه وأجاره. ثم حرّضه الحسن بن قاسم الداعي الصغير على المسير إلى نيسابور، فسار إليها ومعه أبو القاسم بن حفص فملكها من يفراتكين سنة ثمان وثلاثمائة، وخطب بها للداعي. وأنفذ السعيد نصر عساكره إليه من بخارى مع قائده حمويه بن عليّ، ومعه محمد بن عبيد الله البلعمي وأبو جعفر صعلوك، وخوارزم شاه وسيجور الدواني ويقراخان فلقيهم ليلى بطوس، وقاتلوه فانهزم إلى آمد ولم يقدر على الحصار، ولحقه يقراخان فقبض عليه وبعث حمويه من قتله، واستأمن الديلم إليهم فأمّنوهم، وأشار حمويه بقتلهم فاستجار بالقواد، وبعث برأس ليلى إلى بغداد، وذلك في ربيع من سنة تسع وبقي فارس مولى فراتكين بجرجان.
(امارة العلوية بطبرستان بعد الأطروش)
ولما قتل الحسن الأطروش سنة أربع وثلاثمائة، كما قدّمناه، ولّى مكانه بطبرستان صهره، وهو الحسن بن القاسم، وقد مرّ ذكره، ويسمّى بالداعي الصغير، وتلقّب بالناصر. وبعض الناس يقولون هو الحسن بن محمد أخي الأطروش، هكذا قال ابن حزم وغيره، وليس بصحيح وإنما هو صهره الحسن بن القاسم من عقب الحسين بن زيد والي المدينة. ثم من عقب حافده محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن، وكان أبو الحسن بن الأطروش بأستراباذ فبايع له ما كان بن كالي، وقام بأمره فلما قتل ليلى بن النعمان صاحب جرجان، وعاد فراتكين إليها، ثم انصرف عنها(4/34)
وجاءه أبو الحسن بن الأطروش بأستراباذ فبايع له فملكها، فبعث السعيد بن سامان صاحب خراسان قائده سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لحصاره بجرجان فحاصره شهرا، ومع الحسن صاحب جيشه سرخاب بن وهشوداب، وهو ابن عم ما كان بن كالي فلما اشتدّ بهم الحصار خرج أبو الحسن وسرخاب في ثمانية آلاف من الديلم والجند فانهزم سيجور أوّلا فأتبعوه وقد أكمن لهم الكمائن فخرجت عليهم، وقتل من الديلم والجند نحو أربعة آلاف، وخلص أبو الحسن في البحر إلى أستراباذ، ولحقه سرخاب فخلفه، وأقام سيجور بجرجان. ثم هلك سرخاب وسار أبو الحسن إلى سارية واستخلف ما كان بن كالي على أستراباذ، فاجتمع إليه الديلم وولّوه على أنفسهم، وزحف إليه عساكر السعيد بن سامان فحاصروه مدّة. ثم خرج عن أستراباذ إلى سارية فملكوها وولوا عليها يقراخان، وعادوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور، ثم سار ما كان بن كالي إلى أستراباذ وملكها من يد يقراخان، ثم ملك جرجان وأقام بها وذلك سنة عشر وثلاثمائة. ثم استولى اسفار بن شيرويه على جرجان، واستقلّ بها، وكان سبب ذلك أنه كان من أصحاب ما كان بن كالي ونكره لبعض أحواله فطرده من عسكره، وسار إلى أبي بكر بن محمد بن اليسع من السامانية بنيسابور فخدمه، وبعثه في عسكر إلى جرجان ليفتحها له، وقد كان ما كان سار إلى طبرستان وولّى على جرجان مكانه أخاه أبا الحسن عليّا، وكان أبو الحسن بن الأطروش معتقلا عنده، وهمّ ليلة بقتله، وقصده في محبسه فظفر به أبو علي وقتله، وخرج من الدار واختفى وبعث من الغد الى القوّاد فبايعوا له وولّوا على جيشه عليّ بن خرشيد ورضوا به. واستقدموا اسفار بن شيرويه فأستأذن بكر بن محمد وقدم عليهم، وسار إليهم ما كان بن كالي فحاربوه وغلبوه على طبرستان، وأنزلوا بها أبا عليّ بن الأطروش فأقام بها أياما ومات على أثره عليّ بن خرشيد صاحب جيشه، وجاء ما كان بن كالي لحرب اسفار بطبرستان فانهزم اسفار ولحق ببكر بن محمد بجرجان وأقام إلى أن توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة فولّاه السعيد على جرجان، وأرسل إلى مرداويح بن دينار الجبليّ، وجعله أمير جيشه، وزحفوا إلى طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن القاسم الدّاعي قد استولى على الريّ وقزوين وزنجار وأبهر وقمّ، وقائده ما كان بن كالي الديلميّ فسار إلى طبرستان وقاتله اسفار فانهزم ما كان، والحسن بن القاسم الداعي، وقتل بخذلان أصحابه إيّاه، لأنه كان(4/35)
يشتدّ عليهم في تغيير المنكرات فتشاوروا في أن يستقدموا هذرسيدان من رؤساء الجبل، وكان خال مرداويح ووشكين فيقدّموه عليهم ويحبسوا الحسن الداعي وينصبوا أبا الحسن بن الأطروش. ونما الخبر بذلك إلى الداعي وقدم هذرسيدان فلقيه الداعي مع القواد وأدخلهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا من مائدته فدخلوا وقتلهم عن آخرهم، فعظمت نفرتهم عنه فخذلوه في هذا الموطن وقتل، واستولى اسفار على طبرستان والريّ وجرجان وقزوين وزنجار وأبهر وقمّ والكرج، ودعا للسعيد بن سامان صاحب خراسان، وأقام بسارية واستعمل على آمد هارون بن بهرام، وقصد بذلك استخلاصه لنفسه لأنه كان يخطب لأبي جعفر من ولد الناصر الأطروش فولاه آمد وزوّجه بإحدى نسائه الأعيان بها، وحضر عرسه أبو جعفر وغيره من العلويّين، وهجم عليه اسفار يوم عرسه بآمد، فقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويّين، وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها إلى أن خلصوا من بعد ذلك. (ومن تاريخ بعض المتأخرين) أنّ الحسن بن القاسم الداعي صهر الأطروش، بويع بعد موته ولقّب الناصر، وملك جرجان. وكان الديلم قد اشتملوا على جعفر بن الأطروش، وتابعوه فصار الداعي إلى طبرستان وملكها ولحق جعفر بدنباوند [1] فقبض عليه عليّ بن أحمد بن نصر وبعث به إلى عليّ بن وهشودان بن حسّان ملك الديلم وهو عامله، فحبسه عليّ بن وهشودان بن حسّان ملك الديلم فلما قتل أطلقه من بعده حسرة فيروز، فاستجاش جعفر بالديلم وعاد إلى طبرستان فملكها وهرب الحسن. ثم مات جعفر فبويع أبو الحسن ابن أخيه الحسن، فلما ظهر ما كان بن كالي بايع للحسن الداعي وأخرجه إليه، وقبض على الحسن بن أحمد وهو ابن أخي جعفر وحبسه بجرجان عند أخيه أبي عليّ ليقتله فقتله الحسن ونجا، وبايعه القوّاد بجرجان.
ثم حاربه ما كان فانهزم الحسن إلى آمد ومات بها، وبويع أخوه أبو جعفر بن محمد ابن أحمد وقصده ما كان من الريّ فهرب من آمد إلى سارية وبها اسفار بن شيرويه.
فقاتل دونه وانهزم اسفار إلى جرجان، واستأمن إلى أبي بكر بن محمد بن الياس.
ثم بايع ما كان لابي القاسم الداعي، وخرج الحسن إلى الريّ وطلب مرداويح بثأر خاله سيداب بن بندار. وكان الداعي بجرجان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة،
__________
[1] قوله دنباوند بضم الدال المهملة وسكون النون وباء موحدة وألف وفتح الواو وسكون النون ثم دال مهملة.
وبعضهم يقول دماوند بالميم والأول أصح انتهى. من أبي الفداء.(4/36)
وانصرف ما كان إلى الديلم، ثم ملك طبرستان وبايع بها لأبي عليّ الناصر بن إسماعيل بن جعفر بن الأطروش، وهلك بعد مدّة. ومضى أبو جعفر محمد بن أبي الحسن أحمد بن الأطروش إلى الديلم إلى أن غلب مرداويح على الريّ، فكتب إليه وأخرجه عن الديلم وأحسن إليه. فلما غلب على طبرستان وأخرج ما كان عنها بايع لأبي جعفر هذا، وسمّي صاحب القلنسوة إلى أن مات، وبويع أخوه ولقب الثائر، وأقام مع الديلم وزحف سنة ست وثلاثين إلى جرجان، وبها ركن الدولة بن بويه، فسرّح إليه ابن العميد فانهزم الثائر، وتعلّق بالجبال، وأقام مع الديلم وملوك العجم يخطبون له إلى أن هلك سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، لثلاثين سنة من ملكه، وبايعوا لأخيه الحسين بن جعفر وتلقّب بالناصر، وتقبض عليه ليكو بن وشكس ملك الجبل وسلّمه وانقرض ملك الفاطميّين أجمع بتلك الجبال والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة الإسماعيلية ونبدأ منهم بالعبيديين الخلفاء بالقيروان والقاهرة وما كان لهم من الدولة من المشرق والمغرب)
أصل هؤلاء العبيديّين من الشيعة الإمامية، وقد تقدّم لنا حكاية مذهبهم والبراءة من الشيخين ومن سائر الصحابة، لعدو لهم عن بيعة عليّ إلى غيره مع وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم له بالإمامة بزعمهم، وبهذا امتازوا عن سائر الشيعة. وإلّا فالشيعة كلهم مطبقون على تفضيل عليّ ولم يقدح ذلك عند الزيدية في إمامة أبي بكر لقولهم بجواز إمامة المفضول مع الأفضل، ولا عند الكيسانية لأنهم لم يدّعوا هذه الوصية، فلم يكن عندهم قادح فيمن خالفها. وهذه الوصية لم تعرف لأحد من أهل النقل.
وهي من موضوعات الإمامية [1] وأكاذيبهم، وقد يسمّون رافضة، قالوا لأنه لما
__________
[1] وهي الموضوعات التي تتناول الإمامة الكبرى وهي إمامة المسلمين كافة وترى الشيعة بفرقها المتعددة ان النبي (صلى الله عليه وسلم) عهد الى الإمام علي (رضي الله عنه) بالخلافة من بعده، وشروط الإمام معروفة ومدرجة في أكثر الكتب ويضيف الشيعة الى هذه الشروط ان الإمام يجب ان يكون من بيت النبي، وعلى هذا فاختيار الإمام محصور في ذرية علي وفاطمة. وهم يذهبون الى ان عليا قد نصب اماما بنص أعلن عند غدير خمّ، والإمامة وراثية في ذريته، وينحصر الاختيار فيمن يبايع منهم بالإمامة وهي مسألة أثارت الخصومات في بيت النبي.(4/37)
خرج زيد الشهيد بالكوفة واختلف عليه الشيعة ناظروه في أمر الشيخين وأنهم ظلموا عليّا فنكر ذلك عليهم فقالوا له: وأنت أيضا فلم يظلمك أحد، ولا حقّ لك في الأمر، وانصرفوا عنه ورفضوه فسموا رافضة، وسمّي أتباعه زيدية. ثم صارت الإمامة من عليّ إلى الحسن ثم الحسين ثم ابنه عليّ زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، كل هؤلاء بالوصيّة، وهم ستة أئمة لم يخالف أحد من الرافضة في إمامتهم. ثم افترقوا من هاهنا فرقتين وهم الاثنا عشرية والإسماعيلية.
واختص الاثنا عشرية باسم الإمامية لهذا العهد، ومذهبهم أنّ الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم، وخرج دعاته بعد موت أبيه فحمله هارون من المدينة وحبسه عند عيسى بن جعفر، ثم أشخصه إلى بغداد وحبسه عند ابن شاهك.
ويقال إنّ يحيى بن خالد سمّه في رطب فقتله، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وزعم شيعتهم أنّ الإمام بعده ابنه عليّ الرضا وكان عظيما في بني هاشم، وكانت له مع المأمون صحبة، وعهد له بالأمر من بعده سنة إحدى ومائتين عند ظهور الدعاة للطالبيّين وخروجهم في كل ناحية. وكان المأمون يومئذ بخراسان لم يدخل العراق بعد مقتل أخيه الأمين فنكر ذلك عليه شيعة العبّاسيّين وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهدي ببغداد، فارتحل المأمون إلى العراق وعليّ الرضا معه، فهلك عليّ في طريقه سنة ثلاث ومائتين ودفن بطوس، ويقال إن المأمون سمّه. (ويحكى) أنه دخل عليه يعوده في مرضه فقال له: أوصني! فقال له: عليّ إياك أن تعطي شيئا وتندم عليه، ولا يصحّ ذلك لنزاهة المأمون من اراقة الدماء بالباطل سيما دماء أهل البيت ثم زعم شيعتهم أنّ الأمر من بعد عليّ الرضا لابنه محمد التقي [1] وكان له من المأمون مكان، وأصهر إليه في ابنته، فأنكحه المأمون إياها سنة خمس ومائتين، ثم هلك سنة عشرين ومائتين ودفن بمقابر قريش. وتزعم الاثنا عشرية أنّ الإمام بعده ابنه عليّ ويلقّبونه الهادي، ويقال الجواد، ومات سنة أربع وخمسين ومائتين وقبره بقمّ، وزعم ابن سعيد أنّ المقتدر سمّه. ويزعمون أنّ الإمام بعده ابنه الحسن، ويلقّب العسكري لأنّه ولد بسرّ من رأى، وكانت تسمّى العسكر، وحبس بها بعد أبيه إلى أن هلك سنة ستين ومائتين، ودفن إلى جنب أبيه في المشهد وترك حملا ولد منه [2]
__________
[1] وهو محمد الجواد كما هو معروف في أكثر كتب التاريخ والسير.
[2] هكذا بالأصل ولعله تحريف ومقتضى السياق: «وترك حاملا ولدت منه» .(4/38)
ابنه محمد فاعتقل، ويقال دخل مع أمّه في السرداب بدار أبيه وفقد، فزعمت شيعتهم أنه الإمام بعد أبيه، ولقّبوه المهدي والحجّة. وزعموا أنه حي لم يمت وهم الآن ينتظرونه، ووقفوا عند هذا الانتظار، وهو الثاني عشر من ولد عليّ ولذلك سمّيت شيعته الاثني عشرية. وهذا المذهب في المدينة والكرخ والشام والحلّة والعراق، وهم حتى الآن على ما بلغنا يصلّون المغرب، فإذا قضوا الصلاة قدّموا مركبا إلى دار السرداب بجهازه وحليته ونادوا بأصوات متوسطة: أيها الإمام أخرج إلينا فإن الناس منتظرون، والخلق حائرون، والظلم عام، والحق مفقود! فأخرج إلينا فتقرب الرحمة من الله في آثارك! ويكرّرون ذلك إلى أن تبدو النجوم، ثم ينصرفون إلى الليلة القابلة هكذا دأبهم. وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته مع طول الأمد، لكن التعصّب حملهم على ذلك وربما يحتجّون لذلك بقصة الخضر والأخرى أيضا باطلة، والصحيح أنّ الخضر قد مات. (وأمّا الإسماعيلية) فزعموا أنّ الإمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل، وتوفي قبل أبيه. وكان أبو جعفر المنصور طلبه فشهد له عامل المدينة بأنه مات. وفائدة النصّ عندهم على إسماعيل وإن كان مات قبل أبيه بقاء الإمامة في ولده كما نصّ موسى على هارون صلوات الله عليهما ومات قبله. والنصّ عندهم لا مرجع وراءه، لأنّ البداء على الله محال. ويقولون في ابنه محمد أنه السابع التامّ من الأئمة الظاهرين، وهو أوّل الأئمة المستورين عندهم الذين يستترون ويظهرون الدعاة، وعددهم ثلاثة ولن تخلوا الأرض منهم عن إمام، إمّا ظاهر بذاته أو مستور، فلا بدّ من ظهور حجّته ودعاته. والأئمة يدور عددها عندهم على سبعة عدد الأسبوع، والسموات والكواكب، والنقباء تدور عندهم على اثني عشر. وهم يغلّطون الأئمة حيث جعلوا عدد النقباء للأئمة. وأوّل الأئمة المستورين عندهم محمد بن إسماعيل وهو محمد المكتوم، ثم ابنه جعفر المصدّق، ثم ابنه محمد الحبيب ثم ابنه عبد الله المهدي صاحب الدولة بإفريقية والمغرب التي قام بها أبو عبد الله الشيعي بكتامة. وكان من هؤلاء الإسماعيلية القرامطة، واستقرّت لهم دولة بالبحرين في أبي سعيد الجنابيّ وبنيه أبي القاسم الحسين بن فروخ بن حوشب الكوفي داعي اليمن لمحمد الحبيب، ثم ابنه عبد الله ويسمّى بالمنصور، وكان من الاثني عشرية أولا، فلمّا بطل ما في أيديهم رجع إلى رأي الإسماعيلية وبعث محمد الحبيب أبو عبد الله إلى اليمن داعية له، فلمّا بلغه عن محمد بن يعفر ملك صنعاء أنه(4/39)
أظهر التوبة والنسك، وتخلّى عن الملك فقدم اليمن ووجد بها شيعة يعرفون ببني موسى في عدن لاعة. وكان عليّ بن الفضل من أهل اليمن ومن كبار الشيعة، وطاهر ابن حوشب على أمره، وكتب له الإمام محمد بالعهد لعبد الله ابنه، وأذن له في الحرب فقام بدعوته وبثّها في اليمن وجيّش الجيوش، وفتح المدائن وملك صنعاء، وأخرج منها بني يبعن، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد، ويبطن محمدا الحبيب تسترا إلى أن استولى على اليمن، وكان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة ومن عنده سار إلى إفريقية فوجد في كتامة من الباطنية خلقا كثيرا، وكان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر الصادق إلى المغرب. أقاموا بإفريقية وبثّوا فيها الدعوة، وتناقله من البرابرة أمم وكان أكثرهم من كتامة فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي ووجد هذا المذهب في كتامة فقام على تعليمه وبثّه وإحيائه حتى تمّ الأمر، وبويع لعبد الله كما نذكر الآن في أخبارهم.
(ابتداء دولة العبيديين)
وأولهم عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق بن محمد المكتوم بن جعفر الصادق. ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم وبالمحضر الّذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم، وشهد فيه أعلام الأئمّة، وقد مرّ ذكرهم. فإن كتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب، شاهد بصحّة نسبهم. وشعر الشريف الرضيّ مسجّل بذلك. والذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع وهي ما علمت وقد كان نسبهم ببغداد منكرا عند أعدائهم شيعة بني العبّاس منذ مائة سنة، فتلوّن الناس بمذهب أهل الدولة، وجاءت شهادة عليه مع أنها شهادة على النفي، مع أنّ طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم حتى في مكة والمدينة أدلّ شيء على صحة نسبهم. وأمّا من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية ليعمون القدح وغيره فكفاه ذلك إثما وسفسفة. وكان شيعة هؤلاء العبيديّين بالمشرق واليمن وإفريقية. وكان أصل(4/40)
ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما جعفر الصادق، وقال لهما بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يجيء صاحب البذر فنزل أحدهما ببلد مراغة [1] ، والآخر ببلد سوف جمار وكلاهما من أرض كتامة ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سلمية [2] من أرض حمص وكان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وأنّ المهدي خارج في هذا الوقت فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم، واستولى على أكثر اليمن، وتسمّى بالمنصور وابتنى حصنا بجبل لاعة. وملك صنعاء من بني يعفر وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب. وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، وكان محتسبا بالبصرة، وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العبّاس المخطوم، وأبو عبد الله هذا يعرف بالمعلّم لأنه كان يعلّم مذهب الإماميّة، فاتصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب، ورأى ما فيه من الأهليّة فأرسله الى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثم يذهب إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة.
فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه. ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، وفيهم من لقي الحلواني وابن بكّار وأخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير بني سكتان من جملة أحد شعوبهم وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم،
__________
[1] مراغة: بالفتح، والغين المعجمة: بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان، قالوا وكانت المراغة تدعى أفرازهروذ فعسكر مروان بن محمد بن مروان وهو والي أرمينية وأذربيجان منصرفه من غزو موقان وجيلان بالقرب منها وكان فيها سرجين كثير فكانت دوابه ودواب أصحابه تتمرّغ فيها فجعلوا يقولوا ابنوا قرية المراغة، وهذه قرية المراغة، فحذف الناس القرية وقالوا مراغة. (معجم البلدان) .
[2] سلمية: بفتح أوّله وثانيه وسكون الميم، وياء مثناة من تحت خفيفة، كذا جاء به المتنبي في قوله: تراها في سلمية مسبطرّا!.
قيل: سلمية قرب المؤتفكة، فيقال: انه لما نزل بأهل المؤتفكة ما نزل من العذاب رحم الله منهم مائة نفس فنجاهم فنزحوا الى سلمية فعمّروها وسكنوها فسميت سلم مائة، ثم حرف الناس اسمها فقال سلميه، ثم ان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس اتخذها منزلا وبنى هو وولده فيها الأبنية ونزلوها، وبها المحاريب السبعة، يقال تحتها قبور التابعين، وفي طريقها الى حمص قبر النعمان بن بشير: وهي بليدة في ناحية البرّيّة من اعمال حماة بينهما مسيرة يومين، وكانت تعد من اعمال حمص ولا يعرفها أهل الشام إلا بسلميّة وأكثر أهلها الى اليوم إسماعيلية (معجم البلدان) .(4/41)
ومسعود بن عيسى بن ملال المساكتي، وموسى بن تكاد، فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد فعلق بقلوبهم، وصار يتعهدهم في رحالهم فاغتبطوا به واغتبط بهم. ولما أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوافقهم طاويا وجه مذهبه عنهم، بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم فكشفوا له علم ذلك، وأنهم إنما يعطون السلطان طاعة معروفة فاستيقن تمام أمره فيهم، وخرج معهم إلى المغرب وسلكوا طريق الصحراء، وعدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا بلد سوماثة، وبها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسيّ من بجاية الأندلس نزيلا عندهم، وكان قد أدرك الحلواني وأخذ عنه. فنزل أبو عبد الله الشيعيّ عليه فأكرمه، وفاوضه وتفرّس ابن حمدون فيه انه صاحب الدولة. ثم ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومائتين فنزل على موسى بن حريث ببلده أنكجان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهديّ بذلك وبهجرة المهدي وأن أنصار الأخيار من أهل زمانه وأنّ اسمهم مشتق من الكتمان. واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة ولقي علماءهم واشتمل عليه الكثير من أهوائهم فجاهر مذهبه، وأعلن بإمامة أهل البيت، ودعا للرضا من آل محمد واتبعه أكثر كتامة، وكانوا يسمّونه بأبي عبد الله الشيعيّ والمشرقيّ. وبلغ خبره إلى أمير افريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، فبعث إليه بالتهديد والوعيد، فأساء الردّ عليه، وخاف رؤساء كتامة عادية ابن الأغلب، وأغراهم عمال بلادهم بالشيعي مثل موسى بن عياش صاحب مسيلة، وعليّ بن حفص بن عسلوجة صاحب سريف. وجاء ابن تميم صاحب يلزمة، فاجتمعوا وتفاوضوا في شأنه، وحضر يحيى المساكتي وكان يدعى بالأمير ومهديّ بن أبي كمارة رئيس لهيعة، وفرج بن حيران رئيس إجانة، وثمل بن بجل رئيس لطانة. وراسلوا بيان بن صفلان رئيس بني سكتان، وأبو عبد الله الشيعي عندهم بجبل ايكجان في أن يسلّمه إليهم أو يخرجه من بلدهم، وحذّروه عاقبة أمره فردّ أمره إلى أهل العلم، فجاءوا بالعلماء وهمّوا باغتياله فلم يتم لهم ذلك، وأطبقت بجيلة على مظاهرته فهزموا هؤلاء المثيرين عليه وردّوهم خائبين ثم رجعوا بيان بن صقلاب في أمره ولاطفوه حتى صفا إليهم، وشعر بذلك أبو عبد الله الشيعيّ وأصحابه، فبعثوا إلى الحسن ابن هارون الغسّاني يسألونه الهجرة إليهم، فأجابهم ولحق(4/42)
ببلدة تازروت من بلادهم. واجتمعت غسّان لنصرته مع بطون كتامة الذين بايعوه من قبل، فاعتز وامتنع وعظم أمره. ثم انتقض على الحسن بن هارون أخوه محمد منافسة له في الرئاسة، وكان صديقا لمهديّ بن أبي كمارة فداخله في التثريب على أبي عبد الله، وعظمت الفتنة بين لهيعة وغسّان، وولّى أبو عبد الله الشيعي الحسن بن هارون على حروبه، وظهر بعد أن كان مختفيا. وكان لمهدي بن أبي كمارة شيخ لهيعة أخ اسمه أبو مديني، وكان من أحباب أبي عبد الله فقتل أخاه مهديّا ورأس على لهيعة مكانه، فصاروا جميعا إلى ولاية أبي عبد الله وأبي مديني شيخهم. ثم تجمّعت كتامة لحرب الشيعي وأصحابه، ونازلوه بمكانه من تازروت، وبعث الشيعي سهل ابن فوكاش إلى فحل بن نوح رئيس لطانة، وكان صهره لينجد له عن حربهم في السلم، فمشى إلى كتامة، وأبوا إلّا أن يناجزوهم الحرب، فغلبهم أبو عبد الله وأصحابه، وانهزمت كتامة وأبلى عروبة بن يوسف الملوشي في ذلك اليوم بلاء حسنا، واجتمعت إلى أبي عبد الله غسّان كلها ويلزمة ولهيعة وعامّة بجاجية ورئيسهم يومئذ ماكنون بن ضبارة وأبو زاكي تمام بن معارك. ولحق بجيلة من بجاجية فرج بن خيران، ويوسف بن محمد من لطانة، وفحل بن نوح، واستقام أمر الباقي للشيعي وجمع فتح بن يحيى من أطاعه من قومه مسالمة لحرب الشيعي، فسار إليهم وأوقع بهم، ولحق فلّهم بسطيف. ثم استأمنوا إليه فأمّنهم ودخلوا في أمره، وولّى منهم هارون بن يونس على حروبه، ولحق رئيسهم فتح بن يحيى بعجيسة، وجمع ثانية لحرب الشيعي فسار إليه ومعه جموع كتامة، وتحصّن منه فتح ببعض قلاعهم فحاصره الشيعي وفتحها، واجتمعت إليه عجيسة وزواوة وجميع قبائل كتامة، ورجع إلى تازروت وبثّ دعاته في كل ناحية فدخل الناس في أمره طوعا وكرها. ولحق فتح بن يحيى بالأمير إبراهيم ابن أحمد بتونس، واستحثه لحرب الشيعي. ثم فتح أبو عبد الله مساكتة بمداخلة بعض أهلها، وقتل صاحبها موسى بن عيّاش وولّى عليها ماكنون بن ضبارة الألجائي وهو أبو يوسف، ولحق إبراهيم بن موسى بن عيّاش بأبي العبّاس إبراهيم بن الأغلب بتونس بعد خروج أبيه إلى صقلّيّة. وكان فتح بن يحيى المساكتي قد نزع إليه من قبل ذلك، ووعده المظاهرة فجهّز العساكر، وعقد عليها لابنه أبي خوّال، وزحف من تونس سنة تسع وثمانين فدوّخ كتامة، ثم صمد إلى تازروت فلقيه ابو عبد الله الشيعي في جموعه ببلد ملوسة فهزمهم أبو خوال، وفرّ الشيعي من قصر تازروت إلى ايكجان(4/43)
فامتنع بها، فهدم أبو خوال القصر واتبعه. وتوغل أبو خوال في بلاد كتامة فاضطرب أمره، وتوقع البيات. وسار إبراهيم بن موسى بن عيّاش من عسكر أبي خوال إلى نواحي مسيلة يتجسّس الأخبار فتواقع مع طائفة من أصحاب الشيعي فهزموه واتبعوه إلى المعسكر فاضطرب، وأجفل أبو خوال وخرج من بلاد كتامة، واستوطن أبو عبد الله إيكجان وبنى بها بلدا وسمّاها دار الهجرة، واستبصر الناس في أمره ودخلوا في دعوته. ثم هلك الحسن بن هارون، وجهّز أبو العباس العساكر ثانية مع ابنه أبي خوّال ورده لحرب الشيعي وكتامة فسار في بلادهم، ورجع منهزما وأقام قريبا منهم يدافعهم، ويمنعهم من التقدّم. وفي خلال ذلك هلك إبراهيم بن أحمد بن الأغلب وقتل ابنه أبو العبّاس، وقام بالأمر ابنه زيادة الله فاستدعى أخاه أبا خوال وقتله، وانتقل من تونس إلى وقادة، وانهمك في لذاته، وانتشرت جيوش الشيعي في البلاد، وعلا أمره وبشّرهم بأنّ المهدي قرب ظهوره فكان كما قال.
(وصول المهدي الى المغرب واعتقاله بسجلماسة ثم خروجه من الاعتقال وبيعته)
ولما توفي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام، عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محنا شديدة. واتصل خبره بسائر دعاته في إفريقية واليمن، وبعث إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم، وأنهم في انتظاره. وشاع خبره واتصل بالعبّاسيّين، فطلبه المكتفي ففرّ من أرض الشام الى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه أبو القاسم غلاما حدثا وخاصته ومواليه، بعد أن كان أراد قصد اليمن فبلغه ما أحدث بها عليّ بن الفضل من بعد ابن حوشب، وأنه أساء السيرة فأنثنى عن ذلك، واعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي بالمغرب فارتحل من مصر إلى الإسكندرية، ثم خرج من الاسكندرية في زي التجّار. وجاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر وهو يومئذ عيسى النوشري بخبرهم، والقعود لهم بالمراصد، وكتب نعته وحليته فسرّح في طلبهم حتى وقف عليهم، وامتحن أحوالهم فلم يقف على اليقين في شيء منها فخلى سبيلهم. وجدّ المهدي في السير وكان له كتب في الملاحم منقولة عن آبائه سرقت من رحله في(4/44)
طريقه، فيقال إن ابنه أبا القاسم استردّها من برقة حين زحف إلى مصر، ولما انتهى إلى طرابلس وفارقه التجّار أهل الرفقة بعث معهم أبا العبّاس أخا أبي عبد الله الشيعي إلى أخيه بكتامة، ومرّ بالقيروان وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله، وهو يسأل عنهم فقبض على أبي العبّاس وساء له فأنكر فحبسه. وكتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته وسار الى قسنطينة. ثم عدل عنها خشية على أبي العبّاس أخي الشيعي المعتقل بالقيروان فذهب إلى سجلماسة وبها اليسع بن مدرار فأكرمه. ثم جاء كتاب زيادة الله ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الّذي داعيته في كتامة فحبسه اليسع، ثم أنّ أبا عبد الله الشيعي بعد مهلك أبي خوال الّذي كان مضايقا لهم اجتمعت اليه سائر كتامة وزحف إلى سطيف فحاصرها مدّة، وكان بها عليّ بن جعفر ابن عسكوجة صاحبها، وأخوه أبو حبيب فملكها وكان بها أيضا داود بن جاثة من كبار لهيعة، لحق بها فيمن لحق من وجوه كتامة فقام بها من بعد عليّ وأخيه.
واستأمن أهل سطيف فأمّنهم أبو عبد الله ودخلها فهدمها، وجهّز زيادة الله العساكر إلى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حشيش، وكانوا أربعين ألفا فانتهى إلى قسنطينة فأقام بها وهم متحصّنون بجبلهم. ثم زحف إليهم وواقعهم عند مدينة يلزمة فانهزم إلى باغاية ولحق بالقيروان. وكتب الشيعي بالفتح إلى المهدي مع رجال من كتامة أخفوا أنفسهم حتى وصلوا إليه وعرّفوه بالخبر. ثم زحف الشيعي إلى طبنة فحاصرها وقتل فتح بن يحيى المساكتي، ثم افتتحها على الأمان، ثم زحف إلى يلزمة فملكها عنوة. وجهّز زيادة الله العساكر مع هارون الطبني عامل باغاية فانتهوا إلى مدينة أزمول، وكانوا في طاعة الشيعي فهدمها هارون وقتل أهلها وزحف إليه عروبة بن يوسف من أصحاب الشيعي فهزمه وقتله. ثم فتح الشيعي مدينة ينجبت كلّها على يد يوسف الغسّاني ولحق عسكرها بالقيروان وشاع عن الشيعي وفاؤه بالأمان فأمّنه الناس، وكثر الإرجاف بزيادة الله فجهز العساكر وأزاح العلل، وأنفق ما في خزائنه وذخائره، وخرج بنفسه سنة خمس وتسعين ونزل الأريس. ثم حاد عن اللقاء وأشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا للعساكر فرجع، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته وأمره بالمقام هنالك. ثم زحف الشيعي إلى باغاية فهرب عاملها وملكها صلحا وبعث إلى مدينة قرطاجنة فافتتحها عنوة، وقتل عاملها، وسرح عساكره في إفريقية فردّدوا فيها الغارات على قبائل البربر من نفزة وغيرهم. ثم استأمن إليه أهل(4/45)
تيفاش فأمّنهم، واستعمل عليهم صواب بن أبي القاسم السكتاني، فجاء إبراهيم بن أبي الأغلب واقتحمها عليه ثم نهض الشيعي في احتفال من العساكر الى باغاية ثم إلى سكتانة ثم إلى تبسة ففتحها كلّها على الأمان. ثم إلى القصرين من قمودة فأمّن أهلها وأطاعوه، وسار يريد رقادة فخشي إبراهيم بن أبي الأغلب على زيادة الله لقلّة عسكره، فنهض إلى الشيعي واعترضه في عساكره واقتتلوا، ثم تحاجزوا، ورجع الشيعي إلى إيكجان وإبراهيم إلى الأريس. ثم سار الشيعي ثانية بعساكره إلى قسنطينة فحاصرها واقتحمها على الأمان، ثم إلى قفصة كذلك. ثم رجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا مع أبي مكدولة الجيلي. ثم سار إلى إيكجان وخالفه إبراهيم إلى باغاية، وبلغ الخبر إلى الشيعي فسرّح لقتاله أبا مديني بن فروخ اللهيمي، ومعه عروبة بن يوسف الملوشي ورجاء بن أبي قنّة في اثني عشر ألفا، فقاتلوا ابن أبي الأغلب ومنعوه من باغاية فرحل عنها، واتبعوه إلى فجّ العرعر ورجعوا عنه. ثم زحف أبو عبد الله الشيعي سنة ست وتسعين في مائتي ألف من العساكر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب بالأريس. ثم اقتتلوا أياما ثم انهزم إبراهيم واستبيح معسكره، وفرّ إلى القيروان، ودخل الشيعي الأريس فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة واتصل الخبر بزيادة الله وهو برقادة ففرّ إلى المشرق، ونهبت قصوره. وافترق أهل رقادة إلى القيروان وسوسة. ولما وصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان نزل قصر الإمارة وجمع الناس وأرادهم على البيعة له على أن يعينوه بالأموال فاعتدوا [1] وتصايحت به العامّة ففر عنها، ولحق بصاحبه. وبلغ أبا عبد الله الشيعي خبر فرارهم بسبيبة فقدم إلى رقادة، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمّنوا الناس، وجاء على أثرهم. وخرج أهل رقادة والقيروان للقائه فأمّنهم وأكرمهم، ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين ونزل قصرها، وأطلق أخاه أبا العبّاس من الاعتقال ونادى بالأمان فتراجع الناس، وفر العمّال في النواحي وطلب أهل القيروان فهربوا، وقسّم دور البلد على كتامة فسكنوها، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه فأمر بحفظها وحفظ جواريه، واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعيّن أحدا. ونقش على السكة من أحد الوجهين بلغت حجة الله، ومن الآخر تفرّق أعداء الله، وعلى
__________
[1] مقتضى السياق فاعتدوا عليه.(4/46)
السلاح عدّة في سبيل الله، وفي وسم الخيل الملك للَّه. ثم ارتحل إلى سجلماسة في طلب المهدي، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك الألجائي واهتزّ المغرب لخروجه، وفرّت زناتة من طريقه. ثم بعثوا إليه بالطاعة فقبلهم وأرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة يتلطّفه فقتل الرسل، وخرج للقائه. فلمّا تراءى الجمعان انفض معسكره وهرب هو وأصحابه وخرج أهل البلد من الغد للشيعي وجاءوا معه إلى محبس المهدي وابنه فأخرجهما وبايع للمهدي، ومشي مع رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يبكي من الفرح ويقول: هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيّم، وبعث في طلب اليسع فأدرك، وجيء به فقتل، وأقاموا بسجلماسة أربعين يوما ثم ارتحلوا إلى إفريقية، ومرّوا بأيكجان، فسلّم الشيعي ما كان بها من الأموال للمهديّ. ثم نزلوا رقادة في ربيع سنة سبع وتسعين، وحضر أهل القيروان وبويع للمهدي البيعة العامّة، واستقام أمره وبث دعاته في الناس فأجابوا إلا قليلا عرض عليهم السيف، وقسّم الأموال والجواري في رجال كتامة، وأقطعهم الأعمال، ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمّال على البلاد فبعث على طرابلس ماكنون بن ضبارة الألجائي، وعلى صقلّيّة الحسن بن أحمد بن أبي خنزير، فسار إليها ونزل البحر، ونزل مازر في عيد الأضحى من سنة سبع وتسعين، فاستقضى إسحاق بن المنهال، وولّى أخاه على كريت. ثم أجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى العدوة الشمالية، ونزل بسيط قلورية من بلاد الإفرنج فأثخن فيها، ورجع إلى صقلّيّة فأساء السيرة في أهلها فثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي فقبل عذرهم، وولّى عليهم مكانه عليّ بن عمر البلويّ فوصل خاتم تسع وتسعين.
(مقتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه)
لما استقام سلطان عبيد الله المهدي بإفريقية استبدّ بأمره، وكفح أبا عبد الله الشيعي وأخاه أبا العبّاس عن الاستبداد عليه، والتحكّم في أمره فعظم ذلك عليهما، وصرّح أبو العبّاس بما في نفسه فنهاه أخوه أبو عبد الله عن ذلك، فلم يصغ إليه. ثم استماله أبو العبّاس لمثل رأيه فأجابه، وبلغ ذلك إلى المهدي فلم يصدّقه. ثم نهى أبا عبد الله عن(4/47)
مباشرة الناس، وقال إنه مفسد للهيبة فتلطّف في ردّه ولم يجبه إليه ففسدت النيّة بينهما، واستفسدوا كتامة وأغروهم به وذكروهم بما أخذه من أموال إيكجان، واستأثر به دونهم وألقوا إليهم أن هذا ليس هو الإمام المعصوم الّذي دعونا إليه، حتى بعث إلى المهدي رجل كان في كتامة يعرف بشيخ المشايخ، وقال له: جئنا بآية على أمرك فقد شككنا فيك، فقتله المهدي. ثم عظمت استرابتهم واتفقوا على قتل المهدي، وداخلهم في ذلك أبو زاكي تمام بن معارك وغيره من قبائل كتامة. ونمي الخبر إلى المهدي فتلطف في أمرهم، وولّى من داخلهم من قوّاد كتامة على البلاد، فبعث تمام بن معارك على طرابلس، وبعث إلى عاملها ماكنون بقتله، فقتله عند وصوله. ثم اتهم المهدي ابن الغريم بمداخلتهم، وكان من أصحاب زيادة الله فأمر بقتله واستصفاء أمواله، وكان أكثرها لزيادة الله. ثم إنّ المهدي استدعى عروبة بن يوسف، وأخاه حباسة، وأمرهما بقتل الشيعي وأخيه فوقفا لهما عند القصر، وحمل عروبة على أبي عبد الله، فقال له: لا تفعل! فقال: الّذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك! ثم أجهز عليهما في نصف جمادى سنة ثمان وتسعين. ويقال إن المهدي صلّى على أبي عبد الله وترحّم عليه، وعلم أن الّذي حمله على ذلك إغراء أبي العبّاس أخيه، وثارت فتنة بسبب قتلهما من أصحابهما فركب المهدي وسكنها. ثم ثارت فتنة أخرى بين كتامة وأهل القيروان، وفشا القتل فيهم فركب المهدي وسكّنها، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة وقتل جماعة من بني الأغلب برقادة لما رجعوا إليها بعد زيادة الله.
(بقية أخبار المهدي بعد الشيعي)
ولما استقام أمر المهدي بعد الشيعي، جعل ولاية عهده لابنه أبي القاسم نزار، وولّى على برقة وما إليها حباسة بن يوسف. وعلى المغرب أخاه عروبة، وأنزله باغاية فسار إلى تاهرت فاقتحمها، وولّى عليها دواس بن صولات اللهيص. ثم انتقضت عليه كتامة بقتله أبا عبد الله الشيعي، ونصّبوا طفلا لقّبوه المهدي، وزعموا أنه نبيّ وأنّ أبا عبد الله الشيعي لم يمت، فجهّز ابنه ابا القاسم لحربهم فقاتلهم وهزمهم، وقتل الطفل(4/48)
الّذي نصّبوه وأثخن فيهم ورجع. ثم انتقض أهل طرابلس سنة ثلاثمائة، وأخرجوا عاملهم ماكنون فبعث إليهم ابنه أبا القاسم فحاصرها طويلا، ثم فتحها وأثخن فيهم وأغرمهم ثلاثمائة ألف دينار. ثم أغزى ابنه أبا القاسم وجموعه كتامة سنة إحدى وثلاثمائة إلى الإسكندرية ومصر، وبعث اسطوله في البحر في مائتين من المراكب، وشحنها بالامداد وعقد عليها لحباسة بن يوسف، وسارت العساكر فملكوا برقة، ثم الاسكندرية والفيوم. وبعث المقتدر العساكر من بغداد مع سبكتكين ومؤنس الخادم فتواقعوا مرّات، وأجلاهم عن مصر فرجعوا إلى المغرب، ثم عاد حباسة في العساكر في البحر سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الإسكندرية فملكها، وسار يريد مصر فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته فتواقعوا مرّات، وكان الظهور آخرا لمؤنس، وقتل من أصحابه نحو من سبعة آلاف. وانصرف إلى المغرب فقتله المهدي وانتقض لذلك أخوه عروبة بالمغرب واجتمع إليه خلق كثير من كتامة والبربر. وسرح إليهم المهدي مولاه غالبا في العساكر فهزمهم وقتل عروبة وبني عمه في أمم لا تحصى. ثم انتقض أهل صقلّيّة وتقبضوا على عاملهم عليّ بن عمرو، وولوا عليهم أحمد بن قهرب، فدعا للمقتدر العبّاسيّ، وذلك سنة أربع وثلاثمائة، وخلع طاعة المهدي وجهّز إليه الأسطول مع الحسن بن أبي خنزير فلقيه أسطول ابن قهرب فغلبه، وقتل ابن أبي خنزير. ثم راجع أهل صقلّيّة أمرهم وكاتبوا المهدي وثاروا بابن قهرب فخلعوه، وبعثوا به إلى المهدي فقتله على قبر ابن أبي خنزير، وولّى على صقلّيّة علي بن موسى ابن أحمد، وبعث معه عساكر كتامة، ثم اعتزم المهدي على بناء مدينة على ساحل البحر يتّخذها معصما لأهل بيته لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج. (ويحكى عنه) أنه قال بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها فخرج بنفسه يرتاد موضعا لبنائها، ومرّ بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها جزيرة متصلة بالبر كصورة كف اتصلت بزند، فاختطّ المهديّة بها وجعلها دار ملكه، وأدار بها سورا محكما وجعل لها أبوابا من الحديد وزن كل مصراع مائة قنطار، وابتدأ ببنائها آخر سنة ثلاث. ولما ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب، ونظر إلى منتهاه وقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد.
ثم أمر أن يبحث في الجبل دار لإنشاء السفن تسع مائة سفين، وبحث [1] في أرضها
__________
[1] بمعنى حفر.(4/49)
أهراء للطعام ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور فكملت سنة ست، ولما فرغ منها قال: اليوم أمّنت على الفواطم. ثم جهّز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرّة ثانية سنة سبع وثلاثمائة فملك الاسكندرية، ثم سار فملك الجيزة والأشمونين وكثيرا من الصعيد. وكتب إلى أهل مكّة بطلب الطاعة فلم يجيبوا إليها، وبعث المقتدر مؤنسا الخادم في العساكر وكانت بينه وبين أبي القاسم عدّة وقعات ظهر فيها مؤنس، وأصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء والوباء فرجع إلى إفريقية، وكانت مراكبهم قد وصلت من المهديّة إلى الإسكندرية في ثمانين اسطولا [1] مددا لأبي القاسم وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وكانا شجاعين، وسار الاسطول من طرسوس للقائهم في خمسة وعشرين مركبا والتقوا على رشيد [2] وظفرت مراكب طرسوس وأحرقوا وأسروا سليمان ويعقوب، فمات سليمان في حبس مصر، وهرب يعقوب من حبس بغداد إلى إفريقية. ثم اغزى المهدي سنة ثمان وثلاثمائة مضالة بن حبوس في رجالات مكناسة إلى بلاد المغرب فأوقع بملك فاس من الأدارسة وهو يحيى بن إدريس بن إدريس بن عمرو، واستنزله عن سلطانه إلى طاعة المهدي فأعطى بها صفقته، وعقد لموسى بن أبي العافية المكناسي من رجالات قومه على أعمال المغرب ورجع. ثم عاود غزو المغرب سنة تسع فدوّخه ومهّد جوانبه وأغراه قريبه عامل المغرب موسى بن أبي العافية بيحيى بن إدريس صاحب فاس، فتقبّض عليه وضمّ فاس إلى أعمال موسى ومحا دعوة الإدريسيّة من المغرب، وأجهضهم عن أعماله فتحيزوا إلى بلاد الريف وغمارة واستجدّوا بها ولاية كما نذكره في أخبار غمارة، ومنهم كان بنو حمّود العلويّون المستولون على قرطبة عند انقراض ملك الأمويّين في سنة ثلاث وأربعمائة كما نذكر لك. ثم صمد مضالة إلى بلاد سجلماسة فقتل أميرها من آل مدرار المكناسيين المنحرف عن طاعة الشيعة، وعقد لابن عمّه كما نذكر في أخبارهم. وسار في أتباعه زناتة في نواحي المغرب فكانت بينه وبينهم حروب هلك مضالة في بعضها على يد محمد بن خزر. واضطرب المغرب فبعث المهدي ابنه أبا القاسم غازيا إلى المغرب في عساكر كتامة وأولياء الشيعة سنة خمس عشرة وثلاثمائة، ففرّ محمد بن خزر، وأصحابه إلى الرمال. وفتح أبو القاسم بلد مزاتة ومطماطة وهوّارة
__________
[1] مقتضى السياق سفينة وليس اسطولا، لأنه من غير المعقول ان يرسل ثمانين اسطولا والاولى أصح.
[2] قرية ساحلية على الساحل المصري، يوجد فيها ميناء صغير وتعرف بقرية الرشيد.(4/50)
وسائر الإباضيّة والصفريّة ونواحي تاهرت قاعدة المغرب الأوسط إلى ما وراءها، ثم عاج إلى الريف فافتتح بلد لكور من ساحل المغرب الأوسط، ونازل صاحب جراوة من آل إدريس وهو الحسن بن أبي العيش وضيّق عليه ودوّخ أقطار المغرب، ورجع ولم يلق كيدا. ومرّ بمكان بلد المسيلة وبها بنو كملان من هوّارة، وكان يتوقع منهم الفتنة فنقلهم الى فجّ القيروان، وقضى الله أن يكونوا أولياء لصاحب الحمار عند خروجه. ولما نقلهم أمر ببناء المسيلة في بلدهم وسمّاها المحمّديّة، ودفع علي بن حمدون الأندلسي من صنائع دولتهم إلى بنائها، وعقد له عليها وعلى الزاب بعد اختطاطها فبناها وحصّنها وشحنها بالأقوات، فكانت مددا للمنصور في حصار صاحب الحمار كما يذكر. ثم انتقض موسى بن أبي العافية عامل فاس والمغرب، وخلع طاعة الشيعة، وانحرف الى الأمويّة من وراء البحر وبثّ دعوتهم في أقطار المغرب فنهض إليه أحمد بن بصلين المكناسيّ قائد المهدي وسار في العساكر فلقيه ميسور وهزمه، وأوقع به وبقومه بمكناسة، وأزعجه [1] عن الغرب إلى الصحاري وأطراف البلاد ودوّخ المغرب وثقف أطرافه ورجع ظافرا.
(وفاة عبيد الله المهدي وولاية ابنه أبي القاسم)
ثم توفي عبيد الله المهدي في ربيع سنة اثنتين وعشرين لأربع وعشرين سنة من خلافته، وولّى ابنه أبو القاسم محمد، ويقال نزار بعده، ولقّب القائم بأمر الله فعظم حزنه على أبيه حتى يقال إنه لم يركب سائر أيامه إلّا مرتين، وكثر عليه الثّوار.
وثار بجهات طرابلس ابن طالوت القرشيّ، وزعم أنه ابن المهدي وحاصر طرابلس.
ثم ظهر للبربر كذبه فقتلوه. ثم أغزى المغرب وملكه، وولّى على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذابي، وحاصر الأدارسة ملوك الريف وغوارة فنهض ميسور الخصيّ من القيروان في العساكر، ودخل المغرب وحاصر فاس، واستنزل عاملها أحمد بن بكر. ثم نهض في اتباع موسى فكانت بينهما حروب، وأخذ الثوري بن موسى في بعضها أسيرا وأجلاه ميسور عن المغرب، وظاهره عليه الأدارسة الذين
__________
[1] بمعنى أخرجه وهي من التعابير التي يستعملها ابن خلدون(4/51)
بالريف، وانقلب ميسور إلى القيروان سنة أربع وعشرين، وعقد للقاسم بن محمد كبير أدارسة الريف من ولد محمد بن إدريس على أعمال ابن أبي العافية وما يفتحه من البلاد، فملك المغرب كلّها ما عدا فاس، وأقام دعوة الشيعة بسائر أعماله. ثم جهّز أبو القاسم اسطولا ضخما لغزو ساحل الإفرنجة وعقد عليه ليقرب ابن إسحاق فأثخن في بلاد الافرنجة، وسبى ونازل بلد جنوة وافتتحها، وعظم صنع الله في شأنها، ومروا بسردانية من جزر الفرنج فأثخنوا فيها. ثم مروا بقرقيسياء من سواحل الشام فأحرقوا مراكبها. ثم بعث عسكرا إلى مصر مع خادمه زيران فملكوا الإسكندرية، وجاءت عساكر الإخشيد من مصر فأزعجوهم عنها ورجعوا إلى المغرب.
(أخبار أبي يزيد الخارجي)
وهو أبو يزيد مخلد بن كيراد، وكان أبوه كيراد من أهل قسطيلة من مدائن بلد توزر، وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة وبها ولد ولده أبو يزيد ونشأ بتوزر، وتعلم القرآن وخالط النكاريّة من الخوارج وهم الصفريّة، فمال إلى مذهبهم وأخذ به ثم سافر إلى تاهرت وأقام بها يعلّم الصبيان، ولم صار الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي انتقل هو إلى تقيوس، وأقام يعلّم فيها. وكان يذهب إلى تكبير أهل ملّته، واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان. ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة فكثر أتباعه، ولمّا مات المهدي خرج بناحية جبل أوراس، وركب الحمار وتلقّب بشيخ المؤمنين، ودعا للناصر صاحب الأندلس من بني أميّة فاتبعه أمم من البربر. وزحف إليه عامل باغاية فلقيه في جموع البربر وهزمه، وزحف إلى باغاية فحاصرها، ثم انهزم عنها، وكتب إلى بني واسى من قبائل زناتة بضواحي قسنطينة يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين. ثم فتح تبسة صلحا، ومجانة كذلك، وأهدى له رجل من أهل مرماجنة حمارا أشهب فكان يركبه وبه لقّب. وكان يلبس جبّة صوف قصيرة ضيّقة الكمّين. وكان عسكر الكتاميين على الأريس فانفضوا، وملكها أبو يزيد وأحرقها ونهبها وقتل في الجامع من لجأ إليه، وبعث عسكرا إلى سبيبة ففتحها وقتل عاملها. وبلغ الخبر إلى القاسم فقال لا بدّ أن(4/52)
يبلغ المصلي من المهديّة، ثم جهّز العساكر وبعثها إلى رقادة والقيروان، وبعث خادمه ميسورا الخصيّ لحربه. وبعث عسكرا مع خادمه بشري إلى باجة فنهض إليه أبو يزيد وهزمه إلى تونس، ودخل أبو يزيد باجة فنهبها وأحرقها، وقتل الأطفال وسبى النساء، واجتمع إليه قبائل البربر، واتخذ الأبنية والبيوت وآلات الحرب، وبعث إليه بشري عسكرا من تونس، وبعث أبو يزيد للقائهم عسكرا آخر فانهزم أصحاب أبي يزيد وظفر أصحاب بشري. ثم ثار أهل تونس ببشري فهرب فاستأمنوا لأبي يزيد فأمّنهم وولّى عليهم، وسار إلى القيروان وبعث القائم خديمه بشري للقائه. وأمره أن يبعث من يتجسّس عن أخباره فبعث طائفة، وبعث أبو يزيد طائفة أخرى فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم أربعة آلاف، وجيء بأسراهم إلى المهديّة فقتلوا، فسار أبو يزيد إلى قتال الكتاميّين فهزم طلائعهم وأتبعهم إلى القيروان، ونزل على رقادة في مائتي ألف مقاتل، وعاملها يومئذ خليل بن إسحاق وهو ينتظر وصول ميسور بالعساكر، ثم ضايقه أبو يزيد وأغراه الناس بالخروج فخرج، وهزمه أبو يزيد فمضى إلى القيروان. ودخل أبو يزيد رقادة فعاث فيها وبعث أيوب الزويلي في عسكر إلى القيروان فملكها في صفر سنة ثلاث وثلاثين، ونهبها وأمّن خليلا فقتله أبو يزيد، وخرج إليه شيوخ أهل القيروان فأمّنهم ورفع النهب عنهم، وزحف ميسور إلى أبي يزيد، وكان معه أبو كملان فكاتبوا أبا يزيد وداخلوه في الغدر بميسور، وكتب إليه القائم بذلك فحذّرهم فطردهم عنه، ولحقوا بأبي يزيد وساروا معه إلى ميسور فانهزم ميسور، وقتله بنو كملان وجاءوا برأسه فأطافه بالقيروان، وبعث بالبشرى إلى البلاد. وبلغت هزيمة ميسور إلى القائم بالمهدية فاستعدّ للحصار، وأمر بحفر الخنادق، وأقام أبو يزيد سبعين يوما في مخيم ميسور وبث السرايا في كل ناحية يغنمون ويعودون، وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها عنوة واستباحوها، وخرّب عمران إفريقية من سائر الضواحي ولحق فلّهم بالقيروان حفاة عراة. ومات أكثرهم جوعا وعطشا. ثم بعث القائم إلى رؤساء كتامة والقبائل وإلى زيري بن مناد ملك صنهاجة بالمسير إلى المهدية فتأهّبوا لذلك، وسمع أبو يزيد بخبرهم فنزل على خمسة فراسخ من المهدية، وبثّ السرايا في جهاتها، وسمع كتامة بافتراق عسكره في الغارة فخرجوا لبياته آخر جمادى الأولى، وكان ابنه فضل قد جاء بالمدد من القيروان فبعثه للقاء كتامة، وركب في أثرهم ولقي أصحابه منهزمين. ولما رآه الكتاميون انهزموا بغير قتال(4/53)
وأتبعهم أبو يزيد إلى باب المهدية ورجع. ثم جاء بعد أيام لقتالهم فوقف على الخندق المحدث، وعليه جماعة من العبيد فقاتلهم ساعة وهزمهم، وجاوز السور إلى البحر ووصل المصلى على رمية سهم من البلد، والبربر يقاتلون من الجانب الآخر. ثم حمل الكتاميون عليهم فهزموهم وبلغ ذلك أبا يزيد، وسمع بوصول زيري بن مناد فاعتزم أن يمرّ بباب المهديّة ويأتي زيري وكتامة من ورائهم فقاتلوا أهل الأرباض، ومالوا عليه لما عرفوه ليقتلوه، وتخلّص بعد الجهد ووصل إلى منزله فوجدهم يقاتلون العبيد كما تركهم فقوي أصحابه وانهزم العبيد. ثم رحل وتأخّر قليلا وحفر على معسكره خندقا واجتمع عليه خلق عظيم من البربر ونفوسة والزاب وأقاصى المغرب، وضيّق على أهل المرية ثم زحف إليها آخر جمادى فقاتلهم وتورّط في قتالها يومه ذلك. ثم خلص وكتب إلى عامل القيروان أن يبعث إليه مقاتلتها، فجاءوا وزحف بهم آخر رجب فانهزم، وقتل من أصحابه. ثم زحف الزحف الرابع آخر شوّال ولم يظفر، ورجع إلى معسكره واشتدّ الحصار على أهل المهديّة حتى أكلوا الميتات والدواب، وافترق أهلها في النواحي، ولم يبق بها إلّا الجند وفتح القائم أهراء [1] الزرع التي أعدّها المهدي وفرّقها فيهم. ثم اجتمعت كتامة وعسكروا بقسنطينة فبعث إليهم أبو يزيد بعثا من وربجومة وغيرهم فهزموا كتامة، ووافت أبا يزيد حشود البربر من كل ناحية وأحاط بسوسة وضيّق عليها. ثم انتقض البربر عليه بما كان منه من المجاهرة بالمحرّمات والمنافسة بينهم فانفضّوا عنه، ورجع إلى القيروان سنة أربع وثلاثين، وغنم أهل المهديّة معسكره، وكثر عبث البربر في أمصار إفريقية وضواحيها، وثار أهل القيروان بهم، وراجعوا طاعة القائم، وجاء عليّ بن حمدون من المسيلة بالعساكر فبيته أيوب بن أبي يزيد وهزمه، وسار إلى تونس وجاءت عساكر القائم فواقعوه مرّات وانهزم إلى القيروان في ربيع سنة أربع وثلاثين. فبعث أيوب ثانية لقتال عليّ بن حمدون ببلطة، وكانت حروبه معه سجالا إلى أن اقتحم عليه البلد بمداخلة بعض أهلها. ولحق ابن حمدون ببلاد كتامة واجتمعت قبائل كتامة ونفزة ومزاتة وعسكروا بقسنطينة. وبعث ابن حمدون العساكر إلى هوارة فأوقعوا بهم، وجاءهم مدد أبي يزيد فلم يغن عنهم. وملك ابن حمدون مدينة يتجست وباغاية. ثم زحف أبو يزيد
__________
[1] قوله: أهراء قال المجد: والهري بالضم بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان، الجمع اهراء. انتهى(4/54)
إلى سوسة في جمادى الآخرة من سنته وبها عسكر القائم، وتوفي القائم وهو بمكانه من حصارها.
(وفاة القائم وولاية ابنه المنصور)
ثم توفي القائم أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقية، بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل بعده وتلقّب بالمنصور، وكتم موت أبيه حذرا أن يطلع عليه أبو يزيد وهو بمكانه من حصار سوسة، فلم يسمّ بالخليفة ولا غيّر السكة ولا الخطبة ولا البنود إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد كما يذكر.
(بقية أخبار أبي يزيد ومقتله)
ولمّا مات القائم كان أبو يزيد محاصرا لسوسة كما تقدّم، وقد جهد أهلها الحصار، فلمّا وليّ إسماعيل المنصور وكان أول عمله أن بعث الأساطيل من المهديّة إلى سوسة مشحونة بالمدد من المقاتلة والأمتعة والميرة مع رشيق الكاتب ويعقوب بن إسحاق، وخرج بنفسه في أثرهم، وأشار أصحابه بالرجوع فرجع ووصل الأسطول إلى سوسة، وخرجوا لقتال أبي يزيد وعساكر سوسة معهم فانهزم أبو يزيد، واستبيح معسكره نهبا وإحراقا، ولحق بالقيروان فمنعه أهلها من الدخول وثاروا بعامله فخرج إليه، ورحل إلى سبيبة وذلك أواخر شوّال سنة أربع. وجاء المنصور إلى القيروان وأمّن أهلها وأبقى على حرم أبي يزيد وأولاده، وأجرى عليهم الرزق، وخرجت سرية من عسكر المنصور لاستكشاف خبر أبي يزيد وجاءت أخرى من عسكر أبي يزيد لمثل ذلك فالتقوا وانهزمت سرية المنصور، فقوي أبو يزيد بذلك وكثر جمعه، وعاد فقاتل القيروان وخندق المنصور على عسكره، وقاتلهم أبو يزيد فكان الظفر أول يوم للمنصور، ثم قاتلهم ثانيا فانهزموا وثبت المنصور وراجع أصحابه من طريق المهديّة وسوسة. ولما رأى أبو يزيد امتناعهم عليه رحل أواخر ذي القعدة، ثم رجع فقاتلهم وكانت الحرب سجالا، وبعث السرايا إلى طريق المهديّة وسوسة نكاية فيهم، وبعث إلى المنصور في حرمه وأولاده فبعثهم إليه بعد أن وصلهم. وقد كان(4/55)
أقسم على الرحيل، فلمّا وصلوا إليه نكث وقاتلهم خامس المحرّم سنة خمس وثلاثين فهزمهم. ثم عبّى المنصور عساكره منتصف المحرّم وجعل البرابر في الميمنة وكتامة في الميسرة، وهو وأصحابه في القلب. وحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ثم على القلب فلقيه المنصور واشتدّ القتال. ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم وأسلم أثقاله وعسكره وقتل خلق من أصحابه وبلغت رءوس القتلى الّذي في أيدي صبيان القيروان عشرة آلاف، ومضى أبو يزيد لوجهه، ومرّ بباغاية فمنعه أهلها من الدخول فأقام يحاصرها، ورحل المنصور في ربيع الأول لاتباعه، واستخلف على المهديّة مراما الصقليّ وأدركه على باغاية فأجفل المنصور في إتباعه. وكلّما قصد حصنا سبقه المنصور إليه إلى أن نزل المنصور طبنة فجاءته رسل محمد بن خزر أمير مغراوة من أصحاب أبي يزيد ومواطئه بالغرب الأوسط فاستأمن للمنصور فأمنه، وأمره بطلب أبي يزيد. ووصل أبو يزيد إلى بني برزال وكانوا نكاريّة، وبلغه خبر المنصور في اتباعه فسلك الرملة. ثم عاد إلى نواحي غمرت فصادف المنصور وقاتله فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات، والمنصور في أثره في جبال وأوعار ومضايق تفضي إلى القفر، وأصابهم الجهد وعلم أنه ليس أمامه إلّا المفازة إلى بلاد السودان فرجع إلى غمرت من بلاد صنهاجة. ووفد عليه هنالك زيري بن مناد أمير صنهاجة فأكرمه ووصله كما يجب له.
وجاء كتاب محمد بن خزر بالمكان الّذي فيه أبو يزيد من المفازة، وأقام المنصور هنالك لمرض أصابه فرجع أبو يزيد الى المسيلة وحاصرها. فلما عوفي المنصور رحل أوّل رجب سنة خمس وثلاثين وقصده فأفرج عن المسيلة، وقصد المفازة يريد بلاد السودان فأبى عليه بنو كملان أصحابه فرجعوا إلى جبال كتامة وعجيسة فتحصّنوا بها. وجاء المنصور فنزل بساحتهم عاشر شعبان ونزل أبو يزيد فقاتلهم فانهزم وأسلم عسكره وأولاده، وطعنه بعض الفرسان فأكبّه وحامي عنه أصحابه فقتل في الحومة ما يزيد على عشرة آلاف، وتخلّص. ثم سار المنصور في أثره أوّل رمضان ولم يقدر أحد من الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وصعوبته. ثم انهزم أبو يزيد لما ضرسه الحرب، وترك أثقاله وساروا إلى رءوس الجبال يرمون بالصخر، وتزاحفوا حتى تعانقوا بالأيدي وكثر القتل. ثم تحاجزوا وتحصّن أبو يزيد بقلعة كتامة واستأمن الذين معه من هوارة فأمّنهم المنصور، وحصر أبا يزيد في القلعة وقاتلها غير مرّة حتى افتتحها عنوة وأضرمها نارا، وقتل أصحاب أبي يزيد في كل ناحية وجمع أهله وأولاده في(4/56)
القصر، وأظلم الليل فأمر المنصور بإشعال النيران في الشعراء [1] المحيطة بالقصر حتى أضاء الليل لتكون أحواله بمرأى منهم حذرا من فراره، حتى خرج الليل وحمل في أصحاب المنصور حملة منكرة فأفرجوا له، وأمر المنصور بطلبه فألفوه وقد حمله ثلاثة من أصحابه لأنه كان جريحا فسقط من الوعر وارتث [2] فحملوه إلى المنصور فسجد سجدة الشكر، وأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين. ثم هلك من الجراحة التي به فأمر بسلخ جلده وحشوه تبنا واتخذ له قفصا فأدخل فيه مع قردين يلاعبانه بعثاله [3] . ورحل إلى القيروان والمهديّة ولحق ابنه فضل بمعبد بن خزر، وزحف به الى طبنة وبسكرة. وقصد المنصور فانهزم معبد وصعد إلى كتامة، فبعث إليه العساكر مع مولييه شفيع وقيصر، ومعهما زيري بن مناد في صنهاجة، فانهزم فضل ومعبد وافترق جمعهم ورجع المنصور إلى القيروان فدخلها.
(بقية أخبار المنصور)
ثم انتقض حميد بن يضلبتن عامل المغرب وانحرف عن طاعة الشيعة، ودعا للأموية من وراء البحر، وزحف إلى تاهرت فحاصرها فنهض إليه المنصور في صفر سنة ست وثلاثين، وجاء إلى سوق حمزة فأقام به. وحشد زيري بن مناد جموع صنهاجة من كل ناحية، ورحل مع المنصور فأفرج حميد عن تاهرت، وعقد عليها ليعلى بن محمد اليفرني، وعقد لزيري بن مناد على قومه وعلى سائر بلادهم. ثم رحل لقتال لواتة فهربوا إلى الرمال، وأقام هو على واد ميناس، وكان هنالك ثلاثة جبال كل منهم عليه قصر مبني بالحجر المنحوت، فوجد في وجه أحد هذه القصور كتابة على حجر فسيح، فأمر المنصور التراجمة بقراءته، وإذا فيه أنا سليمان السردغوس خالف أهل هذا البلد على الملك، فبعثني إليهم ففتح الله عليهم وبنيت هذا البناء لأذكر به.
ذكر هذه الغريبة ابن الرقيق في تاريخه. ثم رحل المنصور إلى القيروان بعد أن خلع
__________
[1] الشجر الكثير.
[2] وارتث: اي حمل من المعركة جريحا (القاموس) .
[3] اي بلحيته الكبيرة.(4/57)
على زيري بن مناد وحمله ودخل المنصورية في جمادى سنة ست وثلاثين، فبلغه أن فضل بن أبي يزيد جاء إلى جبل أوراس، وداخل البربر في الثورة فخرج إليه المنصور فدخل الرمل، ورجع المنصور إلى القيروان ثم إلى المهدية، ورجع فضل بن أبي يزيد إلى باغاية وأقام يحاصرها فغدر به باطيط، وبعث برأسه الى المنصور. ثم عقد سنة تسع وثلاثين للحسين بن عليّ بن أبي الحسين الكلبيّ على صقلّيّة وأعمالها، وكانت لخليل بن إسحاق فصرفه الحسين واستقلّ بولايتها، فكان له فيها ولبنيه ملك سنذكره. وبلغ المنصور أنّ ملك إفرنجة يريد غزو المسلمين فأخرج أسطوله، وشحنه بالعساكر لنظر مولاه فرج الصقليّ، وأمر الحسين بن عليّ عامل صقلّيّة بالخروج معه فأجازوا البحر إلى عدوة الإفرنجة، ونزلوا قلورية ولقيهم رجاء ملك الفرنجة فهزموه.
وكان فتحا لا كفاء له، وذلك سنة أربعين وثلاثمائة، ورجع فرج بالغنائم إلى المهديّة سنة اثنتين وأربعين، وكان معبد بن خزر بعد مظاهرته لفضل بن أبي يزيد لم يزل منتقضا وأولياء المنصور في طلبه حتى أخذ في بعض الوقائع، وسيق مع ابنه إلى المنصور فطيف بهما في أسواق المنصوريّة، ثم قتلا سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
(وفاة المنصور وولاية ابنه المعز)
ثم توفي المنصور إسماعيل بن القاسم سلخ رمضان سنة إحدى وأربعين لسبع سنين من خلافته، أصابه الجهد من مطر وثلج تجلّد على ملاقاته، ودخل على أثره الحمّام فعيت [1] حرارته ولازمه السهر فمات. وكان طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي قد نهاه عن الحمّام فلم يقبل وولي الأمر بعده ابنه معدّ، ولقب المعز لدين الله فاستقام أمره، وخرج لجبل أوراس سنة اثنتين وأربعين، وجالت فيه عساكره واستأمن إليه بنو كملان ومليلة من هوارة، ودخلوا في طاعته فأمّنهم وأحسن إليهم. واستأمن إليه محمد بن خزر بعد قتل أخيه معبد فأمّنه ورجع إلى القيروان وترك مولاه قيصر في العساكر، وعقد له على باغاية فدوّخ البلاد وأحسن إلى الناس، وألف من كان شاردا من البربر. ورجع بهم إلى القيروان فأكرمهم المعز ووصلهم. ثم وفد بعدهم محمد
__________
[1] ربما تكون علت حرارته اي ارتفعت.(4/58)
بن خزر أمير مغراوة فلقّاه مبرّة وتكريما. وأقام عنده بالقيروان إلى أن هلك سنة ثمان وأربعين. واستقدم المعزّ زيري بن مناد سنة ثلاث وأربعين أمير صنهاجة، فقدم من أشير فأجزل صلته وردّه إلى عمله. وبعث إلى الحسين بن علي عامل صقلّيّة سنة أربع وأربعين أن يخرجه بأسطوله إلى ساحل المرية من بلاد الأندلس، فعاث فيه وغنم وسبى، ورجع فأخرج الناصر صاحب الأندلس أسطوله إلى سواحل إفريقية مع غالب مولاه فمنعتهم العساكر، وأقلعوا. ثم عاودوا سنة خمس وأربعين في سبعين مركبا فأحرقوا مرسى الخزر وعاثوا في جهات سوسة، ثم في نواحي طبرنة ورجعوا.
واستقام أمر المعزّ في بلاد إفريقية والمغرب واتسعت إيالته، وكانت أعماله من ايفكان خلف تاهرت بثلاثة مراحل إلى زناتة التي دون مصر وعلى تاهرت وايفكان يعلى بن محمد اليفرني، وعلى أشير وأعمالها زيري بن مناد الصنهاجي وعلى المسيلة وأعمالها جعفر ابن علي الأندلسي وعلى باغاية وأعمالها قيصر الصقليّ. وكان على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذامي، وعلى سجلماسة محمد بن واسول المكناسي. ثم بلغه سنة سبع وأربعين أن يعلى بن محمد اليفرني داخل الأموية من وراء البحر، وأنّ أهل المغرب الأقصى نقضوا طاعة الشيعة، فأغزى جوهر الصقلّيّ الكاتب إلى المغرب بالعساكر، وكان على وزارته، وخرج معه جعفر بن عليّ صاحب المسيلة، وزيري بن مناد صاحب أشير وتلقّاهم يعلى بن محمد صاحب المغرب الأوسط. ولما ارتحل عن ايفكان وقعت هيعة في أصحاب صيلة وقيل له إنّ بني يعرب أوقعوها فتقبض على يعلى وناشته سيوف كتامة لحينه، وخرب ايفكان وأسر ابنه يدو بن يعلى، وتمادوا إلى فاس ثم تجاوزوها إلى سجلماسة فأخذها، وتقبّض على الشاكر للَّه محمد بن الفتح الّذي تلقّب بأمير المؤمنين من بني واسول، وولّى ابن المعتز من بني عمه مكانه ودوّخ المغرب إلى البحر. ثم رجع الى فاس وحاصرها وواليها يومئذ أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي، وقاتلها مدّة فامتنعت عليه وجاءته هدايا الأمراء الأدكرنية من السوس.
ثم رحل الى سجلماسة، وبها محمد بن واسول من مكناسة وقد تلقّب بأمير المؤمنين الشاكر للَّه، وضرب السكة باسمه تقدّست عزة الله، فلما سمع بجوهر هرب، ثم أخذ أسيرا وجيء به إلى جوهر، وسار عن سجلماسة وافتتح البلاد في طريقه. ثم عاد إلى فاس وأقام في حصارها إلى أن افتتحها عنوة على يد زيري بن مناد تسنّم أسوارها ليلا ودخلها وتقبّض على أحمد بن بكر، وذلك سنة ثمان وأربعين، وولّى عليها من(4/59)
قبله، وطرد عمّال بني أمية من سائر المغرب. وانقلب الى القيروان ظافرا عزيزا، وضم تاهرت إلى زيري بن مناد. وقدم بالفاطميين وبأحمد بن بكر وبمحمد بن واسول أسيرين في قفصين، ودخل بهما إلى المنصورية في يوم مشهود. وكانت ولاية المغرب والمشرق منقسمة بين مولييه قيصر ومظفّر، وكانا متغلبين على دولته فقبض عليهما سنة تسع وأربعين وقتلهما. وفي سنة خمسين كان تغلّب النصارى على جزيرة اقريطش، وكان بها أهل الأندلس من جالية الحكم بن هشام بسبب ثورة الرفض، ففر بهم إلى الإسكندريّة فثاروا بها، وعبد الله بن طاهر يومئذ عامل مصر فحاصرهم بالإسكندرية حتى نزلوا على الأمان، وأن يجيزوا البحر إلى جزيرة أقريطش فعمّروها ونزلوها منذ تلك الأيام، وأميرها أبو حفص البلّوطي منهم، واستبدّ بها وورث بنوه رياسة فيها إلى أن نازلهم النصارى في هذه السنة في سبعمائة مركب، واقتحموها عليهم عنوة، وقتلوا منهم وأسروا، وبقيت في ايدي النصارى لهذا العهد والله غالب على أمره. وافتتح صاحب صقلّيّة سنة إحدى وخمسين قلعة طرمين، من حصون صقلّيّة بعد حصار طويل أجهدهم فنزلوا على حكم صاحب صقلّيّة بعد تسعة أشهر ونصف للحصار، وأسكن المسلمين بالقلعة وسمّاها المعزيّة نسبة إلى المعزّ صاحب إفريقية. ثم سار صاحب صقلّيّة بعدها وهو أحمد بن الحسن ابن علي بن أبي الحسن إلى حصار رمطة من قلاع صقلّيّة فاستمدوا ملكهم صاحب القسطنطينيّة، فجهّز لهم العساكر برا وبحرا، واستمد صاحب صقلّيّة المعزّ فامدّه بالعساكر مع ابنه الحسن، ووصل مدده إلى مدينة ميسنى، وساروا بجموعهم إلى رمطة، وكان على حصارها الحسن بن عمار فحمل عسكرا على رمطة وزحف إلى عسكر الروم مستميتا فقاتلهم فقتل أمير الروم وجماعة من البطارقة وهزموا أقبح هزيمة، واعترضهم خندق فسقطوا فيه، وأثخن المسلمون. فيهم وغنموا عسكرهم. واشتدّ الحصار على أهل رمطة وعدموا الأقوات فاقتحمها المسلمون عنوة، وركب فلّ الروم البحر يطلبون النجاة، فأتبعهم الأمير أحمد بن الحسن في أسطوله فأدركهم وسبح بعض المسلمين في الماء فخرّق مراكبهم وانهزموا، وبث أحمد سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها وعاثوا فيها حتى صالحوهم على الجزية، وكانت هذه الواقعة سنة أربع وخمسين وتسمّى وقعة المجاز.(4/60)
(فتح مصر)
ثم إنّ المعز لدين الله بلغه اضطراب أحوال مصر بعد موت كافور الإخشيدي وعظم فيها الغلاء وكثرت الفتن وشغل بغداد عنهم بما كان من الفتن بين بختيار بن معزّ الدولة، وعضد الدولة ابن عمه، فاعتزم المعزّ على المسير إلى مصر، وأخرج جوهرا الكاتب إلى المغرب لحشد كتامة، وأوعز إلى عمّال برقة لحفر الآبار في طريقها، وذلك سنة خمس وخمسين، فسيّره إلى مصر وخرج لتوديعه، وأقام أياما في معسكره، وسار جوهر وبلغ خبره إلى عساكر الإخشيدية بمصر فافترقوا، وكان ما يذكر في أخبارهم، وقدم جوهر منتصف شعبان من سنة ثمان وخمسين فدخلها وخطب في الجامع العتيق منه باسم المعزّ، وأقيمت الدعوة العلويّة وفي جمادى من سنة تسع وخمسين دخل جوهر جامع ابن طولون فصلّى فيه، وأمر بزيادة حيّ على خير العمل في الأذان، فكان أوّل أذان أذّن به في مصر. ثم بعث إلى المعزّ بالهدايا وبأعيان دولة الإخشيدية فحبسهم المعز بالمهديّة، وأحسن إلى القضاة والعلماء من وفدهم، وردّهم إلى مصر، وشرع جوهر في بناء القاهرة واستحث المعزّ للقدوم على مصر.
(فتح دمشق)
ولما فتحت مصر، وأخذ بنو طفج، هرب منهم الحسن بن عبد الله بن طفج إلى مكّة ومعه جماعة من قوّادهم، فلمّا استشعر جوهر به بعث جعفر بن فلاح الكتامي في العساكر إليه فقاتله مرارا ثم أسره ومن كان معه من القوّاد، وبعث بهم إلى جوهر فبعث بهم جوهر إلى المعزّ بإفريقية، ودخل جعفر الرملة عنوة فاستباحها، ثم أمّن من بقي وجبى الخراج وسار إلى طبرية وبها ابن ملهم وقد أقام الدعوة للمعز فتجافى عنه، وسار إلى دمشق فافتتحها عنوة وأقام بها الخطبة للمعز لأيام من المحرّم سنة تسع وخمسين، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشميّ وكان مطاعا فيهم، فجمع الأوباش والذعّار وثار بهم في الجمعة الثانية، ولبس السواد وأعاد الخطبة(4/61)
للمطيع فقاتلهم جعفر بن فلاح أياما ووالى عليهم الهزائم. وعاثت جيوش المغاربة في أهل دمشق فهرب ابن أبي يعلى ليلا من البلد وأصبحوا حيارى، وكانوا قد بعثوا الشريف الجعفري إلى جعفر في الصلح فأعاده إليهم بتسكين الناس والوعد الجميل، وأن يدخل البلد فيطوف فيه ويرجع إلى معسكره فدخل، وعاث المغاربة في البلد بالنهب فثار الناس بهم وحملوا عليهم، وقتلوا منهم وشرعوا في حفر الخنادق وتحصين البلد. ومشى الشريف أبو القاسم في الصلح بينهم وبين جعفر بن فلاح، فتم ذلك منتصف ذي الحجة من سنة تسع وخمسين، ودخل صاحب شرطة جعفر فسكن الناس وقبض على جماعة من الأحداث وقتل منهم وحبس. ثم قبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى في المحرّم من سنة ستين، وبعث به إلى مصر، واستقام ملك دمشق لجعفر بن فلاح، وكان خرج بإفريقية في سنة ثمان وخمسين أبو جعفر الزناتي واجتمعت إليه جموع من البربر والنكاريّة، وخرج إليه المعزّ بنفسه، وانتهى إلى باغاية وافترقت جموع أبي خزر [1] ، وسلك الأوعار فعاد المعزّ وأمر بلكين بن زيري بالمسير في طلبه فسار لذلك حتى انقطع عنه خبره، ثم جاء أبو جعفر مستأمنا سنة تسع وخمسين فقبله، وأجرى عليه الرزق، وعلى أثر ذلك وصلت كتب جوهر بإقامة دعوته بمصر والشام، وباستدعائه إليها فاشتدّ سرور المعز بذلك، وأظهره في الناس ونطق الشعراء بامتداحه. ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليهم ملكهم الأعصم.
ولقيهم جعفر بن فلاح فظفر بهم وقتلهم. ثم رجعوا إليه سنة إحدى وستين وبرز إليهم جعفر فهزموه وقتلوه، وملك الأعصم دمشق وسار إلى مصر وكاتب جوهر بذلك للمعزّ فاعتزم على الرحلة إليها.
(مسير المعز الى مصر ونزوله بالقاهرة)
ولما انتهت هذه الأخبار إلى المعزّ اعتزم على المسير إلى مصر، وبدأ بالنظر في تمهيد المغرب وقطع شواغله، وكان محمد بن الحسن بن خزر المغراوي مخالفا عليه بالمغرب الأوسط، وقد كثرت جموعه من زنانة والبربر، وكان جبّارا طاغيا فأهمّ المعزّ أمره وخشي على إفريقية عائلته، فأمر بلكين بن زيري بن مناد بغزوه فغزاه في بلاده،
__________
[1] الصحيح أبي جعفر.(4/62)
وكانت بينهما حروب عظيمة. ثم انهزم محمد بن خزر وجموعه، ولما أحسّ بالهزيمة تحامل على سيفه فقتل نفسه، وقتل في المعركة سبعة عشر من أمراء زناتة وأسر منهم كثير وذلك سنة ستين. وسرّ المعزّ ذلك وقعد للهناء به. واستقدم بلكين بن زيري فاستخلفه على إفريقية والمغرب، وأنزله القيروان وسمّاه يوسف، وكنّاه أبا الفتوح، وولّى على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي، ولم يجعل لبلكين ولاية عليه، ولا على صاحب صقلّيّة. وجعل على جباية الأموال زيادة الله بن الغريم، وعلى الخراج عبد الجبّار الخراسانيّ، وحسين بن خلف المرصدي بنظر بلكين، وعسكر ظاهر المنصوريّة آخر شوّال من سنة إحدى وستين، وأقام على سردانية قريبا من القيروان حتى فرغ من أعماله، ولحقته عساكره وأهل بيته وعمّاله، وحمل له ما كان في قصره من الأموال والأمتعة. وارتحل بعد أربعة أشهر من مقامه وسار معه بلكين قليلا، ثم ودّعه وردّه إلى عمله، وسار هو إلى طرابلس في عساكره، وهرب بعضهم إلى جبل نفوسة فامتنعوا بها، وسار إلى برقة فقتل بها شاعره محمد بن هانئ الأندلسي، وجد قتيلا بجانب البحر في آخر رجب من سنة اثنتين وستين. ثم سار إلى الاسكندريّة وبلغها في شعبان من هذه السنة، ولقيه بها أعيان مصر فأكرمهم ووصلهم، وسار فدخل القاهرة لخمس من رمضان من هذه السنة فكانت منزله ومنزل الخلفاء بعده الى آخر دولتهم.
(حروب المعز مع القرامطة واستيلاؤه على دمشق)
كان للقرامطة على بني طفج بدمشق ضريبة يؤدّونها إليهم، فلمّا ملك ابن فلاح بدعوة المعزّ قطع تلك الضريبة، وآسفهم بذلك فرجعوا إلى دمشق وعليهم الأعصم ملكهم، فبرز إليهم جعفر بن فلاح فهزموه وقتلوه، وملكوا دمشق وما بعدها، إلى الرملة، وهرب من كان بالرملة وتحصّنوا بيافا. وملك القرامطة الرملة وجهّزوا العساكر على يافا، وساروا إلى مصر ونزلوا عين شمس وهي المعروفة لهذا العهد بالمطرية. واجتمع إليهم خلق كثير من العرب وأولياء بني طفج، وحاصروا المغاربة بالقاهرة وقاتلوهم أياما فكان الظفر بهم. ثم خرج المغاربة واستماتوا وهزمهم فرحلوا(4/63)
إلى الرملة وضيّقوا حصار يافا، وبعث إليهم جعفر بالمدد في البحر فأخذه القرامطة وانتهى الخبر إلى المعزّ بالقيروان. وجاء إلى مصر ودخلها كما ذكرناه. وسمع أنهم يريدون المسير إلى مصر فكتب إلى الأعصم يذكّره فضل بنيه وأنهم إنما دعوا له ولآبائه وبالغ في وعظه وتهدّده فأساء في جوابه، وكتب إليه: وصل كتابك الّذي قلّ تحصيله وكثر تفصيله، ونحن سائرون إليك والسلام. وسار من الأحساء إلى مصر ونزل عين شمس في عساكره، واجتمع إليه الناس من العرب وغيرهم. وجاء حسان بن الجرّاح في جموع عظيمة من طيِّئ، وبثّ سراياه في البلاد فعاثوا فيها وأهمّ المعز شأنه، فراسل ابن الجرّاح واستماله بمائة ألف دينار على أن ينهزم على القرامطة واستحلفوه على ذلك. وخرج المعز ليوم عيّنوه لذلك فانهزم ابن الجرّاح بالعرب، وثبت القرامطة قليلا ثم انهزموا وأخذ منهم نحو ألف وخمسمائة أسير. وقتلوا صبرا ونهب معسكرهم. وجرّد المعز القائد أبا محمود في عشرة آلاف فارس، وساروا في اتباعهم ولحق القرامطة بأذرعات وساروا منها إلى الأحساء، وبعث المعز القائد ظالم بن موهوب العقيليّ واليا على دمشق فدخلها، وكان العامل بها من قبل القرامطة أبو اللجاء وابنه في جماعة منهم فحبسهم ظالم وأخذ أموالهم، ورجع القائد أبو محمود من اتباع القرامطة إلى دمشق فتلقّاه ظالم وسرّ بقدومه وسأله المقام بظاهر دمشق حذرا من القرامطة ففعل ودفع أبا اللجاء وابنه فبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها. وعاث أصحاب أبي محمود في دمشق، فاضطرب الناس وقتل صاحب الشرطة بعضهم فثاروا به وقتلوا أصحابه. وركب ظالم بذراريهم وأجفل أهل الضواحي إلى البلد من عيث المغاربة، ثم وقعت في منتصف شوّال من سنة ثلاث وستين فتنة بين العامّة وبين عسكر أبي محمود وقاتلوه أياما، ثم هزمهم وتبعهم إلى البلد. وكان ظالم بن موهوب يداري العامّة فأشفق في هذا اليوم على نفسه، وخرج من دار الإمارة وأحرق المغاربة ناحية باب الفراديس، ومات فيها خلق، واتصلت الفتنة إلى ربيع الآخر من سنة أربع وستين. ثم وقع الصلح بينهم على إخراج ظالم من البلد وولاية جيش بن الصمصامة ابن أخت أبي محمود فسكن الناس إليه. ثم رجع المغاربة إلى العيث وعاد العامّة إلى الثورة، وقصدوا القصر الّذي فيه جيش فهرب ولحق بالعسكر، وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي وقطع الماء عن البلد فضاقت الأحوال وبطلت(4/64)
الأسواق، وبلغ الخبر إلى المعزّ فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى زياد الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة، وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل أفتكين واليا على دمشق. وكان أفتكين هذا من موالي عزّ الدولة بن بويه، ولما ثار الأتراك على ابنه بختيار مع سبكتكين، ومات سبكتكين، قدّمه الأتراك عليهم، وحاصروا بختيار بواسط، وجاء عضد الدولة لإنجاده فاجفلوا عن واسط فتركوه ببغداد. وسار أفتكين في طائفة من الجند إلى حمص فنزل قريبا منها، وقصده ظالم بن موهوب العقيليّ ليقبضه فعجز عنه، وسار أفتكين فنزل بظاهر دمشق وبها زياد خادم المعز، وقد غلب عليه، وعلى أعيان البلد الأحداث والذّعار، فلم يملكوا معهم أمر أنفسهم فخرج الأعيان إلى أفتكين، وسألوا منه الدخول إليهم ليولّوه، وشكوا إليه حال المغاربة وما يحملونهم عليه من عقائد بعض الرفض، وما أنزل بهم عمّالهم من الظلم والعسف، فأجابهم واستحلفهم وحلف لهم، وملك البلد وخرج منها زياد الخادم، وقطع خطبة المعزّ العلويّ وخطب للطائع العبّاسيّ، وقمع أهل الفساد ودفع العرب عمّا كانوا استولوا عليه من الضواحي. واستقل ملك دمشق وكاتب المعزّ بطلب طاعته وولايتها من قبله. فلم يثق إليه وردّه، وتجهّز لقصده، وجهّز العساكر فتوفي بعسكره ببلبيس كما يذكر.
(وفاة المعز وولاية ابنه العزيز)
ثم توفي المعزّ بمصر في منتصف ربيع الآخر سنة خمس وستين لثلاث وعشرين سنة من خلافته، وولي ابنه نزار بعهده إليه ووصيّته، ولقّب العزيز باللَّه، وكتم موت أبيه إلى عيد النحر من السنة فصلّى بالناس وخطبهم، ودعا لنفسه وعزّى بأبيه، وأقرّ يعقوب ابن كلس على الوزارة كما كان أيام أبيه، وأقرّ بلكين بن زيري على ولاية إفريقية وأضاف إليه ولاية عبد الله بن يخلف الكتامي، وهي طرابلس وسرت وجرابيه.
وكان أهل مكة والمدينة قد خطبوا للمعز أبيه في الموسم فتركوا الخطبة للعزيز، فبعث جيوشه إلى الحجاز فحاصروا مكة والمدينة وضيّقوا عليهم حتى رجعوا إلى دعوتهم، ابن خلدون م 5 ج 4(4/65)
وخطب للعزيز بمكة وكان أمير مكة عيسى بن جعفر والمدينة طاهر بن مسلم، ومات في هذه السنة فولي ابنه الحسن وابن أخيه مكانه.
(بقية أخبار أفتكين)
ولما توفي المعز وولي العزيز، قام أفتكين وقصد البلاد التي لهم بساحل الشام فبدأ بصيداء فحاصرها، وبها ابن الشيخ في رءوس المغاربة وظالم بن موهوب العقيليّ فبرزوا إليه وقاتلوه فاستنجد لهم، ثم كرّ عليهم وأوقع بهم وقتل منهم أربعة آلاف، وسار إلى عكة فحاصرها وقصد طبرية وفعل فيها مثل صيدا. ورجع واستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلس فأشار بإرسال جوهر الكاتب إليه، فجهّزه العزيز وبعثه، وأقبل أفتكين على أهل دمشق يريهم التحوّل عنهم ويذكرهم بذلك ليختبرهم فتطارحوا إليه، واستماتوا واستحلفهم على ذلك. ووصل جوهر في ذي القعدة سنة خمس وستين فحاصر دمشق شهرين، وضيّق حصارها وكتب افتكين إلى الأعصم ملك القرامطة يستنجده، فسار إليه من الأحساء واجتمع إليهم من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفا، وأدركوا جوهرا بالرملة وقطعوا عنه الماء فارتحل إلى عسقلان فحاصروه بها حتى بلغ الجهد، وأرسل جوهر إلى أفتكين بالمغاربة والوعد. والقرمطيّ يمنعه، ثم سأله في الاجتماع فجاءه أفتكين، ولم يزل جوهر يعتل له في الذروة والغارب، وأفتكين يعتذر بالقرمطيّ ويقول أنت حملتني على مداراته. فلما أيس منه كشف لهم عمّاهم فيه من الضيق، وسأله الصنيعة وأنها يتّخذها عند العزيز فحلف له على ذلك، وعزله القرمطيّ. وأراه جوهر أن يحمل العزيز على المسير بنفسه فصمّ من عزله وأبى إلّا الوفاء، وانطلق جوهر إلى مصر وأغرى العزيز بالمسير إليهم، فتجهّز في العساكر، وسار وجوهر في مقدّمته، ورجع أفتكين والقرمطيّ إلى الرملة، واحتشدوا ووصل العزيز فاصطفوا للحرب بظاهر الرملة في محرّم سنة سبع وستين. وبعث العزيز إلى أفتكين يدعوه إلى الطاعة ويرغّبه ويعده بالتقدّم في دولته ويدعوه إلى الحضور عنده، فتقدّم بين الصفّين وترجّل وقبّل الأرض وقال: قل لأمير المؤمنين لو كان قبل هذه لسارعت، وأما الآن فلا يمكنني. وحمل على الميسرة فهزمهم وقتل الكثير منهم، فامتعض العزيز وحمل هو والميمنة جميعا فهزمهم، ووضع المغاربة السيف فقتلوا نحوا من(4/66)
عشرين ألفا، ثم نزل في خيامه وجيء بالأسرى فخلع على من جاء بهم وبذل لمن جاء بأفتكين مائة ألف دينار، فلقيه المفرّج بن دغفل الطائي، وقد جهده العطش فاستسقاه فسقاه وتركه بعرشه مكرّما. وجاء إلى العزيز فأخبره بمكانه، وأخذ المائة ألف التي بذلها فيه، وأمكنه من قياده. ولما حضر عند العزيز وهو لا يشك أنه مقتول أكرمه العزيز ووصله، ونصب له الخيام وأعاد إليه ما نهب له، ورجع به إلى مصر فجعله أخص خدمه وحجّابه، وبعث إلى الأعصم القرمطيّ من يردّه إليه ليصله، كما فعل بأفتكين فأدرك بطبرية، وامتنع من الرجوع فبعث إليه بعشرين ألف دينار وفرضها له ضريبة، وسار القرمطيّ إلى الأحساء، وعاد العزيز إلى مصر ورقى رتبة أفتكين وخصّ به الوزير يعقوب بن كلس فسمّه، وسمع العزيز بأنه سمّه فحبسه أربعين يوما وصادره على خمسمائة ألف دينار، ثم خلع عليه وأعاده إلى وزارته.
وتوفي جوهر الكاتب في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانين، وقام ابنه الحسن مقامه، ولقّب قائد القوّاد. وكان أفتكين قد استخلص أيام وزارته بدمشق رجلا اسمه قسّام، فعلا صيته وكثر تابعه، واستولى على البلد. ولما انهزم أفتكين والقرامطة، بعث العزيز القائد أبا محمود بن إبراهيم واليا على دمشق كما كان لأبيه المعزّ فوجد فيها قسّاما قد ضبط البلد، وهو يدعو للعزيز فلم يتم له معه ولاية. وبقي قسّام مستبدا عليه إلى أن مات أبو محمود سنة سبعين. ثم جاء أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصل إلى دمشق، عند انهزامه أمام عضد الدولة، فمنعه قسّام من الدخول وخاف أن يغلبه على البلد بنفسه أو بأمر العزيز، واستوحش أبو ثعلب لذلك فقاتله قليلا، ثم رحل إلى طبريّة، وجاءت عساكر العزيز مع قائده الفضل فحاصروا قسّاما بدمشق، ولم يظفروا به ورجعوا. ثم بعث العزيز سنة تسع وستين سليمان بن جعفر بن فلاح فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام من دخولها، ودسّ إلى النّاس فقاتلوه وأزعجوه [1] عن مكانه. وكان مفرج بن الجرّاح أمير بني طيِّئ وسائر العرب بأرض فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته، وعاث في البلاد وخرّبها، فجهّز العزيز العساكر لحربه مع قائدة بلتكين التركيّ، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه العرب من قيس وغيرهم، ولقي ابن الجرّاح وقد أكمن لهم بلتكين من ورائهم، فانهزم ومضى الى أنطاكية، فأجاره
__________
[1] اي أزاحوه وهي من معاني ابن خلدون.(4/67)
صاحبها، وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى بلاد الشام فخاف ابن الجرّاح وكاتب بكجور مولى سيف الدولة وعامله على حمص، ولجأ إليه فأجاره. ثم زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسّام أنه جاء لإصلاح البلد. وكان مع قسّام جيش ابن الصمصامة ابن أخت أبي محمود قد قام بعده في ولايته، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول معه بظاهر البلد هو وأصحابه. واستوحش قسّام وتجهّز للحرب. ثم قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا. واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين، وشافهوه بذلك فأذن لهم، وسمع قسّام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسّام، فأمّن الجميع وولّى على البلد أميرا اسمه خطلج، فدخل البلد وذلك في المحرم سنة اثنتين وسبعين، ثم اختفى قسّام بعد يومين فنهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقيا بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمّنه العزيز. وكان بكجور في غويّة من غلمان سيف الدولة وعامله على حمص. وكان يمدّ دمشق أيام هذه الفتنة والغلاء، ويحمل الأقوات من حمص إليها ويكاتب العزيز بهذه الخدم، ثم استوحش سنة ثلاث وسبعين من مولاه أبي المعالي فاستنجز من العزيز وعده إياه بولاية دمشق، وصادف ذلك أنّ المغاربة بمصر أجمعوا على التوثّب بالوزير ابن كلس، ودعت الضرورة إلى استقدام بلتكين من دمشق فأمره العزيز بالقدوم، وولاية بكجور على دمشق ففعل. ودخلها بكجور في رجب من سنة ثلاث وسبعين، وعاث في أصحاب ابن كلس وحاشيته بدمشق لما كان يبلغه عنه من صدّ العزيز عن ولايته. ثم أساء السيرة في أهل دمشق فسعى ابن كلس في عزله عند العزيز، وجهّز العساكر سنة ثمان وسبعين مع منير الخادم، وكتب إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته، وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم. ثم خاف من وصول نزال فاستأمن لهم وتوجّه إلى الرقّة فاستولى عليها، ودخل منير دمشق واستقّر في ولايتها، وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب. وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق إلى الرقّة سأل من سعد الدولة العود إلى ولاية حمص فمنعه فأجلب عليه، واستنجد العزيز لحربه، وبعث إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته فسار إليه بالعساكر، وخرج سعد الدولة من حلب للقائهم وقد أضمر نزال الغدر ببكجور، وتقدّم إليه بذلك عيسى بن نسطورس وزير العزيز بعد ابن كلس. وجاء سعد الدولة للقائهم وقد استمدّ عامل أنطاكية للروم فامدّه بجيش(4/68)
كثير وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه، ووعدوه بذلك من أنفسهم، فلما تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب فاستمات وحمل على الصفّ بقصد سعد الدولة، فقتل لؤلؤ الكبير مولاه بطعنه إياه. ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه، فسار إلى بعض العرب وحمل إلى سعد الدولة فقتله، وسار إلى الرقّة فملكها وقبض جميع أمواله، وكانت شيئا لا يعبّر عنه، وكتب أولاده إلى العزيز يستشفعون به، فشفع إلى سعد الدولة فيهم أن يبعثهم إلى مصر، ويتهدّده على ذلك، فأساء سعد الدولة الردّ وجهّز لحصار حلب الجيوش مع منجوتكين، فنزل عليها وحاصرها وبها أبو الفضائل بن سعد الدولة ومولاه لؤلؤ الصغير. وأرسلا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه وهو في قتال بلغار، فبعث إلى عامل أنطاكية أن يمدّهما، فسار في خمسين ألفا حتى نزل حبس العاصي، وبلغ خبره إلى منجوتكين فارتحل عن حلب، ولقي الروم فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا. وسار إلى أنطاكية وعاث في نواحيها، وخرج أبو الفضائل في مغيب منجوتكين إلى ضواحي حلب، فنقل ما فيها من الغلال وأحرق بقيتها لتفقد عساكر منجوتكين الأقوات. فلما عاد منجوتكين إلى الحصار، جهّز عسكره وأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربيّ في الصلح، فعقد له ذلك، ورحل منجوتكين، إلى دمشق، وبلغ الخبر إلى العزيز فغضب، وكتب إلى منجوتكين بالعود إلى حصار حلب وإبعاد الوزير المغربيّ، وأنفذ الأقوات للعسكر في البحر الى طرابلس. وأقام منجوتكين في حصار حلب وأعادوا مراسلة ملك الروم فاستنجدوه وأغروه، وكان قد توسّط بلاد البلغار فعاد مجدّا في السير. وبعث لؤلؤ إلى منجوتكين بالخبر حذرا على المسلمين، وجاءته جواسيسه بذلك، فأجفل بعد أن خرّب ما كان اتخذه في الحصار من الأسواق والقصور والحمّامات. ووصل ملك الروم إلى حلب ولقي أبا الفضائل ولؤلؤا، ثم سار في الشام وافتتح حمص وشيزر ونهبهما، وحاصر طرابلس أربعين يوما فامتنعت عليه، وعاد إلى بلاده. وبلغ الخبر إلى العزيز فعظم عليه، واستنفر الناس للجهاد، وبرز من القاهرة ذلك سنة إحدى وثمانين، ثم انتقض منير في دمشق، فزحف إليه منجوتكين إلى دمشق.(4/69)
(أخبار الوزراء)
كان وزير المعز لدين الله يعقوب بن يوسف بن كلس أصله من اليهود وأسلم، وكان يدبّر الأحوال الإخشيدية بمصر، وعزله أبو الفضائل بن الفرات سنة سبع وخمسين، وصادره فاستتر بمصر، ثم فرّ إلى المغرب ولقي المعز لدين الله، وجاء في ركابه إلى مصر فاستوزره وعظم مقامه عنده، واستوزره بعده ابنه العزيز إلى أن توفي سنة ثمانين وصلى عليه العزيز وحضر دفنه، وقضى عنه دينه، وقسّم عمله فردّ النظر في الظلامات الى الحسن بن عمّار كبير كتامة، وردّ النظر في الأموال إلى عيسى بن نسطورس، ولم تزل الوزارة سائر دولتهم في أرباب الأقلام، وكانوا بمكان، وكان منهم البارزي. وكان مع الوزارة قاضي القضاة وداعي الدعاة، وسأل أن يرسم اسمه على السكّة فغرب ومنع، ومات قتيلا بتنيس. وأبو سعيد النسري، وكان يهوديا وأسلم قبل وزارته، والجرجاني وقطع الجرجاني في أمر منع من الكتب فيه فكتب وحلف الحاكم بيمين لا تكفّر ليقطعنّه. ثم ردّه بعد ثلاث وخلع عليه وابن أبي كدينة ثلاثة عشر شهرا. ثم صرف وقتل وأبو الطاهر بن ياشاد، وكان من أهل الدين واستعفى فأعفي، وأقام معتكفا في جامع مصر وسقط ليلة من السطح فمات. وكان آخرهم الوزير أبو القاسم بن المغربيّ وكان بعده بدر الجيالي أيام المستنصر وزير سيف الدولة، واستبدّ له على الدولة ومن بعده منهم كما يأتي في أخبارهم.
(أخبار القضاة)
كان النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيّون في خطة القضاء للمعزّ بالقيروان.
ولما جاء إلى مصر أقام بها في خطة القضاء إلى أن توفي وولي ابنه عليّ، ثم توفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، فولّى العزيز أخاه أبا عبد الله محمدا، خلع عليه وقلّده سيفا.
وكان المعز قد وعد أباه بقضاء ابنه محمد هذا بمصر، وتمّ في سنة تسع وثمانين أيام الحاكم، وكان كبير الصيت، كثير الإحسان شديد الاحتياط في العدالة، فكانت أيامه شريفة. وولي بعده ابن عمه أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن النعمان أيام الحاكم،(4/70)
ثم عزل سنة أربع وتسعين، وقتل وأحرق بالنار، وولي مكانه ملكة بن سعيد الفارقيّ إلى أن قتله الحاكم سنة خمس وأربعمائة بنواحي القصور، وكان عالي المنزلة عند الحاكم ومداخلا له في أمور الدولة، وخالصة له في خلواته. وولّى بعده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوّام. واتصل في آخرين إلى آخر دولتهم، كان كثيرا ما يجمعون للقاضي المظالم والدعوة، فيكون داعي الدعاة، وربما يفردون كلّا منهما.
وكان القاضي عندهم يصعد مع الخليفة المنبر مع من يصعده من أهل دولته عند ما يخطب الخلفاء في الجمع والأعياد.
(وفاة المعز وولاية ابنه الحاكم)
قد تقدّم لنا أنّ العزيز استنفر الناس للجهاد سنة إحدى وثمانين، وبرز في العساكر لغزو الروم، ونزل بلبيس فاعتورته الأمراض، واتصلت به إلى أن هلك آخر رمضان سنة ست وثمانين لإحدى عشرة سنة ونصف من خلافته، ولقّب الحاكم بأمر الله، واستولى برجوان الخادم على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولته، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار ويلقّب بأمين الدولة، وتغلّب على ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم، ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة، وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك فأظهر الانتقاض، وجهّز العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح فلقيهم بعسقلان، وانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفين وسيق أسيرا إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة، وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، ويكنّى أبا تميم، فبعث من طبريّة أخاه عليا إلى دمشق، فامتنع أهلها، فكاتبهم أبو تميم وتهدّدهم وأذعنوا، ودخل على البلد ففتك فيهم. ثم قدّم أبو تميم فأمّن وأحسن وبعث أخاه عليا إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة فسار إلى مصر، وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة، وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة، ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده، فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة. وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة فانهزمت المغاربة، واختفى ابن عمّار وأظهر برجوان الحاكم وجدّد(4/71)
له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح فنهب، ونهبت خزائنه، واستمرّ القتل في كتامة واضطربت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث. ثم أذن برجوان لابن عمّار في الخروج من أستاره وأجرى له أرزاقه على أن يقيم بداره.
واضطرب الشام فانتقض أهل صور، وقام بها رجل ملّاح اسمه العلّاقة وانتقض مفرّج بن دغفل بن الجرّاح، ونزل على الرملة، وعاث في البلاد وزحف الدوقس ملك الروم إلى حصن أفامية محاصرا لها. وجهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة، فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون، وأسطولا في البحر، واستنجد العلّاقة ملك الروم فأنجده بالمقاتلة في المراكب، فظفر بهم أسطول المسلمين. واضطرب أهل صور وملكها ابن حمدان، وأسر العلّاقة، وبعث به إلى مصر فسلخ وصلب وسار جيش بن الصمصامة إلى المفرج بن دغفل فهرب أمامه، ووصل إلى دمشق، وتلقّاه أهلها مذعنين، وأحسن إليهم وسكّنهم ورفع أيدي العدوان عنهم. ثم سار إلى أفامية وصافّ الروم عندها فانهزم أولا هو وأصحابه، وثبت بشارة إخشيدي بن قرارة في خمس عشرة [1] فارسا، ووقف الدوقس ملك الروم على رابية في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الإخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمنا، فلما دنا منه ضربه بالخشت فقتله، وانهزم الروم وأتبعهم جيش بن الصمصامة إلى أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق. ثم عاد مظفّرا إلى دمشق فنزل بظاهرها ولم يدخل. واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم وأقيم له الطعام في كل يوم، وأقام على ذلك برهة. ثم أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب الحجرة عليهم، ويوضع السيف في سائرهم، فقتل منهم ثلاثة آلاف، ودخل دمشق وطاف بها وأحضر الأشراف فقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وبعث بهم إلى مصر وأمّن الناس. ثم إنه توفي ووليّ محمود بن جيش وبعث برجوان إلى بسيل ملك الروم فصالحه لعشر سنين، وبعث جيشا إلى برقة وطرابلس المغرب ففتحها، وولّى عليها يانسا الصقليّ. ثم ثقل مكان برجوان على الحاكم فقتله سنة تسع وثمانين، وكان خصيّا أبيض، وكان له وزير نصراني استوزره الحاكم من بعده. ثم قتل الحسين بن عمّار، ثم الحسين بن جوهر القائد. ثم جهّز العساكر مع يارخنكين إلى حلب،
__________
[1] وفي نسخة ثانية خمسمائة فارس وهو الأصح لأنه من غير المعقول ان يغيّر خمسة عشر فارسا سير المعركة.(4/72)
وقصد حسّان بن فرج الطائي، لما بلغ من عيثه وفساده، فلما رحل من غزوة إلى عسقلان لقيه حسّان وأبوه مفرج فانهزم وقتل، ونهبت النواحي وكثرت جموع بني الجرّاح وملكوا الرملة، واستقدموا الشريف أبا الفتوح الحسن بن جعفر أمير مكة فبايعوه بالخلافة. ثم استمالهما الحاكم ورغّبهما فردّاه إلى مكة وراجعا طاعة الحاكم، وراجع هو كذلك، وخطب له بمكة. ثم جهّز الحاكم العساكر إلى الشام مع عليّ ابن جعفر بن فلاح، وقصد الرملة، فانهزم حسّان بن مفرج وقومه، وغلبهم على تلك البلاد واستولى على أموالهم وذخائرهم، وأخذ ما كان لهم من الحصون بجبل السراة، ووصل إلى دمشق في شوّال سنة تسعين، فملكها واستولى عليها، وأقام مفرج وابنه حسّان شريدين بالقفر نحوا من سنتين. ثم هلك مفرّج وبعث حسّان ابنه إلى الحاكم فأمّنه وأقطعه ثم وفد عليه بمصر فأكرمه ووصله.
(خروج أبي ركوة ببرقة والظفر به)
كان أبو ركوة هذا يزعم أنه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل، وأنه هرب من المنصور بن أبي عامر حين تتّبعهم بالقتل وهو ابن عشرين سنة، وقصد القيروان فأقام بها يعلّم الصبيان. ثم قصد مصر وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن والشام وكان يدعو للقائم من ولد أبيه هشام، واسمه الوليد وإنما لقبه أبا ركوة لأنه كان يحملها لوضوئه على عادة الصوفيّة. ثم عاد إلى نواحي مصر ونزل على بني قرّة من بادية هلال بن عامر، وأقام يعلّم الصبيان ويؤمهم في صلاتهم. ثم أظهر ما في نفسه ودعا للقائم. وكان الحاكم قد أسرف في القتل في أصناف الناس وطبقاتهم، والناس معه على خطر، وكان قتل جماعة من بني قرّة وأحرقهم بالنار لفسادهم، فبادر بنو قرّة وكانوا في أعمال برقة فأجابوه وانقادوا له وبايعوا. وكان بينهم وبين لواتة ومزاتة وزناتة جيرانهم في الأصل حروب ودماء فوضعوها. واتّفقوا على بيعته. وكتب عامل برقة أنيال الطويل بخبرهم إلى الحاكم فأمره بالكفّ عنهم. ثم اجتمعوا وساروا إلى برقة فهزموا العامل برمادة، وملكوا برقة وغنموا الأموال والسلاح وقتلوه. وأظهر أبو ركوة العدل، وبلغ الخبر إلى الحاكم فاطمأنت نفسه، وكفّ عن(4/73)
الأذى والقتل، وجهّز خمسة آلاف فارس مع القائد أبي الفتوح الفضل بن صالح فبلغ ذات الحمّام، وبينها وبين برقة مفازة صعبة معطشة، وأمر أبو ركوة من غور المياه التي فيها على قلبها. ثم سار للقائهم بعد خروجهم من المفازة على جهد العطش فقاتلهم، ونال منهم وثبت أبو ركوة واستأمن إليه جماعة من كتامة لما نالهم من أذى الحاكم وقتله فأمّنهم، ولحقوا به، وانهزمت عساكر الحاكم وقتل خلق كثير منهم.
ورجع أبو ركوة إلى برقة ظافرا وردّد البعوث والسرايا إلى الصعيد وأرض مصر. وأهمّ الحاكم أمره وندم على ما فرّط. وجهّز عليّ بن فلاح العساكر لحربهم، وكاتب الناس أبا ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسن بن جوهر قائد القوّاد، وبعثهم في ستة عشر ألف مقاتل سوى العرب، وبعث أخاه في سرية فواقع بني قرّة وهزمهم، وقتل من شيوخهم عبد العزيز بن مصعب ورافع بن طراد ومحمد بن أبي بكر، واستمال الفضل بني قرّة فأجابه ماضي بن مقرب من أمرائهم، وكان يطالعه بأخبارهم. وبعث عليّ بن فلاح عسكرا إلى الفيّوم فكبسه بنو قرّة وهزموه، ونزل أبو ركوة بالهرمين، ورجع من يومه ثم رحل الفضل إلى الفيّوم لقتالهم فواقعهم برأس البركة وهزمهم، واستأمن بنو كلاب وغيرهم، ورجع عليّ بن فلاح، وتقدّم الفضل لطلب أبي ركوة وخذل ماضي بن مقرب بني قرّة عن أبي ركوة فقالوا له أنج بنفسك إلى بلد النوبة، ووصل إلى تخومهم وقال: أنا رسول الحاكم فقالوا لا بدّ من استئذان الملك، فوكّلوا به وطالعوا الملك بحقيقة الحال. وكان صغيرا قد ولي بعد سرقة أبيه، وبعث إليه الفضل بشأنه وطلبه فكتب إلى شجرة بن منيا قائد الخيل بالثغر بأن يسلّمه إلى نائب الحاكم، فجاء به رسول الفضل وأنزله الفضل في خيمة وحمله إلى مصر فطيف به على جمل لابسا طرطورا [1] وخلفه قرد يصفعه. ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل، فمات قبل وصوله، وقطع رأسه وصلب. وبالغ الحاكم في إكرام الفضل ورفع مرتبته، ثم قتله بعد ذلك، وكان ظفر الحاكم بأبي ركوة سنة سبع وتسعين.
__________
[1] قلنسوة طويلة يلبسها عادة المهرّجون.(4/74)
(بقية أخبار الحاكم)
كان الحسن بن عمّار زعيم كتامة مدبّر دولته كما ذكرناه، وكان برجوان خادمه وكافله، وكان بين الموالي والكتاميين في الدولة منافسة. وكان كثيرا ما يفضي إلى القتال، واقتتلوا سنة سبع وثمانين، وأركب المغاربة ابن عمّار والموالي برجوان، وكانت بينهم حروب شديدة. ثم تحاجزوا واعتزل ابن عمّار الأمور وتخلّى بداره عن رسومه وجراياته، وتقدّم برجوان بتدبير الدولة. وكان كاتب بن فهر بن إبراهيم يربع [1] وينظر في الظلامات ويطالعه. وولّى على برقة يأنس صاحب الشرطة مكان صندل. ثم قتل برجوان سنة تسع وثمانين ورجع التدبير إلى القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر، وبقي ابن فهر على حاله. وفي سنة تسعين انقطعت طرابلس عن منصور بن بلكين بن زيري صاحب إفريقية، وولّى عليها يأنس العزيزي من موالي العزيز، فوصل إليها وأمكنه عامل المنصور منها، وهو عصولة بن بكّار. وجاء إلى الحاكم بأهله وولده وماله وأطلق يد يأنس على مخلّفه بطرابلس، يقال كان له من الولد نيف وستون بين ذكر وأنثى، ومن السراري خمس وثلاثون فتلقّى بالمبرّة وهيّئ له القصور ورتّب له الجراية وقلّده دمشق وأعمالها، فهلك بها لسنة من ولايته. وفي سنة اثنتين وتسعين وصل الصريخ من جهة فلفول بن خزرون المغراوي في ارتجاع طرابلس إلى منصور بن بلكين، فجهّزت العساكر مع يحيى بن علي الأندلسي الّذي كان جعفر أخوه عامل الزاب للعبيديين، ونزع إلى بني أمية وراء البحر. ولم يزل هو وأخوه في تصريفهم إلى أن قتل المنصور بن أبي عامر جعفرا منهما، ونزع أخوه يحيى إلى العزيز بمصر فنزل عليه وتصرّف في خدمته وبعثه الآن الحاكم في العساكر لما قدّمناه، فاعترضه بنو قرّة ببرقة ففضّوا جموعه، ورجع إلى مصر وسار يأنس من برقة إلى طرابلس، فكان من شأنه مع عصولة ما ذكرناه. وبعد وفاة عصولة ولي على دمشق مفلح الخادم، وبعده عليّ بن فلاح سنة ثمان وتسعين. وبعد مسير يأنس ولي على برقة صندل الأسود. وفي سنة ثمان وتسعين عزل الحسين بن جوهر القائد وقام
__________
[1] ربّع الحبل اي فتّله من اربع طاقات ولا معنى لها في سياق الجملة ولعلها تعني الجلوس على الركبتين وهي كلمة عامية.(4/75)
بتدبير الدولة صالح بن علي بن صالح الروباذيّ. ثم نكب حسين القائد بعد ذلك وقتل، ثم قتل صالح بعد ذلك وقام بتدبير الدولة الكافي بن نصر بن عبدون، وبعده زرعة بن عيسى بن نسطورس، ثم أبو عبد الله الحسن بن طاهر الوزّان. وكثر عيث الحاكم في أهل دولته وقتله إيّاهم مثل الجرجرائي [1] وقطعه أيديهم، حتى أنّ كثيرا منهم كانوا يهربون من سطوته، وآخرون يطلبون الأمان فيكتب لهم به السجلّات.
وكان حاله مضطربا في الجور والعدل والإخافة والأمن والنسك والبدعة. وأمّا ما يرمي به من الكفر وصدور السجلات بإسقاط الصلوات فغير صحيح، ولا يقوله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته. وأمّا مذهبه في الرافضة فمعروف. ولقد كان مضطربا فيه مع ذلك، فكان يأذّن في صلاة التراويح ثم ينهي عنها، وكان يرى بعلم النجوم ويؤثره، وينقل عنه أنه منع النساء من التصرّف في الأسواق، ومنع من أكل الملوخيّا. ورفع إليه أنّ جماعة من الروافض تعرّضوا لأهل السنّة في التراويح بالرجم، وفي الجنائز، فكتب في ذلك سجلا قرئ على المنبر بمصر كان فيه: أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين يتلوا عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إِكْراهَ في الدِّينِ 2: 256 (الآية) . مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه. معاشر المسلمين نحن الأئمة، وأنتم الأمّة. لا يحلّ قتل من شهد الشهادتين [2] ولا يحلّ عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوّة، عصم الله بها من عصم، وحرّم لها ما حرّم، من كل محرّم من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد من العبّاد يستقبح. يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يذكر. ولا يقبل على ما مرّ وأدبر من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم باللَّه وقائمهم بأمر الله، ومنصور هم باللَّه ومعزّهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهديّة والمنصوريّة، وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفيّة ليست بمستورة عنهم ولا مطويّة. يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيها يصلون وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون. يخمّس في التكبير على الجنائز
__________
[1] وهو أحد وزراء الحاكم.
[2] بياض بالأصل وبعد مراجعة النص تبين ان الكلام تام.(4/76)
المخمّسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربّعون. يؤذّن بحيّ على خير العمل المؤذّنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذّنون. لا يسبّ أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف. لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده وإلى الله ربّه ميعاده، عنده كتابه وعليه حسابه. ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يستعلى مسلم على مسلم بما أعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما أعتمده من جميع ما نصّه أمير المؤمنين في سجلّه هذا، وبعده قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.
(وفاة الحاكم وولاية الظاهر)
ثم توفي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار قتيلا ببركة الحبش بمصر، وكان يركب الحمار ويطوف بالليل ويخلو بدار في جبل المقطم للعبادة، ويقال لاستنزال روحانية الكواكب. فصعد ليلة من ليالي [1] لثلاث بقين من شوّال سنة إحدى عشرة ركب على عادته ومشى معه راكبان فردّهما واحدا بعد آخر في تصاريف أموره. ثم افتقد ولم يرجع، وأقاموا أياما في انتظاره. ثم خرج مظفّر الصقليّ [2] والقاضي وبعض الخواصّ إلى الجبل فوجدوا حماره مقطوع اليدين، واتبعوا أثره إلى بركة الحبش فوجدوا ثيابه مزرّرة وفيها عدّة ضربات بالسكاكين فأيقنوا بقتله. ويقال إنّ أخته بلغه أنّ الرجال يتناوبون بها فتوعّدها فأرسلت الى ابن دواس من قوّاد كتامة، وكان يخاف الحاكم فأغرته بقتله، وهوّنته عليه لما يرميه به الناس من سوء العقيدة، فقد يهلك الناس ونهلك معه. ووعدته بالمنزلة والاقطاع، فبعث إليه
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لا بن الأثير ج 9 ص 314: «وكان سبب فقده انه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصح عند قبر الفقّاعيّ، وتوجّه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب الى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابيّ الآخر، وذكر انه خلّفه عند العين والمقصبة.
[2] مظفر الصقلبيّ: المرجع السابق.(4/77)
رجلين فقتلاه في خلوته. ولما أيقنوا بقتله اجتمعوا إلى أخته ست الملك فأحضرت عليّ بن دواس، وأجلس عليّ بن الحاكم صبيا لم يناهز الحلم وبايع له الناس، ولقّب الظاهر لإعزاز دين الله، ونفذت الكتب إلى البلاد بأخذ البيعة له. ثم حضر ابن دواس من الغد وحضر معه القوّاد فأمرت ست الملك خادمها فعلاه بالسيف أمامهم حتى قتله وهو ينادي بثأر الحاكم فلم يختلف فيه اثنان، وقامت بتدبير الدولة أربع سنين ثم ماتت. وقام بتدبير الدولة الخادم معضاد وتافر بن الوزّان، وولي وزارته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي [1] وكان متغلبا على دولته، وانتقض الشام خلال ذلك، وتغلّب صالح بن مرداس من بني كلاب على حلب، وعاث بنو الجرّاح في نواحيه، فبعث الظاهر سنة عشرين قائده الزريري [2] والي فلسطين في العساكر، وأوقع بصالح بن الجرّاح، وقتل صالح وابنه وملك دمشق. وملك حلب من يد شبل الدولة نصر بن صالح وقتله، وكان بينه وبين بني الجرّاح قبل ذلك وهو بفلسطين حروب، حتى هرب من الرملة إلى قيسارية فاعتصم بها وأخرب ابن الجرّاح الرملة وأحرقها. وبعث السرايا فانتهت إلى العريش وخشي أهل بلبيس وأهل القرافة على أنفسهم، فانتقلوا إلى مصر، وزحف صالح بن مرداس في جموع العرب لحصار دمشق وعليها يومئذ ذو القرنين ناصر الدولة بن الحسين. وبعث حسّان بن الجرّاح إليهم بالمدد، ثم صالحوا صالح بن مرداس وانتقل إلى حصار حلب وملكها من يد شعبان الكتامي، وجرّدت العساكر من الشام مع الوزيري [2] وكان ما تقدّم وملك دمشق وأقام بها.
(وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر)
ثم توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن عليّ بن الحاكم منتصف شعبان سنة سبع وعشرين لست عشرة سنة من خلافته، فولي ابنه أبو تميم معدّ ولقّب المستنصر بأمر الله، وقام بأمره وزير أبيه أبو القاسم عليّ بن أحمد الجرجرائي، وكان بدمشق
__________
[1] الجرجرائي: ابن الأثير ج 9 ص 447.
[2] اسمه انوشتكين الوزيري وهو نائب المستنصر باللَّه صاحب مصر بالشام المرجع السابق. ص 500.(4/78)
الوزيري واسمه أقوش تكين [1] وكانت البلاد صلحت على يديه لعدله ورفقه وضبطه، وكان الوزير الجرجرائي يحسده ويبغضه، وكتب إليه بإبعاد كاتبه أبي سعيد، فأنفذ إليه أنه يحمل الوزيري على الانتقاض، فلم يجب الوزيري إلى ذلك واستوحش، وجاء جماعة من الجند إلى مصر في بعض حاجاتهم فداخلهم الجرجرائي في التوثّب به، ودسّ معهم بذلك إلى بقية الجند بدمشق فتعلّلوا عليه [2] فخرج إلى بعلبكّ سنة ثلاث وثلاثين فمنعه عاملها من الدخول، فسار إلى حماة فمنع أيضا فقوتل، وهو خلال ذلك ينهب فاستدعى بعض أوليائه من كفرطاب فوصل إليه في ألفي رجل، وسار إلى حلب فدخلها وتوفي بها في جمادى الآخرة من السنة، وفسد بعده أمر الشام وطمع العرب في نواحيه، وولّى الجرجرائي على دمشق الحسين بن حمدان فكان قصارى أمره منع الشام، وملك حسّان بن مفرّج فلسطين وزحف معزّ الدولة بن صالح الكلابي إلى حلب فملك المدينة، وامتنع عليه أصحاب القلعة وبعثوا إلى مصر للنجدة فلم ينجدهم، فسلّموا القلعة لمعزّ الدولة بن صالح فملكها.
(مسير العرب إلى إفريقية)
كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقية وخطب للقائم العباسيّ، وقطع الخطبة للمستنصر العلويّ سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدّده.
ثم إنه استوزر الحسين بن عليّ التازوري [3] بعد الجرجرائي ولم يكن في رتبته فخاطبه المعز دون ما كان يخاطب من قبله، كان يقول في كتابه إليهم عبده، ويقول في كتاب التازوري صنيعته فحقد ذلك، وأغرى به المستنصر، وأصلح بين زغبة ورياح من بطون هلال وبعثهم إلى إفريقية وملّكهم كل ما يفتحونه، وبعث إلى المعز: أما بعد فقد أرسلنا إليك خيولا وحملنا عليها رجالا فحولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
__________
[1] ورد اسمه انوشتكين الوزيري وقد مر معنا سابقا. ج 9 ص 500.
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 501: فأظهروا الشغب عليه وقصدوا قصره وهو بظاهر البلد وتبعهم من العامة من يريد النهب، فاقتتلوا فعلم الوزيري ضعفه وعجزه عنهم، ففارق مكانه، واستصحب أربعين غلاما له وما امكنه من الدواب والأثاث والأموال، ونهب الباقي وسار الى دمشق.
[3] البازوري: ابن الأثير ج 9 ص 566.(4/79)
فساروا إلى برقة فوجدوها خالية لأنّ المعز كان أباد أهلها من زناتة، فاستوطن العرب برقة، واحتقر المعزّ شأنهم واشترى العبيد واستكثر منهم حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفا. وزحف بنو زغبة إلى طرابلس فملكوها سنة ست وأربعين، وجازت رياح الأثبج وبنو عدي إلى إفريقية، فاضرموها نارا. ثم سار أمراؤهم إلى المعزّ وكبيرهم مؤنس بن يحيى من بني مرداس من زياد فأكرمهم المعزّ وأجزل لهم عطاياه فلم يغن شيئا، وخرجوا إلى ما كانوا عليه من الفساد، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله، فخرج إليهم المعزّ في جموعه من صنهاجة والسودان نحوا من ثلاثين ألفا، والعرب في ثلاثة آلاف فهزموه وأثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم، ودخل المعزّ القيروان مهزوما.
ثم بيتهم يوم النحر وهم في الصلاة فهزموه أعظم من الأولى. ثم سار إليهم بعد أن احتشد زناتة معه فانهزم ثالثة وقتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف، ونزل العرب بمصلّى القيروان ووالوا عليهم الهزائم، وقتلت منهم أمم. ثم أباح لهم المعزّ دخول القيروان للميرة فاستطالت عليهم العامّة فقتلوا منهم خلقا وأدار المعزّ السور على القيروان سنة ست وأربعين. ثم ملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة سنة ست وأربعين وأمر المعز أهل القيروان بالانتقال إلى المهديّة للتحصّن بها، وولّى عليها ابنه تيما [1] سنة خمس وأربعين. ثم انتقل إليها سنة تسع وأربعين، وانطلقت أيدي العرب على القيروان بالنهب والتخريب، وعلى سائر الحصون والقرى كما يذكر في أخبارهم. ثم كانت الخطبة للمستنصر ببغداد على يد البساسيري من مماليك بني بويه عند انقراض دولتهم واستيلاء السلجوقيّة كما نذكره في أخبارهم.
(مقتل ناصر الدولة بن حمدان بمصر)
كانت أمّ المستنصر متغلّبة على دولته وكانت تصطنع الوزراء وتولّيهم، وكانوا يتخذون الموالي من الأتراك للتغلّب على الدولة. فمن استوحشت منه أغرت به المستنصر فقتله.
فاستوزرت أولا أبا الفتح الفلاحي، ثم استوحشت منه فقبض عليه المستنصر وقتله، ووزر بعده أبا البركات حسن بن محمد وعزله. ثم ولّى الوزارة أبا محمد التازوري من
__________
[1] ابنه يدعى تميم كما في الكامل ج 9 ص 569 ولعل الناسخ حذف الميم الثانية.(4/80)
قرية بالرملة تسمى تازور، فقام بالدولة إلى أن قتل، ووزر بعده أبو عبد الله الحسين ابن البابلي، وكان في الدولة من موالي السودان ناصر الدولة بن حمدان، واستمالوا معهم كتامة والمصامدة، وخرج العبيد إلى الضياع واجتمعوا في خمسين ألف مقاتل، وكان الأتراك ستة آلاف، وشكوا إلى المستنصر فلم يشكهم، فخرجوا إلى غرمائهم والتقوا بكوم الريش، وأكمن الأتراك للعبيد ولقوهم فانهزموا، وخرج كمينهم على العبيد وضربوا البوقات والكاسات فارتاب العبيد وظنّوه المستنصر فانهزموا، وقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفا. وفدى الأتراك وتغلّبوا، وعظم الافتراء فيهم فخلت الخزائن، واضطربت الأمور وتجمّع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، واجتمعوا مع العبيد وكانوا خمسة عشر ألفا وساروا إلى الجيزة فلقيهم الأتراك وعليهم ناصر الدولة بن حمدان فهزموهم إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك ظافرين. واجتمع العبيد في الصعيد وحضر الأتراك بدار المستنصر فأمرت أمه العبيد بالدار أن يفتكوا بمقدّمي الأتراك ففعلوا وهربوا إلى ظاهر البلد ومعهم ناصر الدولة، وقاتل أولياء المستنصر فهزمهم، وملك الاسكندرية ودمياط وقطع الخطبة منهما ومن سائر الريف للمستنصر. وراسل الخليفة العبّاسيّ ببغداد وافترق الناس من القاهرة.
ثم صالح المستنصر ودخل القاهرة واستبدّ عليه وصادر أمه على خمسين ألف دينار، وافترق عنه أولاده وكثير من أهله في البلاد. ودسّ المستنصر لقوّاد الأتراك بأنه يحوّل الدعوة فامتعضوا لذلك وقصدوه في بيته، وهو آمن منهم، فلما خرج إليهم تناولوه بسيوفهم حتى قتلوه وجاءوا برأسه، ومرّوا على أخيه في بيته فقطعوا رأسه، وأتوا بهما جميعا إلى المستنصر وذلك سنة خمس وستين، وولّى عليهم الذكر منهم وقام بأمر الدولة.
(استيلاء بدر الجمالي على الدولة)
أصل بدر هذا من الأرمن من صنائع الدولة بمصر ومواليها، وكان حاجبا لصاحب دمشق، واستكفاه فيما وراء بابه. ثم مات صاحب دمشق فقام بالأمور إلى أن وصل الأمير على دمشق، وهو ابن منير فسار هو إلى مصر وترقّى في الولايات إلى أن ولي عكّا وظهر منه كفاية واضطلاع. ولما وقع بالمستنصر ما وقع من استيلاء الترك عليه ابن خلدون م 6 ج 4(4/81)
والفساد والتضييق، استقدم بدر الجمالي لولاية الأمور بالحضرة، فاستأذن في الاستكثار من الجند لقهر من تغلّب من جند مصر فأذن له في ذلك، وركب البحر من عكا في عشرة مراكب، ومعه جند كثيف من الأرمن وغيرهم، فوصل الى مصر، وحضر عند الخليفة فولّاه ما وراء بابه، وخلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، ولقّبه بالسيد الأجلّ أمير الجيوش، مثل والي دمشق. وأضيف إلى ذلك كافل قضاة المسلمين، وداعي دعاة المؤمنين، ورتّب الوزارة وزاده سيفه [1] وردّ الأمور كلّها إليه، ومنه إلى الخليفة. وعاهده الخليفة على ذلك، وجعل إليه ولاية الدعاة والقضاء، وكان مبالغا في مذهب الإمامية، فقام بالأمور واستردّ ما كان تغلّب عليه أهل النواحي مثل ابن عمّار بطرابلس وابن معرف بعسقلان وبني عقيل بصور. ثم استرد من القوّاد والأمراء بمصر جميع ما أخذوه أيام الفتنة من المستنصر من الأموال والأمتعة. وسار إلى دمياط وقد تغلّب عليها جماعة من المفسدين من العرب وغيرهم، فأثخن في لواتة بالقتل والنهب في الرجال والنساء وسبى نساءهم وغنم خيولهم. ثم سار إلى جهينة وقد ثاروا ومعهم قوم من بني جعفر فلقيهم على طرخ العليا سنة تسع وستين فهزمهم وأثخن فيهم وغنم أموالهم. ثم سار إلى أسوان وقد تغلّب عليها كنز الدولة محمد فقتله وملكها، وأحسن إلى الرعايا ونظّم حالهم وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، وعادت الدولة إلى أحسن ما كانت عليه.
(وصول الغز الى الشام واستيلاؤهم عليه وحصارهم مصر)
كان السلجوقية وعساكرهم من الغزّ قد استولوا في هذا العصر على خراسان والعراقين وبغداد، وملكهم طغرلبك، وانتشرت عساكرهم في سائر الأقطار، وزحف اتسز
__________
[1] اي زاده على الوزارة حمل السيف.(4/82)
بن أفق [1] من أمراء السلطان ملك شاه وسموه [2] الشاميون أفسفس والصحيح هذا، وهو اسم تركي هكذا قال ابن الأثير، فزحف سنة ثلاث وثلاثين بل وستين ففتح الرملة، ثم بيت المقدس وحصر دمشق وعاث في نواحيها وبها المعلّى بن حيدرة، ولم يزل يوالي عليها البعوث إلى سنة ثمان وستين، وكثر عسف المعلّى بأهلها مع ما هم فيه من شدّة الحصار فثاروا به، وهرب إلى بلسيس، ثم لحق بمصر فحبس إلى أن مات. ولما هرب من دمشق اجتمعت المصامدة وولوا عليهم انتصار بن يحيى منهم ولقّبوه وزير الدولة، ثم اضطربوا مما هم فيه من الغلاء، وجاء أمير من القدس فحاصرهم حتى نزلوا على أمانه. وأنزل وزير الدولة بقلعة بانياس ودخل دمشق في ذي القعدة، وخطب فيها للمقتدي العبّاسيّ. ثم سار إلى مصر سنة تسع وستين فحاصرها، وجمع بدر الجمالي العساكر من العرب وغيرهم، وقاتله فهزمه وقتل أكثر أصحابه، ورجع أتسز منهزما إلى الشام فأتى دمشق، وقد صانوا مخلّفه فشكرهم ورفع عنهم خراج سنة تسع وستين، وجاء إلى بيت المقدس فوجدهم قد عاثوا في مخلّفه وحصروا أهله وأصحابه في مسجد داود عليه السلام، فحاصرهم ودخل البلد عنوة، وقتل أكثر أهله حتى قتل كثيرا في المسجد الأقصى. ثم جهّز أمير الجيوش بدر الجمالي العساكر من مصر مع قائده نصير الدولة، فحاصر دمشق وضيّق عليها، وكان ملك السلجوقيّة السلطان ملك شاه قد أقطع أخاه تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام، وما يفتحه منها فزحف إلى حلب وحاصرها وضيّق عليها، ومعه جموع كثيرة من التركمان فبعث إليه أتسز من دمشق يستصرخه، فسار إليه، وأجفلت عساكر مصر عن دمشق، وخرج أتسز من دمشق للقائه فقتله وملك البلد، وذلك سنة إحدى وسبعين. وملك ملك شاه بعد ذلك حلب واستولى السلجوقية على الشام أجمع، وزحف أمير الجيوش بدر الجمالي من مصر في العساكر، إلى دمشق وبها تاج الدولة تتش فحاصره وضيّق عليه، وامتنع عليه ورجع، وزحفت عساكر مصر سنة اثنتين وثمانين إلى الشام فاسترجعوا مدينة صور من يد أولاد القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، كان أبوهم قد انتزى عليها، ثم فتحوا مدينة صيدا ثم مدينة جميل [3]
__________
[1] وفي نسخة اخرى: اتسز بن أنسز.
[2] الأصح سمّاه الشاميون.
[3] هي مدينة جبيل على الساحل اللبناني.(4/83)
وضبط أمير الجيوش البلاد وولّى عليها العمّال. وفي سنة أربع وثمانين استولى الفرنج على جزيرة صقلّيّة، وكان أمير الجيوش قد ولّى على مدينة صور منير الدولة الجيوشي من طائفته، فانتقض سنة ست وثمانين، وبعث إليه أمير الجيوش العساكر فثار به أهل المدينة، واقتحمت عليهم العساكر وبعث منير الدولة إلى مصر في جماعة من أصحابه فقتلوا كلهم. ثم توفي أمير الجيوش بدر الجمالي سنة سبع وثمانين في ربيع الأوّل لثمانين سنة من عمره. وكان له موليان أمين الدولة لاويز ونصير الدولة أفتكين فحذّرهم [1] بأنه يروم الاستبداد ورغّبه في ولد مولاه بدر، فلما قضى بدر نحبه استدعى المستنصر لاويز ليقلّده فأنكر ذلك أفتكين وركب في الجند وشغبوا على المستنصر، واقتحموا القصر وأسمعوه خشن الكلام فرجع إلى ولاية ولد بدر، وقدّم للوزارة ابنه محمد الملك أبا القاسم شاه، ولقّبه بالأفضل مثل لقب أبيه. وكان أبو القاسم بن المقري رديفا لبدر في وزارته بما كان اختصّه لذلك، فولّى بعد موته الوزارة المقري وكانت عندهم عبارة عن التوقيع بالقلم الغليظ. وقام الأفضل أبو القاسم بالدولة وجرى على سنن أبيه في الاستبداد، وكانت وفاة المستنصر قريبا من ولايته.
(وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي)
ثم توفي المستنصر معدّ بن الظاهر [2] يوم التروية سنة سبع وثمانين لستين سنة من خلافته ويقال لخمس وستين بعد أن لقي أهوالا وشدائد، وانفتقت عليه فتوق استهلك فيها أمواله وذخائره حتى لم يكن له إلّا بساطه الّذي يجلس عليه، وصار إلى حد العزل والخلع، حتى تدارك أمره باستقدام بدر الجمالي من عكا فتقوّم أمره، ومكّنه في خلافته. ولمّا مات خلف من الولد أحمد ونزارا وأبا القاسم، وكان المستنصر فيما يقال قد عهد لنزار، وكانت بينه وبين أبي القاسم الأفضل عداوة، فخشي بادرته وداخل عمّته في ولاية أبي القاسم، على أن تكون لها كفالة الدولة، فشهدت بأنّ المستنصر عهد له بمحضر القاضي والداعي فبويع ابن ست، ولقّب المستعلي باللَّه،
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ومقتضى السياق ان المستنصر حذّر أمين الدولة لاويز ونصير الدولة (ناصر الدولة:
أفتكين بان بدر الجمالي يروم الاستبداد.. ابن الأثير ج 10 ص 238)
[2] هو المستنصر باللَّه ابو تميم معدّ بن أبي الحسن عليّ الظاهر لإعزاز دين الله العلويّ.(4/84)
وأكره أخوه الأكبر على بيعته، ففرّ إلى الإسكندريّة بعد ثلاث، وبها نصير الدولة أفتكين مولى بدر الجمالي الّذي سعى للأفضل، فانتقض وبايع لنزار بعهده ولقّب المصطفى لدين الله. وسار الأفضل بالعساكر وحاصرهم بالإسكندرية واستنزلهم على الأمان، وأعطاهم اليمين على ذلك، وأركب نزارا السفن إلى القاهرة وقتل بالقصر.
وجاء الأفضل ومعه أفتكين أسيرا فأحضره يوما ووبّخه، فهمّ بالردّ عليه فقتل بالضرب بالعصي، وقال: لا يتناول اليمين هذه للقتلة، ويقال إنّ الحسين بن الصبّاح رئيس الإسماعيلية بالعراق قصد المستنصر في زيّ تاجر، وسأله إقامة الدعوة له ببلاد العجم فأذن له في ذلك، وقال له الحسين من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار! فسار ابن الصبّاح ودعا الناس ببلاد العجم إليه سرّا. ثم أظهر أمره وملك القلاع لك مثل قلعة الموت وغيرها كما نذكره في أخبار الإسماعيلية، وهم من أجل هذا الخبر يقولون بإمامة نزار. ولما ولي المستعلي خرج ثغر عن طاعته وولي عليه واليه كشيلة وبعث المستعلي العساكر فحاصره، ثم اقتحموا عليه وحملوه إلى مصر فقتل بها سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وكان تتش صاحب الشام قد مات واختلف بعده ابناه رضوان ودقاق، وكان دقاق بدمشق ورضوان بحلب فخطب رضوان في أعماله للمستعلي باللَّه أياما قلائل ثم عاود الخطبة للعباسيين.
(استيلاء الفرنج على بيت المقدس)
كان بيت المقدس قد أقطعه تاج الدولة تتش للأمير سليمان بن أرتق التركمانيّ، وقارن ذلك استفحال الفرنج واستطالتهم على الشام، وخروجهم سنة تسعين وأربعمائة، ومرّوا بالقسطنطينية وعبروا خليجها، وخلّى صاحب القسطنطينية سبيلهم ليحولوا بينه وبين صاحب الشام من السلجوقيّة والغزّ فنازلوا أوّلا أنطاكية فأخذوها من يد باغيسيان، من قوّاد السلجوقيّة، وخرج منها هاربا فقتله بعض الأرمن في طريقه، وجاء برأسه إلى الفرنج بأنطاكيّة. وعظم الخطب على عساكر الشام وسار كربوقا صاحب الموصل فنزل مرج دابق واجتمع إليه دقاق بن تتش، وسليمان بن أرتق، وطفتكين أتابك صاحب حمص وصاحب سنجار، وجمعوا من كان لك(4/85)
من الترك والعرب، وبادروا إلى أنطاكية لثلاثة عشر يوما من حلول الفرنج بها. وقد اجتمع ملوك الفرنج ومقدمهم بنميد، وخرج الفرنج وتصادموا مع المسلمين فانهزم المسلمون، وقتل الفرنج منهم ألوفا، واستولوا على معسكرهم، وساروا إلى معرّة النعمان وحاصروها أياما، وهربت حاميتها، وقتلوا منها نحوا من مائة ألف، وصالحهم ابن منقذ على بلده شيزر، وحاصروا حمص فصالحهم عليها جناح الدولة، ثم حاصروا عكّة فامتنعت عليهم، وأدرك عساكر الغزّ من الوهن ما لا يعبّر عنه فطمع أهل مصر فيهم، وسار الأفضل بن بدر بالعساكر لاسترجاع بيت المقدس فحاصرها، وبها سقمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمّهما سونج، ونصبوا عليها نيّفا وأربعين منجنيقا، وأقاموا عليها نيّفا وأربعين يوما، ثم ملكوها بالأمان في سنة تسعين. وأحسن الأفضل إلى سقمان وأبي الغازي ومن معهما، وخلّى سبيلهم، فسار سقمان إلى بلد الرّها وأبو الغازي إلى بلد العراق، وولّى الأفضل على بيت المقدس ورجع إلى مصر. ثم سارت الفرنج إلى بيت المقدس وحاصروه نيّفا وأربعين يوما، ونصبوا عليه برجين ثم اقتحموها من الجانب الشماليّ لسبع بقين من شعبان، واستباحوها أسبوعا، ولجأ المسلمون إلى محراب داود عليه السلام واعتصموا به إلى أن استنزلهم الفرنج بالأمان، وخرجوا إلى عسقلان وقتل بالمسجد عند الشجرة سبعون ألفا، وأخذوا من المسجد نيّفا وأربعين قنديلا من الفضّة يزن كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة، وتنّورا من الفضّة يزن أربعين رطلا بالشامي، ومائة وخمسين قنديلا من الصفر وغير ذلك مما لا يحصى. وأجفل أهل بيت المقدس وغيرهم من أهل الشام إلى بغداد باكين على ما أصاب الإسلام ببيت المقدس من القتل والسبي والنهب. وبعث الخليفة أعيان العلماء إلى السلطان بركيارق وإخوته محمد وسنجر بالمسير إلى الجهاد فلم يتمكنوا من ذلك، للخلاف الّذي كان بينهم. ورجع الوفد مؤيسين [1] من نصرهم. وجمع الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر وسار إلى الفرنج، فساروا إليهم وكبسوهم على غير أهبة فهزموهم، وافترق عسكر مصر وقد لاذوا بخمّ الشعراء هناك فاضرموها عليهم نارا فاحترقوا وقتل من ظهر، ورجع الفرنج إلى عسقلان فحاصروها حتى أنزلوا لهم عشرين ألف دينار فارتحلوا.
__________
[1] الأصح ان يقول آيسين من نصرهم.(4/86)
(وفاة المستعلي وولاية ابنه الآمر)
ثم توفي المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر منتصف صفر سنة خمس وتسعين لسبع سنين من خلافته، فبويع ابنه أبو عليّ ابن خمس سنين ولقّب الآمر بأحكام الله، ولم يل الخلافة فيهم أصغر منه ومن المستنصر، فكان هذا لا يقدر على ركوب الفرس وحده.
(هزيمة الفرنج لعساكر مصر)
ثم بعث الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر لقتال الفرنج مع سعد الدولة الفراسي أميرا مملوك أبيه، فلقي الفرنج بين الرملة ويافا ومقدمهم بغدوين [1] فقاتلهم، وانهزم وقتل واستولى الفرنج على معسكره فبعث الأفضل ابنه شرف المعالي في العساكر فبارزوهم قرب الرملة وهزمهم، واختفى بغدوين في الشجر ونجا إلى الرملة مع جماعة من زعماء الفرنج، فحاصرهم شرف المعالي خمسة عشر يوما حتى أخذهم فقتل منهم أربعمائة صبرا، وبعث ثلاثمائة إلى مصر ونجى بغدوين إلى يافا ووصل في البحر جموع من الفرنج للزيارة فندبهم بغدوين للغزو، وساربهم إلى عسقلان فهرب شرف المعالي وعاد إلى أبيه. وملك الفرنج عسقلان وبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه إلى عسقلان، وبعث الأسطول في البحر إلى يافا مع القاضي ابن قادوس فبلغ إلى يافا واستدعى تاج العجم وحبسه. وبعث جمال الملك من مواليه إلى عسقلان مقدّم العساكر الشاميّة. ثم بعث الأفضل سنة ثمان وتسعين ابنه سنا الملك حسين وأمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج، فساروا في خمسة آلاف واستمدّوا طفتكين أتابك دمشق، فأمدّهم بألف وثلاثمائة، ولقوا الفرنج بين عسقلان ويافا فتفانوا بالقتل وتحاجزوا، وافترق المسلمون إلى عسقلان ودمشق، وكان مع الفرنج بكتاش بن
__________
[1] هو بدوان الأول وهو قائد الحملة الصليبية الرابعة.(4/87)
تتش عدل عنه طفتكين بالملك إلى ابن أخيه دقاق بن تتش، فلحق بالإفرنج مغاضبا.
(استيلاء الفرنج على طرابلس وبيروت)
كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر وكان يحاصرها من الفرنج ابن المرداني صاحب صيحيل، والمدد يأتيهم من مصر. فلما كانت سنة ثلاث وخمسين وصل أسطول من الفرنج مع ويمتدين إلى صيحيل من قمامصتهم فنزل على طرابلس، وتشاجر مع المرداني فبادر بغذوين صاحب القدس وأصلح بينهم، ونزلوا جميعا على طرابلس وألصقوا أبراجهم بسورها، وتأخّرت الميرة عنهم من مصر في البحر لركود البحر فاقتحمها الفرنج عنوة ثاني الأضحى من سنة ثلاث وخمسين، وقتلوا ونهبوا وأسروا وغنموا. وكان واليها قد استأمن قبل فتحها في جماعة من الجند فلحقوا بدمشق، ووصل الأسطول بالمدد وكفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور وصيدا وبيروت، واستولى الفرنج على معظم سواحل الشام. وإنما خصّصنا هذه بالذكر في الدولة العلويّة لأنها كانت من أعمالهم. وسنذكر البقية في أخبار الفرنج إن شاء الله تعالى.
(استرجاع أهل مصر بعسقلان)
كان الآمر قد استولى على عسقلان من قوّاد شمس الخلافة، فداخل بغدوين صاحب بيت المقدس من الفرنج وهاداه ليمتنع به على أهل مصر، وجهّز أمير الجيوش عسكرا من مصر للقبض عليه إذا حضر وشعر بذلك، وانتقض وأخرج من عنده من أهل مصر، وخاف الأفضل أن يسلّم عسقلان إلى الفرنج فأقرّه على عمله، وارتاب شمس الخلافة بأهل عسقلان واتخذ بطانة من الأرمن فاستوحش أهل البلد فثاروا به وقتلوه، وبعثوا إلى الآمر والأفضل بذلك، فأرسل إليهم الوالي من مصر وأحسن إليهم واستقامت أحوالهم. وحاصر بغدوين بعد ذلك مدينة صور وفيها عساكر الأرمن واشتدّ في حصارها بكل نوع، وكان بها عزّ الملك الأعز من أولياء(4/88)
الأمر فاستمد طفتكين أتابك دمشق فأمدّه بنفسه وطال الحصار، وحضر أوان الغلال فخشي الفرنج أن يفسد طفتكين غلال بلدهم فأفرجوا عنها إلى عكا وكفى الله شرّهم. ثم زحف بغدوين ملك الفرنج من القدس إلى مصر وبلغ سنتين وسبح في النيل فانتقض عليه جرح كان به، وعاد إلى القدس ومات، وعهد بملك القدس للقمص صاحب الرّها، ولولا ما نزل بملوك السلجوقيّة من الفتنة لكانوا قد استرجعوا من الفرنج جميع ما ملكوه من الشام، ولكنّ الله خبّأ ذلك لصلاح الدين بن أيوب حتى فاز بذكره.
(مقتل الأفضل)
قد قدّمنا أنّ الآمر ولّاه الأفضل صغيرا ابن خمس، فلما استجمع واشتدّ تنكّر للأفضل وثقلت وطأته عليه فانتقل الأفضل إلى مصر وبنى بها دارا ونزلها، وخطب منه الأفضل ابنته فزوّجها على كره منه وشاور الآمر أصحابه في قتله، فقال له ابن عمه عبد المجيد وكان وليّ عهده: لا تفعل وحذّره سوء الأحدوثة لما اشتهر بين الناس من نصحه ونصح أبيه وحسن ولايتهما للدولة، ولا بدّ من إقامة غيره والاعتماد عليه فيتعرّض للحذر من مثلها إلى الامتناع منه. ثم أشار عليه من مداخلة ثقته أبي عبد الله ابن البطائحي في مثل ذلك فإنه يحسن تدبيره ويضع عليه من يغتاله، ويقتل به فيسلم عرضك. وكان ابن البطائحي فرّاشا بالقصر، واستخلصه الأفضل ورقّاه واستحجبه، فاستدعاه الآمر وداخله في ذلك، ووعده بمكانه فوضع عليه رجلان فقتلاه بمصر وهو سائر في موكبه من القاهرة منقلبا من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة وخمسمائة، كان يفرّق السلاح على العادة في الأعياد وثار الغبار في طريقه فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان وطعناه فسقط، وقتلا، وحمل إلى داره وبه رمق فجاءه الآمر متوجّعا وسأله عن ماله فقال أمّا الظاهر فأبو الحسن بن أبي أسامة يعرفه، وكان أبوه قاضيا بالقاهرة وأصله من حلب. وأمّا الباطن فإنّ البطائحي يعرفه. ثم قضى الأفضل نحبه لثمان وعشرين سنة من وزارته، واحتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين، وخمسين أردبا من الورق، ومن الديباج الملوّن والمتاع البغدادي والإسكندريّ وظرف الهند وأنواع الطيوب والعنبر(4/89)
والمسك ما لا يحصى. حتى لقد كان من ذخائره دكة عاج وأبنوس محلّاة بالفضة عليها عرم [1] مثمن من العنبر زنته ألف رطل، وعلى العرم مثل طائر من الذهب برجلين مرجانا ومنقار زمرذا [2] وعينان ياقوتتان كان ينصبها في بيته ويضوع عرفها فيعم القصر وصارت إلى صلاح الدين.
(ولاية ابن البطائحي)
قال ابن الأثير كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق، ومات لم يخلّف شيئا. ثم ماتت أمه وتركته معلّقا، فتعلّم البناء أوّلا ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق، ويدخل بها على الأفضل فخفّ عليه واستخدمه مع الفرّاشين، وتقدّم عنده واستحجبه، ولما قتل الأفضل ولّاه الآمر مكانه وكان يعرف بابن فاتت وابن القائد فدعاه الآمر جلال الإسلام، ثم خلع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة ولقّبه المأمون، فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد ونكر ذلك الآمر وتنكّر له، واستوحش المأمون وكان له أخ يلقّب المؤتمن فاستأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندريّة لحمايتها ليكون له ردءا لك فأذن له، وسار معه القوّاد وفيهم عليّ بن السلار وتاج الملوك قائمين، وسنا الملك الجمل ودريّ الحروب وأمثالهم، وأقام المأمون على استيحاش من الآمر وكثرت السعاية فيه وأنه يدّعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملا به، وأنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليمن يدعو له، فبعث الآمر إلى اليمن في استكشاف ذلك.
(مقتل البطائحي)
ولما كثرت السعاية فيه عند الآمر وتوغّر صدره عليه، كتب إلى القوّاد الذين كانوا مع أخيه بثغر الإسكندرية بالوصول إلى دار الخلافة [3] فهمّ لذلك علي بن
__________
[1] مكان عرم: مكان مرتفع.
[2] وهو الزمرد وهنا وردت الكلمة بالعامية.
[3] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 629 «وأما سبب قتله- المأمون البطائحي- فإنه كان قد أرسل الأمير جعفرا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك،-(4/90)
سلار فحضروا، واستأذن المؤتمن بعدهم في الوصول فأذن له. وحضر رمضان من سنة تسع عشرة فجاءوا إلى القصر للإفطار على العادة، ودخل المأمون والمؤتمن فقبض عليهما وحبسهما داخل القصر، وجلس الآمر من الغد في إيوانه وقرأ عليه وعلى الناس كتابا بتعديد ذنوبهم، وترك الآمر رتبة الوزارة خلوا، وأقام رجلين من أصحاب الدواوين يستخرجان الأموال من الخراج والزكاة والمكس، ثم عزلهما لظلمهما. ثم حضر الرسول الّذي بعثه إلى اليمن ليكشف خبر المأمون، وحضر ابن نجيب وداعيته فقتل وقتل المأمون وأخوه المؤتمن.
(مقتل الآمر وخلافة الحافظ)
كان الآمر مؤثرا للذّاته طموحا إلى المعالي وقاعدا عنها، وكان يحدّث نفسه بالنهوض إلى العراق في كلّ وقت، ثم يقصر عنه وكان يقرض الشعر قليلا ومن قوله:
أصبحت لا أرجو ولا ألقى ... إلّا إلهي وله الفضل
جدّي نبي وإمامي أبي ... ومذهبي التوحيد والعدل
وكانت الفداويّة تحاول قتله فيتحرّز منهم، واتفق أنّ عشرة منهم اجتمعوا في بيت، وركب بعض الأيام إلى الروضة، ومرّ على الجسر بين الجزيرة ومصر فسبقوه فوقفوا في طريقه، فلما توسط الجسر انفرد عن الموكب لضيقه، فوثبوا عليه وطعنوه وقتلوا لحينهم، ومات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع وعشرين وخمسمائة، لتسع وعشرين سنة ونصف من خلافته. وكان قد استخلص مملوكين وهما برغش العادل وبرعوارد هزير الملوك، وكان يؤثّر العادل منهما، فلما مات الآمر تحيّلوا في قيام المأمون عبد الحميد [1] بالأمر وكان أقرب القرابة سنا وأبوه أبو القاسم بن المستضيء معه،
__________
[ () ] فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة وكان خصيصا بالآمر، قريبا منه، وقد ناله من الوزير أذى وأطراح، فحضر عند الآمر وأعمله الحال فقبض عليه وصلبه» .
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 10 ص 664 يذكر ابن الأثير في احداث سنة 524: «وفي هذه السنة (524) ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله ابو علي بن المستعلي العلويّ صاحب مصر، خرج الى منتزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه لأنه كان سيّئ السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعا(4/91)
وقالوا إنّ الآمر أوصى بأنّ فلانة حامل فدلّته الرؤيا بأنها تلد ذكرا فهو الخليفة بعدي، وكفالته لعبد الحميد فأقاموه كافلا ولقّبوه الحافظ لدين الله، وذكروا من الوصية أن يكون هزير الملوك وزيرا والسعيد باس من موالي الأفضل صاحب الباب، وقرءوا السجل بذلك في دار الخلافة.
(ولاية أبي عليّ بن الأفضل الوزارة ومقتله)
ولما تقرّر الأمر على وزارة هزير الملوك، وخلع عليه أنكر ذلك الجند وتولّى كبر ذلك رضوان بن ونحش كبيرهم. وكان أبو عليّ بن الأفضل حاضرا بالقصر فحثّه برغش العادل على الخروج حسدا لصاحبه، وأوجد له السبيل إلى ذلك فخرج، وتعلّق به الجند وقالوا: هذا الوزير ابن الوزير، وتنصّل فلم يقبلوا، وضربوا له خيمة بين القصرين وأحدقوا به، وأغلقت أبواب القصر فتسوّروه وولجوا من طيقانه. واضطر الحافظ إلى عزل هزير الملوك، ثم قتله وولى أبو عليّ أحمد بن الأفضل الوزارة، وجلس بدست أبيه وردّ الناس أموال الوزارة المقضية. واستبدّ على الحافظ ومنعه من التصرّف، ونقل الأموال من الذخائر والقصر إلى داره، وكان إماميّا متشدّدا فأشار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر. وضرب الدراهم باسمه دون الدنانير ونقش عليها: الله الصَّمَدُ 112: 2 الإمام محمد، وهو الإمام المنتظر. وأسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر، وذكر الحافظ وأسقط من الآذان حيّ على خير العمل. ونعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المنابر. وأراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من إخوته. فإنّ الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل وقتلهم، فلم يقدر أبو عليّ على قتله فخلعه واعتقله. وركب بنفسه في المواسم وخطب للقائم مموّها فتنكّر له أولياء الشيعة
__________
[ () ] وعشرين سنة وخمسة أشهر، وعمره أربعا وثلاثين سنة، وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الّذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية. وهو أيضا العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضا. ولما قتل لم يكن له ولد بعده، فولي ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر باللَّه، وانما بويع له لينظر في الأمر نيابة حتى يكشف عن حمل ان كان للآمر فتكون الخلافة فيه ويكون هو نائبا عنه. ومولد الحافظ بعسقلان لأن أباه خرج من مصر اليها في الشدة فأقام بها فولد ابنه عبد المجيد هناك» .(4/92)
ومماليك الخلفاء. وداخل يأنس الجند من كتامة وغيرهم في شأنه، واتفقوا على قتله. وترصّد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد، وهو في موكبه وهم يتلاعبون على الخيل. ثم اعتمدوه فطعنوه وقتلوه، وأخرجوا الحافظ من معتقله وجدّدوا له البيعة بالخلافة، ونهب دار أبي عليّ. وركب الحافظ وحمل ما بقي فيها إلى القصر واستوزر أبا الفتح يانسا الحافظي، ولقّبه أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة بعيد الغور، واستبدّ عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه. ويقال إنّ الحاكم وضع له سمّا في المستراح هلك به وذلك آخر ذي الحجة سنة ست وعشرين.
(قيام حسن بن الحافظ بأمر الدولة ومكره بأبيه ومهلكه)
ولما هلك يأنس أراد الحافظ أن يخلى دست الوزارة ليستريح من التعب الّذي عرض منهم للدولة، وأجمع أن يفوّض الأمور إلى ولده، وفوّض إلى ابنه سليمان. ومات لشهرين، فأقام ابنه الآخر حسنا فحدّثته نفسه بالخلافة، وعزم على اعتقال أبيه، وداخل الأجناد في ذلك فأطاعوه، وأطلع أبوه على أمره ففتك بهم يقال: إنه قتل منهم في ليلة أربعين، وبعث أبوه خادما من القصر لقتله فهزمه حسن وبقي الحافظ محجورا، وفسد أمره وبعث حسن بهرام الأرمني لحشد الأرمن ليستظهر بهم على الجند، وثاروا بحسن وطلبوه من أبيه، ووقفوا بين القصرين وجمعوا الحطب لإحراق القصر. واستبشع الحافظ قتله بالحديد فأمر طبيبه ابن فرقة عنه [1] في ذلك سنة تسع وعشرين.
(وزارة بهرام ورضوان بعده)
ولما مات حسن بن الحافظ ورحل بهرام لحشد الأرمن اجتمع الجند وكان بهرام
__________
[1] هكذا بالأصل والمعنى مبتور وغير واضح وفي «الكامل لابن الأثير ج 11 ص 23 «فاحضر طبيبين كانا له، أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال لليهودي: نريد سمّا نسقيه لهذا الولد ليموت، ونخلص من هذه الحادثة! فقال: انا لا اعرف غير النقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية، فقال: أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة، فقال له: لا أعرف شيئا. فأحضر المسلم وأمره بذلك فصنع له شيئا فسقاه الولد فمات لوقته» .(4/93)
كبيرهم وراودوا الحافظ على وزارته فوافقهم وخلع عليه وفوّض إليه الأمور السلطانيّة، واستثنى عليه الشرعيّة، وتبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة، واستعمل الأرمن وأهانوا المسلمين. وكان رضوان بن ولحيس صاحب الباب، وهو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة، وكان ينكر على بهرام ويهزأ به، فولّاه بهرام الغربيّة، ثم جمع رضوان وأتى إلى القاهرة ففرّ بهرام وقصد قوص في ألفين من الأرمن، ووجد أخاه قتيلا فلم يعرض لأهل قوص، وباء بحق الخلافة، وصعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة. ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر وهو إبراهيم الأوحد فاستنزله على الأمان له وللأرمن الذين معه. وجاء به فأنزله الحافظ في القصر إلى أن مات على دينه. واستقرّ رضوان في الوزارة ولقّب بالأفضل وكان سنيّا، وكان أخوه إبراهيم إماميّا، فأراد الاستبداد وأخذ في تقديم معارفه سيفا وقلما. وأسقط المكوس وعاقب من تصدّى لها، فتغيّر له الخليفة فأراد خلعه، وشاور في ذلك داعي الدعاة وفقهاء الإمامية فلم يعينوه في ذلك بشيء. وفطن له الحافظ فدسّ خمسين فارسا ينادون في الطرقات بالثورة عليه، وينهضون باسم الحافظ فركب لوقته هاربا منتصف شوّال سنة ثلاث وثلاثين، ونهبت داره، وركب الحافظ وسكن الناس، ونقل ما فيها إلى قصره. وسار رضوان يريد الشام ليستنجد الترك، وكان في جملته شاور وهو من مصطفيه، وأرسل الحافظ الأمير بن مضيال [1] ليردّه على الأمان فرجع، وحبس في القصر، وقيل وصل إلى سرخد فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين، وأقام عنده ثم رجع إلى مصر سنة أربع وثلاثين فقاتلهم عند باب القصر وهزمهم. ثم افترق عنه أصحابه وأرادوا العود إلى الشام فبعث عنه الحافظ بن مضيال وحبسه بالقصر إلى سنة ثلاث وأربعين فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة، وجمع المغاربة وغيرهم ورجع إلى القاهرة فقاتلهم عند جامع ابن طيلون [2] وهزمهم. ثم دخل القاهرة ونزل عند جامع الأقمر، وأرسل إلى الحافظ في المال ليفرّقه فبعث عشرين ألفا على عادتهم مع الوزير، ثم استزاد عشرين وعشرين.
وفي خلال ذلك وضع الحافظ عليه جمعا كثيرا من السودان فحملوا عليه وقتلوه وجاءوا
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الأمير بن مصّال، وكذلك عند ابن الأثير.
[2] هو جامع ابن طولون.(4/94)
برأسه إلى الحافظ. واستمرّ الحافظ في دولته مباشرا لأموره وأخلى رتبة الوزارة فلم يولّ أحدا بعده.
(وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر)
ثم توفي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر سنة أربع وأربعين لتسع عشرة سنة ونصف من خلافته، وعن أبي العالية يقال بلغ عمره سبعا وسبعين سنة، ولم يزل في خلافته محجور الوزارة، ولما مات ولي بعده ابنه أبو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك ولقّب الظافر بأمر الله.
(وزارة ابن مضيال ثم ابن السلار)
كان الحافظ لما عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مضيال فاستوزره أربعين يوما وكان علي بن السلار واليا على الإسكندريّة ومعه بلارة بنت عمّه القاسم وابنه منها عبّاس وتزوّجت بعده بابن السلار [1] ، وشبّ عبّاس وتقدّم عند الحافظ حتى ولي الغربية فلم يرض ابن السلار وزارة ابن مضيال واتفق مع عبّاس على عزله، وبلغ الخبر إلى
__________
[1] العبارة غير واضحة ومبتورة وفي الكامل ج 11 ص 142: واستوزر ابن مصّال فبقي أربعين يوما يدبّر الأمور، فقصده العادل بن السلار من ثغر الإسكندرية ونازعه في الوزارة، وكان ابن مصّال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان، فخلفه العادل بالقاهرة وصار وزيرا.
وسيّر عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس الصّنهاجيّ في عسكر وهو ربيب العادل، إلى ابن مصّال، فظفر به وقتله، وعاد الى القاهرة واستقرّ العادل وتمكّن، ولم يكن للخليفة معه حكم. واما سبب وصول عباس الى مصر فإن جدّه يحيى أخرج أباه أبا الفتوح من المهدية، فلمّا توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه عليّ بن يحيى بن تميم بن يحيى صاحب إفريقية، أخرج أخاه ابا الفتوح بن يحيى والد عبّاس من افريقية سنة تسع وخمسمائة، فسار إلى الديار المصريّة ومعه زوجته بلّارة ابنة القاسم بن تميم بن المعزّ بن باديس، وولده عبّاس هذا وهو صغير يرضع، ونزل ابو الفتوح بالإسكندرية فأكرم وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي وتزوّجته بعده امرأته بلّارة بالعادل بن السلار. وشبّ العباس وتقدّم عند الحافظ حتى ولي الوزارة بعد العادل، فإن العادل قتل في المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قيل: وضع عليه عبّاس من قتله، فلما قتل ولي الوزارة بعده وتمكّن فيها، وكان جلدا حازما» . من المقارنة بين ما ورد عند ابن الأثير وما ورد في تاريخ ابن خلدون نرى انه سقطت بعض السطور ربما أثناء النسخ أو ان الناسخ نسيها سهوا.(4/95)
ابن مضيال فشكا إلى الظافر فلم يشكه فقال ذوو الحروب: ليس هنا من يقاتل ابن السلار فغضب الظافر ودسّ عليه من بني عليّ مصلحيه فخرج إلى الصّعيد، وقدم ابن السلار إلى القاهرة فاستوزره الظافر، وهو منكر له ولقّبه العادل. وبعث العساكر مع العبّاس ربيبه في اتباع ابن مضيال فخرج في طلبه. وكان جماعة من لواتة السودان فتحصّنوا من عبّاس في جامع دولام فأحرقه عليهم، وقتل ابن مضيال وجاء برأسه.
وقام ابن سلار بالدولة وحفظ النواميس وشدّ من مذاهبه أهله. وكان الخليفة مستوحشا منه منكرا له وهو مبالغ في النصيحة والخدمة. واستخدم الرجّالة لحراسته، فارتاب له صبيان الخاص من حاشية الخليفة فاعتزموا على قتله، ونمي ذلك إليه فقبض على رءوسهم فحبسهم، وقتل جماعة منهم وافترقوا، ولم يقدر الظافر على إنكار ذلك. واحتفل ابن السلار بأمر عسقلان، ومنعها من الفرنج وبعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات والأسلحة فلم يغن ذلك عنها، وملكها الفرنج وكان لذلك من الوهن على الدولة ما تحدّث به الناس.
ولما قتل العادل بن السلار صبيان الخاص تأكّد نكر الخليفة له، واشتدّ قلقه. وكان عبّاس بن أبي الفتوح صديقا ملاطفا له فكان يسكّنه ويهدّيه، وكان لعبّاس ولد اسمه نصير، استخصه الظافر واستدناه، ويقال كان يهواه، ففاوض العادل عبّاسا في شأن ابنه عن مخالطة ابنه للظافر فلم ينته ابنه، فنهى العادل جدّته أن يدخل إلى بيته فشقّ ذلك على نصير وعلى أبيه، وتنكّر للعادل. وزحف الفرنج إلى عسقلان فجهّز العادل الجيوش والعساكر إليها مددا مع ما كان يمدّها به، وبعثهم مع عبّاس بن أبي الفتوح فارتاب لذلك، وفاوض الظافر في قتل العادل وحضر معهم مؤيدا لدولة الأمير أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر، وكان مقرّبا عند الظافر وصديقا لعبّاس، فاستصوب ذلك وحثّ عليه، وخرج عبّاس بالعساكر إلى بلبيس، وأوصى ابنه نصير بقتله، فجاء في جماعة إلى بيت جدّته، والعادل نائم فدخل إليه وضربه فلم يجهز عليه، وخرج إلى أصحابه. ثم دخلوا جميعا فقتلوه وجاءوا برأسه إلى الظافر، ورجع عبّاس من بلبيس بالعساكر فاستوزره الظافر، وقام بالدولة وأحسن الى الناس، وأيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا أنفسهم وبلدهم بعد حصار طويل وكان ذلك كله سنة ثمان وأربعين
.(4/96)
(مقتل الظافر وأخويه وولاية ابنه الفائز)
ولما وزر عبّاس للظافر، وقام بالدولة، كان ولده نصير من ندمان الظافر، وكان يهواه كما تقدّم. وكان أسامة بن منقذ من خلصاء عبّاس وأصدقائه فقبّح عليه سوء المقالة في ابنه، وأشار عليه بقتل الظافر فاستدعى ابنه نصيرا وقبّح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس، وأغراه باغتيال الظافر ليمحو عنه ما يتحدّث به الناس، فسأل نصير من الظافر أن يأتي إلى بيته في دعوة فركب من القصر إليه فقتله نصير ومن جاء معه، ودفنهم في داره، وذلك في محرّم سنة تسع وأربعين وباكر إلى القصر ولم ير الظافر، وسأل خدّام القصر فأحسن العذر ورجع إلى أخوي الظافر يوسف وجبريل فخبّرهما بركوب الظافر إلى دار نصير فقالا له: خبّر الوزير. فلما جاء عبّاس من الغد أخبره بأنه ركب إلى بيت نصير ابنه ولم يعد فاستشاط غيظا عليه، ورماه بأنه داخل أخويه في قتله. ثم استدعاهما فقتلهما وقتل معهما ابنا لك لحسن بن الحافظ. ثم أخرج ابنه أبا القاسم عيسى ابن خمس سنين وحمله على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له بالخلافة، ولقّبه الفائز باللَّه ونقل عبّاس بسبب ذلك ما في القصر من الأموال والذخائر ما لا حدّ له. وعند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب وفزع وبقي سائر أيامه يعتاده الصرع.
(وزارة الصالح بن رزيك)
ولما قتل الظافر وأخواه كما ذكرناه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن رزّيك [1] وكان واليا على الأشمونين والبهنّسة. وجاء الخبر بأنّ الناس اختلفوا على عبّاس بسبب ذلك، فجمع وقصد القاهرة ولبس السواد حزنا ورفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزنا. ولمّا عبر البحر خرج عبّاس وولده ودفعوا ما قدروا عليه من مال وسلاح من حاصل الدولة، ومعهما صديقهما أسامة بن منقذ فاعترضهم الفرنج،
__________
[1] رزّيك بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة وسكون المثناة التحتية بعدها كاف. قاله ابن خلكان. انتهى.
ابن خلدون م 7 ج 4(4/97)
وقاتلوا فقتل عبّاس وأسر ولده ونجا أسامة إلى الشام. ودخل طلائع القاهرة في ربيع سنة تسع وخمسين، وجاء إلى القصر راجلا. ثم مضى إلى دار عبّاس ومعه الخادم الّذي حضر لقتله فاستخرجه من التراب ودفنه عند آبائه، وخلع الفائز عليه الوزارة ولقّبه الصالح. وكان إماميا كاتبا أديبا فقام بأمر الدولة، وشرع في جمع الأموال والنظر في الولايات. وكان الأوحد بن تميم من قرابة عبّاس واليا على تنيس، وكان لما سمع بفعلة قريبه عبّاس جمع وقصد القاهرة فسبقه طلائع، فلما استقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط وتنيس. ثم بعث في فداء نصير بن عبّاس من الفرنج فجيء به وقتله وصلبه بباب زويلة. ثم نظر في المزاحمين من أهل الدولة، ولم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز وابن غالب، فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا ونهب دورهما، وتتّبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو، ووضع الرقباء والحجّاب على القصر، وثقلت وطأته على الحرم، ودبّرت عمّة الفائز في قتل الصالح، وفرّقت الأموال في ذلك، ونمي الخبر إليه فجاء إلى القصر، وأمر الاستاذين والصقالبة بقتلها فقتلوها سرا، وصار الفائز في كفالة عمّته الصغرى، وعظم اشتداد الفائز واستفحل أمره، وأعطى الولايات للأمراء واتّخذ مجلسا لأهل الأدب يسامرون فيه، وكان يقرض الشعر ولا يجيده. وولّى شاور السعدي على قرضه، وأشار عليه حجّابه بصرفه، واستقدمه فامتنع وقال: إن عزلني دخلت بلاد النوبة. وعلى عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يد بني طغتكين أتابك تتش سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
(وفاة الفائز وولاية العاضد)
ثم توفي الفائر بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل سنة خمس وخمسين، لست سنين من خلافته، فجاء الصالح بن رزّيك إلى القصر وطلب الخدّام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم، وعدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده، فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عبّاس فبايع له بالخلافة وهو غلام، ولقّبه العاضد لدين الله وزوّجه ابنته وجهّزها بما لم يسمع بمثله.(4/98)
(مقتل الصالح بن رزيك وولاية ابنه رزيك)
ولما استفحل أمر الصالح وعظم استبداده بجباية الأموال والتصرّف، وحجر العاضد تنكر له الحرم ودس إلى الأمراء بقتله. وتولّت كبر ذلك عمّة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها. واجتمع قوم من القواد والسودان منهم الريفي الخادم وابن الداعي والأمير بن قوّام الدولة، وكان صاحب الباب وتواطئوا على قتله، ووقفوا في دهليز القصر، وأخرج ابن قوّام الدولة الناس أمامه وهو خارج من القصر، واستوقفه عنبر الريفي يحادثه، وتقدّم ابنه رزّيك فوثب عليه جماعة منهم وجرحوه، وضرب ابن الداعي الصالح فأثبته، وحمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه ذلك.
وإذا أفاق يقول رحمك الله يا عبّاس ومات من الغد. وبعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك، ونسبه إلى العمّة، وأحضر ابنه رزّيك وولّاه الوزارة مكان أبيه، ولقّبه العادل فأذن له في الأخذ بثأره، فقتل العمّة وابن قوّام الدولة والأستاذ عنبر الريفي وقام بحمل الدولة، وأشير عليه بصرف شاور من قوص، وقد كان أبوه أوصاه ببقائه وقال له: قد ندمت على ولايته، ولم يمكني عزله، فصرفه وولّى مكانه الأمير بن الرفعة فاضطرب شاور وخرج إلى طريق الواحات وجمع وقصد القاهرة، وجاء الخبر إلى رزّيك فعجز عن لقائه، وخرج في جماعة من غلمانه بعدة أحمال من المال والثياب والجوهر، وانتهى إلى طفيحة، واعترضه ابن النضر وقبض عليه، وجاء به إلى شاور فاعتقله واعتقل معه أخاه، فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقتل لسنة من ولايته ولتسع سنين من ولاية أبيه.
(وزارة شاور ثم الضرغام من بعده)
ودخل شاور القاهرة سنة ثمان وخمسين، ونزل بدار سعيد السعداء ومعه ولده طين وشجاع والطازي، وولّاه العاضد الوزارة ولقّبه أمير الجيوش، وأمكنه من أموال بني رزّيك فاستصفى معظمها، وزاد أهل الرواتب والجرايات عشرة أمثالها، واحتجب(4/99)
عن الناس، وكان الصالح بن رزّيك قد أنشأ في لواته أمراء يسمّون البرقية، وكان مقدّمهم الضرغام، وكان صاحب الباب فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته، وثار عليه وأخرجه من القاهرة، فلحق بالشام وقتل ولده عليّا وكثيرا من أمراء المصريّين حتى ضعفت الدولة وخلت من الأعيان وأدى ذلك الى خرابها.
(مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى مصر مع شاور)
ولما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخا، وشرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر. وجهّز نور الدين شيركوه وكان مقدّما في دولته ويذكر سبب اتصاله به في موضعه، فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، وقد تقدّم نور الدين إلى أسد الدين شير كوه بأن يعيد شاور إلى وزارته وينتقم له ممن نازعه وسار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن همّوا به، ولما وصل أسد الدين وشاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همّام وفخر الدين همّام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه، ورجع إلى القاهرة وقتل رفقاؤه الأمراء البرقية الذين أغروه بشاور. ودخل أسد الدين القاهرة ومعه أخو الضرغام أسيرا وفرّ الضرغام فقتل بالجسر عند مشهد السيدة نفيسة، وقتل أخواه وعاد شاور إلى وزارته وتمكّن منها، ثم نكث عهده مع أسد الدين وسلطانه وصرفه إلى الشام.
(فتنة أسد الدين مع شاور وحصاره)
ولما رجع أسد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين. ثم استأذن نور الدين العادل سنة اثنتين وستين في العود إلى مصر فأذن له، وجهّزه في العساكر وسار إلى مصر ونازل بلاد الفرنج في طريقه. ثم وصل إلى أطفيح من ديار مصر، وعبر النيل الى الجانب الغربي ونزل الجيزة، وتصرّف في البلاد الغربية نيّفا وخمسين، واستمدّ شاور الفرنج، وجاء بهم إلى مصر وخرج معهم للقاء أسد الدين شير كوه فأدركوه بالصعيد، فرجع للقائهم على رهب لكثرة عددهم وصدقهم القتال فهزمهم(4/100)
على قلّة من معه، فإنّهم لم يبلغوا ألفي فارس. ثم سار إلى الإسكندرية وهو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها، فاستأمن أهلها وملّكها، وولّى عليها صلاح الدين يوسف بن أخيه نجم الدين أيّوب، ورجع إلى جباية الصعيد. واجتمعت عساكر مصر والفرنج على القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار أسد الدين إليهم من الصعيد، ثم خذله بعض من معه من التركمان بمداخلة شاور، وبعثوا له إثر ذلك في الصلح فصالحهم وردّ إليهم الإسكندريّة، ورجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وستين. واستطال الفرنج على أهل مصر وشرطوا عليهم أن ينزلوا بالقاهرة وشحنة، وأن تكون أبوابها بأيديهم لئلّا تدخل عساكر نور الدين، وقرّر ضريبة يحملها كل سنة فأجابه إلى ذلك [1]
(رجوع أسد الدين إلى مصر ومقتل شاور ووزارته)
ثم طمع الإفرنج في مصر، واستطالوا على أهلها وملكوا بلبيس، واعتزموا على قصد القاهرة. وأمر شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم فحرقت ونهب أهلها، ونزل الفرنج على القاهرة، وأرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده، وخشي شاور من اتفاق العاضد ونور الدين، فداخل الفرنج في الصلح على ألفي ألف دينار مصريّة معجّلة وعشرة آلاف أردب [2] من الزرع، وحذّرهم أمر القهر إلى ذلك وكان فيه السفير الجليس بن عبد القوي وكان الشيخ الموفّق كاتب السر وكان العاضد قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه [3] وقال: هو ربّ الحرمة علينا وعلى آبائنا، وأهل
__________
[1] العبارة غير واضحة ومشوشة وفي الكامل ج 11 ص 327: «وأما فإنهم استقر بينهم وبين المصريين ان يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر عليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقرّ مع شاور، فإن العاضد لم يكن له معه حكم لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الفرنج الى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل الى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبّته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه أنه يفعل هذا ويجمع الكلمة بمصر على طاعته، وبذل مالا يحمله كلّ سنة، فأجابه إلى ذلك. وحمل إليه مالا جزيلا»
[2] اردب ج أرادب: مكيال ضخم في مصر يساوي 24 صاعا (قاموس) .
[3] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 11 ص 337: «وأمّا القاهرة فالأغلب على أهلها الجند(4/101)
النصيحة لنا. فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه ويشاوره، فقال له: قل لمولانا يعني العاضد إنّ تقرير الجزية للفرنج خير من دخول الغزّ للبلاد واطلاعهم على الأحوال. ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مددا للعاضد، كما سأل وبعث معه صلاح الدين ابن أخيه وجماعة الأمراء. فلما سمع الفرنج بوصولهم أفرجوا عن القاهرة ورجعوا إلى بلادهم. وقال ابن الطويل مؤرخ دولة العبيديّين: إنه هزمهم على القاهرة ونهب معسكرهم ودخل أسد الدين إلى القاهرة في جمادى سنة أربع وستين وخلع عليه العاضد ورجع إلى معسكره، وفرضت له الجرايات. وبقي شاور على ريبة وخوف وهو يماطله فيما يعين له من الأموال، ودسّ العاضد إلى أسد الدين بقتل شاور وقال: هذا غلامنا، ولا خير لك في بقائه ولا لنا، فبعث عليه صلاح الدين ابن أخيه، وعزّ الدين خرديك.
وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعيّ فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين وخرديك فقتلاه، وبعثا برأسه إلى العاضد، ونهبت العامة دوره، واعتقل ابناه شجاع والطازي وجماعة من أصحابه بالقصر، وخلع عليه للوزارة، ولقّب المنصور أمير الجيوش، وجلس في دست الوزارة واستقرّ في الأمر، وغلب على الدولة، وأقطع البلاد لعساكره. واستعدّ أصحابه في ولايتها وردّ أهل مصر إلى بلدهم، وأنكر ما فعلوه في تخريبها. ثم اجتمع بالعاضد مرّة أخرى وقال له جوهر الأستاذ: يقول لك مولانا لقد تيقنّا أنّ الله ادّخرك نصرة لنا على أعدائنا، فحلف له أسد الدين على النصيحة فقال له: الأمل فيك أعظم، وخلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي، وكان داعي الدعاة وقاضي القضاة فأبقاه على مراتبه.
__________
[ () ] وغلمانهم، فلهذا تعذّرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر وان يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر، وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثّلث الّذي لهم. وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل الى أسد الدين يستدعيه إليه فخرج القاصد في طلبه فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه وكان سبب وصوله ان كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى، فسار أيضا الى نور الدين واجتمع به، وحجب نور الدين من حضوره في الحال وسرّه ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهز الى مصر» .(4/102)
(وفاة أسد الدين وولاية صلاح الدين الوزارة)
ثم توفي أسد الدين رحمه الله تعالى لشهرين في أيام قلائل من وزارته وقيل لأحد عشر شهرا وأوصى أصحابه أن لا يفارقوا القاهرة. ولما توفي كان معه جماعة من الأمراء النورية، منهم عين الدولة الفاروقي وقطب الدين يسأل [1] وعين الدين المشطوب الهكاوي [2] ، وشهاب الدين محمود الحازميّ، فتنازعوا في طلب الرئاسة وفي الوزارة، وجمع كل أصحابه للمغالبة. ومال العاضد إلى صلاح الدين لصغره وضعفه عنهم، ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إلى دفع الغزّ وعساكرهم إلى الشرقية، ويولّي عليهم قراقوش. ومال آخرون إلى وزارة صلاح الدين، ومال العاضد إلى ذلك لمكافأته عن خدمته السالفة، فاستدعاه وولّاه الوزارة، واضطرب أصحابه وكان الفقيه عيسى الهكاريّ من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه إلّا عين الدولة الفاروقي، فإنه سار إلى الشام وقام صلاح الدين بوزارة مصر نائبا عن نور الدين يكاتبه بالأمير الأصفهان ويشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية. ثم استبد صلاح الدين بالأمور وضعف أمر العاضد وهدم دار المعرفة بمصر، وكانت حبسا. وبناها مدرسة للشافعيّة وبني دار الغزل كذلك للمالكيّة وعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا في مصر، واستناب في جميع البلاد.
(حصار الفرنج دمياط)
ولما جاء أسد الدين وأصحابه إلى مصر وملكوها ودفعوهم عنها، ندموا على ما فرّطوا فيها، وانقطع عنهم ما كان يصل إليهم وخشوا غائلة الغز على بيت المقدس، وكاتبوا الفرنج بصقلية والأندلس واستنجدوهم، وجاءهم المدد من كل ناحية فنازلوا دمياط سنة خمس وستين وبها شمس الخواص منكوريين فأمدّها صلاح الدين بالعساكر
__________
[1] وفي نسخة اخرى: قطب الدين نسأل.
[2] سيف الدين المشطوب الهكّاريّ: ابن الأثير ج 11 ص 343.(4/103)
والأموال مع بهاء الدين قراقوش وأمراء الغزّ، واستمدّ نور الدين واعتذر عن المسير إليها بشأن مصر والشيعة فبعث نور الدين العساكر إليها شيئا فشيئا، وسار بنفسه إلى بلاد الفرنج بسواحل الشام فضيّق عليها، فأقلع الفرنج عن دمياط لخمسين يوما من نزولها فوجدوا بلادهم خرابا، وأثنى العاضد على صلاح الدين في ذلك. ثم بعث صلاح الدين غرابيه [1] نجم الدين وأصحابه إلى مصر وركب العاضد للقائه تكرمة له.
(واقعة الخصيان وعمارة)
ولما استقام الأمر لصلاح الدين بمصر غصّ به الشيعة وأولياؤهم، واجتمع منهم العوريش، وقاضي القضاة ابن كامل والأمير المعروف والكاتب عبد الصمد، وكان فصيحا، وعمارة اليمني الشاعر الزبيدي، وكان متولي كبرها فاتفقوا على استدعاء الفرنج لإخراج الغزّ من مصر، وجعلوا لهم نصيبا وافرا من ارتفاعها، وعمدوا إلى شيعي من خصيان القصر اسمه نجاح ولقبه مؤتمن الدولة، وكان قد ربى العاضد وصهره فأغروه بذلك، ورغبوا على أن يجمع رسول الفرنج بالعاضد فجمعه معه في بيته ملبسا بذلك، ولم يكن العاضد الّذي حضر وأوهموه أنه عقد معه. ثم اتصل الخبر بنجم الدين بن مضيال من أولياء الشيعة، وكان نجم الدين قد اختصّه صلاح الدين وولّاه الإسكندرية، واستغضبه بهاء الدين قراقوش ببعض النزغات فظنوا أنه غضب فأطلعوه على شأنهم، وأن يكون وزيرا وعمارة كاتب الدست وصاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات مكان الفاضل بن كامل قاضي القضاة داعي الدعاة، وعبد الصمد جابي الأموال والعوريش ناظرا عليه، فوافقهم ابن مضيال ووشى بهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وعلى رسول الفرنج، وقرّرهم في عدّة مجالس. وأحضر زمام القصر وهو مختص بالغزّ ونكر عليه خروج العاضد إلى بيت نجاح فحلف على نفسه وعلى العاضد أنّ هذا لم يقع، وأخبر العاضد بطلب حضور نجاح مع مختص، فحضر واعترف بالحق أنّ العاضد لم يحضر، فتحقّق صلاح الدين براءته. وكان عمارة
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 11 ص 353: واما نجم الدين أيّوب فإنه وصل الى مصر سالما هو ومن معه، وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكراما له.(4/104)
يجالس شمس الدولة توران شاه فنقل لأخيه صلاح الدين أنه امتدحه بقصيدة يغريه فيها بالمضيّ إلى اليمن، ويحمله على الاستبداد وأنه تعرّض فيها للجانب النبوي، يوجب استباحة دمه وهو قوله:
فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك وأور النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت ولايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان أوّل هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
فجمعهم صلاح الدين وشنقهم في يوم واحد بين القصرين، وأخّر ابن كامل عنهم عشرين يوما ثم شنقه. ومرّ عمارة بباب القاضي الفاضل، فطلب لقاءه فمنع فقال وهو سائر إلى المشنقة:
عبد الرحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص هو العجب
وفي كتاب ابن الأثير أنّ صلاح الدين إنما اطّلع على أمرهم من كتابهم الّذي كتبوه إلى الفرنجة، عثر على حامله وقرئ الكتاب، وجيء به إلى صلاح الدين فقتل مؤتمن الخلافة لقرينة، وعزل جميع الخدّام واستعمل على القصر بهاء الدين قراقوش، وكان خصيّا أبيض، وغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة واجتمعوا في خمسين ألفا وقاتلوا أجناد صلاح الدين بين القصرين، وخالفهم إلى بيوتهم فأضرمها نارا، وأحرق أموالهم وأولادهم فانهزموا، وركبهم السيف. ثم استأمنوا ونزلوا الجيزة وعبر إليهم شمس الدولة توران شاه فاستلحمهم.
(قطع الخطبة للعاضد وانقراض الدولة العلوية بمصر)
كان نور الدين العادل يوم استقل صلاح الدين بملك مصر وضعف أمر العاضد بها، وتحكم في قصره يخاطبه في قطع دعوتهم من مصر والخطبة بها للمستضيء العبّاسيّ، وهو يماطل بذلك حذرا من استيلاء نور الدين عليه، ويعتذر بتوقع المخالفة من أهل مصر في ذلك فلا يقبل. ثم ألزمه ذلك فاستأذن فيه أصحابه فأشاروا به، وأنه لا يمكن مخالفة نور الدين. ووفد عليه من علماء العجم الفقيه الخبشاني، وكان يدعى بالأمير العالم، فلما رأى إحجامهم عن هذه الخطبة قال: أنا أخطبها! فلما كان أوّل جمعة من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة صعد المنبر قبل(4/105)
الخطيب ودعا للمستنصر فلم ينكر أحد عليه، فأمر صلاح الدين في الجمعة الثانية الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ففعلوا، وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر. وكان العاضد في شدّة من المرض فلم يعلمه أحد بذلك، وتوفي في عاشوراء من السنة، وجلس صلاح الدين للعزاء فيه واحتوى على قصر الخلافة بما فيه فحمله بهاء الدين قراقوش إليه، وكان في خزائنهم من الذخيرة ما لم يسمع بمثله من أصناف الجواهر واليواقيت والزمرّد وحليّ الذهب وآنية الفضّة والذهب، ووجد ماعون القصر [1] من الموائد والطسوت والأباريق والقدور والصحاف والخوان والبواقيل والمناير والطيافر والقباقب والأسورة، كل ذلك من الذهب. ووجد من أنواع الطيوب واللباس والمذهبات والقرقبيات المعلّقات والوشي ما لا تقله الأوقار، ومن الكتب ما يناهز مائة وعشرين ألف سفر أعطاها للفاضل عبد الرحيم البيساني كاتبه وقاضيه، ومن الظهر والكراع والسلاح، ومن الخدم والوصائف خمسين ألفا، ومن المال ما يملأ مائة بيت. ثم حبس رجالهم ونساءهم حتى ماتوا، وكانت بالدولة عند عهد العزيز والحاكم قد خلا جوّها من رجالات كتامة وتفرّقوا في المشرق في سبيل ذلك الملك، وانقرضوا بانقراض أمر الشيعة وموت العاضد آخر خلفائهم، وأكلتهم الأقطار والوقائع شأن الدول كما ذكرناه من قبل. ولما هلك العاضد وحوّل صلاح الدين الدعوة إلى العبّاسيّة، اجتمع قوم من الشيعة بمصر
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 11 ص 369: «وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله، وأصحابه بقطع الخطبة وقالوا: ان عوفي فهو يعلم، وان توفي فلا ينبغي ان نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفي يوم عاشوراء، ولم يعلم بقطع الخطبة.
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه، فحفظه بهاء الدين قراقوش الّذي كان قد رتبه قبل موت العاضد، فحمل الجميع الى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الاعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا عن مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم، فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو سبعة عشر مثقالا، انا لا أشك، فانني رأيته ووزنته. واللؤلؤ الّذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرّد الّذي طوله اربع أصابع في عرض عقد كبير. ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد وقد احتاطوا بالحفظ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب فيه، فسخروا من العاضد فأخذه إنسان فضرب به فضرط، فتضاحكوا منه ثم آخر كذلك، وكان كل من ضرب به ضرط، فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك. وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد، فباع جميع ما فيه. ونقل أهل العاضد الى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبد، فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه» .(4/106)
وبايعوا لداود بن العاضد، ونمي خبرهم إلى صلاح الدين فقبض عليهم وقتلهم، وأخرج داود من القصر وذلك سنة تسع وستين وخمسمائة. ثم خرج بعد حين ابنه سليمان بن داود رضي الله تعالى عنه بالصّعيد وحبس إلى أن هلك. وظهر بعد حين بجهة فاس بالمغرب محمد بن عبد الله بن العاضد، ودعا لك وتسمى بالمهديّ فقتل وصلب. ولم يبق للعبيديّين ذكر إلّا في بلاد الحثيثية من العراق وهم دعاة الفداوية.
وفي بلاد الإسماعيلية التي كانت فيها دعوتهم بالعراق. وقام بها ابن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها كما يذكر في أخبارهم، إلى أن انقرضت تلك الدعوة أجمع بانقطاع دعوة العبّاسيّين ببغداد على يد هولاكو من ولد جنكزخان ملوك التتر سنة خمس وخمسين وستمائة، والأمر للَّه وحده. هذه أخبار الفاطميّين ملخّصة من كتاب ابن الأثير ومن تاريخ دولتهم لابن الطوير وقليل من ابن المسبحي جمعت ما أمكنني منها ملخصا والله ولي العون.
(الخبر عن بني حمدون ملوك المسيلة والزاب بدعوة العبيديّين ومآل أمرهم)
كان علي بن حمدون أبوهم من أهل الأندلس وهو علي بن حمدون بن سمّاك بن مسعود بن منصور والجذامي يعرف بابن الأندلسي واتصل بعبيد الله وأبي القاسم بالمشرق قبل شأن الدعوة، وبعثوه من طرابلس إلى عبد الله الشيعي فأحسن اللقاء والانصراف، ولزمهم أيام اعتقالهم بسجلماسة، فلما استفحل ملكهم جذبوا أبا ضبيعة ورقّوه إلى الرتب. ولما رجع أبو القاسم من حركته إلى المغرب سنة خمس عشرة وثلاثمائة، واختطّ مدينة المسيلة، استعمل علي بن حمدون على بنائها وسمّاها المحمدية ولما تم بناؤها عقد له على الزاب وأنزله بها وشحنها بالأقوات التي كانت ميرة للعساكر عند محاصرة المنصور لأبي يزيد صاحب الحمار بجبل كتامة. ولم يزل واليا على الزاب وربى ابنيه جعفرا ويحيى بدار أبي القاسم وكان جعفر سار إلى المعز. ولما كانت فتنة أبي يزيد وأضرمت إفريقية نارا وفتنة، وأهاب القائم بالأولياء من كل ناحية، كتب إلى ابن حمدون أن يجنّد قبائل البربر ويوافيه، فنهض إلى المهدية في عسكر ضخم بقسنطينة وهو يحتشد كل من مرّ به في طريقه حتى وصل إلى شق(4/107)
بنارية. ثم قارب باجة وكان بها أيوب بن أبي يزيد في عسكر كبير من النكارية والبربر، فزحف إليهم وتناور الفريقان، ثم بيّته أيوب فاستباح معسكره وتردى علي ابن حمدون من بعض الشواهق فهلك سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ولما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على المسيلة والزاب لجعفر بن علي بن حمدون، وأنزله بها وأخاه يحيى، واستجدوا بها سلطانا ودولة، وبنوا القصور والمنتزهات، واستفحل بها ملكهم وقصدهم بها العلماء والشعراء، وكان فيمن قصدهم ابن هانئ شاعر الأندلس وأمداحه فيهم معروفة مذكورة. وكان بين جعفر هذا وبين زيري بن مناد عداوة جرّتها المنافسة والمساماة في الدولة، فساء أثر زيري فيه عند صدمته للمغرب وفتكه بزناتة، وسعوا به إلى الخليفة وألقح له في جوانحه العداوة فكانت داعيته إلى زناتة. وتولّى محمد بن خزر أمير مغراوة. ثم إن المعزّ لما اعتزم على الرحيل إلى القاهرة سنة اثنتين وثلاثمائة استقدم جعفرا فاستراب جعفر ومال بعسكره إلى زناتة قبل قدومه، وانقطعت الرسائل بينه وبين صنهاجة والخليفة المعزّ، وشملت عليه زناتة قبل قدومه واجتمعوا عليه، ودعا إلى نقض طاعة المعزّ والدعاء للحاكم المستنصر، فوجدهم أقدم إجابة لها، وناهضهم زيري الحرب قبل استكمال التعبية، فكانت عليه من أمراء زناتة فكبا بزيري فرسه فطاح، فقصّوا رأسه وبعثوا به مع جماعة من زناتة إلى الحاكم المستنصر، فكرّم الحاكم وفادتهم ونصب رأس زيري بسوق قرطبة، وأسنى جوائز الوفد ورفع منزلة يحيى بن علي وأذن لجعفر في اللحاق بسدّته. ولما علمت زناتة أن يوسف بن زيري يطالبهم بدم أبيه أظهروا العذر به، ورأى أن يتجنّب مجابهتهم لضيق ذات يده. وعجز رؤساؤهم عن الذبّ والدفاع عنها [1] ، وقبض الأيدي عن تناوله لدنو الفتنة ومراس العصبيّة، فأوجس الخيفة في نفسه وألطف الحيلة في الفرار رغبة بحيلته، وشحن السفن بما معه من المال والمتاع والرقيق، والحشم وذخيرة السلطان، وأجاز البحر ولحق بسدّة الخلافة من قرطبة وأجاز معه عظماء الزناتيّين معطين الصفقة على القيام بدعوته، والاحتطاب في جبل طاعته فكرّم مثواه وأجمل وفادتهم وأحسن منصرفهم وانقلبوا لمحبته والتشيّع له، ومناغاة الادارسة للقيام في خدمته بالمغرب الأقصى، وبثّ دعوته. وتخلّف عنهم أولاد علي بن حمدون بالحضرة وأقاموا بسدّة الخلافة، ونظّموا في طبقات الوزارة وأجريت عليهم
__________
[1] الضمير يعود الى قبيلة زناتة، وقد اعتاد ابن خلدون ان يعيد الضمير الى ما قبل فقرات.(4/108)
سنيات الأرزاق والتحقوا على حديث عهدهم بالقوم من أولياء الدولة. ثم كان بعد ذلك شأن اعتقالهم على طريق التأديب لمرتكب من نازعهم خرقوا به حدود الآداب مع الخلافة، فاستدعوا إلى القصر واعتقلوا، ثم أطلقوا لأيام قلائل لما انغمس الحكم في علّة الفالج، وركدت ريح المروانية بالمغرب، واحتاجت الدولة إلى رجالهم لسد الثغور ودفع العدو، واستدعي يحيى بن هاشم من العدوة، وكان واليا على فاس والمغرب، وأدا له الحاجب المصحفي لجعفر بن على بن حمدون، وجمعوا بين الانتفاع في مقارعة زناتة بالعدوة والراحة مما يتوقع منه على الدولة عند من ولي الخلافة، لما كانوا صاروا إليه من النكبة وطروق المحنة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب، وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال وكسا فاخرة للخلع على ملوك العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وضبطه، واجتمع إليه ملوك زناتة من بني يفرن ومغراوة وسجلماسة. ولما هلك الحكم وولي هشام، وقام بأمره المنصور بن أبي عامر، اقتصر لأوّل قيامه على سبتة من بلاد العدوة فضبطها جند السلطان ورجال الدولة، وقلّدها أرباب السيوف والأقلام من الأولياء والحاشية وعدل في ضبطه على ما وراء ذلك على ملوك زناتة ونقدهم بالجوائز والخلع وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب الإثبات في ديوان السلطان منهم، فجدّوا في ولاية الدولة وبثّ الدعوة، وفسد ما بين هذين الأميرين جعفر وأخيه، واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبته بنو غواطة في غزاته إياهم. ثم استدعاه محمد بن أبي عامر لأوّل أمره لما رأى من الاستكانة إليه وشد أزره به ونقم عليه كراهته لما لقيه بالأندلس من الحكم، ثم أصحبه وتخلّى لأخيه عن عمل المغرب، وأجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحلّ منه بالمكان الأثير. ولما زحف بلكّين إلى المغرب سنة تسع وستين زحفته المشهورة خرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه، وأجاز جعفر بن علي إلى سبتة وعقد له على حرب بلكين وأمدّه بمائة حمل من المال، وانضمت إليه ملوك زناتة ورجع عنهم بلكّين كما نذكره. ولما رجع إلى ابن أبي عامر فاغتاله في بعض ليالي معاقرتهم وأعدّ له رجالا في طريقه من سمره إلى داره فقتلوه سنة [1] ولحق يحيى بن عليّ
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي وفيات الأعيان لابن خلّكان ج 1 ص 286: «توفي يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين» .(4/109)
بمصر ونزل بدار العزيز وتلقّاه بالمبرّة والتكريم، وطال به ثواؤه واستكفى به العظائم، ولما استصرخ فلفول بن خزرون بالحاكم في استرجاع طرابلس من يد صنهاجة المتغلّبين عليه، دفع إليه العساكر وعقد عليها ليحيى بن عليّ، واعترضه بنو قرّة من الهلاليّين ببرقة ففلّوه وفضّوا جموعه ورجع إلى مصر ولم يزل بمصر إلى أن هلك هنالك، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن القرامطة واستبداد أمرهم وما استقرّ لهم من الدولة بالبحرين وأخبارها إلى حين انقراضها
هذه الدعوة لم يظهرها أحد من أهل نسب العلويّة ولا الطالبيّين، وإنما قام بها دعاة المهدي من أهل البيت على اختلاف منهم في تعيين هذا المهدي كما نذكره. وكان مدار دعوتهم على رجلين أحدهما يسمّى الفرج بن عثمان القاشاني من دعاة المهدي ويسمى أيضا كرويه بن مهدويه وهو الّذي انتهى إليه دعاتهم بسواد الكوفة، ثم بالعراق والشام، ولم يتم لهؤلاء دولة، والآخر يسمّى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كانت دعوته بالبحرين واستقرّت له هنالك دولة ولبنيه. وانتسب بعض مزاعمهم إلى دعاة الإسماعيليّة الذين كانوا بالقيروان كما نذكره. ودعوى هؤلاء القرامطة في غاية الاضطراب مختلّة العقائد والقواعد، منافية للشرائع والإسلام في الكثير من مزاعمهم، وأوّل من قام بها بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين رجل أظهر الزهد والتقشّف، وزعم أنه يدعو إلى المهدي وأن الصلوات المفروضة خمسون كل يوم، واستجاب له جمع كثير ولقّب قرمط وأصلها بالكاف. وكان يأخذ من كل من يجيب دعوته دينارا للإمام. وجعل عليهم نقباء وسمّاهم الحواريّين، وشغل الناس بذلك عن شئونهم وحبسه عامل الناحية ففرّ من محبسه ولم يوقف له على خبر، فازداد أتباعه فتنة فيه ثم زعم أنه الّذي بشّر به أحمد بن محمد بن الحنفيّة. وأن أحمد نبيّ وفشا هذا المذهب في السواد وقرئ بينهم كتاب زعموا أنه جاءهم من داعيه المهدي نصّه بعد البسملة، يقول الفرج بن عثمان: الحمد للَّه بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلّة مواقيت للناس، ظاهرها لتعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرّفوا عبادي سبيلي اتّقوني يا أولي(4/110)
الألباب، وأنا الّذي لا أسأل عمّا أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الّذي أبلو عبادي وأستخبر خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري وكذّب رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي، فأنا الّذي لا يتكبّر عليّ جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا ذللته، فليس الّذي أصرّ على أمره ودام على جهالته. وقال لن نبرح عليه عاكفين وبه مؤمنين، أولئك هم الكافرون. ثم يركع ويقول في ركوعه مرّتين سبحان ربّي وربّ العزة تعالى عما يصف الظالمون، وفي سجوده الله أعلى مرّتين الله أعظم مرّة، والصوم مشروع يوم المهرجان والنيروز والنبيذ حرام والخمر حلال، والغسل من الجنابة كالوضوء، ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخلب. ومن خالف وحارب وجب قتله ومن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوي شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا. وشاهد عليهم بالكذب. والّذي حملهم على ذلك إنما هو ما اشتهر بين الشيعة من أمر المهدي مستندين فيه إلى الأحاديث التي خرجها بعضهم وقد أريناك عللها في مقدّمة الكتاب في باب الفاطمي فلهجوا به، وبالدعوة إليه فمن الصادق فيمن يعينه وان كان كاذبا في استحقاقه، ومنهم من بنى أمره على الكذب والانتحال، عساه يستولي بذلك على حظ من الدنيا ينال بها صفقة. وقد يقال إنّ ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار على الأمان. وقال له: إنّ ورائي مائة ألف سيف فناظرني لعلّنا نتفق ونتعاون. ثم اختلفا وانصرف قرمط عنه، وكان يسمّي نفسه القائم بالحق. وزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج. ثم زحف إليه أحمد بن محمد الطائيّ صاحب الكوفة في العساكر فأوقع بهم وفتك بهم، وتتابعت العساكر في السواد في طلبهم وأبادوهم، وفرّ هو إلى أحياء العرب فلم يجبه أحد منهم، فاختفى في القفر في جبّ بناه واتخذه لذلك، وجعل عليه باب حديد واتخذ بجانبه تنورا سحرا إن أرهقه الطلب فلا يفطن له. ولما اختفى في الجب بعث أولاده في كاب بن دبرة بأنهم من ولد إسماعيل الإمام مستجيرون بهم.
ثم دعوا إلى دعوتهم أثناء ذلك وكانوا ثلاثة يحيى وحسين وعلي فلم يجبهم أحد الى ذلك إلّا بنو القليص بن ضمضم بن عليّ بن جناب، فبايعوا ليحيى على أنه يحيى ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الإمام وكنّوه أبا القاسم ولقّبوه الشيخ. ثم حوّل اسمه وادّعى أنه محمد بن عبد الله وأنه كان يكتم هذا الاسم، وأنّ ناقته التي يركبها(4/111)
مأمورة ومن تبعها منصور، فزحف إليه سبك مولى المعتضد في العساكر فهزمها، وقتل فسار إليه محمد بن أحمد الطائي في العساكر فانهزمت القرامطة وجيء ببعضهم أسيرا فاحتضره المعتضد وقال: هل تزعمون أن روح الله وأنبيائه تحلّ فيكم فتعصمكم من الزلل، وتوفقكم لصالح العمل، فقال له: يا هذا أرأيت لو حلّت روح إبليس فما ينفعك فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك. فقال له: قل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوكم العبّاس حي فلم يطلب هذا الأمر ولا بايعه أحد، ثم قبض أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى العبّاس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى، وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد، وهذا إجماع منهم على دفع جدّك عنها، فبماذا تستحقّون أنتم الخلافة؟ فأمر المعتضد به فعذّب وخلعت عظامه ثم قطع مرّتين ثم قتل. ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليها طفج مولى ابن طولون سنة تسعين، واستصرخ بابن سيّده بمصر، فجاءت العساكر لإمداده فقاتلهم مرارا وقتل يحيى بن ذكرويه المسمّى بالشيخ في خلق من أصحابه، واجتمع فلّهم على أخيه الحسين وتسمّى أحمد أبا العبّاس وكانت في وجهه شامة يزعم أنها مقدسة، فلقّب صاحب الشامة المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمّه عيسى بن مهدي وهو عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل الإمام ولقبه المدّثر، وعهد إليه، وزعم أنه المذكور في القرآن ولقّب غلاما من أهله المطوّق. ثم دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادي وسار إلى دمشق فحاصرها حتى صالحوه على مال ودفعوه له. ثم سارا إلى حمص وحماة والمعرّة وبعلبكّ، فخطب له بها واستباحها جميعا. ثم إلى سلميّة وبها جماعة من بني هاشم فاستلحمهم حتى الصبيان بالمكاتب والبهائم. ثم خرج المكتفي إليه وقدّم عساكره، فكبسهم ونجا فلّهم إلى حلب، وانتهى المكتفي إلى الرقّة، وقد سار بدر مولى ابن طولون في اتباع القرامطة فهزمهم وأثخن فيهم وبعث المكتفي العساكر مع يحيى بن سليمان الكاتب، وفيهم الحسين بن حمدان من بني تغلب ومعهم بنو شيبان فواقعوا القرامطة سنة إحدى وتسعين فهزموهم، وقتل منهم خلق من أصحاب القرمطيّ ونجا ابنه أبو القاسم ببعض ذخيرته، وسار هو مستخفيا إلى ناحية الكوفة ومعه المدّثر والمطوّق وغلام له، وانتهوا إلى الرّحبة فوشى بهم إلى العامل فقبض عليهم، وبعث بهم إلى المكتفي بالرقّة ورجع إلى بغداد فقطعهم بعد أن ضرب صاحب الشامة مائتي سوط. وأمّا عليّ بن ذكرويه ففرّ بعد مقتل أخيه يحيى على(4/112)
دمشق إلى ناحية الفرات، واجتمع إليه فلّ من القرامطة فاستباح طبرية. ثم لما اتّبعهم الحسين بن حمدان فرّ إلى اليمن، واجتمع إليه دعاتهم لك وتغلّب على كثير من مدنه، وقصد صنعاء فهرب عنها ابن يعفر فاستباحها وتجافى عن صعدة لذمّة العلويّة بينه وبين بني الرسي، ونازل بني زياد بن بيد، ومات في نواحي اليمن، وفي خلال ذلك بعث أبوه ذكرويه إلى بني القليص بعد أن كانوا استكانوا وأقاموا بالسماوة، فبعث إليهم من أصحابه عبد الله بن سعيد ويسمّى أبا غانم فجاءهم بكتابه سنة ثلاث وتسعين بأنه أوحى إليه بأن صاحب الشامة وأخاه الشيخ مقبلان، وأن إمامه يظهر من بعدهما ويملأ الأرض عدلا، ويظهر وطاب أبو غانم على إحياء كلب فاجتمع إليه جماعة منهم، وقصد الشام فاستباح بصرى وأذرعات، ونازل دمشق وعاملها يومئذ أحمد بن كيغلغ وهو غائب بمصر في محاربة الجليجي الثائر من شيعة بني طولون على عساكر المكتفي، وقابله خلفاؤه فهزمهم وقتل بعضهم وسار إلى الأردن فقتل عاملها، ونهب طبريّة وبعث المكتفي الحسين بن حمدان في العساكر ففرّ أبو غانم إلى السماوة وغوّر مياهها، واتبعته العساكر إلى أن جهدهم العطش. ثم رجع الحسين بهم إلى الرحبة، وقيل إنهم تقبّضوا على أبي غانم وقتلوه، وافترق جمعهم وذلك سنة ثلاث وتسعين.
(ظهور ذكرويه ومقتله)
ثم اجتمع القرامطة إلى ذكرويه وأخرجوه من الجب الّذي كان مختفيا فيه منذ عشرين سنة، وحضر عنده دعاتهم فاستخلف عليهم أحمد بن القاسم بن أحمد، وعرّفهم بما له عليهم من المنّة، وأن رشادهم في امتثال أمره، ورمز لهم في ذلك بآيات من القرآن حرّف تأويلها، وسار وهو محتجب يدعونه السيّد ولا يرونه، والقاسم يباشر الأمور ويتولّاها، وبعث المكتفي عساكره فهزمهم القرامطة بالسواد، وغنموا معسكرهم، وساروا لاعتراض الحاج ومرّوا بالصوان، وحاصروا الواقصة فامتنعت عليهم، وطمّوا الآبار والمياه في تلك النواحي وبعث المكتفي محمد بن إسحاق بن كنداج الصهّال ورجعوا. ونهب القرامطة الحاج وقتلوهم بعد أن قاتلوهم ثلاثا على غير ماء فاستسلموا، وغنم أموالهم وأموال التجّار وأموال بني طولون كانوا نقلوها من ابن خلدون م 8 ج 4(4/113)
مصر إلى مكّة. ثم من مكّة إلى بغداد عند ما أجمعوا النقل إليها. ثم حاصر القرامطة بقية الحاج في حمص، قيل فامتنعوا، وجهّز المكتفي العساكر مع وصيف بن صوارتكين وجماعة من القوّاد، فساروا على طريق خفان، وأدركوا القرامطة فقاتلوهم يومين، ثم هزموهم وضرب ذكرويه على رأسه فانهشم وجيء به أسيرا وبخليفة القاسم وابنه وكاتبه وزوجته، ومات لخمس ليال فسيق شلوه إلى بغداد، وصلب وبعث برأسه إلى خراسان من أجل الحاج الذين نهبهم من أهلها. ونجا الفلّ من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحسين بن حمدان واستلحمهم، وتتبعوا بالقتل في نواحي الشام والعراق، وذلك سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
(خبر قرامطة البحرين ودولة بني الجنابي منها)
وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين جاء إلى القطيعي [1] من البحرين رجل تسمى بيحيى بن المهدي وزعم أنه رسول من المهدي، وأنه قد قرب خروجه وقصد من أهل القطيف علي بن المعلّى بن أحمد الدباديّ، وكان متغاليا في التشيّع فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي، وشنّع الخبر في سائر قرى البحرين فأجابوا كلّهم، وفيهم أبو سعيد الجنابي واسمه الحسن بن بهرام وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدّة ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم ويأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين [2] عن كل رجل فدفعوها. ثم غاب وجاء بكتاب آخر يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا، وقام يتردّد في قبائل قيس. ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبحرين سنة ثلاث وثمانين، واجتمع إليه القرامطة والأعراب، وسار إلى القطيف طالبا البصرة وكان عليها أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي فأدار السور على البصرة، وبعث المعتمد عليّ بن عمر الغنويّ، وكان على فارس فاقطعه اليمامة والبحرين، وضمّ إليه ألفين من المقاتلة وسيّره إلى البصرة فاحتشد وخرج للقاء الجنابيّ ومن معه، ورجع عنه عند اللقاء بنو ضبّة فانهزم وأسره الجنابيّ واحتوى على
__________
[1] لم نجد لها اسم في معجم البلدان ولعلها القطيف كما في الكامل ج 7 ص 493.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 494: «فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلاثين» .(4/114)
معسكره وحرق الأسرى بالنار. ثم من عليه وأطلقه فسار إلى الأبلّة ومنها إلى بغداد، وسار أبو سعيد إلى هجر فملكها وأمّنها، واضطربت البصرة للهزيمة وهمّ أهلها بالارتحال، فمنعهم الواثقي. ومن كتاب ابن سعيد في خبر قرامطة البحرين ملخّصا من كلام الطبري فلعله كما ذكره قال: كان ابتداء أمر القرامطة سنة ثمان وثلاثمائة فنقل الكلام وكان أبو سعيد يمهد لابنه الأكبر سعيد فلم [1] به وثار به أخوه الأصغر الظاهر سليمان فقتله، وقام بأمرهم وبايعه العقدانية وجاءه كتاب عبيد الله المهدي بالولاية. وفي سنة ست وثمانين وصل أبو القاسم القائم إلى مصر، واستدعى أبا طاهر القرمطي وانتظره فأعجله مؤنس الخادم عن انتظاره وسار من قبل المقتدر فهزمه ورجع إلى المهديّة. ثم سار أبو الطاهر سنة سبع إلى البصرة فاستباحها ورجع واضطربت بغداد، وأمر المقتدر بإصلاح ما تثلّم من سورها. ثم زحف إليها أبو الطاهر سنة إحدى عشرة فاستباحها وخرّب الجامع وتركها خربة. ثم خرج سنة اثنتي عشرة لاعتراض الحاج فأوقع بهم وهزم قوّاد السلطان الذين كانوا معهم، وأسر أميرهم أبا النجاء بن حمدون واستصفى النساء والصبيان وترك الباقي بالبريّة فهلكوا.
ثم خرج سنة أربع عشرة إلى العراق فعاث في السواد، ودخل الكوفة وفعل فيها أشدّ من البصرة. وفي سنة أربع عشرة وقع بين العقدانية وأهل البحرين خلاف فخرج أبو الطاهر وبنى مدينة الأحساء وسمّاها المؤمنيّة فلم تعرف إلّا به، وبنى قصره وأصحابه حوله. وفي سنة خمس عشرة استولى على عمان وهرب واليها في البحر الى فارس.
وزحف سنة ست عشرة إلى الفرات، وعاث في بلاده. وبعث المقتدر عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وولّاه واسط، وبعثه لحربه فالتقوا بظاهر الكوفة وهزمه أبو طاهر وأسره. وأرجف أهل بغداد، وسار أبو طاهر إلى الأنبار وخرجت العساكر من بغداد لدفاعه مع مؤنس المظفّر وهارون بن غريب الحال فلم يطيقوا دفاعه، وتوافقوا ثم تحاجزوا، وعاد مؤنس إلى بغداد وسار هو إلى الرحبة واستباحها ودوّخ بلاد الجزيرة بسراياه. وسار إلى هشت والكوفة، وقاتل الرقّة فامتنعت عليه، وفرض الإتاوة على أعراب الجزيرة يحملونها إلى هجر، ودخل في دعوته جماعة من بني سليم بن منصور وبني عامر بن صعصعة. وخرج إليه هارون بن غريب الحال فانصرف أبو طاهر إلى
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 84: «وكان ابو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد وهو الأكبر، فعجز عن الأمر، فغلبه اخوه الأصغر ابو طاهر سليمان وكان شهما شجاعا....» .(4/115)
البرّية وظفر هارون بفريق منهم فقتلهم وعاد إلى بغداد. وفي سنة سبع عشرة هجم على مكّة وقتل كثيرا من الحاج ومن أهلها ونهب أموالهم جميعا وقلع باب البيت والميزاب، وقسّم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيد الله المهدي من القيروان يوبّخه على ذلك، ويتهدّده، فكتب إليه بالعجز عن ردّه من الناس ووعد بردّ الحجر، فردّه سنة تسع وثلاثين بعد أن خاطبه منصور إسماعيل من القيروان في ردّه فردّوه، وقد كان الحكم المتغلّب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفا من الذهب على أن يردّوه فأبوا، وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيد الله، وإنما يردّونه بأمره وأمر خليفته. وأقام ابو طاهر بالبحرين وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طفج. ثم هلك أبو طاهر سنة اثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد كبيرهم سابور، وولّى أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبو القائم في ذلك فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور وليّ عهده، فاستقرّ أحمد في الولاية عليهم وكنّوه أبا منصور، وهو الّذي ردّ الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه. ثم قبض سابور على عمّه أبي منصور فاعتقله بموافقة إخوته له على ذلك وذلك سنة ثمان وخمسين. ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال وقتل سابور ونفى إخوته وأشياعهم إلى جزيرة أوال. ثم هلك أبو منصور سنة تسع وخمسين يقال مسموما على يد شيعة سابور، وولي ابنه أبو عليّ الحسن بن أحمد ويلقّب الأعصم، وقيل الأغنم فطالت مدّته وعظمت وقائعه ونفى جمعا كثيرا من ولد أبي طاهر، يقال اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلاثمائة، وحجّ هذا الأعصم بنفسه ولم يتعرّض للحاج ولا أنكر الخطبة للمطيع.
(فتنة القرامطة مع المعز العلويّ)
ولما استولى جوهر قائد المعز لدين الله على مصر وجعفر بن فلاح الكتامي على دمشق طالب الحسن بالضريبة التي كانت له على دمشق فمنعوه ونابذوه، وكتب له المعز وأغلظ عليه ودسّ لشيعة أبي طاهر وبنيه أنّ الأمر لولده، وأطلع الحسن على ذلك(4/116)
فخلع المعز سنة اثنتين وثلاثمائة وخطب للمطيع العباسيّ في منابره ولبس السواد. ثم زحف إلى دمشق وخرج جعفر بن فلاح لحربه، فهزمه الأعصم وقتله، وملك دمشق وسار إلى مصر فحاصر جوهرا بها وضيّق عليه. ثم غدر به العرب واجفلوا فأجفل معهم وعاد إلى الشام ونزل الرملة، وكتب إليه المعزّ سنة إحدى وستين بالنفي والتوبيخ، وعزله عن القرامطة وولّى بني أبي طاهر فخرجوا من أوال ونهبوا الأحساء في غيبته، وكتب إليهم الطائع العبّاسيّ بالتزام الطاعة، وأن يصالحوا ابن عمّهم ويقيموا بجزيرة أوال وبعث من أحكم بينهم الصلح. ثم سار الأعصم إلى الشام وتخطّاها دون صور فقاتلوه وراء الخنادق، وبذل جوهر المال للعرب فافترقوا عنه، وانهزم ونهب معسكره. وجاء المعزّ من إفريقية ودخل القاهرة سنة ثلاث وستين وسرّح العساكر إلى الشام فاستولوا عليه، فنهض الأعصم إليهم فأوقع بهم، وأثخن فيهم، وانتزع ما ملكوه من الشام، وسار إلى مصر وبعث المعزّ لدين الله ابنه عبد الله فلقيهم على بلبيس وانهزم الأعصم وفشا القتل والأسر في أصحابه فكانوا نحوا من ثلاثة آلاف، ورجع الأعصم إلى الأحساء واستخلص المعزّ بني الجرّاح أمراء الشام من طيِّئ حتى استرجع بهم ما غلب عليه القرامطة من الشام بعد حروب وحصار. ثم مات المعزّ سنة خمس وستين، وطمع الأعصم في بلاد الشام، وكان أفتكين التركي مولى معزّ الدولة بن بويه لما انتقض على أبيه بختيار وهزمه ببغداد، سار أفتكين منهزما إلى دمشق، وكانوا مضطرين فخرجوا إليه وولّوه عليهم، وصالح المعزّ إلى أن توفّي فنابذ العزيز وبعث إليه جوهر في العساكر فحاصره، فكتب أفتكين إلى الأعصم واستدعاه فجاء إلى الشام سنة ست وستين. وخرج معه أفتكين، ونازلوا الرملة فملكوها من يد جوهر، وزحف إليهم العزيز وهزمهم، وتقبض على أفتكين، ولحق الأعصم بطبريّة منهزما. ثم ارتحل منها إلى الأحساء وأنكروا ما فعله الأعصم من البيعة لبني العبّاس، واتفقوا على إخراج الأمر عن ولد أبي سعيد الجنابي، وقدّموا رجلين منهم وهما جعفر وإسحاق وسار بنو أبي سعيد إلى جزيرة أوال. وكان بنو أبي طاهر قبلهم فقتلوا كل من دخل إليهم من ولد أحمد بن أبي سعيد وأشياعه. ثم قام بأمر القرامطة جعفر وإسحاق هذان ورجعوا إلى دعوة العلويّة ومحاربة بني بويه، ورجعوا سنة أربع وستين إلى الكوفة فملكوها. وبعث صمصام الدولة بن بويه العساكر إليهم فهزمهم على الفرات وقتل منهم خلق واتبعوهم إلى القادسية. ثم اختلف جعفر(4/117)
وإسحاق وطمع كل منهما في الرئاسة على صاحبه، وافترق أمرهم وتلاشت دعوتهم إلى أن استولى الأصغر بن أبي الحسن الثعلبي سنة ثمان وتسعين عليهم، وملك الأحساء من أيديهم وأذهب دولتهم وخطب للطائع واستقرت الدولة له ولبنيه.
(ذكر المتغلّبين بالبحرين من العرب بعد القرامطة)
كان بأعمال البحرين خلق من العرب، وكان القرامطة يستنجدونهم على أعدائهم ويستعينون بهم في حروبهم، وربّما يحاربونهم ويقاطعونهم في بعض الأوقات، وكان أعظم قبائلهم هنالك بنو ثعلب وبنو عقيل وبنو سليم، وأظهرهم في الكثرة والعزّة بنو ثعلب. ولما فشلت دولة القرامطة بالبحرين واستحكمت العداوة بينهم وبين بني بويه بعد انقراض ملك بني الجنابي، وعظم اختلافهم عند القائم بدعوة العبّاسية وكان خالصة [1] للقرامطة ودعاه إلى إذهاب دولتهم فأجابه، وداخل بني مكرم رؤساء عمان في مثل ذلك فأجابوه، واستولى الأصغر على البحرين وأورثها بنيه، واستولى بنو مكرم على عمان ثم غصّ بنو ثعلب بسليم واستعانوا عليهم ببني عقيل وطردوهم من البحرين، فساروا إلى مصر ومنها كان دخولهم إلى إفريقية كما يأتي. ثم اختلف بنو ثعلب وبنو عقيل بعد مدّة وطردهم بنو ثعلب إلى العراق فملكوا الكوفة والبلاد العراقيّة، وامتدّ ملك الأصغر وطالت أيامه، وتغلّب على الجزيرة والموصل وحارب بني عقيل سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة برأس عين من بلاد الجزيرة، وغصّ بشأنه نصير الدولة بن مروان صاحب ميافارقين وديار بكر فقام له، وجمع له الملوك من كل ناحية فهزمه واعتقله، ثم أطلقه ومات وبقي الملك متوارثا في بنيه بالبحرين إلى أن ضعفوا وتلاشوا، وانقرضت دولة بني عقيل بالجزيرة، وغلبهم عليها وعلى تلك البلاد أولياء الدولة السلجوقيّة، فتحوّلوا عنها إلى البحرين مواطنهم الأولى، ووجدوا بني ثعلب قد أدركهم الهرم، فغلبوا عليهم. قال ابن سعيد: سألت أهل البحرين حين لقيتهم بالمدينة النبويّة سنة إحدى وخمسين وستمائة عن البحرين، فقالوا: الملك فيها لبني
__________
[1] هو خالصيّ وخلصاني. وفلان خلصني كما تقول خدني، وخلصاني أي خالصي إذا خلصت مودتهما (لسان العرب) .(4/118)
عامر بن عوف بن عامر بن عقيل وبنو ثعلب من جملة رعاياهم وبنو عصفور منهم أصحاب الأحساء. (ولنذكر) هنا نبذة في التعريف بكاتب القرامطة وأمصار البحرين وعمان لما أنّ ذلك من توابع أخبارهم.
(الكاتب) : كان كاتبهم أبو الفتح الحسين بن محمود ويعرف بكشاجم، كان من أعلام الشعراء، وذكره الثعالبي في اليتيمة والحصريّ في زهر الآداب، وهو بغدادي المولد واشتهر بخدمة القرامطة فيما ذكره البيهقي وكتب لهم بعده ابنه أبو الفتح نصر، ولقبه كشاجم مثل أبيه وكان كاتبا للأعصم.
(البحرين) : إقليم يسمّى باسم مدينته، ويقال هجر باسم مدينة أخرى منه كان حضريّة، فخرّبها القرامطة وبنو الأحساء وصارت حاضرة، وهذا الإقليم مسافة شهر على بحر فارس بين البصرة وعمان، شرقيّها نجر فارس، وغربيّها متصل باليمامة، وشماليها البصرة وجنوبها بعمان، كثيرة المياه ببطونها على القامة والقامتين، كثيرة البقل والفواكه، مفرطة الحرّ منهالة الكثبان، يغلب الرمل عليهم في منازلهم وهي من الإقليم الثاني، وبعضها في الثالث، كانت في الجاهلية لعبد القيس وبكر بن وائل من ربيعة، وملكها للفرس، وعاملها من قبلهم المنذر بن ساوي التميميّ. ثم صارت رياستها صدر الإسلام لبني الجارودي ولم يكن ولاة بني العبّاس ينزلون هجر إلى أن ملكها أبو سعيد القرمطيّ بعد حصار ثلاث سنين، واستباحها قتلا وإحراقا وتخريبا.
ثم بنى أبو طاهر مدينة الأحساء، وتوالت دولة القرامطة وغلب على البحرين بنو أبي الحسن بن ثعلب، وبعدهم بنو عامر بن عقيل. قال ابن سعيد والملك الآن فيهم في بني عصفور.
(الأحساء) بناها أبو طاهر القرمطيّ في المائة الثالثة، وسمّيت بذلك لما فيها من أحساء المياه في الرمال، ومراعي الإبل، وكانت للقرامطة بها دولة، وجالوا في أقطار الشام والعراق ومصر والحجاز وملكوا الشام وعمان.
(دارين) هي من بلاد البحرين ينسب إليها الطيب كما تنسب الرماح إلى الخطّ بجانبها فيقال مسك دارين والرماح الخطّيّة.
(عمان) وهي من ممالك جزيرة العرب المشتملة على اليمن والحجاز والشحر وحضر موت وعمان وهي خامسها، إقليم سلطاني منفرد على بحر فارس من غربيه مسافة شهر، شرقيها بحر فارس وجنوبيها بحر الهند، وغربيها بلاد حضر موت،(4/119)
وشماليها البحرين، كثيرة النخل والفواكه وبها مغاص اللؤلؤ، سمّيت بعمان بن قحطان، أوّل من نزلها بولاية أخيه يعرب، وصارت بعد سيل العرم للأزد. وجاء الإسلام وملوكها بنو الجلندي، والخوارج بها كثيرة. وكانت لهم حروب مع عمّال بني بويه وقاعدتهم تروى، وملك عمان من البحر ملوك فارس غير مرّة، وهي في الإقليم الثاني، وبها مياه وبساتين وأسواق، وشجرها النخل. وكانت بها في الإسلام دولة لبني شامة بن لؤيّ بن غالب. وكثير من نسّابة قريش يدفعونهم عن هذا النسب، أوّلهم بها محمد بن القاسم الشامي، بعثه المعتضد أعانه ففتحها وطرد الخوارج إلى تروى قاعدة الجبال، وأقام الخطبة لبني العبّاس وتوارث ذلك بنوه، وأظهروا شعار السنّة. ثم اختلفوا سنة خمس وثلاثمائة وتحاربوا، ولحق بعضهم بالقرامطة، وأقاموا في فتنة إلى أن تغلّب عليهم أبو طاهر القرمطيّ سنة سبع عشرة عند اقتلاعه الحجر وخطب بها لعبيد الله المهدي وتردّدت ولاة القرامطة عليها من سنة سبع عشرة الى سنة خمس وسبعين. فترهّب واليها منهم، وزهد وملكها أهل تروى الخوارج وقتلوا من كان بها من القرامطة والروافض، وبقيت في أيديهم ورياستها للأزد منهم. ثم سار بنو مكرم من وجوه عمان إلى بغداد، واستخدموا لبني بويه وأعانوهم بالمراكب من فارس، فملكوا مدينة عمان وطردوا الخوارج إلى جبالهم، وخطبوا لبني العبّاس. ثم ضعفت دولة بني بويه ببغداد فاستبدّ بنو مكرم بعمان وتوارثوا ملكها، وكان منهم مؤيد الدولة أبو القاسم عليّ بن ناصر الدولة الحسين بن مكرم، وكان ملكا جوادا ممدوحا. قاله البيهقي ومدحه مهيار الديلميّ وغيره، ومات سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بعد مدّة طويلة في الملك. وفي سنة اثنتين وأربعين ضعف ملك بني مكرم وتغلّب عليهم النساء والعبيد، فزحف إليها الخوارج وملكوها، وقتلوا بقيتهم وانقطع منها رسم الملك، وصار في حجار من مدر هذا الإقليم قلهات هي عرصة عمان على بحر فارس من الإقليم الثاني ومما يلي الشحر وحجاز في شماليها إلى البحرين بينهما سبع مراحل، وهي في جبال منيعة، فلم تحتج إلى سور، وكان ملكها سنة ثمان وأربعين زكريا بن عبد الملك الأزدي من ذريّة رياسة. وكان الخوارج بتروى مدينة الشراة يدينون لهم، ويرون أنهم من ولد الجلندي.(4/120)
الخبر عن الإسماعيلية أهل الحصون بالعراق وفارس والشام وسائر أمورهم ومصايرها
هذا المذهب هو مذهب القرامطة وهم غلاة الرافضة، وهو على ما رأيته من الاضطراب والاختلاف. ولم يزل متناقلا في أهله بأنحاء العراق وخراسان وفارس والشام.
واختلف بعضهم باختلاف الأعصار والأمصار، وكانوا يدعون أوّلا قرامطة. ثم قيل لهم بالعراق باطنيّة، ثم الإسماعيلية، ثم النزاريّة لما حدث من عهد المستضيء العلويّ لابنه نزار، وقتله شيعتهم بمصر، ولم يبايعوا له، وكان عنده ابن الصبّاح من هؤلاء الإسماعيلية، ونفى الإمامة بعده عن أئمتهم بمصر فسمّوا أصحابه لذلك نزاريّة. وكان هذا المذهب بعد موت ذكرويه وانحلال عقدتهم، بقي منبثّا في الأقطار ويتناوله أهله، ويدعون إليه ويكتمونه، ولذلك سمّوا الباطنيّة، وفشت أذيتهم بالأمصار بما كانوا يعتقدونه من استباحة الدماء، فكانوا يقاتلون الناس ويجتمع لذلك جموع منهم يكمنون في البيوت ويتوصّلون إلى مقاصدهم من ذلك. ثم عظمت أمورهم أيام السلطان ملك شاه عند ما استمر الملك للعجم من الديلم والسلجوقيّة وعقل الخلفاء وعجزوا عن النظر في تحصين إمامتهم، وكفّ الغوائل عنها، فانتشروا في هذه العصور وربما اجتمع منهم جماعة بساوة بانحاء همذان، فصلّوا صلاة العيد بأنحائهم فحبسهم الشحنة، ثم أطلقهم. ثم استولوا بعد ذلك على الحصون والقلاع فأوّل قلعة غلبوا عليها قلعة عند فارس كان صاحبها على مذهبهم، فأووا إليه واجتمعوا عنده، وصاروا يخطفون الناس من السابلة وعظم ضررهم بتلك النواحي. ثم استولوا على قلعة أصفهان واسمها شاه در، كان السلطان شاه بناها وأنزل بها عامله، فاتصل به أحمد بن غطاش، كان أبوه من مقدّمي الباطنيّة وعنه أخذ ابن الصبّاح وغيره منهم، وكان أحمد هذا عظيما فيهم لمكان أبيه ورسوخه في العلم بينهم، فعظّموه لذلك وتوّجوه وجمعوا له مالا وقدّموه عليهم، واتصل بصاحب القلعة فآثر مكانه وقلّده الأمور حتى إذا توفي استولى أحمد بن غطاش على قلعة شاه در، وأطلق أيدي أصحابه في نواحيها يخيفون السابلة من كل ناحية. ثم استولوا على قلعة الموت من نواحي قزوين وهي من بنيان الديلم، ومعنى هذا الاسم عندهم تميل العقاب،(4/121)
ويقال لتلك الناحية طالقان، وكانت في ضمان الجعفري، فاستناب بها علويا وكان بالري أبو مسلم صهر نظام الملك، واتصل به الحسن بن الصبّاح، وكان بينهم عالما بالتعاليم والنجوم والسحر، وكان من جملة تلامذة ابن غطاش صاحب قلعة أصفهان، ثم اتهمه أبو مسلم بجماعة من دعاة المصريّين عنده فهرب منه وجال في البلاد وانتهى إلى مصر فأكرمه المستنصر وأمره بدعاء الناس إلى إمامته، وقال له الحسن من الإمام بعدك فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم، ورجع إلى خراسان بقلعة الموت فنزل على العلويّ، فأكرمه واعتقد البركة فيه، وأقام بها وهو يحاول إحكام أمره في تملّكها، فلما تمّ له من ذلك ما أراد أخرج العلويّ منها وملكها. واتصل الخبر بنظام الملك فبعث العسكر لحصارها فجهده الحصار، وبعث جماعة من الباطنيّة فقتلوا نظام الملك، ورجعت العساكر واستولوا أيضا على قلعة طبس وما جاورها من قلاع قوهستان وهي زرون وقائد.
وكان رئيس قوهستان المنوّر من أعقاب بني سيجور أمراء خراسان للسامانية، فطلبه عامل قوهستان وأراد اغتصاب أخته، فاستدعى الإسماعيلية وملّكهم هذه القلاع، واستولوا على قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصفهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك، وانتقلت إلى جاولي سقاور من أمراء الغزّ، وولّى عليها بعض الترك فاتصل به بعض الباطنيّة وخدمه، وأهدى له حتى صارت مفاتيح القلعة في يده، فدسّ لابن غطاش في قلعة شاه در فجاء في جمع من أصحابه ليلا، وهرب التركي فملكها وقتل من كان بها وقوي بها على أهل أصفهان، وفرض عليهم القطائع. ومن قلاعهم أسويا وندبين الرمل وآمد، ملكوها بعد ملك شاه غدرا، ومنها أزدهر ملكها ابو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصبّاح. ومنها كردكوه ومنها قلعة الناظر بخوزستان وقلعة الطنبور قرب أرّجان ملكها أبو حمزة الإسكاف من أهل ارّجان، وقد كان سافر إلى مصر فأخذ بمذهبهم ورجع داعية لهم. ومنها قلعة ملاوخان بين فارس وخوزستان امتنع بها المفسدون نحوا من مائتي سنة لقطع الطريق، حتى فتحها عضد الدولة بن بويه، وقتل من بها. فلما ملك ملك شاه أقطعها للأمير أنز، فولّى عليها من قبله وداخله الباطنيّة الذين من أرّجان في بيعها منهم فأبى، فقالوا نرسل إليك من يناظرك حتى نرى الحق في مذهبنا، وبعثوا إليهم رجالا منهم فاعتقلوا مملوكه حتى سلّم لهم مفاتيح القلعة، وقبضوا على صاحبها وقويت شوكتهم. وامتدّت أيدي(4/122)
الناس إلى قتلهم واعتقدوا جهادهم وثاروا بهم في كل وجهة فقتلوهم وقتلتهم العامة بأصفهان، وكانوا قد ظهروا بها عند محاصرة السلطان بركيارق أصفهان وبها أخوه محمد وأمّه خاتون الجلاليّة، وفشت فيها دعوتهم وكثر فيها الاغتيال من أتباعهم فثاروا بهم، وقتلوهم وحفروا الأخاديد وأوقدوها بالنيران، وجعلوا يأتون بالباطنية فيلقونهم فيها، وتجرّد جاولي سقاور، وكان واليا بفارس للجهاد فيهم، وتحيّل عليهم بجماعة من أصحابه أظهروا الهروب إليهم فأوثقوا [1] بهم وسار هو من بعد ذلك إلى همذان فأغزاهم. ثم صار الباطنيّة من بعد ذلك إلى همذان لقتل أمراء السلجوقيّة غدرا فكان يقصد أحدهم أميرا من هؤلاء وقد استبطن خنجرا واستمات. حملهم على ذلك السلطان بركيارق، واستعان بهم على أمر أخيه فكان أحدهم يعرض نفسه بين يدي الأمير حتى يتمكّن من طعنه فيطعنه، ويهلك غالبا ويقتل الباطني لوقته، فقتلوا منهم كذلك جماعة، ولما ظهر بركيارق على أخيه محمد انتشروا في عسكره واستعانوا بطائفة منهم، وتهدّدوا بالقتل على ذلك حتى ارتاب أمراء العسكر بأنفسهم، وخافوا عاديتهم ولازموا حمل السلاح، وشكوا إلى بركيارق بذلك وبما يلقونه منهم ومن عسكر أخيه فيما يرمونهم به من الاتحاد بهؤلاء الباطنية فأذن في قتلهم، وركب والعسكر معه فتتبعوهم بالقتل، حتى أن الأمير محمدا من أعقاب علاء الدولة بن كاكويه، وكان صاحب مدينة يزد أتّهم برأيهم فهرب وقتل. وكتب إلى بغداد في أبي إبراهيم الأستراباذيّ وكان بركيارق بعثه رسولا فأخذ هنالك وقتل، واستلحموا في كلّ جهة واستلحم المتّهمون وانطلقت عليهم الأيدي في كل ناحية وذلك سنة ست وثمانين. ولما استفحل أمر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق زحف إلى قلعة شاه در التي بها أحمد ابن غطاش لقربها من أصفهان سرير ملكه، فجمع العساكر والأمم وخرج في رجب من أول المائة السادسة، وأحاط بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ، ورتّب الأمراء لقتالها نوبا. ولما اشتدّ الأمر بهم سألوا فتوى الفقهاء في أمرهم وكتبوا ما نصّه: ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون باللَّه واليوم الآخر وكتبه ورسله، وأنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم حق وصدق، وإنما يخالفون في الإمام هل يجوز للسلطان مساعدتهم ومراعاتهم وأن يقبل طاعتهم وبحرسهم من كل أذى أم لا؟
__________
[1] الصحيح ان يقول: ووثقوا بهم.(4/123)
فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقّف بعضهم وجمعوا للمناظرة، فقال السمنجاني من كبار الشافعيّة: يجب قتالهم ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ولا ينفعهم التلفّظ بالشهادتين، فإنّهم لا يرون مخالفة إمامهم إذا خالف أحكام الشرع، وبذلك تباح دماؤهم إجماعا، وطالت المناظرة في ذلك. ثم سألوا أن يأتيهم من العلماء من يناظرهم وعيّنوا أعيانا من أصفهان، وقصدوا بذلك المطاولة والتعلّل، فبعثهم السلطان إليهم فعادوا من غير شيء، فاشتدّ السلطان إليهم في حصارهم واستأمنوا على أن يعوّضوا عن قلعتهم بقلعة خالنجان على سبعة فراسخ من أصفهان، وأن يؤجّلوا في الرحيل شهرا فأجابهم، وأقاموا في تلك المدّة يجمعون ما يقدرون عليه من الأطعمة ووثبوا على بعض الأمراء وسلم منهم فجدّد السلطان حصارهم وطلبوا أن ينتقلوا إلى قلعة الناظر وطبس، ويبعث السلطان معهم من يوصلهم ويقيم الباقون بضرس من القلعة إلى أن يصل الأوّلون، ثم يبعث مع الآخرين من يوصلهم إلى ابن الصبّاح بقلعة الموت فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأوّلون إلى الناظر وطبس، وخرّب السلطان القلعة، وتمسّك ابن غطاش بالضرس الّذي هو فيه، وعزم على الاعتصام به، وزحف إليه الناس عامّة وهرب بعضهم إلى السلطان، فدلّه على عورة المكان، فصعدوا إليه وقتلوا من وجدوا فيه، وكانوا ثمانين، وأخذا ابن غطاش أسيرا فسلخ وحشي جلده تبنا، وقتل ابنه وبعث برأسهما إلى بغداد، وألقت زوجه نفسها من الشاهق فهلكت.
(خبر الإسماعيلية بالشام)
لما قتل أبو إبراهيم الأستراباذيّ ببغداد كما تقدّم هرب بهرام ابن أخيه إلى الشام وأقام هنالك داعية متخفيا، واستجاب له من الشام خلق. وكان الناس يتبعونهم لكثرة ما اتصفوا به من القتل غدرا. وكان أبو الغازي بن أرتق بحلب يتوصل بهم إلى غرضه في أعدائه، وأشار أبو الغازي على ابن طغتكين الأتابك بدمشق بمثل ذلك فقبل رأيه، ونقل إليه فأظهر حينئذ شخصه، وأعلن بدعوته وأعانه الوزير أبو علي ظاهر بن سعد المزدغاني، لمصلحتهم فيه فاستفحل أمره، وكثر تابعوه، وخاف من عامّة دمشق فطلب من ابن طغتكين ووزيره أبي علي حصنا يأوي إليه، فأعطوه قلعة(4/124)
بانياس سنة عشرين وخمسمائة، وترك بدمشق خليفة له يدعو الناس إلى مذهبة فكثروا وانتشروا، وملك هو عدّة حصون في الجبال منها القدموس وغيره. وكان بوادي التيم من أعمال بعلبكّ طوائف من المجوس والنصرانيّة والدرزيّة وأميرهم يسمّى الضحّاك، فسار بهرام لقتالهم سنة اثنتين وعشرين، واستخلف على بانياس إسماعيل من أصحابه، ولقيهم الضحّاك في ألف رجل وكبس عسكره فهزمهم وقتله [1] وعاد فلّهم إلى بانياس، فأقام بأمرهم إسماعيل وجمع شملهم وبثّ دعاته في البلاد، وعاضده المزدغاني وزير دمشق وانتصر لهذه الطائفة، وأقام بدمشق خليفة لبهرام اسمه أبو الوفاء فقوي أمره، وكثر أتباعه. واستبدّ على صاحبها تاج الملوك بن طغتكين. ثم ان المزدغاني راسل الفرنج أن يملكهم دمشق على أن يعطوه صور، وتواعدوا ليوم عينوه، ودسّ للإسماعيليّة أن يكونوا ذلك اليوم على أهبة، ونمي الخبر إلى إسماعيل فخاف أن يثور به الناس فأعطى بانياس للفرنج، وانتقل إليهم ومات سنة أربع وعشرين، وكان للإسماعيلية قلاع في تلك الجهات تتصل بعضها ببعض أعظمها قلعة مصيات [2] فسار صلاح الدين لما ملك الشام سنة اثنتين وسبعين إليها وحاصر مصيات وضيّق حصارها، وبعث سنان مقدّم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين بحماة، وهو شهاب الدين الحمادي أن يسأل صلاح الدين في الصلح معهم ويتهدّدونه على ذلك سرا، فسار إلى صلاح الدين وأصلح أمرهم عنده ورحل عنهم.
(بقية الخبر عن قلاع الإسماعيلية بالعراق)
ولم تزل قلاع هؤلاء الإسماعيلية بالعراق عشّا لهذه الغواية، وسفطا لهؤلاء الخباث، منذ ثار بها أحمد بن غطاش والحسن بن الصبّاح، وكان لهذا الحسن مقالات في مذاهب الرافضة غريقة في الغلوّ داخلة من باب الكفر وتسميها الرافضة المقالات الجديدة، ولا يدين بقبولها إلا الغلاة منهم. وقد ذكرها الشهرستاني في كتاب الملل
__________
[1] الضمير يعود الى بهرام
[2] وفي نسخة اخرى مصياف وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان مصياب وهو حصن حصين للإسماعيلية بالساحل الشامي قرب طرابلس، وبعض الناس يقول مصياف.(4/125)
والنحل فعليك به إن أردت معرفتها. وبقي الملوك يقصدونهم بالجهاد لما اشتهر عنهم من الضّرر بالاغتيال. ولما افترق أمر السلجوقيّة واستبد ايتغمش بالريّ وهمذان، سار إليهم سنة ثلاث وستمائة إلى قلاعهم المجاورة لقزوين فحاصرها، وفتح منها خمس قلاع، واعتزم على حصار قلعة الموت فعرض له ما شغله عن ذلك، ثم زحف إليهم جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين خوارزم شاه عند ما رجع من الهند، وملك بلاد أذربيجان وأرمينية، فقتلوا بعض أمرائه بمثل قتلهم فسار إلى بلادهم ودوّخ نواحي الموت وقد مرّ ذكره. وقلاعهم التي بخراسان خرّبها واستباحها قتلا ونهبا وكانوا منذ ظهر التتر قد شرهوا على الجهات فأوقع بهم جلال الدين هذه الواقعة سنة أربع وعشرين وستمائة، وكفحهم عما سموا إليه من ذلك. ولما استفحل أمر التتر سار هولاكو أعوام الخمسين والستمائة من بغداد وخرّب قلاعهم، وزحف الظاهر بعد ذلك إلى قلاعهم التي بالشام فخرّب كثيرا منها وطوّع ما بقي منها، وصارت مصيات وغيرها في طاعته وانقرض أمرهم إلّا مغتالين يستعملهم الملوك في قتل أعدائهم على البعد غدرا، ويسمون الفداويّة أي الذين يأخذون فدية أنفسهم على الاستماتة في مقاصد من يستعملهم. والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن دولة بني الأخيضر باليمامة من بني حسن)
كان موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنّى بن الحسن السبط لما اختفى أخواه محمد وإبراهيم، طالبه أبو جعفر المنصور بإحضارهما فضمن له ذلك. ثم اختفى وعثر عليه المنصور فضربه ألف سوط، فلما قتل أخوه محمد المهدي بالمدينة اختفى موسى الجون إلى أن هلك. وكان من عقبه إسماعيل وأخوه محمد الأخيضر ابنا يوسف بن إبراهيم بن موسى، فخرج إسماعيل في أعراب الحجاز وتسمّى السفّاك سنة إحدى وخمسين ومائتين. ثم قصد مكّة فهرب عاملها جعفر بسباسات، وانتهب منزله ومنازل أصحاب السلطان، وقتل جماعة من الجند وأهل مكّة وأخذ ما كان حمل للإصلاح من المال، وما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضّة، وأخذ كسوة الكعبة وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار. ثم نهبها وأخرق بعضها بعضا، وأقام في ذلك(4/126)
خمسين يوما. ثم سار إلى المدينة فتوارى عاملها وحاصرها حتى مات أهلها جوعا، ولم يصلّ أحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصل عساكر المعتزّ إلى المدينة فأفرج عنها ورجع إلى مكّة وحاصرها حتى جهدها الحصار، ورحل بعد مقامة شهرين إلى جدة فأخذ أموال التجّار ونهب ما في مراكبهم ورجع إلى مكّة، وقد وصل إليها محمد بن عيسى بن المنصور وعيسى بن محمد المخزومي بعثهما المعتز لقتاله فتواقعوا بعرفة، واقتتلوا وقتل من الحاج نحو ألف، وسلبوا الناس وهربوا إلى مكّة، وبطل الموقف إلا إسماعيل وأصحابه وخطب لنفسه. ثم رجع إلى جدّة واستباحوها [1] ثانية. ثم هلك لسنة من خروجه بالجدري آخر سنة اثنتين وخمسين أيام حرب المستعين والمعتز. وكان يتردّد بالحجاز منذ اثنتين وعشرين سنة، ومات ولم يعقب، وولي مكانه أخوه محمد الأخيضر وكان أسنّ منه بعشرين سنة، ونهض إلى اليمامة فملكها، واتخذ قلعة الحصرميّة، وكان له من الولد محمد وإبراهيم وعبد الله ويوسف. وهلك فولي بعده ابنه يوسف، وأشرك ابنه إسماعيل معه في الأمر مدّة حياته. ثم هلك وانفرد إسماعيل بملك اليمامة وكان له من الإخوة الحسن وصالح ومحمد بنو يوسف. فلما هلك إسماعيل ولي من بعده أخوه الحسن، وبعده ابنه أحمد بن الحسن. ولم يزل ملكها فيهم إلى أن غلب عليهم القرامطة، وانقرض أمرهم والبقاء للَّه. وكان بمدينة غانة من بلاد السودان بالمغرب مما يلي البحر المحيط ملك بني صالح، ذكرهم صاحب كتاب زجار في الجغرافيا. ولم نقف على نسب صالح هذا من خبر يعوّل عليه. وقال بعض المؤرخين أنه صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله الملقّب أبا الكرام بن موسى الجون، وأنه خرج أيام المأمون بخراسان، وحمل إليه وحبسه وابنه محمد من بعده، ولحق بنوه بالمغرب فكان لهم ملك في بلد غانة. ولم يذكر ابن حزم في أعقاب موسى الجون صالحا هذا بهذا النسب، ولعلّه صالح الّذي ذكرناه آنفا في ولد يوسف بن محمد الأخيضر والله أعلم.
__________
[1] الأصح ان يقول: ثم رجعوا واستباحوها، أو ثم رجع- ويعني إسماعيل- واستباحها.(4/127)
(الخبر عن دولة السليمانيين من بني الحسن بمكة ثم بعدها باليمن ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
مكّة هذه أشهر من أن نعرّف بها أو نصفها، إلا أنه لمّا انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلويّة مرّة بعد أخرى، فأقفرت من قريش ولم يبق بها إلا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موال سود من الحبشة والديلم. ولم يزل العمّال عليها من قبل بني العبّاس وشيعتهم والخطبة لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما، فحدثت الرئاسة فيها لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى بن الحسن السبط. وكان كبيرهم آخر المائة الثانية محمد بن سليمان وليس هو سليمان بن داود لأنّ ذلك ذكره ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون، وبين العصرين نحو من مائة سنة، سنة إحدى وثلاثمائة أيام المقتدر، وخلع طاعة العبّاسية، وخطب في الموسم فقال: الحمد للَّه الّذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من أكمامه، وكمّل دعوة خير الرسل بأسباطه لا بني أعمامه صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وكفّ عنّا ببركته أسباب المعتدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين، ثم أنشد:
لأطلبن بسيفي ... ما كان للحقّ دينا
وأسطونّ بقوم ... بغوا وجاروا علينا
يعدون كل بلاد ... من العراق علينا
وكان يلقّب بالزبيدي نسبة إلى نحلته من مذاهب الإمامية، وبقي ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتي عشرة، وأسر أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة وجماعة معه، وقتل الحجّاج وترك النساء والصبيان بالقفر فهلكوا، وانقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة. ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة منصور الديليّ من مواليه فوافاه يوم التروية بمكّة أبو طاهر القرمطي فنهب الحاج، وقتلهم حتى في الكعبة والحرم، وامتلأ زمزم بالقتل، والحجّاج يصيحون: كيف يقتل جيران الله؟ فيقول: ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه. ويتلو: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. وكان يخطب لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية. ثم قلع الحجر الأسود وحمله إلى الأحساء وقلع باب البيت وحمله، وطلع رجل يقلع(4/128)
الميزاب فسقط ومات، فقال: اتركوه فإنه محروس حتى يأتي صاحبه يعني المهدي، فكتب إليه ما نصّه: والعجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرّم إراقة الدماء فيها، وإهانة أهلها. ثم تعدّيت ذلك وقلعت الحجر الّذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك، ورجوت أن نشكرك فلعنك الله ثم لعنك والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفعل في يومه ما عمل فيه حساب غده انتهى.
فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديّين لذلك. ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين وثلاثمائة وولي أخوه القاهر، وحجّ بالناس أميره تلك السنة. وانقطع الحج من العراق بعدها إلى أن كاتب أبو علي يحيى الفاطمي سنة سبع وعشرين من العراق أبا طاهر القرمطي أن يطلق السبيل للحجّاج على مكس [1] يأخذه منهم. وكان أبو طاهر يعظّمه لدينه ويؤمّله فأجابه إلى ذلك، وأخذ المكس من الحجّاج ولم يعهد مثله في الإسلام. وخطب في هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر. وفي سنة تسع وعشرين لأخيه المقتفي من بعده. ولم يصل ركب العراق في هذه السنين من القرامطة. ثم ولي المستكفي بن المكتفي سنة ثلاث وثلاثين على يد توروز أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة لمهادنة القرامطة بعد أبي طاهر. ثم خطب للمطيع بن المقتدر بمكّة مع معزّ الدولة سنة أربع وثلاثين عند ما استولى معزّ الدولة ببغداد وقلع عين المستكفي واعتقله. ثم تعطّل الحاج بسبب القرامطة وردّوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين بأمر المنصور العلويّ صاحب إفريقية وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد. ثم جاء الحاج إلى مكّة سنة اثنتين وأربعين مع أمير من العراق، وأمير من مصر، فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، أو ابن الإخشيد صاحب مصر، فانهزم المصريون وخطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ. فلما كانت سنة ثمان وأربعين وجاء الحاج من بغداد ومصر كان أمير الحاج من العراق ومحمد بن عبيد الله [2] فأجابه إلى ذلك. ثم جاء إلى المنبر مستعدا وأمر بالخطبة لابن
__________
[1] مكس: ج مكوس وهي الضريبة.
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 509: «وفيها- 343- وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معزّ الدولة وأصحاب ابن طغج من المصريين فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة ومعز الدولة وولده عز الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.» ابن خلدون م 9 ج 4(4/129)
بويه فوجم الآخر، وتمت عليه الحيلة وعاقبه أميره كافور. ويقال قتله ووقع ابن بويه لمحمد بن عبيد الله باتصال إمارته على الحاج. ولما كانت سنة ست وخمسين وصل بركب العراق أبو أحمد الموسوي نقيب الطالبيّين، وهو والد الشريف الرضي ليحجّ بالناس، ونهب بنو سليم حاج مصر وقتل أميرهم. وفي سنة ست وخمسين حجّ بالناس أبو أحمد المذكور وخطب بمكة لبختيار بعد موت أبيه معزّ الدولة والخليفة يومئذ المطيع. واتصل حجّ [1] أبي أحمد بركب العراق. وفي سنة ثلاث وخمسين خطب للقرمطي بمكّة، فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين أبي الحسن القرمطي [2] وخلغ طاعة العبيديّين وخطب للمطيع. وبعث إليه بالرايات السود، ونهض إلى دمشق فقتل جعفر بن فلاح قائد العلويّين، وخطب للمطيع. ثم وقعت الفتنة بين أبي الحسن وبين جعفر، وحصلت بينهم دماء، وبعث المعز العلويّ من أصلح بينهم، وجعل دية القتلى الفاضلة في مال المعز، وهلك بمصر أبو الحسن فولي أخوه عيسى. ثم ولي بعده أبو الفتوح الحسن بن جعفر سنة أربع وثمانين. ثم جاءت عساكر عضد الدولة ففرّ الحسن بن جعفر إلى المدينة. ولما مات العزيز بالرملة وعاد بنو أبي طاهر وبنو أحمد بن أبي سعيد إلى الفتنة فجاء من قبل الطائع أمير علويّ إلى مكة، وأقام له بها خطبة. وفي سنة سبع وستين بعث العزيز من مصر باديس بن زيري الصنهاجي وهو أخو بلّكين صاحب إفريقية أميرا على الحاج، فاستولى على الحرمين وأقام له الخطبة، وشغل عضد الدولة في العراق بفتنة بختيار ابن عمّه فبطل ركب العراق. ثم عاد في السنة بعدها وخطب لعضد الدولة أبو أحمد الموسوي، وانقطعت بعدها خطبة العبّاسيين عن مكة، وعادت لخلفاء مصر العبيديّين إلى حين من الدهر. وعظم شأن أبي الفتوح واتصلت إمارته في مكة، وكتب إليه القادر سنة ست وتسعين في الإذن لحاج العراق فأجابه على أنّ الخطبة للحاكم صاحب مصر.
وبعث الحاكم إلى ابن الجرّاح أمير طيِّئ باعتراضهم، وكان على الحاج الشريف الرضي وأخوه المرتضى، فلاطفهم ابن الجرّاح وخلّى سبيلهم على أن لا يعودوا. ثم
__________
[1] مقتضى السياق: ركب
[2] العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 612 وفي حوادث 359 هـ: «وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع للَّه والقرامطة الهجريّين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلويّ، وخطب ابو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع للَّه» .(4/130)
اعترض حاج العراق سنة أربع وتسعين الأصيغر الثعلبيّ عند ما ملك الجزيرة فوعظه قارئان كانا في الركب. ثم اعترضهم في السنة بعدها أعراب خفاجة ونهبوهم. وسار في طلبهم عليّ بن يزيد أمير بني أسد فأوقع بهم سنة اثنتين وأربعمائة. ثم عادوا إلى مثل ذلك من السنة بعدها فعاد عليّ بن يزيد وأوقع بهم، وسما له بذلك ذكر، وكان سببا لملكه وملك قومه. ثم كتب الحاكم سنة اثنتين وأربعين إلى عمّاله بالبراءة من أبي بكر وعمر، ونكر ذلك أبو الفتوح أمير مكّة، وانتقض له وحمل الوزير أبو القاسم المغربي على طلب الأمر لنفسه. وكان الحاكم قتل أباه وأعمامه فخطب أبو الفتوح لنفسه، وتلقّب الراشد باللَّه، وسار الى مدينة الرملة لاستدعاء ابن الجرّاح أمير طيِّئ لمغاضبة بينه وبين الحاكم. ثم سرّب الحاكم أمواله في بني الجرّاح فانتقضوا على أبي الفتوح وأسلموه، وفرّ الوزير المغربي إلى ديار بكر من أرض الموصل ومعه ابن سبابة.
وفرّ التهامي إلى الري وكان معه. وقطع الحاكم الميرة عن الحرمين، ثم راجع أبو الفتوح الطاعة فعفا عنه الحاكم وأعاده إلى إمارته بمكّة. ولم يحج من العراق في هذه السنين أحد. وفي سنة اثنتي عشرة حجّ بأهل العراق أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي فقيه الطالبيّين، واعترضهم بنو نبهان من طيِّئ، وأميرهم حسّان بن عديّ، وقاتلوهم فهزموهم وقتل أميرهم حسّان. وخطب في هذه السنة للظاهر بن الحاكم بمكّة ولما كان الموسم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ضرب رجل من قوم مصر الحجر الأسود بدبوس فصدعه وثلمه، وهو يقول: كم تعبد كم تقبل [1] فتبادر إليه الناس فقتلوه، وثار أهل العراق بأهل مصر فنهبوهم وفتكوا فيهم. ثم حجّ بركب العراق سنة أربع عشرة النقيب بن الأفساسي وخشي من العرب، فعاد إلى دمشق الشام، وحجّ في السنة التي بعدها وبطل حجّ العراق. ولمّا بويع القائم العبّاسي سنة اثنتين وعشرين رام أن يجهّز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب وانحلال أمر بني بويه. ثم خطب بمكة للمستنصر بن الظاهر. ثم توفي الأمير أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن محمد ابن سليمان رئيس مكّة وبني سليمان، سنة ثلاثين وأربعمائة لأربعين سنة من إمارته وولي، بعده إمارة مكّة ابنه شكر، وجرت له مع أهل المدينة خطوب ملك في أثنائها المدينة وجمع بين الحرمين وعليه انقرض دولة بني سليمان سنة ثلاثين بمكة،
__________
[1] هكذا الأصل وفي الكامل ج 9 ص 332: «إلى متى يعبد الحجر الأسود، ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فاني أريد ان أهدم البيت!»(4/131)
وجاءت دولة الهواشم كما يذكر. وشكر هذا هو الّذي يزعم بنو هلال بن عامر أنه تزوّج الجازية بنت سرحان من أمراء الأثبج منهم، وهو خبر مشهور بينهم في أقاصيصهم، وحكايات يتناقلونها ويطرّزونها بأشعار من جنس لغتهم ويسمونه الشريف بن هاشم. وقال ابن حزم غلب جعفر بن أبي هاشم على مكة أيام الإخشيديّين وولي بنوه من بعده عيسى بن جعفر، وأبو الفتوح وابنه شكر بن أبي الفتوح. وقد انقرض لأنّ شكرا لم يولد له، وصار أمر مكة إلى عبد كان له. انتهى كلام ابن حزم وليس أبو هاشم الّذي نسب جعفر إليه أبا الهواشم الّذي يأتي ذكرهم لأن هذا كان أيام الإخشيديّين وذلك أيام المستضيء العبيدي وبينهما نحو من مائة سنة.
(الخبر عن دولة الهواشم بمكة من بني الحسن وتصاريف أحوالهم إلى انقراضها)
هؤلاء الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون ونسبه معروف وقد مرّ. وكانت بين هؤلاء الهواشم وبين السليمانيّين فتن متّصلة، ولما مات شكر ذهبت الرئاسة من بني سليمان لأنه لم يعقب.
وتقدّم فيهم طراد بن أحمد، ولم يكن من بيت الإمارة وإنما كانوا يؤملونه لإقدامه وشجاعته. وكان رئيس الهواشم يومئذ محمد بن جعفر بن محمد وهو أبو هاشم المذكور، وقد ساد في الهواشم، وعظم ذكره فاقتتلوا سنة أربع وخمسين بعد موت شكر فهزم الهواشم بني سليمان وطردوهم عن الحجاز، فساروا إلى اليمن، وكان لهم بها ملك كما يذكر. واستقل بإمارة مكّة الأمير محمد بن جعفر وخطب للمستنصر العبيدي. ثم ابتدأ الحاج من العراق سنة ست وخمسين بنظر السلطان ألب أرسلان ابن داود ملك السلجوقية حين استولى على بغداد والخلافة، طلب منه القائم ذلك فبذل المال وأخذ رهائن العرب، وحج بالناس أبو الغنائم نور الدين المهدي الزيني نقيب الطالبيّين. ثم جاور في السنة بعدها واستمال الأمير محمد بن جعفر عن طاعة العبيديّين فخطب لبني العبّاس سنة ثمان وخمسين، وانقطعت ميرة مصر عن مكة فعذله أهله على ما فعل فرد الخطبة للعبيديّين. ثم خاطبه القائم وعاتبه وبذل له أموالا(4/132)
فخطب له سنة اثنتين وستين بالموسم فقط، وكتب إلى المستنصر بمصر معتذرا، ثم بعث القائم أبا الغنائم الزيني سنة ثلاث وستين أميرا على الركب العراقي، ومعه عسكر ضخم، ولأمير مكة من عند ألب أرسلان ثلاثون دينارا وتوقيعا بعشرة آلاف دينار.
واجتمعوا بالموسم وخطب الأمير محمد بن جعفر وقال: الحمد للَّه الّذي هدانا إلى أهل بيته بالرأي المصيب، وعوّض بيته بلبسة الشباب بعد لبسة المشيب، وأمال قلوبنا إلى الطاعة، ومتابعة إمام الجماعة. فانحرف المستنصر عن الهواشم ومال إلى السليمانيّين.
وكتب إلى عليّ بن محمد الصبيحي صاحب دعوتهم باليمن أن يعينهم على استرجاع ملكهم، وينهض معهم إلى مكّة، فنهض وانتهى إلى المهجم. وكان سعيد بن نجاح الأحوال موثور بني الصبيحي قد جاء من الهند ودخل صنعاء، فثار بها واتبع الصبيحي في سبعين رجلا، وهو في خمسة آلاف فبيته بالمهجم وقتله. ثم جمع محمد ابن جعفر أجنادا من الترك وزحف بها إلى المدينة فأخرج منها بني حسن، وملكها وجمع بين الحرمين. ثم مات القائم العبّاسي وانقطع ما كان يصل إلى مكّة فقطع محمد بن جعفر الخطبة للعباسيين. ثم جاء الزيني من قابل بالأموال فأعادها. ثم بعث المقتدي سنة سبعين منبرا إلى مكة صنيعا استجيد خشبة، ونقش عليه بالذهب اسمه.
وبعث على الحاج ختلع التركي وهو أوّل تركيّ تأمّر على الحاج، وكان واليا بالكوفة.
وقهر العرب مع جماعته فبعثه المقتدي أميرا على الحاج فوقعت الفتنة بين الشيعة، وأهل السنّة وكسر المنبر وأحرق وتم الحج. ثم عاودوا الفتنة سنة ثلاث وسبعين وقطعت الخطبة للمستنصر وأعيدت للمقتدي، واتصلت إمارة ختلع على الحاج وبعده خمار تكين إلى أن مات ملك شاه، ووزيره نظام الملك فانقطعت الخطبة للعبّاسيّين وبطل الحاج من العراق باختلاف السلجوقيّة، وتغلّب العرب. ومات المقتدي خليفة بغداد وبويع ابنه المستظهر ومات المستنصر خليفة مصر وبويع ابنه المستعلي [1]-- من إمارته، وهو الّذي أظهر الخطبة العبّاسية بمكة، وبها ابتدئ أمره وكان يسقطها بعض الأحيان. وولي بعده ابنه قاسم فكثر اضطرابه، ومهّد بنو مزيد أصحاب الحلة طريق الحاج من العراق فاتصل حجّهم. وحجّ سنة اثنتي عشرة وخمسمائة نظر
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 237: «ولما مات- المستنصر- ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي باللَّه، ومولده في المحرّم سنة سبع وستين واربعمائة، وكان قد عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار فخلعه الأفضل وبايع المستعلي باللَّه.»(4/133)
الخادم من قبل المسترشد بركب العراق، وأوصل الخلع والأموال إلى مكة، ثم توفي قاسم بن محمد سنة ثمان عشرة وخمسمائة لثلاثين سنة من إمارته، وكانت في اضطراب وتغلب، وولي بعده ابنه أبو قليبة بمكة، فافتتح بالخطبة العبّاسية وأحسن الثناء عليه بالعدل، ووصل نظر الخادم أميرا على الركب ومعه الأموال والخلع. ثم مات أبو قليبة سنة سبع وعشرين لعشر سنين من إمارته، والخطبة للعبّاسيّين وإمارة الحاج لنظر الخادم. ثم كانت واقعة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وتعطّل ركب الحاج. ثم حج نظر الخادم في السنة بعدها. ثم بعثت أسماء الصبيحيّة صاحبة اليمن لأمير مكة قاسم بن أبي قليبة فتوعدته على قطع خطبة الحافظ، وماتت فكفاه الله شرّها، وانقطع الركب العراقي في هذه السنين للفتن والغلاء. ثم حجّ سنة أربع وأربعين نظر الخادم، ومات في طريقه، فولي مولاه قيماز، واعترضه رهط من الأعراب فنهب الركب، واتصل حجّ قيماز والخطبة لبني العبّاس إلى سنة خمس وخمسين قبله، وبويع المستنجد فخطب له كما كان لأبيه المقتفي. ثم قتل قاسم بن أبي قليبة سنة ست وستين وبعث المستضيء بالركب طاتغكين التركي، وانقضت دولة العبيديّين بمصر، ووليها صلاح الدين بن أيوب، واستولى على مكّة واليمن، وخطب له بالحرمين ثم مات المستضيء سنة خمس وسبعين وبويع ابنه الناصر، وخطب له بالحرمين، وحجّت أمه بنفسها سنة خمس وثلاثين، وكانت له آثار عظيمة ورجعت فانهت إلى الناصر بن عيسى بن قاسم ما اطّلعت عليه من أحواله فعزله عن إمارة مكة، وولّى أخاه مكثر بن قاسم، وكان جليل القدر، ومات سنة تسع وثمانين السنة التي مات فيها صلاح الدين. وضعف أمر الهواشم، وكان أبو عزيز بن قتادة يناسبهم من جهة النساء فورث أمرهم وملك مكة من أيديهم، وانقرضت دولتهم والبقاء للَّه.
الخبر عن بني قتادة أمراء مكة بعد الهواشم ثم عن بني أبي نمير منهم أمرائها لهذا العهد
كان من ولد موسى الجون الّذي مرّ ذكره في بني حسن عبد الله أبي الكرام، وكان له على ما نقل نسّابتهم ثلاثة من الولد سليمان وزيد وأحمد. ومنه تشعّبت ولده. فأمّا زيد فولده اليوم بالصحراء بنهر الحسنية، وأمّا أحمد فولده بالدهناء، وأما سليمان(4/134)
فكان من ولده مطاعن بن عبد الكريم بن يوسف بن عيسى بن سليمان. وكان لمطاعن إدريس وثعلب بالثعالبة بالحجاز. فكان لإدريس ولدان قتادة النابغة وصرخة. فأمّا صرخة فولده شيع يعرفون بالشكرة، وأمّا قتادة النابغة فكان يكنّى أبا عزيز، وكان من ولده عليّ الأكبر وشقيقه حسن. فمن ولد حسن إدريس وأحمد ومحمد وجمان، وامارة ينبع في أعقابهم ومنهم لهذا العهد أميران يتداولان إمارتها من ولد إدريس بن حسن بن إدريس. وأمّا أبو عزيز قتادة النابغة فمن ولده موالي عز أمراء مكة لهذا العهد. وكان بنو حسن بن الحسن كلّهم موطنين بنهر العلقميّة من وادي ينبع لعهد إمارة الهواشم بمكة، وكانوا ظواعن بادية. ولما نشأ فيهم قتادة هذا جمع قومه ذوي مطاعن، وأركبهم واستبد بإمارتهم، وكان بوادي ينبع بنو خراب من ولد عبد الله بن حسن بن الحسن، وبنو عيسى بن سليمان بن موسى الجون فحاربهم بنو مطاعن هؤلاء، وأميرهم أبو عزيز قتادة وأخرجهم، وملك ينبع والصفراء واستكثر من الجند والمماليك. وكان على عهد المستنصر العبّاسي في أواسط المائة السادسة. وكان الأمراء يومئذ بمكة الهواشم من ولد جعفر بن هاشم بن الحسن بن محمد بن موسى بن أبي الكرام عبد الله، وقد مرّ ذكرهم، وكان أخرجهم مكثر بن عيسى بن قاسم الّذي بنى القلعة على جبل أبي قبيس، ومات سنة تسع وثمانين وخمسمائة. فسار قتادة إلى مكة وانتزعها من أيديهم وملكها، وخطب للناصر العباسي، وأقام في إمارتها نحوا من أربعين سنة. واستفحل ملكه واتسع إلى نواحي اليمن وكان لقبه أبا عزيز. وفي سنة ثلاث وستمائة حجّ بالركب وجه السبع التركي من مماليك الناصر وفرّ من طريقه إلى مصر فنهب الركب. وفي سنة ثمان وستمائة وثب شخص من حاج العراق على شريف من قرابة قتادة فقتله، فاتهم الشرفاء به أمراء الركب، فثاروا بهم وقتلوا منهم خلقا. ثم بعث إليهم بالأموال من بغداد وبعث قتادة بعض أولاده يستعتب فأعتب. (وفي سنة خمس عشرة) خطب بمكّة للعادل بن أيوب بعد الناصر الخليفة وللكامل بن العادل بعدهما. (وفي سنة ست عشرة) كان خروج التتر وكان قتادة عادلا وأمّن الناس في أيامه، ولم يعد قط على أحد من الخلفاء ولا من الملوك، وكان يقول أنا أحق بالخلافة، وكانت الأموال والخلع تحمل إليه، واستدعاه الناصر في بعض السنين فكتب إليه
ولي كفّ ضرغام أذلّ ببسطها ... وأشري بها عزّ الورى وأبيع(4/135)
تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجد بين ربيع
أأجعلها تحت الرجا ثم ابتغي ... خلاصا لها إني إذا لوضيع
وما أنا إلّا المسك في كلّ بقعة ... يضوع وأمّا عندكم فيضيع
واتسعت دولته فملك ملك مكّة والينبع وأطراف اليمن، وبعض أعمال المدينة وبلاد نجد، وكان يستكثر من المماليك، وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة، ويقال سمّه ابنه حسن ويقال داخل ابنه حسن جاريته فأدخلته ليلا فخنق أباه، ثم قتلها وملك مكة وامتعض لذلك ابنه راجح بن أبي عزيز قتادة وشكاه إلى أمير حاج أقباش التركي عند وصوله فأشكاه، ووعده بالإنصاف منه، فأغلق حسن أبواب مكة وخرج بعض أصحابه إلى الأمير أقباش فلقوه عند باب المعلّى فقتلوه وعلّقوه بالمسعى. ثم جاء المسعود بن الكامل سنة عشرين من اليمن إلى مكة، فحجّ وقاتله حسن ببطن المسعى فغلبه المسعود وملك مكة، ونصب رايته وأزال راية أمير الركب، وكتب الخليفة من بغداد يعاتب أباه على ذلك، وعلى ما فعله في مكة والتخلّف فكتب إليه أبوه: برئت يا أقسى من ظهر العادل ان لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم. فغرم ديات الشرفاء وأصابه شلل في يده ومضى حسن بن قتادة إلى بغداد صريخا بعد أن بقي طريدا بالشام والجزيرة والعراق.
ثم جاء إلى بغداد دخيلا وهمّ الترك بقتله بأقباش أمير الركب فمنعوا منه. ومات ببغداد سنة اثنتين وعشرين ودفن بمشهد الكاظم. ثم مات المسعود بن الكامل بمكّة سنة ست وعشرين ودفن بالمعلّى وبقي على مكّة قائده فخر الدين بن الشيخ، وعلى اليمن أمير الجيوش عمر بن عليّ بن رسول. (وقصد راجح بن قتادة) مكّة سنة تسع وعشرين مع عساكر عمر بن رسول فملكها سنة ثلاثين من يد فخر الدين بن الشيخ، ولحق فخر الدين بمصر، ثم جاءت عساكر مصر سنة اثنتين وثلاثين مع الأمير جبريل وملكوا مكة، وهرب راجح إلى اليمن. ثم جاء عمر بن رسول معه بنفسه فهربت عساكر مصر، وملك راجح مكة وخطب لعمر بن رسول بعد المستنصر، ولما ملك التتر العراق سنة أربع وثلاثين وعظم أمرهم وانتهوا إلى إربل أبطل المستنصر الحجّ من أمر الجهاد وأفتاه العلماء بذلك. ثم جهّز المعتصم الحاج مع أمّه سنة ثلاث وأربعين وشيّعها إلى الكوفة، ولما حجّت ضرب تركي في الموسم شريفا وكتب راجح فيه إلى الخليفة فقطعت يده وبطل الحجّ بعد ذلك. ثم قوي أمر الموطئ امام الزيديّة باليمن،(4/136)
واعتزم على قطع الخطبة لبني العبّاس فضاق به المظفّر بن عمر بن رسول، وكاتب المعتصم يحرّضه على تجهيز الحاج بسبب ذلك. ثم قوي أمر الموطئ إمام الزيدية باليمن وسار جماز بن حسن بن قتادة سنة إحدى وخمسين إلى الناصر بن العزيز بن الظاهر بن أيوب بدمشق مستجيشا على أبي سعيد، على أن يقطع ذكر صاحب اليمن من مكّة، فجهّز له عسكرا وسار إلى مكة فقتل أبا سعيد في الحرم، ونقض عهد الناصر، وخطب لصاحب اليمن. (قال ابن سعيد) وفي سنة ثلاث وخمسين بلغني وأنا بالمغرب أنّ راجح بن قتادة جاء إلى مكّة وهو شيخ كبير السنّ وكان يسكن السدّين على نحو اليمن فوصل إلى مكّة، وأخرج منها جماز بن أبي عزيز فلحق بالينبع. قال: وفي سنة اثنتين وستين وصل الخبر إلى المغرب بأنّ أمر مكّة دائر بين أبي نمي بن أبي سعيد الّذي قتل جماز به على إمارة مكّة، وبين غالب بن راجح الّذي أخرجه أبوه جماز إلى الينبع. ثم استبدّ أبو نمي على أمر مكّة ونفى قتلة أبيه أبي سعيد إلى الينبع. وهم إدريس وجماز ومحمد، وقد كان إدريس منهم والي أمر مكّة قليلا، فانطلقوا إلى الينبع وملكوه، وأعقابهم أمراؤه لهذا العهد، وأقام أبو نمي أميرا بمكّة نحوا من خمسين سنة وهلك على رأس المائة السابعة أو بعدها بسنتين وخلف ثلاثين ولدا.
(إمارة بني أبي نمي بمكة)
ولما هلك أبو نمي قام من بعده بأمر مكة ابناه رميثة وحميضة ونازعهما عطيفة وأبو الغيث فاعتقلاهما، ووافق ذلك وصول بيبرس الجاشنكير كافل الملك الناصر بمصر، لأوّل ولايته فأطلقهما وولاهما، وبعث برميثة وحميضة إلى مصر، ثم ردّهما السلطان إلى إمارتهما بمكة مع عسكره، وبعث إليه بعطيفة وأبي الغيث. ثم طال تنازعهم وتعاقبهم في إمارة مكة مرّة بعد أخرى. وهلك أبو الغيث في بعض حروبهم ببطن مرّ.
ثم تنازع حميضة ورميثة، وسار رميثة إلى الملك الناصر سنة خمس عشرة، واستمدّ بأمرائه وعساكره، وهب حميضة بعد أن استصفى أموال أهل مكّة. ثم رجع بعد رجوع العساكر إلى مكة ثم اصطلحوا وتوافقوا. ثم خالف عطيفة سنة ثمان عشرة ووصل إلى السلطان، وجاء بالعسكر فملك مكّة، وتقبّض على رميثة فسجن أياما ثم أطلق سنة عشرين عند مقدم السلطان من حجه، وأقام بمصر. وبقي حميضة مشردا إلى(4/137)
أن استأمن السلطان فأمّنه، وكان معه جماعة من المماليك فرّوا إليه من مصر أيام انتقاضه، فشعروا بطاعته فخافوا على أنفسهم أن يحضروا معه فقتلوه وجاءوا إلى السلطان يعتقدون ذلك وسيلة عنده فأقاد رميثة منهم بأخيه فقتل المباشر للقتل، وعفا عن الباقين. وأطلق رميثة إلى مكّة مشاركا لأخيه عطيفة في إمارتها. ثم هلك عطيفة سنة [1] وأقام أخوه رميثة بعده مستقلا بإمارة مكة إلى أن كبر وهرم، ثم هلك. وكان ابناه ثقبة وعجلان قد اقتسما معه إمارة مكة برضاه. ثم أراد الرجوع عن ذلك فلم يجيباه إلى شيء مما أراد، واستمرّا على ولايتهما معه. ثم تنازعا وخرج ثقبة وبقي عجلان بمكّة. ثم غلبه عليها ثقبة، ثم اجتمعا بمصر سنة ست وخمسين فولي صاحب الأمر بمصر عجلان منهما، وفرّ ثقبة إلى بلاد الحجاز فأقام هنالك، وعاقبه إلى مكّة مرارا. وجاء عجلان سنة اثنتين وستين بالمدد من عسكر القاهرة فكبسه ثقبه وقتل أخاه وبعضا من العسكر ولم يزل عجلان على إمارته سالكا سبيل العدل والإنصاف في الرعيّة متجافيا عن الظلم عما كان عليه قومه من التعرّض للتجّار والمجاورين، وسعى في أيام إمارته في قطع ما كان لعبيدهم على الحاج من المكس.
وثبت لهم في ديوان السلطان عليها عطاء يتعاهدهم أيام الموسم وكانت من حسنات سلطان مصر. وسعى هذا الأمير عجلان جزاه الله خيرا، وأقام على ذلك إلى أن هلك سنة سبع وسبعين، وولي ابنه أحمد بعده. وقد كان فوّض إليه في حياته وقاسمه في أمره، فقام أحمد بأمر مكّة وجرى على سنن أبيه في إثبات مراسم العهد وإحياء معالمه، حتى شاع عنه ذلك في الآفاق على ألسنة الحاج والمجاورين. وولّاه صاحب مصر لعهده الملك الظاهر أبو سعيد برقوق على ما كان أبوه، وسيّر إليه بالخلع والتفويض على عادتهم في ذلك. وكان في محبس أحمد جماعة من قرابته منهم أخوه محمد ومحمد ابن أخيه ثقبة وعنّان ابن عمّه مغامس في آخرين. فلما مات أحمد هربوا من محبسهم ولحقوا بهم فردّوهم وأجلوا محمد بن عجلان منهم إلّا عنانا فإنه لحق بمصر مستجيشا على محمد وكبيش، فأنجده السلطان وبعثه مع أمير الركب ليطالع أحوالهم، واستصحب معه جماعة من الباطنيّة فتكوا بمحمد عند لقائه المحمل الّذي عليه كسوة الكعبة بشارة الخليفة، وتقبيله الخف الّذي يحمله على العادة في ذلك،
__________
[1] رغم البحث في المراجع التي بين أيدينا لم نستطع تحديد سنة مهلكه.(4/138)
وتركوه صريعا في مكانه، ودخلوا إلى مكّة فولي أمير الحاج عنان بن مغامس ولحق كبيش وشيعته بجدّة، فلما انقضى الموسم ورجع الحاج جاء كبيش وأصحابه وحاصروا مكة وكان بينهم وبين عنان حروب قتل كبيش في بعضها. ثم لحق عليّ بن عجلان وأخوه حسن بالملك الظاهر صاحب مصر فرأى أن يحسم المادّة بولايته، فولّاه سنة تسع وثمانين مشاركا لعنان بن مغامس في الإمارة، وسار مع أمير الركب فلما وصلوا لكومرد بكّروا إلى مكّة على العادة، وخرج عنّان للقائهم. ثم نكص من بعض الطريق هاربا ودخل على مكة واستقل بإمارتها، ولما انفضّ الموسم ورجع الحاج جاء عنان ومعه بنو عمّه مبارك وجماعة الشرفاء فحاصروا مكة على عليّ ونازعوه الإمارة ثم أفرجوا. ثم رجعوا وحالهم على ذلك متّصل لهذا العهد. ووفدوا على السلطان بمصر سنة أربع وتسعين فأفرد عليّا بالإمارة، وأفاض عليه العطاء وأكثف له الجند والمستخدمين وأبقى عنان بن مغامس عنده وأجرى عليه الرزق ونظّمه في أهل دولته.
ثم نمي إلى السلطان أنه يروم الفرار إلى الحجاز لينازع أمير مكّة عليّ بن عجلان فقبض عليه وحبسه، وقبض عليّ بن عجلان على الأشراف الذين كانوا هنالك شيعة له. ثم من عليهم وأطلقهم فعادوا إلى منازعته والفتنة معه لهذا العهد والله متولي الأمور لا ربّ غيره.
الخبر عن بني مهنّى أمراء المدينة النبويّة من بني الحسين وذكر أوّليتهم ومفتتح امارتهم
كانت المدينة بلد الأنصار من الأوس والخزرج كما هو معروف. ثم افترقوا على أقطار الأرض في الفتوحات وانقرضوا، ولم يبق بها أحد إلّا بقايا من الطالبيّين. قال ابن الحصين في ذيله على الطبري: دخلت المائة الرابعة والخطبة بالمدينة للمقتدر. قال:
وتردّدت ولاية بني العبّاس عليها والرئاسة فيها بين بني حسين وبني جعفر إلى أن أخرجهم بنو حسين فسكنوا بين مكّة والمدينة. ثم أجلاهم بنو حرب من زبيد إلى القرى والحصون، وأجازوهم إلى الصعيد فهم هنالك إلى اليوم. وبقي بنو حسين بالمدينة إلى أن جاءهم ظاهر بن مسلم من مصر فملّكوه عليهم. وفي الخبر عن وصول ظاهر هذا أن مسلما أباه اسمه محمد بن عبيد الله بن ظاهر بن يحيى المحدّث بن الحسن(4/139)
بن جعفر، ويسمّى عند الشيعة حجّة الله بن عبيد الله بن الحسين الأصغر بن زين العابدين، وكان مسلم هذا صديقا لكافور المتغلّب على الإخشيديّة بمصر، وكان يدبّر أمره ولم يكن بمصر لعصره أوجه منه. ولما ملك العبيديّون مصر وجاء المعزّ لدين الله ونزل بالقاهرة التي اختطها وذلك سنة خمس وستين وثلاثمائة، خطب يومئذ من مسلم هذا كريمته لبعض بنيه فردّه مسلم، فسخطه المعزّ ونكبه، واستصفى أمواله وأقام في اعتقاله إلى أن هلك. ويقال فرّ من محبسه فهلك في مفرّه، ولحق ابنه ظاهر بن محمد بعد ذلك بالمدينة فقدّمه بنو حسين على أنفسهم، واستقل بإمارتها سنين. ثم مات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وولي مكانه ابنه الحسن. وفي كتاب العتبي مؤرخ دولة ابن سبكتكين أنّ الّذي ولي بعده هو صهره وابن عمّه داود بن القاسم بن عبيد الله بن ظاهر، وكنيته أبو عليّ، واستقل بها دون ابنه الحسن إلى أن هلك، وولي بعده ابنه هاني ثم ابنه مهنّى. ولحق الحسن بمحمود بن سبكتكين فأقام عنده بخراسان، وهذا غلط لأن المسبحي مؤرخ العبيديّين ذكر وفاة ظاهر بن مسلم في سنتها كما قلناه، وولاية الحسن ابنه. وقال في سنة ثلاث وثمانين وعامل المدينة الحسن بن ظاهر ويلقّب مهنّى والمسبحي أقعد بأخبار المدينة ومصر من العتبي، إلا أن أمراء المدينة لهذا العهد ينتسبون إلى داود ويقولون: جاء من العراق فلعلهم لقّنوا ذلك عمن لا يعرفه.
ومؤرّخ حماة متى ينسب أحدا من أوّليهم إنما ينسبه إلى أبي داود والله أعلم. وقال أبو سعيد: وفي سنة تسعين وثلاثمائة ملكها أبو الفتوح حسن بن جعفر أمير مكة من بني سليمان بأمر الحاكم العبيدي وأزال عنها إمارة بني مهنّى من بني الحسين، وحاول نقل الجسد النبوي إلى مصر ليلا فأصابتهم ريح عاصفة أظلم لها الجوّ، وكادت تقتلع البناء من أصله فردّهم أبو الفتوح عن ذلك ورجع إلى مكة. وعاد بنو مهنّى إلى المدينة.
وذكر مؤرّخ حماة من أمرائهم منصور بن عمارة، ولم ينسبه، وقال مات سنة سبع وتسعين وأربعمائة وولي بعده ابنه. قال: وهم من ولد مهنّى، وذكر منهم أيضا القاسم بن مهنّى بن حسين بن مهنّى بن داود وكنيته أبو قليتة، وأنه حضر مع صلاح الدين بن أيوب غزاة أنطاكية وفتحها سنة أربع وثماني وخمسمائة. وقال الزنجاري مؤرخ الحجار فيما ذكر عنه ابن سعيد حين ذكر ملوك المدينة من ولد الحسين فقال:
وأحقهم بالذكر لجلالة قدره قاسم بن جماز بن قاسم بن مهنّى، ولاه المستضيء فأقام خمسا وعشرين سنة ومات سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وولي ابنه سالم بن قاسم(4/140)
وكان شاعرا، وهو الّذي كانت بينه وبين أبي عزيز قتادة صاحب مكة وقعة المصارع ببدر سنة إحدى وستمائة. زحف أبو عزيز من مكّة وحاصره بالمدينة، واشتدّ في حصاره. ثم ارتحل وجاء المدد إلى سالم من بني لام إحدى بطون همذان فأدرك أبا عزيز ببدر واقتتلوا وهلك من الفريقين خلق، وانهزم أبو عزيز إلى مكة. وفي سنة إحدى وستمائة جاء المعظم عيسى بن العادل فجدّد المصانع والبرك، وكان معه سالم ابن قاسم أمير المدينة جاء يشكو من قتادة فرجع معه، ومات في الطريق قبل وصوله إلى المدينة، وولي بعده ابنه شيخة، وكان سالم قد استخدم عسكرا من التركمان فمضى بهم جماز بن شيخة إلى قتادة وغلبه، وفرّ إلى الينبع وتحصّن بها، وفي سنة سبع وأربعين قتل صاحب المدينة شيخة وولي ابنه عيسى. ثم قبض عليه أخوه، جماز سنة تسع وأربعين وملك مكانه. قال ابن سعيد: وفي سنة تسع وخمسين كان بالمدينة أبو الحسن بن شيخة بن سالم. وقال غيره: كان بالمدينة سنة ثلاث وخمسين أبو مالك منيف بن شيخة ومات سنة سبع وخمسين وولي أخوه جماز. وطال عمره ومات سنة أربع وسبعمائة، وولي ابنه منصور، ولحق أخوه مقبل بالشام، ووفد على بيبرس بمصر فأقطعه نصف أقطاع منصور. ثم أقبل إلى المدينة على حين غفلة من أخيه منصور وبها ابنه أبو كبيشة فملكها عليه، ولحق أبو كبيشة بأحياء العرب. ثم استجاشهم ورجع إلى المدينة سنة تسع فقتل عمّه مقبلا، وجاء منصور إلى محل إمارته وكان لمقبل ابن اسمه ماجد فأقطع بعض أقطاع أبيه، فأقام مع العرب يجلب على المدينة ويخالف منصورا عمّه إليها متى خرج عنها. ووقع بين منصور وبين قتادة صاحب الينبع حرب سنة إحدى عشرة من أجله. ثم جاء ماجد بن مقبل بالمدينة سنة سبع عشرة لقتال عمّه منصور واستنجد منصور بالسلطان، فبعث إليه العساكر وحاصر ماجد بن مقبل بالمدينة. ثم قاتلهم وانهزم وبقي منصور على إمارته، وتوفي سنة خمس وعشرين وولي ابنه كبيش بن منصور على إمارته، وطالت أيامه ونازعه ودي بن جماز وحاصره وولي بعده طفيل، وقبض عليه جماز سنة إحدى وخمسين وولي عطية. ثم توفي عطية سنة ثلاث وثمانين وولي بعده طفيل وقبض عليه فامتنع، وولي جماز بن هبّة بن جماز بن منصور وملوك الترك بمصر يختارون لولايتها من هذين البيتين لا يعدلون عنهما إلى سواهما، ووليتها اليوم لجماز بن هبّة بن جماز وابن عمّه عطيّة بن محمد بن عطية ينازعه لما بينهما من المنازعة والمنافسة قديما وحديثا شأن العجليين في التثوّر، وهما جميعا على(4/141)
مذهب الإمامية من الرافضة، ويقولون بالأئمة الاثني عشر وبما يناسب ذلك من اعتقادات الإمامية. والله يخلق ما يشاء ويختار. هذا آخر الخبر عن أمراء المدينة، ولم أقف على أكثر منه، والله المقدّر لجميع الأمور سبحانه لا إله إلّا هو.
(الخبر عن دولة بني الرسي أئمة الزيدية بصعدة وذكر أوليتهم ومصاير أحوالهم)
قد ذكرنا فيما تقدّم خبر محمد بن إبراهيم الملقّب أبوه طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن الدعيّ، وظهوره أيام المأمون وقيام أبي السرايا ببيعته وشأنه كلّه. ولما هلك وهلك أبو السرايا وانقرض أمرهم طلب المأمون أخاه القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا ففرّ إلى السّند، ولم يزل به إلى أن هلك سنة خمس وأربعين ومائتين، ورجع ابنه الحسن إلى اليمن وكان من عقبه الأئمة بصعدة من بلاد اليمن وكان من عقبه أقاموا للزيدية بها دولة اتصلت آخر الأيام، وصعدة جبل في الشرق عن صنعاء، وفيه حصون كثيرة أشهرها صعدة وحمص تلا وجبل مطابة، وتعرف كلها ببني الرسي.
وأول من خرج بها منهم يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، دعا لنفسه بصعدة وتسمّى بالهادي، وبويع بها سنة ثمان وثمانين في حياة أبيه الحسين، وجمع الجموع من شيعتهم وغيرها، وحارب إبراهيم بن يعفر. وكان أسعد بن يعفر السادس من أعقابه التبابعة لصنعاء وكملا فغلبه على صنعاء ونجران، فملكها وضرب السكّة، ثم انتزعها بنو يعفر منه، ورجع إلى صعدة، وتوفي سنة ثمان وتسعين لعشر سنين من ولايته، هكذا قال ابن الحارث قال: وله مصنّفات في الحلال والحرام. وقال غيره كان مجتهدا في الأحكام الشرعيّة، وله في الفقه آراء غريبة وتواليف بين الشيعة معروفة. قال الصولي: وولي بعده ابنه محمد المرتضى، واضطرب الناس عليه وهلك سنة عشرين وثلاثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. وولي بعده أخوه الناصر أحمد واستقام ملكه، واطرد في بنيه بعده، فولي بعده ابنه حسين المنتخب، ومات سنة أربع وعشرين وولي بعده أخوه القاسم المختار إلى أن قتله أبو القاسم الضحّاك الهمدانيّ سنة أربع وأربعين. وقال الصولي: من بني الناصر الرشيد والمنتخب ومات سنة أربع وعشرين. وقال ابن حزم: لما ذكر ولد أبي القاسم الرسي فقال: ومنهم القائمون(4/142)
بصعدة من أرض اليمن، أوّلهم يحيى الهادي، له رأي في الفقه وقد رأيته، ولم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد. كان لأبيه أحمد الناصر بنون ولي منهم صعدة بعده جعفر الرشيد، وبعده أخوه القاسم المختار ثم الحسن المنتخب ومحمد المهدي. قال: وكان اليماني القائم بماردة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة يذكر أنه عبد الله بن أحمد الناصر أخو الرشيد والمختار والمنتخب والمهدي. وقال ابن الحاجب: ولم تزل إمامتهم بصعدة مطردة إلى أن وقع الخلاف بينهم، وجاء السليمانيون من مكة عند ما أخرجهم الهواشم فغلبوا عليهم بصعدة، وانقرضت دولتهم بها في المائة السادسة. قال ابن سعيد وكان من بني سليمان حين خرجوا من مكّة إلى اليمن أحمد بن حمزة بن سليمان، فاستدعاهم أهل زبيد لينصرهم على عليّ بن مهدي الخارجيّ حين حاصرهم، وبها فاتك بن محمد من بني نجاح، فأجابهم على أن يقتلوا فاتكا، فقتلوه سنة ثلاث وخمسمائة وملّكوا عليهم أحمد بن حمزة، فلم يطق مقاومة عليّ بن مهديّ ففرّ عن زبيد وملكها ابن مهديّ. قال: وكان عيسى بن حمزة أخو أحمد في عشرة باليمن، ومنهم غانم بن يحيى. ثم ذهب ملك بني سليمان من جميع التهائم والجبال واليمن على يد بني مهدي. ثم ملكهم بنو أيوب وقهروهم، واستقرّ ملكهم آخرا في المنصور عبد الله بن أحمد بن حمزة. قال ابن العديم [1] أخذ الملك بصعدة عن أبيه واشتدّت يده مع الناصر العبّاسي، وكان يناظره ويبعث دعاته إلى الديلم وجيلان حتى خطب له هنالك وصار له فيها ولاة، وأنفق الناصر عليه أموالا في العرب باليمن ولم يظفر به. قال ابن الأثير: جمع المنصور عبد الله بن حمزة أيام الزيدية بصعدة سنة اثنتين وخمسمائة، وزحف إلى اليمن فخاف منه المعزّ بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب. ثم زحف إليه المعزّ فهزمه، ثم جمع ثانية سنة اثنتي عشرة وستمائة جموعا من همذان وخولان، وارتجت له اليمن وخاف المسعود بن الكامل وهو يومئذ صاحب اليمن، ومعه الكرد والترك، وأشار أمير الجيوش عمر بن رسول بمعاجلته قبل أن يملك الحصون. ثم اختلف أصحاب المنصور ولقيه المسعود فهزمه، وتوفي المنصور سنة ثلاثين وستمائة عن عمر مديد، وترك ابنا اسمه أحمد ولّاه الزيدية، ولم يخطبوا له بالإمامة ينتظرون علوّ سنه، واستكمال شروطه، ولما كانت
__________
[1] ابن العديم: صاحب مخطوط بغية الطلب في تاريخ فتح حلب المحفوظ في إسطنبول.(4/143)
سنة خمس وأربعين بايع قوم من الزيدية لأحمد الموطئ من بقية الرسي، وهو أحمد بن الحسين من بني الهادي لأنهم لما أخرجهم بنو سليمان من كرسي إمامتهم بصعدة آووا إلى جبل قطابة بشرقي صعدة، فلم يزالوا هنالك، وفي كل عصر منهم إمام شائع بأنّ الأمر إليهم إلى أن بايع الزيديّة الموطئ، وكان فقيها أديبا عالما بمذهبهم، قوّاما صوّاما، بويع سنة خمس وأربعين وستمائة. وأهم نور الدين عمر بن رسول شأنه فحاصره بحصن تلا سنة، وامتنع عليه فأفرج عنه، وحمل العساكر من الحصون المجاورة لحصاره. ثم قتل عمر بن رسول وشغل ابنه المظفّر بحصن الدملوة، فتمكّن الموطئ، وملك عشرين حصنا وزحف إلى صعدة فغلب السليمانيّين عليها، وقد كانوا بايعوا لأحمد ابن إمامهم عبد الله المنصور، ولقّبوه المتوكل عند ما بويع للموطئ بالإمامة في تلا لأنّهم كانوا ينتظرون استكمال سنه، فلما بويع الموطئ بايعوه، ولما غلبهم على صعدة نزل أحمد المتوكل إمامهم وبايع له وأمّنه وذلك سنة تسع وأربعين. ثم حجّ سنة خمسين وبقي أمر الزيدية بصعدة في عقب الموطئ هذا وسمعت بصعدة أنّ الإمام بصعدة كان قبل الثمانين والسبعمائة عليّ بن محمد في أعقابهم، وتوفي قبل الثمانين والسبعمائة عليّ بن محمد من أعقابهم. وولي ابنه صلاح، وبايعه الزيدية وكان بعضهم يقول ليس هو بإمام لعدم شروط الإمامة، فيقول: هو أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان. ثم مات صلاح آخر سنة ثلاث وتسعين وقام بعده ابنه نجاح، وامتنع الزيدية من بيعته فقال: أنا محتسب للَّه هذا ما بلغنا عنهم بمصر أيام المقام فيها والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن نسب الطالبيين وذكر المشاهير من أعقابهم)
وأمّا نسب هؤلاء الطالبيّين فأكثرها راجع إلى الحسن والحسين ابني عليّ بن أبي طالب، ومن فاطمة رضي الله عنها، وهما سبطا الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أخيهما محمد بن الحنفيّة، وإن كان لعليّ رضي الله عنه غيرهم من الولد إلّا أنّ الذين طلبوا الحق في الخلافة وتعصّبت لهم الشيعة، ودعوا لهم في الجهات إنما هم الثلاثة لا غيرهم، فأمّا الحسن فمن ولده الحسن المثنى وزيد، ومنهما العقب المشهود له في(4/144)
الدعوة والإمامة. ومن ولد حسن المثنّى عبد الله الكامل وحسن المثلث وإبراهيم العمر وعباس وداود. فأمّا عبد الله الكامل وبنوه فقد مرّ ذكرهم وأنسابهم عند ذكر ابنه محمد المهدي، وأخبارهم مع أبي جعفر المنصور. وكان منهم الملوك الأدارسة بالمغرب الأقصى بنو إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل. ومن عقبهم بنو حمود ملوك الأندلس الدائلون بها من بني أمية آخر دولتهم. ومنهم بنو حمود بن أحمد بن عليّ بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، وسيأتي ذكر أخبارهم. ومنهم بنو سليمان بن عبد الله الكامل. كان من عقبه ملوك اليمامة بنو محمد الأخيضر بن يوسف بن إبراهيم ابن موسى الجون، ومنهم بنو صالح بن موسى بن عبد الله الساقي، ويلقّب بأبي الكرام بن موسى الجون، وهم الذين كانوا ملوكا بغانة من بلاد السودان بالمغرب الأقصى، وعقبهم لك معروفون. ومن عقبه أيضا الهواشم بنو أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن عبد الله أبي الكرام. كانوا أمراء مكّة لعهد العبيديّين وقد مرّ ذكرهم. ومن أعقابهم بنو قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن موسى الجون، وملكوا مكّة بعد الهواشم على يد قتادة أبيهم هذا. فمنهم بنو نمى بن سعد بن عليّ بن قتادة أمراء مكّة لعهدنا. ومن عقب داود بن حسن المثنّى السليمانيون الذين كانوا بمكة وهم بنو سليمان ابن داود وغلبهم عليها الهواشم آخرا وصاروا إلى اليمن فقامت الزيدية بدعوتهم كما مرّ في أخبارهم. ومن عقب حسن المثلّث بن حسن المثنّى حسين بن عليّ بن حسن المثلّث الخارج على الهادي وقد مرّ ذكره. ومن عقب إبراهيم العمر بن حسن المثنّى ابن طباطبا واسمه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم كان منهم محمد بن طباطبا أبو الأئمة بصعدة الذين غلبهم عليها بنو سليمان بن داود بن حسن المثنّى حين جاءوا من مكّة. ثم غلبهم بنو الرسي عليها، ورجعوا إلى إمامهم بصعدة وهم بها لهذا العهد ومنهم بنو سليمان بن داود بن حسن المثنّى وابنه محمد بن سليمان القائم بالمدينة أيام المأمون. قال ابن حزم: وعقبه بالمدينة لأبي جعفر المنصور، ولا عقب لزيد إلّا منه. وكان من عقبه محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد. قام بالمدينة أيام المعتمد وجاهر بالمنكرات والقتل إلى أن تعطّلت الجماعات. ومن عقبه أيضا القائم بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد وأخوه محمد القائم من بعده وقد مرّ خبرهما. ومنهم الداعي الصغير بالريّ وطبرستان وهو الحسن بن ابن خلدون م 10 ج 4(4/145)
القاسم بن عليّ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد الطحاني بن القاسم بن الحسن ابن زيد، وكانت بين هذا الداعي الصغير وبين الأطروش حروب، وقتل هذا الداعي سنة تسع عشرة وثلاثمائة. ومن عقبه أيضا القاسم بن عليّ بن إسماعيل أحد قوّاد الحسن بن زيد. وهم غيّروا نعم أهل تلك الآفاق، وأذهبوا بمهجتهم وكانوا سببا لتورّد الديلم ببلاد الإسلام لما يستجيشونهم. وخرج معهم ومع الأطروش الحسني ما كان بن كالي ملك الديلم. وكان مرداويح وبنو بويه من بعض رجاله، وكان لهم من عشيرهم قوّاد ورجال تسمّوا باسم الديلم من أجل مرباهم بينهم والله يخلق ما يشاء. (وأمّا الحسين) وهو القتيل بالطعن [1] أيام يزيد بن معاوية، فمن ولده عليّ بن زين العابدين بن زيد الشهيد، ومحمد الباقر، وعبد الله الأرقط، وعمر والحسن الأعرج، فمن ولد الأرقط الحسين الكويكي ابن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الأرقط، كان من قوّاد الحسن الأطروش ابن الحسن بن علي القائم ابن علي بن عمر، قام بأرض الطالقان أيام المعتصم. ثم هرب من سفك الدماء واستتر إلى أن مات وكان معتزليا. ومنهم الأطروش أسلم على يديه الديلم وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر، وكان فاضلا حسن المذهب عدلا، ولي طبرستان وقتل سنة أربع وثلاثمائة، وقام بعده أخوه محمد ومات. وقام الحسين ابن أخيه محمد بن علي وقتل بها سنة ست عشرة وثلاثمائة، قتله جيوش نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد الساماني صاحب خراسان. ومن ولد الحسين الهمرّج بن زين العابدين بن عبد الله العقيقي بن الحسين، كان من ولده الحسين بن محمد بن جعفر ابن عبد الله العقيقي قتله الحسن بن زيد صاحب طبرستان. ومنهم جعفر بن عبيد الله ابن الحسين الأعرج كان شيعته يسمّونه حجّة الله وكان من عقبه الملقّب بمسلم الّذي دبّر أمر مصر أيام كافور، وهو محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدّث بن الحسين بن يعفر حجّة الله، وابنه طاهر بن مسلم. ومن عقب طاهر هذا أمراء المدينة لهذا العهد بنو جماز بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيخة بن هاشم بن القاسم بن مهنّى، ومهنّى بن مهنّى بن داود بن القاسم أخي مسلم وعمر وطاهر.
وزعم ابن سعيد أن بني جماز بن شيخة أمراء المدينة هؤلاء من ولد عيسى بن زيد
__________
[1] هكذا بالأصل ولعلها الطف يعني كربلاء(4/146)
الشهيد، وفيه نظر. ومن ولد الحسين الحسن الأعرج وزيد هو القائم بالكوفة على هشام بن عبد الملك سنة إحدى وعشرين ومائة، وقتل وخرج ابنه يحيى سنة خمس وعشرين بخراسان وقتل، وقد انتمى صاحب الزنج في بعض أوقاته إليه وأخوه عيسى بن زيد الّذي حارب المنصور أول خلافته من ولد الحسين الّذي كان من عقبه يحيى بن عمر بن يحيى القائم بالكوفة أيام المستعين، وكان حسن المذهب في الصحابة وإليه ينسب العمريّون الذين استولوا على الكوفة أيام الديلم من قبل السلطان ببغداد. وعلي بن زيد بن الحسين بن زيد قام بالكوفة، ثم هرب إلى صاحب الزنج بالبصرة فقتله وأخذ جارية له كان سباها من البصرة. ومن ولد محمد الباقر بن زين العابدين عبد الله الأفطح وجعفر الصادق، فكانت لعبد الله الأفطح شيعة يدّعون إمامته: منهم زرارة بن أعين الكوفي. ثم قام بالمدينة وسأله عن مسائل من الفقه فألفاه جاهلا فرجع عن القول بإمامته فانقطعت الأفطحيّة. وزعم ابن حزم أن بني عبيد ملوك مصر ينسبون إليه وليس ذلك بصحيح. ومن ولد جعفر الصادق إسماعيل الإمام، وموسى الكاظم، ومحمد الديباجة، فأمّا محمد الديباجة فخرج بمكّة أيام المأمون وبايع له أهل الحجاز بالخلافة وحمله المعتصم لما حج، وجاء به إلى المأمون فعفا عنه، ومات سنة ثلاث ومائتين. وأمّا إسماعيل الإمام وموسى الكاظم فعليهما وعلى بنيهما مدار اختلاف الشيعة، وكان الكاظم على زيّ الأعراب مائلا إلى السواد وكان الرشيد يؤثره ويتجافى عن السعاية فيه كما مرّ ثم حبسه. ومن عقبه بقية الأئمة الاثني عشر عند الإمامية من لدن علي بن أبي طالب الوصيّ، ووفاته سنة خمس وثلاثين، ثم ابنه الحسن ووفاته سنة خمس وأربعين، ثم أخوه الحسين ومقتله سنة إحدى وستين، ثم ابنه زين العابدين ووفاته [1] ثم ابنه محمد الباقر ووفاته سنة إحدى وثمانين ومائة، ثم ابنه جعفر الصادق ووفاته سنة ثلاث وأربعين ومائة، ثم ابنه موسى الكاظم ووفاته سنة ثلاث وثمانين ومائة وهو سابع الأئمة عندهم. ثم ابنه عليّ الرضا ووفاته سنة ثلاث ومائتين. ثم ابنه محمد المقتفي [2] ووفاته سنة عشرين
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ويذكر ابن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان خبر وفاته فيقول: «توفي في آخر يوم من صفر سنة اثنين ومائتين، قيل بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين بمدينة طوس وصلى عليه المأمون ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد» .
[2] هو محمد الجواد.(4/147)
ومائتين. ثم ابنه علي الهادي ووفاته سنة أربع وخمسين ومائتين. ثم ابنه حسن العسكري ووفاته سنة ستين ومائتين. ثم ابنه محمد المهدي وهو الثاني عشر وهو عندهم حيّ منتظر وأخبارهم معروفة. ومن عقب موسى الكاظم من غير الأئمة ابنه إبراهيم المرتضى، ولّاه محمد بن طباطبا وأبو السرايا على اليمن، فذهب إليها ولم يزل بها أيام المأمون يسفك الدماء حتى لقّبه الناس بالجزّار، وأظهر الإمامة عند ما عهد المأمون لأخيه الرضا. ثم أتهم المأمون بقتله فجاهر وطلب لنفسه. ثم عقد المأمون على حرب الفاطميّين باليمن لمحمد بن زياد بن أبي سفيان لما بينهم من البغضاء فأوقع بهم مرارا، وقتل شيعتهم وفرّق جماعتهم، ومن عقبه موسى بن إبراهيم جدّ الشريف الرضي والمرتضى، واسم كلّ منهما علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن إبراهيم.
ومن عقب موسى الكاظم ابنه زيد ولّاه أبو السرايا على الأهواز، فسار إلى البصرة وملكها وأحرق دور العبّاسيّين بها فسمّي زيد النار، ومن عقبه زيد الجنة بن محمد بن زيد بن الحسن بن زيد النار من أفاضل هذا البيت وصلحائهم، حمل إلى بغداد في محنة الفاطميّين أيام المتوكل، ودفع إلى ابن أبي داود يمتحنه فشهد له وأطلقه. ومن عقب موسى الكاظم ابنه إسماعيل ولّاه أبو السرايا على فارس. ومن عقب جعفر الصادق من غير الأئمة محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر، قاما بالمدينة سنة إحدى وسبعين ومائتين وسفكا الدماء وانتهبا الأموال، واستلحما آل جعفر بن أبي طالب وأقامت المدينة شهرا لا تقام فيها جمعة ولا جماعة. ومن عقب إسماعيل الإمام العبيديّون خلائف القيروان ومصر بنو عبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل وقد مرّ ذكرهم. وما للناس من الخلاف في نسبهم وهو مطروح كله وهذا أصح ما فيه. وقال ابن حزم: إنهم من بني حسن البغيض وهو عمّ المهدي وعنده أنها دعوى منهم. (وأمّا محمد بن الحنفية) فكان من ولده عبد الله بن عبّاس، وأخوه علي بن محمد وابنه الحسن بن علي بن محمد، وكلّ ادّعت الشيعة إمامته وخرج باليمن على المأمون ولد عليّ من غير هؤلاء عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن ولد جعفر بن أبي طالب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القائم بفارس، وبويع بالكوفة وأراد بعض شيعة العبّاسية تحويل الدعوة إليه فمنع أبو مسلم من ذلك وكانت له شيعة ينتظرونه، وساقوا الخلافة إليه من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية بالوصيّة، وكان(4/148)
فاسقا وكان معاوية ابنه نظير أبيه في الشرّ. انتهى الكلام في أنساب الطالبيّين وأخبارهم، فلنرجع الآن إلى أخبار بني أمية بالأندلس المنازعين للدعوة العبّاسية. ثم نرجع إلى دول القائمين بالدعوة العبّاسية المستبدّين عليهم من العرب والترك واليمن والجزيرة والشام والعراق والمغرب، والله المستعان.
(الخبر عن دولة بني أمية بالأندلس من هذه الطبقة المنازعين للدعوة العباسية وبداية أمرهم وأخبار ملوك الطوائف من بعدهم)
كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية عن عدوة البحر الرومي، وبالجانب الغربي منها يسمى عند العرب أندلوش، وتسكنه أمم من إفرنجة المغرب أشدّهم وأكثرهم الجلالقة. وكان القوط قد تملكوه وغلبوا على أمره لمئين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة. ثم عقدوا معهم السلم على أن تنصرف القوط إلى الأندلس، فساروا إليها وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون لبسلة [1] النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أهل إفرنجة والقوط عليها فدانوا بها وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة وكانت دار ملكهم. وربما انتقلوا ما بينها، وبين قرطبة وماردة وإشبيليّة وأقاموا كذلك نحو أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لزريق وهو سمة لملوكهم كجرجير سمة ملوك صقلّيّة ونسب القوط وخبر دولتهم قد تقدّم. وكانت له حظوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية حظوها من فرضة المجاز بطنجة، ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم. وكان ملك البرابرة بذلك القطر الّذي هو اليوم جبال غمارة يسمى بليان [2] وكان يدين بطاعتهم وبملتهم، وموسى بن نصير أمير العرب إذ ذاك عامل
__________
[1] لبلة: بفتح اوله ثم السكون ولام أخرى: قصة كورة بالأندلس كبيرة يتصل عملها بعمل أكشونية وهي شرق من أكشونية وغرب من قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام اربعة وأربعون فرسخا وبين اشبيلية اثنان وأربعون ميلا. (معجم البلدان) .
[2] اسمه الحقيقي ليليان.(4/149)
على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك، ومنزله بالقيروان. وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ودوّخ أقطاره وأوغل في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزقاق، واستنزل بليان لطاعة الإسلام وخلف مولاه طارق بن زياد الليثي واليابطنجة، وكان بليان ينقم على لزريق ملك القوط لعهده بالأندلس لفعله بابنته في داره كما زعموا، على عادتهم في بنات بطارقتهم، فغضب لذلك وأجاز إلى لزريق فأخذ ابنته منه. ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلّهم على غرة فيهم أمكنت طارقا الفرصة، فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلاثمائة من العرب، وانتهب معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيرهم عسكرا [1] ونزل بهم جبل الفتح فسمى جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصين. وبلغ الخبر لزريق فنهض إليهم يجرّ أمم الأعاجم وأهل ملّة النصرانية في زهاء أربعين ألفا فالتقوا بفحص شريش فهزمه إليه ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم. وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم، فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعّده بأنه يتوغّل بغير إذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به، واستخلف على القيروان ولده عبد الله وخرج معه حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري. ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، ووافى خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس. وتلقّاه طارق وانقاد واتبع، وتمّم موسى الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق، وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب، ودوّخ أقطارها وجمع غنائمها. وجمع أن يأتي
__________
[1] هكذا بياض بالأصل والمعنى غير واضح والعبارة مشوشة وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 562: «ولما بلغ رذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه، وكان غائبا في غزاته، فرجع منها وطارق قد دخل بلاده مجمع له جمعا يقال: بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارقا الخبر كتب الى موسى يستمدّه ويخبره بما فتح وأنّه زحف اليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به. فبعث اليه بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عشر ألفا ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسّس لهم الأخبار، فأتاهم رذريق في جنده، فالتقوا على نهر لكّة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب ثمانية أيام، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الّذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، واتفقوا على الهزيمة بغضا لرذريق.....» .(4/150)
المشرق على القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام ودروب الأندلس [1] ويخوض ما بينها من بلاد الأعاجم أمم النصرانيّة مجاهدا فيهم مستلحما لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة.
ونمي الخبر إلى الوليد فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما همّ به موسى غرر بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف، وأسرّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع هو وكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها. واستعمل ابنه عبد العزيز لغزوها وجهاد أعدائها، وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة، واحتلّ موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى الشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر. يقال: كان من جملتها ثلاثون ألف فارس من السبي. وولّى على إفريقية ابنه عبد الله، وقدم على سليمان فسخطه ونكبه. وسارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته، وكان خيّرا فاضلا، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة. وولي من بعده أيوب بن حبيب اللّخميّ وهو ابن أخت موسى بن نصير فتولى عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس فتارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله على القيروان وأثخنوا في أمم الكفر وافتتحوا برشلونة من جهة الشرق وحصون بشتالة [2] وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط وأرز [3] الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب، فتحصّنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلّوا بسائط وراءها، وتوغّلوا في بلاد الفرنجة وعصف ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجب للعدوّ بعض الكرة فرجع الفرنج ما كانوا غلبوهم عليه. وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير، بعث إلى الأندلس الحرب بن عبد الرحمن بن عثمان [4] فقدم
__________
[1] هكذا بالأصل. وفي نفح الطيب ج 1 ص 120: «وعزم على ان يستولي على القسطنطينية ثم يخترق آسية الصغرى حتى يصل الى دمشق» .
[2] هي قشتالة.
[3] أرز: أرزا وأروزا: تقبّض. والحيّة لجأت الى جحرها وتثبّتت فيه. ويقال فلان يأرز إلى وطنه اي حيث ما ذهب يرجع اليه. (المنجد) .
[4] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 23: «ثم إن سليمان ولّى الأندلس الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي، فأقام واليا عليها الى ان استخلف عمر بن عبد العزيز فعزله» .(4/151)
الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر. ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السنخم بن مالك الخولانيّ على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمّس أرض الأندلس فخمّسها وبنى قنطرة قرطبة، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة سنة اثنتين ومائة، فقدّم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى أن قدم عنبسة بن شحيم الكلبيّ من قبل يزيد بن مسلم عامل افريقية وكان أوّلهم يحيى بن سلمة الكلبيّ أنفذه حنظلة بن صفوان الكلبيّ والي افريقية لما استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع وأقام في ولايتها سنتين ونصفا ولم يغز ثم قدم إليها عثمان بن أبي [1] واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية، وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص العتبي فوافاها سنة عشر، وعزل قريبا يقال لسنة من ولايته، واختلف هل تقدّمه عثمان أم هو تقدّم عثمان. ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا قدم في المحرّم سنة إحدى عشرة وغزا أرض مقرشة فافتتحها وأقام عشرة أشهر. وتوفي سنة ثلاث عشرة لسنتين من ولايته، وقدم بعده محمد بن عبيد الله بن الحجاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا إفرنجة. وكانت له فيهم وقائع وأجبّ عسكره في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين. وقال الواقدي: أربع سنين، وكان ظلوما جائرا في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة، وأوقع بهم وغنم، ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولي عتبة بن الحاج السلولي من قبل عبيد الله بن الحجاب فقدم سنة سبع عشرة. وأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهدا مظفّرا حتى بلغ سكنى المسلمين أرمونة، وصار مساكنهم على نهر ودّونة. ثم قام عليه عبد الملك بن قطن الفهريّ سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله. ويقال أخرجه من الأندلس وولّى مكانه إلى أن دخل بلخ بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين كما مرّ فغلب عليه، وولي الأندلس سنة أو نحوها. وقال الرازيّ: ثار أهل الأندلس بعقبة بن الحجّاج أميرهم في صفر من سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك، وولّوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر. وتوفي بسرقوسة في صفر سنة ثلاث وعشرين، واستقام الأمر لعبد الملك. ثم
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 158: «وفيها- 111- عزل عبيدة بن عبد الرحمان عامل افريقية عثمان بن نسعة عن الأندلس واستعمل بعده الهيثم بن عبيد الكنانيّ» .(4/152)
دخل بلخ بن بشر من أهل الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عيّاض مع البربر فثار على عبد الملك وقتله، وانحاز الفهريّون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع عليهم من نكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأميّة ابنا عبد الملك بن قطن، والتقوا فكانت الدبرة على الفهريّين، وهلك بلخ من الجراح التي أصابته في حربهم وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته، ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي، غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلخ وانحاز عنه الفهريّون فلم يطيعوه، وولي سنين أظهر فيها العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن ثار به العصبة اليمانية فعسر أمره، وهاجت الفتنة. وقدم أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية، وركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدانت له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي سعد، وابنا عبد الملك فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره. وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم، وكثر أهل الشام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرّقهم في البلاد، وأنزل أهل دمشق البيرة لشبهها بها وسمّاها دمشق، وأنزل أهل حمص إشبيليّة وسمّاها حمص لشبهها بها، وأهل قنّسرين حسان وسمّاها قنسرين، وأهل الأردن ريّه وهي مالقة وسمّاها الأردن. وأهل فلسطين شدونة وهي شريش وسمّاها فلسطين، وأهل مصر تدمير وسمّاها مصر، وقفل ثعلبة إلى الشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه وكان أبو الخطاب [1] أعرابيّا عصبيا أفرط عند ولايته في التعصّب لقومه من اليمانية وتحامل على المصريّة، وأسخط قيسا وأمر في بعض الأيام بالضّميل بن حاكم كبير القيسيّة، وكان من طوالع بلخ وهو الضّميل بن حاكم بن شمر بن ذي الجوشن، ورأس على الحصرية [2] ، فأمر به يوما فأقيم من مجلسه وتقنع، فقال له بعض الحجّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجوشن، فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها فسار الضّميل بن حاكم زعيمهم يومئذ، وألّب عليه قومه، واستعان بالمنحرفين عنه من اليمنيّة فخلع أبا الخطّاب سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته، وقدّم مكانه ثوابة بن سلامة الجذاميّ وهاجت الحرب المشهورة. وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس، منسلخ
__________
[1] ابو الخطار: ابن الأثير ج 5 ص 272.
[2] الأصح ان يقال: ورأس الحصرية.(4/153)
رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس، وقام بأمره الضّميل واجتمع عليه الفريقان وهلك لسنتين من ولايته، ووقع الخلاف بإفريقية وتلاشت أمور بني أميّة بالمشرق وشغلوا عن قاصية المغرب بكثرة الخوارج، وعظم أمر المسودة فبقي أهل الأندلس فوضى ونصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثيّر. ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضريّة واليمنيّة، وادالتها بين الجندين سنة لكل دولة. وقدم المضريّة على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ سنة تسع وعشرين، واستقرّ سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافقتهم اليمنية لميعاد ادالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم، فبيّتهم يوسف بمكان نزلهم من شقندة من قرى قرطبة [1] من الضميل بن حاتم والقيسيّة والمضريّة فاستلحموهم، واستبدّ يوسف بما وراء البحرين عدوة الأندلس، وغلب اليمنيّة على أمرهم فاستكانوا للغلبة، وتربّصوا بالدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل، فكان يوسف بن عبد الرحمن قد ولّى الضّميل بن حاتم سرقسطة، فلما ظهر أمر المسودة بالمشرق ثار الحباب ابن رواحة الزهريّ بالأندلس داعيا لهم وحاصر الضّميل بسرقسطة، واستمدّ يوسف فلم يمدّه رجاء هلاكه بما كان يغصّ به وأمدّته القيسيّة فأخرج عنه الحباب، وفارق الضّميل سرقسطة فملكها الحباب وولّى يوسف الضّميل على طليطلة إلى أن كان من أمر عبد الرحمن الداخل ما نذكره.
(مسير عبد الرحمن الداخل الى الأندلس وتجديده الدولة بها)
لما نزل ما نزل ببني أمية بالمشرق وغلبهم بنو العبّاس على الخلافة وأزالوهم عن كرسيّها وقتل عبد الله بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة اثنتين وثلاثين ومائة وتتبّع بنو مروان بالقتل، فطلبوا من بعدها بطن الأرض. وكان ممن أفلت منهم عبد
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 375: «فلما انتهى إلى أبي الخطّار موت ثوابة وولاية يوسف قال: إنّما أراد الصّميل ان يصير الأمر الى مضر، وسعى في الناس حتى ثارت الفتنة بين اليمن ومضر. فلما رأى يوسف ذلك فارق قصر الإمارة بقرطبة وعاد الى منزله، وسار ابو الخطّار الى شقندة فاجتمعت اليه اليمانية، واجتمعت المضرية الى الصّميل وتزاحفوا واقتتلوا أياما كثيرة» .(4/154)
الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وكان قومه يتحيّنون له ملكا بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك يؤثرونها عن مسلمة بن عبد الملك، وكان هو قد سمعها منه مشافهة. فكان يحدّث نفسه بذلك فخلص إلى المغرب، ونزل على أخواله نفرة من برابرة طرابلس. وشعر به عبد الرحمن بن حبيب وكان قتل ابني الوليد بن عبد الملك لما دخلا إفريقية من قبله، فلحق عبد الرحمن بمغيلة ويقال بمكناسة، ويقال:
نزل على قوم من زناتة فأحسنوا قبوله واطمأنّ فيهم. ثم لحق بمليلة وبعث بدرا مولاه، إلى من بالأندلس من موالي المروانيّين وأشياعهم فاجتمع بهم، وبثّوا له بالأندلس دعوة ونشروا له ذكرا. ووافق ذلك ما قدّمناه من الفتنة بين اليمنيّة والمضريّة، فاجتمعت اليمنيّة على أمره، ورجع إليه بدر مولاه بالخبر فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين في خلافة أبي جعفر المنصور، ونزل بساحل السّند وأتاه قوم من أهل إشبيليّة فبايعوه. ثم انتقل إلى كورة رحب فبايعه عاملها عيسى بن مسوّر، ثم رجع الى شدونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخميّ. ثم أتى مورور فبايعه ابن الصبّاح ونهز [1] إلى قرطبة واجتمعت عليه اليمنيّة. ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ وكان غازيا بجلّيقة فانفضّ عسكره وسار إلى قرطبة وأشار عليه وزيره الضّميل ابن حاتم بالتلطّف له والمكر به، فلم يتم له مراده وارتحل عبد الرحمن من المنكب فاحتل بمالقة فبايعه جندها، ثم برندة فبايعه جندها، ثم بشريش كذلك، ثم بأشبيليّة فتوافت عليه الأمداد والأمصار، وتسايلت المضرية إليه حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهريّة والقيسيّة لمكان الضّميل منه، زحف إليه حينئذ عبد الرحمن بن معاوية وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة فانكشف، ورجع إلى غرناطة فتحصّن بها وأتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله. ثم رغب إليه يوسف في الصلح فعقد له على أن يسكن قرطبة وأقفله معه، ثم نقض يوسف عهده. وخرج سنة إحدى وأربعين ولحق بطليطلة، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفا من البربر، وقدم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني، كان وفد عليه من المشرق، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بمصر، فلما هلك سنة خمس عشرة بقي عبد الملك بمصر، فلما دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يوم
__________
[1] بمعنى انتقل.(4/155)
الأندلس في عشرة رجال من بيته مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة إحدى وأربعين، فعقد له على إشبيليّة ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور. وسار يوسف إليهما وخرجا إليه فلقياه وتناجز الفريقان فكانت الدبرة على يوسف، وأبعد الغرّ واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتزّ رأسه وتقدّم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وبنى القصر والمسجد الجامع، أنفق ثمانين ألف دينار ومات قبل تمامه وبنى مساجد ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق، وكان يدعو للمنصور، ثم قطعها لما تمّ له الملك بالأندلس، ومهّد أمرها وخلد لبني مروان السلطان بها، وجدّد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها. واستلحم الثّوار في نواحيها وقطع دعوة العبّاسيين من منابرها وسدّ المذاهب منهم دونها. وهلك سنة اثنتين وسبعين ومائة، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنّ أوّل داخل من ملوك بني مروان هو، وكان أبو جعفر المنصور يسمّيه صقر بني أميّة لما رأى ما فعل بالأندلس، وما ركب إليها من الأخطار، وأنه صمد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا قوّة ولا أنصار فغلب على أهلها وعلى أميرهم، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة وإمضاء عزم. ثم تحلّى وأطيع وأورثه عقبه. وكان عبد الرحمن هذا يلقب بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين إذ بايع الخلافة بمقرّ الإسلام ومبتدأ العرب، حتى كان عبد الرحمن الناصر وهو الثامن منهم على ما نذكره فتسمّى بأمير المؤمنين وتوارث ذلك بنوه واحدا بعد واحد. وكان لبني عبد الرحمن الداخل بهذه العدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة ممتعة [1] اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة كما نذكر. وعند ما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الخلافة، واستفحل سلطانه وتجهّز فرويلة بن الأدفونش ملكهم، سار إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها وملكها من أيديهم، وردّ مديزلك وبريعال وسمورة وسلمنقة وقشتالة وسقونية، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور ابن أبي عامر رئيس الدولة كما نذكر في أخباره. ثم استعادوها بعده من بلاد الأندلس واستولوا على جميعها. وكان عبد الرحمن عند ما تمهد له الأمر بالأندلس، ودعا للسفّاح، ثم خلعه واستبدّ بأمره كما ذكرناه. وجد هشام بن عبد ربه الفهري
__________
[1] بمعنى مزدهرة.(4/156)
مخالفا بطليطلة على يوسف من قبله، وبقي على خلافه، ثم أغزاه عبد الرحمن سنة تسع وأربعين بدرا مولاه وتمام بن علقمة فحاصراه ومعه حيوة بن الوليد الحصبي، وحمزة بن عبد الله بن عمر حتى غلباه، وجاء بهم إلى قرطبة فصلبوا. وسار من إفريقية سنة تسع وأربعين العلاء بن مغيث اليحصبي ونزل باجة من بلاد الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه، ولقيه بنواحي إشبيليّة فقاتله أياما. ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه، وبعث عبد الرحمن برءوس كثيرة منهم إلى القيروان ومكّة، فألقيت في أسواقها سرا ومعها اللواء الأسود. وكاتب المنصور للعلاء ثم ثار سعيد اليحصبيّ المعروف بالمطري بمدينة لبلة طالبا بثأر من قتل من اليمنيّة مع العلاء وملك إشبيليّة، وسار إليه عبد الرحمن فامتنع ببعض الحصون فحاصره، وكان عتاب بن علقمة اللخمي بمدينة شدونة فأمدّ المطري، وبعث عبد الرحمن بدرا مولاه فحال دون المدد ودون المطري. ثم طال عليه الحصار وقتل في بعض أيامه، وولي مكانه بالقلعة خليفة بن مروان. ثم استأمن من بالقلعة إلى عبد الرحمن وأسلموا إليه الحصن فخرّبه وقتل عبد الرحمن خليفة ومن معه. ثم سار إلى غيّاث فحاصره بشدونة حتى استأمنوا فأمنهم، وعاد إلى قرطبة فخرج عليه عبد الرحمن بن خراشة الأسدي بكورة جيان. وبعث إليه العساكر فافترق جمعه واستأمن فأمّنه، ثم خرج عليه سنة خمس غياث بن المستبد الاسديّ، فجمع عامل باجة العساكر وسار إليه فهزمه وقتله، وبعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة. وفي هذه السنة شرع عبد الرحمن في بناء السور على قرطبة، ثم ثار رجل بشرق الأندلس من بربر مكناسة يعرف بشقنا بن عبد الواحد، كان يعلّم الصبيان وادعى أنه من ولد الحسين الشهيد، وتسمّى بعبد الله بن محمد وسكن شنة برية [1] واجتمع إليه خلق من البربر، فسار إليه عبد الرحمن فهرب في الجبال، واعتصم بها فرجع وولى على طليطلة حبيب بن عبد الملك، فولّى حبيب شنة بريّة سليمان بن عثمان بن مروان بن عثمان بن أبان بن عثمان بن عفّان، فسار إليه سليمان وقتله وغلب على ناحية فورية، فسار إليه عبد الرحمن سنة اثنتين وخمسين ومائة.
__________
[1] شنة برية: تكتب شنت بريّة. وهي مدينة متصلة بحوز مدينة سالم بالأندلس وهي شرق قرطبة، وهي مدينة كبيرة، كثيرة الخيرات، لها حصون كثيرة نذكر منها ما بلغنا في مواضعها، بينها وبين قرطبة ثمانون فرسخا. (معجم البلدان) (الحلل السندسية ج 1 ص 452) .(4/157)