وأما زيد بن عمرو فما هم أن يدخل [1] في دين ولا اتبع كتابا واعتزل الأوثان والذبائح والميتة والدم ونهى عن قتل الموءودة وقال: أعبد ربّ إبراهيم وصرّح بعيب آلهتهم وكان يقول: اللَّهمّ لو أني أعلم أيّ الوجوه أحب إليك لعبدتك [2] ولكن لا أعلم ثم يسجد على راحته. وقال ابنه سعيد وابن عمه عمر بن الخطاب: يا رسول الله استغفر الله لزيد بن عمرو قال: نعم انه يبعث أمة واحدة. ثم تحدّث الكهّان والحزاة قبل النبوّة وأنها كائنة في العرب وأن ملكهم سيظهر، وتحدّث أهل الكتاب من اليهود والنصارى بما في التوراة والإنجيل من بعث محمد وأمته، وظهرت كرامة الله بقريش ومكّة في أصحاب الفيل إرهاصا بين يدي مبعثه. ثم ذهب ملك الحبشة من اليمن على يد ابن ذي يزن من بقية التبابعة، ووفد عليه عبد المطلب يهنيه عند استرجاعه ملك قومه من أيدي الحبشة، فبشره ابن ذي يزن بظهور نبيّ من العرب وأنه من ولده في قصة معروفة. وتحيّن الأمر لنفسه كثير من رؤساء العرب يظنه فيه، ونفروا إلى الرهبان والأحبار من أهل الكتاب يسألونهم ببلدتهم على ذلك [3] ، مثل أمية بن أبي الصلت الشقيّ وما وقع له في سفره إلى الشام مع أبي سفيان بن حرب وسؤاله الرهبان ومفاوضته أبا سفيان فيما وقف عليه من ذلك، يظن أنّ الأمر له أو لأشراف قريش من بني عبد مناف حتى تبين لهما خلاف ذلك في قصة معروفة، (ثم رجمت) الشياطين عن استماع خبر السماء في أمره وأصغى الكون لاستماع أنبائه.
المولد الكريم وبدء الوحي
ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل، لأربعين سنة من ملك كسرى أنوشروان وقيل لثمان وأربعين، ولثمانمائة واثنتين وثمانين لذي القرنين. وكان عبد الله أبوه غائبا بالشام وانصرف فهلك بالمدينة، وولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مهلكه بأشهر قلائل، وقيل غير ذلك.
وكفله جدّه عبد المطلب بن هاشم وكفالة الله من ورائه، والتمس له الرضعاء واسترضع في بني سعد من بني هوازن، ثم في بني نصر بن سعد أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحرث بن شحنة بن رزاح بن ناظرة بن خصفة بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فلم يدخل دين.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبدتك به.
[3] وفي نسخة ثانية: من ذلك.(2/407)
قيس [1] ، وكان ظئره [2] منهم الحارث بن عبد العزى وقد مرّ ذكرهما في بني عامر بن صعصعة، وكان أهله يتوسمون فيه علامات الخير والكرامات من الله، ولما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شق الملكين بطنه واستخراج العلقة السوداء من قلبه وغسلهم حشاه وقلبه بالثلج ما كان، وذلك لرابعة من مولده، وهو خلف البيوت يرعى الغنم فرجع إلى البيت منتقع [3] اللون، وظهرت حليمة على شأنه فخافت أن يكون أصابه شيء من اللمم [4] فرجعته إلى أمه. واسترابت آمنة برجعها إياه بعد حرصها على كفالته فأخبرتها الخبر، فقالت: كلّا والله لست أخشى عليه. وذكرت من دلائل كرامة الله له وبه كثيرا.
وأزارته أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخوال جدّه عبد المطلب من بني عديّ بن النجار بالمدينة، وكانوا أخوالا لها أيضا. وهلك عبد المطلب لثمان سنين من ولادته، وعهد به إلى ابنه أبي طالب فأحسن ولايته وكفالته، وكان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجبا. وتولّى حفظه وكلاءته من مفارقة أحوال الجاهلية، وعصمته من التلبس بشيء منها حتى لقد ثبت أنه: مرّ بعرس مع شباب قريش، فلمّا دخل على القوم أصابه غشي النوم، فما أفاق حتى طلعت الشمس وافترقوا. ووقع له ذلك أكثر من مرّة. وحمل الحجارة مع عمه العبّاس لبنيان الكعبة وهما صبيان، فأشار عليه العبّاس بحملها في إزاره، فوضعه على عاتقه وحمل الحجارة فيه وانكشف، فلما حملها على عاتقه سقط مغشيا عليه، ثم عاد فسقط فاشتمل إزاره وحمل الحجارة كما كان يحملها. وكانت بركاته تظهر بقومه وأهل بيته ورضعائه في شئونهم كلها.
وحمله عمه أبو طالب الى الشام وهو ابن ثلاث عشرة وقيل ابن سبع عشرة، فمرّوا ببحيرا الراهب عند بصرى فعاين الغمامة تظله والشجر [5] تسجد له، فدعا القوم وأخبرهم بنبوّته وبكثير من شأنه في قصة مشهورة. ثم خرج ثانية الى الشام تاجرا بمال خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى مع غلامها ميسرة ومروا بنسطور الراهب، فرأى ملكين يظلّانه من الشمس فأخبر ميسرة بشأنه، فأخبر بذلك خديجة فعرضت
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: قصيّة بن نصر.
[2] ظأر المرأة على ولد غيرها: عطفها عليه- ظأرت المرأة: اتخذت ولدا ترضعه (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: ممتقع اللون.
[4] اللمم: الجنون (قاموس) .
[5] وفي النسخة الباريسية: والحجر.(2/408)
نفسها عليه، وجاء أبو طالب فخطبها الى أبيها فزوجه، وحضر الملأ من قريش، وقام أبو طالب خطيبا فقال: «الحمد للَّه الّذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ [1] معدّ وعنصر مضر وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا أمناء بيته وسوّاس حرمه وجعلنا الحكّام على الناس وأنّ ابن أخي محمد بن عبد الله من قد علمتم قرابته وهو لا يوزن بأحد إلّا رجح به فان كان في المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة.
وشهد بنيان الكعبة لخمس وثلاثين من مولده حين أجمع كل قريش على هدمها وبنائها، ولما انتهوا إلى الحجر تنازعوا أيهم يضعه وتداعوا للقتال، وتحالف بنو عبد الدار على الموت [2] ثم اجتمعوا وتشاوروا، وقال أبو أمية حكموا أول داخل من باب المسجد فتراضوا على ذلك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين، وبذلك كانوا يسمّونه، فتراضوا به وحكموه. فبسط ثوبا ووضع فيه الحجر وأعطى قريشا أطراف الثوب، فرفعوه حتى أدنوه من مكانه، ووضعه عليه السلام بيده [3] . وكانوا أربعة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم، وقيس بن عدي السهمي. ثم استمرّ على أكمل الزكاء والطهارة في أخلاقه، وكان يعرف بالأمين، وظهرت كرامة الله فيه وكان إذا أبعد في الخلاء لا يمرّ بحجر ولا شجر إلا ويسلم عليه.
بدء الوحي
ثم بدئ بالرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم تحدّث الناس بشأن ظهوره ونبوّته، ثم حببت إليه العبادة والخلوة بها فكان يتزوّد للانفراد حتى جاء الوحي بحراء لأربعين سنة من مولده وقيل لثلاث وأربعين. وهي حالة يغيب
__________
[1] الأصل والعدن (قاموس) .
[2] وفي النسخة الباريسية: وتحالف بنو عبد الدار وبنو عدي على الموت.
[3] وفي النسخة الباريسية: واعطى أشراف قريش جنباته فرفعوه حتى أدنوه من مكانه وفي الكامل ج 2، ص 45: فقال: هلمّوا إليّ ثوبا، فأوتي به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثمّ قال: لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا. فلمّا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه.(2/409)
فيها عن جلسائه وهو كائن معهم، فأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي قوله، وأحيانا يلقي عليه القول، ويصيبه أحوال الغيبة عن الحاضرين من الغط والعرق وتصببه كما ورد في الصحيح من أخباره، قال: وهو أشدّ علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. فأصابته تلك الحالة بغار حراء وألقى عليه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ من عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5» . وأخبر بذلك كما وقع في الصحيح. وآمنت به خديجة وصدّقته وحفظت عليه الشأن. ثم خوطب بالصلاة وأراه جبريل طهرها، ثم صلّى به وأراه سائر أفعالها. ثم كان شأن الاسراء من مكة الى بيت المقدس من الأرض إلى السماء السابعة الى سدرة المنتهى وأوحى إليه ما أوحى، ثم آمن به عليّ ابن عمه أبي طالب وكان في كفالته من أزمة أصابت قريشا وكفل العبّاس جعفرا أخاه، فجعفر أسنّ [1] عيال أبي طالب. فأدركه الإسلام وهو في كفالته فآمن وكان يصلّي معه، في الشعاب مختفيا من أبيه حتى إذ ظهر عليهما أبو طالب دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أستطيع فراق ديني ودين آبائي، ولكن لا ينهض إليك شيء تكره ما بقيت، وقال لعليّ: الزمه فإنه لا يدعو إلّا لخير.
فكان أوّل من أسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ثم أبو بكر، وعليّ بن أبي طالب، كما ذكرنا، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال بن حمامة مولى أبي بكر، ثم عمر بن عنبسة السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية. ثم أسلم بعد ذلك قوم من قريش اختارهم الله لصحابته من سائر قومهم وشهد لكثير منهم بالجنة. وكان أبو بكر محبّبا سهلا وكانت رجالات قريش تألفه فأسلم على يديه من بني أميّة عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أمية، ومن عشيرة بنى عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، ومن بني زهرة بن قصيّ سعد بن أبي وقّاص واسمه مالك بن وهب بن مناف بن زهرة وعبد الرحمن بن عوف بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة، ومن بني أسد بن عبد العزى الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد وهو ابن صفية عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم من بني الحرث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فجعفر من عيال أبي طالب.(2/410)
بن أهيب بن ضبة بن الحرث، ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أبو سلمة عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وأخوه قدامة، ومن بني عدي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن قرط بن رياح [1] بن عدي وزوجته فاطمة أخت عمر بن الخطاب بن نفيل وأبوه زيد هو الّذي رفض الأوثان في الجاهلية ودان بالتوحيد وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. ثم أسلم عمير أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة حليف بنى زهرة، كان يرعى غنم عقبة بن أبي معيط وكان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلب من غنمه شاة حائلا فدرّت [2] . ثم أسلم جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن ملك بن قحافة الخثعميّ، والسائب بن عثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس واسمه مهشم، وعامر بن فهيرة أزدى وفهيرة أمه مولاة أبي بكر. وأفد بن عبد الله بن عبد مناف تميمي من حلفاء بني عدي. وعمار بن ياسر عنسي بن مذحج مولى أبي مخزوم [3] وصهيب بن سنان من بني النمر بن قاسط حليف بني جدعان. ودخل الناس في الدين أرسالا وفشا الإسلام وهم ينتحلون [4] به ويذهبون إلى الشعاب فيصلون.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بأمره ويدعوه إلى دينه بعد ثلاث سنين من مبدإ الوحي، فصعد على الصفا ونادى يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش، فقال: لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلي.
قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ثم نزل قوله وأنذر عشيرتك الأقربين.
وتردّد إليه الوحي بالنذارة [5] ، فجمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون على طعام
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن رزاح.
[2] وفي نسخة ثانية: فعدّت.
[3] وفي نسخة ثانية: مولى لبني مخزوم.
[4] وفي نسخة ثانية: ينتجعون به.
[5] الأصح ان يقول الوحي النزير أي الوحي القليل.(2/411)
صنعه لهم عليّ بن أبي طالب بأمره، ودعاهم إلى الإسلام ورغبهم وحذرهم وسمعوا كلامه وافترقوا.
ثم إنّ قريشا حين صدع وسبّ الآلهة وعابها نكروا ذلك منه ونابذوه وأجمعوا على عداوته، فقام أبو طالب دونه محاميا ومانعا، ومشت إليه رجال قريش يدعونه الى النصفة عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، وأبو البختري [1] بن هشام بن الحرث ابن أسد بن عبد العزى، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ابن أخي الوليد، والعاصي بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن علي بن حذيفة بن سعد بن سهم، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة. فكلموا أبا طالب وعادوه فردّهم ردّا جميلا، ثم عادوا إليه فسألوه النصفة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته بمحضرهم وعرضوا عليه قولهم فتلا عليهم القرآن وأيأسهم من نفسه وقال لأبي طالب: يا عمّاه لا أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه. واستعبر وظنّ أنّ أبا طالب بدا له في أمره، فرقّ له أبو طالب وقال يا ابن أخي قل ما أحببت فو الله لا أسلمك أبدا.
هجرة الحبشة
ثم افترق أمر قريش وتعاهد بنو هاشم وبنو المطلب مع أبي طالب على القيام دون النبيّ صلى الله عليه وسلم ووثب كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم [2] واشتدّ عليهم العذاب، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم، وكان قريش يتعاهدونها بالتجارة فيحمدونها، فخرج عثمان بن عفّان وامرأته رقية بنت النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأبو حذيفة بن كتبة بن ربيعة مراغما لأبيه وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو بن عامر بن لؤيّ والزبير بن العوام ومصعب بن عمير بن عبد شمس وابو سبرة بن أبي رهم [3] بن عبد العزى العامري من بني عامر بن لؤيّ وسهيل بن بيضاء من بني الحرث بن فهر وعبد الله بن مسعود وعامر بن
__________
[1] هو نجاء معجمه بوزن جعفري كما في شرح القاموس- قاله نصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: ويعيبونهم.
[3] وفي النسخة ثانية: ابن أبي هاشم.(2/412)
ربيعة العنزي حليف بني عدي وهو من عنز بن وائل ليس من عنزة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة. فهؤلاء الأحد عشر رجلا كانوا أوّل من هاجر إلى أرض الحبشة، وتتابع المسلمون من بعد ذلك، ولحق بهم جعفر بن أبي طالب وغيره من المسلمين.
وخرجت قريش في آثار الأوّلين إلى البحر فلم يدركوهم، وقدموا إلى أرض الحبشة فكانوا بها، وتتابع المسلمون في اللحاق بهم، يقال إنّ المهاجرين إلى أرض الحبشة بلغوا ثلاثة وثمانين رجلا. فلما رأت قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم قد امتنع بعمّه وعشيرته وأنّهم لا يسلمونه طفقوا يرمونه عند الناس ممن يفد على مكة بالسحر والكهانة والجنون والشعر يرومون بذلك صدّهم عن الدخول في دينه، ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته صلى الله عليه وسلم بالعداوة والاذاية [1] ، منهم: عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب أحد المستهزءين، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط أحد المستهزءين، وأبو سفيان من المستهزءين، والحكم بن أبي العاص بن أمية من المستهزءين أيضا، والنضر بن الحرث من بني عبد الدار، والأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزى من المستهزءين وابنه زمعة، وأبو البختري العاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، وأبو جهل بن هشام وأخوه العاص وعمهما الوليد وابن عمهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه نبيه ومنبه، وأميّة وأبي ابنا خلف بن جمح. وأقاموا يستهزءون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ويتعرضون له بالاستهزاء والاذاية حتى لقد كان بعضهم ينال منه بيده، وبلغ عمه حمزة يوما أنّ أبا جهل بن هشام تعرض له يوما بمثل ذلك وكان قوي الشكيمة، فلم يلبث أن جاء إلى المسجد وأبو جهل في نادي قريش، وحتى وقف على رأسه وضربه وشجّه، وقال له:
تشتم محمدا وأنا على دينه؟ وثار رجال بني مخزوم إليه فصدهم أبو جهل وقال دعوه فاني سببت ابن أخيه سبّا قبيحا. ومضى حمزة على إسلامه، وعملت قريش أنّ جانب المسلمين قد اعتز بحمزة فكفّوا بعض الشرّ بمكانه فيهم، ثم اجتمعوا وبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشيّ ليسلم إليهم من هاجر إلى أرضه من المسلمين فنكر النجاشيّ رسالتهما وردهما مقبوحين.
ثم أسلم عمر بن الخطاب وكان سبب إسلامه أنه بلغه أنّ أخته فاطمة أسلمت مع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الأذى وهي أصح ولا وجود لكلمة الاذاية فيما بين أيدينا من كتب اللغة.(2/413)
زوجها سعيد ابن عمه زيد، وأن خباب بن الأرت عندهما يعلمهما القرآن، فجاء إليهما منكرا وضرب أخته فشجّها، فلما رأت الدم قالت: قد أسلمنا وتابعنا محمدا فافعل ما بدا لك!، وخرج إليه خباب من بعض زوايا البيت فذكّره ووعظه، وحضرته الانابة فقال له: اقرأ عليّ من هذا القرآن، فقرأ من سورة طه وأدركته الخشية فقال له: كيف تصنعون إذا أردتم الإسلام؟ فقالوا له وأروه الطهور. ثم سأل على مكان النبي صلى الله عليه وسلم فدل عليه، فطرقهم في مكانهم، وخرج إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا ابن الخطّاب؟ فقال: يا رسول الله جئت مسلما، ثم تشهّد شهادة الحق ودعاهم إلى الصلاة عند الكعبة فخرجوا وصلوا هنالك، واعتز المسلمون بإسلامه. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:
اللَّهمّ أعزّ الإسلام بأحد العمرين يعنيه أو أبا جهل. ولما رأت قريش فشوّ الإسلام وظهوره أهمهم ذلك، فاجتمعوا وتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في الكعبة، وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم كافرهم ومؤمنهم فصاروا في شعب أبي طالب محصورين متجنبين، حاشا أبي لهب فإنه كان مع قريش على قومهم، فبقوا كذلك ثلاث سنين لا يصل إليهم شيء ممن أراد صلتهم إلّا سرا ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل على شأنه من الدعاء إلى الله والوحي عليه متتابع. إلى أنّ قام في نقض الصحيفة رجال من قريش كان أحسنهم في ذلك أثرا هشام بن عمرو بن الحرث من بني حسل بن عامر بن لؤيّ، لقي زهير بن أبي أمية بن المغيرة وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فعيّره بإسلامه أخواله إلى ما هم فيه، فأجاب إلى نقض الصحيفة. ثم مضى إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وذكر رحم هاشم والمطلب ثم الى أبي البختري [1] بن هشام وزمعة بن الأسود فأجابوا كلّهم، وقاموا في نقض الصحيفة، وقد بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الصحيفة أكلت الأرضة كتابتها كلها حاشا أسماء الله، فقاموا بأجمعهم فوجدوها كما قال، فخزوا ونقض حكمها.
ثم أجمع أبو بكر الهجرة وخرج لذلك فلقيه ابن الدغنة [2] فردّه، ثم اتصل
__________
[1] البختري بوزن الجعفري، والخاء معجمة على ما في شرح القاموس (قاله نصر) .
[2] وفي نسخة اخرى: ابن الدغينة.(2/414)
بالمهاجرين في أرض الحبشة خبر كاذب بأنّ قريشا قد أسلموا، فرجع إلى مكة قوم منهم عثمان بن عفّان وزوجته وأبو حذيفة وامرأته وعبد الله بن عتبة بن غزوان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير وأخوه والمقداد بن عمرو وعبد الله بن مسعود وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم المؤمنين وسلمة بن هشام بن المغيرة وعمّار بن ياسر وبنو مظعون عبد الله وقدامة وعثمان وابنه السائب وخنيس بن حذافة وهشام بن العاص وعامر بن ربيعة وامرأته وعبد الله بن مخرمة من بني عامر بن لؤيّ وعبد الله بن سهل بن السكران بن عمرو وسعد بن خولة وأبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وعمرو بن أبي سرح، فوجدوا المسلمين بمكة على ما كانوا عليه مع قريش من الصبر على أذاهم، ودخلوا الى مكة بعضهم مختفيا وبعضهم بالجوار، فأقاموا إلى أن كانت الهجرة إلى المدينة بعد أن مات بعضهم بمكة.
ثم هلك أبو طالب وخديجة وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت المصيبة، وأقدم عليه سفهاء قريش بالاذاية والاستهزاء وإلقاء القاذورة [1] في مصلاه. فخرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام والنصرة والمعونة وجلس إلى عبد ياليل بن عمر بن عمير وأخويه مسعود وحبيب وهم يومئذ سادات ثقيف وأشرافهم، وكلمهم فأساءوا الردّ، ويئس منهم فأوصاهم بالكتمان فلم يقبلوا وأغروا به سفاءهم فاتبعوه حتى ألجئوه الى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة، فأوى إلى ظله حتى اطمأن ثم رفع طرفه إلى السماء يدعو: «اللَّهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهو اني على الناس أنت أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين أنت ربي إلى من تكلني إلى بغيض يتجهمني أو إلي عدوّ ملكته أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوّة إلّا بك» .
ولما انصرف من الطائف الى مكة بات بنخلة، وقام يصلّي من جوف الليل، فمرّ به نفر من الجنّ وسمعوا القرآن. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في جوار المطعم بن عدي بعد أن عرض ذلك على غيره من رؤساء قريش فاعتذروا بما قبله منهم. ثم قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسيّ فأسلم ودعا قومه فأسلم بعضهم ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له علامة للهداية فجعل في وجهه نورا ثم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: القاذورات.(2/415)
دعا له فنقله إلى سوطه وكان يعرف بذي النور.
وقال ابن حزم: ثم كان الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السموات، ولقي من لقي من الأنبياء، ورأى جنة المأوى وسدرة المنتهى في السماء السادسة، وفرضت الصلاة في تلك الليلة. وعند الطبري الإسراء وفرض الصلاة كان أوّل الوحي.
ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على وفود العرب في الموسم يأتيهم في منازلهم ليعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إلى نصره ويتلو عليهم القرآن، وقريش مع ذلك يتعرضونهم بالمقابح إن قبلوا منه وأكثرهم في ذلك أبو لهب. وكان من الذين عرض عليهم في الموسم بنو عامر بن صعصعة من مضر وبنو شيبان وبنو حنيفة من ربيعة وكندة من قحطان وكلب من قضاعة وغيرهم من قبائل العرب، فكان منهم من يحسن الاستماع والعذر، ومنهم من يعرض ويصرح بالإذاية، ومنهم من يشترط الملك الّذي ليس هو من سبيله فيردّ صلى الله عليه وسلم الأمر إلى الله. ولم يكن فيهم أقبح ردّا من بني حنيفة. وقد ذخر الله الخير في ذلك كله للأنصار، فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الأوس، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يبعد ولم يجب، وانصرف الى المدينة فقتل في بعض خروبهم وذلك قبل بعاث. ثم قدم بمكّة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال إياس بن معاذ منهم وكان شابا حدثا: هذا والله خير مما جئنا له، فانتهره أبو الحيسر فسكت. ثم انصرفوا إلى بلادهم ولم يتم لهم الحلف ومات إياس فيقال: إنه مات مسلما.
ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك [1] ابن النجار، وعوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمر وبن عامر بن زيد بن مالك بن غضبة بن جشم بن الخزرج، وطبقة بن عامر بن حيدرة بن عمر وبن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد ابن مراد بن يزيد بن جشم، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مسلمة.(2/416)
نعمان بن سلمة [1] بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة. وفدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وكان من صنع الله لهم أنّ اليهود جيرانهم كانوا يقولون إنّ نبيا يبعث وقد أظل زمانه، فقال بعضهم لبعض هذا والله النبيّ الّذي تحدّثكم به اليهود فلا يسبقونا إليه. فآمنوا وأسلموا وقالوا إنّا قد قدّمنا فيهم [2] حروبا فنتصرف وندعوهم إلى ما دعوتنا إليه فعسى الله أن يجمع كلمتهم بك فلا يكون أحد أعز منك، فانصرفوا إلى المدينة ودعوا إلى السلام حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام القابل قدم مكة من الأنصار اثنا عشر رجلا منهم خمسة من الستة الّذي ذكرناهم، ما عدا جابر بن عبد الله فإنه لم يحضرها، وسبعة من غيرهم وهم: معاذ بن الحرث أخو عوف بن الحرث المذكور وقيل إنه ابن عفراء، وذكوان بن عبد قيس بن خالدة، وخالد بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهد بن ثعلبة بن صرمة بن أصرم بن عمرو بن عبادة بن عصيبة من بني حبيب، والعبّاس ابن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو ابن عوف هؤلاء عشرة من الخزرج. ومن الأوس: أبو الهيثم مالك بن التيهان وهو من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحرث بن الخزرج بن عمر ابن مالك بن أوس، وعويم بن ساعدة من بني عمر وبن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة. فبايع هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أن لا يشركوا باللَّه شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يفتروا الكذب. فلما حان انصرافهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يدعوهم إلى الإسلام ويعلم من أسلم منهم القرآن والشرائع، فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة، وكان مصعب يؤمهم وأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار. وكان سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة ابنا الخالة، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير [3] إلى أسعد بن زرارة وكان جارا لبني عبد الأشهل، فأنكروا عليه فهداهما الله إلى السلام، وأسلم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن سنان.
[2] وفي النسخة ثانية: بينهم.
[3] وفي النسخة ثانية: الحصين.(2/417)
بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال والنساء. ولم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها المسلمون رجال ونساء حاشا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، بطون من الأوس وكانوا في عوالي المدينة، فأسلم منهم قوم سيدهم أبو قيس صيفي بن الأسلت الشاعر فوقف بهم عن الإسلام حتى كان الخندق فأسلموا كلهم
. العقبة الثانية
ثم رجع مصعب المذكور ابن عمير إلى مكة وخرج معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار للقاء النبي صلى الله عليه وسلم في جملة قوم منهم لم يسلموا بعد، فوافوا مكة وواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، ووافوا ليلة ميعادهم إلى العقبة متسللين عن رحالهم سرّا ممن حضر من كفّار قومهم، وحضر معهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر وأسلم تلك الليلة، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم وأن يرحل إليهم هو وأصحابه. وحضر العبّاس بن عبد المطّلب، وكان على دين قومه بعد، وإنما توثق للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في الإخلاص والتوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أوّل من بايع. وكانت عدّة الذين بايعوا تلك الليلة ثلاثا وسبعين رجلا وامرأتين، واختار منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وقال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي. فمن الخزرج من أهل العقبة الأولى: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة ابن الصامت. ومن غيرهم سعد بن الربيع بن عمر بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس، ومالك بن مالك، وثعلبة بن كعب بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عديّ بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام [1] أبو جابر، وسعد بن عبادة بن دليم [2] بن حارثة بن لودان بن عبد، ودّ بن يزيد بن ثعلبة بن الخزرج بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حزام.
[2] وفي نسخة ثانية: ديلم.(2/418)
ساعدة. وثلاثة من الأوس وهم: أسيد بن حضر بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة بن الحارث [1] بن مالك بن الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. وقد قدّم أبو الهيثم بن التيهان مكان رفاعة هذا والله أعلم.
ولما تمت هذه البيعة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى رحالهم فرجعوا، ونمي الخبر إلى قريش فغدت الجلة [2] منهم على الأنصار في رحالهم فعاتبوهم، فأنكروا ذلك وحلفوا لهم، وقال لهم عبد الله بن أبي بن سلول ما كان قومي ليتفقوا على مثل هذا وأنا لا أعلمه، فانصرفوا عنه وتفرّق الناس من منى، وعلمت قريش صحة الخبر فخرجوا في طلبهم، فأدركوا سعد بن عبادة فجاءوا به إلى مكة يضربونه ويجرّونه بشعره حتى نادى بجبير بن مطعم والحرث بن أميه وكان يجيرهما ببلده فخلصاه مما كان فيه. وقد كانت قريش قبل ذلك سمعوا صائحا يصيح ليلا على جبل أبي قبيس:
فأن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف
فقال أبو سفيان السعدان سعد بكر وسعد هذيم فلما كان في الليلة القابلة سمعوه يقول:
أيا سعد: سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين [3] الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فإنّ ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات فارف
فقال هما والله سعد بن عبادة وسعد بن معاذ.
ولما فشا الإسلام بالمدينة وطفق أهلها يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، تعاقدت على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم فأصابهم من ذلك جهد شديد. ثم نزل قوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ 8: 39» . فلما تمت بيعة الأنصار على ما وصفناه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ممن هو بمكّة بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا وأوّل من خرج أبو سلمة بن عبد الأسد ونزل في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الحرث.
[2] وفي نسخة ثانية: الخلّة.
[3] وفي نسخة ثانية: الخزرجيّ.(2/419)
قبا، ثم هاجر عامر بن ربيعة حليف بني عدي [1] بامرأته ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم، ثم هاجر جميع بني جحش من بني أسد بن خزيمة ونزلوا بقبا على عكاشة بن محصن وجماعة من بني أسد حلفاء بني أمية كانت فيهم زينب بنت جحش أم المؤمنين وأختاها حمنة وأم حبيبة، ثم هاجر عمر بن الخطّاب وعياش [2] بن أبي ربيعة في عشرين راكبا فنزلوا في العوالي في بني أمية بن زيد وكان يصلّي بهم سالم مولى أبي حذيفة. وجاء أبو جهل بن هشام فخادع عياش بن أبي ربيعة وردّه إلى مكة فحبسوه حتى تخلص بعد حين ورجع. وهاجر مع عمر أخوه وسعيد ابن عمه زيد وصهره على بنته حفصة أم المؤمنين خنيس [3] بن حذافة السهمي وجماعة من حلفاء بني عدي، نزلوا بقبا على رفاعة بن عبد المنذر من بني عوف بن عمرو.
ثم هاجر طلحة بن عبيد الله فنزل هو وصهيب بن سنان على حبيب بن أساف في بني الحرث بن الخزرج بالسلم، وقيل بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة. ثم هاجر حمزة بن عبد المطّلب ومعه زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحليفه أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي فنزلوا في بني عمر وبن عوف بقبا على كلثوم بن الهدم، ونزل جماعة من بني المطلب بن عبد مناف فيهم مسطح بن اثاثة ومعه خباب بن الأرت مولى عتبة بن غزوان في بني المسجلان بقبا، ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع في بني الحرث بن الخزرج، ونزل الزبير بن العوّام وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على المنذر بن محمد بن عتبة بن أحيحة الجلاح في دار بني جحجبا، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ في بني عبد الأشهل، ونزل أبو حذيفة بن عتبة ومولاه سالم وعتبة ابن غزوان المازني على عباد بن بشر من بني عبد الأشهل، ولم يكن سالم عتيق أبي حذيفة وإنّما أعتقته امرأة من الأوس كانت زوجا لأبي حذيفة اسمها بثينة بنت معاذ فتبناه ونسب اليه. ونزل عثمان بن عفان في بني النجّار على أوس أخي حسّان بن ثابت. ولم يبق أحد من المسلمين بمكّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أبو بكر وعلي بن أبي طالب فإنّهما أقاما بأمره وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عامر بن ربيعة بن عدي.
[2] وفي نسخة ثانية: عبّاس.
[3] وفي نسخة ثانية: جحش.(2/420)
الهجرة
ولما علمت قريش أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأنصار من غيرهم وأنه مجمع على اللحاق بهم وأنّ أصحابه من المهاجرين سبقوه إليهم تشاوروا ما يصنعون في أمره، واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة: عتبة وشيبة وأبو سفيان من بني أمية وطعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر من بني نوفل والنضر بن الحارث من بني عبد الدار وأبو جهل من بني مخزوم ونبيه ومنبه ابنا الحجاج من بني سهم وأمية بن خلف من بني جمح، ومعهم من لا يعدّ من قريش. فتشاوروا في حبسه أو إخراجه عنهم، ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم.
واستعدوا لذلك من ليلتهم وجاء الوحي بذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأى أرصدهم على باب منزله أمر علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ويتوشح ببرده، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فطمس الله تعالى على أبصارهم ووضع على رءوسهم ترابا وأقاموا طول ليلهم، فلما أصبحوا خرج إليهم عليّ فعلموا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نجا، وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصدّيق، واستأجر عبد الله بن أريقط الدولي من بني بكر بن عبد مناف ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن الطريق العظمى، وكان كافرا وحليفا للعاص بن وائل، لكنهما وثقا بامره [1] وكان دليلا بالطرق.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر ليلا، وأتيا الغار الّذي في جبل ثور بأسفل مكّة فدخلا فيه، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وراعي غنمه يريح غنمه عليهما ليلا ليأخذ حاجتهما من لبنها، وأسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام. وتقفّى [2] عامرا بالغنم أثر عبد الله [3] ، ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال هنا انقطع الأثر! وإذا بنسج العنكبوت على فم الغار فاطمأنوا إلى ذلك ورجعوا، وجعلوا مائة ناقة لمن ردّهما عليهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بأمانته.
[2] وفي نسخة ثانية: نقض.
[3] وفي النسخة الباريسية: اثر عبد الله والماء.(2/421)
ثم أتاهما عبد الله بن أريقط بعد ثلاث براحلتهما [1] فركبا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة، وأتتهما أسماء بسفرة لهما وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت ذات النطاقين. وحمل أبو بكر جميع ماله نحو ستة آلاف درهم، ومرّوا بسراقة بن مالك بن جعشم فاتبعهم ليردّهم، ولمّا رأوه دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض، فنادى بالأمان وأن يقفوا له. وطلب من النبي أن يكتب له كتابا فكتبه أبو بكر بأمره، وسلك الدليل من أسفل مكّة على الساحل أسفل من عسفان [2] وأمج وأجاز قديدا الى العرج ثم إلى قبا من عوالي المدينة.
ووردوها قريبا من الزوال يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأوّل، وخرج الأنصار يتلقونه وقد كانوا ينتظرونه حتى إذا [3] قلصت الظلال رجعوا إلى بيوتهم.
فتلقوه مع أبي بكر في ظلّ نخلة، ونزل عليه السلام بقبا على سعد بن خيثمة، وقيل على كلثوم بن الهدم [4] ، ونزل أبو بكر بالسخ في بني الحرث بن خزرج على خبيب بن أسد، وقيل على خارجة بن زيد. ولحق بهم عليّ رضي الله عنه من مكّة بعد أن ردّ الودائع للناس التي كانت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل معه بقبا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك أياما ثم نهض لما أمر الله وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلّاها في المسجد هنالك ورغب إليه رجال بني سالم أن يقيم عندهم، وتبادروا إلى خطام ناقته اغتناما لبركته. فقال عليه السلام: خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة، ثم مشى والأنصار حواليه إلى أنّ مرّ بدار بني بياضة، فتبادر إليه رجالهم يبتدرون خطام الناقة، فقال: دعوها فإنّها مأمورة. ثم مرّ بدار بني ساعدة فتلقّاه رجال وفيهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ودعوه كذلك وقال لهم مثل ما قال للآخرين. ثم إلى دار بني حارثة [5] بن الخزرج فتلقّاه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة. ثم مرّ ببني عديّ بن النجار أخوال عبد المطلب ففعلوا وقال لهم مثل ذلك، إلى أن أتي دار بني مالك بن النجار فبركت ناقته على باب مسجده اليوم وهو يومئذ لغلامين منهم في حجر معاذ بن عفراء اسمهما سهل وسهيل وفيه خرب ونخل وقبور للمشركين ومربد، ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: براحلتيهما.
[2] وفي النسخة الباريسية: من غسّان.
[3] وفي نسخة ثانية: الى ان.
[4] وفي النسخة الباريسية: ابن المنذر.
[5] وفي النسخة الباريسية: بني الحرث.(2/422)
بركت الناقة وبقي على ظهرها ولم ينزل فقامت ومشت غير بعيد ولم يثنها، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مكانها الأوّل فبركت واستقرّت ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها. وحمل أبو أيوب رحله إلى داره فنزل عليه وسأل عن المربد وأراد أن يتخذه مسجدا، فاشتراه من بني النجّار بعد أن وهبوه إياه فأبى من قبوله، ثم أمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطعت، وبني المسجد باللبن وجعل عضادتيه الحجارة وسواريه جذوع النخل وسقفه الجريد، وعمل فيه المسلمون حسبة [1] للَّه عزّ وجلّ.
ثم وداع اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة شرط فيه لهم وعليهم.
ثم مات أسعد بن زرارة وكان نقيبا لبني النجّار فطلبوا إقامة نقيب مكانه، فقال أنا نقيبكم، ولم يخص بها منهم آخر دون آخر فكانت من مناقبهم. ثم لما رجع عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكانه فخرج ومعه عائشة أخته وأمها أم رومان ومعهم طلحة بن عبيد الله [2] فقدموا المدينة وتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر وبنى بها في منزل أبي بكر بالسنح. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة فحملاهنّ [3] إليه من مكة، وبلغ الخبر بموت أبي أحيحة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل من مشيخة قريش. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة ومعاذ بن جبل، وبين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وبين عمر بن الخطّاب وعثمان بن مالك من بني سالم [4] ، وبين أبي عبيدة بن الجرّاح وسعد بن معاذ، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين عثمان بن عفّان وأوس بن ثابت أخي حسان، وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر بن وقش من بني عبد الأشهل، وبين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان العنسيّ حليف بني عبد الأشهل وقيل بل ثابت بن قيس بن شمّاس، وبين أبي ذر الغفاريّ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حسنة.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[3] الأصح ان يقول جملهن.
[4] وفي نسخة اخرى: بني سهم.(2/423)
والمنذر بن عمرو بن بني ساعدة، وبين حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزّى، وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف، وبين سلمان الفارسيّ وأبي الدرداء، وعمير بن بلتعة من بني الحرث بن الخزرج [1] وبين بلال بن حمامة وأبي رويحة الخثعميّ [2] .
ثم فرضت الزكاة ويقال وزيد في صلاة الحاضر [3] ركعتين فصارت أربعا بعد أن كانت ركعتين سفرا وحضرا. ثم أسلم عبد الله بن سلام وكفر جمهور اليهود، وظهر قوم من الأوس والخزرج منافقون يظهرون الإسلام مراعاة لقومهم من الأنصار ويصرّون الكفر، وكان رءوسهم من الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول والجدّ بن قيس، ومن الأوس الحرث بن سهيل بن الصامت وعبّاد بن حنيف ومربع بن قيظي وأخوه أوس من أهل مسجد الضرار. وكان قوم من اليهود أيضا تعوذوا بالإسلام وهم يبطنون الكفر منهم: سعد بن حنيس [4] وزيد بن اللصيت [5] ورافع بن خزيمة ورفاعة بن زيد ابن التابوت وكنانة بن خبورا [6] .
الغزوات
الأبواء:
ولما كان شهر صفر بعد مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة خرج في مائتين من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، فبلغ ودّان والأبواء ولم يلقهم. واعترضه مخشى بن عمر وسيد بني ضمرة بن عبد منات بن كنانة وسأله موادعة قومه فعقد له، ورجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وهي أوّل غزاة غزاها بنفسه، ويسمى بالأبواء وبودّان المكانان اللذان انتهى إليهما، وهما متقاربان بنحو ستة أميال، وكان صاحب اللواء فيها حمزة بن عبد المطّلب.
بواط:
ثم بلغه أن عير قريش نحو ألفين وخمسمائة فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش ذاهبة إلى مكة، فخرج في ربيع الآخر لاعتراضها واستعمل على المدينة
__________
[1] في هامش الأصل سقط أبو عمير أهـ قاله نصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: زويغة الخثعميّ.
[3] وفي النسخة الباريسية: في صلاة الحضر.
[4] وفي النسخة ثانية: خنيس.
[5] وفي نسخة ثانية: زيد بن اللطيت.
[6] وفي نسخة ثانية: كنانة بن حيورتا.(2/424)
السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الطبري: سعد بن معاذ فانتهى إلى بواط ولم يلقهم ورجع إلى المدينة.
غزوة العشيرة: ثم خرج في جمادى الأولى غازيا قريشا، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد فسلك عن جانب من الطريق إلى أن لقي الطريق بصخيرات اليمام إلى العشيرة من بطن ينبع، فأقام هنالك بقية جمادى الأولى وليلة من جمادى الثانية ووداع بني مدلج، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
بدر الأولى [1] وأقام بعد العشيرة نحو عشر ليلا ثم أغار كرز بن جابر الفهريّ على سرح المدينة، فخرج في طلبه حتى بلغ ناحية بدر، وفاته كرز فرجع الى المدينة.
البعوث:
وفي هذه الغزوات كلها غزا بنفسه وبعث فيما بينها بعوثا نذكرها (فمنها) : بعث حمزة بعد الأبواء، بعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف البحر فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهنيّ [2] ولم يكن قتال. ومنها بعث عبيدة بن الحرث بن المطلب في ستين راكبا وثمانين من المهاجرين فبلغ ثنية المرار [3] ولقي بها جمعا عظيما من قريش كان عليهم عكرمة بن أبي جهل وقيل مكرز بن حفص بن الأحنف ولم يكن بينهم قتال. وكان مع الكفّار يومئذ من المسلمين المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان، خرجا مع الكفار ليجد السبيل إلى اللحاق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فهربا إلى المسلمين وجاءا معهم.
وكان بعث حمزة وعبيدة متقاربين، واختلف أيهما كان قبل إلا أنهما أوّل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ إنّ بعث حمزة كان قبل ودّان في شوال لسبعة أشهر من الهجرة. ومنها بعث سعد [4] بن أبي وقّاص في ثمانية رهط من المهاجرين يطلب كرز بن جابر حين أغار على سرح المدينة فبلغ المرار ورجع.
ومنها بعث عبد الله بن جحش إثر مرجعه من بدر الأولى في شهر رجب بعثه بثمانية من المهاجرين وهم أبو حذيفة بن عتبة وعكاشة بن محصن بن أسد بن خزيمة وعتبة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: العشيرة بدر الأولى.
[2] وفي نسخة ثانية: عدي بن صجر الجهنيّ.
[3] وفي النسخة الباريسية: ثنية المرة.
[4] وفي النسخة الباريسية: سعيد.(2/425)
بن غزوان بن مازن بن منصور وسعد بن أبي وقاص وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي وواقد بن عبد الله بن زيد مناة بن تميم وخالد بن البكير بن سعد بن ليث وسهيل بن بيضا [1] بن فهر بن مالك، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ولا يكره أحدا من أصحابه، فلما قرأ الكتاب بعد يومين وجد فيه أن تمضي حتى تنزل نخلة بين مكّة والطائف وترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم، فأخبر أصحابه وقال: حتى ننزل النخلة بين مكة والطائف ومن أحب الشهادة فلينهض ولا أستكره أحدا. فمضوا كلهم وضل لسعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان في بعض الطريق بعير لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ونفر الباقون إلى نخلة، فمرّت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرميّ وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولاهم وذلك آخر يوم من رجب، فتشاور المسلمون وتحرج بعضهم الشهر الحرام ثم اتفقوا واغتنموا الفرصة فيهم، فرمى واقد بن عبد الله [2] عمرو بن الحضرميّ فقتله وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت نوفل، وقدموا بالعير والأسيرين وقد أخرجوا الخمس فعزلوه. فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهم ذلك في الشهر الحرام، فسقط في أيديهم ثم أنزل الله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ 2: 217» الآية إلى قوله «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا 2: 217» .
فسرّى عنهم وقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم الخمس وقسم الغنيمة وقبل الفداء في الأسيرين، وأسلم الحكم بن كيسان منهما، ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة.
وهذه أوّل غنيمة غنمت في الإسلام وأوّل غنيمة خمست في الإسلام وقتل عمرو بن الحضرميّ هو الّذي هيج [3] وقعة بدر الثانية.
صرف القبلة: ثم صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة، خطب بذلك على المنبر وسمعه بعض الأنصار فقام فصلّى ركعتين إلى الكعبة، قاله ابن حزم. وقيل على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل ستة عشر، ولم يقل غير ذلك.
غزوة بدر الثانية:
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى رمضان من السنة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن مضاض.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله بن واقد.
[3] وفي نسخة ثانية: هاج.(2/426)
الثانية، ثم بلغه أنّ عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكّة معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش عميدهم أبو سفيان ومعه عمرو بن العاصي ومخرمة بن نوفل، فندب عليه السلام المسلمين إلى هذه العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج، ولم يحتفل في الحشد لأنه لم يظن قتالا، واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم فنفروا وأرعبوا إلّا يسيرا منهم أبو لهب. وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان واستخلف على الصلاة عمرو بن أمّ مكتوم وردّ أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى إلى مصعب بن عمير، ودفع إلى عليّ راية، وإلى رجل من الأنصار أخرى يقال كانتا سوداوين. وكان مع أصحابه صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعون بعيرا يعتقبونها فقط. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة من بني النجّار، وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ثم انتهوا إلى صخيرات يمام [1] ثم إلي بئر الروحاء، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء.
وبعث عليه السلام قبلها بسبس بن عمرو الجهنيّ حليف بني ساعدة وعديّ بن أبي الزغباء [2] الجهنيّ حليف بني النجّار إلى بدر يتجسّسون أخبار أبي سفيان وغيره. ثم تنكّب عن الصفراء يمينا وخرج على وادي دقران، فبلغه خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه، فتكلّم المهاجرون وأحسنوا، وهو يريد ما يقوله الأنصار وفهموا ذلك. فتكلّم سعد بن معاذ وكان فيما قال: «لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة الله» فسرّ بذلك، وقال: «سيروا وأبشروا فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين» . ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر وبعث عليّا والزبير وسعدا في نفر يلتمسون الخبر فأصابوا غلامين لقريش، فأتوا بهما وهو عليه السلام قائم يصليّ، وقالوا:
نحن سقاة قريش فكذّبوهما كراهية في الخبر ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلّة المؤنة، فجعلوا يضربونهما فيقولان نحن من العير. فسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم، وقال للغلامين: أخبر اني أين قريش. فأخبراه أنّهم وراء الكثيب [3]
__________
[1] وفي نسخة اخرى: تمام.
[2] وفي النسخة الباريسية: الدغماء.
[3] الكثيف: التل من الرمل وفي النسخة الباريسية الكثيف وهو الصفيح من الحديد (قاموس) .(2/427)
وأنّهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا. فقال عليه السلام: القوم بين التسعمائة والألف. وقد كان بسبس وعديّ الجهنيّان مضيا يتجسّسان ولا خبر حتى نزلا وأناخا قرب الماء واستقيا في شنّ لهما ومجدي بن عمرو بن جهينة بقربهما، فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها العير تأتي غدا أو بعد غد وأعمل لهم وأقضيك الّذي لك وجاءت إلى مجدي بن عمرو فصدقها، فرجع بسبب وعديّ بالخبر. وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسّس الخبر فقال لمجدي هل أحسست أحدا فقال راكبين أناخا يميلان لهذا التل فاستقيا الماء، ونهضا فأتى أبو سفيان مناخهما وفتت من أبعار رواحلهما، فقال هذه والله علائف يثرب فرجع سريعا وقد حذر وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا وأوصى إلى قريش بأنّا قد نجونا بالعير فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ونقيم به ثلاثا وتهابنا العرب أبدا، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة وكان حليفهم ومطاعا فيهم، وقال: إنّما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت فارجعوا. وكان بنو عديّ لم ينفروا مع القوم، فلم يشهد بدرا من قريش عدويّ ولا زهريّ.
وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا إلى ماء بدر وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم وأصاب مما يلي المسلمين دهس [1] الوادي، وأعانهم على السير، فنزل عليه السلام على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: «آللَّه أنزلك بهذا المنزل فلا نتحوّل عنه أم قصدت الحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: لا بل هو الرأي والحرب. فقال يا رسول الله ليس هذا بمنزل، وإنّما نأتي أدنى ماء من القوم فنزله ونبني عليه حوضا فنملؤه ونغوّر القلب كلها فنكون قد منعناهم الماء. فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بنوا له عريشا يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه [2] من ربه النصر، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا، ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ يحزر [3] له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فيهم فارسان الزبير والمقداد، فحزرهم وانصرف وخبّرهم الخبر، ورام حكيم بن حزام
__________
[1] الدهس: المكان السهل ليس برمل ولا تراب (قاموس) .
[2] وفي النسخة الباريسية: يكون فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واثقا من ربه النصر.
[3] وفي نسخة اخرى: يحذر.(2/428)
وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ولا يكون الحرب، فأبى أبو جهل وساعده المشركون، وتواقفت الفئتان.
وعدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر وحده، وطفق يدعو ويلح وأبو بكر يقاوله ويقول في دعائه اللَّهمّ أن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني، وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه وأخفق [1] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتبه فقال أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله. ثم خرج يحرّض الناس، ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول: شاهت الوجوه. ثم تزاحفوا فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز فخرج إليهم عبيدة بن الحرث وحمزة بن عبد المطّلب وعلي بن أبي طالب فقتل حمزة وعلي شيبة والوليد وضرب عتبة عبيدة فقطع رجله فمات وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه. وقد كان برز إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلّا قومهم، وجال القوم جولة فهزم المشركون وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا فمن مشاهيرهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان بن حرب وابنا سعيد بن العاص عبيدة والعاص، والحرث بن عامر بن نوفل وابن عمه طعيمة بن عديّ وزمعة بن الأسود وابنه الحرث وأخوه عقيل بن الأسود وابن عمه أبو البختري بن هشام ونوفل بن خويلد بن أسد وأبو جهل بن هشام، اشترك فيه معاذ ومعوذ ابنا عفراء ووجده عبد الله بن مسعود وبه رمق فحزّ رأسه، وأخوه العاص بن هشام وابن عمهما مسعود بن أمية وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وابن عمه أبو قيس بن الفاكه، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاصي بن منبه وأميه بن خلف وابنه عليّ وعمير بن عثمان عمّ طلحة.
وأسر العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب والسائب بن عبد يزيد من بني المطلب وعمرو بن أبي سفيان بن حرب وأبو العاص بن الربيع وخالد بن أسيد بن أبي العيص وعديّ بن الخيار من بني نوفل وعثمان بن عبد شمس ابن عمّ عتبة بن غزوان وأبو عزيز أخو مصعب بن عمير وخالد بن هشام ابن المغيرة وابن عمه رفاعة [2] بن أبي رفاعة وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة والوليد
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وطفق.
[2] وفي النسخة الباريسية: وابن عمه حمير.(2/429)
بن الوليد أخو خالد وعبد الله وعمرو ابنا أبيّ بن خلف وسهيل بن عمرو في آخرين مذكورين في كتب السير.
واستشهد من المسلمين، من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب وعمير بن أبي وقاص وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة وصفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهر ومهجع مولى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أصابه سهم فقتله، وعاقل بن البكير الليثي حليف بني عديّ من الأنصار. ثم من الأوس:
سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر. ومن الخزرج: يزيد بن الحارث [1] بن الخزرج وعمير بن الحمام من بني سلمة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على الجهاد ويرغب في الجنة وفي يده تمرات يأكلهن فقال: بخ بخ أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم رمى بهنّ وقاتل حتى قتل، ورافع بن المعلّى من بني حبيب بن عبد حارثة وحارثة بن سراقة من بني النجّار وعوف ومعوذ ابنا عفراء.
ثم انجلت الحرب وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فسحبوا إلى القليب وطم عليهم التراب، وجعل على النفل [2] عبد الله بن كعب بن عمرو بن مبدول بن عمر بن غنم بن مازن بن النجّار، ثم انصرف إلى المدينة فلما نزل الصفراء قسم الغنائم كما أمر الله، وضرب عنق النضر بن الحرث بن كلدة من بني عبد الدار، ثم نزل عرق الظبية فضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة وكان في الأسارى ومرّ إلى المدينة فدخلها لثمان بقين من رمضان.
غزوة الكدر:
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه إلى المدينة اجتماع غطفان فخرج يريد بني سليم بعد سبع ليال من منصرفه، واستخلف على المدينة سبّاع بن عرفطة الغفاريّ أو ابن أمّ مكتوم، فبلغ ماء يقال له الكدر وأقام عليه ثلاثة أيام ثم انصرف ولم يلق حربا، وقيل إنه أصاب من نعمهم ورجع بالغنيمة، وإنه بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية فنالوا منهم وانصرفوا بالغنيمة. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة، وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أسارى بدر.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يزيد من الحرث من بني الحرث بن الخزرج.
[2] وفي النسخة الباريسية: البقل.(2/430)
غزوة السويق:
ثم إنّ أبا سفيان لما انصرف من بدر نذر أن يغزو المدينة فخرج في مائتي راكب حتى أتى بني النضير ليلا، فتوارى عنه جيّ بن أخطب ولقيه سلام بن مشكم وقراه [1] وأعلمه بخبر الناس، ثم رجع ومرّ بأطراف المدينة فحرق نخلا وقتل رجلين في حرث لهما، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، واستعمل على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وبلغ الكدر [2] وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا السويق من أزوادهم ليتخففوا، فأخذها المسلمون فسميت لذلك غزوة السويق.
وكانت في ذي الحجة بعد بدر بشهرين.
ذي أمرّ:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر المحرم غازيا غطفان واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فأقام بنجد صفر وانصرف ولم يلق حربا.
نجران:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ربيع الأوّل يريد قريشا واستخلف ابن أمّ مكتوم فبلغ نجران معدنا في الحجاز ولم يلق حربا. وأقام هنالك إلى جمادى الثانية من السنة الثالثة وانصرف إلى المدينة.
قتل كعب بن الأشرف:
وكان كعب بن الأشرف رجلا من طيِّئ وأمّه من يهود بني النضير، ولما أصيب أصحاب بدر، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة، جعل يقول: ويلكم أحق هذا؟
وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، وإن كان محمد أصاب هؤلاء فبطن الأرض خير من ظهرها. ثم قدم مكّة ونزل على المطّلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية، فجعل يحرّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب، ثم رجع إلى المدينة فشبب بعاتكة ثم شبب بنساء المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يقتل كعب بن الأشرف، فانتدب لذلك محمد بن مسلمة وملكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة من بني عبد الأشهل أخو كعب من الرضاعة وعبّاد بن بشر بن وقش والحرث بن بشر بن معاذ وأبو عبس بن جبر من بني حارثة، وتقدّم إليه ملكان بن سلامة وأظهر له انحرافا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إذن منه، وشكا إليه ضيق الحال ورام أن يبيعه وأصحابه طعاما ويرهنون سلاحهم. فأجاب إلى ذلك ورجع إلى أصحابه،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: سلام بن مسلم ونهاه.
[2] وفي النسخة ثانية: الكرز.(2/431)
فخرجوا وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد [1] في ليلة قمراء، وأتوا كعبا فخرج إليهم من حصنه ومشوا غير بعيد ثم وضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مسلمة معولا كان معه في ثنته [2] فقتله. وصاح عدوّ الله صيحة شديدة انذعر لها أهل الحصون التي حواليه، وأوقدوا النيران، ونجا القوم وقد جرح منهم الحرث بن أوس ببعض سيوفهم فنزفه الدم وتأخر، ثم وافاهم بجرّة العريض آخر الليل، وأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وأخبروه وتفل على جرح الحرث فبرأ. وأذن للمسلمين في قتل اليهود لما بلغه أنهم خافوا من هذه الفعلة، وأسلم حينئذ حويصة بن مسعود، وقد كان أسلم قبله أخوه محيصة بسبب قتل بعضهم.
غزوة بني قينقاع:
وكان بنو قينقاع لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقف بسوق بني قينقاع في بعض الأيام فوعظهم وذكرهم ما يعرفون من أمره في كتابهم، وحذّرهم ما أصاب قريشا من البطشة، فأساءوا الردّ وقالوا: لا يغرنك انك لقيت قوما لا يعرفون الحرب فأصبت منهم والله لئن جرّبتنا لتعلمنّ أنّا نحن الناس.
فأنزل الله تعالى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ من قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ 8: 58» . وقيل بل قتل مسلم يهوديا بسوقهم في حق، فثاروا على المسلمين ونقضوا العهد ونزلت الآية. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، وقيل أبا لبابة، وكانوا في طرف المدينة في سبعمائة مقاتل منهم ثلاثمائة دارع، ولم يكن لهم زرع ولا نخل إنما كانوا تجار أو صاغة يعملون بأموالهم، وهم قوم عبد الله بن سلام فحصرهم عليه السلام خمس عشرة ليلة لا يكلم أحدا منهم حتى نزلوا على حكمه فكتفهم ليقتلوا، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول وألح في الرغبة [3] حتى حقن له رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم، ثم أمر بإجلائهم وأخذ ما كان لهم من سلاح وضياع [4] ، وأمر عبادة بن الصامت فمضى بهم إلى ظاهر ديارهم ولحقوا بخيبر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس من الغنائم وهو أول خمس
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الفرقد وفي النسخة الباريسية: العرقد.
[2] الثنّة: شعرات مؤخر رجل الفرس (قاموس) والأصح ان يقول ثنيته: اي اسنان مقدّم الفم. وفي النسخة الباريسية: في قبته.
[3] وفي نسخة اخرى: الرغنة: اي الطمع.
[4] وفي النسخة الباريسية: صياغة.(2/432)
أخذه، ثم انصرف إلى المدينة وحضر الأضحى فصلى بالناس في الصحراء وذبح بيده شاتين ويقال أنّهما أوّل أضحيته صلى الله عليه وسلم.
سرية زيد بن حارثة إلى قردة:
وكانت قريش من بعد بدر قد تخوّفوا من اعتراض المسلمين عيرهم في طريق الشام وصاروا يسلكون طريق العراق، وخرج منهم تجّار فيهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية واستجاروا بفرات بن حيان من بكر بن وائل فخرج بهم في الشتاء وسلك بهم على طريق العراق، وانتهى خبر العير إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما فيها من المال وآنية الفضة، فبعث زيد بن حارثة في سريّة فاعترضهم وظفر بالعير وأتى بفرات بن حيّان العجليّ أسيرا فتعوذ بالإسلام وأسلم.
وكان خمس هذه الغنيمة عشرين ألفا.
قتل ابن أبي الحقيق:
كان سلام بن أبي الحقيق هذا من يهود خيبر وكنيته أبو رافع، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحزب عليهم الأحزاب، مثلا أو قريبا من كعب بن الأشرف، وكان الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحلين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه والنيل من أعدائه، لا يفعل أحد القبيلتين شيئا من ذلك إلّا فعل الآخرون مثله. وكان الأوس قد قتلوا كعب بن الأشرف كما ذكرناه، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل ابن أبي الحقيق نظير ابن الأشرف في الكفر والعداوة، فأذن لهم.
فخرج إليهم من الخزج ثم من بني سلمة [1] ثمانية نفر منهم: عبد الله بن عقيل ومسعر بن سنان وأبو قتادة والحرث بن ربعي الخزاعي من حلفائهم في آخرين، وأمر عليهم عبد الله بن عقيل ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، وخرجوا في منتصف جمادى الآخرة من سنة ثلاث، فقدموا خيبر، وأتوا دار ابن أبي الحقيق في علية له بعد أن انصرف عنه سمره ونام، وقد أغلقوا الأبواب من حيث أفضوا كلها عليهم، ونادوه ليعرفوا مكانه بصوته، ثم تعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه، وخرجوا من القصر وأقاموا ظاهره حتى قام الناعي على سور القصر فاستيقنوا موته، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر. وكان أحدهم قد سقط من درج العلية فأصابه كسر في ساقه فمسح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرأ
[2] .
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من بني ساعدة سلمة.
[2] وفي نسخة ثانية: فبرئت.(2/433)
غزوة أحد
وكانت قريش بعد واقعة بدر قد توامروا [1] وطلبوا من أصحاب العير أن يعينوهم بالمال ليتجهزوا به لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعانوهم، وخرجت قريش بأحابيشها وحلفائها وذلك في شوّال من سنة ثلاث، واحتملوا الظعن التماسا للحفيظة وأن لا يفرّوا، وأقبلوا حتى نزلوا ذا الحليفة قرب أحد ببطن السبخة مقابل المدينة على شفير واد هنالك، وذلك في رابع شوّال. وكانوا في ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس وقائدهم أبو سفيان ومعهم خمس عشرة امرأة بالدفوف يبكين قتلى بدر.
وأشار صلى الله عليه وسلم على أصحابه بأن يتحصنوا بالمدينة ولا يخرجوا وإن جاءوا قاتلوهم على أفواه الأزقة، وأقر [2] ذلك على رأي عبد الله بن أبي بن سلول، وألحّ قوم من فضلاء المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة فلبس لامته وخرج، وقدم أولئك الذين ألحّوا عليه وقالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد. فقال: ما ينبغي لبني إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل. وخرج في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بقية المسلمين بالمدينة. فلما سار بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس مغاضبا لمخالفة رأيه في المقام، وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّة بني حارثة ومرّ بين الحوائط وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به حتى نزل الشعب من أحد مستندا إلى الجبل، وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين وتهيأ للقتال في سبعمائة فيهم خمسون فارسا وخمسون راميا، وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير من بني عمرو بن عوف والأوس أخو خوّات، ورتبهم خلف الجيش ينضحون بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من خلفهم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وأجاز يومئذ سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج من بني حارثة في الرماة وسنهما خمسة عشر عاما، وردّ أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطّاب ومن بني مالك بن النجار زيد بن ثابت وعمرو بن حرام ومن بني حارثة البراء بن عازب وأسيد بن ظهير، ورد عرابة بن أوس وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدريّ سن جميعهم يومئذ أربعة عشر عاما. وجعلت قريش على ميمنة الخيل خالد بن الوليد،
__________
[1] ربما قصد المؤرخ تآمروا.
[2] وفي نسخة اخرى: وافقا.(2/434)
وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل. وأعطى عليه السلام سيفه بحقه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة من بني ساعدة وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب. وكان مع قريش ذلك اليوم والد حنظلة غسيل الملائكة أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك ابن النعمان في طليعة [1] وكان في الجاهلية قد ترهّب وتنسّك، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء وفرّ إلى مكة في رجال من الأوس وشهد أحد مع الكفّار، وكان يعد قريش في انحراف الأوس إليه لما أنه سيدهم، فلم يصدق ظنه، ولما ناداهم وعرفوه، قالوا: لا أنعم الله لك علينا يا فاسق. فقاتل المسلمين قتالا شديدا.
وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس [2] بلاء شديدا، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتدّ القتال وانهزم قريش أوّلا، فخلت الرماة عن مراكزهم، وكرّ المشركون كرّة وقد فقدوا متابعة الرماة فانكشف المسلمون واستشهد منهم من أكرمه الله، ووصل العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة في رأسه، يقال إن الّذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي. وشدّ حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله فاعترضه شدّاد بن الأسود الليثي من شعوب فقتله وكان جنبا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته.
وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام، ومصّ الدم من جرحه مالك بن سنان الخدريّ والد أبي سعيد، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح فندرت ثنيتاه فصار اهتم [3] . ولحق المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم، وكان آخرهم عمّار بن يزيد بن السكن. ثم قاتل طلحة حتى أجهض [4] المشركون وأبو دجانة يلي النبيّ صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك [5] ، وأصيبت عين قتادة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من ضبيعة.
[2] وفي النسخة الباريسية: النضر بن شميل.
[3] ويقال: اثرم بدل اهتم أهـ.
[4] اجهض: بمعنى أبعد المشركين.
[5] وفي نسخة ثانية: فلا يترك.(2/435)
ابن النعمان من بني ظفر فرجع وهي على وجنته، فردها عليه السلام بيده فصحت وكانت أحسن عينيه.
وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة وقد دهشوا وقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة. وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها. وقتل حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتله وحشي مولى جبير بن مطعم بن عديّ، وكان قد جاعله على ذلك بعتقه فرآه يبارز سبّاع بن عبد العزى فرماه بحربته من حيث لا يشعر فقتله.
ونادي الشيطان ألا أنّ محمدا قد قتل، لأنّ عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمير يظن أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضربته أم عمّارة نسيبة بنت كعب بن أبي [1] مازن ضربات فتوفي [2] منها بدرعيه وخشي المسلمون لما أصابه ووهنوز لصريخ الشيطان. ثم إنّ كعب بن مالك الشاعر من بنى سلمة عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته يبشّر الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:
أنصت، فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ والزبير والحرث بن الصمة [3] الأنصاري وغيرهم، وأدركه أبي بن خلف في الشعب، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة وطعنه بها في عنقه فكرّ أبي منهزما، وقال له المشركون ما بك من بأس، فقال: والله لو بصق عليّ لقتلني وكان صلى الله عليه وسلم قد توعّده بالقتل فمات عدوّ الله بسرف [4] مرجعهم الى مكة. ثم جاء عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجه ونهض فاستوى على صخرة من الجبل وحانت الصلاة فصلى بهم قعودا. وغفر الله للمنهزمين من المسلمين ونزل:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ 3: 155 (الآية) وكان منهم عثمان بن عفان وعثمان بن أبي عقبة الأنصاري.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من بني مازن.
[2] وفي نسخة ثانية: توفي.
[3] وفي النسخة الثانية: الصامت.
[4] سرف القوم جاوزهم (القاموس) وسرف مكان بين مكة والمدينة. والمرجّح انه سقطت كلمة أثناء في الجملة.(2/436)
واستشهد في ذلك اليوم حمزة كما ذكرناه وعبد الله بن جحش ومصعب بن عمير في خمسة وستين معظمهم من الأنصار، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم في مضاجعهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقتل من المشركين اثنان وعشرون منهم الوليد بن العاص بن هشام وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة وأبو عزّة عمرو بن عبد الله بن جمح، وكان أسر يوم بدر فمنّ عليه وأطلقه بلا فداء على أن لا يعين عليه فنقض العهد وأسر يوم أحد وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبرا، وأبي بن خلف قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصعد أبو سفيان الجبل حتى أطلّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونادى بأعلى صوته: الحرب: سجال يوم أحد بيوم بدر، أعل هبل.
وانصرف وهو يقول موعدكم العام القابل. فقال عليه السلام قولوا له هو بيننا وبينكم. ثم سار المشركون إلى مكة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة، وكانت هند وصواحبها قد جدّ عنه وبقرن عن كبده فلاكتها ولم تسغها، ويقال إنه لما رأى ذلك في حمزة قال لئن أظفرني الله بقريش لأمثلنّ بثلاثين منهم. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. ويقال إنه قال لعليّ لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا.
غزوة حمراء الأسد:
ولما كان يوم أحد سادس عشر شوّال، وهو صبيحة يوم أحد، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لطلب العدوّ وأن لا يخرج إلّا من حضر معه بالأمس، وفسح لجابر بن عبد الله ممن سواهم، فخرج وخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح وصار عليه السلام متجلدا مرهبا للعدوّ، وانتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثا، ومرّ به هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي سائرا الى مكة، ولقي [1] أبا سفيان وكفّار قريش بالروحاء فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم وكانوا يرومون الرجوع إلى المدينة ففتّ ذلك في أعضادهم وعادوا إلى مكة.
بعث الرجيع:
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر متمّ الثلاثة من الهجرة نفر من عضل والقارة بني الهون من خزيمة إخوة بني أسد، فذكروا أنّ فيهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولحق.(2/437)
إسلاما ورغبوا أن يبعث فيهم من يفقههم في الدين، فبعث معهم ستة رجال من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي [1] ، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح من بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي من بني جحجبا بن كلفة، وزيد بن الدّثنّة، بن بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثدا منهم. ونهضوا مع القوم حتى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل قريبا من عسفان غدروا بهم، واستصرخوا هذيلا عليهم فغشوهم في رحالهم ففزعوا إلى القتال فأمّنوهم وقالوا: إنا نريد نصيب بكم فداء من أهل مكة، فامتنع مرثد وخالد وعاصم من أمنهم وقاتلوا حتى قتلوا، ورموا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد ابن شهيد وكانت نذرت أن تشرب فيه الخمر لما قتل ابنيها من بني عبد الدار يوم أحد، فأرسل الله الدبر [2] فحمت عاصما منهم فتركوه إلى الليل فجاء السيل فاحتمله. وأمّا الآخرون فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ولما كانوا بمرّ الظهران انتزع ابن طارق يده من القران وأخذ سيفه فرموه بالحجارة فمات، وجاءوا بخبيب وزيد إلى مكة فباعوهما إلى قريش فقتلوهما صبرا.
غزوة بئر معونة:
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر هذا ملاعب الأسنة أبو براء عمر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فدعاه إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال إنّي أخاف [3] عليهم. فقال أبو براء أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنذر بن عمرو بن بني ساعدة في أربعين من المسلمين، وقيل في سبعين، منهم الحرث بن الصمّة، وحرام بن ملحان خال أنس، وعامر [4] بن فهيرة، ونافع بن بديل بن ورقاء. فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم، وبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فقتله، ولم ينظر في كتابه، واستعدى عليهم بني عامر فأبوا لجوار أبي براء إياهم، فاستعدى بني سليم فنهضت منهم عصية ورعل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الغنمي.
[2] الدبر بفتح الدال وسكون الموحدة: الزنابير أهـ.
[3] وفي النسخة الباريسية: أخشى.
[4] وفي النسخة الباريسية: عمرو.(2/438)
وذكوان وقتلوهم عن آخرهم، وكان سرحهم إلى جانب منهم ومعهم المنذر بن أحيحة [1] من بني الجلّاح وعمرو بن أمية الضمريّ فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر، فأسرعا إلى أصحابهما فوجداهم في مضاجعهم، فأمّا المنذر بن أحيحة فقاتل حتى قتل، وأما عمرو بن أمية فجز عامر بن الطفيل ناصيته حين علم أنه من مضر لرقبة كانت عن أمه، وذلك لعشر بقين من صفر وكانت مع الرجيع في شهر واحد. ولما رجع عمرو بن أمية لقي في طريقه رجلين من بني كلاب أو بني سليم فنزلا معه في ظل كان فيه معهما عهد من النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو فانتسبا له في بني عامر أو سليم فعدا عليهما لما ناما وقتلهما، وقدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
غزوة بني النضير:
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير مستعينا بهم في دية هذين القتيلين فأجابوا، وقعد عليه السلام مع أبي بكر وعمر وعليّ ونفر من أصحابه إلى جدار من جدرانهم، وأراد بنو النضير رجلا منهم على الصعود إلى ظهر البيت ليلقي على النبيّ صلى الله عليه وسلم صخرة، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب منهم. وأوحى الله بذلك إلى نبيّه فقام، ولم يشعر أحدا ممن معه واستبطئوه، واتبعوه إلى المدينة. فأخبرهم عن وحي الله بما أراد به يهود وأمر من أصحابه بالتهيؤ لحربهم. واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم، ونهض في شهر ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة، فتحصنوا منه بالحصون فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع النخل وإحراقها، ودس إليهم عبد الله بن أبي والمنافقون إنا معكم قتلتم أو أخرجتم، فغرّوهم [2] بذلك ثم خذلوهم كرها وأسلموهم. وسأل عبد الله من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم بما حملت الإبل من أموالهم إلّا السلاح، واحتمل إلى خيبر من أكابرهم حييّ بن أخطب وابن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم بين المهاجرين الأوّلين خاصة، وأعطى منها أبا دجانة وسهل بن حنيف كانا فقيرين.
وأسلم من بني النضير يامين بن عمير بن جحاش، وسعيد بن وهب فأحرزا أموالهما بإسلامهما. وفي هذه الغزاة نزلت سورة الحشر.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المنذر بن محمد بن الجلاح.
[2] وفي نسخة ثانية: ففرّ وهمّ.(2/439)
غزوة ذات الرقاع:
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بني النضير إلى جمادى من السنة الرابعة، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل عثمان بن عفان، ونهض حتى نزل نجدا فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، إلا أنهم خاف بعضهم بعضا حتى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين صلاة الخوف، وسميت ذات الرقاع لأنّ أقدامهم نقبت وكانوا يلقون عليها الخرق. وقال الواقدي: لأنّ الجبل الّذي نزلوا به كان به سواد وبياض وحمرة رقاع فسميت بذلك وزعم أنها كانت في المحرم.
غزوة بدر الصغرى الموعد:
كان أبو سفيان نادى يوم أحد كما قدّمناه بموعد بدر من قابل وأجابوه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان في شعبان من هذه السنة الرابعة خرج لميعاده واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، ونزل في بدر وأقام هناك ثمان ليال وخرج أبو سفيان في أهل مكّة حتى نزل الظهران أو عسفان، ثم بدا له في الرجوع واعتذر بأنّ العام عام جدب.
غزوة دومة الجندل:
خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل من السنة الخامسة وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ. وسببها أنه عليه السلام بلغه انّ جمعا تجمعوا بها فغزاهم، ثم انصرفوا من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل ولم يلق حربا. وفيها وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة [1] بن حصن أن يرعى بأراضي المدينة لأنّ بلاده كانت أجدبت، وكانت هذه قد أخصبت بسحابة وقعت فأذن له في رعيها.
غزوة الخندق
كانت في شوّال من السنة الخامسة، والصحيح أنها في الرابعة، ويقويه أنّ ابن عمر يقول ردّني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فليس بينهما إلّا سنة واحدة وهو الصحيح، فهي قبل دومة الجندل بلا شك. وكان سببها أنّ نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحيي بن أخطب من بني
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عتبة.(2/440)
النضير وهود [1] ابن قيس وأبو عمارة [2] من بني وائل، لما انجلى بنو النضير إلى خيبر خرجوا إلى مكة يحزّبون الأحزاب ويحرّضون على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغبون من اشرأب إلى ذلك بالمال. فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم مضوا إلى غطفان وخرج بهم عيينة بن حصن على أشجع، وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم. ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده والمسلمون معه، ويقال إنّ سلمان أشار به. ثم أقبلت الأحزاب حتى نزلوا بظاهر المدينة بجانب أحد، وخرج عليه السلام في ثلاثة آلاف من المسلمين، وقيل في تسعمائة فقط وهو راجل بلا شك [3] . وخلف على المدينة ابن أم مكتوم فنزل بسطح سلع والخندق بينه وبين القوم وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في الآطام، وكان بنو قريظة مواد عين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم حييّ وأغراهم فنقضوا العهد ومالوا مع الأحزاب، وبلغ أمرهم إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة وخوّات [4] بن جبير وعبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا. وكان صلى الله عليه وسلم قد أمرهم إن وجدوا الغدر حقا أن يخبروه تعريضا لئلا يفتوا في أعضاد الناس، فلما جاءوا إليه قالوا يا رسول الله عضل والقارة يريدون غدرهم بأصحاب الرجيع، فعظم الأمر وأحيط بالمسلمين من كل جهة، وهمّ بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأنّ بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبّتهم الله.
ودام الحصار على المسلمين قريبا من شهر ولم تكن حرب. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحرث بن عوف أن يرجعا ولهما ثلثا ثمار [5] المدينة، وشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأبيا، وقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به فلا بدّ منه أم شيء تحبه فتصدقه فتصنعه لك أم شيء تصنعه لنا؟ فقال: بل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وهو ابن قيس.
[2] وفي النسخة الباريسية: عمّار.
[3] وفي النسخة الباريسية: وهو الأصح.
[4] وفي نسخة ثانية: خوان.
[5] وفي النسخة الباريسية: ثلث ثمر المدينة.(2/441)
أصنعه لكم إني رأيت أنّ العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ: قد كنا معهم على الشرك والأوثان ولا يطمعون منا بثمرة إلّا شراء [1] وبيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلّا السيف. فصلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتمادى الأمر، وظهر فوارس من قريش إلى الخندق وفيهم:
عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن عبد ودّ من بني عامر بن لؤيّ، وضرار بن الخطّاب من بني محارب فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها. ثم اقتحموا من مكان ضيق حتى جالت خيلهم بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، وقتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ودّ، ورجعوا إلى قومهم من حيث دخلوا.
ورمي في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم فقطع عنه الأكحل، يقال رماه حبان بن قيس بن العرقة وقيل أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، ويروى أنه لما أصيب جعل يدعو: «اللَّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقى لها فلا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه، وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة» .
ثم اشتدّ الحال وأتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فقال: يا رسول الله اني أسلمت ولم يعلم قومي فمرني بما تشاء، فقال إنما أنت رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة. فخرج فأتى بني قريظة وكان صديقهم في الجاهلية، فنقم لهم في قريش وغطفان وأنهم إن لم يكن الظفر لحقوا ببلادهم وتركوكم، ولا تقدرون على التحوّل عن بلدكم ولا طاقة لكم بمحمد وأصحابه، فاستوثقوا منهم برهن أبنائهم حتى يصابروا معكم. ثم أتى أبا سفيان وقريشا فقال لهم: إنّ اليهود قد ندموا وراسلوا محمدا في المواعدة على أن يسترهنوا أبناءكم ويدفعوهم إليه. ثم أتى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش. فأرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قريظة في ليلة سبت إنا لسنا بدار مقام فأعدوا للقتال، فاعتذر اليهود بالسبت، وقالوا: مع ذلك لا نقاتل حتى تعطونا أبناءكم. فصدّق القوم خبر نعيم، وردوا إليهم بالاباية من الرهن والحث على الخروج، فصدّق أيضا بنو قريظة خبر نعيم وأبوا القتال. وأرسل الله على قريش وغطفان ريحا عظيمة أكفأت قدورهم وآنيتهم وقلعت أبنيتهم وخيامهم، وبعث عليه
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الأخرى وبيعا.(2/442)
السلام حذيفة بن اليمان عينا فأتاه بخبر رحيلهم وأصبح وقد ذهب الأحزاب ورجع إلى المدينة.
غزوة بني قريظة
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه جبريل بالنهوض إلى بني قريظة وذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، فأمر المسلمين أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، وخرج وأعطى الراية عليّ بن أبي طالب، واستخلف ابن أمّ مكتوم، وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد إحدى ثلاث إمّا: الإسلام، وإمّا تبييت النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة السبت ليكون الناس آمنين منهم، وإمّا قتل الذراري والنساء ثم الاستماتة. فأبوا كل ذلك وأرسلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر بن عمرو بن عوف لأنهم كانوا حلفاء الأوس، فأرسله واجتمع إليه الرجال والنساء والصبيان فقالوا: يا أبا لبابة ترى لنا أن ننزل على حكم محمد، قال نعم، وأشار بيده في حلقه أنه الذبح. ثم رجع فندم وعلى أنه أذنب فانطلق على وجهه، ولم يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه إلى عمود في المسجد ينتظر توبة الله عليه وعاهد الله أن لا يدخل أرض بني قريظة مكانا خان فيه ربه ونبيّه، وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لو أتاني لاستغفرت له فأمّا بعد ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه فنزلت توبته، فتولّى عليه السلام إطلاقه بيده بعد أن أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحل إلا للصلاة. ثم نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم بعضهم ليلة نزولهم وهم نفر أربعة من هذيل إخوة قريظة والنضير، وفرّ عنهم عمرو بن سعد القرظي ولم يكن دخل معهم في نقض العهد فلم يعلم أين وقع. ولما نزل بنو قريظة على حكمه صلى الله عليه وسلم طلب الأوس أن يفعل فيهم ما فعل بالخزرج في بني النضير، فقال لهم:
ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ وكان جريحا منذ يوم الخندق وقد أنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فأتى به على حمار فلما أقبل على المجلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: قوموا إلى سيدكم. ثم قالوا: يا سعد إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك حكم مواليك، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، قالوا:
نعم. قال: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم(2/443)
الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ثم أنه أمر فأخرجوا إلى سوق المدينة وخندق لهم بها خنادق وضربت أعناقهم فيها وهم بين الستمائة والسبعمائة رجل، وقتلت فيهم امرأة واحدة بنانة امرأة الحكم القرظي وكانت طرحت على خلاد [1] بن سويد بن الصامت رحى من فوق الحائط فقتلته. وأمر عليه السلام بقتل من أنبت [2] منهم. ووهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن ياطا فاستحيا منهم عبد الرحمن بن الزبير كانت له صحبة، وبعد أن كان ثابت استوهب من النبيّ صلى الله عليه وسلم الزبير وأهله وماله فوهبه ذلك فمر الزبير عليه يده وأبي إلّا الشدّ مع قومه اغتباطا بهم قبحه الله. ووهب عليه السلام لأم المنذر بنت قيس من بني النجّار رفاعة بن سموأل القرظي فأسلم رفاعة وله صحبة.
وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما، وكانت خيل المسلمين يومئذ ستة وثلاثين فارسا، ووقع في سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بني عمرو بن قريظة فلم تزل في ملكه حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فتح بني قريظة آخر ذي القعدة من السنة الرابعة. ولما ثم أمرهم أجيبت دعوة سعد بن معاذ فانفجر عرقه ومات فكان ممن استشهد يوم الخندق في سبعة آخرين من الأنصار، وأصيب من المشركين يوم الخندق أربعة من قريش فيهم: عمرو بن عبد ودّ وابنه حسل ونوفل بن عبد الله بن المغيرة [3] ، ولم تغز كفّار قريش المسلمين مذ يوم الخندق. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة فقصد بني لحيان يطالب بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عديّ وأهل الرجيع، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل، فسلك على طريق الشام أوّلا ثم أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام، ثم رجع إلى طريق مكة وأجدّ السير حتى نزل منازل لبني بين أمج وعسفان فوجدهم قد حذروا وامتنعوا بالجبال، وفاتتهم الغرّة فيهم فخرج في مائتي راكب إلى المدينة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: خلال.
[2] وفي نسخة ثانية: اثبت.
[3] وفي نسخة ثانية: المريرة.(2/444)
غزوة الغابة وذي قرد
وبعد قفوله والمسلمين إلى المدينة بليال أغار عيينة بن حصن الفزاري في بني عبد الله من غطفان فاستلحموا [1] القاح النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأته فقتلوا الرجل وحملوا المرأة، ونذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان ناهضا، فعلا ثنية الوداع وصاح بأعلى صوته نذيرا بهم، ثم اتبعهم واستنقذ ما كان بأيديهم، ولما وقعت الصيحة بالمدينة ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم، ولحق به المقداد بن الأسود وعباد [2] بن بشر وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل. وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة الأسديّ وأبو قتادة من بني سلمة في جماعة من المهاجرين والأنصار، وأمرّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد وانطلقوا في اتباعهم حتى أدركوهم، فكانت بينهم جولة قتل فيها محرز بن نضلة قتله عبد الرحمن بن عيينة وكان أوّل من لحق بهم. ثم ولّى المشركون منهزمين وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يقال له ذو قرد، فأقام عليه ليلة ويومها [3] ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة ثم قفل إلى المدينة.
غزاة بني المصطلق:
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعبان من هذه السنة السادسة، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة لما بلغه أنهم مجتمعون له وقائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو جويرية [4] أمّ المؤمنين، فخرج إليهم واستخلف أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل نميلة بن عبد الله الليثي ولقيهم بالمريسيع [5] من مياههم ما بين قديد والساحل فتزاحفوا وهزمهم الله وقتل من قتل منهم وسبي النساء والذرية وكانت منهم جويرية بنت الحرث سيدهم، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، وأدّى عليه السلام عنها وأعتقها وتزوّجها. وأصيب في هذه الغزاة هشام بن صبابة الليثي من بني ليث بن بكر قتله رجل من رهط عبادة بن الصامت غلطا يظنه من العدوّ، وفي مرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذه الغزاة، وفيها قال عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل لمشاجرة وقعت بين جهجاه بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فاكتسحوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: عباس.
[3] وفي نسخة ثانية: ويومين.
[4] وفي النسخة الباريسية: جويرة.
[5] وفي نسخة ثانية: بالمريسع.(2/445)
مسعود الغفّاريّ أجير عمر بن الخطاب وبين سنان ابن واقد [1] الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج، فتثاوروا [2] وتباهوا، فقال ما قال: وسمع زيد بن أرقم مقالته، وبلغها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونزلت سورة المنافقين وتبرأ منه ابنه عبد الله، وقال: يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل وإن شئت والله أخرجته. ثم اعترض أباه عند المدينة، وقال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له، وحينئذ دخل، وقال يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي وإني أخشى أن تأمر غيري فلا تدعني نفسي أن أقاتله، وإن قتلته قتلت مؤمنا بكافر، ولكن مرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه. فجزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا وأخبره أنه لا يصل إلى أبيه سوء.
وفيها قال أهل الافك ما قالوا في شأن عائشة مما لا حاجة بنا إلى ذكره وهو معروف في كتب السير، وقد أنزل الله القرآن الحكيم ببراءتها وتشريفها. وقد وقع في الصحيح أنّ مراجعته وقعت في ذلك بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وهو وهم ينبغي التنبيه عليه، لأن سعد بن معاذ مات بعد فتح بني قريظة بلا شك داخل السنة الرابعة وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد عشرين شهرا من موت سعد، والملاحاة بين الرجلين كانت بعد غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة. والّذي ذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وغيره أنّ المقاول لسعد بن عبادة إنما هو أسيد بن الحضير [3] والله أعلم.
ولما علم المسلمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج جويرية، أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق أصهار [4] رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق بسببها مائة من أهل بيتها، ثم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بعامين الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقبض صدقاتهم، فخرجوا يتلقونه، فخافهم على نفسه ورجع، وأخبر أنهم هموا بقتله. فتشاور المسلمون في غدرهم ثم جاء وفدهم منكرين ما كان من رجوع الوليد قبل لقيهم، وأنهم إنما خرجوا تلقية
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بن وفد.
[2] وفي النسخة الباريسية: فتشاوروا.
[3] وفي نسخة ثانية: ابن الحضي.
[4] وفي النسخة الباريسية: لصهر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .(2/446)
وكرامة وروده. فقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ونزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ 49: 6 الآية.
عمرة الحديبيّة
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السادسة وفي ذي القعدة منها معتمرا بعد بني المصطلق بشهرين، واستنفر الأعراب حوالي المدينة فأبطأ أكثرهم فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار، واتبعه من العرب فيما بين الثلاثمائة بعد الألف إلى الخمسمائة، وساق الهدي وأحرم من المدينة ليعلم الناس أنه لا يريد حربا. وبلغ ذلك قريشا فأجمعوا على صدّه عن البيت وقتاله دونها، وقدّموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، وورد خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، فسلك على ثنية المرار حتى نزل الحديبيّة من أسفل مكة وجاء من ورائهم، فكر خالد في خيله إلى مكّة.
فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى مكة بركت ناقته، فقال الناس خلأت، فقال: ما خلأت وما ذاك لها بخلق [1] ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل واشتكى الناس فقد الماء فأعطاهم سهما من كنانته غرزوه في بعض القلب [2] من الوادي، فجاش الماء حتى كفى جميع الجيش، يقال نزل به البراء بن عازب.
ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفّار قريش، وبعث عثمان بن عفّان بينهما رسولا، وشاع الخبر أنّ المشركين قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وجلس تحت شجرة فبايعوه على الموت وأن لا يفرّوا، وهي بيعة الرضوان، وضرب عليه السلام بيسراه على يمينه وقال هذه عن عثمان. ثم كان سهيل ابن عمرو آخر من جاء من قريش فقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصرف عامه ذلك ويأتي من قابل معتمرا ويدخل مكّة وأصحابه بلا سلاح حاشا السيوف في القرب، فيقيم بها ثلاثا ولا يزيد، وعلى أن يتّصل الصلح عشرة أعوام يتداخل فيه الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أنّ من هاجر من الكفّار إلى المسلمين من رجل أو امرأة أنّ يرد إلى قومه ومن ارتدّ من المسلمين إليهم لم يردوه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وما هو لها بخلق.
[2] وفي نسخة ثانية: بعض القلوب.(2/447)
فعظم ذلك على المسلمين حتى تكلم فيه بعضهم، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم علم أنّ هذا الصلح سبب لأمن الناس وظهور الإسلام، وأنّ الله يجعل فيه فرجا للمسلمين وهو أعلم بما علمه ربه. وكتب الصحيفة عليّ، وكتب في صدرها هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبي سهيل عن ذلك وقال لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا أن يمحوها، فأبى وتناول هو الصحيفة بيده ومحا ذلك وكتب محمد بن عبد الله. ولا يقع في ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب فإنّها قد ثبتت في الصحيح، وما يعترض في الوهم من أنّ كتابته قادحة في المعجزة فهو باطل، لأنّ هذه الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف ولا قوانين الخطّ وأشكالها بقيت الأمية على ما كانت عليه، وكانت هذه الكتابة الخاصة من إحدى المعجزات انتهى.
ثم أتى أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده وكان قد أسلم، فقال سهيل: هذا أوّل ما نقاضي عليه. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه وعظيم ذلك على المسلمين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل أنّ الله سيجعل له فرجا، وبينما هم يكتبون الكتاب إذ جاءت سرية من جهة قريش قيل ما بين الثلاثين والأربعين يريدون الإيقاع بالمسلمين، فأخذتهم خيول المسلمين وجاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم فإليهم ينسب العتقيون [1] .
ولما تم الصلح وكتابه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا ويحلقوا فتوقفوا، فغضب حتى شكى إلى زوجته أم سلمة فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج وانحر واحلق فإنّهم تابعوك [2] . فخرج ونحر وحلق رأسه حينئذ خراش بن أمية الخزاعي، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وما فتح من قبله فتح كان أعظم من هذا الفتح. قال الزهري: لما كان القتال حيث لا يلتقي الناس [3] . فلمّا كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام أحدا يفعل شيئا إلّا دخل عليه [4] ، فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثلما قبل ذلك أو أكثر.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العتيقيون.
[2] وفي نسخة ثانية: متابعوك.
[3] وفي النسخة الباريسية: إنما كان القتال حيث يبتغي الناس.
[4] وفي نسخة ثانية: دخل فيه.(2/448)
ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لحقه أبو بصير [1] عتبة بن أسيد بن جارية [2] هاربا وكان قد أسلم وحبسه قومه بمكة وهو ثقفي من حلفاء بني زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف عمّ عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق سيد بني زهرة رجلا من بني عامر بن لؤيّ مع مولى لهم، فأسلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم فاحتملاه. فلما نزلوا بذي الحليفة أخذ أبو بصير السيف من أحد الرجلين، ثم ضرب به العامري فقتله وفرّ الآخر، وأتى أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد وفت ذمتك وأطلقني الله فقال عليه السلام: ويلمه [3] مسعر حرب لو كان له رجال. ففطن أبو بصير من لحن هذا القول أنه سيرده، وخرج إلى سيف البحر على طريق قريش إلى الشام، وانضاف إليه جمهور من يفرّ عن قريش ممن أراد الإسلام فآذوا قريشا وقطعوا على رفاقهم وسابلتهم، فكتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضمهم بالمدينة.
ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وجاء فيها أخواها عمارة والوليد، فمنع الله من ردّ النساء وفسخ ذلك الشرط المكتتب، ثم نسخت براءة ذلك كلّه وحرم الله حينئذ على المسلمين إمساك الكوافر في عصمتهم فانفسخ نكاحهن.
إرسال الرسل الى الملوك
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين الحديبيّة ووفاته رجالا من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم دعاة إلى الله عزّ وجل، فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ أخا بني عامر بن لؤيّ إلى هوذة [4] بن عليّ صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر ابن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي [5] بن عامر بن جلندي صاحب عمان، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية فأدّى إليه كتاب رسول الله
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبو نصر.
[2] وفي نسخة ثانية: ابن حارثة.
[3] أصله: ويل أمه أهـ.
[4] وفي النسخة الباريسية: هدوة.
[5] وفي النسخة الباريسية: الى جبير بن خليد.(2/449)
صلى الله عليه وسلم وأهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار منهن مارية أم إبراهيم ابنه.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبيّ إلى قيصر وهو هرقل ملك الروم، فوصل إلى بصرى وبعثه صاحب بصرى إلى هرقل، وكان يرى في ملاحمهم أنّ ملك الختان قد ظهر، فقرأ الكتاب وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم [1] الروم السلام على من اتبع الهدى. أمّا بعد أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيّين. وفي رواية «إثم الأكّارين عليك تعيا بجمله» . فطلب من في مملكته من قوم النبي صلى الله عليه وسلم فأحضروا له من غزّة، وكان فيهم أبو سفيان فسأله كما وقع في الصحيح، فأجابه وسلم [2] أحواله وتفرّس صحة أمره، وعرض على الروم أتباعه فأبوا ونفروا فلاطفهم بالقول وأقصر. ويروى عن ابن إسحاق أنه عرض عليهم الجزية، فأبوا فعرض عليهم أن يصالحوا بأرض سورية. قالوا وهي أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص وما دون الدرب وما كان وراء الدرب فهو الشام فأبوا.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي أخا بني أسد بن خزيمة إلى الحرث بن شمر الغساني صاحب دمشق، وكتب معه:
«السلام على من اتبع الهدى وآمن به أدعوك إلى أن تؤمن باللَّه وحده لا شريك له يبقى لك ملكك» . فلما قرأ الكتاب قال: من ينزع ملكي أنا سائر إليه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: باد ملكه. قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشيّ الأصحم عظيم الحبشة، سلام عليك فاني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الطيبة البتول الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ومعه نفر
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ملك الروم.
[2] وفي نسخة أخرى: وعلم.(2/450)
من المسلمين فإذا جاءوك قاقرهم ودع التجري وإني أدعوك وجنودك إلى الله فلقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي والسلام على من اتبع الهدي» . فكتب إليه النجاشيّ «إلى محمد رسول الله من النجاشيّ الأصحم ابن الحرّ [1] سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته أحمد الله الّذي لا إله إلّا هو الّذي هدانا للإسلام أمّا بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فما ذكرت من أمر عيسى فو ربّ السماء والأرض ما نزيد بالرأي على ما ذكرت أنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا فقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للَّه رب العالمين وقد بعثت إليك بابني أرخا [2] الأصحم فإنّي لا أملك إلّا نفسي إن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإنّي أشهد أنّ الّذي تقول حق والسلام عليك يا رسول الله» . فذكر أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فغرقت بهم.
(وقد جاء) أنه أرسل إلى النجاشي [3] ليزوّجه أم حبيبة، وبعث إليها بالخطبة جاريته فأعطتها أوضاحا وفتخا ووكلت خالد بن سعيد بن العاص فزوّجها، ودفع النجاشي إلى خالد بن سعيد أربعمائة دينار لصداقها، وجاءت إليها بها الجارية فأعطتها منها خمسين مثقالا، فردت الجارية ذلك بأمر النجاشي. وكانت الجارية صاحبة دهنه وثيابه وبعث إليها نساء النجاشي بما عندهن من عود وعنبر وأركبها في سفينتين مع بقية المهاجرين، فلقوا النّبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وبلغ أبا سفيان تزويج أم حبيبة منه فقال: ذلك الفحل الّذي لا يقدع أنفه.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة إلى كسرى، وبعث بالكتاب عبد الله بن حذافة السهميّ وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن باللَّه ورسله أمّا بعد فإنّي رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيّا أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس.» فمزّق كسرى كتاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مزّق الله ملكه. وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله «وآمن باللَّه ورسله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن الجر.
[2] وفي النسخة الباريسية: أرعاز.
[3] وفي النسخة الباريسية: وعن الواقدي انه أرسل الى النجاشي.(2/451)
الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين فإن أبيت فإثم الأريسيين عليك:» قال فلما قرأه مزّقه، وقال يكتب إليّ هذا وهو عبدي! قال: ثم كتب كسرى إلى باذان وهو عامله على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الّذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني، به فبعث باذان قهرمانه بانويه وكان حاسبا كاتبا بكتاب فارس ومعه خرخسرة من الفرس، وكتب إليه معهما أن ينصرف إلى كسرى، وقال لقهرمانه: اختبر الرجل وعرّفني بأمره. وأوّل ما قدما الطائف سألا عنه فقيل هو بالمدينة. وفرح من سمع بذلك من قريش وكانوا بالطائف، وقالوا قطب له كسرى وقد كفيتموه. وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فكلمه بانويه [1] وقال: إنّ شاهنشاه قد كتب إلى الملك باذان أنّ يبعث إليك من يأتيه بك وبعثني لتنطلق معي ويكتب معه فينفعك وإن أبيت فهو من علمت ويهلك قومك ويخرب بلادك. وكانا قد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالا: أمرنا به ربّنا يعنون به كسرى. فقال لهما: لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي لم أؤخرهما إلى غد. وجاءه الوحي بأنّ الله سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله [2] ليلة كذا من شهر كذا لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، فدعاهما وأخبرهما فقالا: هل تدري ما تقول؟ يحزنانه عاقبة هذا القول، فقال اذهبا وأخبراه بذلك عني وقولا له إنّ ديني وسلطاني يبلغ ما بلغ ملك كسرى وإن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الأنباء، وأعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة كان بعض الملوك أهداها له. فقدما على باذان وأخبراه فقال ما هذا كلام ملك ما أرى الرجل إلّا نبيا كما يقول ونحن ننتظر مقالته. فلم ينشب [3] بأذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: «أما بعد فإنّي قد قتلت كسرى ولم أقتله إلّا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتسخيرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك وانظر الرجل الّذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه» . فلمّا بلغ باذان الكتاب وأسلمت الأبناء معه من فارس ممن كان منهم باليمن، وكانت حمير تسمي خرخسرة ذا المفخرة للمنطقة التي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبو بويه.
[2] وفي نسخة ثانية: يسلّط على كسرى ابنه شيرويه فيقتله.
[3] اي لم يلبث.(2/452)
أعطاه إياها النّبي صلى الله عليه وسلم والمنطقة بلسانهم المفخرة، وقد كان بانويه قال لباذان ما كلمت رجلا قط أهيب عندي منه، فقال: هل معه شرط؟ قال: لا (قال الواقدي) وكتب إلى المقوقس عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم.
غزوة خيبر
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا إلى خيبر في بقية المحرم آخر السنة السادسة [1] وهو في ألف وأربعمائة راجل ومائتي فارس، واستخلف نميلة بن عبد الله الليثي، وأعطى راية لعليّ بن أبي طالب، وسلك على الصهباء حتى نزل بواديها إلى الرجيع، فحيل بينهم وبين غطفان وقد كانوا أرادوا إمداد يهود خيبر، فلما خرجوا ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب لحس سمعوه من ورائهم فانصرفوا وأقاموا في أماكنهم. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح حصون خيبر حصنا حصنا فافتتح أوّلا منها حصن ناعم، وألقيت على محمود بن سلمة من أعلاه رحى فقتلته. ثم افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق، وأصيبت منهم سبايا كانت منهنّ صفية بنت حييّ ابن أخطب، وكانت عروسا عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فوهبها عليه السلام لدحية، ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس ووضعها عند أمّ سلمة حتى اعتدّت وأسلمت ثم أعتقها وتزوّجها. ثم فتح حصن الصعب بن معاذ، ولم يكن بخيبر أكثر طعاما وودكا منه. وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم حصرهما بضع عشرة ليلة. ودفع إلى عليّ الراية في حصار بعض حصونهم ففتحه، وكان أرمد فتفل في عينه صلى الله عليه وسلم فبرأ.
وكان فتح بعض خيبر عنوة وبعضها وهو الأكثر صلحا على الجلاء، فقسّمها صلى الله عليه وسلم وأقر اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم النصف من كل ما تخرج من زرع أو تمر يقرّهم على ذلك ما بدا له، فبقوا على ذلك الى آخر خلافة عمر فبلغه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الّذي مات فيه: «لا يبقى دينان بأرض العرب، فأمر باجلائهم عن خيبر وغيرها من بلاد العرب» . وأخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرّفوا فيها، وكان متولي قسمتها بين أصحابها جابر بن صخر من بني
__________
[1] هذا منقول عن مالك بناء على ان ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع وعلى المشهور محرم هو أول سنة سبع كما في المواهب- قاله نصر.(2/453)
سلمة، وزيد بن ثابت [1] من بني النجار، واستشهد من المسلمين جماعة تنيف على العشرين من المهاجرين والأنصار منهم عامر بن الأكوع وغيره.
وفي هذه الغزاة حرّمت لحوم الحمر الأهلية فاكفئت القدور وهي تفور بلحمها. وفيها أهدت اليهودية زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مشكم [2] إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وجعلت السمّ في الذراع منها وكان أحب اللحم إليه، فتناوله ولاك منه مضغة ثم لفظها، وقال: إنّ هذا العظم يخبرني أنه مسموم، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور وازدرد لقمته فمات منها. ثم دعا باليهودية فاعترفت ولم يقتلها لإسلامها حينئذ على ما قيل، ويقال إنه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها.
قدوم مهاجرة الحبشة: وكان مهاجرة الحبشة قد جاء جماعة منهم [3] إلى مكة قبل الهجرة حين سمعوا بإسلام قريش ثم هاجروا إلى المدينة، وجاء آخرون منهم قبل خيبر بسنتين، ثم جاء بقيتهم إثر فتح خيبر. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشي في شأنهم ليقدمهم عليه، فقدم جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس وبنوهما عبد الله ومحمد وعون، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وامرأته أمينة بنت خلف وابناهما سعيد، وأمّ خالد وعمرو بن سعيد بن العاص، ومعيف [4] بن أبي فاطمة حليف أبي سعيد بن العاص ولي بيت المال لعمر، وأبو موسى الأشعري حليف آل عتبة بن ربيعة والأسود بن نوفل بن خويلد ابن أخى خديجة-، وجهم بن قيس بن شرحبيل بن عبد الدار وابناه عمر وخزيمة، والحرث بن خالد بن صخر بن تميم، وعثمان بن ربيعة بن أهبان من بني جمح، ومحنية بن حذاء [5] الزبيدي حليف بني سهم ولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأخماس، ومعمر بن عبد الله بن نضلة من بني عدي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عامر بن لؤيّ، وأبي عمرو مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس، فكان هؤلاء آخر من بقي بأرض الحبشة. ولما قدم جعفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زيد بن سلمة.
[2] وفي النسخة الباريسية: سلام بن مكثم.
[3] وفي النسخة الباريسية: قد جاء من جاء منهم.
[4] وفي نسخة اخرى: معيقب.
[5] وفي نسخة اخرى: جون.(2/454)
يوم فتح خيبر قبل ما بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!
فتح فدك ووادي القرى
ولما اتصل بأهل فدك شأن أهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه الأمان على أن يتركوا الأموال، فأجابهم إلى ذلك فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله. ثم انصرف عن خيبر إلى وادي القرى فافتتحها عنوة وقسمها، وقتل بها غلامه مدغما، قال فيه لما شهد له الناس بالجنة: كلا إنّ [1] الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم قبل القسم لتشتعل عليه نارا ثم رحل إلى المدينة في شهر صفر.
عمرة القضاء
وأقام صلى الله عليه وسلم بعد خيبر إلى انقضاء شوال من السنة السابعة ثم خرج في ذي القعدة لقضاء العمرة التي عاهده عليها قريش يوم الحديبيّة وعقد لها الصلح، وخرج ملأ من قريش عن مكة عداوة للَّه ولرسوله وكرها في لقائه، فقضى عمرته وتزوّج بعد إحلاله بميمونة بنت الحرث من بني هلال بن عامر [2] خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، وأراد أن يبني بها، وقد تمت الثلاث التي عاهده قريش على المقام بها وأوصوا إليه بالخروج وأعجلوه عن ذلك، فبنى بها بسرف.
غزوة جيش الأمراء
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من عمرة القضاء إلى جمادى الأولى من السنة الثامنة ثم بعث الأمراء إلى الشام، وقد كان أسلم قبل ذلك عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة وهم من كبراء قريش. وقد كان عمرو بن العاص مضى عن قريش إلى النجاشي يطلبه في المهاجرين الذين عنده، ولقي هنالك عمرو بن أمية الضمريّ وافد النبي صلى الله عليه وسلّم، فغضب
__________
[1] وفي نسخة اخرى: كلاله.
[2] وفي نسخة اخرى: بن علي.(2/455)
النجاشي لما كلمه في ذلك، فوفقه الله ورئي [1] الحق فأسلم وكتم إسلامه، ورجع إلى قريش ولقي خالد بن الوليد فأخبره فتفاوضا، ثم هاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلما.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا مع بعث الشام وأمّر على الجيش مولاه زيد بن حارثة وكانوا نحوا من ثلاثة آلاف، وقال إن أصابه قدر فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن أصابه قدر فالأمير عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه أميرا عليهم. وشيعهم صلى الله عليه وسلم وودّعهم، ونهضوا حتى انتهوا إلى معان من أرض الشام، فأتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم قد نزل مؤاب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ومائة ألف من نصارى العرب البادين هنالك من لخم وجذام وقبائل قضاعة من بهرا وبلي والقيس وعليهم مالك بن زاحلة من بني أراشة. فأقام المسلمون في معان ليلتين يتشاورون في الكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظار أمره ومدده، ثم قال لهم عبد الله بن رواحة أنتم إنما خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة إلّا بهذا الدين الّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا إلى [2] جموع هرقل عند قرية مؤتة ورتبوا الميمنة والميسرة، واقتتلوا فقتل زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب وعقر فرسه ثم قاتل حتى قطعت يمينه فأخذها بيساره فقطعت فقتل كذلك وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأخذها عبد الله بن رواحة وتردّد عن النزول بعض الشيء ثم صمم إلى العدوّ فقاتل حتى قتل.
فأخذ الراية ثابت بن أفرم [3] من بني العجلان وناولها لخالد بن الوليد فانحاز بالمسلمين، وأنذر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأمراء قبل ورود الخبر وفي يوم قتلهم، واستشهد مع الأمراء جماعة من المسلمين يزيدون على الشعرة أكرمهم الله بالشهادة، ورجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحزنه موت جعفر ولقيهم خارج المدينة وحمل عبد الله بن جعفر بين يديه على دابته وهو صبي وبكى عليه واستغفر له وقال: أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة، فسمي ذا الجناحين.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: رأى.
[2] وفي احدى النسخ: فانطلقوا فهي احدى الحسنيين إمّا ظهوره وإما شهادتنا موافقوه ونهضوا الى تخوم البلقاء فلقوا جموع هرقل.
[3] وفي النسخة الباريسية: ثابت بن أرقم وفي نسخة اخرى: ثابت بن أقرن.(2/456)
فتح مكة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في الحديبيّة أدخل خزاعة في عقده المؤمن منهم والكافر، وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة في عقدها وكانت بينهم تراث في الجاهلية ودخول كان فيها الأوّل للأسود بن رزن [1] من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة وثارهم [2] عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحضرميّ، وكانوا قد عدوا [3] على رجل من خزاعة فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم، وعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن فقتلوهم وهم أشراف بني كنانة، وجاء الإسلام فاشتغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء، فلمّا انعقد هذا الصلح من الحديبيّة وأمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة بقتلهم بني الأسود بن رزن، وخرج نوفل بن معاوية الدّؤلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم تابعه، وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش، فأجاب صلى الله عليه وسلم صريخهم وأخبرهم: بأنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في المدّة وأنه يرجع بغير حاجة وكان ذلك سببا للفتح وندم قريش على ما فعلوا، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدّة، ولقي بديل بن ورقاء بعسفان فكتمه الخبر وورّى له عن وجهه، وأتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت دونه فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت لا يجلس عليه مشرك، فقال لها قد أصابك بعدي شرّيا بنية. ثم أتى المسجد وكلّمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه أن يتكلم في ذلك فأبى، فلقي عمر فقال: والله لو لم أجد إلا الذرّ لجاهدتكم به، فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن صبيّا
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بن رزق.
[2] وفي النسخة الباريسية: دم عند خزاعة.
[3] وفي نسخة أخرى: عقدوا.(2/457)
فكلمه فيما أتى له فقال عليّ: ما نستطيع أن نكلمه في أمر عزم عليه، فقال لفاطمة يا بنت محمد أما تأمري [1] ابنك هذا ليجير بين الناس فقالت لا يجير أحد على رسول الله، فقال له عليّ يا أبا سفيان أنت سيد بني كنانة فقم وأجر وارجع إلى أرضك، فقال ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: ما أظنه ولكن لا أجد لك سواه. فقام أبو سفيان في المسجد فنادى: ألا إني قد أجرت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشا، فقالوا ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك.
ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، وأمر الناس بأن يتجهزوا، ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش، وكتب إليهم حاطب بن أبي بلتعة بالخبر مع ظعينة قاصدة إلى مكة، فأوحى الله، إليه بذلك فبعث عليّا والزبير والمقداد إلى.
الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئا، وقالوا: رسول الله أصدق، فقال عليّ: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج، فأخرجته من بين قرون رأسها. فلما قرئ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما هذا يا حاطب؟ فقال يا رسول الله والله ما شككت في الإسلام ولكني ملصق في قريش فأردت عندهم يدا يحفظوني [2] بها في مخلف أهلي وولدي، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم. وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم: من سليم ألف رجل وقيل سبعمائة، ومن مزينة ألف، ومن غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، وطوائف من قريش وأسد وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل جموع وكتائب الله من المهاجرين والأنصار. واستخلف أبا رهم الغفاريّ على المدينة، ولقيه العبّاس بذي الحليفة وقيل بالجحفة مهاجرا، فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازيا، ولقيه بنيق [3] العقاب أبو سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما، وكلمته أم سلمة فأذن لهما، وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران، وقد طوى الله أخباره عن قريش إلّا أنهم يتوجسون الخيفة.
__________
[1] الأصح ان يقول: اما تأمرين.
[2] الأصح ان يقول: يحفظونني.
[3] وفي نسخة أخرى: بشق.(2/458)
وخشي العبّاس تلافي قريش إن فاجأهم الجيش قبل ان يستأمنوا، فركب بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم وذهب يتجسس، وقد خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم ابن حزام يتحسسون الخبر، وبينما العبّاس قد أتى الأراك ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر، فيقول بديل: نيران بني خزاعة، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. فقال العبّاس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس والله إن ظفر بك ليقتلنك واصباح قريش فارتدف خلفي. ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر فخرج يشتدّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد للَّه الّذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فسبقه العبّاس على البغلة ودخل على أثره فقال: يا رسول الله هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكن الله منه بلا عهد فدعني أضرب عنقه، فقال العبّاس: قد أجرته فزأره عمر، فقال العباس: لو كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف، فقال عمر: والله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطّاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العبّاس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، فلما أتى به قال له صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك أن تعلم أنّ لا إله إلّا الله؟ فقال بأي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا، فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال أبي أنت وأمي ما أحملك وأكرمك وأوصلك امّا هذه ففي النفس منها شيء [1] . فقال له العبّاس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم. فقال العبّاس: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا.
قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. ثم أمر العبّاس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك، ومرّت به القبائل قبيلة قبيلة، إلى أن جاء مركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، عليهم الدروع البيض، فقال من هؤلاء؟ فقال العبّاس: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما: فقال: يا أبا سفيان إنها النبوّة، فقال: هي إذا! فقال له العبّاس: النجاء إلى قومك. فأتى مكة
__________
[1] وفي نسخة اخرى: في النفس منها حتى الآن شيئا.(2/459)
وأخبرهم بما أحاط بهم وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه.
ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر عليّا ان يأخذ الراية منه، ويقال أمر الزبير. وكان على الميمنة خالد بن الوليد وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وعلى الميسرة الزبير، وعلى المقدّمة أبو عبيدة بن الجرّاح. وسرّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طوى، وأمرهم بالدخول إلى مكة: الزبير من أعلاها، وخالد من أسفلها، وأن يقاتلوا من تعرض لهم. وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا للقتال، فناوشهم أصحاب خالد القتال، واستشهد من المسلمين كرز بن جابر من بني محارب، وخنيس بن خالد من خزاعة، وسلمة بن جهينة، وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبيّ صلى الله عليه وسلم سائر الناس.
وكان الفتح لعشر بقين من رمضان، وأهدر دم جماعة من المشركين سمّاهم يومئذ منهم: عبد العزّى بن خطل من بني تميم، والأدرم بن غالب كان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ومعه رجل من المشركين فقتله وارتدّ ولحق بمكّة وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حريث المخزومي وابو برزة الأسلميّ. ومنهم:
عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ ولحق بمكة ونميت عنه أقوال، فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن عفّان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمّنه، فلما خرج قال لأصحابه هلّا ضربتم عنقه، فقال له بعض الأنصار هلا أومأت إليّ، فقال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامه إلّا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان.
ومنهم الحويرث بن نفيل [1] من بني عبد قصيّ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح. ومنهم مقيس بن صبابة كان هاجر في غزوة الخندق ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه قبل ذلك غلطا ووداه فقتله وفرّ إلى مكّة مرتدّا، فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه.
ومنهم قينتا ابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتلت إحداهما
__________
[1] قوله نفيل وفي المواهب نقيد أهـ.(2/460)
واستؤمن للأخرى فأمنها. ومنهم مولاة لبني عبد المطلب اسمها سارة واستؤمن لها فأمّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستجار رجلان من بني مخزوم بأمّ هانئ بنت أبي طالب يقال إنّهما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أميّة أخو أمّ سلمة فأمنتهما، وأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها فأسلما.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته، فدخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم. وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها، وبكسر الأصنام حواليها، ومرّ عليها وهي مشدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً 17: 81، فما بقي منهم [1] صنم إلا خرّ على وجهه. وأمر بلالا فأذن على ظهر الكعبة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة، ووضع مآثر الجاهلية إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج، وأخبر أنّ مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده، وإنما أحلّت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس [2] ، ثم قال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إنّ كل مأثورة أو دم أو مال يدعى في الجاهلية فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، ألا وإن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها، يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم خلق من تراب» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ من ذَكَرٍ وَأُنْثى 49: 13» إلى آخر الآية. يا «معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون إني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرا أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وأعتقهم على الإسلام وجلس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة للَّه ولرسوله فيما استطاعوا، ولمّا فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، أمر عمر بن الخطاب أن يبايعهن واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالا ولا حراما.
__________
[1] الأصح ان يقول منها.
[2] وفي النسخة الباريسية: ثم أعيدت لحرمتها بالأمس.(2/461)
وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن واتبعه عمير بن وهب من قومه بأمان النبيّ صلى الله عليه وسلم له فرجع وأنظره أربعة أشهر، وهرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران ورجع فأسلم، وهرب هبيرة بن أبي وهب المخزوميّ زوج امّ هانئ إلى اليمن فمات هنالك كافرا. ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة ولم يأمرهم بقتال، وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فقتل منهم وأخذ ذلك عليه، وبعث إليهم عليّا بمال فودى لهم قتلاهم وردّ عليهم ما أخذ لهم. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا إلى العزّى بيت بنخلة كانت مضر من قريش تعظمه وكنانة وغيرهم، وسدنته بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم فهدمه. ثم ان الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه وسلم داره بعد أن فتحها فأغمهم ذلك وخرجوا له، فخطبهم صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنّ المحيا محياهم والممات مماتهم فسكتوا لذلك واطمأنوا.
غزوة حنين
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة خمس عشرة ليلة وهو يقصر الصلاة فبلغه أنّ هوازن وثقيف جمعوا له وهم عامدون إلى مكة وقد نزلوا حنينا، وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يظنون أنه إنما يريدهم، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني النضير [1] ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية، وبني سعد بن بكر وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية والأحلاف، وبني مالك بن ثقيف بن بكر، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة ابن خزاعة بن أزية بن جشم رئيسهم وسيدهم شيخ كبير ليس فيه إلا ليؤتم برأيه ومعرفته. وفي ثقيف سيدان ليس لهم في الأحلاف إلّا قارب بن الأسود بن مسعود ابن معتب [2] ، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحرث بن مالك وأخوه أحمر.
وجميع أمر النّاس إلى مالك بن عوف.
فلمّا أتاهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح مكة أقبلوا عامدين اليه، وأسار
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من بني نصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: بن مغيث.(2/462)
مالك مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم يرى أنه أثبت لموقفهم، فنزلوا بأوطاس، فقال دريد بن الصمة لمالك: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغير، فقال: أموال الناس وأبناءهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها، فقال راعي ضأن: والله وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسلاحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل عن كعب وكلاب وأسف لغيابهم وأنكر على مالك رأيه ذلك، وقال: لم تصنع بتقديم بيضة [1] هوازن إلى نجور الخيل شيئا أرفعهم إلى ممتنع بلادهم، ثم ألق الصبيان على متون الخيل فان كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت لغيرك كنت قد أحرزت [2] أهلك ومالك. وأبى عليه مالك واتبعه هوازن.
ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد [3] الأسلمي يستعلم خبر القوم فجاءه وأطلعه على جليّة الخبر وأنّهم قاصدون إليه، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع وقيل أربعمائة وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكّة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ومضى لوجهه. وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس، والضحاك بن سفيان الكلابيّ، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة وبني أسد. ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب ويعظمونها ويسمّونها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال لهم: قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا آلها كما لهم آلهة، والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم واجرم من ذلك [4] .
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة أوّل يوم [5] من شوّال من السنة الثامنة وهو وادي حزن [6] ، فتوسطوه في غبش الصبح وقد كمنت هوازن في جانبيه فحملوا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نقيضه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أجرت.
[3] وفي نسخة ثانية: أبي حدود.
[4] وفي نسخة ثانية: وزجرهم عن ذلك.
[5] قوله أول يوم ولعل الصواب كما في غير هذا الكتاب سادس يوم أهـ. وانتهى الى خيبر عاشره (قاله نصر) .
[6] وفي النسخة الباريسية: وادي حروت.(2/463)
على المسلمين حملة رجل واحد، فولّى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا. وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعبّاس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر والفضل وقثم ابنا العبّاس وجماعة سواهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء دلدل والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة قيل وبالمهاجرين، فلمّا سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا فصدّهم ازدحام الناس [1] عن أن يثنوا رواحلهم، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون [2] ، واشتدّت الحرب وحمي الوطيس وقذف الله في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يملكوا أنفسهم، فولّوا منهزمين ولحق آخر الناس وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم واستحرّ [3] القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا في جملتهم: ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن الحرث بن حبيب سيداهم، وامّا قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففرّ بقومه منذ أوّل الأمر وترك رايته فلم يقتل منهم أحد، ولحق بعضهم بنخلة. وهرب مالك بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس [4] واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه، يقال قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سماك بن عوف بن امرئ القيس. وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة فأخذ أبو موسى الراية وشدّ على قاتل عمه فقتله. وانهزم المشركون واستحرّ [5] القتل في بني رباب من بني نصر بن معاوية، وانفضت جموع أهل هوازن كلها. واستشهد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المنهزمين.
[2] وفي النسخة الباريسية: لاحقون.
[3] وفي النسخة الباريسية: واستمر.
[4] وفي النسخة الباريسية: الى واسط.
[5] وفي النسخة الباريسية: وانهزم القوم واستمر القتل.(2/464)
من المسلمين يوم الخميس أربعة منهم أيمن بن أم أيمن أخو أسامة لأمه [1] ، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن الحرث من بني العجلان، وأبو عامر الأشعري.
حصار الطائف وغزوة تبوك
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فحبست بالجعرانة بنظر مسعود ابن عمرو الغفاريّ، وسار من فوره إلى الطائف فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان حولهم من الناس وجاءت وفودهم إليه.
وقد كان مرّ في طريقه بحصن مالك بن عوف النصري [2] فأمر بهدمه، ونزل على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأخرب وتحصنت ثقيف. وقد كان عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان صنعة المجانيق والدبابات للحصار لمّا أحسوا من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فلم يشهدا الحصار ولا حنينا قبله، وحاصرهم المسلمون بضع عشرة أو بضعا وعشرين ليلة واستشهد بعضهم بالنبل ورماهم صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق، ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا إلى سور الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا منهم قوما، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم [3] ، ورغب إليه ابن الأسود بن مسعود في ماله وكان بعيدا من الطائف وكفّ عنه، ثم دخل إلى الطائف وتركهم ونزل أبو بكرة فأسلم.
واستشهد من المسلمين في حصاره: سعيد بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة أخو أمّ سلمة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي في آخرين قريبا من اثني عشر فيهم أربعة من الأنصار.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة وأتاه هناك وفد هوازن مسلمين راغبين، فخيّرهم بين العيال والأبناء والأموال فاختاروا العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أيمن بن عبيد أخو سلمة لأمه.
[2] النصري بالصاد المهملة، كذا في فضائل رمضان للأجهوري، قال وأسلم بعد ذلك أهـ. (قاله نصر) .
[3] وفي نسخة اخرى: أعناقهم.(2/465)
صلى الله عليه وسلم. وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أن يراد عليهم ما وقع لهما من الفي وساعدهم قومهم [1] ، وامتنع العبّاس بن مرداس كذلك. وخالف بنو سليم وقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تطب نفسه عن نصيبه. وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بنى ذكر وأنثى فيهنّ الشيما أخت النبيّ صل يا لله عليه وسلم من الرضاعة وهي بنت الحرث بن عبد العزّى من بني سعد بن بكر من هوازن، وأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها وخيّرها فاختارت قومها فردّها اليهم. وقسم الأموال بين المسلمين، ثم أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوما يستألفهم على الإسلام من قريش وغيرهم، فمنهم من أعطاه مائة مائة، ومنهم خمسين خمسين، ومنهم ما بين ذلك، ويسمّون المؤلفة وهم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين، منهم أبو سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية ومالك بن عوف وغيرهم، ومنهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس وهما من أصحاب المائة، وأعطى عبّاس بن مرداس دونهما، فأنشده أبياته المعروفة يتسخط فيها، فقال اقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة.
ولمّا أعطى المؤلفة قلوبهم وجد الأنصار في أنفسهم إذ لم يعطهم مثل ذلك وتكلّم شبانهم مع ما كانوا يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى قومه ويتركهم، فجمعهم ووعظهم وذكّرهم وقال: «إنما أعطي قوما حديثي عهد بالإسلام أتألفهم عليه، أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء والبعير وتنصرفوا برسول الله إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الأنصار شعبا وسلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار» فرضوا وافترقوا.
ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة الى مكة، ثم رجع الى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين ونصف من خروجه، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد شابا ينيف عمره على عشرين، وكان غلبه الورع والزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته وهو أوّل أمير أقام حجّ الإسلام المشركون على مشاعرهم. وخلف بمكة معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن،
__________
[1] وفي نسخة اخرى:، وساعدهما قومهما.(2/466)
وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي [1] من الأزد بعمان مصدقا فأطاعوا له بذلك. واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه ومن سلم منهم وماله حوالي الطائف من ثقيف، وأمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاءوا مسلمين كما يذكر بعد. وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو بعده وإن كانوا متفاوتين في ذلك. ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فأهدر دمه وضاقت به الأرض، وجاء فأسلم وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة بمدحه التي أوّلها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
إلخ. وأعطاه بردة في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته وصار الخلفاء يتوارثونها شعارا.
ووفد في سنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بنو أسد فأسلموا وكان منهم ضرار بن الأزور، وقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن يرسل إلينا فنزلت «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا 49: 17» (الآية) . ووفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول ونزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة.
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم: «وكان في غزواته كثيرا ما يوري بغير الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها بشدّة الحرب، وبعد البلاد وفصل الفواكه وقلّة الظلال وكثرة العدو الذين يصدّون. وتجهز الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك، وطفق المنافقون يثبطونهم عن الغزو، وكان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود، فأمر طلحة بن عبيد الله أن يخرّب عليهم البيت فخرّبها [2] . واستأذن ابن قيس من بني سلمة في القعود فأذن له وأعرض عنه، وتدرّب كثير من المسلمين بالإنفاق والحملان وكان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفّان يقال إنه أنفق فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهز ركابا.
وجاء بعض المسلمين يستحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما يحملهم عليه فنزلوا باكين لذلك، وحمل بعضهم يامين بن عمير النضري وهما أبو ليلى بن كعب من بني مازن بن النجّار وعبد الله بن المغفل المزني. واعتذر المخلفون من الأعراب
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الى أهل حنين وعمرو بن الجلندي.
[2] وفي النسخة الباريسية: ان يحرق عليهم البيت فحرقها.(2/467)
فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نهض وخلّف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل بل سبّاع بن عرفطة وقيل بل عليّ ابن أبي طالب، وخرج معه عبد الله بن أبي بن سلول في عدد وعدّة، فلما سار صلى الله عليه وسلم تخلّف هو فيمن تخلّف من المنافقين. ومرّ صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها ويعلف ما عجن منه للإبل، وأذن لهم في بئر الناقة، وأمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلّا باكين، ونهى أنّ يخرج أحد منفردا عن صاحبه، فخرج رجلان من بني ساعدة خنق [1] أحدهما فمسح عليه فشفي، والآخر رمته الريح في جبل طي فردّوه بعد ذلك إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وضلّ صلى الله عليه وسلم ناقته في بعض الطريق، فقال أحد المنافقين محمد يدّعي علم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لا أعلم إلّا ما علّمني الله وأن الناقة بموضع كذا. وكان قد أوحى إليه بها فوجدوها ثم، وكان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من بني قينقاع وقيل إنه تاب بعد ذلك. وفضح الوحي قوما من المنافقين كانوا يخذلون الناس ويهوّلون عليهم أمر الروم، فتاب منهم مخشى بن جهير [2] ودعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة.
ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحينة بن رؤبة صاحب أيلة وأهل جرباء وأذرح فصالحوا على الجزية وكتب لكل كتابا. وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك [3] صاحب دومة الجندل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا وأخبر أنه يجده يصيد البقر، واتفق أن بقر الوحوش باتت تهدّ القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها وخرج ليلا، فوافق وصوله خالدا، فأخذه وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية وردّه.
وأقام بتبوك عشرين ليلة، ثم انصرف، وكان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق إليه أحد، فسبق رجلان واستنفدا ما فيه فنكر عليهما ذلك، ثم وضع يده تحت وشله فصب ما شاء الله أن يصب ونضح به الوشل [4] ودعا فجاش الماء حتى كفى العسكر.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: جن
[2] وفي النسخة الباريسية: مخشى بن حمير.
[3] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[4] وفي نسخة اخرى: ونضح بالوشل.(2/468)
ولما قرب المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك بن الدخشم من بني سالم ومعن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار، فأحرقاه وهدماه، وقد كان جماعة من المنافقين بنوه وأتوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه، فقال: أنا على سفر ولو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه. فلمّا رجع أمر بهدمه. وفي هذه الغزاة تخلف كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية بن واقف وكانوا صالحين، فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلامهم خمسين يوما، ثم نزلت توبتهم، وكان المتخلفون من غير عذر نيفا وثلاثين رجلا. وكان وصوله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة تسع، وفيه كانت وفادة ثقيف وإسلامهم، ونزل الكثير من سورة براءة في شأن المنافقين وما قالوه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم.
إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم اللات
كان صلى الله عليه وسلم لما أفرج عن الطائف وارتحل المدينة اتبعه عروة بن مسعود سيدهم، فأدركه في طريقه وأسلم ورجع يدعو قومه، فرمي بسهم في سطح بيته وهو يؤذن للصلاة فمات، ومنع قومه من الطلب بدمه وقال: هي شهادة ساقها الله إليّ وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين. ثم قدم ابنه أبو المليح وقارب بن الأسود بن مسعود فأسلما، وضيق مالك بن عوف على ثقيف واستباح سرحهم وقطع سابلتهم.
وبلغهم رجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك وعلموا أنّ لا طاقة لهم بحرب العرب المسلمين، وفزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير، فشرط عليهم أن يبعثوا معه رجالا منهم ليحضروا مشهدة خشية على نفسه مما نزل بعروة، فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه وثلاثا من بني مالك، فخرج بهم عبد يا ليل وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة التاسعة يريدون البيعة والإسلام فضرب لهم قبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي في أمرهم وهو الّذي كتب كتابهم بخطه، وكانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم حتى يأكل منه خالد، وسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنين رغبا لنسائهم وأبنائهم حتى يأنسوا فأبى، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم(2/469)
بأيديهم فقال: أمّا هذه فسنكفيكم منها. فأسلموا وكتب لهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سنا لأنه كان حريصا على الفقه وتعلم القرآن. ثم رجعوا إلى بلادهم، وخرج معه أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات، وتأخر أبو سفيان حتى دخل المغيرة فتناولها بيده ليهدمها، وقام بنو معتب [1] دونه خشية عليه.
ثم جاء أبو سفيان وجمع ما كان لها من الحليّ وقضى منه دين عروة والأسود ابني مسعود كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وقسّم الباقي.
الوفود
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وأسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود. قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل وقادتهم لا ينكرون لهم، وكانت قريش هي التي نصبت لحربه وخلافه. فلمّا استفتحت مكة ودانت قريش ودخلها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربة وعداوته، فدخلوا في دينه أفواجا يضربون إليه من كل وجه انتهى.
فأوّل من قدم إليه بعد تبوك وفد بني تميم وفيه من رءوسهم: عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس من بني دارم بن مالك، والحتات بن زيد [2] ، والأقرع بن حابس، والزّبرقان بن بدر من بني سعد، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم وهما من بني منقر، ونعيم بن زيد ومعهم عيينة بن حصن الفزاريّ. وقد كان الأقرع وعيينة شهدا فتح مكة وخيبر وحصار الطائف، ثم جاءا مع وفد بني تميم، فلمّا دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجرات فنزلت الآيات في إنكار ذلك عليهم. ولمّا خرج قالوا جئنا نفاخرك بخطيبنا وشاعرنا فأذن لهم، فخطب عطار وفاخر ويقال والأقرع بن حابس، ثم أنشد الزبرقان بن بدر شعرا بالمفاخرة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب وحسّان بن ثابت فأنشد مساجلين لهم، فأذعنوا للخطبة والشعر والسؤدد والحلم، وقالوا: هذا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بنو مغيث.
[2] وفي نسخة اخرى: الحباب بن يزيد.(2/470)
الرجل هو مؤيد من الله أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا. ثم أسلموا وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم جوائزهم. وهذا كان شأنه مع الوفود ينزلهم إذا قدموا ويجهزّهم إذا رحلوا.
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير مع رسولهم ومع الحرث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر. وبعث زرعة بن ذي يزن رسوله مالك بن مرّة الرهاويّ بإسلامهم ومفارقة الشرك، وأهله وكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابه.
وبعث إلى ذي يزن معاذ بن جبل مع رسوله مالك بن مرّة يجمع الصدقات، وأوصاهم برسله معاذ وأصحابه. ثم مات عبد الله بن أبي بن سلول في ذي القعدة، ونعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشيّ وأنه مات في رجب قبل تبوك.
وقدم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلا ونزلوا على المقداد بن عمرو وجاء بهم فأسلموا وأجازهم وانصرفوا، وقدم وفد بني البكاء ثلاثة نفر منهم. وقدم وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن وابن أخيه الحرّ بن قيس فأسلموا.
ووفد عديّ بن حاتم من طي فأسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل تبوك إلى بلاد طي عليّ بن أبي طالب في سريّة فأغار عليهم، وأصيب حاتم وسبيت ابنته وغنم سيفين في بيت أصنامهم كانتا من قربان الحرب بن أبي شمّر، وكان عديّ قد هرب قبل ذلك ولحق ببلاد قضاعة بالشام فرارا من جيوش المسلمين وجوارا لأهل دينه من النصارى وأقام بينهم، ولما سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس بها، ومرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته أن يمنّ عليها، فقال: قد فعلت ولا تعجلي حتى تجدي ذائقة من قومك يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، قالت: فأقمت حتى قدم ركب من بني قضاعة وأنا أريد أن آتي أخي بالشام فعرّفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساني وحلني وزوّرني وخرجت معهم فقدمت الشام فلما لقيها عديّ تلاوما ساعة ثم قال لها ماذا ترين في أمري مع هذا الرجال؟
فأشارت عليه باللحاق به فوفد، وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى بيته وأجلسه على وسادته، بعد أن استوقفته في طريقه امرأة فوقف لها، فعلم عديّ أنه ليس بملك وأنه نبي، ثم أخبره عن أخذه المرباع من قومه ولا يحلّ له فازداد(2/471)
استبصارا [1] فيه، ثم قال: لعلّه إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم فيوشك ان يفيض المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، أو لعله يمنعك ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم فو الله ليوشكنّ تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، أو لعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت.
فأسلم عديّ وانصرف إلى قومه.
ثم أنزل الله على نبيّه الأربعين آية من أوّل براءة في نبذ هذا العهد الّذي بينه وبين المشركين أن لا يصدوا عن البيت، ونهوا أن يقرب المسجد الحرام مشرك بعد ذلك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان [2] بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيتم له إلى مدّته، وأجلّهم أربعة أشهر من يوم النحر. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات أبا بكر وأمّره على إقامة الحج بالموسم من هذه السنة، فبلغ ذا الحليفة فأتبعه بعليّ فأخذها منه، فرجع أبو بكر مشفقا أن يكون نزل فيه قرآن، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لم ينزل شيء ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني. فسار ابو بكر على الحج وعليّ على الأذان ببراءة، فحج أبو بكر بالناس وهم على حجّ الجاهلية، وقام عليّ عند العقبة يوم الأضحى فأذّن بالآية التي جاء بها.
قال الطبريّ وفي هذه السنة فرضت الصدقات لقوله تعالى خُذْ من أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها 9: 103 الآية. وفيها قدم وفد ثعلبة بن سعد [3] ووفد سعد هذيم من قضاعة. قال الطبريّ: وفيها بعث بنو سعد بن بكر ضمّام [4] بن ثعلبة وافدا فاستحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الإسلام، وذكر التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج واحدة واحدة حتى إذا فرغ تشهّد وأسلم، وقال:
لاؤديّ هذه الفرائض وأجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها ولا انقص، فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة، ثم قدم على قومه فأسلموا كلهم يوم قدومه. والّذي عليه الجمهور: أنّ قدوم ضمّام وقصّته كانت سنة خمس.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: استبعادا.
[2] وفي نسخة الثانية: وإن كان.
[3] وفي نسخة ثانية: ثعلبة بن منقذ.
[4] وفي نسخة ثانية: ضمضام بن ثعلبة.(2/472)
ثم دخلت سنة عشر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربيع أو جمادى في سريّة اربعمائة إلى نجران وما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إن لم يفعلوا، فأسلموا وأجابوا داعية، وبعث الرسل [1] في كل وجه فأسلم الناس فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم، فأقبل خالد ومعه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو القصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل [2] وعبد الله بن قراد [3] الزيادي وشدّاد بن عبد الله الضبابي وعمرو بن عبد الله الضبابي، فأكرمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال لهم: بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ [4] أحدا بظلم. قال: صدقتم، فأسلموا وأمّر عليهم قيس بن الحصين، ورجعوا صدر ذي القعدة من سنة عشر، ثم أتبعهم عمرو بن حزم [5] من بني النّجار ليفقّههم في الدين ويعلمهم السنة، وكتب إليه كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره بأمره، وأقام عاملاه على نجران. وهذا الكتاب وقع في السير مرويا وأعتمده الفقهاء في الاستدلالات وفيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية ونصّه: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب [6] من الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ 5: 1، عهدا من محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن آمره بتقوى الله في أمره كله فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يبشّر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلّم الناس القرآن ويفهمهم [7] فيه، وأن ينهي الناس فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، وان يخبر الناس بالذي لهم والّذي عليهم، ويلين للناس في الحق ويشتدّ عليهم في الظلم فإنّ الله حرّم [8] الظلم ونهى عنه فقال: أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18، وأن يبشر الناس بالجنة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الركبان.
[2] وفي النسخة الباريسية: يزيد بن المحجب.
[3] وفي نسخة اخرى: عبد الله بن قريض.
[4] وفي النسخة الباريسية: ولا ننيل.
[5] وفي نسخة اخرى: عمرو بن حزام.
[6] وفي النسخة الباريسية: هذا بيان.
[7] وفي نسخة اخرى: يفقههم فيه.
[8] وفي النسخة الباريسية: كره الظلم.(2/473)
وبعملها وينذر الناس بالنار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين، ويعلّم الناس معالم الحجّ وسننه وفرائضه وما أمر الله به والحجّ الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة، وينهي الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهي أن يجتبي أحد في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء، وينهي أن يقصّ أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهي إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا القبائل والعشائر فليعطفوه بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين وأن يمسحوا برءوسهم كما أمرهم الله، وآمره بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود وأن يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة والمغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدوا نجوم السماء والعشاء أوّل الليل، وآمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها والغسل عند الرواح إليها، وآمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله، وما كتب على المؤمنين [1] في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنّها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له، وانه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يردّ عنها وعليه الجزية، على كل حالم [2] ذكرا وأنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا. فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله. ومن منع ذلك فإنه عدوّ للَّه ولرسوله وللمؤمنين جميعا صلوات الله عليه محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته» . وقدم وفد غسان في رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا وانصرفوا إلى قومهم فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم وهلك اثنان منهم ولقي الثالث أبو عبيدة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: على المسلمين.
[2] وفي نسخة ثانية: كل محتلم.(2/474)
عامر باليرموك [1] فأخبره بإسلامه. وقدم عليه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا وتعلّموا شرائع الإسلام وأقرأهم أبيّ [2] القرآن وانصرفوا. وقدم في شوّال وفد سلامان سبعة نفر رئيسهم حبيب فأسلموا وتعلّموا الفرائض [3] وانصرفوا.
وفيما قدم وفد أزدجرش وفد فيهم صرد بن عبد الله الأزدي في عشرة من قومه، ونزلوا على فروة بن عمرو، وأمّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا صردا على من أسلم منهم، وأن يجاهد المشركين حوله. فحاصر جرش ومن بها من خثعم وقبائل اليمن، وكانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين، فحاصرهم شهرا، ثم قفل عنهم فظنوا أنه انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر، فصف وحمل عليهم ونال منهم، وكانوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رائدين وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة شكر وقال: إنّ بدن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما وأخبراهم بذلك وأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم.
وفيها كان إسلام همدان ووفادتهم على يد عليّ رضي الله عنه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فمكث ستة أشهر لا يجيبونه، فبعث عليه السلام علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا، فلما بلغ عليّ أوائل اليمن جمعوا له فلما لقوة صفّوا فقدّم عليّ الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم، وكتب بذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسجد للَّه شكرا، ثم قال: السلام على همدان ثلاث مرّات. ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وقدمت وفودهم، وكان عمرو بن معديكرب الزبيدي قال لقيس بن مكشوح [4] المرادي: اذهب بنا إلى هذا الرجل فلن يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك، فقدم عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلم، وكان فروة بن مسيك المراديّ على زبيد لأنه وفد قبل عمرو مفارقا لملوك كندة فأسلم ونزل سعد بن عبادة وتعلم القرآن وفرائض الإسلام واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلّها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى كانت الوفاة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عام اليرموك.
[2] وفي نسخة ثانية: النبيّ.
[3] وفي نسخة ثانية: القرآن.
[4] وفي نسخة ثانية: مكثوم.(2/475)
وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم الجارود بن عمرو وكانوا على دين النصرانية، فأسلموا ورجعوا إلى قومهم. ولما كانت الوفاة وارتدّ عبد القيس ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر الّذي يسمّى الغرور ثبت الجارود على الإسلام، وكان له المقام المحمود وهلك قبل أن يراجعوا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرميّ قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبديّ [1] فأسلم وحسن إسلامه، وهلك بعد الوفاة وقبل ردّة أهل البحرين والعلاء أمير عنده لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين.
وفي هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم: مسيلمة بن حبيب الكذاب، ورجّال بن عنفوة، وطلق بن عليّ بن قيس، وعليهم سلمان بن حنظلة، فأسلموا وأقاموا أياما يتعلمون القرآن من أبيّ بن كعب، ورجّال يتعلم، وطلق يؤذن لهم، ومسيلمة في الرحال، وذكروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم مكانه في رحالهم فأجازه، وقال: ليس بشرّكم مكانا لحفظه رحالكم، فقال مسيلمة عرف أن الأمر لي من بعده. ثم ادّعى مسيلمة بعد ذلك النبوّة، وشهد له طلق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الأمر فافتتن الناس به كما سنذكره.
وفيها قدم وفد كندة يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر وقيل في ستين وقيل في ثمانين، وعليهم الديباج والحرير، وأسلموا ونهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه فتركوه. وقال له أشعث نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك وقال:
ناسبوا بهذا النسب العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحرث وكانا تاجرين فإذا ساحا في أرض العرب قال نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك لأنّ لهم عليه ولادة من الأمهات، ثم قال لهم لا نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا منا ولا ننتفي من أبينا [2] .
وقدم مع وفد كنانة [3] وفد حضرموت وهم بنو وليعة، وملوكهم جمد ومخوس ومشرح وأبضعة [4] ، فأسلموا ودعا لمخوس بإزالة الرتّة من لسانه. (وقدم وائل بن حجر) راغبا في الإسلام فدعا له ومسح رأسه، ونودي الصلاة جامعة سرورا بقدومه، وأمر
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: العمري.
[2] وفي نسخة ثانية: ولا ينتغي من إلينا.
[3] وفي نسخة ثانية: كندة.
[4] وفي نسخة ثانية: ضمرة ومخوش ومسرح والضعة.(2/476)
معاوية أن ينزله بالحرّة، فمشى معه وكان راكبا فقال له معاوية أعطني نعلك أتوقى بها الرمضاء، فقال ما كنت لألبسها وقد لبستها. وفي رواية لا يبلغ أهل اليمن أنّ سوقة لبس نعل ملك فقال: أردفني قال لست من أرداف الملوك، ثم قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت قدمي قال امش في ظل ناقتي كفاك به شرفا. ويقال إنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب محمد النبيّ لوائل بن حجر قيل حضرموت إنك إن أسلمت لك ما في يديك من الأرض والحصون ويؤخذ منك من كل عشر واحدة ينظر في ذلك ذو عدل وجعلت لك الّا تظلم فيها معلّم [1] الدين. والنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أشهاد عليه [2] » . قال عياض (وفيه) إلى الأقيال العباهلة والأوراع المشابيب [3] .
(وفيه) في التيعة [4] شاة لا مقوّرة لالياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة وفي السيوب الخمس ومن زنى من بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما، ومن زنى من ثيّب فضرجوه بالاضاميم [5] ، ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله وكل مسكر حرام ووائل بن حجر يترفّل على الأقيال.
وفيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا. وفيها قدم وفد الرها من مذحج في خمسة عشر نفرا وأهدوا فرسا، فأسلموا وتعلموا القرآن وانصرفوا، ثم قدم نفر منهم وحجّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة وباعوها من معاوية.
وفيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين [6] راكبا يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة، وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل، والسيّد الأيهم وجادلوا عن دينهم، فنزل صدر سورة آل عمران وآية المباهلة فأبوا منها وفرقوا وسألوا الصلح، وكتب لهم به على ألف حلّة في صفر وألف في رجب وعلى دروع ورماح وخيل وحمل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مقام الدين.
[2] وفي نسخة ثانية: والمؤمنون عليه أنصار.
[3] وفي النسخة الباريسية: والأوزاع السابقين.
[4] وفي نسخة ثانية: وفيه في العبيّة.
[5] وفي نسخة اخرى: ففرجوه بالاصاحيم.
[6] وفي النسخة الباريسية: في ستين راكبا.(2/477)
ثلاثين من كل صنف، وطلبوا أن يبعث معهم واليا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح، ثم جاء العاقب والسيّد وأسلما.
وفيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفرا فأسلموا، وعلمهم أوقات الصلاة وذلك في حجة الوداع. وفي هذه السنة قدم وفد عبس، قال ابن الكلبي:
وفد منهم رجل واحد فأسلم ورجع ومات في طريقه. وقال الطبريّ: وفيها وفد عديّ ابن حاتم في شعبان انتهى.
وفيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا وهدموا صنمهم، وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبيّة قبل خيبر رفاعة بن زيد الضبيبيّ من جذام وأهدى غلاما فأسلم، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا، ولم يلبث أن قفل دحية بن خليفة الكلبيّ منصرفا من عند هرقل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة، فأغار عليه الهنيد بن عوض [1] وقومه بنو الضليع من بطون جذام فأصابوا كل شيء معه، وبلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخذه الهنيد وابنه وردّوه على دحية، وقدم دحية على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه فأخبره الخبر، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرة الرمل [2] ، وقتلوا الهنيد وابنه في جماعة وكان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم وقتلوهم، فركب رفاعة بن زيد ومعه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة منهم فقدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقالوا: يا رسول الله أطلق لنا من كان حيّا، فبعث معهم علي بن أبي طالب وحمله على جمل وأعطاه سيفه فلحقه بفيفاء الفحلتين وأمره برد أموالهم فردّها.
وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صعصعة فيهم: عامر بن الطفيل بن مالك، وأربد ابن ربيعة بن مالك، فقال له عامر: يا محمد اجعل لي الأمر بعدك، قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، قال: اجعل لي الوبر ولك المدر، قال: لا ولكن أجعل لك أعنة الخيل فإنك امرؤ فارس، فقال: لأملأنها عليك خيلا ورجلا ثم ولوا.
فقال: اللَّهمّ اكفنيهم اللَّهمّ أهد عامر أو أغن الإسلام عن عامر. وذكر ابن إسحاق
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بن عوص.
[2] وفي النسخة الباريسية: بالفضافض من حرة الرجل.(2/478)
والطبريّ: أنهما أرادا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح، ثم رجعوا إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول وأصابت أخاه أربد صاعقة بعد ذلك. ثم قدم علقمة بن علاثة بن عوف وعوف [1] بن خالد بن ربيعة وابنه فأسلموا.
وفيها قدم وفد طيِّئ في خمسة عشرة نفرا يقدمهم سيدهم زيد الخيل وقبيصة بن الأسود من بني نبهان فأسلموا، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وأقطع له بئرا وأرضين معها وكتب له بذلك ومات في مرجعه.
وفي هذه السنة ادعى مسيلمة النبوّة وأنه أشرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر، وكتب إليه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريش قوم لا يعدلون، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتّبع الهدى أما بعد فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» . قال الطبريّ: وقد قيل إنّ ذلك كان بعد منصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كما نذكر.
حجة الوداع
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمس ليال بقين من ذي العقدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل عريا [2] ، ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، ولقيه عليّ بن أبي طالب بصدقات نجران فحجّ معه، وعلم صلى الله عليه وسلم الناس بمناسكهم واسترحمهم وخطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين، حمد الله واثنى عليه ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا! أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت فمن كان عنده أمانة فليؤدّها إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وهودة.
[2] وفي نسخة ثانية: هدايا.(2/479)
من ائتمنه عليها وإن كان ربا فهو موضوع ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا إن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم في الجاهلية موضوع كلّه وأن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وكان مسترضعا في بني ليث، فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدأ من دم الجاهلية. أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ممّا تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه إلى فيحلوا ما حرّم الله إلا وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الّذي بين جمادى وشعبان أمّا بعد أيها الناس فإنّ لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهنّ أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهنّ ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهنّ عندكم عوان [1] لا يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإنّي قد بلغت قولي وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه أيها الناس اسمعوا قولي واعلموا إن كل مسلم أخو المسلم وإن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم ألا هل بلغت [2] .
فذكر أنهم قالوا: اللَّهمّ نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد. وكانت هذه الحجّة تسمى حجّة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم يحج بعدها وكان قد حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشرة [3] .
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عوار.
[2] وفي نسخة أخرى: اللَّهمّ.
[3] لم يذكر هنا حديث الغدير وقد أجمع المؤرخون وأرباب التفسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجة الوداع الى المدينة نزل عليه الأميل جبرائيل بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ 5: 67. وان الآية الكريمة أمرت النبي صلى الله عليه وسلم ان ينصب عليّا أميرا وخليفة للمسلمين من بعده فأمر الرسول من كان معه من المسلمين ان يحطوا رحلهم بغدير خم قرب الجحفة على طريق المدينة وان يرد من تقدم منهم الى(2/480)
العمال على النواحي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان عامل كسرى على اليمن وأسلمت اليمن أمره على جميع مخاليفها ولم يشرك معه فيها أحدا حتى مات، وبلغه موته وهو منصرف من حجّة الوداع فقسم عمله على جماعة من أصحابه، فولّى على صنعاء ابنه شهر [1] بن باذان، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجنديعلي بن أمية، وعلى همدان عامر بن شهر الهمدانيّ، وعلى عك والأشعر بين الطاهر بن أبي هالة [2] وعلى ما بين نجران وزمع وزبيد خالد بن سعيد بن العاص، وعلى نجران عمرو بن حزم [3] ، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد [4] البياضي، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور [5] بن أصفر الغوثي، وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر
__________
[ () ] المحل الّذي نزل به الرسول وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشرة من الهجرة وكان ذلك اليوم شديد الحرّ فكان الرجل يضع بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحر. وقد وقف النبي في هذا اليوم بعد صلاة الظهر خطيبا بالمسلمين فقال: الحمد للَّه ونستعين ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا الدنيّة لا هادي لمن ضل ولا مضل لمن هدى واشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله. اما بعد ايها الناس قد نبأني اللطيف الخبير انه لم يعمر نبيّ الا مثل نصف عمر الّذي قبله واني أوشك ان ادعى فأجيب واني مسئول وأنتم مسئولون. فماذا أنتم قائلون؟
قالوا نشهد انك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا قال ألستم تشهدون ان لا إله إلا الله وان محمد عبده ورسوله؟ قالوا بلى نشهد بذلك. ثم قال ايها الناس الا تسمعون؟ قالوا نعم. قال فإنّي فرط على الحوض وأنتم واردون عليه فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟
قال الثقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا والآخر الأصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت لهما ذلك ربي فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ثم أخذ بيد عليّ فرفعها وعرفه القوم فقال: ايها الناس من اولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال ان الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وانا اولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللَّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وأدر الحق معه حيث دار الا فليبلغ الشاهد الغائب. انظر كتاب البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 208 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 93 والفرق الإسلامية ص 42 وغيرها من كتب التاريخ.
[1] وفي نسخة اخرى: شمر.
[2] وفي النسخة الباريسية: الطاهر بن أبي منالة
[3] وفي نسخة اخرى: بن حزام.
[4] وفي النسخة الباريسية: زياد بن يزيد.
[5] وفي النسخة الباريسية: عكاشة بن بدر(2/481)
بن أبي أمية واشتكى المهاجر فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله، وبعث معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن وحضرموت، وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عدي بن حاتم على صدقة طيِّئ وأسد، ومالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وقسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم، وبعث العلاء بن الحضرميّ على البحرين وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوافاه من حجة الوداع كما مرّ.
خبر العنسيّ
كان الأسود العنسيّ واسمه عبهلة بن كعب ولقبه ذو الخمار، وكان كاهنا مشعوذا يفعل الأعاجيب ويخلب بحلاوة منطقه، وكانت داره كهف حنار [1] بها ولد، ونشأ وادّعى النّبوّة وكاتب مذحجا عامّة فأجابوه ووعدوه [2] ، نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم [3] وخالد بن سعيد بن العاص وأقاموه في عملها، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد فأجلوه، وسار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعاء فلقيه شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله، وغلب على ما بين صنعاء وحضرموت إلى أعمال الطائف إلى البحرين من قبل عدن، وجعل يطير استطارة الحريق وعامله المسلمون بالتقية، وارتدّ كثير من أهل اليمن. وكان عمرو بن معديكرب مع خالد بن سعيد بن العاص، فخالفه واستجاب للأسود، فسار إليه خالد ولقيه فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة وأخذها، ونزل عمرو عن فرسه وفتك في الخيل ولحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج وكان أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث المرادي، وأمر الأبناء إلى فيروز ودادويه وتزوج امرأة شهر بن باذان واستفحل أمره.
وخرج معاذ بن جبل هاربا ومرّ بأبي موسى في مأرب فخرج معه ولحقا بحضرموت، ونزل معاذ في السكون وأبو موسى في السكاسك، ولحق عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بالمدينة. وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عكّ حيال [4] صنعاء، فلما ملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: خيار وفي النسخة الباريسية: جناز
[2] وفي نسخة أخرى: وأوعدوا
[3] وفي نسخة أخرى: بن حزام.
[4] وفي نسخة أخرى: جبال صنعاء.(2/482)
الأسود اليمن واستفحل استخف بقيس بن عبد يغوث وبفيروز ودادويه، وكانت ابنة عم فيروز هي زوجة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود بعد مقتله واسمها أزاد. وبلغ الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكتب مع وبر بن يحنس [1] إلى الأبناء وأبي موسى ومعاذ الطاهر يأمرهم فيه أن يعملوا في أمر الأسود بالغيلة أو المصادمة [2] ويبلغ منه من يروم عنده دنيا أو نجدة، وأقام معاذ والأبناء في ذلك فداخلوا قيس بن عبد يغوث في أمره فأجاب، ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته قتله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن شهر الهمدانيّ وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي أمران وذي ظليم من أهل ناحيته وإلى أهل نجران من عربهم ونصاراهم واعترضوا الأسود ومشوا وتنحوا إلى مكان واحد.
وأخبر الأسود شيطانه بغدر قيس وفيروز ودادويه فعاتبهم وهمّ بهم، ففروا إلى امرأته وواعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره ويدخلوا فيبيتوه، ففعلوا ذلك ودخل فيروز ومعه قيس ففتل [3] عنقه ثم ذبحه، فنادى بالأذان عند طلوع الفجر ونادى دادويه بشعار الإسلام، وأقام وبر بن يحنس [4] الصلاة واهتاج الناس مسلمهم وكافرهم وماج بعضهم في بعض وأختطف الكثير من أصحابه صبيانا من أبناء المسلمين، وبرزوا وتركوا كثيرا من أبنائهم ثم تراسلوا في ردّ كل ما بيده وأقاموا يتردّدون فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجنود، وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنافسوا الإمارة في صنعاء، ثم اتفقوا على معاذ فصلّى بهم وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر، وكان قد أتى خبر الواقعة من السماء فقال في غداتها:
قتل العنسيّ البارحة قتله رجل مبارك وهو فيروز. ثم قدمت الرسل، وقد توفي [5] النبي صلى الله عليه وسلم.
بعث أسامة:
ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على الناس في شهر المحرم بعثا إلى الشام وأمّر عليهم مولاه أسامة بن زيد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بن عنيس.
[2] وفي نسخة أخرى: المصادقة.
[3] وفي النسخة الباريسية: ففك عنقه.
[4] وفي نسخة ثانية: بن جنيس.
[5] وفي نسخة أخرى: اسامة.(2/483)
بن حارثة، أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردن من أرض فلسطين ومشارف الشام، فتجهّز الناس وأوعب معه المهاجرون الأوّلون. فبينا الناس على ذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بشكواه التي قبضة الله فيها إلى كرامته ورحمته، وتكلم المنافقون في شأن الكرامة، وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه من الصداع وقال: «إني رأيت البارحة في نومي أنّ في عضديّ سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما هذين الكذّابين صاحب اليمامة وصاحب اليمن وقد بلغني أنّ أقواما تكلموا في إمارة اسامة أن يطعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لحقيقا بالإمارة وانه لحقيق بها [1] انفروا» . فبعث أسامة فضرب أسامة بالجرف [2] وتمهل، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفاه الله قبل توجه أسامة.
أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى حجة الوداع تحلّل به السير فاشتكى وطارت الأخبار، بذلك فوثب الأسود باليمن كما مرّ، ووثب مسيلمة باليمامة، ثم وثب طليحة بن خويلد في بني أسد، يدعي كلهم النبوة.
وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل والكتب إلى عماله ومن ثبت على إسلامه من قومهم أن يجدّوا في جهادهم، فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والذبّ عن دينه، فبعث إلى المسلمين من العرب في كل ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم بجهادهم. وجاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مرّ وجاء، ابن أخي طليحة يطلب الموادعة فدعا صلى الله عليه وسلم حتى كان من حكم الله فيهم بعده ما كان.
مرضه صلى الله وسلم عليه:
أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أنّ الله نعى إليه نفسه بقوله إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة، ثم بدأه الوجع لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استقر به في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة فأذن له. وخرج على الناس فخطبهم وتحلل منهم وصلى على شهداء أحد واستغفر لهم، ثم قال لهم: إنّ عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده. وفهمها أبو بكر
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لخليق بها.
[2] وفي نسخة ثانية: الحرق.(2/484)
فبكى، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحرب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرا وقال: أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأودعكم إليه إني لكم نذير وبشير إلا تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 28: 83 وقال أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 39: 60 [1] .
ثم سألوه عن مغسله، فقال: الأدنون من أهلي، وسألوه عن الكفن، فقال: في ثيابي هذه؟ أو ثياب مصر [2] أو حلّة يمانية. وسألوه عن الصلاة عليه، فقال:
ضعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة حتى تصلي عليّ الملائكة ثم ادخلوا فوجا بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال أهلي [3] ثم نساؤهم. وسألوه عمن يدخله القبر، فقال: أهلي. ثم قال: ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده فتنازعوا وقال بعضهم أهجر؟ يستفهم. ثم ذهبوا يعيدون عليه، ثم قال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى بثلاث: أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وان يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة أو نسيها الراويّ. وأوصى بالأنصار فقال إنهم كرشي وعيلتي التي أويت إليها [4] فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم فقد أصبحتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون، ثم قال: سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فاني لا أعلم أمر أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله عنده. ثم ثقل به الوجع وأغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس وعليّ، ثم حضر وقت الصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة:
إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك، فمر عمر فامتنع عمر، وصلّى ابو بكر، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج فلما أحس أبو بكر تأخر فجذبه رسول
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: للكافرين.
[2] وفي نسخة أخرى: بياض مصر.
[3] وفي نسخة أخرى: رجال أهل بيتي.
[4] وفي النسخة الباريسية: هم كرسيّ وعيني اليمنى فأكرموا كريمهم.(2/485)
الله صلى الله عليه وسلم وأقامه مكانه وقرأ من حيث انتهى أبو بكر، ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر، قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدم وهو في في النزع فيمسح وجهه بالماء ويقول اللَّهمّ أعني على سكرات الموت، فلما كان يوم الإثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصبا رأسه وأبو بكر يصلي، فنكص عن صلاته [1] ، وردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وصلى قاعدا عن يمينه، ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكّرهم، ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر: إني أرى أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب. وخرج إلى أهله في السنح.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فاضطجع في حجرة [2] عائشة، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر، فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قالت: فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستنّ به ثم وضعه. ثم ثقل في حجري فذهبت انظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «الرفيق الأعلى من الجنة» فعلمت أنه خير فاختار. وكانت تقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري. وذلك نصف نهار يوم الإثنين لليلتين من شهر ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهار من يوم الثلاثاء. ونادى النعي في الناس بموته وأبو بكر غائب في أهله بالسنح، وعمر حاضر فقام في الناس وقال: إن رجالا من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأنه لم يمت وإنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم. وأقبل أبو بكر حين بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي قد ذقت الموتة التي كتب الله عليك ولن يصيبك بعدها موته أبدا. وخرج إلى عمر وهو يتكلم، فقال: أنصت. فأبي، وأقبل على الناس يتكلم فجاءوا إليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت» ثم تلا: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ 3: 144» الآية. فكأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية في المنزل قال عمر: فما هو إلّا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أنه قد مات وقيل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: نهض عن مصلاه.
[2] وفي النسخة الباريسية: في حجر عائشة.(2/486)
تلا: معها: إنك ميت وإنهم ميتون الآية.
وبينما هم كذلك إذا جاء رجل يسعى بخبر الأنصار أنهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة ويقولون منا أمير ومن قريش أمير، فانطلق أبو بكر وعمر وجماعة المهاجرين إليهم، وأقام عليّ والعبّاس وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسله عليّ مسندة إلى ظهره والعباس وابناه يقلبونه معه وأسامة وشقران يصبان الماء وعلي يدلك من وراء القميص [1] لا يفضي إلى بشرته بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه ثم أصابتهم سنة فخفقوا وسمعوا من وراء البيت أن اغسلوه وعليه ثيابه ففعلوا، ثم كفنوه في ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيهن إدراجا، استدعوا حفارين أحدهما يلحد والآخر يشق، ثم بعث إليهما العبّاس رجلين وقال اللَّهمّ خر [2] لرسولك فجاء الّذي يلحد وهو أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سرير بيته واختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته فقال أبو بكر سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ما قبض نبي إلّا يدفن حيث قبض، فرفع فراشه الّذي قبض عليه وحفر له تحته، ودخل الناس يصلون عليه أفواجا الرجال ثم، النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا يؤم أحدهم أحدا، ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء وعن عائشة لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل خمس وستين سنة وقيل ستين.
خبر السقيفة
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتاع الحاضرون لفقده حتى ظن أنه لم يمت، واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة وهم يرون أن الأمر لهم بما آووا ونصروا، وبلغ الخبر إلى أبي بكر وعمر فجاءوا إليهم ومعهم أبو عبيدة ولقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فأرادوهم على الرجوع وخفضوا عليهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يصبان الماء على يديه من وراء القميص.
[2] وفي نسخة ثانية: اغفر.(2/487)
الشأن، فأبوا الّا أن يأتوهم فأتوهم في مكانهم ذلك فأعجلوهم عن شأنهم وغلبوهم عليه جماعا وموعظة. وقال أبو بكر: نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ولا ننازع في ذلك، وأنتم لكم حق السابقة والنصرة، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقال الحباب بن المنذر [1] بن الجموع: منا أمير ومنكم أمير وإن أبو فاجلوهم يا معشر الأنصار عن البلاد فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين وإن شئتم أعددناها جذعة [2] أنا جذيلهما المحكك [3] وعذيقها المرجب [4] . وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا لكم كما تعلمون ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا، ثم وقعت ملاحاة بين عمر وابن المنذر [5] ، وأبو عبيدة يحفضهما ويقول: اتقوا الله يا معشر الأنصار أنتم أوّل من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدّل وغير.
فقام بشير بن سعد بن النعمان [6] بن كعب بن الخزرج فقال: ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق وأولى، ونحن وإن كنا أولى فضل في الجهاد وسابقة في الدين، فما أردنا بذلك إلا رضي الله وطاعة نبيه فلا نبتغي به من الدنيا عوضا، ولا نستطيل به على الناس. فقال الحباب بن المنذر: نفست والله عن ابن عمك يا بشير. فقال:
لا والله ولكن كرهت أن أنازع قوما حقهم. فأشار أبو بكر إلى عمر وأبي عبيدة فامتنعا وبايعا أبا بكر وسبقهما إليه بشير بن سعد، ثم تناجي الأوس فيما بينهم وكان فيهم أسيد بن حضير أحد النقباء وكرهوا إمارة الخزرج عليهم وذهبوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه، وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحابه اتقوا سعدا لا تقتلوه. فقال عمر: اقتلوه قتله الله. وتماسكا فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرّفق هنا أبلغ. فأعرض عمر ثم طلب سعد في البيعة فأبى وأشار بشير بن سعد بتركه، وفقال: إنما هو رجل واحد، فأقام سعد لا يجتمع معهم في الصلاة ولا يفيض معهم في الحديث [7] حتى هلك أبو بكر. ونقل الطبري
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فقال المنذر بن الحباب.
[2] اي جديدا كما بدأ والأصح ان يقول جذعا بدل جذعة.
[3] الّذي يستجار به ويستغني برأيه.
[4] أي الذكي اللبق والمرجّب المهان (قاموس)
[5] وفي نسخة أخرى: المنذر بن الحباب.
[6] وفي النسخة الباريسية: بشير بن سعد والد النعمان من بني كعب بن الخزرج.
[7] وفي النسخة الباريسية: في الحج.(2/488)
أن سعدا بايع يومئذ، وفي أخبارهم أنه لحق بالشام فلم يزل هنالك حتى مات وأن الجن قتلته وينشدون البيتين الشهرين وهما
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ... فرميناه بسهمين فلم نخط فؤاده
الخلافة الإسلامية
الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة وما كان فيها من الرّدة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الإسلام ثم الاتفاق والجماعة
ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمر السقيفة كما قدمناه، أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر ولم يخالف إلا سعد إن صحّ خلافه فلم يلتفت إليه لشذوذه. وكان من أوّل ما أعتمده إنفاذ بعث أسامة، وقد ارتدت [1] العرب إمّا القبيلة مستوعبة وإمّا بعض منها، ونجم النفاق والمسلمون كالغنم في الليلة الممطرة لقلّتهم وكثرة عدوّهم وإظلام الجوّ بفقد نبيّهم، ووقف أسامة بالناس ورغب من عمر التخلف عن هذا البعث والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر، وقالت له الأنصار فإن أبي إلّا المضي فليول علينا أسنّ من أسامة. فأبلغ عمر ذلك كله أبا بكر فقام وقعد وقال: لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرج وأنفذه. ثم خرج حتى أتاهم فأشخصهم وشيّعهم وأذن لعمر في الشخوص، وقال: أوصيكم بعشر فاحفظوها عليّ: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الطفل ولا الشيخ ولا المرأة ولا تفرقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلّا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم أقواما فحصوا أواسط رءوسهم وتركوا حولها فتل العصاب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا ترفعوا باسم الله يا أسامة اصنع ما أمرك به نبي الله ببلاد قضاعة ثم أتت آفل ولا تقصر في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» . ثم ودّعه من الجرف ورجع.
وقد كان بعث معه من القبائل من حول المدينة الذين لهم الهجرة في ديارهم وحبس من بقي منهم فصار مسالح حول قبائلهم ومضي أسامة مغذّا وانتهى لما أمر النبي صلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أرادت.(2/489)
الله عليه وسلم وبعث الجنود في بلاد قضاعة وأغار على أبني [1] فسبى وغنم ورجع لأربعين يوما وقيل لسبعين، ولم يحدث أبو بكر في مغيبه شيئا، وقد جاء الخبر بارتداد العرب عامّة وخاصة إلا قريشا وثقيفا، واستغلظ أمر مسيلمة واجتمع على طليحة عوام طيِّئ وأسد وارتدت غطفان وتوقفت هوازن فأمسكوا الصدقة، وارتد خواص من بني سليم وكذا سائر الناس بكل مكان. وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبنى أسد ومن الأمراء من كل مكان بانتقاض العرب عامّة أو خاصة، وحاربهم بالكتب والرسل وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، فعاجلته عبس وذبيان ونزلوا في الأبرق ونزل آخرون بذي القصة ومعهم حبال [2] من بني أسد ومن انتسب إليهم من بني كنانة، وبعثوا وفدا إلى أبي بكر نزلوا على وجوه من الناس يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة، فأبي أبو بكر من ذلك، وجعل على أنقاب المدينة عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد. ورجع وفد المرتدين وأخبروا قومهم بقلّة أهل المدينة فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة، فبعثوا إلى أبي بكر فخرج في أهل المسجد على النواضح، فهربوا والمسلمون في أتباعهم إلى ذي خشب، ثم نفروا إبل المسلمين بلعبات اتخذوها فنفرت ورجعت بهم وهم لا يملكونها إلى المدينة ولم يصبهم شيء، وظن القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى أهل ذي القصة يستقدمونهم.
ثم خرج أبو بكر في التعبية وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرّن [3] ، وعلى الساقة سويد بن مقرن، وطلع عليهم مع الفجر واقتتلوا فما ذرّ قرن الشمس إلا وقد هزموهم وغنموا ما معهم من الظهر وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر إلى ذي القصة فجهز بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة، ووثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم وفعل ذلك غيرهم من المرتدين، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين مثل من قتلوه من المسلمين وزيادة. واعتز المسلمون بوقعة أبي بكر وطرقت المدينة صدقات. وقدم أسامة فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وخرج في نفر إلى ذي خشب [4] وإلى ذي القصة ثم سار حتى نزل على أهل
__________
[1] قوله أبنى بضم الهمزة: موضع بناحية البلقاء أهـ.
[2] وفي نسخة ثانية خبال.
[3] وفي النسخة الباريسية: معرور.
[4] وفي النسخة الباريسية: ذي حسا.(2/490)
الرَّبَذَة بالأبرق وبها عبس وذبيان وبنو بكر من كنانة وثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة، فاقتتلوا وانهزم القوم، وأقام أبو بكر على الأبرق، وحرم تلك البلد على بني ذبيان ثم رجع إلى المدينة.
ردّة اليمن: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وبني كنانة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص على المدر، ومالك بن عوف على الوبر، وعلى عجز هوازن عكرمة بن أبي جهل، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين زمع وزبيد إلى نجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها عامر بن شهر الهمدانيّ، وعلى صنعاء فيروز الديلميّ ومسانده دادويه وقيس بن مكشوح المرادي رجعوا إليها بعد قتل الأسود، وعلى الجنديعلي بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين وعكّ الطاهر بن أبي هالة، وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي وعكاشة بن ثور بن أصفر الغوثي، وعلى كندة المهاجر بن أبي أمية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه في غزوة تبوك فاسترضته له أم سلمة وولاه على كندة، ومرض فلم يصل إليها، وأقام زياد بن لبيد ينوب عنه. وكان معاذ بن جبل يعلم القرآن باليمن يتنقل على هؤلاء وعلى هؤلاء في أعمالهم.
وثار الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه بالرسل وبالكتب فقتله الله وعاد الإسلام في اليمن كما كان، فلما بلغهم الموت انتقضت اليمن وارتدّ أهلها في جميع النواحي وكانت الفالة من جند العنسيّ بين نجران وصنعاء لا يأوون إلى أحد، ورجع عمرو بن حزم إلى المدينة واتبعه خالد بن سعيد، وكان عمرو بن معديكرب بالجبال حيال فروة بن مسيك وابن مكشوح وتحيل في قتل الأبناء فيروز ودادويه وخشنش والاستبداد بصنعاء، وبعث إلى الفالة من جيش الأسود يغريهم بالأبناء ويعدهم المظاهرة عليهم فجاءوا إليه، وخشي الأبناء غائلتهم وفزعوا إليه فأظهر لهم المناصحة، وهيأ طعاما فجمعهم له ليغدر بهم فظفر بدادويه وهرب فيروز وخشنش وخرج قيس في أثرهما، فامتنعا بخولان أخوال فيروز وثار قيس بصنعاء وجبى ما حولها، وجمع الفالة من جنود الأسود إليه. وكتب فيروز إلى أبي بكر بالخبر، فكتب له بولاية صنعاء، وكتب إلى الطاهر بن أبي هالة بإعانته، وإلى عكاشة بن ثور بأن يجمع أهل(2/491)
تهامة ويقيم بمكانه، وكتب إلى ذي الكلاع سميفع [1] وذي ظليم حوشب وذي تبان شهر بإعانة الأبناء وطاعة فيروز وأن الجند يأتيهم. وأرسل إليهم قيس بن مكشوح يغريهم بالأبناء، فاعتزل الفريقان واتبعت عوامّهم قيس بن مكشوح في شأنه، وعمد قيس إلى عيلات الأبناء الذين مع فيروز فغرّبهم وأخرجهم من اليمن في البرّ والبحر وعرضهم للنهبى، فأرسل فيروز إلى بني عقيل بن ربيعة وإلى عكّ يستصرخهم، وفاعترضوا عيال فيروز والأبناء الذين معه فاستنقذوهم وقتلوا من كان معه، وجاءوا إلى فيروز فقاتلوا معه قيس بن مكشوح دون صنعاء فهزموه، ورجع إلى المكان الّذي كان به مع فالة الأسود العنسيّ.
وانضاف قيس إلى عمرو بن معديكرب وهو مرتد منذ تنبأ الأسود العنسيّ، وقام حيال فروة بن مسيك، وقد كان فروة وعمرو أسلما وكذلك قيس، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيسا على صدقات مراد، وكان عمرو قد فارق قومه سعد العشيرة مع بني زبيد وأحلافها وانحاز إليهم فأسلم معهم وكان فيهم فلما انتقض الأسود، واتبعه عوام مذحج كان عمرو فيمن اتبعه، وأقام فروة فيمن معه على الإسلام فولى الأسود عمرا وجعله بحياله.
وكانت كندة قد ارتدوا وتابعوا الأسود العنسيّ بسبب ما وقع بينهم وبين زياد الكندي في أمر فريضة من فرائض الصدقة أطلقها بعض بني عمرو بن معاوية بعد أن وقع عليها ميسم الصدقة غلطا، فقاتلهم زياد وهزمهم، فاتفق بنو معاوية على منع الصدقة والردّة إلا شراحيل بن السمط وابنه، وأشير على زياد بمعاجلتهم قبل أن ينضم إليهم بعض السكاسك وحضرموت وأبضعه وجمد ومشرح ومخوس وأختهم العمرة، وهرب الباقون ورجع زياد بالسبي والغنائم، ومرّ بالأشعث بن قيس وبني الحرث بن معاوية واستغاث نساء السبي فغار الأشعث وتنقذهم، ثم جمع بني معاوية كلهم ومن أطاعه من السكاسك وحضرموت وأقام على ردّته.
وكان أبو بكر قاد حارب أهل الردة أولا بالكتب والرسل ولم يرسل إلى من ارتد وابتدأ بالمهاجرين والأنصار، ثم استنفر كلا على من يليه حتى فرغ من آخر أمور الناس لا يستعين بمرتد، وكتب إلى عتاب بن أسيد بمكة وعثمان بن أبي العاص بالطائف بركوب من ارتد بمن لم يرتدّ وثبت على الإسلام من أهل عملهما. وقد كان اجتمع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سميقح.(2/492)
بتهامة أو شاب [1] من مدلج وخزاعة، فبعث عتاب إليهم ففرّقهم وقتلهم. واجتمع بشنوءة جمع من الأزد وخثعم وبجيلة فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص من فرّقهم وقتلهم. واجتمع بطريق الساحل من تهامة جموع من عكّ والأشعريين فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العكّي فهزموهم وقتلوهم، وأقام بالأجناد ينتظر أمر أبي بكر ومعه مسروق العكي. وبعث أهل نجران من بني الأفعى الذين كانوا بها قبل بني الحرث وهم في أربعين ألف مقاتل، وجاء وفدهم يطلبون إمضاء العهد الّذي بأيديهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فأمضاه أبو بكر إلا ما نسخه الوحي بأن لا يترك دينان بأرض العرب.
ورجعت رسل النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان بعثهم عند انتقاض الأسود العنسيّ وهم: جرير بن عبد الله والأقرع ووبر بن يحنس [2] فرد أبو بكر جريرا، ليستنفر من ثبت على الإسلام على من ارتدّ ويقاتل خثعم الذين غضبوا لهدم ذي الحليفة فيقتلهم ويقيم بنجران، فنفذ ما أمره به ولم يمر به أحد إلّا رجال قليل تتبعهم بالقتل، وسار إلى نجران وكتب أبو بكر إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب البعوث على مخاليف أهل الطائف، فضرب على كل مخالف عشرين وأمر عليهم أخاه، كتب إلى عتاب بن أسيد أن يضرب على مكة وعملها خمسمائة بعث وأمر عليهم أخاه خالدا وأقاموا ينتظرون، ثم أمر المهاجر بن أبي أمية بأن يسير إلى اليمن ليصلح من أمره ثم ينفذ إلى عمله وأمره بقتال من بين نجران وأقصى اليمن ففعل ذلك، ومرَّ بمكة والطائف فسار معهم خالد بن أسيد وعبد الرحمن بن أبي العاص بمن معهما، ومرّ بجرير بن عبد الله وعكاشة بن ثور فضمهما إليه، ثم مر بنجران وانضم إليه فروة بن مسيك، وجاءه عمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح فأثقهما وبعث بهما إلى أبي بكر، وسار إلى لقائه فتتبعهم بالقتل ولم يؤمنهم فقتلوا بكل سبيل. وحضر قيس عند أبي بكر فحظر قتل دادويه ولم يجد أمرا جليلا في أمره، وتاب عمرو بن معديكرب واستقال فاقالهما وردّهما.
وسار المهاجر حتى نزل صنعاء وتتبع شذاذ القبائل فقتل من قدر عليه وقبل توبة من رجع إليه وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء، فجاءه الجواب بأن يسير إلى كندة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وشباب.
[2] وفي نسخة ثانية: بن مخنس.(2/493)
مع عكرمة بن أبي جهل وقد جاءه من ناحية عمان ومعه خلق كثير من مهرة والأزد وناجية وعبد القيس وقوم من مالك بن كنانة وبني العنبر، وقدم أبين وأقام بها لاجتماع النخع وحمير ثم سار مع المهاجر إلى كندة، وكتب زياد إلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالمفازة بين مأرب وحضرموت، فاستخلف عكرمة على الناس وتعجل إلى زياد ونهدوا إلى كندة وعليهم الأشعث بن قيس فهزموهم وقتلوهم وفرّوا إلى النجير حصن لهم فتحصنوا فيه مع من استغووه من السكاسك وشذاذ السكون [1] وحضرموت وسدّوا عليهم الطريق إلا واحدة جاء عكرمة بعدهم فسدّها وقطعوا عنهم المدد، وخرجوا مستميتين في بعض الأيام فغلبوهم وأخرجوهم. واستأمن الأشعث إلى عكرمة بما كانت أسماء بنت النعمان بن الجون تحته فخرج إليه، وجاء به إلى المهاجر وأمّنه في أهله وماله وتسعة من قومه على أن يفتح لهم الباب، فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فكان في السبي ألف امرأة، فلما فرغ من النجير دعا بكتاب الأمان من الأشعث وإذا هو قد كتب غرض نفسه في التسعة رجال من أصحابه، فأوثقه كتافا وبعث به إلى أبي بكر ينظر في أمره، فقدم مع السبايا والأسرى، فقال له أبو بكر: أقتلك. قال إني راودت القوم على عشرة وأتيناهم بالكتاب مختومة، فقال أبو بكر: إنما الصلح على من كان في الصحيفة وأما غير ذلك فهو مردود [2] . فقال يا أبا بكر: احتسب في وأقلني واقبل إسلامي وردّ عليّ زوجتي، وقد كان تزوج أم فروة أخت أبي بكر حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرها إلى أن يرجع، فأطلقه أبو بكر وقبل إسلامه وردّ عليه زوجته وقال ليبلغني عنك خير، ثم خلّي عن القوم فذهبوا وقسم الأنفال.
بعث الجيوش للمرتدين
لما قدم أسامة ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة ومضى إلى الرَّبَذَة فهزم بني عبس وذبيان وكنانة بالأبرق ورجع إلى المدينة كما قدّمناه، حتى إذا استجم جند أسامة وتاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة على بريد من تلقاء نجد، فقعد فيها أحد عشر لواء على أحد عشر جندا لقتال أهل الردّة، وأمر كل واحد باستنفار
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وشذاذ الكون.
[2] وفي النسخة الباريسية: واما قبل ذلك فهو مراودة.(2/494)
من يليه من المسلمين من كل قبيلة، وترك بعضها لحماية البلاد. فعقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح، ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة واليمامة ثم اردفه بشرحبيل بن حسنة وقال له: إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة ثم تمضي إلى كندة بحضرموت، ولخالد بن سعيد بن العاص وقد كان قدم بعد الوفاة الى المدينة من اليمن وترك أعماله فبعثه إلى مشارف الشام، ولعمرو بن العاص إلى قتال المرتدة من قضاعة، ولحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة فحذيفة لأهل دبا وعرفجة لمهرة وكل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه، ولطريفة بن حاجز وبعثه إلى بني سليم ومن معهم من هوازن، ولسويد بن مقرن وبعثه إلى تهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرميّ وبعثه إلى البحرين.
وكتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد اليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره بالجدّ في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرّوا له ثم ينبئهم بالذي عليهم والّذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الّذي لهم لا ينظرهم ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم. فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقرّ له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروب. وطنماذ يقاتل من كفر باللَّه على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان الله حسيبه بعد فيما استسرّ به، ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئا مما أعطى إلّا الإسلام فمن أجابه وأقرّ قبل منه وأعانه، ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عز وجلّ قتلهم فيه كل قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه ويمنع أصحابه العجلة والفساد وأن يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول» انتهى.
وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدة كتابا واحدا في نسخ كثيرة على يد رسل تقدّموا بين أيديهم نصه بعد البسملة: «هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى(2/495)
الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة أقام على الإسلام أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع إلى الضلالة والهوى، [1] فإنّي أحمد إليكم الله الّذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأو من بما جاء به وأكفر من أبى وأجاهده أما بعد» . ثم قرّر أمر النبوة ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطنب في الموعظة ثم قال: «وإني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته ألا يقاتل أحد ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه، ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية للأذان فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفّوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبو عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم» انتهى. فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود وخرجت الأمراء ومعهم العهود وكان أوّل ما بدأ به خالد طليحة وبني أسد.
خبر طليحة
كان طليحة قد ارتدّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كاهنا فادّعى النبوّة واتبعه أفاريق من بني إسرائيل [2] ونزل سميراء، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور إلى قتاله مع جماعة، فاجتمع عليهم المسلمون وهم ضرار بمناجزته، فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاستطار أمر طليحة واجتمعت إليه غطفان وهوازن وطيِّئ، وفرّ ضرار ومن معه من العمال إلى المدينة وقدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك، وخرج كما قدّمناه إلى غطفان وأوقع بهم بذي القصة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة وبني أسد ببزاخة وكذلك فعلت طيِّئ وأقامت بنو عامر وهوازن ينتظرون.
وجمل [3] خالد إلى طليحة ومعه عيينة بن حصن على بزاخة من مياه بني أسد وأظهر أنه
__________
[1] وفي نسخة الباريسية: والعمى.
[2] وفي النسخة الباريسية: بني أسد.
[3] وفي نسخة ثانية: صمد.(2/496)
يقصد خيبر ثم ينزل إلى سلمى وأجأ فيبدأ بطيء. وكان عديّ بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له: أنا أجمع لك قبائل طيِّئ يصحبونك إلى عدوّك. وسار إليهم فجاء بهم وبعث خالد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم من الأنصار طليحة ولقيهما طليحة وأخوه فقتلاهما ومرّ بهما المسلمون فعظم عليهم قتلهما. ثم عبّى خالد كتائبه وثابت بن قيس على الأنصار وعديّ بن حاتم على طيِّئ ولقي القوم فقاتلهم، وعيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من غطفان، واشتدّ المجال بينهم وطليحة في عباءة يتكذب لهم في انتظار الوحي، فجاء عيينة بعد ما ضجر من القتال [1] وقال: هل جاءك أحد بعد؟ قال: لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال: جاء. وقال إنّ لك رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه. فقال عيينة: يا بني فزارة الرجل كذاب، وانصرف فانهزموا وقتل من قتل وأسلم الناس طليحة فوثب على فرسه واحتقب امرأته فنجا بها إلى الشام، ونزل في كلب [2] من قضاعة على النقع حتى أسلمت أسد وغطفان، فأسلم ثم خرج معتمرا أيام عمر ولقيه بالمدينة فبايعه وبعثه في عساكر الشام، فأبلى في الفتح، ولم يصب عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط وأسلموا خشية على ذراريهم.
خبر هوازن وسليم وبني عامر
كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة وما تصنع أسد وغطفان حتى أحيط بهم وكان قرة ابن هبيرة في كعب وعلقمة بن علاثة [3] في كلاب وكان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف، ولما قبض النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه، وبلغ أبا بكر خبره فبعث إليه سرية مع القعقاع ابن عمر ومن بني تميم فأغار عليهم، فأفلت وجاء بأهله وولده وقومه فأسلموا. وكان قرّة بن هبيرة قد لقي عمرو بن العاصي منصرفه من عمان بعد الوفاة وأضافه وقال له: اتركوا الزكاة فانّ العرب لا تدين لكم بالإتاوة، فغضب لها عمرو وأسمعه وأبلغها أبا بكر، فلما أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم فجاءوا إلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام، إلا من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عند ما ظهر القتال.
[2] اي نزل عند بني كلب.
[3] وفي نسخة ثانية: بن علاقة.(2/497)
عدا على أحد من المسلمين أيام الردّة فإنه تتبعهم فأحرق وقمط [1] ورضخ بالحجارة ورمى من رءوس الجبال، ولما فرغ من أمر بني عامر أوثق عيينة بن حصن وقرّة بن هبيرة وبعث بهما إلى أبي بكر فتجاوز لهما وحقّ دماءهما.
ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة من بدر بن ظفر في الحوأب فنزلوا إليها وتذامروا، وكانت سلمى هذه قد سبيت قبل وأعتقتها عائشة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد دخل عليها وهي في نسوة ببيت عائشة فقال:
إنّ أحدا كن تستنبح كلاب الحوأب، وفعلت ذلك واجتمع إليها الفلال من غطفان وهوازن وسليم وطيِّئ وأسد، وبلغ ذلك خالدا وهو يتبع الثأر ويأخذ الصدقات، فسار إليهم وقاتلهم وسلمى واقفة على جملها حتى عقر وقتلت وقتل حول هودجها مائة رجل، فانهزموا وبعث خالد بالفتح على أثره بعده بعشرين ليلة.
وأما بنو سليم فكان الفجاءة بن عبد ياليل قدم على أبي بكر يستعينه مدعيا إسلامه ويضمن له قتال أهل الردّة فأعطاه وأمره، وخرج إلى الجون وارتد وبعث نجية بن أبي المثنى ومن بني الشريد، وأمره بشن الغارة على المسلمين في سليم وهوازن. فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه، فقتل نجية وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطبا ثم رمى به في النار مقموطا، وفاءت بنو سليم كلهم وفاء معهم أبو شجرة بن عبد العزى بأو الخنساء وكان فيمن ارتد.
خبر بني تميم وسجاح
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله في بني تميم الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء وقيس بن عاصم على المقاعس والبطون وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ووكيع بن مالك على بني مالك ومالك بن نويرة على حنظلة [2] ، فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بني عمرو، وجاء الزبرقان بصدقات أصحابه، وخالفه قيس بن عاصم في المقاعس والبطون لأنه كان ينتظره، وبقي من أسلم منهم متشاغلا بمن تربص أو ارتاب. وبينما هم على ذلك فجئتهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقحط.
[2] وفي نسخة ثانية: على بني حنظلة.(2/498)
سجاح [1] بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب وكانت تنبأت بعد الوفاة، واتبعها الهذيل بن عمران في بني تغلب وعقبة بن هلال في النمر والسليل بن قيس في شيبان وزياد بن بلال وكان الهذيل نصرانيا فترك دينه إلى دينها، وأقبلت من الجزيرة في هذه المجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر والمسلمين، وانتهت إلى الجرف [2] فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة، فوادعها مالك بن نويرة وثناها عن الغزو وحرّضها [3] على بني تميم ففرّوا أمامها، ورجع إليها وكيع بن مالك واجتمعت الرباب وضبة فهزموا أصحاب سجاح وأسروا منهم، ثم اصطلحوا.
وسارت سجاح فيمن معها تريد المدينة فبلغت النباج فاعترضهم بنو الهجيم [4] فيمن تأشب [5] إليهم من بني عمرو وأغاروا عليهم فأسر الهذيل وعقبة، ثم تحاجزوا على أن تطلق أسراهم ويرجعوا ولا يجتازوا عليهم، ورجع عن سجاح مالك بن نويرة ووكيع بن مالك إلى قومهم ويئست سجاح وأصحابها من الجواز عليهم، ونهدت إلى بني حنيفة وسار معها من تميم الزبرقان بن بدر [6] وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن حريث [7] وشبث بن ربعي ونظراؤهم، وصانعها مسيلمة بما كان فيه من مزاحمة ثمامة بن أثال له في اليمامة. وزحف شرحبيل بن حسنة والمسلمون إليه فاهدى لها واستأمنها وكانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب، فقال لها مسيلمة:
نصف الأرض لنا ونصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك.
ويقال إنها جاءت إليه واستأمنته وخرج إليها من الحصن إلى قبة ضربت لها بعد أن جمرها [8] فدخل إليها وتحرّك الحرس حوالي القبة فسجع لها وسجعت له من أسجاع الفرية، فشهدت له بالنّبوّة وخطبها لنفسه فتزوجته وأقامت عنده ثلاثا ورجعت إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: شجاح.
[2] وفي نسخة ثانية: الحرث.
[3] وفي النسخة الباريسية: فحملها على بني تميم.
[4] وفي نسخة ثانية: النجيم.
[5] تأشب القوم: اختلطوا (قاموس) .
[6] وفي النسخة الباريسية: بن زيد.
[7] وفي النسخة الباريسية: بن حرسه.
[8] اي نجرّها وطيّبها وفي النسخة الباريسية خمرها.(2/499)
قومها، فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها: ناد في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر والعتمة مما فرض عليهم محمد، وصالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته وسألت أن يسلفها النصف للعام القابل، ودفعت الهذيل وعقبة لقضبه فهم على ذلك، وإذا بخالد بن الوليد وعساكره قد أقبلوا فانفضت جموعهم وافترقوا، ولحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة، وأسلمت حينئذ سجاح وحسن إسلامها. ولما افترق وفد الزبرقان والأقرع على أبي بكر وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونحن نضمن لك أمرها ففعل وكتب لهم بذلك، وكان طلحة بن عبيد الله يتردّد بينهم في ذلك، فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزقه ومحاه وغضب طلحة، وقال لأبي بكر رضي الله عنه: أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه؟ فقال:
عمر غير أن الطاعة لي. وشهد الأقرع والزبرقان مع خالد اليمامة والمشاهد كلها. ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة.
البطاح ومالك بن نويرة
لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيرا في أمره واجتمع إليه من تميم بنو حنظلة واجتمعوا بالبطاح، فسار إليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار أبي بكر، فأبي إلا انتهاز الفرصة من هؤلاء، فرجعوا إلى اتباعه ولحقوا به. وكان مالك بن نويرة لما تردّد في أمره فرّق بني حنظلة في أموالهم ونهاهم عن القتال ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد بعث السرايا يدعون إلى الإسلام ويأتون بمن لم يجب أن يقتلوه، فجاءوا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع واختلفت السريّة فيهم، فشهد أبو قتادة أنهم أذنوا وصلّوا فحبسهم عند ضرار بن الأزور وكانت ليلة ممطرة فنادى مناديه أن أدفئوا أسراكم وكانت في لغة كنانة كناية [1] عن القتل فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيا. وسمع خالد الواعية فخرج متأسفا وقد فرغوا منهم، وأنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد، فغضب ولحق بأبي بكر ويقال: إنهم لما جاءوا بهم إلى خالد خاطبه مالك بقوله: فعل صاحبكم شأن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكانت في لغته كناية.(2/500)
صاحبكم فقال له خالد: أو ليس لك بصاحب؟ ثم قتله [1] وأصحابه كلهم ثم قدم خالد على أبي بكر وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو يعزله فأبى، وقال:
ما كنت أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين، وودى مالكا وأصحابه وردّ خالدا إلى عمله.
خبر مسيلمة واليمامة
لما بعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم وكتب إلى أبي بكر بالخبر، فكتب إليه لا ترجع فتوهن الناس وامض إلى حذيفة وعرفجة فقاتلوا مهرة وأهل عما فإذا فرغتم فامض أنت وجنودك واستنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت، وكتب إلى شرحبيل يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن مع عمرو بن العاص على من ارتدّ منهم. ولما فرغ خالد من البطاح ورضي عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة وأوعب معه الناس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبرّاء بن عازب، وتعجّل خالد إلى البطاح وانتظر البعوث حتى قدمت عليه، فنهض إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها وحجرها، وتعجل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب وجاء خالد فلامه على ذلك.
ثم جاء خليط من عند أبي بكر مددا لخالد ليكون ردءا له من خلفه ففرّت جموع كانت تجمعت هنالك من فلال سجاح، وكان مسيلمة قد جعل لها جعلا.
وكان الرّجال [2] بن عنفوة من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الأمر لأنّ الرجال، كان قد هاجر وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وتفقّه في الدين فلما ارتدّ مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلما لأهل اليمامة ومشغبا على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة
__________
[1] رثاه اخوه بقصيدة من أشجا الشعر وأحزنه. منها:
لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
وقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى، فالدكادك؟
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك.
[2] الرجّال بوزن شدّاد بالجيم، قال في القاموس: ووهم من ضبطه بالحاء. واسمه على ما في البداية: نهار اقاله نصر) وفي النسخة الباريسية الرحال(2/501)
منه. واتبع مسيلمة على شأنه وشهد له وكان يؤذن لمسيلمة ويشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم:، فعظم شأنه فيهم وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان مسيلمة يسجع لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه، ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضدّ المقصود.
ولما بلغ مسيلمة وبني حنيفة دنو خالد، خرجوا وعسكروا في منتهى ريف اليمامة [1] واستنفروا الناس فنفروا إليهم، وأقبل خالد ولقيه شرحبيل بن حسنة فجعله على مقدمته، حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر وبني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامة فقتلوهم أجمعين، وقيل له استبق مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى.
ثم سار خالد ونازل بني حنيفة ومسيلمة والرجال على مقدمة مسيلمة واشتدت الحرب وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خباء خالد، ومجاعة بها أسير مع أم متمم [2] زوجة خالد، فدافعهم عنها مجاعة وقال: نعمت الحرة. ثم تراجع المسلمون وكرّوا على بني حنيفة فقال المحكم بن الطفيل: ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فاني أمنع أدباركم، فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تذامر المسلمون وقاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو حذيفة ثم سالم مولاه ثم البراء أخو أنس بن مالك وكان تأخذه عند الحرب رعدة حتى ينتفض ويقعد عليه الرجال حتى يبول، ثم يثور كالأسد فقاتل وفعل الأفاعيل. ثم هزم الله العدو وألجأهم المسلمون إلى الحديقة وفيها مسيلمة فقال البراء ألقوني عليهم من أعلى الجدار فاقتحم، وقاتلهم على باب الحديقة ودخل المسلمون عليهم، فقتل مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ، وكان زيد بن الخطاب قتل الرجال بن عنفوة. وكان خالد لما نازل بني حنيفة ومسيلمة ودارت الرحى عليه طلب البراز فقتل جماعة، ثم دعا مسيلمة للبراز والكلام محادثة يجاول فيه غرة وشيطانه يوسوس إليه، ثم ركبه خالد فأرهقه وأدبروا وزالوا عن مراكزهم وركبهم المسلمون فانهزم [3] . وتطاير الناس عن مسيلمة بعد أن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ريف اليمن.
[2] وفي رواية: غير أم تميم، وفي النسخة الباريسية مع أم أميم.
[3] اي فانهزم أصحاب مسيلمة.(2/502)
قالوا له أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا على أحسابكم. وأتاه وحشي فرماه بحربته فقتل.
واقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها وأبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة، وجاء خالد بمجاعة ووقفه على القتلى ليريه مسيلمة فمرّ بمحكم فقال: هو ذا؟ فقال مجاعة: هذا والله خير منه، ثم أراه مسيلمة رويجل دميم أخينس، فقال خالد: هذا الّذي فعل فيكم ما فعل، فقال مجاعة: قد كان ذلك وإنه والله ما جاءك إلّا سرعان الناس وإنّ جماهيرهم في الحصون فهلم أصالحك على قومي. وقد كان خالد التقط من دون الحصون ما جاء من مال ونساء وصبيان ونادى بالنزول عليها فلما قال له مجاعة ذلك قال له: أصالحك على ما دون النفوس. وانطلق يشاورهم فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال أبوا أن يجيزوا يشاورهم فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال أبوا أن يجيزوا ذلك، ونظر خالد إلى رءوس الحصون قد اسودّت والمسلمون قد نهكتهم الحرب وقد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة وستين، ومن المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون، وقد فشت الجراحات فيمن بقي، فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء والبيضاء، ونصف السبي والحلقة وحائط ومزرعة من كل قرية، فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه. وفتحت الحصون فلم يجد فيها إلّا النساء والصبيان فقال خالد: خدعتني يا مجاعة فقال: قومي ولم أستطع إلّا ما صنعت فعقد له وخيرهم ثلاثا فقال: له سلمة بن عمير لا نقبل صلحا ونعتصم بالحصون ونبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير والشتاء قد حضر، فتشاءم مجاعة برأيه وقال لهم لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا، فخرج معه سبعة من وجوه القوم وصالحوا خالدا وكتب لهم وخرجوا إلى خالد للبيعة والبراءة مما كانوا عليه. وقد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه وأطلع أصحابه على غدره فأوثقوه وحبسوه ثم أفلت فاتبعوه وقتلوه. وكان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة، فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم، ووفى لهم وبعث وفدا منهم إلى أبي بكر بإسلامهم فلقيهم وسألهم عن اسجاع مسيلمة فقصّوها عليه، فقال سبحان الله هذا الكلام ما خرج من إلّا ولا برّ فأين يذهب بكم عن أحلامكم وردّهم إلى قومهم.(2/503)
ردّه الحطم وأهل البحرين
لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل عنها إلى واد من أوديتها وكانت عبد القيس وبكر بن وائل وغيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدّوا بعد الوفاة وكذا المنذر بن ساوى من بعدها بقليل، فأما عبد القيس فردّهم الجارود بن المعلى وكان قد وفد وأسلم ودعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا وقالوا لو كان نبيا ما مات فقال لهم الجارود تعلمون أن الله أنبياء من قبله ولم تروهم وتعلمون أنهم ماتوا ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات ثم تشهد فتشهدوا معه وثبتوا على إسلامهم، وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوى والمسلمين.
وقال ابن إسحاق كان أبو بكر بعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه فلما كانت الوفاة وارتدت ربيعة ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمّى المغرور، فأقاموه ملكا كما كان قومه بالحيرة، وثبت الجارود وعبد القيس على الإسلام، واستمرّ [1] بكر بن وائل على الردّة، وخرج الحطم بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بين القطيف وهجر، وبعث إلى دارين فأقاموا.
ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وأرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر وبعثه إلى جواثى [2] وقال اثبت فان ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة، فحاصره المسلمون [3] بجواثى وجاء العلاء بن الحضرميّ لقتال أهل الردة بالبحرين ومر باليمامة فاستنفر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة وكان مترددا، وألحق عكرمة بعمان ومهرة، وأمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردّة من قضاعة، عمرو يغاور سعدا وبلق وشرحبيل يغاور كلبا ولفها. ثم مرّ ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الرباب وبنو عمرو [4] ومالك بن نويرة بالبطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص وقيس بن عاصم من المقاعس، والبطون يواقف الزبرقان بن بدر والأبناء عوف وقد أطاعوه على الإسلام وحنظلة متوقفون. فلما رأى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: واستفحل أمر بكر.
[2] وفي النسخة الباريسية: الى جولة.
[3] وفي النسخة الباريسية: فحاصر المسلمين.
[4] وفي نسخة ثانية، بنو عمر.(2/504)
قيس بن عاصم تلقى الرباب وبني عمر [1] وقدم وجاء بالصدقات إلى العلاء وخرج معه لقتال البحرين، فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره ونزل هجر وبعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحطم وقومه مما يليه، واجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين، والمسلمون إلى العلاء، وخندقوا واقتتلوا وسمعوا في بعض الليالي ضوضأة شديدة أي جلبة وصياحا وبعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأنّ القوم سكارى، فبيتوهم ووضعوا السيوف فيهم واقتحموا الخندق وفر القوم هرابا فمتمرد وناج ومقتول ومأسور.
وقتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة، ولحق جابر بن بحير وضربه فقطع عصبه ومات، وأسر عفيف بن المنذر والمغرور بن سويد وقال للعلاء: أجرني فقال له العلاء: أنت غررت بالناس، فقال: لكني أنا مغرور، ثم أرسل وأقام بهجر.
ويقال إن المغرور اسمه وليس هو بلقب وقتل المغرور بن سويد بن المنذر وقسم الأنفال بين الناس، وأعطى عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال من أسلاب القوم وثيابهم، وقصد الفلال إلى دارين وركبوا السفين إليها ورجع الآخرون إلى قومهم.
وكتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل وإلى خصفة التميمي والمثنى بن حارثة بمثل ذلك، فرجعوا إلى دارين وجمعهم الله بها. ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل وعلم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين ثم لما ندب الناس إلى دارين وأن يستعرضوا البحر، فارتحلوا واقتحموا البحر على الظهر، وكلهم يدعو: يا ارحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حيّ يا قيوم لا إليه إلّا أنت يا ربنا. ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشيا فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم وليلة، فلقوا العدوّ واقتتلوا، وما تركوا بدارين مخبرا وسبوا الذراري واستاقوا الأموال، وبلغ نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين.
ورجع العلاء إلى البحرين وضرب الإسلام بجرانه. ثم أرجف المرجفون بأن أبا شيبان وثعلبة والحرقد جمعهم مفروق الشيبانيّ على الردة، فوثق العلاء باللهازم وتقاربهم [2]
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يلقي الرباب وعمرو العلاء.
[2] وفي نسخة أخرى: بان اللهازم تفارقهم.(2/505)
وكانوا مجمعين على نصره، وأقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام، وقفل ثمامة بن أثال فيهم. ومرّوا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الخطم عليه فقالوا هو قتله! فقال: لم أقتله ولكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا وقتلوه. وكتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الخطم قتله زيد وسميفع [1] فكتب إليه أبو بكر إن بلغك عن بني ثعلبة ما خاض فيه المرجفون فابعث إليهم جندا وأوصهم وشرّد بهم من خلفهم.
ردة أهل عمان ومهرة واليمن [2]
نبغ بعمان بعد الوفاة رجل من الأزد يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجلندي فدفع عنها الملكين اللذين كانا بها، وهما جيفر وعبد [3] ابنا الجلندي، فارتدّ وادعى النبوة وتغلب على عمان ودفع عنها الملكين، وبعث جيفر إلى أبي بكر بالخبر، فبعث أبو بكر حذيفة بن محصن من حمير وعرفجة البارقي، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة، وإن اجتمعا فالأمير صاحب العمل، وأمرهما أن يكاتبا كما مرّ، فأمره بالمسير إلى حذيفة وعرفجة ليقاتل معهما عمان ومهرة ويتوجه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن، فمضى عكرمة فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عمان، وقد عهد إليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة، فراسلوا جيفرا وعبدا وبلغ لقيطا مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا وعسكر جيفر وعبد بصحار، واستقدموا عكرمة وحذيفة وعرفجة وكاتبوا رؤساء الدين فقدموا بجيوشهم [4] ، ثم صمدوا إلى لقيط وأصحابه فقاتلوهم، وقد أقام لقيط عياله وراء صفوفه، وهمّ المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية وعليهم الحريث [5] بن راشد ومن عبد القيس وعليهم سنجار بن صرصار [6] فانهزم العدوّ وظفر [7] المسلمون، وقتلوا منهم نحوا من عشرة آلاف وسبوا الذراري والنساء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مسمع.
[2] وفي النسخة الباريسية: النمر. وفي الكامل ج 2 ص 374 ردّة اليمن.
[3] وفي نسخة ثانية: عبّاد.
[4] وفي النسخة الباريسية: فارفضوا إليهم.
[5] وفي نسخة ثانية: الخرّيت.
[6] وفي نسخة ثانية: سبحان بن صوحان.
[7] وفي النسخة الباريسية: واثخن.(2/506)
وتمّ الفتح، وقسّموا الأنفال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس ثمانمائة رأس.
وأقام حذيفة بعمان وسار عكرمة إلى مهرة وقد استنفر أهل عمان ومن حولها من ناحيته الأزد وعبد القيس وبني سعيد من تميم، فاقتحم مهرة بلادهم وهم على فرقتين يتنازعان الرئاسة فأجابه أحد الفريقين، وسار إلى الآخرين فهزمهم وقتل رئيسهم، وأصابوا منهم ألفي نجيبة. وأفاد المسلمون قوة بغنيمتهم وأجاب أهل تلك النواحي إلى الإسلام وهم أهل نجد والروضة والشاطئ والجزائر والمر واللبان وأهل جيرة وظهور الشحر [1] والفرات وذات الخيم، فاجتمعوا كلهم على الإسلام، وبعث إلى أبي بكر بذلك مع البشير وسارعوا إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر.
بعوث العراق وصلح الحيرة
ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إليه أبو بكر في المحرم من سنة اثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق ومرج الهند وهي الأبلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال قرب البصرة، فيتألف أهل فارس ومن في مملكتهم من الأمم. فسار من اليمامة وقيل قدم على أبي بكر ثم سار من المدينة، وانتهى إلى قرية بالسواد وهي بانقيا وبرسوما وصاحبهما جابان، فجاء صلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار [2] فقبضها خالد، ثم سار إلى الحيرة وخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي الأمير عليها بعد النعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو المناجزة، فصالحوه على تسعين ألف درهم، وقيل إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة ويدخل من أسفل العراق. وكتب إلى عياض بن غنم أن يبدأ بالمضيخ ويدخل من أعلى العراق، وأمر خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي وعياض بن عوف الحمي [3] ، وقد كان المثنى بن حارثة الشيبانيّ استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهم قبل قدوم خالد، فكتب أبو بكر إليه وإلى حرملة ومدعور وسلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلة وكانوا في ثمانية آلاف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الشمر وفي الطبري ج 3 ص 264: والصبرات.
[2] وفي نسخة ثانية: باروسما والليس وكانت لابن صلوبا، فصالحهم على عشرة آلاف دينار.
[3] وفي نسخة ثانية: الحميري.(2/507)
فارس، ومع خالد عشرة آلاف، فسار خالد في أوّل مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم وجاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر، وواعدهما الحفير ليجتمعوا به ويصادموا عدوهم وكان صاحب ذلك الفرج [1] من أساورة الفرس اسمه هرمز وكان يحارب العرب في البرّ والهند في البحر، فكتب إلى أردشير كسرى بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير، وجعل على مجنبتيه قباذ وأنوشجان يناسبانه في أردشير الأكبر واقترنوا بالسلاسل لئلا يفرّوا، وأروا خالدا أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها أيضا. وكان للعرب على هرمز حنق لسوء مجاورته وقدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء وقال: جالدوهم على الماء فإنّ الله جاعله لأصبر الفريقين، ثم أرسل الله سحابة فأغدرت من ورائهم.
ولما حطوا أثقالهم قدم خالد ودعا إلى النزال [2] فبرز إليه هرمز وترجلا ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فقتلهم وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون، وسميت الواقعة ذات السلاسل. وأخذ خالد سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر.
وسار فنزل بمكان البصرة وبعث المثنى بن حارثة في آثار العدو فحاصر حصن المرأة فتحه وأسلمت فتزوجها، وبعث معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها عتبة بن [3] غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة، ولم يتعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين وتركهم وعمارة البلاد كما أمرهم أبو بكر [4] . وكان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هرمز بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار إلى المدار [5] ولما انتهى إلى المذار [6] لقيه المنهزمون من هرمز ومعهم قباذ وأنوشجان فتذامروا ورجعوا ونزلوا النهر، وسار إليهم خالد واقتتلوا وبرزقان فقتله معقل بن الأعشى بن النباش وقتل عاصم أنوشجان وقتل عدي قباذ، وانهزمت الفرس وقتل منهم نحو ثلاثين ألفا سوى من غرق ومنعت المياه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المرج.
[2] وفي النسخة الباريسية: الى البراز.
[3] وفي نسخة ثانية: عقبة.
[4] وفي نسخة ثانية: كما أمر ابو بكر به.
[5] وفي نسخة ثانية: فسار من المدائن.
[6] وفي نسخة ثانية: الدار.(2/508)
المسلمين من طلبهم. وكانت الغنيمة عظيمة وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا في ذمّة، ولم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه، وتسمى هذه الوقعة بالثني وهو النهر.
ولما جاء الخبر إلى أردشير بالهزيمة بعث الأندرزغر وكان فارسا من مولدي السواد فأرسل في أثره عسكرا مع بهمن حاذويه، وحشد الأندرزغر ما بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين وعسكروا بالولجة، وسار إليهم خالد فقاتلهم وصبروا، ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا ومات الأندرزغر عطشا. وبذل خالد الأمان للفلّاحين فصاروا ذمة، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم وأصاب اثنين من نصارى بني وائل أحدهما جابر بن بجير والآخر ابن عبد الأسود من عجل فأسرهما، وغضب بكر بن وائل لذلك فاجتمعوا على الليس [1] وعليهم عبد الأسود العجليّ، فكتب أردشير إلى بهمن حاذويه، وقد أقام بعد الهزيمة كتابا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يقدم عليهم جابان من المرازبة، فقدم بهم على أردشير ليشاوره وخالفه جابان إلى نصارى العرب من عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من الحيرة وهم مجتمعون على الليس. وسار إليهم خالد حين بلغه خبرهم ولا مشعر لهم بجابان [2] ، فلما حط الأثقال سار إليهم وطلب المبارزة، فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد، واشتد القتال بينهم وسائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن، ثم انهزموا واستأسر الكثير منهم وقتلهم خالد حتى سال النهر بالدم وسمي نهر الدم، ووقف على طعام الأعاجم وكانوا قعودا للأكل فنفله المسلمين، وجعل العرب يتساءلون عن الرقاق يحسبونه رقاعا. وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا. ولما فرغ من الليس سار إلى أمغيشيا فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وخرّبها.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الليث.
[2] وفي نسخة أخرى: ولا يشعر بجابان.(2/509)
فتح الحيرة
ثم سافر خالد إلى الحيرة وحمل الرجال والأثقال في السفن، وخرج ابن زيان من [1] الحيرة ومعه الأزادية فعسكر عند الغريّين وأرسل ابنه ليقاطع الماء عن السفن، فوقفت على الأرض. وسار إليه خالد فلقيه على فرات باذقلا [2] فقتله وجميع من معه، وسار نحو أبيه على الحيرة فهرب بغير قتال لما كان بلغه من موت أردشير كسرى وقتل ابنه. ونزل خالد منزله بالغريّين وحاصر قصور الحيرة وافتتح الديور وصاح القسيسون والرهبان بأهل القصور فرجعوا على الاباية، وخرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض، وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان معمرا وسأله خالد عن عجيبة قد رآها، فقال: رأيت القرى ما بين دمشق والحيرة تسافر بينهما المرأة فلا تتزود إلا رغيفا واحدا. ثم جاءه واستقرب منه ورأى مع خادمه كيسا فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده، وقال ما هذا؟ قال خشيت أن تكونوا على غير ما وجدت فيكون الموت أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي، فقال له خالد: لن تموت حتى تأتي على أجلها. ثم قال: باسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء وابتلع السم فوعك ساعة ثم قام كأنما نشط من عقال. فقال عبد المسيح: لتبلغنّ ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا. ثم صالحهم على مائة أو مائتين وتسعين ألفا وعلى كرامة [3] بنت عبد المسيح لشريك كان النبي صلى الله عليه وسلم عرّف بها إذا فتحت الحيرة فأخذها شريك، وافتدت منه بألف درهم وكتب لهم بالصلح وذلك في أول سنة اثنتي عشرة.
فتح ما وراء الحيرة
كان الدهاقين يتربصون بخالد ما يصنع بأهل الحيرة فلما صالحهم واستقاموا له جاءته الدهاقين من كل ناحية فصالحوه عمّا يلي الحيرة من الفلاليح وغيرها على ألف ألف وقيل على ألفي ألف سوى جباية كسرى، وبعث خالد ضرار بن الأزور وضرار بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وخرج وزبان الحيرة.
[2] وفي نسخة أخرى: باذقلة.
[3] رواية الدميري الشيما والصحابي هو أوس بن خزيمة، انظر ترجمة البقلة (قاله نصر) .(2/510)
الخطّاب والقعقاع بن عمرو والمثنى بن حارثة وعيينة بن الشماس فكانوا في الثغور وأمرهم بالغارة، فمخروا السواد كله إلى شاطئ دجلة، وكتب إلى ملوك فارس:
«أما بعد فالحمد الله الّذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرّق كلمتكم ولو لم نفعل ذلك كان شرا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلّا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» . وكتب إلى المرازبة: «أما بعد فالحمد الله الّذي فض حدّتكم وفرق كلمتكم وجفل حرمكم وكسر شوكتم فأسلموا تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدّوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر» انتهى.
وكان العجم مختلفين بموت أردشير وقد أزالوا بهمن حاذويه فيمن سيره في العساكر، فجبى خالد خراج السواد في خمسين ليلة، وغلب العجم عليه، وأقام بالحيرة سنة يصعد ويصوب، والفرس حائرون فيمن يملكونه ولم يجدوا من يجتمعون عليه لأن سيرين كان قتل جميع من تناسب إلى بهرام جور. فلما وصل كتاب خالد تكلم نساء آل كسرى وولوا الفرّخزاد بن البندوان إلى أن يجدوا من يجتمعون عليه، ووصل جرير ابن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة، وكان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام، ثم قدم على أبي بكر فكلمه أن يجمع له قومه كما وعده النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أوزاعا [1] متفرقين في العرب، فسخط ذلك منه أبو بكر فقال:
تكلمني [2] بما لا يعني وأنت ترى ما نحن فيه من فارس والروم. وأمره بالمسير إلى خالد فقدم عليه بعد فتح الحيرة.
فتح الأنبار وعين التمر وتسمّى هذه الغزوة ذات العيون
ثم سار خالد على تعبيته إلى الأنبار وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، وكان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم ورشقوهم بالنبال حتى فقئوا منهم ألف عين. ثم نحر ضعاف الإبل وألقاها في الخندق حتى ردمه بها وجاز هو وأصحابه فوقها،
__________
[1] الجماعات ولا واحد لها (قاموس) .
[2] وفي النسخة الباريسية: تكلفني.(2/511)
فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق، وصالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه ويخلي لهم عن البلد وما فيها، فلحق ببهمن حاذويه. ثم استخلف خالد على الأنبار الزبرقان ابن بدر، وسار إلى عين التمر وبها بهرام [1] بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقبة بن أبي عقبة في جمع عظيم من العرب، وحولهم طوائف من النمر وتغلب وإياد وغيرهم من العرب. وقال عقبة لبهرام: دعنا وخالدا فالعرب أعرف بقتال العرب. فتركه لذلك واتقى به وسار عقبة إلى خالد وحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأخذه أسرا وانهزم العسكر عن غير قتال وأسر أكثرهم. وبلغ الخبر إلى بهرام [2] فهرب وترك الحصن وتحصن به المنهزمون، واستأمنوا لخالد فأبى، فنزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين، وعقبة معهم.
وغنم ما في الحصن وسبى عيالهم [3] وأولادهم وأخذ من البيعة وهي الكنيسة غلمانا كانوا يتعلمون الإنجيل ففرّقهم في الناس منهم: سيرين أبو محمد ونصير أبو موسى وحمران مولى عثمان، وبعث إلى أبي بكر بالفتح والخمس. وقتل من المسلمين عمير ابن رباب السهمي من مهاجرة الحبشة وبشير بن سعد والد النعمان.
ولما فرغ خالد من عين التمر وافق وصول كتاب عياض بن غنم وهو على من بإزائه من نصارى العرب بناحية دومة الجندل وهم بهرام [4] وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وكانت رياسة دومة لأكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة يقتسمانها، وأشار أكيدر بصلح خالد فلم يقبلوا منه فخرج عنهم، وبلغ خالد مسيره فأرسل من اعترضه فقتله وأخذ ما معه، وسار خالد فنزل دومة وعياض عليها من الجهة الأخرى، وخرج الجودي لقتال خالد وأخرج طائفة أخرى لقتال عياض، فانهزموا من الجهتين إلى الحصن فأغلق دونهم وقتل الجودي وافتتح الحصن عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فهران بن بهرام.
[2] وفي نسخة ثانية: مهران.
[3] وفي نسخة ثانية: أهليهم.
[4] وفي نسخة ثانية: بهرا.(2/512)
الوقائع بالعراق
وأقام خالد بدومة الجندل فطمع الأعاجم في الحيرة وملأهم عرب الجزيرة غضبا لعقبة، فخرج اسواران إلى الأنبار وانتهيا إلى الحصيد والخنافس، فبعث القعقاع من الحيرة عسكرين حالا بينهما وبين الريف، ثم جاء خالد إلى الحيرة فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى لقائهما بالحصيد، فقتل من العجم مقتلة عظيمة، وقتل الأسواران، وغنم المسلمون ما في الحصيد، وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس وبها بالبهبوذان من الأساورة. وسار أبو ليلى في اتباعهم فهزم البهبوذان إلى المضيخ [1] وكان بها الهذيل بن عمران وربيعة بن بحير من عرب الجزيرة غضبا لعقبة وجاءا مددا لأهل الحصيد، فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى وواعدهما [2] المضيخ، وسار إليهم فتواقفا هنالك وأغاروا على الهذيل ومن معه من ثلاثة أوجه، فأكثروا فيهم القتل ففر الهذيل في قليل، وكان مع الهذيل عبد العزيز بن أبي رهم من أوس مناة ولبيد بن جرير وكانا أسلما وكتب لهما أبو بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة، فوادهما أبو بكر وأوصى بأولادهما، وكان عمر يعتمد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد.
ولما فرغ خالد من الهذيل بالمضيخ واعد القعقاع وأبا ليلى إلي الثني شرقي الرصافة ليغير على ربيعة بن بحير التغلبي صاحب الهذيل الّذي جاء معه لمدد الفرس ويبيتهم فلم يلق [3] منهم أحدا، ثم اتبع الهذيل بعد مفره من المضيخ الى اليسير وقد لحق هنالك بعتاب بن السيد فبيتهم خالد قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار إلى الرصافة وبها هلال بن عقبة فتفرق عنه أصحابه وهرب فلم يلق بها خالد أحدا. ثم سار خالد إلى الرضاب وإلى الفراض [4] وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة فحميت الروم واستعانوا بمن يليهم من مسالح فارس، واجتمعت معهم تغلب وإياد والنمر وساروا إلى خالد وطلبوا منه العبور، فقال: اعبروا أسفل منا فعبروا وامتاز الروم من العرب، فانهزمت الروم ذلك اليوم وقتل منهم نحو من مائة ألف. وأقام خالد على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المصيخ.
[2] وفي نسخة ثانية: أودعهما.
[3] وفي نسخة أخرى: وتبيتهم فلم يفلت منهم أحدا.
[4] وفي نسخة أخرى: من الرضاب إلى الفراض.(2/513)
الفراض إلى ذي القعدة، ثم أذن للناس بالرجوع إلى الحيرة، وجعل شجرة بن الأغر على الساقة. وخرج من الفراض حاجا مكتتما بحجة وذهب يتعسف في البلاد حتى أتى مكة فحج ورجع فوافى الحيرة مع جنده، وشجرة بن الأغر. معهم ولم يعلم بحجه إلا من أعلمه به، وعتب به أبو بكر في ذلك لما سمعه وكانت عقوبته إياه أن صرفه من غزو العراق إلى الشام. ثم شن خالد بن الوليد الغارات على نواحي السواد فأغار هو على سوق [1] بغداد، وعلى قطربُّل، وعقرقوما [2] ، ومسكن، وبادروبا.
وحج أبو بكر في هذه السنة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
بعوث الشام
وكان من أوّل عمل أبي بكر بعد عوده من الحج أن بعث خالد بن سعيد بن العاص في الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة، وقيل إنما بعثه الى الشام لما بعث خالد بن الوليد إلى العراق أول السنة التي قبلها، ثم عزله قبل أن يسير لأنه كان لما قدم من اليمن عند الوفاة تخلف عن بيعة أبي بكر أياما وغدا على عليّ وعثمان فعزلهما على الاستكانة لتيم وهما رءوس بني عبد مناف فنهاه عليّ وبلغت الشيخين، فلما ولاه أبو بكر عقد له عمر فعزله وأمره أن يقيم بتيماء ويدعو من حوله من العرب إلى الجهاد حتى يأتيه أمره، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم خبره فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهرا وسليح وكلب وغسان ولخم وجذام، وسار إليهم خالد فغلبهم على منازلهم وافترقوا. وكتب له أبو بكر بالإقدام فسار متقدما ولقيه البطريق ماهان من بطارقة الروم فهزمه خالد واستلحم الكثير من جنوده، وكتب إلى أبي بكر يستمده، ووافق كتابه المستنفرين وفيهم ذو الكلاع ومعه حمير وعكرمة بن أبي جهل ومن معه من تهامة والشحر [3] وعمان والبحرين فبعثهم إليه. وحينئذ اهتم ابو بكر بالشام وكان عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى عمان وعده أن يعيده إلى عمله عند فراغه من أمر عمان، فلما جاء بعد الوفاة أعاده إليها أبو بكر إنجازا لوعده صلى الله عليه وسلم تسليما وهي صدقات سعد هذيم وبني عذرة،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شرق.
[2] وفي نسخة أخرى: عقرقوف.
[3] وفي نسخة أخرى: والسّرو.(2/514)
فبعث إليه الآن يأمره باللحاق بخالد بن سعيد لجهاد الروم وأن يقصد فلسطين، وبعث أيضا إلى الوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعة وولاه الأردن، وأمر يزيد ابن أبي سفيان على جمهور من انتدب إليه فيهم سهيل بن عمرو وأشباهه، وأمر أبا عبيدة بن الجراح على جميعهم وعين له حمص، وأوصى كل واحد منهم.
ولما وصل المدد إلى خالد بن سعيد وبلغه توجه المراء تعجل للقاء الروم قبلهم فاستطرد له ماهان ودخل دمشق، واقتحم خالد الشام ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى نزل مرج الصفر [1] عند دمشق فانطوت مسالح ماهان عليه وسدوا الطريق دونه وزحف إليه ماهان، ولقي ابنه سعيدا في طريقه فقتلوه وبلغ الخبر أباه خالدا فهرب فيمن معه وانتهى إلى ذي المروة قرب المدينة. وأقام عكرمة ردءا من خلفهم فردّ عنهم الروم فأقام قريبا من الشام.
وجاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر وافدا من العراق من عند خالد فندب معه الناس وبعثه مكان الوليد إلى أردن، ومرّ بخالد ففصل ببعض أصحابه. ثم بعث أبو بكر معاوية وأمره باللحاق بأخيه يزيد، وأذن لخالد بن سعيد بدخول المدينة.
وزحف الأمراء في العساكر نحو الشام، فعبّى هرقل عساكر الروم ونزل حمص بعد أن أشار على الروم بعدم قتال العرب ومصالحتهم على ما يريدون، فأبوا ولجّوا، ثم فرّقهم على أمراء المسلمين، فبعث شقيقه تدارق [2] في تسعين ألفا نحو عمرو بن العاص بفلسطين، وبعث جرجة بن توذر نحو يزيد بن أبي سفيان، وبعث الدراقص نحو شرحبيل بن حسنة بالأردن، وبعث القيقلان [3] بن نسطورس في ستين ألفا نحو أبي عبيدة بالجابية. فهابهم المسلمون ثم رأوا أنّ الاجتماع أليق بهم، وبلغ كتاب أبي بكر بذلك فاجتمعوا باليرموك أحدا وعشرين ألفا [4] . وأمر هرقل أيضا باجتماع جنوده ووعدهم بوصول ملحان إليهم ردءا [5] ، فاجتمعوا بحيال المسلمين والوادي خندق بينهم، فأقاموا بإزائه ثلاثة أشهر، واستمدوا أبا بكر فكتب
__________
[1] بوزن سكر. مشدد.
[2] هوفره دريك.
[3] وفي نسخة أخرى: القيقار.
[4] وفي نسخة أخرى: بضعة وعشرين الفا.
[5] وفي النسخة الباريسية: مددا.(2/515)
إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة ويلحق بهم وأمّره على جند الشام.
بعوث الشام
ولما استمدّ المسلمون أبا بكر بعث إليهم خالد بن الوليد من العراق واستحثّه في السير إليهم، فنفّذ خالد لذلك ووافى المسلمين مكانهم عند ما وافى ماهان والروم أيضا.
وولّى خالد قباله وولى الأمراء قبل الآخرين إزاءهم فهزم ماهان، وتتابع الروم على الهزيمة وكانوا مائتين وأربعين ألفا وتقسموا بين القتل والغرق [1] في الواقوصة والهويّ في الخندق، وقتل صناديد الروم وفرسانهم، وقتل تدارق أخو هرقل، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص فارتحل وأخلد [2] إلى ما وراءها لتكون بينه وبين المسلمين وأصرّ [3] عليها وعلى دمشق. ويقال إنّ المسلمين كانوا يومئذ ستة وأربعين ألفا: سبعة وعشرين منها مع الأمراء، وثلاثة آلاف من إمداد أهل العراق مع خالد بن الوليد، وستة آلاف ثبتوا مع عكرمة رداء بعد خالد بن سعيد. وأن خالد بن سعيد سماهم [4] كراديس ستة وثلاثين كردوسا لما رأى الروم تعبّوا كراديس، وكان كل كردوس ألفا وكان ذلك في شهر جمادى، وأن أبا سفيان بن حرب أبلى يومئذ بلاء حسنا بسعيه وتحريضه.
قالوا وبينما الناس في القتال قدم البريد من المدينة بموت أبي بكر وولاية عمر، فأسرّه إلى خالد وكتمه عن الناس. ثم خرج جرجه من أمراء الروم فطلب خالدا وسأله عن أمره وأمر الإسلام، فوعظه خالد فاستبصر وأسلم وكانت وهنا على الروم. ثم زحف خالد بجماعة من المسلمين فيهم جرجه فقتل من يومه، واستشهد عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو، وأصيبت عين أبي سفيان، واستشهد سلمة بن هشام وعمرو وأبان ابنا سعيد وهشام بن العاص وهبار [5] بن سفيان والطفيل بن عمرو، وأثبت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطرق.
[2] وفي نسخة اخرى: وأجاز.
[3] وفي نسخة أخرى: وأمّر.
[4] وفي نسخة أخرى: عبأهم.
[5] وفي نسخة أخرى: سيّار.(2/516)
خالد بن سعيد فلا يعلم أين مات بعد ويقال استشهد في مرج الصّفر في الوقعة الأولى.
ويقال إنّ خالدا لما جاء من العراق مددا للمسلمين بالشام طلب من الأدلّاء أن يغوروا به حتى يخرج من وراء الروم، فسلك به رافع بن عمرو الطائي من فزارة في بلاد كلب حتى خرج إلى الشام ونحر فيها الإبل وأغار على مضيخ [1] فوجد به رفقة [2] فقتلهم وأسلبهم، وكان الحرث بن الأيهم وغسّان قد اجتمعوا بمرج راهط فسلك إليهم واستباحهم، ثم نزل بصرى ففتحها، ثم سار منها إلى المسلمين بالواقوصة فشهد معهم اليرموك. ويقال: إنّ خالدا لمّا جاء من العراق إلى الشام لقي أمراء المسلمين ببصرى فحاصروها جميعا حتى فتحوها على الجزية، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وعمرو بالغور والروم يحلّق مع تدارق أخي هرقل، وكشفوا عن جلّق إلى أجنادين وراء الرملة شرقا، ثم تزاحف الناس فاقتتلوا، وانهزم الروم وذلك في منتصف جمادى الأولى من السنة، وقتل فيها تدارق، ثم رجع هرقل ولقي المسلمين بالواقوصة عند اليرموك، فكانت واقعة اليرموك كما قدّمنا في رجب بعد أجنادين، وبلغت المسلمين وفاة أبي بكر وأنها كانت لثمان بقين من جمادى الآخرة.
خلافة عمر رضي الله عنه
ولما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالأمر من بعده بعد أن شاور عليه [3] طلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وأخبرهم بما يريد فيه، فأثنوا على رأيه، فأشرف على الناس وقال: إني قد استخلفت عمر ولم آل لكم نصحا فاسمعوا له وأطيعوا. ودعا عثمان فأمره فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر، إني استعملت عليكم عمر ابن الخطّاب ولم آل لكم خيرا، فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن
__________
[1] وفي نسخة أخرى، مصيخ.
[2] وفي النسخة الباريسية. فصبح به رفعه.
[3] وفي نسخة اخرى: عليّا وطلحة ...(2/517)
جار وبدّل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» .
فكان أوّل ما أنفذه من الأمور عزل خالد عن إمارة الجيوش بالشام وتولية أبي عبيدة، وجاء الخبر بذلك والمسلمون موافقون عدوّهم في اليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله، فلما انقضى أمر اليرموك كما مرّ سار المسلمون إلى فحل من أرض الأردن وبها رافضة [1] الروم وخالد على مقدمة الناس فقاتلوا الروم.
فتح دمشق
واقتحموها عنوة وذلك في ذي القعدة ولحقت رافضة الروم بدمشق وعليها ماهان من البطارقة فحاصرهم المسلمون حتى فتحوا دمشق، وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد. وقال سببه أنّ أبا بكر كان يسخط خالد بن سعيد والوليد بن عقبة من أجل فرارهما كما مرّ، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه أباح لهما دخول المدينة ثم بعثهما مع الناس إلى الشام، ولما فرغ أمر اليرموك وساروا إلى فحل وبلغ عمر خبر اليرموك فكتب فعزل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص حتى يصير الحرب إلى فلسطين فيتولاها عمرو، وأن خالدا قدم على عمر بعد العزل وذلك بعد فتح دمشق وأنهم ساروا إلى فحل فاقتحموها، ثم ساروا إلى دمشق وعليها نسطاس بن نسطورس فحاصروها سبعين ليلة وقيل ستة أشهر من نواحيها الأربع، خالد وأبو عبيدة ويزيد وعمرو كل واحد على ناحية. وقد جعلوا بينهم وبين هرقل مدينة حمص ومن دونها ذو الكلاع في جيش من المسلمين، وبعث هرقل المدد إلى دمشق وكان فيهم ذو الكلاع فسقّط في أيديهم وقدموا على دخول دمشق وطمع المسلمون فيهم، واستغفلهم خالد في بعض الليالي فتسور سورهم من ناحيته وقتل الوليد وفتح الباب واقتحم البلد وكبّروا وقتلوا جميع من لقوة. وفزع أهل النواحي إلى الأمراء الذين يلونهم فنادوا لهم بالصلح والدخول، فدخلوا من نواحيهم صلحا فأجريت ناحية خالد على الصلح مثلهم.
قال سيف: وبعثوا إلى عمر بالفتح فوصل كتابه بأن يصرف جند العراق إلى العراق، فخرجوا وعليهم هاشم بن عتبة وعلى مقدمته القعقاع. وخرج الأمراء إلى فحل وأقام يزيد بن أبي سفيان بدمشق، وكان الفتح في رجب سنة أربع عشرة. وبعث
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واقعة الروم.(2/518)
يزيد دحية الكلبيّ إلى تدمر، وأبا الأزاهر القشيري إلى حوران والبثنة [1] ، فصالحوهما ووليا عليهما، ووصل الأمراء الى فحل فبيتهم الروم فظفر المسلمون بهم وهزموهم فقتل منهم ثمانون ألفا وكان على الناس في وقعة فحل شرحبيل بن حسنة، فسار بهم إلى بيسان وحاصرها فقتل مقاتلتها وصالحه الباقون فقبل منهم. وكان أبو الأعور السلميّ على طبريّة محاصرا لها، فلما بلغهم شأن بيسان صالحوه فكمل فتح الأردن صلحا ونزلت القوّاد في مدائنها وقراها وكتبوا إلى عمر بالفتح.
وزعم الواقدي أنّ اليرموك كانت سنة خمس عشرة وأنّ هرقل انتقل فيها من أنطاكية الى قسطنطينية وأنّ اليرموك كانت آخر الوقائع. والّذي تقدّم لنا من رواية سيف أنّ اليرموك كانت سنة ثلاث عشرة وأن البريد بوفاة أبي بكر قدم يوم هربت الروم فيه، وأن الأمراء بعد اليرموك ساروا إلى دمشق ففتحوها ثم كانت بعدها وقعة فحل، ثم وقائع أخرى قبل شخوص هرقل والله أعلم.
خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد الى الشام
لما وصل كتاب أبي بكر إلى خالد بعد رجوعه من حجّة بأن ينصرف إلى الشام أميرا على المسلمين بها ويخرج في شطر الناس ويرجع بهم إذا فتح الله عليه وإلى العراق ويترك الشطر الثاني بالعراق مع المثنّى بن حارسة، وفعل ذلك خالد ومضى لوجهه، وأقام المثنى بالحيرة ورتّب المصالح. واستقام أهل فارس بعد خروج خالد بقليل على شهريرار [2] بن شيرين بن شهريار ممن يناسبه إلى كسرى أبي سابور وذلك سنة ثلاث عشرة، فبعث إلى الحيرة هرمز فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا بعدوة الضرّاء وغار الفيل بين الصفوف فقتله المثنّى وناس معه، وانهزم أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة، ومات شهريار إثر ذلك وبقي ما دون دجلة من السواد في أيدي المسلمين.
ثم اجتمع أهل فارس من بعد شهريار على آزرميدخت ولم ينفذ لها أمر فخلعت، وملك سابور بن شهريار وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان وزوّجه آزرميدخت،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والبثينة.
[2] وفي نسخة أخرى: شهريار.(2/519)
فغضب وبعث [1] إلى سياوخش وكان من كبار الأساورة وشكت إليه، فأشار عليها بالقبول. وجاءه ليلة العرس فقتل الفرّخزاد ومن معه، ونهض إلى سابور فحاصره ثم اقتحم عليه فقتله، وملكت آزرميدخت وتشاغل بذلك آل ملكها [2] حتى انتهى شأن أبي بكر وصار السواد في سلطانه، وتشاغل أهل فارس عن دفاع المسلمين عنه.
ولما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف المثنى على الناس بشر بن الخصاصية وخرج نحو المدينة يستعلم ويستأذن، فقدم وأبو بكر يجود بنفسه وقد عهد إلى عمر وأخبر الخبر، فأحضر عمر وأوصاه أن يندب الناس مع المثنى وأن يصرف أصحاب خالد من الشام إلى العراق، فقال عمر: يرحم الله أبا بكر علم أنه تستر في إمارة خالد فأمرني بصرف أصحابه ولم يذكره.
ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق ومقتله
ولما ولي عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة أياما وكان أوّل منتدب أبو عبيد بن مسعود، وقال عمر للناس: إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلّا النجعة ولا يقوى عليه أهله إلّا بذلك أين المهاجرون عن موعد الله؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتب أن يورثكموها. فقال: ليظهره على الدين كله فاللَّه مظهر دينه ومعز ناصره ومولى أهله مواريث الأمم. أين عباد الله الصالحون؟ فانتدب أبو عبيد الثقفيّ، ثم سعد بن عبيد الأنصاري، ثم سليط بن قيس، فولّى أبا عبيد على البعث لسبقه، وقال: اسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعا بل اتئد فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلّا الرجل المكيث الّذي يعرف الفرصة والكف. ولم يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا لسرعته إلى الحرب، وفي السرعة إلى الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمرته. فكان بعث أبي عبيد هذا أوّل بعث بعثه عمر، ثم بعث بعده يغلي [3] بن أمية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زوجة آزرميدخت، فغضبت وبعثت.
[2] وفي نسخة أخرى: وتشاغلوا بذلك عن ملكها.
[3] وفي نسخة أخرى: بعليّ.(2/520)
لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في مرضه، وقال أخبرهم أنّا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك دينان بأرض العرب ثم نعطيهم أرضا كأرضهم وفاء بذمّتهم كما أمر الله.
قالوا: فخرج أبو عبيد مع المثنى بن حارثة وسعد وسليط إلى العراق، وقد كانت بوران بنت كسرى كلما اختلفت الناس بالمدائن عدلت بينهم حتى يصلحوا، فلما قتل الفرّخزاد بن البندوان وملكت آزرميدخت اختلف أهل فارس واشتغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها، فبعثت بوران إلى رستم تستحثه للقدوم وكان على فرج [1] خراسان، فأقبل في الناس إلى المدائن وعزل الفرخزاد وفقأ عين آزرميدخت ونصبّ بوران، فملكته وأحضرت مرازبة فارس فأسلموا له ورضوا به وتوّجته. وسبق المثنى إلى الحيرة، ولحقه أبو عبيد ومن معه. وكتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث في كل رستاق رجلا لذلك، فكان في فرات باذقلا جابان وفي كسكرنرسي، وبعث جندا لمصادمة المثنى فساروا واجتمعوا أسفل الفرات. وخرج المثنى من الحيرة خوفا أن يؤتى من خلفه، فقدم عليه أبو عبيد، ونزل جابان النمارق ومعه جمع عظيم، فلقيه أبو عبيد هناك وهزم الله أهل فارس وأسر جابان ثم أطلق، وساروا في المنهزمين حتى دخلوا كسكر وكان بها نرسي ابن خالة كسرى فجمع الفالة إلى عسكره، وسار إليهم أبو عبيد من النمارق في تعبيته، وكان على مجنبتي نرسي نفدويه وشيرويه [2] ابنا بسطام خال كسرى.
واتصلت هزيمة جابان ببوران ورستم فبعثوا الجالنوس مددا لنرسي وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر فاشتدّ القتال وانهزمت الفرس، وهرب نرسي وغنم المسلمون ما في عسكره، وبعث أبو عبيد المثنى وعاصما فهزموا من كان تجمّع من أهل الرساتيق وخرّبوا وسبوا وأخذوا الجزية من أهل السواد وهم يتربصون قدوم الجالنوس.
ولمّا سمع به أبو عبيد سار إليه على تعبيته فانهزم الجالنوس وهرب ورجع أبو عبيد فنزل الحيرة، وقد كان عمر قال له: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والخزي تقدم على قوم تجرّءوا على الشرّ فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون
__________
[1] الفرج: الخلل بين الشيئين، الثغر، فرج الوادي: بطنه. فرج الطريق: متنه.
[2] وفي النسخة الباريسية: بندويه وتبروية.(2/521)
وأحرز لسانك ولا تفش سرّك فإن صاحب السر ما ضبّط متحصن لا يؤتي من وجه يكرهه وإذا ضيّعه كان بمضيعة» .
ولما رجع الجالنوس إلى رستم بعث بهمن حادويه ذا الحاجب إلى الحيرة فأقبل ومعه درفش كابيان راية كسرى عرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر فنزل في الناطف على الفرات، وأقبل أبو عبيد فنزل عدوته وقعد إلى أن نصبوا للفريقين جسرا على الفرات، وخيّرهم بهمن حادويه في عبوره أو عبورهم، فاختار أبو عبيد العبور وأجاز إليهم. وماجت الأرض بالمقاتلة ونفرت خيول المسلمين وكراديسهم من الفيلة، وأمر بالتخفيف عن الخيل فترجل أبو عبيد والناس وصافحوا العدوّ بالسيوف، ودافعتهم الفيلة فقطعوا وضنها [1] فسقطت رحالها وقتل من كان عليها، وقابل أبو عبيد فيلا منهم فوطئه بيده وقام عليه فأهلكه. وقاتلهم الناس ثم انهزموا عن المثنى وسبقه بعض المسلمين إلى الجسر [2] فقطعه، وقال: موتوا أو تظفروا. وتواثب بعضهم الفرات فغرقوا وأقام المثنى وناس معه مثل عروة بن زيد الخيل وأبي محجن الثقفي وأنظارهم، وقاتل أبو زيد الطائي كان نصرانيا قدم الحيرة لبعض أمره فحضر مع المثنى وقاتل حينئذ حميّة، ونادى المثنى الذين عبروا من المسلمين فعقدوا الجسر وأجاز بالناس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس فانفضّ أصحابه إلى المدينة وبقي المثنّى في فلّه جريحا.
وبلغ الخبر إلى عمر فشق [3] عليه وعذر المنهزمين، وهلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف قتلى وغرقى وهرب ألفان وبقين ثلاثة آلاف. وبينما بهمن حادويه يروم العبور خلف المسلمين أتاه الخبر بأنّ الفرس ثاروا برستم مع الفيرزان فرجع إلى المدائن، وكانت الوقعة في مدائن سنة ثلاث عشرة. ولما رجع بهمن حادويه أتبعه جابان ومعه مردان شاه [4] ، وخرج المثنى في أثرهما فلما أشرف عليهما أتياه يظنان أنه هارب فأخذهما أسيرين، وخرج أهل الليس على أصحابهما فأتوا بهم أسرى وعقدوا معه مهادنة وقتل جميع الأسرى.
__________
[1] ج وضين، الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج (قاموس)
[2] وفي النسخة الباريسية: الى الحصن.
[3] وفي النسخة الباريسية: اشتد عليه.
[4] وفي نسخة اخرى: مردان شاه(2/522)
ولمّا بلغ عمر رضي الله عنه وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى، وكان فيمن ندب بجيلة وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه الّذي جمعهم من القبائل بعد أن كانوا مفترقين ووعده النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك وشغل عن ذلك أبو بكر بأمر الردّة ووفّى له عمر به وسيّره مددا للمثنى بالعراق، وبعث عصمة بن عبد الله الضبّي، وكتب إلى أهل الردّة بأن يوافوا المثنى وبعث المثنّى الرسل فيمن يليه من العرب، فوافوه [1] في جموع عظيمة حتى نصارى النمر جاءوه وعليهم أنس بن هلال، وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر إلى رستم والفيروزان فبعثا مهران الهمدانيّ إلى الحيرة والمثنى بين القادسية وخفان، فلما بلغه الخبر استبقى فرات باذقلا وكتب بالخبر إلى جرير وعصمة ان يقصدا العذيب مما يلي الكوفة، فاجتمعوا هنالك ومهران قبالتهم عدوة الفرات وتركوا له العبور فأجاز إليهم. وسار إليه المثنّى في التعبية وعلى مجنبتيه مهران مرزبان الحيرة من الأزدبة [2] ومردان شاه، ووقف المثنى على الرايات يحرّض الناس فأعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت حربهم واشتدت، ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه، وأصيب مسعود أخو المثنّى، وخالط المثنّى القلب ووثب المجنبات على المجنبات قبالتهم فانهزمت الفرس، وسبقهم [3] المثنّى إلى الجسر فهربوا مصعدين ومنحدرين، واستلحمتهم خيول المسلمين وقتل فيها مائة ألف أو يزيدون، وأحصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة. وتبعهم المسلمون إلى الليل، وأرسل المثنّى في آثار الفرس، فبلغوا ساباط فغنموا وسبوا ساباط [4] واستباحوا القرى وسخّروا السواد بينهم وبين دجلة لا يلقون مانعا. ورجع المنهزمون إلى رستم فاستهانوا ورضوا أن يتركوا ما وراء دجلة.
ثم خرج المثنّى من الحيرة واستخلف بشير بن الخصاصية وسار نحو السواد ونزل الليس من قرى الأنبار فسميت الغزاة، غزاة الأنبار الآخرة وغزاة الليس الآخرة، وجاءت إلى المثنّى عيون فدلته على سوق الخنافس وسوق بغداد، وأنّ سوق الخنافس أقرب ويجتمع بها تجّار المدائن والسواد وخفراؤهم ربيعة وقضاعة، فركب إليها وأغار عليها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فوافقه.
[2] وفي نسخة اخرى: ابن الازاذبة
[3] وفي النسخة الباريسية: وساقهم.
[4] وفي النسخة الباريسية: فبلغوا السيب فغنموا وسبوا وبلغوا ساباط.(2/523)
يوم سوق، فاشتفّ السوق وما فيها وسلب الخفراء ورجع إلى الأنبار فأتوه بالعلوفة والزاد وأخذ منهم أدلّاء تظهر له المدائن وسار بهم إلى بغداد ليلا، وصبح السوق فوضع فيهم السيف وأخذ ما شاء من الذهب والفضة والجيّد من كل شيء. ثم رجع إلى الأنبار وبعث المضارب العجليّ إلى الركان [1] وبه جماعة من تغلب فهربوا عنه، ولحقهم المضارب فقتل في أخرياتهم وأكثر. ثم سرّح فرات بن حيّان التغلبي وعتيبة ابن النّهاس للإغارة على أحياء من تغلب بصفين، ثم اتبعهما المثنّى بنفسه فوجدوا أحياء صفين قد هربوا عنها فعبر المثنّى إلى الجزيرة، وفني زادهم وأكلوا رواحلهم وأدركوا عيرا من أهل خفان [2] ، فحضر نفر من تغلب فأخذوا العير ودلّهم أحد الخفراء على حيّ من تغلب ساروا إليه يومهم، وهجموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية واستاقوا الأموال، وكان هذا الحيّ بوادي الرويحلة، فاشترى أسراهم من كان هنالك من ربيعة بنصيبهم من الفيء وأعتقوهم وكانت ربيعة لا تسبي في الجاهلية.
ولما سمع المثنّى أنّ جميع من يملك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة خرج في اتباعهم فأدركهم بتكريت، فغنم ما شاء وعاد إلى الأنبار، ومضى عتيبة وفرات حتى أغارا على التمر وتغلب بصفّين، وتمكن رعب المسلمين من قلوب أهل فارس وملكوا ما بين الفرات ودجلة.
أخبار القادسية
ولما دهم أهل فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم وهم مختلفون بين رستم والفيرزان واجتمع عظماؤهم وقالوا لهما إمّا أن تجتمعا وإلّا فنحن لكما حرب فقد عرّضتمونا للهلكة وما بعد بغداد وتكريت إلى المدار [3] فأطاعا لذلك، وفزعوا إلى بوران يسألونها في ولد من آل كسرى يولّونه عليهم، فأحضرت لهم النساء والسراري وبسطوا عليهنّ العذاب فذكروا لهم غلاما من ولد شهريار بن كسرى اسمه يزدجرد أخذته أمه عند ما قتل شيرويه أبناء أبيه، فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاءوا به ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه، وتباري
__________
[1] وفي نسخة أخرى الكباث.
[2] ويقال أهل دبا.
[3] وفي نسخة أخرى: المدائن.(2/524)
المزاربة في طاعته وعيّن المسالح والجنود لكل ثغر ومنها الحيرة والأبلّة والأنبار وخرجوا إليها من المدائن.
وكتب المثنّى بذلك إلى عمر، وبينما هو ينتظر الجواب انتقض أهل السواد وكفروا وخرج المثنّى إلى ذي قار، ونزل الناس في عسكر واحد. ولمّا وصل كتابه إلى عمر قال: «والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب» ، فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي وشرف وبسطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس، وكتب إلى المثنّى يأمره بخروج المسلمين من بين العجم والتفرّق في المياه بحيالهم، وأن يدعو الفرسان وأهل النجدات من ربيعة ومضر ويحضرهم طوعا وكرها، فنزل المسلمون بالحلة [1] وسروا [2] إلى عصيّ وهو جبل البصرة متناظرين، وكتب إلى عمّاله على العرب أن يبعثوا إليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي وخرج إلى الحج، فحجّ سنة ثلاث عشرة، ورجع فجاءته أفواجهم إلى المدينة، ومن كان أقرب إلى العراق انضمّ إلى المثنّى، فلمّا اجتمعت عنده إمداد العرب خرج من المدينة واستخلف عليها عليّا وعسكر على صرار من ضواحيها، وبعث على المقدمة طلحة وجعل على المجنبتين عبد الرحمن والزبير وانبهم أمره على الناس، ولم يطق أحد سؤاله، فسأله عثمان. فأحضر الناس واستشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة:
سر نحن معك فوافقهم، ثم رجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر عليّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن واستشارهم فأشاروا بمقامه وأن يبعث رجلا بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين ويهلك عدوّهم، فقبل ذلك ورأى فيه الصواب. وعين لذلك سعد بن أبي وقّاص وكان على صدقات هوازن فأحضره وولّاه حرب العراق وأوصاه وقال: «يا سعد بن أم سعد لا يغرّنك من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول الله فإنّ الله لا يمحو السيء بالسيئ ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلّا بطاعته فالناس في دين الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الّذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فألزمه وعليك بالصبر» .
ثم سرحه في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه فيهم: حميضة بن النعمان بن حميضة على
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بالجلّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: وسراق.(2/525)
بارق، وعمرو بن معديكرب وأبو سبرة بن أبي رهم على مذحج، ويزيد بن الحرث الصدائي على عذرة، وخبب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلاليّ على قيس عيلان، والحصين بن نمير ومعاوية بن حديج على السكون وكندة. ثم أمر بعد خروجه بألفي يماني وألفي فخرى. وسار سعد وبلغه في طريقه بزرود [1] أنّ المثنّى مات من جراحة انتقضت، وأنه استخلف على الناس بشير بن الخصاصية، وكانت جموع المثنى ثلاثة آلاف، وكذلك أربعة آلاف من تميم والرباب وأقاموا، وعمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حدّ أرضهم، فنزلوا في ثلاثة آلاف وأقاموا بين سعد والمثنّى، وسار سعد إلى سيراف فنزلها، واجتمعت إليه العساكر ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفا، ولم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة، ثم عبّى سعد كتائب من سيراف وأمّر الأمراء وعرّف على كل عشرة عريفا، وجعل الرايات لأهل السابقة ورتّب المقدمة والساقة والمجنبات والطلائع وكل ذلك بأمر عمر ورأيه، وبعث في المقدمة زهرة بن عبد الله بن قتادة الحيوي من بني تميم فانتهى إلى العذيب، وعلى اليمامة عبد الله بن المعتمر، وعلى المسيرة شرحبيل بن السمط وخليفة بن خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس وعاصم بن عمر التميمي، وسواد بن مالك التميمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة. ثم سار على التعبية ولقيه المهنّي [2] بن حارثة الشيبانيّ بسيراف، وقد كان بعد موت أخيه المثنّى سار بذي قار إلى قابوس واستلحمه ومن معه ورجع إلى ذي قار.
وجاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنّى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس وقاتلوهم على حدّ أرضهم بادئ حجر من ارض العرب، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإلّا رجعتم إلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يردّ الله الكرب.
فترحم سعد ومن معه على المثنّى وولّى أخاه المهنّى على عمله وتزوّج سلمى زوجته، ووصله كتاب عمر بمثل رأي المثنّى يسأله عن سيراف. ونزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق والخندق، ووصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار ولو كان إشارة أو ملاعبة، وكان زهرة في المقدمة فبعث سريّة للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد الله الليثي، وإذا أخت مرزبان الحيرة تزفّ إلى زوجها فحمل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يزرورد.
[2] وفي نسخة ثانية: المعنى.(2/526)
بكير على ابن الأزادية فقتله وحملوا الأثقال والعروس في ثلاثين امرأة ومائة من التوابع ومعهم ما لا يعرف قيمته، ورجع بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسّمه في المسلمين.
ولما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهرا يشنّ الغارات بين كسكر والأنبار ولم يأته خبر عن الفرس، وقد بلغت أخبارهم إلى يزدجرد وأنّ ما بين الحيرة والفرات قد نهب وخرّب، فأحضر رستم ودفعه لهذا الوجه، فتقاعد عنه وقال: ليس هذا من الرأي.
وبعث الجيوش يعقب بعضها بعضا أولى من مصادمة مرّة، فأبى يزدجرد إلا مسيره لذلك. فعسكر رستم بساباط وكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم واستعن باللَّه وتوكل عليه، وابعث رجالا من أهل الراي والجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهنا لهم.
فأرسل سعد نفرا منهم: النعمان بن مقرّن، وقيس بن زرارة [1] ، والأشعث بن قيس، وفرات بن حيّان وعاصم بن عمر، وعمرو بن معديكرب، والمغيرة بن شعبة، والمهنّى بن حارثة. فقدموا على يزدجرد وتركوا رستم، واجتمعوا واجتمع الناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم ويردّوهم، فأحضرهم يزدجرد وقال لترجمانه:
سلهم ما جاء بكم وما أولعكم بغزونا وبلادنا من أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فتكلّم النعمان بن مقرّن بعد أن استأذن أصحابه، وقال ما معناه: إنّ الله رحمنا وأرسل إلينا رسولا صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه منّا قوم وتباعد قوم ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فأمر أهون من ذلك وهو الجزية فإن أبيتم فالمناجزة، فقال يزدجرد: لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفونا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتا وكسوناكم وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فقال قيس بن زرارة: هؤلاء أشراف العرب والأشراف يستحيون من الأشراف وأنا أكلمك وهم يشهدون، فأمّا ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد ثم ذكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: النعمان بن مقرن وبشر بن أبي أدهم وجملة من حيوة وحنظلة بن الربيع وعدي بن سهيل وعطارد بن حاجب والحرث بن حسّان والمغيرة بن زرارة.(2/527)
من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما قال النعمان إلخ. ثم قال له: اختر إمّا الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإلّا فنجّ نفسك بالإسلام. فقال يزدجرد: لو قتل أحد الرسل قبلي لقتلتكم. ثم استدعى بوقر من تراب وحمل على أعظمهم، وقال: ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه اني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ثم يدوّخ بلادكم أعظم من تدويخ سابور.
فقام عاصم بن عمر فحمل التراب على عنقه، وقال: أنا أشرف هؤلاء. ولما رجع إلى سعد فقال: أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم وعجب رستم من محاورتهم، وأخبر يزدجرد بما قاله عاصم بن عمر، فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم.
ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفراض فاستاق ثلاثمائة دابة بين بغل وحمار وثور وآخرها سمكا وصبح بها العسكر، فقسّمه سعد في الناس، وواصلوا السرايا والبعوث لطلب اللحم، وأمّا الطعام فكان عندهم كثيرا. وسار رستم إلى ساباط في ستين ألفا وعلى مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا وساقته عشرون ألفا وفي الميمنة الهرمزان وفي المسيرة مهران بن بهرام الرازيّ، وحمل معه ثلاثة وثلاثين فيلا ثمانية عشر في القلب وخمسة عشر في الجنبين. ثم سار حتى نزل كوثى، فأتى برجل من العرب، فقال له رستم: ما جاء بكم وما تطلبون؟ فقال: نطلب وعد الله بأرضكم وأبنائكم إن لم تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم دون ذلك، قال من قتل دخل الجنة ومن بقي أنجزه الله وعده، قال رستم: فنحن إذا وضعنا في أيديكم، فقال: أعمالكم وضعتكم وأسلمكم الله بها فلا يغرنّك من ترى حولك فلست تحاول الناس [1] إنما تحاول القضاء والقدر. فغضب وأمر به فضربت عنقه.
وسار فنزل الفرس وفشا من عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أموالهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل، وقال: صدق والله العربيّ. وأتى ببعضهم فضرب عنقه. ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فعزرهم [2] وهمّ بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا، وأرسل سعد السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس، وبلغ ذلك سعدا فأمدّهم بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس تحتوشهم، فلما رأوا عاصم هربوا، وجاء عاصم بالغنائم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الأنس.
[2] وفي النسخة الباريسية: وهددهم.(2/528)
ثم أرسل سعد عمرو بن معديكرب وطليحة الأسديّ طليعة فلما ساروا فرسخا وبعضه، لقوا المسالح فرجع عمرو، ومضى طليحة حتى وصل عسكر رستم وبات فيه وهتك أطناب خيمة أو خيمتين واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه، ونذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فكرّ على فارس فقتله ثم آخر وأسر الرابع، وشارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه، ودخل طليحة على سعد بالفارسي ولم يخلف بعده فيهم مثله فأسلم ولزم طليحة.
ثم سار رستم فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن، وكان يطاول خوفا وتقيّة، والملك يستحثّه وكان رأى في منامه كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبيّ صلى الله عليه وسلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره. ولمّا وصل القادسية وقف على العتيق حيال عسكر المسلمين والناس يتلاحقون حتى اغتموا من كثرتهم، وركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوّب [1] حتى وقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح. وقال: كنتم جيراننا وكنّا نحسن إليكم ونحفظكم ويقرّر صنيعهم مع العرب ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك [2] وإنما طلبنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا دعانا الى دين الحق فأجبناه.
وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة.
فقال رستم: وما هو دين الحق. فقال: الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وأنتم إخوان في ذلك. فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟
فقال: إي والله فانصرف عنه رستم. ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم فأنفوا، وأرسل الى سعد أن ابعث لنا رجلا نكلمه ويكلمنا، فبعث إليهم ربعي بن عامر وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم، فجلس على سرير من ذهب وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب، وقدم حتى انتهى الى البساط ووطئه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما، فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون. ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، وأشاروا إليه بوضع سلاحه فقال: لو أتيتكم فعلت كذا فأمركم وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البسط،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وصوّت.
[2] وفي نسخة ثانية: من أولئك.(2/529)
ثم دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له الترجمان: ما جاء بكم، فقال: الله بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه الى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفىء إلى الجنّة أو الظفر. فقال رستم:
هل لكم أن تؤخر هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم كم أحب إليك يوما أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: إنّ مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر إمّا الإسلام وندعك وأرضك أو الجزية فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك أو المنابذة في الرابع أن تنبذ [1] وأنا كفيل بهذا عن أصحابي.
قال أسيّدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم. فخلا رستم برؤساء قومه وقال: رأيتم كلاما قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه. فقال: ويحكم إنما انظر إلى الرأي والكلام والسيرة والعرب تستخف اللّباس وتصون الأحساب.
ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن [2] ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه وتكلم وأجاب مثل الأول، فقال له: ما قعد بالأول عنا؟ فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي. فقال رستم:
والمواعدة إلى متى؟ فقال: إلى ثلاث من أمس وانصرف. وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم. وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة بن شعبة فلمّا وصل إليهم وهم على زيهم وبسطهم على غلوة من مجلس رستم فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه، فقال: لا أرى قوما أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضا بعضا فظننتكم كذلك وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة.
فقالت السفلة: صدق والله العربيّ، وقالت الأساطين [3] : لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله من يصغر أمر هذه الأمة. ثم تكلم رستم فعظم من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إلا أن تبذلوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: ابن حصن.
[3] وفي نسخة ثانية: الدهاقين.(2/530)
أمر فارس بل من شأن فارس وسلطانهم وصغر أمر العرب وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدونا في الجدب فنردّكم بشيء من التمر والشعير ولم يحملكم على ما صنعتم إلى ما بكم من الجهد ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلا وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون فلست أشتهي قتلكم. فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الّذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم قليلا عما أوتيتم وقد أسلمكم ضعف [1] الشكر إلى تغير الحال وأن الله بعث فينا رسولا، ثم ذكر مثل ما تقدّم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال، ثم قال، وإن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه. فقال رستم: إذا تموتون دونها، فقال المغيرة: يدخل من قتل منا الجنة ويظفر من بقي منا بكم. فاستشاط غضبا وحلف أن لا يقع الصلح أبدا حتى أقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم، وحذّرهم عاقبة حربهم، فلجّوا. وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب، فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الامتنان على العرب والتعريض بالمطامع، فلم يتفق شيء من رأيهم. فقال رستم: تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا وأرسل إليهم سعد بذلك وأرادوا القنطرة، فقال سعد:
لا ولا كرامة لا نردّ عليكم شيئا غلبناكم عليه فأبى. فأتوا [2] يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسرا.
ثم عبر رستم ونصب له سريره وجلس عليه وضرب طيارة وعبر عسكره، وجعل الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال والرايات أمثال الحصون، وجعل الجالنوس بينه وبين الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة، ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وما بينه وبين رستم رجلا على كل دعوة تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت. ثم أخذ المسلمون مصافهم واختط سعد قصره، وكان به عرق النساء وأصابته معه دماميل لا يستطيع معها الجلوس فصعد على سطح القصر راكبا على وسادة في صدره وأشرف على الناس، وعاب ذلك عليه بعض الناس فنزل واعتذر إليهم وأراهم القروح في جسده فعذروه، واستخلف خالد بن عرفطة على الناس
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقد اسلمكم الله بضعف الشكر.
[2] وفي نسخة ثانية: فباتوا.(2/531)
وحبس من شغب عليه في القصر وقيدهم، وكان فيهم أبو محجن الثقفي، وقيل إنما حبسه بسبب الخمر. ثم خطب الناس وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله، وذلك في المحرم سنة أربع عشرة، وأخبرهم أنه استخلف خالد بن عرفطة. وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس وغالب وعمرو، ومن الشعراء الشماخ والحطيئة والعبديّ بل وعبدة بن الطيب وغيرهم ففعلوا، ثم أمر بقراءة الأنفال فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها، فلما فرغت القراءة قال سعد: الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإنّي مكبر تكبيرة فكبّروا واستعدّوا، فإذا سمعتم الثانية فكبّروا وأتموا عدّتكم، فإذا سمعتم الثالثة فكبّروا ونشطوا الناس، فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوّكم وقولوا لا حول ولا قوّة إلا باللَّه.
فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن والضرب، وارتجزوا الشعر، وأول من أسر في ذلك اليوم هرمز من ملوك الكبار [1] وكان متوّجا أسره غالب بن عبد الله الأسدي [2] فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب. وطلب البراز أسوار منهم فبرز إليه عمرو بن معديكرب فأخذه وجلده الأرض فذبحه وسلب سواريه ومنطقته. ثم حملوا الفيلة على المسلمين وأمالوها على بحيلة فثقلت عليهم، فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدافعوا عنهم، فجاءه طليحة بن خويلد وحمل بن مالك فردّوا الفيلة، وخرج على طليحة عظيم منهم فقتله طليحة، وعير الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا ونهودا معه فأزالوا الذين بإزائهم. وحين رأس الفرس ما لقي الناس والفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعا وفيهم ذو الحاجب والجالنوس.
وكبر سعد الرابعة فزحف المسلمون وثبت بنو أسد، ودارت رحى الحرب عليهم وحملت الفيول على الميمنة والميسرة ونفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر هل من حيلة لهذه الفيلة؟ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل واشتدّ لردّها آخرون يقطعون الوضن، وخرج عاصم بجميعهم ورحى الحرب على أسد، واشتدّ عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها، ونفس عن أسد أن أصيب منهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اللباب.
[2] وفي نسخة ثانية: الازدي.(2/532)
خمسمائة وردّوا فارس إلى مواقفهم. ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل وكان هذا اليوم الأول وهو يوم الرماة. ولما أصبح دفن القتلى وأسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم، وإذا بنواصي الخيل طالعة من الشام. كان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردّهم إلى العراق، فخرج بهم هاشم وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، فقام القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشارا بين كل عشرين مدّ البصر وكانوا ألفا، فسلم على الناس وبشرهم بالجنود وعرضهم على القتال، وطلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع ونادى بالثأر لأصحاب الجسر، وتضاربا فقتله القعقاع وسرّ الناس بقتله، ووهنت الأعاجم لذلك. ثم طلب البراز فخرج إليه الفيرزان والبندوان.
وأكثر المسلمون القتل في الفرس وأخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا حملها، وجعل القعقاع إبلا وجعل عليها البراقع وأركبها عشرة عشرة، وأطاف عليها الخيول تحملها، وحملها على خبل الفرس فنفرت منها وركبتهم خيول المسلمين، ولقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة. وبرز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارسا في ثلاثين حملة فقتلهم، كان آخرهم بزرجمهر الهمدانيّ، وبارز الأعور بن قطنة [1] شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه.
ولما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل وقتلوا عامة أعلام فارس، ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين ومن المسلمين ألفا جريح وقتيل ومن المشركين عشرة آلاف، فدفن المسلمون موتاهم وأسلموا الجرحى إلى النساء ووكلوا النساء والصبيان بحفر القبور، وبقي قتلى المشركين بين الصفين. وبات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس، وأوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة يجدّد بذلك الناس، وجاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة. فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحابه القعقاع فتقدموا والمسلمون يكبرون، فتزاحفت الكتائب عنا وهربا، وما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبّى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر وكبر المسلمون ثم كبر فخرق الصفوف إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بن خطبة.(2/533)
العتيق، ثم عاد وقد أصبح الفرس على مواقفهم وأعادوا الصناديق على الفيلة وأحدقوا الرجال بها يحمونها أن تقطع وضنها، وأقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها. وكان هذا اليوم يوم عماس وكان شديدا، إلا أن الطائفتين فيه سواء وأبلى فيه قيس بن المكشوح وعمرو بن معديكرب، زحفت الفيلة وفرّقت بين الكتائب. وأرسل سعد إلى القعقاع وعاصم أن أكفياني الأبيض وكان بإزائهما، وإلى محمل والذميل [1] أن أكفياني الأجرب وكان بإزائهما، فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض ومن كان عليه وقطع مشفر الأجرب وفقئت عينه وضرب سائسه الذميل بالطبرزين فأفلت جريحا، وتحيّر الأجرب بين الطائفتين وألقى نفسه في العتيق واتبعته الفيلة وخرقت [2] صفوف الأعاجم في اثره، وقصدت المدائن بثوابتها [3] وهلك جميع من فيها. وخلص المسلمون والفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء واقتتلوا بقية ليلتهم وتسمى ليلة الهرير.
فأرسل سعد طليحة وعمرا إلى محاضة أسفل السكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها، فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم، فجاء طليحة وراء العسكر وكبر فارتاع أهل فارس، فأغار عمرو أسفل المخاضة ورجع وزاحفهم الناس دون إذن سعد وأوّل من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع وقومه فحمل عليهم، ثم حمل بنو أسد ثم النخع ثم بحيلة ثم كندة، وسعد يقول في كل واحدة اللَّهمّ اغفر لهم وانصرهم. وقد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثا فاحملوا، فلما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا صلاة العشاء واختلطوا وصليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح.
وركدت الحرب وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم وأقبل سعد على الدعاء، وسمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم واقتتلوا إلى قائم ظهيرة، فناجز الفيرزان والهرمزان بعض الشيء وانفرج القلب، وهبت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الدّميل.
[2] وفي نسخة ثانية: وفرقت.
[3] وفي نسخة ثانية: بوثوبها.(2/534)
وقد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علقمة الحمل فوقع أحد العدلين على رستم فكسر ظهره، وضربه هلال ضربة نفحت مسكا وضرب نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحم هلال وجرّه برجله فقتله، وصعد السرير وقال:
قتلت رستم ورب الكعبة إليّ إليّ. فأطافوا به وكبروا. وقيل إن هلالا لما قصد رستم رماه بسهم، فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه، فقتله واحتز رأسه ونادى في الناس قتلت رستم.
فانهزم قلب المشركين وقام الجالنوس على الردم ونادى الفرس إلى العبو، وتهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق وكانوا ثلاثين فهلكوا، وأخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة وهي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفا وكانت قيمتها ألف ألف ومائة ألف ألف، وقتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة، وقتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا بالخندق سوى ألفين وخمسمائة قتلوا ليلة الهرير، وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله. ونفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم، وأمر القعقاع وشرحبيل باتباع العدوّ وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلهما في آثارهم، فلحق الجالنوس يجمع المنهزمين فقتله وأخذ سلبه، فتوقف سعد من عطائه، وكتب إلى عمر، فكتب إليه: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه أمض له سلبه وفضله على أصحابه في العطاء بخمسمائة.
ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وأخذه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد استماتوا فقتلوهم أجمعين، واستمات بعد الهزيمة بضعة وثلاثون رئيسا من المسلمين فقتلوهم أجمعين. وكان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان وأهودوزاد بيهس [1] وقارن، وممن استمات فقتل شهريار بن كبارا وأسر المدمرون والفردان الأهوازي وحشر شوم الهمدانيّ. وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبمن أصيب من المسلمين، وكان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله، فلما ألفى البشرى قال: من أين؟ فأخبره فقال: حدّثني فقال: هزم الله المشركين. ففرح بذلك. وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة. وكانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفرزاد بن بيهس.(2/535)
فتح المدائن وجلولاء بعدها
ولما انهزم أهل فارس بالقادسية انتهوا إلى بابل وفيهم بقايا الرؤساء النخيزجان ومهران الأهوازي والهرمزان وأشباههم واستعملوا عليهم الفيرزان. وأقام سعد بعد الفتح شهرين وسار بأمر عمر إلى المدائن وخلف العيال بالعتيق في جند كثيف حامية لهم، وقدّم بين يديه زهرة بن حيوة وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن المعتمر [1] ، ولقيهم بعض عساكر الفرس برستن فهزموهم حتى لحقوا ببابل. ثم جاء سعد وسار في التعبية ونزلوا على الفيرزان ومن معه ببابل، فخرجوا وقاتلوا المسلمين، فانهزموا وافترقوا فرقتين ولحق الهرمزان بالأهواز والفيرزان بنهاوند وبها كنوز كسرى، وسار النخيزجان ومهران إلى المدائن فتحصنوا وقطعوا الجسر. ثم سار سعد من بابل على التعبية وزهرة في المقدمة، وقدم بين يديه بكير بن عبد الله الليثي وكثير بن شهاب السبيعي [2] حتى عبرا ولحقا بأخريات القوم، فقتلا في طريقهما اسوارين من أساورتهم، ثم تقدموا إلى كوثى [3] وعليها شهريار فخرج لقتالهم فقتل وانهزم أصحابه فافترقوا في البلاد. وجاء سعد فنفل قاتله سلبه.
وتقدّم زهرة إلى ساباط فصالحه أهلها على الجزية وهزم كتيبة كسرى، ثم نزلوا جميعا نهرشير [4] من المدائن، ولما عاينوا الإيوان كبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله. وكان نزولهم عليها ذا الحجة سنة خمس عشرة فحاصروها ثلاثة أشهر ثم اقتحموها، وكانت خيولهم تغير على النواحي وعهد إليهم عمر أن من أجاب من الفلاحين ولم يعن عليهم فذلك أمانة، ومن هرب فأدرك فشأنكم به. ودخل الدهاقين من غربي دجلة وأهل السواد كلهم في أمان المسلمين واغتبطوا بملكهم، واشتد الحصار على نهرشير ونصبوا عليها المجانيق واستلحموهم في المواطن، وخرج بعض المرازبة يطلب البراز، فقاتله زهرة بن حيوة فقتلا معا، ويقال إن زهرة قتله شبيب الخارجي أيام الحجاج. ولما ضاق بهم الحصار ركب إليهم الناس بعض الأيام
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن المعتز.
[2] وفي النسخة الباريسية: السعدي.
[3] وفي النسخة الباريسية: كوتا.
[4] وفي نسخة ثانية: بهرشير.(2/536)
فلم يروا على الأسوار أحدا إلا رجلا يشير إليهم فقال: ما بقي بالمدينة أحد وقد صاروا إلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان، فدخل سعد والمسلمون وأرادوا العبور إليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم، فأقام أياما من صبر ودلّه بعض العلوم على مخاضة في دجلة فتردّد، فقال له أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إلا ويزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها. فعزم سعد على العبور وخطب الناس وندبهم إلى العبور ورغبهم، وندب من يجزى أن لا يجيء الفراض حتى يجيز إليه الناس، فانتدب عاصم بن عمر في ستمائة واقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض وشدوا عليهم فانهزموا وقتل أكثرهم وعوروا من الطعن في العيون، وعاينهم المسلمون على الفراض، فاقتحموا في أثرهم يصيحون نستعين باللَّه ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا باللَّه العلي العظيم. وساروا في دجلة وقد طبقوا ما بين عدوتيها وخيلهم سابحة بهم وهم يهيمنون تارة ويتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر ولم يفقدوا شيئا، إلا قدحا لبعضهم غلبت صاحبه عليه وجرية الماء وألقته الريح إلى الشاطئ.
ورأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا البحر فخرجوا هاربين إلى حلوان، وكان يزدجرد قدم إليها قبل ذلك عياله، ورفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع وخفيفة ومن بيت المال والنساء والذراري، وتركوا بالمدائن من الثياب والأمتعة والآنية والألطاف ما لا تحصر [1] قيمته، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكرّرة ثلاث مرّات تكون جملتها ثلاث آلاف قنطار من الدنانير، وكان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر وأبقى النصف. واقتحمت العساكر المدينة تجول في سكسكها لا يلقون بها أحدا، وأرز سائر الناس إلى القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية.
ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان به مصلّى ولم يغير ما فيه من التماثيل، ولما دخله قرأ «كَمْ تَرَكُوا من جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 44: 25» الآية، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن وأتم الصلاة بنية الإقامة. وسرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إلى النهروان وقراها من كل جهة، وجعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسم سلمان بن ربيعة الباهلي وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة، ووجدوا حلية كسرى ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لا تحصى.(2/537)
يجلس فيها للمباهاة أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين، وأخذ منهم أيضا وقر بغل من السيوف وآخر من الدروع والمغافر منسوبة كلها: درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور وسياوخش والنعمان بن المنذر وسيف كسرى وهرمز وقباد وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان أحضرها القعقاع وخيّره في الأسياف، فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وبعث إلى عمر سيف كسرى والنعمان وتاج كسرى وحليته وثيابه ليراها الناس. وقسّم سعد الفيء بين المسلمين بعد ما خمسه، وكانوا ستين ألفا فصار للفارس اثنا عشر ألفا وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل، ونفل من الأخماس في أهل البلاد، وقسم في المنازل بين الناس، واستدعى العيالات من العتيق فأنزلهم الدور ولم يزالوا بالمدائن حتى تم فتح جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، واختططت الكوفة فتحولوا إليها، وأرسل في الخمس كل شيء يعجب العرب منهم أن يضع إليهم، وحضر إليهم نهار كسرى وهو الغطف وهو بساط طوله ستون ذراعا في مثلها مقدار مزرعة جريت في أرضه وهي منسوجة بالذهب طرقا كالأنهار وتماثيل خلالها بصدف الدر والياقوت وفي حافاتها كالأرض المزدرعة والمقبلة بالنبات ورقها من الحرير على قضبان الذهب وزهره حبات الذهب والفضة وثمره الجوهر، كانت الأكاسرة يبسطونه في الإيوان في فصل الشتاء عند فقدان الرياحين يشربون عليه، فلما قدمت الأخماس على عمر قسمها في الناس، ثم قال أشيروا في هذا القصب، فاختلفوا وأشاروا على نفسه، فقطعه بينهم، فأصاب عليّ قطعة منه باعها بعشرين ألفا ولم تكن بأجودها.
وولى عمر سعد بن أبي وقاص على الصلاة والحرب فيما غلب عليه، وولى حذيفة بن اليمان على سقي الفرات، وعثمان بن حنيف على سقي دجلة، ولما انتهى الفرس بالهرب إلى جلولاء، وافترقت الطرق من هنالك بأهل آذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس، وقفوا هنالك خشية الافتراق واجتمعوا على مهران الرازيّ وخندقوا على أنفسهم وأحاطوا الخندق بجسر الحديد، وتقدّم يزدجرد إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا فكاتب عمر بذلك يأمره أن يسرح بجلولاء هاشم ابن أخيه عتبة في اثني عشر ألفا وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وأن يولي القعقاع بعد الفتح ما بين السواد والجبل. فسار هاشم من المدائن لذلك في وجوه المسلمين وأعلام العرب حتى قدم جلولاء فأحاط بهم وحاصرهم في خنادقهم، وزاحفوهم ثمانين يوما ينصرون عليهم في(2/538)
كلها والمدد متصل من هاهنا وهاهنا ثم قاتلهم آخر الأيام فقتلوا منهم أكثر من ليلة الهرير، وأرسل الله عليهم ريحا وظلمة فسقط فرسانهم في الخندق وجعلوه طرقا مما يليهم ففسد حصنه، وشعر المسلمون بذلك فجاء القعقاع إلى الخندق فوقف على بابه، وشاع في الناس أنه أخذ في الخندق، فحمل الناس حملة واحدة انهزم المشركون لها وافترقوا، ومرّوا بالجسرة التي تحصنوا بها فعقرت دوابهم فترجلوا ولم يفلت منهم إلا القليل، يقال إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف. واتبعهم القعقاع بالطلب إلى خانقين، وأجفل يزدجرد من حلوان إلى الري واستخلف عليها حشرشوم [1] ، وجاء القعقاع إلى حلوان فبرز إليه حشرشوم وعلى مقدمته الرومي، فقتله القعقاع وهرب حشرشوم من ورائه، وملك القعقاع حلوان وكتب إلى عمر بالفتح واستأذنوا في اتباعهم، فأبى وقال: وددت أنّ بين السواد والجبل سدا حصينا من ريف السواد فقد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.
وأحصيت الغنيمة فكانت ثلاثين ألف ألف، فقسمها سلمان بن ربيعة، يقال: إنه أصاب الفارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب. وبعثوا بالأخماس إلى عمر مع زياد ابن أبيه. فلما قدم الخمس قال عمر: والله لا يجنه سقف حتى أقسمه، فجعله في المسجد وبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه، ولما أصبح جاء في الناس ونظر إلى ياقوتة وجوهرة فبكى، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر؟ قال: والله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا فيلقي الله بأسهم بينهم. ومنع عمر من قسمة السواد ما بين حلوان والقادسية فاقرّه حبسا، واشترى جرير بعضه بشاطئ الفرات فردّ عمر الشراء.
ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغهم أن أدين بن الهرامون جمع جمعا وجاء بهم إلى السهل، فبعث إليه ضرار بن الخطاب في جيش فلقيهم بماسبدان فهزمهم وأسر أدين فقتله، وانتهى في طلبهم إلى النهروان وفتح ماسبدان عنوة وردّ إليها أهلها ونزل بها فكانت أحد فروج الكوفة، وقيل كان فتحها بعد نهاوند والله سبحانه أعلم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: خسرشوم وفي نسخة أخرى خشرشوم وفي الطبري ج 4 ص 136: خسروشنوم.(2/539)
ولاية عتبة بن غزوان على البصرة
كان عمر عند ما بعث المثنى إلى الحيرة بعث قطبة [1] بن قتادة السدوسي [2] إلى البصرة فكان يغير بتلك الناحية، ثم استمدّ عمر فبعث إليه شريح بن عامر بن سعد ابن بكر فأقبل إلى البصرة ومضى إلى الأهواز، ولقيه مسلحة الأعاجم فقتلوه. فبعث عمر عتبة بن غزوان واليا على تلك الناحية، وكتب إلى العلاء بن الحضرميّ أن يمدّه بعرفجة بن هرثمة وأمره أن يقيم بالتخوم بين أرض العرب وأرض العجم، فانتهى إلى حيال الجسر وبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف وعتبة في خمسمائة والتقوا فقتلوا الأعاجم أجمعين وأسروا صاحب الفرات، ثم نزل البصرة في ربيع سنة أربع عشرة، وقيل إنّ البصرة بصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء وتكريت. وأرسل سعد إليها عتبة فأقام بها شهرا وخرج إليه أهل الأبلة، وكانت مرفأ للسفن من الصين، فهزمهم عتبة وأحجرهم في المدينة ورجع إلى عسكره، ورعب الفرس فخرجوا عن الأبلة وحملوا ما خف وأدخلوا المدينة وعبروا النهر، ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه.
ثم اختط البصرة وبدأ بالمسجد فبناه بالقصب. وجمع لهم أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا، وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر، وسأل عنهم فقيل له: انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة وأتوها. ثم سار عتبة إلى عمر بعد أن بعث مجاشع بن مسعود في جيش إلى الفرات، واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى قدوم مجاشع [3] ، وجاء ألف بيكان من عظماء الفرس إلى المسلمين ولقيهم المغيرة بن شعبة بالمرغاب وبينما هم في القتال إذ لحق بهم النساء وقد اتخذن خمرهن رايات، فانهزم الأعاجم وكتبوا بالفتح إلى عمر، فردّ عتبة إلى عمله فمات في طريقه، وقيل إن إمارة عتبة كانت سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة فوليها ستة أشهر، واستعمل عمر بعد المغيرة بن شعبة سنتين فلما رمى بما رمى به عزله، واستعمل أبا موسى. وقيل استعمل بعد عتبة أبا سبرة وبعده المغيرة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قتبة.
[2] وفي نسخة ثانية: السلوسي.
[3] وفي النسخة الباريسية: مشاجع.(2/540)
وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها
لما انهزم الروم بفحل سار أبو عبيدة وخالد إلى حمص واجتمعوا بذي الكلاع في طريقهم وبعث هرقل توذر البطريق للقائهم فنزلوا جميعا مرج الروم، وكان توذر بإزاء بخالد وشمس [1] بطريق آخر بإزاء أبي عبيدة وأمسوا متباريين [2] . ثم أصبح فلم يجدوا توذر وسار إلى دمشق واتبعه خالد، واستقبله يزيد من دمشق فقاتله، وجاء خالد من خلفه فلم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم.
وقاتل شمس [3] أبو عبيدة بعد مسير خالد فانهزم الروم وقتلوا واتبعهم أبو عبيدة إلى حمص ومعه خالد، فبلغ ذلك هرقل فبعث بطريق حمص إليها وسار هو في الرهاء، فحاصر أبو عبيدة حمص حتى طلبوا الأمان فصالحهم، وكان هرقل يعدهم في حصارهم المدد، وأمر أهل الجزيرة بامدادهم فساروا لذلك. وبعث سعد بن أبي وقاص العساكر من العراق فحاصروا هبت وقرقيسيا فرجع أهل الجزيرة إلى بلادهم. ويئس أهل حمص من المدد فصالحوا على صلح أهل دمشق، وأنزل أبو عبيدة فيها السمط بن الأسود في بني معاوية من كندة الأشعث بن ميناس في السكون والمقداد في بلي وغيرهم، وولى عليهم أبو عبيدة عبادة بن الصامت وصار إلى حماة فصالحوه على الجزية عن رءوسهم والخراج عن أرضهم، ثم سار نحو شيزر فصالحوا كذلك، ثم إلى المعرة كذلك ويقال معرة النعمان وهو النعمان بن بشير الأنصاري. ثم سار إلى اللاذقية ففتحها عنوة ثم سليمة أيضا، ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين فاعترضه ميناس عظيم الروم بعد هرقل فهزمهم خالد وأثخن فيهم، ونازل قنسرين حتى افتتحها عنوة وخربها. وأدرب إلى هرقل من ناحيته، وأدرب عياض بن غنم لذلك، وأدرب عمر بن مالك من الكوفة إلى قرقيسيا، وأدرب عبد الله بن المعتمر من الموصل، فارتحل هرقل إلى القسطنطينية من أمدها، وأخذ أهل الحصون بين الإسكندرية [4] وطرسوس وشعبها أن ينتفع المسلمون بعمارتها. ولما بلغ عمر صنيع خالد قال: «أمّر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شمر.
[2] وفي نسخة ثانية: مستترين.
[3] وفي نسخة ثانية: ششس.
[4] هي الاسكندرونة مع مقتضى السياق.(2/541)
خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال» . وقد كان عزل خالدا والمثنى بن حارثة خشية أن يداخلهما كبر من تعظيم فوكلوا إليه، ثم رجع عن رأيه في المثنى عند قيامه بعد أبي عبيد، وفي خالد بعد قنسرين فرجع خالد إلى إمارته.
ولما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب وبلغه أن أهل قنسرين غدروا فبعث إليهم السمط الكندي فحاصرهم وفتح وغنم، ووصل أبو عبيدة إلى خناصر [1] حلب وهو موضع قريب منها يجمع أصنافا من العرب، فصالحوا على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك. ثم أتى حلب وكان على مقدّمته عياض بن غنم الفهري فحاصرهم حتى صالحوه على الأمان، وأجاز ذلك أبو عبيدة، وقيل صولحوا على مقاسمة الدور والكنائس، وقيل انتقلوا إلى انطاكية حتى صالحوا ورجعوا إلى حلب.
ثم سار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وبها جمع كبير من فل قنسرين وغيرهم ولقوة قريبا منها فهزمهم وأحجرهم وحاصرهم حتى صالحوه على الجلاء أو الجزية ورحل عنهم، ثم نقضوا فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول وكانت عظيمة الذكر، فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب فيها حامية مرابطة ولا يؤخر عنهم العطاء [2] . ثم بلغ أبا عبيدة أن جمعا بالروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فهزمهم وقتل بطارقتهم، وأمعن بل وأثخن فيهم، وفتح معرة مصرين على صلح حلب. وجالت خيوله فبلغت سرمين وتيري وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية، ثم فتح حلبة ثانية.
وسار يريد قورس، وعلى مقدمته عياض، فصالحوه على صلح أنطاكية. وبث خيله ففتح تل نزار وما يليه، ثم فتح منبج على يد سلمان بن ربيعة الباهلي، ثم بعث عياضا إلى دلوك وعينتاب فصالحهم على مثل منبج واشترط عليهم أن يكونوا عونا للمسلمين.
وولى أبو عبيدة على كل ما فتح من الكور عاملا وضم إليه جماعة وشحن الثغور المخوفة بالحامية. واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين.
وبعث أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسيّ، فسلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم فلقي جمعا للروم ومعهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حاضر.
[2] وفي النسخة الابريسية: ولا يجبي منهم العطاء.(2/542)
فأوقع بهم وأثخن فيهم، ولحق به على أنطاكية مالك بن الأشتر النخعي مددا، فرجعوا جميعا إلى أبي عبيدة. وبعث أبو عبيدة جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وخرّبها، وبعث جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك. وفي خلل ذلك فتحت قيسارية، بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عمر فسار إليها وحاصرهم بعد أن هزمهم، وبلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفا وفتحها آخرا وكان علقمة بن مجزز [1] على غزة وفيها القبفار من بطارقة الروم.
وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس
لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص بعد واقعة مرج الروم نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحها وصالح أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بأجنادين وغزة وبيسان وعليهم أرطبون من بطارقة الروم، فسار عمرو وشرحبيل إليهم واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي. وكان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندا عظيما من الروم وبيت المقدس كذلك، وبعث عمر وعلقمة بن حكيم الفراسي ومسرور [2] بن العكي لقتال أهل بيت المقدس، وبعث أبا أيوب المالكي إلى قتال أهل الرملة، وكان معاوية محاصرا لأهل قيسارية فشغل جميعهم عنه، ثم زحف عمرو إلى الأرطبون واقتتلوا كيوم اليرموك وأشدّ، وانهزم أرطبون إلى بيت المقدس وأفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل.
ورجعوا إلى عمرو وقد نزل أجنادين. وقد تقدم لنا ذكر هذه الوقعة قبل اليرموك على قول من جعلها قبلها وهذا على قول من جعلها بعدها. ولما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمرو غزة، وقيل كان فتحها في خلافة أبي بكر، ثم فتح سبسطية وفيها قبر يحيى بن زكريا، وفتح نابلس على الجزية، ثم فتح مدينة لدّ، ثم عمواس وبيت حبرين ويافا ورفح وسائر مدائن الأردن. وبعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام ويتولى العقد عمر وكتبوا إليه بذلك، فسار عن المدينة واستخلف عليّ بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيره فأبى، وقد كان واعد أمراء الأجناد هنالك فلقيه
__________
[1] مجزز: بجيم مفتوحة وزايين الاولى مشردة مكسورة كما في الكامل أهـ.
[2] وفي نسخة ثانية: مسروق.(2/543)
يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل ورماهم بالحجارة، وقال: أتستقبلوني [1] في هذا الزي؟ وإنما شبعتم منذ سنتين والله لو كان على رأس الماءين لاستبدلت بكم فقالوا: إنها بلاد ثمن. وإن علينا السلاح، فسكت ودخل الجابية. وجاءه أهل بيت المقدس وقد هرب أرطبون عنهم إلى مصر، فصالحوه على الجزية وفتحوها له وكذلك أهل الرملة. وولى علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة، وعلقمة بن مجزز على النصف الآخر وأسكنه بيت المقدس، وضم عمرا وشرحبيل إليه فلقياه بالجابية. وركب عمر إلى بيت المقدس فدخلها وكشف عن الصخرة وأمر ببناء المسجد عليها وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة ست عشرة. ولحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر، وقيل إنما لحق بالروم وهلك في بعض الصوائف. ثم فرّق عمر العطاء ودون الدواوين سنة خمس عشرة ورتب ذلك على السابقة.
ولما أعطى صفوان بن أمية والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو أقل من غيرهم قالوا:
لا والله لا يكون أحد أكرم منا. فقال: إنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب. قالوا فنعم إذا. وخرجوا إلى الشام فلم يزالوا مجاهدين وحتى أصيبوا.
ولما وضع عمر الدواوين قال له عليّ وعبد الرحمن ابدأ بنفسك، قال لا بل بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب، ورتب ذلك على مراتب ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين وخمسمائة ثم ألفين ثم ألفا واحدا ثم خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين، وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف لكل واحدة وفضل عائشة بألفين، وجعل النساء على ما رتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين، والصبيان مائة مائة والمساكين جريبين [2] في الشهر، ولم يترك في بيت المال شيئا. وسئل في ذلك فأبى وقال: هي فتنة لمن بعدي. وسأل الصحابة في قوته من بيت المال، فأذنوا له وسألوه في الزيادة على لسان حفصة ابنته متكتمين عنه، فغضب وامتنع، وسألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشه وملبسه وفراشه فأخبرته بالكفاف من ذلك، فقال والله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقا
__________
[1] الأصح ان يقول: تستقبلوني.
[2] وفي نسخة ثانية: جرايتين.(2/544)
وتزود الأول فبلغ المنزل واتبعه الآخر مقتديا به كذلك ثم جاء الثالث بعدهما فإن اقتفى طريقهما وزادهما لحق بهما وإلا لم يبلغهما.
وفتحت في جمادى من هذه السنة تكريت لأن أهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الّذي كان بها وهم من الروم وإياد وتغلب والنمر ومعهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم، فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر، كاتبه عبد الله بن المعتمر وعلى مقدمته ربعي بن الأفكل وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة، فحاصروهم أربعين يوما وداخلوا العرب الذين معهم فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم، ثم يئس الروم من أمرهم واعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة، فبعث العرب بذلك إلى المسلمين وسألوهم الأمان، فأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا وواعدوهم الثبات والتكبير وأن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا. ولما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هناك فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون فأخذتهم السيوف من الجهتين، ولم يفلت إلا من أسلم من قبائل ربيعة من تغلب والنمر وإياد. وقسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم وللراجل ألف. ويقال إن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل ونينوى وهما حصنان على دجلة من شرقيها وغربيها، فسار في تغلب وإياد والنمر وسبقوه إلى الحصنين فأجابوا إلى الصلح وصاروا ذمة. وقيل بل الّذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين وأنه ملك نينوى وهو الشرقي عنوة. وصالحوا أهل الموصل وهو الغربي على الجزية وفتح معها جبل الأكراد [1] وجميع أعمال الموصل وقيل إنما بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عند ما فتح الجزيرة على ما نذكره والله أعلم.
مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وارمينية
كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل وأغروه بالشام وأن يبعث الجنود إلى حمص وواعدوه المدد، وبعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلي العراق، فأرسل سعد عمر بن مالك بن جبير بن مطعم في جند وعلى مقدمته الحرث بن يزيد العامري فسار إلى هيت وحاصرهم، فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد وخرج
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: معاقيل الأكراد.(2/545)
في نصف العسكر وجاء قرقيسيا على غرّة فأجابوه إلى الجزية، وكتب إلى الحرث أن يخندق على عسكر الجزيرة فبيت حتى سألوا المسالمة والعود إلى بلادهم فتركهم ولحق بعمر بن مالك.
ولما اعتزم هرقل على قصد حمص وبلغ الخبر أبا عبيدة ضمّ إليه مسالحه وعسكر بفنائها، وأقبل إليه خالد من قنسرين، وكتبوا إلى عمر بخبر هرقل فكتب إلى سعد أن يذهب بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو ويسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وان يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص، وأن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم يقصد حران والرها، وأن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وأن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء إن كانت حرب. فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص، وسار عياض بن غنم وأمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثا لأبي عبيدة. ولما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل ورجعوا إلى بلادهم، وزحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا، وقدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث، وكتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العرب في الغنيمة. وسار عياض بن غنم إلى الجزيرة وبعث سهيل بن عدي إلى الرقة عند ما انقبضوا عن هرقل فنهضوا معه، إلا إياد بن نزار، فإنّهم دخلوا أرض الروم. ثم بعث عياض بن سهيل وعبد الله يضمهما إليه، وسار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية. ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها فأجابوا إلى الجزية، وكمل فتح الجزيرة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية، وانصرف معه خالد أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل، وولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها والوليد بن عقبة على عربها.
ولما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم، كتب إلى هرقل بلغني أن حيّا من أحياء العرب تركوا دارنا وأتوا دارك فو الله لتخرجنهم أو لنخرجنّ النصارى إليك، فأخرجهم هرقل وتفرّق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام والجزيرة، وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل منهم إلا الإسلام، فكتب إليه عمر إنما ذلك في جزيرة العرب إلى تل التي فيها مكة والمدينة واليمن فدعهم على أن لا ينصرفوا وليدا ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام. ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزيرة فجعلها الصدقة مضاعفة.(2/546)
ثم عزل الوليد عنهم لسطوته وعزتهم، وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمر الجملي.
وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة وإن سعدا بعث إليها الجند مع عياض بن غنم وفيهم ابنه عمر مع عياض بن غنم، ففتح عمر مع عياض الرها، وصالحت حرّان، وافتتح أبو موسى نصيبين، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية فصالحوه على الجزية، ثم كان فتح قيسارية من فلسطين، فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق والأكثر أنها من فتوح أهل الشام. وأن أبا عبيدة سيّر عياض بن غنم إليها، وقيل بل استخلفه لما توفي، فولاه عمر على حمص وقنسرين والجزيرة فسار إليها سنة ثمان عشرة في خمسة آلاف فانته طائفة إلى الرقة فحاصروها حتى صالحوه على الجزية والخراج على الفلاحين. ثم سار إلى بحران فجهز عليها صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة، وسار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه.
ثم رجع إلى حران وصالحهم كذلك، ثم فتح سميساط وسروج ورأس كيفا فصالحوه على منبج كذلك، ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفرتوثا [1] ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل وفتح أحد حصنيها، ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها ودخل الدرب إلى بدليس [2] . ثم خلاط فصالحوه وانتهى إلى اطراف أرمينية، ثم عاد إلى الرقّة ومضى إلى حمص فمات. واستعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين وقيل إن عياضا هو الّذي أرسله، وقيل إن أبا موسى الأشعري هو الّذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر، وقيل إن خالدا حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فأطلى بشيء فيه خمر وقيل لم يسر خالد تحت لواء أحد بعد أبي عبيدة.
ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة أيضا ورتب فيها الجند وولى عليها، ولما أدرب عياض بن غنم من الجابية. فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة وعلى حمص أبو عبيدة، وعلى قنسرين خالد بن الوليد من تحته، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى السواحل عبد الله بن قيس. وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث بن قيس وأجازه بعشرة آلاف، وبلغ ذلك
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: كفرنونا.
[2] وفي النسخة الباريسية: تفليس.(2/547)
عمر مع ما بلغه في آمد من تدلكه بالخمر، فكتب إلى أبي عبيدة أن يقيمه في المجلس وينزع عنه قلنسوته ويعقله بعمامته ويسأله من أين أجاز الأشعث؟ فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله. فاستدعاه أبو عبيدة وجمع الناس وجلس على المنبر وسأل البريد [1] خالدا فلم يجبه، فقام بلال وأنقذ فيه أمر عمر وسأله، فقال: من مالي فأطلقه وأعاد قلنسوته وعمامته. ثم استدعاه عمر فقال من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان وما زاد على ستين ألفا فهو لك فجمع ماله فزاد عشرين فجعلها في بيت المال ثم استصلحه.
وفي سنة سبع عشرة هذه اعتمر عمر ووسع في المسجد، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على من أبى البيع دورهم لذلك، وكانت العمارة في رجب وتولاها: مخرمة بن نوفل، والأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع، واستأذنه أهل المياه أن يبنو المنازل بين مكة والمدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى
كان العلاء بن الحضرميّ على البحرين أيام أبي بكر ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده، وكان العلاء يناوئ سعيد بن أبي وقاص ووقع له في قتال أهل الردة ما وقع، فلما ظفر سعد بالقادسية كانت أعظم من فعل العلاء، فأراد أن يؤثر في الفرس شيئا فندب الناس إلى فارس وأجابوه، وفرّقهم أجنادا بين الجارود بن المعلى والسوار ابن همام وخليد بن المنذر وأمره على جميعهم وحمله في البحر إلى فارس بغير إذن من عمر لأنه كان ينهي عن ذلك وأبو بكر قبله خوف الغرق. فخرجت الجنود إلى اصطخروا بإزائهم الهربذ في أهل فارس، وحالوا بينهم وبين سفنهم فخاطبهم خليد وقال: إنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب. ثم ناهدوهم واقتتلوا بطاوس، وقتل الجارود والسوار وأمر خليد أصحابه أن يقاتلوا رجّالة، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، ثم خرج المسلمون نحو البصرة وأخذ الفرس عليهم الطرق فعسكروا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اليزيد.(2/548)
وامتنعوا، وبلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالبصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وأمر العلاء بالانصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه، فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وأمثالهم وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم بن عامر بن لؤيّ، فساحل بالناس حتى لقوا خليدا والعسكر، وقد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية، فاقتتلوا وانهزم المشركون وقتلوا. ثم انكفؤا بما أصابوا من الغنائم واستحثهم عتبة بالرجوع فرجعوا إلى البصرة.
ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج، ثم استعفاه فأبى وعزم عليه ليرجعن إلى عمله فانصرف ومات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد. واستخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقية السنة.
ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، وكان بينه وبين أبي بكرة منافرة وكانا متجاوزين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين، فزعموا أن أبا بكرة وزياد بن أبيه وهو أخوه لأمه [1] وآخرين معهما عاينوا المغيرة على حالة قذفوه بها، وادعوا الشهادة ومنعه أبو بكرة من الصلاة، وبعثوا إلى عمر، فبعث أبا موسى أميرا في تسعة وعشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ومعهم كتاب عمر إلى المغيرة: «أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم وبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك والعجل» . ولما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة ولم يستكملها زياد فجلد الثلاثة. ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة ثم صرفه إلى الكوفة ورد أبا موسى فأقام عليه.
بناء البصرة والكوفة
وفي هذه السنة وهي اربع عشرة بلغ عمر أن العرب تغيرت ألوانهم ورأى ذلك في وجوه وفودهم فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا، وقيل إن حذيفة وكان معه سعد كتب بذلك إلى عمر فسأل عمر سعدا فقال: غيرتهم وخومة البلاد والعرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها، فكتب إليه أن يبعث سلمان وحذيفة شرقية فلم يرضيا إلا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: اخوه لأبيه.(2/549)
بقعة الكوفة فصليا فيها ودعيا أن تكون منزل ثبات. ورجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع وعبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جند هما ويحضرا، وارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين وشهرين من وقعة القاسية ولثلاث سنين وثمانية أشهر من ولاية عمر، وكتب إلى عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة والفرات برّيا بحريا بين الجلاء والنصر وخيرت الناس بينهما وبين المدائن ومن أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة، فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم. ونزل أهل البصرة أيضا منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل واستأذنوا جميعا في بنيان القصب، فكتب عمر: إن العسكرة أشد لحربكم وأذكر لكم وما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب. ثم وقع الحريق في القصرين فاستأذنوا في البناء باللبن فقال: افعلوا ولا يزيد أحد على ثلاثة بيوت ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنّة تلزمكم الدولة. وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف. وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع، وماسبدان وعليها ضرار بن الخطاب، وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر. ويكون بها خلفاؤهم إذا غابوا.
فتح الأهواز والسوس بعدهما
لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان وهي قاعدة الأهواز فملكها وملك سائر الأهواز، وكان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس، وأقام يغير على أهل ميسان ودست ميسان من ثغور البصرة يأتي إليها من منادر ونهير تيري من ثغور الأهواز.
واستمد عتبة بن غزوان سعدا فأمده بنعيم بن مقرن، ونعيم بن مسعود، فنزلا بين ثغور البصرة وثغور الأهواز. وبعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين وحرملة بن مريطة [1] من بني العدوية بن حنظلة فنزلا على ثغور البصرة بميسان، ودعوا بني العم بن مالك وكانوا ينزلون خراسان، فأهل البلاد يأمنونهم، فاستجابوا وجاء منهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي فلقيا سلمي وحرملة وواعداهما الثورة بمنادر ونهر تيري. ونهض سلمي وحرملة يوم الموعد في التعبية وأنهضا نعيما والتقوا هم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن قريضة.(2/550)
والهرمزان [1] وسلمي على أهل البصرة ونعيم على أهل الكوفة، وأقبل إليهما المدد من قبل غالب وكليب وقد ملك منادر ونهر تيري، فانهزم وقتل المسلمون من أهل فارس مقتلة، وانتهوا في اتباعهم إلى شاطئ دجيل وملكوا ما دونها. وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وصار دجيل بينه وبين المسلمين، ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها ما خلا [2] نهر تيري ومنادر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد، وبقيت المسالح على نهر تيري ومنادر وفيهما غالب وكليب. ثم وقع بينهما وبين الهرمزان اختلاف في التخم واوافقهما سلمي وحرملة فنقض الهرمزان ومنع ما قبل وكثف جنوده بالأكراد، وبعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله، فانهزم وسار إلى رامهرمز وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسقت [3] له البلاد إلى تستر. ووضع الجزية وكتب بالفتح وبعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية فانتهى الى قرية الشغر، ثم الى دورق فملكها وأقام بالبلاد وعمّرها وطلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد، ونزل حرقوص جبل الأهواز وكان يزدجرد في خلال ذلك يمد ويحرض أهل فارس حتى اجتمعوا وتعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة، وبلغت الأخبار حرقوصا وجزءا وسلمي وحرملة فكتبوا إلى عمر فكتب إلى سعد أن يبعث جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان، وكتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جندا كثيفا مع سعد بن عدي أخي سهيل ويكون فيهم البراء من مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى الجندين أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرج النعمان بن مقرّن في أهل الكوفة فخلّف حرقوصا وسلمي وحرملة إلى الهرمزان وهو برام هرمز، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ولقيه فانهزم ولحق بتستر، وجاء النعمان إلى رامهرمز فنزلها وجاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر، ولحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان، وأمدّهم عمر بأبي موسى جعله على أهل البصرة فحاصروهم أشهرا وأكثروا فيهم القتل، وزاحفهم المشركون ثمانين زحفا سجالا ثم انهزموا في آخرها، واقتحم المسلمون خنادقهم وأحاطوا بها وضاق عليهم الحصار فاستأمن بعضهم من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولقوا الهرمزان.
[2] وفي النسخة الباريسية: ما عدا.
[3] وفي نسخة ثانية: اتسعت.(2/551)
داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه، فانتدب لهم طائفة ودخلوا المدينة من مدخل الماء وملكوها وقتلوا المقاتلة، وتحصّن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها واستنزلوه على حكم عمرو وأوثقوه. واقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف والراجل ألف. وقتل من المسلمين في تلك الليلة البرّاء بن مالك ومجزأة بن ثور قتلهما الهرمزان.
ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين ومعه النعمان وأبو موسى فنزلوا على السوس، وسار زرّ ابن عبد الله الفقيمي إلى جنديسابور فنزل عليها. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة وأمر مكانه الأسود بن ربيعة بن مالك صحابي يسمّى المقترب، وأرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج المذهب وتاجه مرصّعا بالياقوت وحليته ليراه المسلمون، فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه وقال يا هرمزان كيف رأيت أمر الله وعاقبة الغدر؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم. فلما صار الآن معكم غلبتمونا. قال: فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرّة بعد أخرى؟ قال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قالا لا تخف ذلك. ثم استقى فأتي بالماء فقال: أخاف أن أقتل وأنا أشرب فقال لا بأس عليك حتى تشربه، فألقاه من يده وقال لا حاجة لي في الماء وقد أمّنتني. قال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس عليك حتى تخبرني وحتى تشربه وصدّق الناس. فأقبل عمر على الهرمزان وقال خدعتني لا والله إلا أن تسلم! فأسلم.
ففرض له في ألفين وأنزله المدينة واستأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس وقال: لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له.
ولما لحق أبو سبرة بالسوس [1] ونزل عليها وبها شهريار أخو الهرمزان فأحاط بها ومعه المقترب بن ربيعة في جند البصرة، فسأل أهل السوس الصلح فأجابوهم. وسار النعام بن مقرّن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم، وسار المقترب إلى زرّ بن عبد الله على جنديسابور فحاصروها مدّة ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك، فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم، فأمضى عمر أمانه. وقيل في فتح السوس إنّ يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بالفرس.(2/552)
إصطخر ومعه سباه [1] في سبعين ألفا من فارس فبعثه إلى السوس ونزل الكلبانية وبعث الهرمزان إلى تستر، ثم كانت واقعة أبي موسى فحاصرهم فصالحوه على الجزية وسار الى هرمز ثم إلى تستر. ونزل سباه بين رامهرمز وتستر، وحمل أصحابه على صلح أبي موسى ثم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم ولا يقتلوا العرب ويمنعهم هو من العرب، ويلحقوا بأشراف العطاء فأعطاهم ذلك عمر [2] وأسلموا وشهدوا فتح تستر، ومضى سباه إلى بعض الحصون في زي العجم فغدرهم وفتحه للمسلمين وكان فتح تستر وما بعدها سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة.
مسير المسلمين الى الجهات للفتح
لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له: يا أمير المؤمنين لا يزال أهل فارس يقاتلون ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالانسياح في بلادهم فأزلنا [3] ملكهم انقطع رجاؤهم. فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد ويقيم حتى يأتي أمره، ثم بعث إليه مع سهيل بن عديّ بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم: لواء خراسان للأحنف بن قيس، ولواء أردشير خرة وسابور لمجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودارابجرد لسارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان لسهيل بن عديّ، ولواء سجستان لعاصم بن عمرو، ولواء مكران للحكم بن عمير التغلبي [4] . ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثمان عشرة، ويقال سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين، ثم ساروا في بلاد العجم وفتحوا كما يذكر بعد.
مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس
وأصاب الناس سنة ثمان عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعا بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع الناس، وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن حتى يحيا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سياه.
[2] وفي النسخة الباريسية: فعقد لهم ذلك عمر وأسلموا.
[3] وفي النسخة الباريسية: فازلت ملكهم.
[4] وفي نسخة ثانية: الثعلبي.(2/553)
الناس، وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدّهم لأهل المدينة، فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر فرخص السعر، واستقى عمر بالناس فخطب الناس وصلّى. ثم قام وأخذ بيد العبّاس وتوسّل به ثم بكى وحثا على ركبتيه يدعوا إلى أن مطر الناس. وهلك بالطاعون أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم. وتفانى الناس بالشام، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها فدعا أبا موسى يرتاد له منزلا ومات قبل رحيله، وسار عمر بالناس إلى الشام وانتهى الى سرغ ولقيه أمراء الأجناد وأخبروه بشدّة الوباء، واختلف الناس عليه في قدومه فقبل إشارة العود ورجع، وأخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوباء فقال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه» . أخرجاه في الصحيحين.
ولما هلك يزيد ولّى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان وعلى الأرض شرحبيل بن حسنة، ولمّا فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر على المسير إليه ليقسّم مواريث المسلمين ويتطوّف على الثغور ففعل ذلك، ورجع واستقضى في سنة ثمان عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكنديّ، وعلى البصرة كعب بن سوار الأزديّ.
وحج في هذه السنة ويقال إن فتح جلولاء والمدائن والجزيرة كان في هذه السنة وقد تقدّم ذكر ذلك وكذلك فتح قيسارية على يد معاوية وقيل سنة عشرين.
فتح مصر
ولما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه ثم اتبعه الزبير بن العوّام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو اثنين أو خمس فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس، وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع وأخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، وأجلّهم ثلاثا ورجعوا إلى المقوقس وأرطبون أمير الروم فأبى من ذلك أرطبون وعزم على الحرب وبيّت المسلمين فهزموه وجنده. ونازلوا عين شمس(2/554)
وهي المطريّة وبعثوا لحصار الفرما أبرهة [1] بن الصبّاح، ولحصار الإسكندرية عوف ابن مالك، وراسلهم أهل البلاد وانتظروا عين شمس فحاصرهم عمرو والزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية، وأجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوة، فجرى الصلح وشرطوا ردّ السبايا فأمضاه لهم عمر بن الخطّاب على أن يجيز السبايا في الإسلام وكتب العهد بينهم ونصّه:
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمر وبن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافّتهم وصاعهم [2] ومدّهم وعددهم لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ممن جنى نصرتهم فإن أبي أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم [3] وذمتنا ممّن أبى بريّة وإن نقص نهرهم من غايته [4] إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا، وعليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلاث جباية ثلث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر» هذا نص الكتاب منقولا من الطبري.
قال فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح ونزل المسلمون الفسطاط، وجاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل فأبى عمرو من ردّها وقال: أغاروا وقاتلوا وقسّمتهم في الناس، وبلغ الخبر إلى عمر فقال: من يقاتل في أيام الأجل فله الأمن وبعث بهم إلى الرباق [5] فردّهم عليهم. ثم سار عمرو إلى الإسكندرية فاجتمع له من بينهما وبين الفسطاط من الروم والقبط فهزمهم وأثخن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفورفا أبرهة.
[2] وفي النسخة الباريسية: وصلبهم.
[3] وفي نسخة ثانية: من الجزية بعددهم.
[4] وفي النسخة الباريسية: من عادته
[5] وفي نسخة ثانية: الرقاق(2/555)
فيهم، ونازل الإسكندرية وبها المقوقس وسأله الهدنة إلى مدّة فلم يجبه وحاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة. وقيل إنّ المقوقس صالح عمرا على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم باختيارهم وجعل عمرو فيها جندا.
ولما تم فتح مصر والإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا، فلما كان أيام عثمان وعبد الله بن أبي سرح على مصر صالحهم على عدّة رءوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون طعاما وكسوة فاستمرّ ذلك فيها [1] .
وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات
لما فتحت الأهواز ويزدجرد بمرو كاتبوه واستنجدوه، فبعث إلى الملوك ما بين الباب والسند وخراسان وحلوان يستمدّهم فأجابوه، واجتمعوا إلى نهاوند وعلى الفرس الفيرزان في مائة وخمسين ألف مقاتل. وكان سعد بن أبي وقّاص قد ألّب أقوام عليه من عسكره، وشكوا إلى عمر فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلّا خيرا سوى مقالة من بني عبس، فاستقدمه محمد إلى عمر وخبّره الخبر. وقال:
كيف تصلّي يا سعد؟ قال: أطيل [2] الأولتين وأحذف الأخيرتين. قال: هكذا [3] الظنّ بك، ثم قال: من خليفتك على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقرّه وشافهه بخبر الأعاجم وأشار بالانسياح ليكون أهيب على العدوّ. فجمع عمر الناس واستشارهم بالمسير بنفسه، فمن موافق ومخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود ويقيم ردءا لهم، وكان ذلك رأي عليّ وعثمان وطلحة وغيرهم، فولّى على حربهم النعمان بن مقرّن المزني وكان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس، وأمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه ويسير بهم إلى الفيرزان ومن معه. وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس مع النعمان، فبعثهم مع حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرّن، وكتب إلى المقترب وحرملة وزرّ الذين كانوا بالأهواز وفتحوا السوس وجنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان وفارس ويقطعوا المدد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فيما بعد.
[2] وفي النسخة الباريسية: أصلى الأولتين.
[3] وفي النسخة الباريسية: هو(2/556)
عن أهل نهاوند.
واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة وجرير والمغيرة وابن عمر وأمثالهم، وأرسل النعمان طليحة وعمرو بن معديكرب طليعة، ورجع عمرو من طريقه. وانتهى طليحة إلى نهاوند ونفض الطرق فلم يلق بها أحدا وأخبر الناس، فرحل النعمان وعبّى المسلمين ثلاثين ألفا، وجعل على مقدمته نعيم بن مقرّن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرّن وعلى المجردة القعقاع وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. ومع الفيرزان كتائبه وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جادويه مكان ذي الحاجب، وقد توافي إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم.
فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون وحطت العرب الأثقال وتبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه، حذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وعقبة بن عمرو وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب وبشير بن الخصاصية والأشعث بن قيس ووائل بن حجر وسعيد بن قيس الهمدانيّ. ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء والخميس والحرب سجال ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياما، وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق وتشاوروا، وأشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد فناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد قد تواثقوا أن لا يفرّوا وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا، فلمّا بارزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون ونزل الصبر، ثم وقف النعمان على الكتائب وحرّض المسلمين ودعا لنفسه بالشهادة، وقال: إذا كبّرت الثالثة فاحملوا. ثم كبّر وحمل عند الزوال وتجاول الناس ساعة وركدت الحرب ثم انفض الأعاجم وانهزموا وقتلوا ما بين الظهر والعتمة حتى سالت أرض المعركة دما تزلق فيه المشاة حتى زلق فيه النعمان وصرع، وقيل بل أصابه سهم، فسجّاه أخوه نعيم بثوب. وتناول الراية حذيفة بعهده وتواصوا بكتمان موته. وذهب الأعاجم ليلا وعميت عليهم المذاهب، وعقرهم حسك الحديد ووقعوا في اللهب الّذي أعدوه في عسكرهم فمات منهم أكثر من مائة ألف منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة، وهرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان واتبعه نعيم بن مقرّن فأدركه بالثنية دونها وقد سدّتها الأحمال وترجل وصعد في الجبل، وكان نعيم قد قدّم القعقاع أمامه فاعترضه وقتله المسلمون على الثنية، ودخل الفلّ همذان وبها خسروشنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم والقعقاع، ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة وغنموا ما فيها(2/557)
وجمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع.
ووليّ على الجند حذيفة بعهد النعمان إليه. ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمّنه وأخرج له سفطين مملو أين [1] جوهرا نفيسا كانا من ذخائر كسرى أودعهما عنده البخرجان [2] فنقلهما المسلمون، وبعث الخمس مع السائب إلى عمر وأخبره بالواقعة وبالفتح بمن استشهد فبكى، وبالسفطين فقال ضعهما [3] في بيت المال والحق بجندك. قال السائب: ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال: ما لي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان نارا يتوعدوني بالكي إن لم أقسّمهما فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين. فبعتهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم وباعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما، فكان له بالكوفة مال. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف والراجل ألفين ولم يكن للفرس من بعدها اجتماع. وكان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند حصل في أسر الروم وأسره الفرس منهم، فكان إذا لقي سبّي نهاوند بالمدينة يبكي ويقول: أكل عمر كبدي. وكان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة فلما انصرف مرّ بالدينور فحاصرها خمسة أيام، ثم صالحوه على الجزية. وسار إلى أهل شيروان [4] فصالحوه كذلك. وبعث السائب بن الأقرع إلى الصيمرة [5] ففتحها صلحها.
ولما اشتدّ الحصار بأهل همذان بعث خسروشنوم إلى نعيم والقعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك ثم اقتدى أهل الماهين وهم الملوك الذين جاءوا لنصرة يزدجرد وأهل همذان، وبعثوا إلى حذيفة فصالحوه. وأمر عمر بالانسياح في بلاد الأعاجم، وعزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة وبعثه في وجه آخر. وولّى مكانه زياد بن حنظلة حليف بني عبد قصيّ واستعفى فأعفاه، وولّى عمار بن ياسر، واستدعى ابن مسعود من حمص فبعثه معه معلما لأهل الكوفة، وأمدّهم بأبي موسى، وأمدّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: صفتين مملوءتين.
[2] وفي نسخة ثانية: البجرجان.
[3] وفي النسخة ثانية: صنهما.
[4] وفي النسخة الباريسية: سيروان
[5] وفي النسخة الباريسية: العميرة وفي نسخة ثانية: العميرة.(2/558)
أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله، ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة، وولّى على البصرة عمرو بن سراقة.
ثم انتقض أهل همذان فبعث إلى نعيم بن مقرّن فحاصرهم، وصار بعد فتحها إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد وبكر بن عبد الله إلى أذربيجان يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، ولما وصل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلي فأمدّه بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحيّ وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة. فسار عبد الله بمن معه ومن تبعه من عند النعمان نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيدان وعلى مقدمته شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان، فاقتتلوا وبارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله، وانهزم أهل أصبهان وصالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق، ثم ساروا إلى أصبهان وتسمى جي [1] وملكها الفادوسفان [2] ، فصالحهم على الجزية والخيار بين المقام والذهاب وقال: ولكم أرض من ذهب. وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز فدخل معه أصبهان وكتبوا إلى عمر بالفتح. فكتب إلى عبد الله أن يسير إلى سهيل بن عديّ لقتال كرمان، فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل كرمان، وقد قيل: إنّ النعمان بن مقرّن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة واستجاش له أهل الكوفة فقتل في حرب أصبهان، والصحيح أنّ النعمان قتل بنهاوند. وافتتح أبو موسى قم وقاشان. ثم ولّى عمر على الكوفة سنة إحدى وعشرين المغيرة بن شعبة وعزل عمّارا.
فتح همذان
كان أهل همذان قد صالح عليهم خسروشنوم القعقاع ونعيما وضمنهما ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها فودّع حذيفة ورجع إليها من الطريق على تعبيته، فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوا على الجزية، وقيل إن فتحها كان سنة أربع وعشرين فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاء الخبر بخروج الديلم وأهل الريّ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وتسمّى جرّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: الفادوسوان.(2/559)
وإسفنديار أخو رستم بأهل آذربيجان، فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمدانيّ وسار إليهم فاقتتلوا وانهزم الفرس وكانت واقعتها ومثل نهاوند وأعظم. وكتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيما بقصد الري والمقام بها بعد فتحها. وقيل إنّ المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحها وغلب على أرضها، وقيل تولّاها بنفسه وجرير على مقدمته. ولما فتح جرير همذان بعث البرّاء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها، وسار إليها فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم ثم جاء البرّاء في المسلمين فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف على الجبل ينظرون، فيئس أهل قزوين منهم وصالحوا البرّاء على صلح أبهر قبلها. ثم غزا البرّاء الديلم وجيلان [1] .
فتح الريّ
ولما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري وخرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح وأبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين، واستمدّ أهل دنباوند [2] وطبرستان وقومس [3] وجرجان فأمدّوه [4] والتقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة، وقد كان خلفهم أبو فرخان. ودخل المدينة من الليل ومعه المنذر بن عمر وأخو نعيم فلم يشعروا وهم موافقون لنعيم إلّا بالتكبير من ورائهم، فانهزموا وقتلوا وأفاء الله على المسلمين بالريّ مثل ما كان بالمدائن، وصالحه أبو الفرخان الزبيني [5] على البلاد فلم يزل شرفهم في عقبه. وأخرب نعيم مدينتهم العتيقة وأمر ببناء أخرى. وكتب إلى عمر بالفتح وصالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم.
ولما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس ومعه هند بن عمرو الجملي، فسار فلم يقم له أحد وأخذها سلما وعسكر بها. وكاتبه الفلّ الذين بطبرستان وبالمفاوز فصالحوه على الجزية، ثم سار إلى جرجان وعسكر فيها ببسطام وصالحه ملكها على الجزية، وتلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ومرقان التيبر والطيلسان
[2] وفي النسخة الباريسية: ديناوند
[3] وفي النسخة الباريسية: وقوقس.
[4] وفي النسخة الباريسية: فأوفدوه وفي نسخة أخرى: فأمّروه.
[5] وفي النسخة الباريسية: المرسي.(2/560)
الخراج وأراه مروجها وسدّها، وقيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان، ثم أرسل سويد إلى الأصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل وعقد له بذلك.
فتح أذربيجان
ولما افتتح نعيم الريّ أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان ممدّا لبكير بن عبد الله [1] ، وكان بكير بن عبد الله عند ما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال أسفنديار بن فرّخزاد مهزوما من واقعة نعيم من ماح رود [2] دون همذان وهو أخو رستم فهزمه بكير وأسره. فقال له: أمسكني عندك فأصالح لك على البلاد وإلا فرّوا إلى الجبال وتركوها، وتحصّن من تحصّن إلى يوم ما فأمسكه وسارت البلاد صلحا إلّا الحصون. وقدم عليه سماك وهو في مثل ذلك وقد افتتح ما يليه وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه، وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدّم، فأذن له أن يتقدّم نحو الباب وأن يستخلف على ما افتتح، فاستخلف عتبة بن فرقد وجمع له عمر أذربيجان كلها، فولّى عتبة سماك بن خرشة [3] على ما افتتحه بكير. وكان بهرام بن الفرّخزاد قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره مقتصدا [4] معترضا له فلقيه عتبة وهزمه، وبلغ خبر الإسفنديار وهو أسير عند بكير فصالحه واتبعه أهل أذربيجان كلهم. وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر وبعثوا بالأخماس فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح، ثم غزا عتبة بن فرقد شهرزور والصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية والخراج، وقتل خلقا من الأكراد، وكتب إلى عمر أن فتوحي بلغت أذربيجان فولّاه إياه وولى هرثمة بن عرفجة الموصل.
فتح الباب
ولما أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب والتقدم إليها، بعث سراقة بن عمرو على حربها فسار من البصرة، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة وعلى إحدى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لبكر بن عبد الله.
[2] وفي نسخة ثانية: معهم ابو حرود.
[3] وفي النسخة الباريسية: ابن خرثمة.
[4] وفي النسخة الباريسية: معتصر.(2/561)
مجنبتيه ابن أسيد الغفاريّ وعلى الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم والى المقاسم سلمان بن ربيعة الباهليّ، وردّ أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة، ثم أمدّ سراقة بجبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة، وسار سراقة من أذربيجان، فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدّمته على الباب والملك بها يومئذ شهريار من ولد شهريرار الّذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام منهم، فكاتبه شهريار واستأمنه على أن يأتي فحضر وطلب الصلح والموادعة على أن تكون جزيته النصر والطاعة للمسلمين، قال: ولا تسومونا الجزية فتوهنونا لعدوّكم. فسيّره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه وقال: لا بدّ من الجزية على من يقيم ولا يحارب العدوّ.
فأجاب، وكتبوا إلى عمر فأجاز ذلك.
فتح موقان وجبال ارمينية
ولما فرغ سراقة من الباب بعث [1] أمراء إلى ما يليه من الجبال المحيطة بأرمينية، فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان، وحبيب بن مسلمة إلى تفليس، وحذيفة بن اليمان إلى جبال اللان [2] ، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر. وكتب بالخبر الى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم، ثم بلغه موت سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، فأقرّه عمر على فرج الباب وأمره بغزو الترك. ولم يفتح أحد من أولئك الأمراء إلّا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان، ثم تراجعوا على الجزية دينارا عن كل حالم.
غزو الترك
ولما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى الباب وسار معه شهريار فغزا بلنجر وهم قوم من الترك ففرّوا منه وتحصّنوا، وبلغت خيله على مائتي فرسخ من بلنجر وعاد بالظفر والغنائم. ولم يزل يردّد الغزو فيهم إلى أيام عثمان فتذامر الترك وكانوا يعتقدون أن المسلمين لا يتقلون لأنّ الملائكة معهم، فأصابوا في هذه الغزاة رجلا من المسلمين على غرّة فقتلوه وتجاسروا، وقاتل عبد الرحمن فقتل وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوه سلمان فخرج بالناس ومعه أبو هريرة الدوسيّ فسلكوا على جيلان إلى جرجان.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولما فرغ من الباب بعث سراقة.
[2] وفي نسخة ثانية: اللات.(2/562)
فتح خراسان
ولما عقدت الألوية للأمراء للانسياح في بلاد فارس كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان وقد تقدم، أن يزدجرد سار بعد جلولاء إلى الريّ وبها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمه، وكتب الضحّاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد وختم عليها وبعث بها إلى سعد، فردّها عليه على حكم الصلح الّذي عقد له. ثم سار يزدجرد والناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها وأمن من العرب، وكاتب الهرمزان وأهل فارس بالأهواز والفيرزان وأهل الجبال فنكثوا [1] جميعا وهزمهم الله وخذلهم وأذن عمر للمسلمين بالانسياح في بلادهم.
وأمّر الأمراء كما قدّمناه وعقد لهم الألوية، فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقيل اثنتين وعشرين فدخلها من الطبسين [2] ، وافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان [3] العبديّ، ثم سار إلى مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور مطرّف بن عبد الله بن الشخّير، وإلى سرخس الحرث بن حسّان، ودرج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مروالروذ فملكها الأحنف ولحقه مدد أهل الكوفة هنالك، فسار الى مروالروذ واستخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي وجعل مدد الكوفة في مقدّمته، والتقوا هم ويزدجرد على بلخ فهزموه وعبر النهر فلحقهم الأحنف وقد فتح الله عليهم، ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور وطخارستان. وولّى على طخارستان ربعي بن عامر، وعاد الى مروالروذ فنزلها وكتب إلى عمر بالفتح، فكتب إليه أن يقتصر على ما دون النهر.
وكان يزدجرد وهو بمروالروذ قد استنجد ملوك الأمم وكتب إلى ملك الصين وإلى خاقان ملك الترك وإلى ملك الصغد، فلما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمروالروذ ونزل المشركون عليه، ثم رحل ونزل سفح الجبل في عشرين ألفا من أهل البصرة وأهل الكوفة وتحصن العسكران بالخنادق وأقاموا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فنكبوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: الطمسين.
[3] وفي نسخة أخرى: فلال وكذا في الكامل والطبري.(2/563)
يقاتلون [1] أياما، وصحبهم الأحنف ليلة وقد خرج فارس من الترك يضرب بطبله ويتلوه اثنان كذلك، ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم، فقتل الأحنف الأوّل ثم الثاني ثم الثالث فلما مرّ بهم خاقان تشاءم وتطير ورجع أدراجه فارتحل وعاد إلى بلخ، وبلغ الخبر إلى يزدجرد وكان على مرو الشاهجان محاصرا لحارثة بن النعمان ومن معه فجمع خزائنه وأجمع اللحاق بخاقان على بلخ، فمنعه أهل فارس وحملوه على صلح المسلمين والركون إليهم وأنهم أوفى ذمة من الترك، فأبى من ذلك وقاتلهم فهزموه واستولوا على الخزائن، ولحق بخاقان وعبروا النهر إلى فرغانة، وأقام يزدجرد ببلد الترك أيام عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان. ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف ودفعوا إلى الخزائن والأموال وصالحوه واغتبطوا بملكة المسلمين، وقسّم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية.
ثم نزل الأحنف بلخ وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع ورجع إلى مروالروذ فنزلها، وكتب بالفتح إلى عمر. وكان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الّذي بعثه إلى ملك الصين قد رده إليه يسأله أن يصف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الأفاعيل مع قلّة عددهم، ويسأل عن وفائهم ودعوتهم وطاعة أمرائهم ووقوفهم عند الحدود ومآكلهم وشرابهم وملابسهم ومراكبهم، فكتب إليه بذلك كله. وكتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنّهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل [2] ، فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان. ولمّا وصل الخبر إلى عمر خطب الناس وقال: ألا وإنّ ملك المجوسية قد ذهب فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم، ألا وإنّ الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون فلا تبدّلوا فيستبدل الله بكم غيركم، فإنّي لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتي إلّا من قبلكم [3]
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يقتتلون.
[2] كذا في الأصل: وفي الكامل ج 3 ص 37: «وكتب ملك الصين إلى يزدجرد «إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند اوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحقّ عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوّها ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة ولا تهيّجهم ما لم يهيّجوك» .
[3] وفي النسخة الباريسية: أن تؤتوا الأمر قبلكم.(2/564)
فتوح فارس
ولما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا وسار كل أمير إلى جهته وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم وكانت تلك هزيمتهم وشتاتهم. وقصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور وأردشيرخرة فاعترضه الفرس دونهما بتوّج فقتلهم وأثخن فيهم، وافتتح توّج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر، فكانت واقعة توّج هذه ثانية لواقعة العلاء بن الحضرميّ عليهم أيام طاوس ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقرّوا بها.
إصطخر:
وقصد عثمان بن أبي العاص إصطخر فزحفوا إليه يحور [1] ، فهزمهم وأثخن فيهم وفتح جور وإصطخر ووضع عليهم الجزية وأجابه الهربذ إليها، وكان ناس منهم فرّوا فتراجعوا إليها. وبعث بالفتح والخمس إلى عمر. ثم فتح كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها، ولحق به أبو موسى فافتتحها مدينة شيراز وأرّجان على الجزية والخراج، وقصد عثمان جنابة [2] ففتحها ولقي الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها. ثم نقض شهرك في أوّل خلافة عثمان فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم وأتته الأمداد من البصرة وعليه عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد والتقوا بأرض فارس، فانهزم شهرك وقتله الحكم بن أبي العاصي وقيل سوار بن همّام العبديّ وقيل إن ابن شهرك حمل على سوار فقتله. ويقال إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين. وقيل إنّ عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين إلى فارس في ألفين، فسار إلى توّج وعلى مجنبته الجارود وأبو صفرة والد المهلب، وكان كسرى أرسل شهرك في الجنود إلى لقائهم، فالتقوا بتوّج وهزمهم إلى سابور وقتل شهرك وحاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها واستعانوا به على قتال إصطخر، ثم مات عمر رضي الله عنه، وبعض عثمان بن عفّان عبيد الله بن معمر مكان عثمان بن أبي العاص وأقام محاصرا إصطخر وأراد ملك سابور الغدر به، ثم أحصر وأصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها. ثم فتحوا المدينة فقتلوا بها بشرا كثيرا منهم.
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 40: مقصد. عثمان بن أبي العاص الثقفي لاصطخره فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا.
[2] وفي نسخة ثانية: جينا.(2/565)
بسا ودرابجرد:
وقصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا [1] ودارابجرد فحاصرهم، ثم استجاشوا بأكراد فارس واقتتلوا بصحراء، وقام عمر على المنبر ونادى يا سارية الجبل، يشير إلى جبل كان إزاءه أن يسند إليه، فسمع ذلك سارية ولجأ إليه ثم انهزم المشركون، وأصاب المسلمون مغانمهم وكان فيها سفط جوهر فاستوهبه سارية من الناس، وبعث به مع الفتح إلى عمر، ولما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء ودفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسّم على الجند فرجع به وقسمه سارية.
كرمان:
وقصد سهيل بن عديّ من أمراء الانسياح كرمان ولحق به عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد أهل كرمان واستعانوا بالقفص وقاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله، وأخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق ودخل النسير [2] بن عمرو العجليّ [3] إلى جيرفت وقتل في طريقه مرزبان كرمان، وعبد الله بن عبد الله مفازة شيرزاد وأصابوا ما أرادوا من إبل وشاء. وقيل إنّ الّذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ. ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر وقال: أقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل فقال إنها رستاقان فامتنع.
سجستان:
وقصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان ولحق به عبد الله بن عمير وقاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم وحصروهم وبزرنج ومخروا أرض سجستان، ثم طلبوا الصلح [4] على مدينتهم وأرضها، على أن الفدافد حمى، وبقي أهل سجستان على الخراج [5] وكانت أعظم من خراسان وأبعد فروجا يقاتلون القندهار والترك وأمما أخرى، فلما كان زمن معاوية هرب الشاة من أخيه نبيل [6] ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل، وكان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان فعقد له وأنزله آمل، وكتب إلى معاوية بذلك فأقرّه بغير نكير وقال: إن هؤلاء قوم غدر وأهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطراب أن يغلبوا على بلاد آمل
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 642: فسا.
[2] وفي نسخة ثانية: البشير بن عمرو.
[3] وفي النسخة الباريسية: البجلي.
[4] وفي النسخة الباريسية: ثم صالحوهم.
[5] وفي نسخة ثانية: على ان الفرات حمى ويسقي أهل سجستان على الخراج.
[6] وفي بعض الكتب رتبيل بدل زنبيل أهـ.(2/566)
بأسرها، فكان كذلك. وكفر الشاه بعد معاوية وغلب على بلاد آمل واعتصم منه زنبيل بمكانه، وطمع هو في زرنج فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فأجفلوا عنها.
مكران:
وقصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد مكران ولحق به شهاب بن المخارق وجاء سهيل بن عديّ وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وانتهوا جميعا الى دوين [1] وأهل مكران على شاطية [2] وقد أمدّهم أهل السند بجيش كثيف، ولقيهم المسلمون فهزموهم وأثخنوا فيهم بالقتل، واتبعوهم أياما حتى انتهوا الى النهر ورجعوا إلى مكران فأقاموا بها وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس مع صحّار العبديّ، وسأله عمر عن البلاد فأثنى عليها شرّا، فقال: والله لا يغزوها جيش لي أبدا وكتب إلى سهيل والحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما.
خبر الأكراد
كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي، اجتمع ببيروذ [3] بين نهر تيري ومنادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة ردءا للأمراء المنساحين، فجاء إلى بيروذ وقاتل تلك الجموع قتالا شديدا وقاتل المهاجر بن زياد حتى قتل [4] . ثم وهن الله المشركين فتحصّنوا منه في قلّة وذلّة، فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد وسار الى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة. وفتح الربيع بن زياد بيروذ وغنم ما فيها ولحق به بالبصرة وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس، وأراد ضبّة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، فغضب وانطلق شاكيا إلى عمر بانتقائه ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه وأنه أجاز الحطيئة بألف وولّى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، واعتذر أبو موسى وقبله عمر.
وكان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: دومن.
[2] وفي نسخة ثانية: شاطئية.
[3] بيروذ على وزن فيروز، قال في الكامل وآخره ذال معجمة أهـ.
[4] وفي نسخة ثانية: وقتل المهاجر بن زياد.(2/567)
ودفعهم الى الجهاد على عادته وأوصاهم، فلقوا عدوا من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا وقاتلوهم وهزموهم وقتلوا وسبوا وقسّموا الغنائم، ورأى سلمة جوهرا في سفط فاسترضى المسلمين وبعث به إلى عمر فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسفط فغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وقال: أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسّمه سلمة فيه فباعه سلمة وقسمه في الناس وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفا.
مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه
كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم اسمه أبو لؤلؤة وكان يشدد عليه في الخراج، فلقي يوما عمر في السوق فشكى إليه وقال: أعدني على المغيرة فإنه يثقل عليّ في الخراج درهمين في كل يوم، قال: وما صناعتك؟ قال نجّار حدّاد نقاش، فقال: ليس ذلك كثير على هذه الصنائع وقد بلغني انك تقول أصنع رحى تطحن بالريح فاصنع لي رحى. قال: أصنع لك رحى يتحدّث الناس بها أهل المشرق والمغرب، وانصرف، فقال عمر: توعدني العلج. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة واستوت الصفوف ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر برأسين نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداها تحت سرّته، وقتل كليبا بن أبي البكير الليثي، وسقط عمر فاستخلف عبد الرحمن بن عوف في الصلاة واحتمل الى بيته.
ثم دعا عبد الرحمن وقال: أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير عليّ بها قال: لا.
قال: والله لا أفعل. قال: فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن معهم، وقال انتظروا طلحة ثلاثا فإن جاء وإلّا فاقضوا أمركم، وناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس، وأوصاهم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم وبعفو [1] عن مسيئهم، وأوصى بالعرب فإنّهم مادّة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم في فقرائهم، وأوصى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، ثم قال: اللَّهمّ قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي
__________
[1] مقتضى سياق الجملة ان يقول «يعفى» .(2/568)
على أنقى من الراحلة. ثم دعي أبا طلحة الأنصاري فقال: قم على باب هؤلاء ولا تدع أحدا يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم. ثم قال: يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني؟ قال يا أمير المؤمنين: قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة. قال: الحمد للَّه الّذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد للَّه سجدة واحدة. ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فأذنت له. ثم قال: يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فان تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
ثم أذن للناس فدخل المهاجرون والأنصار فقال لهم: أهذا عن ملأ منكم؟ فقالوا:
معاذ الله. وجاء علي وابن عباس فقعدوا عند رأسه، وجاء الطبيب فسقاه نبيذا فخرج متغيّرا ثم لبنا فخرج كذلك، فقال له: أعهد. قال: قد فعلت. ولم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وصلّى عليه صهيب وذلك لعشر سنين وستة أشهر من خلافته.
وجاء أبو طلحة الأنصاري ومعه المقداد بن الأسود، وقد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان ويلزماهم أن يقدّموا للناس من يختاروه [1] منهم وإن اختلفوا كان الاتباع للاكثر وإن تساووا حكّموا عبد الله بن عمر أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف، ويؤجلوهم في ذلك ثلاثا يصلي فيهم بالناس صهيب ويحضر عبد الله بن عمر معهم مشيرا ليس له شيء من الأمر وطلحة شريكهم ان قدم في الثلاث ليال.
فجمعهم أبو طلحة والمقداد في بيت المسوّر بن مخرمة وقيل في بيت عائشة، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال:
تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى. ثم دار بينهما الكلام وتنافسوا في الأمر، فقال: عبد الرحمن أيّكم يخرج منها نفسه ويجتهد فيوليها أفضلكم وأنا أفعل ذلك؟
فرضي القوم وسكت علي. فقال: ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق ولا تتبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم ولا تألوا الأمّة نصحا وتعطينا العهد بذلك. قال: وتعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف وترضوا من اخترت وتواثقوا. ثم قال لعليّ: أنت أحق من حضر بقرابتك وسوابقك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد في نفسك فمن ترى أحق فيه بعدك من هؤلاء؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك فقال: عليّ.
__________
[1] الصواب يختارونه لانه لم يتقدم الفعل ما يحذف النون.(2/569)
ودار عبد الرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يوافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس ويشيرهم إلى صبيحة الرابع، فأتى منزل المسوّر بن مخرمة وخلا فيه بالزبير وسعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان [1] فاتفقا على عليّ، ثم قال له سعد بايع لنفسك وأرحنا فقال: قد خلعت لهم نفسي على أن أختار ولو لم أفعل ما أريدها [2] . ثم استدعى عبد الرحمن عليا وعثمان فناجى كلّا منهما إلى أن رضوا بل إلى أن صلّوا الصبح ولا يعلم أحد ما قالوا. ثم جمع المهاجرين وأهل السابقة من الأنصار وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم، فقال: أشيروا عليّ، فأشار عمّار بعلي ووافقه المقداد. فقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ووافقه عبد الله بن أبي ربيعة، فتفاوضا وتشاتما ونادى سعد: يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال: نظرت وشاورت فلا تجعلنّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلا. ثم قال لعليّ: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أن أجتهد بل أن أفعل بمبلغ علمي وطاقتي. وقال لعثمان مثل ذلك فقال: نعم. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللَّهمّ اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس. ثم قدم طلحة في ذلك اليوم فأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على الخيار في الأمر وإن أبيت رددتها. فقال: أكلّ الناس بايعوك؟ قال: نعم.
قال: رضيت، ولا أرغب عما أجمعوا عليه.
وكانت العجم بالمدينة يستروح بعضها الى بعض، ومرّ أبو لؤلؤة بالهرمزان وبيده الخنجر الّذي طعن به عمر فتناوله من يده وأطال النظر فيه ثم ردّه إليه، ومعهم جفينة نصرانيّ من أهل الحيرة. فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكر لعبيد الله بن عمر: اني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون فلما رأوني افترقوا وسقط منهم هذا الخنجر، فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم، وأمسكه سعد بن أبي وقاص وجاء به الى عثمان بعد البيعة وهو في المسجد فاشار عليّ بقتله، وقال عمرو بن العاص: لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم، فجعلها عثمان دية واحتملها وقال انا وليّه. ثم قال عثمان وصعد المنبر وبايعه الناس كافّة، وولّى لوقته سعد بن أبي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لعلي وعثمان.
[2] وفي نسخة ثانية: على ان اختار ولم افعل ما أردتها.(2/570)
وقاص على الكوفة وعزل المغيرة وذلك بوصيّة عمر لأنه أوصى بتولية سعد، وقال لم أعزله عن سوء ولا خيانة منه. وقيل إنما ولّاه وعزل المغيرة بعد سنة وأنه أقرّ لأول أمره عمّال عمر كلهم.
نقض أهل الاسكندرية وفتحها
لما سار هرقل إلى القسطنطينية وفارق الشام واستولى المسلمون على الإسكندرية وبقي الروم بها تحت أيديهم، فكاتبوا هرقل فاستنجدوه فبعث إليهم عسكرا مع منويل الخصيّ ونزلوا بساحل الاسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه، فساروا إلى مصر ولقيهم عمرو بن العاص والمسلمون فهزموهم واتبعوهم إلى الاسكندرية، وأثخنوا فيهم بالقتل وقتل قائدهم منويل الخصيّ، وكانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى فردّها عمرو عليهم بالبينة ثم هدم سور الاسكندرية ورجع الى مصر.
ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينية وأذربيجان
وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعدا عن الكوفة لأنه اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضا، وتقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد [1] فتلاحيا وتناجيا بالقبيح وافترقا يتلاومان، وتداخلت [2] بينهما العصبية، وبلغ الخبر عثمان فعزل سعدا واستدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة، وكان على غربها منذ ولّاه عمر، فولّاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد.
ثم عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا، فغزاهم الوليد وعلى مقدّمته عبد الله بن شبيل الأحمسيّ فأغار على أهل موقان والبرزند والطيلسان ففتح وغنم وسبى، وطلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم وقبض المال.
ثم بث سراياه وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي الى أهل أرمينية في اثني عشر ألفا فسار فيها وأثخن، ثم انصرف إلى الوليد وعاد الوليد إلى الكوفة وجعل طريقة على
__________
[1] وعند ابن الأثير في تاريخه الكامل ج 3 ص 82: «فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه» .
[2] وفي النسخة الباريسية: وقد دخلت.(2/571)
الموصل، فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام فابعث إليهم رجلا من أهل النجدة والبأس في عشرة آلاف عند قراءة المكتوب [1] ، فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف ومضوا إلى الشام ودخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة، فشنوا عليهم الغارات واستفتحوا الحصون، وقيل إنّ الّذي أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص، وذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فبعثه وحاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية، فجلى كثير الى بلاد الروم وأقام فيها فيمن معه أشهرا. ثم بلغه أن بطريق أرميناقس وهي بلاد مطلية وسيواس وقونية إلى خليج قسطنطينية قد زحف إليه في ثمانين ألفا، فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمدّه بسلمان في ستة آلاف، وبيّت الروم فهزمهم وعاد الى قاليقلا، ثم سار في البلاد فجاء بطريق خلاط وبيده أمان عيّاض بن غنم وحمل ما عليهم من المال فنزل حبيب خلاط، ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان [2] ثم صاحب أردستان [3] ثم صالح أهل ديبل بعد الحصار، ثم أهل بلاد السيرجان كلهم. ثم أتى أهل شمشاط فحاربوه فهزمهم وغلب على حصونهم، ثم صالحه بطريق خرزان [4] على بلاده وسار إلى تفليس فصالحوه وفتح عدّة حصون ومدن تجاورها. وسار ابن ربيعة الباهلي إلى أرّان فصالح أهل البيلقان على الجزية والخراج، ثم أهل بردعة كذلك وقراها.
وقاتل أكراد البوشنجان وظفر بهم وصالح بعضهم على الجزية، وفتح مدينة شمكور وهي التي سميت بعد ذلك المتوكليّة، وسار سلمان حتى فتح فلية وصالحه صاحب كسكر على الجزية وملك شروان وسائر ملوك الجبال الى مدينة الباب وانصرفوا. ثم غزا معاوية الروم وبلغ عمّورية ووجد ما بين انطاكية وطرسوس من الحصون خاليا فجمع فيها العساكر حتى رجع وخرّبها.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الكتاب.
[2] وفي النسخة الباريسية: السفرخان.
[3] وفي النسخة الباريسية: أزد شاط.
[4] وفي النسخة الباريسية: خزران.(2/572)
ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر وفتح افريقية
وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر واستعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة، فكتب إلى عثمان يشكو عمرا فاستقدمه واستقل عبد الله بالخراج والحرب وأمره بغزو افريقية. وقد كان عمرو بن العاص سنة إحدى وعشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهرا، وكانت مكشوفة السور [1] من جانب البحر وسفن الروم في مرساها فحسر القوم في بعض الأيام وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين فاقتحموا البلد بين البحر والبيوت فلم يكن للروم ملجأ إلّا سفنهم، وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد ولم تفلت الروم إلا بما خفّ في المراكب، ورجع إلى مدينة صبرة وكانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس فصبحهم المسلمون ودخلوها عنوة، وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية وكان أكثر أهل برقة لواتة. وكان يقال إنّ البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت الى المغرب وانتهوا إلى لوبية ومراقية كورتان من كور مصر، فصارت زنانة ومغيلة من البربر الى المغرب فسكنوا الجبال وسكنت لواتة برقة وتعرف قديما انطابلس، وانتشروا إلى السوس ونزلت هوّارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلوا من كان هنالك من الروم، وأقام الأفارق وهم خدم الروم وبقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم إلى أن كان صلح عمرو بن العاص.
ثم إنّ عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو افريقية سنة خمس وعشرين، وقال له: إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم. وأمر عقبة بن نافع بن عبد القيس على جند وعبد الله بن نافع بن الحرث على آخر وسرحهما، فخرجوا إلى افريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال يؤدّونه ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها. ثم إن عبد الله بن أبي سرح [2] استأذن عثمان في ذلك واستمدّه، فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به، فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية منكشفة السور.
[2] وفي نسخة اخرى: ثم لما ولي عبد الله بن أبي سرح(2/573)
والحسين وابن الزبير وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين، ولقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة، ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها، ثم ساروا إلى افريقية وبثّوا السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم جرجير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج، فلما بلغه الخبر جمع مائة وعشرين ألفا من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو الجزية فاستكبر. ولحقهم عبد الرحمن [1] بن الزبير مددا بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم، وسمع جرجير بوصول المدد ففتّ في عضده، وشهد ابن الزبير معهم القتال، وقد غاب ابن أبي سرح وسأل عنه فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار وأزوّجه ابنتي فخاف وتأخر عن شهود القتال، فقال له ابن الزبير: تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مائة ألف وزوّجته ابنته واستعملته على بلاده، فخاف جرجير أشدّ منه.
ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب، ويقاتلون الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فيركب عليهم بالآخرين على غرّة لعلّ الله ينصرنا عليهم، ووافق على ذلك أعيان الصحابة [2] ففعلوا ذلك وركبوا من الغد إلى الزوال وألحّوا عليهم حتى أتعبوهم ثم افترقوا، وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين فكبّروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل كثير منهم، وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سبيّة فنفلها ابن الزبير، وحاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار وسهم الرجل ألف. وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا وغنموا، وبعث عسكرا إلى حصن الأجم وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان، ثم صالحه أهل افريقية على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار. وأرسل ابن الزبير بالفتح والخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، وبعض الناس يقول أعطاه إياه ولا يصح، وإنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى. ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر بعد مقامه سنة وثلاثة أشهر.
ولمّا بلغ هرقل أن أهل افريقية صالحوه بذلك المال الّذي أعطوه غضب عليهم وبعث
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[2] وفي نسخة اخرى: أعيان أصحابه.(2/574)
بطريقا يأخذ منهم مثل ذلك، فنزل قرطاجنّة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا: قد كان ينبغي أن يساعدنا [1] مما نزل بنا. فقاتلهم البطريق وهزمهم وطرد الملك الّذي ولّوه بعد جرجير، فلحق بالشام وقد اجتمع الناس على معاوية بعد علي (رضي الله عنه) ، فاستجاشه على افريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكونيّ في عسكر، فلما وصل الاسكندرية وهلك الرومي ومضي ابن حديج في العساكر فنزل قونية، وسرّح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل وقاتلهم معاوية فهزمهم معاوية، وحاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه. ثم بثّ السرايا ودوّخ البلاد فأطاعوا، وعاد الى مصر. ولمّا أصاب ابن أبي سرح من افريقية ما أصاب ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا الى الإسكندرية في ستمائة مركب وركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام. فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعا، وباتوا على أمان والمسلمون يقرءون ويصلّون. ثم قرنوا سفنهم عند الصباح واقتتلوا ونزل الصبر واستحرّ القتل، ثم انهزم قسطنطين جريحا في فلّ قليل من الروم، وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياما ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري، وكانت هذه الغزاة سنة احدى وثلاثين وقيل أربع وثلاثين. وسار قسطنطين الى صقلّيّة وعرّفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام.
فتح قبرص
كان أبو عبيدة لما احتضر [2] استخلف على عمله عيّاض بن غنم وكان ابن عمه وخاله وقيل استخلف معاذ بن جبل، واستخلف عيّاض بعده سعيد بن حذيم الجمحيّ، ومات سعيد فولى عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه على دمشق أخاه معاوية، فاجتمعت له دمشق والأردن، ومات عمر وهو كذلك وعمير على حمص وقنسرين، ثم استعفى عمير عثمان في مرضه فأعفاه وضمّ حمص وقنسرين الى معاوية، ومات عبد الرحمن بن أبي علقمة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يسامحنا
[2] وفي النسخة الباريسية: استحضر.(2/575)
وكان على فلسطين فضم عثمان عمله الى معاوية فاجتمع الشام كله لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان يلحّ على عمر في غزو البحر وكان وهو بحمص كتب إليه في شأن قبرص أنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح دجاجهم، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه! فكتب إليه: «هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء إن ركد فلق [1] القلوب وإن تحرك أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قلّة والشك كثرة وراكبه دود على عود إن مال غرق وإن نجا برق» . فكتب عمر إلى معاوية والّذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، وقد بلغني أنّ بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر، وباللَّه لمسلم واحد أحب إليّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي في ذلك فقد علمت ما لقي العلاء مني.
ثم كاتب ملك الروم عمرو قاربه وأقصر عن الغزو، ثم ألحّ معاوية على عثمان بعده في غزو البحر فأجابه على خيار الناس وطوعهم، فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم، أبو ذرّ وأبو الدرداء وشدّاد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أمّ حرام بنت ملحان، واستعمل عليهم عبد الله بن قيس حليف بني فزارة، وساروا إلى قبرص وجاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار لكل سنة، ويؤدّون مثلها للروم، ولا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم وعلى أن يكونوا عينا للمسلمين على عدوّهم، ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم.
وكانت هذه الغزاة سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين وقيل ثلاث وثلاثين، وماتت فيها أم حرام سقطت عن دابتها حين خرجت من البحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك. وأقام عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا خمسين غزاة لم ينكب فيها أحد، إلى أن نزل في بعض أيام في ساحل المرقي من أرض الروم فثاروا إليه فقتلوه، ونجا الملّاح وكان استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن فجاء إلى أهل المرقي وقاتلهم حتى قتل وقتل معه جماعة.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: خرق(2/576)
ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان
وفي السنة الثالثة من خلافة عثمان خرج أبو موسى من البصرة غازيا إلى أهل آمد والأكراد لما كفروا حمل ثقله على أربعين بغلا من القصر [1] بعد ان كان حض على الجهاد مشيا، فألّب الناس عليه ومضوا إلى عثمان فاستعفوه منه وتولّى كبر ذلك غيلان بن خرشة [2] فعزله عثمان وولّى عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان، وكان ابن خمس وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص من عمان والبحرين، فصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان وبعثه الى فارس، وولّى على خراسان مكانه عمير بن عثمان بن سعد فاثخن فيها حتى بلغ فرغانة ولم يدع كورة إلا أصلحها. ثم ولّى عليها سنة أربع أمير [3] بن أحمر اليشكري، وعلى كرمان عبد الرحمن بن عبيس، واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي، وعلى كرمان عاصم بن عمرو فجاشت فارس وانتقضت بعبيد الله بن عمرو وجمعوا له [4] فلقيهم بباب إصطخر فقتل عبيد الله وانهزم جنده.
وبلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس، وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص وفي المجنبتين أبو برزة [5] الأسلمي ومعقل بن يسار وعلى الخيل عمران بن حصين، ولقيهم بإصطخر فقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزموا وفتح إصطخر عنوة، وبعدها دارابجرد. وسار الى مدينة جور وهي أردشير، وكان هرم بن حيّان محاصرا لها فلما جاء ابن عامر فتحها. ثم عاد إلى إصطخر وقد نقضت فحاصرها طويلا ورماها بالمجانيق واقتحمها عنوة ففني فيها أكثر أهل البيوتات والأساورة لأنهم كانوا لجئوا إليها، ووطئ أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل. وكتب الى عثمان بالفتح فكتب إليه أن يستعمل على كور فارس هرم بن حيّان اليشكري وهرم بن حيان العبسيّ والخرّيت بن راشد وأخاه المنجاب من بني سلمة والبرجمان الهجيمي [6] ، وان يفرق كور خراسان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الضهر.
[2] وفي نسخة ثانية: جرشة.
[3] أمير بوزن زبير وكذا كريز وعبيس كما في الكامل أهـ.
[4] وفي النسخة الباريسية: وحملوا له
[5] وفي النسخة الباريسية: ابو بردة
[6] وفي النسخة الباريسية: المحجمي(2/577)
بين ستة نفر: الأحنف بن قيس على المرو، وحبيب بن قرة [1] اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر اليشكري على طوس، وقيس بن هبيرة السلميّ على نيسابور، ثم جمع عثمان خراسان كلها لقيس، واستعمل أمير بن أحمد اليشكري على سجستان، ثم بعده عبد الرحمن [2] بن سمرة من قرابة ابن عامر بن كريز، فلم يزل عليها حتى مات عثمان وعمران على كرمان وعمير بن عثمان ابن مسعود على فارس وابن كريز القشيري على مكران، وخرج على قيس بن هبيرة بعد موت عثمان ابن عمه عبد الله بن حازم كما نذكره.
ولما افتتح ابن عامر فارس أشار عليه الناس بقصد خراسان وكانوا قد انتقضوا فسار إليها وقيل عاد إلى البصرة، واستخلف على فارس شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها. فلما دخل البصرة أشار عليه الأحنف بن قيس وحبيب بن أوس بالمسير إلى خراسان فتجهز واستخلف على البصرة زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان وقد نكثوا فبعث لحربهم مجاشع بن مسعود السلميّ ولحرب سجستان الربعي بن زياد الحارثي، وسار هو الى نيسابور وتقدّمه الأحنف بن قيس الى الطبسين حصنان هما بابا خراسان فصالحه أهلها، وسار الى قوهستان [3] فقاتل أهلها حتى أحجرهم في حصنهم ولحقه ابن عامر فصالحوه على ستمائة ألف درهم، وقيل كان المتولّي حرب قوهستان أمير بن أحمر اليشكري.
ثم بعث ابن عامر السرايا إلى أعمال نيسابور ففتح رستاق رام عنوة وباخرز وجيرفت عنوة، وبعث الأسود بن كلثوم من عدي الرباب وكان ناسكا الى بيهق [4] من أعمالها فدخل البلد من ثلمة كانت في سورها وقاتل حتى قتل وظفر أخوه أدهم بالبلد. وفتح ابن عامر بشت بالشّين المعجمة من أعمال نيسابور ثم أسفراين [5] ثم قصد نيسابور، وبعد ما استولى على أعمالها فحاصرها أشهرا [6] وكان بها أربع مرازبة من فارس فسأل واحد منهم الأمان على أن يدخلهم ليلا، وفتح لهم الباب وتحصّن الأكبر منهم في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: قروة وفي نسخة أخرى قرط.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[3] وفي النسخة الباريسية: مهزستان.
[4] وفي النسخة الباريسية: بهق.
[5] وفي النسخة الباريسية: استيغيراس
[6] وفي نسخة اخرى: شهرا(2/578)
حصنها حتى صالح على ألف ألف درهم. وولّى ابن عامر على نيسابور قيس بن الهيثم السلمي. وبعث جيشا إلى نسا وأبيورد فصالحهم أهلها، وآخر إلى سرخس فصالحوا مرزبانها على أمان مائة رجل لم يدخل فيها نفسه فقتله وافتتحها [1] عنوة وجاء، مرزبان طوس فصالحه على ستمائة ألف درهم، وبعث جيشا إلى هراة مع عبد الله بن حازم فصالح مرزبانها على ألف ألف درهم. ثم بعث مرزبان مرو فصالح على ألف ألف ومائتي ألف وأرسل إليه ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، ثم بعث الأحنف بن قيس إلى طخارستان فصالح في طريقة رستاقا على ثلاثمائة ألف وعلى أن يدخل رجل يؤذن فيه ويقيم حتى ينصرف ومرّ الى مروالروذ، وزحف إليه أهلها فهزمهم وحاصرهم وكان مرزبانها من أقارب باذام [2] صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف متوسلا بذلك في الصلح فصالحه على ستمائة ألف. ثم اجتمع أهل الجوزجان والطالقان والفارياب في جمع عظيم ولقيهم الأحنف فقاتلهم قتالا شديدا ثم انهزموا فقتلوا قتلا ذريعا.
ورجع الأحنف إلى مروالروذ، وبعث الأقرع بن حابس الى فلهم بالجوزجان فهزمهم وفتحها عنوة، ثم فتح الأحنف الطالقان صلحا والفاريات وقيل فتحها أمير بن أحمد، ثم سار الأحنف إلى بلخ وهي مدينة طخارستان فصالحوه على أربعمائة ألف وقيل سبعمائة واستعمل عليها أسيد بن المنشمر، ثم سار إلى خوارزم على نهر جيحون فامتنعت عليه فرجع إلى بلخ. وقد استوفى أسيد قبض المال وكتبوا إلى ابن عامر. ولما سار مجاشع بن مسعود إلى كرمان كما ذكرناه وكانوا قد انتقضوا ففتح هميد [3] عنوة وبنى بها قصرا ينسب إليه، ثم سار إلى السيرجان وهي مدينة كرمان فحاصرها وفتحها عنوة وجلى كثيرا من أهلها. ثم فتح جيرفت عنوة ودوخ نواحي كرمان وأتى القفص وقد تجمع له من العجم من أهل الجلاء، وقاتلهم فظفر وركب كثير منهم البحر إلى كرمان وسجستان، ثم أنزل العرب في منازلهم وأراضيهم.
وسار الربيع بن زياد الحارثي بولاية ابن عامر كما قدّمناه [4] إلى سجستان فقطع المفازة
__________
[1] وفي نسخة اخرى: اقتحمها
[2] وفي نسخة اخرى: باذان
[3] وفي النسخة الباريسية: حمير.
[4] وفي النسخة الباريسية: كما قلناه.(2/579)
من كرمان حتى أتى حصن زالق فأغار عليهم يوم المهرجان وأسر دهقانهم، فافتدى بما غمر عنزة قاعة [1] من الذهب والفضة، وصالحوه على صلح فارس. وسار إلى زرنج [2] ولقيه المشركون دونها فهزمهم وقتلهم وفتح حصونا عدة بينها وبينه، ثم انتهى إليها وقاتله أهلها فأحجرهم وحاصرهم، وبعث مرزبانها في الأمان ليحضر فأمنه وجلس له على شلو من أشلاء القتلى وارتفق بآخر وفعل أصحابه مثله، فرعب المرزبان من ذلك وصالح على ألف جام من الذهب يحملها ألف وصيف، ودخل المسلمون المدينة، ثم سار منها إلى وادي سنارود فعبره إلى القرية التي كان رستم الشديد يربط بها فرسه، فقاتلهم وظفر بهم، وعاد إلى زرنج وأقام بها سنة ثم سار بها إلى ابن عامر واستخلف عليها عاملا فأخرجوه وامتنعوا. فكانت ولاية الربيع سنة ونصف سنة سبى فيها أربعين ألف رأس وكان الحسن البصري يكتب له.
ثم استعمل ابن عامر على سجستان عبد الرحمن بن سمرة فسار إليها وحاصر زرنج حتى صالحوه على ألفي ألف درهم وألفي وصيف، وغلب على ما بينها وبين الكش من ناحية الهند وعلى ما بينها وبين الدادين [3] من ناحية الرخج، ولما انتهى إلى بلد الدادين حاصرهم في جبل الزور حتى صالحوه ودخل على الزور [4] وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان، فأخذهما وقطع يده، وقال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر وإنما قصدت أنه لا يضرّ ولا ينفع. ثم فتح كابل وزابلستان وهي بلاد غزنة فتحها صلحا.
ثم عاد إلى زرنج إلى أن اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر وانصرف فأخرجه أهلها وانتقضوا. ولما كان الفتح لابن عامر في فارس وخراسان وكرمان وسجستان قال له الناس: لم يفتح لأحد ما فتح عليك فقال: لا جرم لأجعلن شكري للَّه على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان استخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيس في أرض طخارستان ودوخها وامتنع عليه سنجار فافتتحها عنوة.
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 128: فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهبا وفضة.
[2] وفي نسخة أخرى: زريخ وفي الكامل زرنج.
[3] وفي النسخة الباريسية: الدوان وفي الكامل ج 3، ص 129 الدوان.
[4] وفي النسخة الباريسية: جبل الرور وفي الكامل ج 3 ص 129: جبل الزور.(2/580)
ولاية سعيد بن العاص الكوفة
كان عثمان لأول ولايته قد ولّى على الكوفة الوليد بن عقبة استقدمه إليها من عمله بالجزيرة وعلى بني تغلب وغيرهم من العرب، فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين وكان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد أسداها إليه وكان نصرانيا فأسلم على يده وكان يغشاه بالمدينة والكوفة، وكان أبو زبيد يشرب الخمر فكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد للملازمته إياه. ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلا في بيته وشهد عليهم أبو شريح الخزاعي فقتلهم الوليد فيه بالقسامة، وأقام آباؤهم للوليد على حقه وكانوا ممن يتحدثون فيه، وجاءوا إلى ابن مسعود بمثل ذلك فقال: لا نتبع عورة من استتر عنا. وتغيظ الوليد من هذه المقالة وعاتب ابن مسعود عليها، ثم عمد أحد أولئك الرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتي ابن مسعود فيه وأفتى بقتله، وحبسه الوليد ثم أطلقه، فغضبوا وخرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد وانه يشرب الخمر. فاستقدمه عثمان وأحضره وقال: رأيتموه يشرب؟ قالوا لا وإنما رأيناه يقيء الخمر فأمر سعيد بن العاص فجلده وكان عليّ حاضرا فقال: انزعوا خميصته للجلد. وقيل إن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى فجلده عبد الله بن جعفر، ولما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة [1] .
ولما وقعت هذه الواقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة وولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، مات سعيد الأول كافرا وكان يكنى أحيحة، وخالد ابنه عم سعيد الثاني ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعاء وكان يكتب واستشهد يوم مرج الصفر، وربي سعيد الثاني في حجر عثمان فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان وزوجه وأقام عنده حتى كان من رجال قريش. فلما استعمله عثمان وذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة ومعه الأشتر وأبو خشة [2] الغفاريّ وجندب بن عبد الله والصعب بن جثامة، وكانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه، فلما وصل
__________
[1] المعنى مشوش هنا وربما يعود هذا الى سقوط بعض الكلمات أثناء النسخ ولم تذكر هذه القصة بالتفصيل كما هي في الكامل وفي الطبري والمسعودي.
[2] وفي نسخة ثانية: ابو حنيفة.(2/581)
خطب الناس وحذرهم وتعرف الأحوال، وكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب الروادف والتابعة على أهل الشرف والسابقة، فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة ويجعل من جاء بعدهم تبعا يعرف لكل منزلته ويعطيه حقه. فجمع الناس وقرأ عليهم كتاب عثمان وقال: أبلغوني حاجة ذي الحاجة.
وجعل القراء في سمره فلم ترض أهل الكوفة ذلك وفشت المقالة، وكتب سعيد إلى عثمان فجمع الناس واستشارهم فقالوا: أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد. فقال: يا أهل المدينة إني أرى الفتن دبت إليكم وإني أرى أن أتخلص الّذي لكم وأنقله إليكم من العراق. فقالوا: وكيف ذلك؟ قال: تبيعونه ممن شئتم بما لكم في الحجاز واليمن. ففعلوا ذلك واستخلصوا ما كان لهم بالعراق، منهم طلحة ومروان والأشعث بن قيس، ورجال من القبائل اشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر ومكة والطائف.
غزو طبرستان
وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان ولم يغزها أحد قبله، وقد تقدّم أن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال، فغزاها سعيد في هذه السنة ومعه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وحذيفة بن اليمان في غيرهم، ووافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان فنزل نيسابور، ونزل سعيد قومس وهي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند. فأتى سعيد جرجان فصالحوه علي مائتي ألف، ثم أتى متاخمة جرجان على البحر فقاتله أهلها، ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، وفتحوا فقتلهم أجمعين إلا رجلا وقتل معه محمد بن الحكم بن أبي عقيل جدّ يوسف بن عمرو، وكان أهل جرجان يعطون الخراج تارة مائة ألف وأخرى مائتين وثلاثمائة وربما منعوه. ثم امتنعوا وكفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد، وصار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح المرزبان وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.(2/582)
غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف
وفي سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة وأقام له سعيد العاص بأذربيجان ردءا حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مرّ، فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن وأن أهل حمص يقولون قراءتنا خير من قراءة غيرنا وأخذناها عن المقداد، وأهل دمشق يقولون كذلك، وأهل البصرة عن أبي موسى، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأنكر ذلك واستعظمه وحذر من الاختلاف في القرآن، ووافقه من حضر من الصحابة والتابعين، وأنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم وخطأهم، فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعيد وافترق المجلس، وسار حذيفة إلى عثمان فأخبره وقال: أنا النذير العريان فأدرك الأمة. فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ابعثي إلينا بالصحف ننسخها وكانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر، فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: أرى أن تأمر بجمع القرآن لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء، فأبى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله. ثم استبصر ورجع إلى رأي عمرو أمر زيد بن ثابت بجمعه من الرقاع والعسب [1] وصدور الرجال، وكتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة. وأرسل عثمان فأخذها، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا. ونسخوا المصاحف فبعث الى كل أفق بمصحف يعتمد عليه، وحرق ما سوى ذلك الصحابة في سائر الأمصار، ونكره عبد الله بن مسعود في الكوفة حتى نحاهم عن ذلك وحملهم عليه.
مقتل يزدجرد
لما خرج ابن عامر من البصرة إلى فارس فافتتحها هرب يزدجرد من جور وهي أردشيرخره [2] في سنة ثلاثين، وبعث ابن عامر في إثره مجاشع بن مسعود وقيل هرم بن
__________
[1] العسب هو النسل كما في القاموس ولعل ابن خلدون كان يعني العسيب وهي جريدة النخل المستقيمة الدقيقة المكشوط خوصها.
[2] وفي النسخة الباريسية: وهو ازدشير خرج سنة ثلاثين.(2/583)
حيان اليشكري وقيل العبسيّ [1] ، فاتبعه إلى كرمان فهرب إلى خراسان وهلك الجند في طريقهم بالثلج، فلم يسلم إلا مجاشع ورجع معه وكان مهلكهم على خمسة فراسخ من السيرجان، ولحق يزدجرد بمرو ومعه خرّزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ما هو به مرزبان مرو فسأله في المال فمنعه وخافه على نفسه وعلى مرو، واستجاش بالترك فبيتوه وقتل أصحابه وهرب يزدجرد ماشيا إلى شط المرغاب وآوى إلى بيت رجل ينقر الرحاء، فلما نام قتله ورماه في النهر. وقيل إنما بيته أهل مرو ولما جاءوا إلى بيت الرجل أخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله، واستخرجوا يزدجرد من النهر وحملوه في تابوت إلى إصطخر فدفن في ناوس هنالك.
وقيل إن يزدجرد هرب من وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان واستأذن عليه بعض رؤسائها وحجب فضرب البواب وشجّه، فرحل عن أصبهان إلى الري، وجاء صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده فلم يجبه ومضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثم إلى مرو في ألف فارس، وقيل بل أقام بفارس أربع سنين ثم بكرمان سنتين وطلبه دهقانها [2] في شيء فمنعه فطرده عن بلاده، وأقام بسجستان خمس سنين، ثم نزل خراسان ونزل مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين وفرّخزاد وكاتب ملوك الصين وفرغانة والخزر وكابل، وكان دهقان مرو قد منعه الدخول خوفا من مكروه ووكل ابنه بحفظ الأبواب، فعمد يزدجرد يوما إلى مرو ليدخلها فمنعه ابن الدهقان وأظهر عصيان أبيه في ذلك، وقيل بل أراد يزدجرد أن يجعل ابن أخيه دهقانا عليها فعمل في هلاكه، وكتب إلى نيزك طرخان يستقدمه لقتل يزدجرد ومصالحه العرب عليه وأن يعطيه كل يوم ألف درهم، فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه فيلقاه منفردا عن العسكر وعن فرخزاد، فأجابه إلى ذلك بعد أن امتنع فرخزاد واتهمه يزدجرد في امتناعه فتركه لشأنه بعد أن أخذ خطه برضاه بذلك. وسار إلى نيزك فاستقبله بأشياء وجاء به إلى عسكره ثم سأله أن يزوجه ابنته فأنف يزدجرد من ذلك وسبعة فعلا رأسه بالمقرعة فركض منهزما وقتل أصحابه، وانتهى إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثا لم يطعم، ثم عرض عليه الطعام فقال لا أطعم إلا بالزمزمة، فسأل من زمزم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العنسيّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: قهرمانها.(2/584)
له حتى أكل ووشى المزمزم بأمره إلى بعض الأساورة [1] فبعث إلى الطحان بخنقه وإلقائه في النهر، فأبى من ذلك وجحده، فدل عليه ملبسه وعرف المسك فيه فأخذوا ما عليه وخنقوه وألقوه في الماء فجعله أسقف مرو في تابوت ودفنه.
وقيل بل سار يزدجرد من كرمان قبل وصول العرب إليها إلى مرو وفي أربعة آلاف على الطبسين وقهستان، ولقيه قبل مرو قائدان من الفرس متعاديين فسعى أحدهما في الآخر، ووافقه يزدجرد في قتله، ونمى الخبر إليه فبيت يزدجرد وعدوه، فهرب إلى رحى على فرسخين من مرو، وطلب منه الطحّان شيئا فأعطاه منطقته فقال: إنما أحتاج أربعة دراهم، فقال: ليست معي. ثم قام فقتله الطحان وألقى شلوه في الماء. وبلغ خبر قتله الى المطران بمرو فجمع النصارى ووعظهم عليه من حقوق سلفه فدفنوه وبنوا له ناووسا وأقاموا له مأتما، بعد عشرين سنة من ملكه ستة عشر منها في محاربة العرب.
وانقرض ملك الساسانية بموته. ويقال إن قتيبة حين فتح الصغد وجد جاريتين من ولد المخدج ابنه كان قد وطئ أمّه بمرو فولدت هذا الغلام بعد موته ذاهب الشق فسمى المخدج [2] ، وولد له أولاد بخراسان ووجد قتيبة هاتين الجاريتين من ولده فبعث بهما إلى الحجاج، وبعث بهما إلى الوليد أو بإحداهما فولدت له يزيد الناقص.
ظهور الترك بالثغور
كان الترك والخزر يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لما رأوا من شدّتهم وظهورهم في غزواتهم حتى أكمنوا لهم في بعض الغياض فقتلوا بعضهم فتجاسروا على حربهم.
وكان عبد الرحمن بن ربيعة على ثغور أرمينية إلى الباب، واستخلف عليها سراقة بن عمرو وأقرّه عمر وكان كثير الغزو في بلاد الخزر، وكثيرا ما كان يغزو بلنجر وكان عثمان قد نهاه عن ذلك فلم يرجع، فغزاهم سنة اثنتين وثلاثين وجاء الترك لمظاهرتهم وتذامروا فاشتدت الحرب بينهم وقتل عبد الرحمن كما مرّ، وافترقوا فرقتين فرقة سارت نحو الباب لقوا سلمان بن ربيعة قد بعثه سعيد بن العاص من الكوفة مددا للمسلمين بأمر عثمان فساروا معه، وفرقة سلكوا على جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسيّ وأبو
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الى بعض المرازبة.
[2] وفي النسخة الباريسية: ولد المجدّع والمخدج: ناقص الخلق.(2/585)
هريرة. ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه، وبعث معه جندا من أهل الكوفة عليهم حذيفة بن اليمان وأمدّهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام وسلمان أمير على الجميع، ونازعه حبيب الامارة فوقع الخلاف، ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات آخرها عند مقتل عثمان.
وخرجت جموع الترك سنة اثنتين وثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهى إلى الطبسين، واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلميّ استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرما فدوّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد الله بن حازم فقال لابن عامر:
اكتب لي على خراسان عهدا إذا خرج منها قيس ففعل، فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم: ما ترى، قال: أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها. فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر، وقيل أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمدّه، فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف. ولما التقى الناس أمر جيشه بايقاد النار في أطراف رحالهم فهاج العدوّ على دهش، وغشيهم ابن حازم بالناس متتابعين، فانهزموا وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والسبي. وكتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقرّه على خراسان فلم يزل واليا عليها إلى حرب الجمل، فأقبل إلى البصرة وبقي أهل البصرة بعد غزوة ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها وعادوا جهزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هناك.
بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه
لما استكمل الفتح واستكمل للملّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهداه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلّا قليلا منهم وكان لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من(2/586)
الذهول والدهش لأمر النبوة وتردّد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء وذلّ العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنفض ووجدوا الرئاسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء [1] عليهم في الطاعات والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من أتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة، فارتابوا لها وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه. وبعث الى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عمّارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبإ ويعرف بابن السوداء، كان يهوديا وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام وأخرجوه فلحق بمصر، وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السرّ لأهل البيت ويقول: إن محمدا يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة، وإنّ عليّا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يجز وصيته وإنّ عثمان أخذ الأمر بغير حق، ويحرّض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء.
فاستمال الناس بذلك في الأمصار وكاتب به بعضهم بعضا، وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر فثبطوا عمارا عن المسير الى المدينة.
وكان مما أنكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الرَّبَذَة، وكان الّذي دعا إلى ذلك شدّة الورع من أبي ذر وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا وانه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه، ويأخذ بالظاهر في ذم الادّخار بكنز الذهب والفضة. وكان ابن سبإ يأتيه فيغريه بمعاوية ويعيب [2] قوله المال مال الله، ويوهم أنّ في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين، حتى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: والاشتضاط
[2] وفي النسخة الباريسية: ونقيم.(2/587)
عتب أبو ذر معاوية فاستعتب له وقال سأقول مال المسلمين [1] ، وأتى ابن سبإ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه، وجاء به عبادة الى معاوية وقال هذا الّذي بعث [2] عليك أبا ذرّ. ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره، فقال: يا أبا ذرّ لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما عليّ أن أقضي [3] بينهم بحكم الله وأرغبهم في الاقتصاد، فقال أبو ذرّ: لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والاخوان ويصلوا القرابة، فقال له كعب الأحبار: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذرّ فشجّه وقال: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا. فاستوهب عثمان من كعب شجّته فوهبه. ثم استأذن أبو ذرّ عثمان في الخروج من المدينة وقال:
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا، فأذن له، ونزل الرَّبَذَة وبنى بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة فعدّ أولئك الرهط خروج أبي ذرّ فيما ينقمونه على عثمان مع ما كان من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه.
ومما عدوّا عليه أيضا زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة، وإتمامه الصلاة في منى وعرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده كان على القصر. ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له: بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلا ولي بالطائف مال. فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال: زوجتك بمكّة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر. وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده وقد كان الإسلام ضرب بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فمن الصحابة من تبعه على ذلك ومنهم من خالفه. ومما عدّوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ما للمسلمين.
[2] وفي النسخة الباريسية: الّذي خيّر.
[3] وفي النسخة الباريسية: ان اقصد(2/588)
وأما الحوادث التي وقعت في الأمصار فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدّم ذكرها وأنه عزله على شرب الخمر واستبدله بسعيد بن العاص منه، وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع وثابت بن قيس الهمدانيّ وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعيّ وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكوّاء وكميل بن زياد وعمير بن ضابيء وطليحة بن خويلد، وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم وربما ينتهون إلى الملاحاة ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة، ويعذلهم في ذلك حجّاب سعيد بن العاص فينهرونهم [1] ويضربونهم. وقد قيل إن سعيدا قال يوما: إنما هذا السواد بستان قريش، فقال له الأشتر: السواد الّذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك؟ وخاص القوم في ذلك، فأغلظ لهم عبد الرحمن الأسدي [2] ، صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى غشي عليه، فمنع سعيد بعدها السمر عنده.
فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيدا وعثمان، والسفهاء يغشونهم.
فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية إن نفرا خلقوا للفتنة فقم عليهم وانههم وإن آنست منهم رشدا فاقبل وان أعيوك فارددهم علي، فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق، وأقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوما: «أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا ولو لم تكن قريش كنتم أذلة إذا أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم وان أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهنّ أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم [3] فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم» . فقال له صعصعة منهم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة فانّ الجنّة إذا
__________
[1] وفي نسخة اخرى: فيهزمونهم.
[2] وفي نسخة اخرى: الازدي
[3] وفي النسخة الباريسية: ثم يكونون شركاءكم(2/589)
اخترمت [1] خلص إلينا. فقال معاوية: الآن عرفتكم وعلمت أنّ الّذي أغراكم على هذا قلّة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام، وتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظّموا أمركم فقهوا عني ولا أظنكم تفقهون، ثم ذكر شأن قريش وأن عزّها إنما كان باللَّه في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة ولا شدّة، وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوّأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم، ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ الله ارتضى له أصحابا كان خيارهم قريشا فبنى الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلّا بهم، ثم قرّعهم ووبّخهم وهددهم، ثم أحضرهم بعد أيام، وقال: اذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضرّه، وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنّكم النعمة وسأكتب الى أمير المؤمنين فيكم. وكتب إلى عثمان: «أنه قدم عليّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل إنّما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحد [2] إلّا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن عنده عنهم [3] .
فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة ومروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم، وقال: «يا ألة الشيطان [4] لا مرحبا بكم ولا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في نشاط خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم» . ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوا وما قالوا لسعيد ومعاوية، فهابوا [5] سطوته وطفقوا يقولون: نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله، حتى قال: تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان تائبا فقال له عثمان: أحلّك حيث تشاء، فقال:
مع عبد الرحمن بن خالد قال: ذاك إليك فرجع إليهم. وقيل إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة ودار بينهم وبينه القول وأغلظوا له وأغلظ عليهم، وكتب إلى عثمان فأمر أن يردّهم الى سعيد، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم وضجّ سعيد منهم، وكتب إلى
__________
[1] وفي نسخة اخرى: إذا اخترقت
[2] وفي نسخة اخرى: يأتون الأمر
[3] وفي الطبري ج 5 ص 87: «ليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير.
[4] الألّة: بتشديد اللام الحربة أهـ.
[5] وفي النسخة الباريسية: فرهبوا(2/590)
عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم وبينه ما قدّمناه.
وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبإ المعروف بابن السوداء، هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبديّ وكان يتشيع لأهل البيت، ففشت مقالته بالطعن وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه وأتى الكوفة فأخرج أيضا واستقّر بمصر، وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء. وكان حمران [1] بن أبان أيضا يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدّة وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهدا متقشّفا فأغرى به حمران صاحب ابن عامر فلم يقبل سعايته، ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبيّنت براءته وعرف فضله وحقه وقال: ارجع إلى صاحبك فقال: لا أرجع إلى بلد استحلّ أهله مني ما استحلوا وأقام بالشام كثير العبادة والانفراد بالسواحل إلى أن هلك.
ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين، وكان قبلها قد ولّى على الأعمال أمراء من قبله، فولّى الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري والنسير العجليّ على همذان والسائب بن الأقرع على أصبهان ومالك بن حبيب على ماه وحكيم بن سلامة على الموصل وجرير بن عبد الله على قرقيسيا وسلمان بن ربيعة على الباب وجعل على حلوان عتيبة [2] بن النهّاس وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافدا على عثمان، واستخلف عمرو بن حريث وخلت الكوفة من الرؤساء وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان، فبادره القعقاع بن عمرو فقال له: إنما نستعفي من سعيد. وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم، فساروا إليه وسبقهم الأشتر ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول جئتكم من عند عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عمران
[2] وفي النسخة الباريسية: عيينة.(2/591)
نسائكم على مائة درهم وردّ أولى [1] البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. ثم استخف الناس ونادى يزيد في الناس من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون.
وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث ونزل يزيد وأصحابه الجزعة [2] قريبا من القادسية لاعتراض سعيد وردّه، فلما وصل قالوا: ارجع فلا حاجة لنا بك قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحدا إليّ وإلى عثمان رجلا. وقال مولى له: ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع، فقتله الأشتر ورجع سعيدا الى عثمان فأخبره بخبر القوم وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري، فولّاه الكوفة وكتب إليهم: «أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنّكم صبري ولاستصلحنكم بجهدي» . وخطب أبو موسى الناس، وأمرهم بلزوم الجماعة، وطاعة عثمان، فرضوا ورجع الأمراء من قرب الكوفة واستمرّ أبو موسى على عمله.
وقيل إنّ أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه، فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنبر [3] فأتاه وقال له: إن ناسا اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أمورا عظاما، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: ألا تسمعون إلى هذا الّذي يزعم الناس أنه قارئ ثم يجيء يكلمني في المحقرات؟ وو الله لا يدري أين الله. فقال له عامر:
بل والله إني لأدري إنّ الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص، وكانوا بطانته دون الناس فجمعهم وشاورهم، وقال: إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر:
أرى أن تشغلهم بالجهاد، وقال سعيد: متى تهلك قادتهم يتفرّقوا، وقال معاوية:
اجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام، وقال عبد الله: استصلحهم بالمال.
فردّهم عثمان إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل، ورد سعيد إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه وولّى أبا موسى وأمر عثمان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: على نقض أعطيتكم للنساء وذر النساء
[2] وفي النسخة الباريسية: المخزعة وفي نسخة اخرى: الجرعة
[3] وفي نسخة أخرى: بني العنيس.(2/592)
حذيفة بغزو الباب فسار نحوه.
ولما كثر هذا الطعن في الأمصار وتواتر بالمدينة وكثر الكلام في عثمان والطعن عليه، وكان له منهم شيعة يذبّون عنه مثل زيد بن ثابت وأبي أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فلم يغنوا عنه، واجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب وكلموه وعددوا عليه ما نقموه، فدخل على عثمان وذكر له شأن الناس وما نقموا عليه وذكره بأفعال عمر وشدّته ولينه هو لعمّاله وعرض عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة، فقال له: إنّ المغيرة بن شعبة ولّيناه وعمر ولّاه، ومعاوية كذلك، وابن عامر تعرفون رحمه وقرابته. فقال له عليّ إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّاه وأنت ترفق بهم وكانوا أخوف لعمر من غلامه يرفأ [1] ومعاوية يستبدّ عليك، ويقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه. ثم تكالما طويلا وافترقا وخرج عثمان على أثر ذلك، وخطب وعرض بما هو فيه من الناس وطعنهم وما يريدون منه، وأنهم تجرءوا عليه لرفقه بما لم يتجرؤا بمثله على ابن الخطّاب، ووافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم.
حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأتابه ورفع درجته
ولما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان وعمّاله، وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك وتوالت الأخبار بذلك على أهل المدينة، جاءوا إلى عثمان وأخبروه فلم يجدوا عنده علما منه. وقال: أشيروا عليّ وأنتم شهود المؤمنين. قالوا: تبعث من تثق به إلى الأمصار يأتوك [2] بالخبر. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام وغيرهم إلى سواها فرجعوا، وقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره علماء المسلمين ولا عوامهم، وتأخر عمّار بن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر، وكتب عثمان إلى أهل الأمصار: إن قد رفع إليّ أهل المدينة أن عمّالي وقع منهم أضرار بالناس، وقد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم فمن كان له حق فليحضر يأخذ بحقه مني أو من عمّالي، أو تصدّقوا فإنّ الله يجزي المتصدّقين. فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل ج 3 ص 152: فقال عليّ: أنشدك الله! هل تعلم ان معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ، غلام عمر، له؟ قال: نعم.
[2] الأصح ان يقول يأتونك.(2/593)
ودعوا له، وبعث إلى عمّال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر وابن أبي سرح ومعاوية وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمرا وقال: ويحكم ما هذه الشكاية والاذاعة واني لأخشى والله أن يكونوا صادقين! فقالوا له: ألم يخبرك رسلك بأنّ أحدا لم يشافههم بشيء؟ وإنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها واختلفوا في وجه الرأي في ذلك. فقال عثمان: إن الأمر كائن وبابه سيفتح ولا أحب أن تكون لأحد عليّ حجة في فتحه وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا فسكّتوا الناس وبيّنوا لهم حقوقهم. ثم قدم المدينة فدعا عليّا وطلحة والزبير ومعاوية حاضر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنتم ولاة هذا الأمر واخترتم صاحبكم [1] يعني عثمان وقد كبر وأشرف وفشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم فيه من شيء فأنا لكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم. فانتهره عليّ، ثم ذهب عثمان يتكلّم، وقال: اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتسابا وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنّ قرابتي أهل عيلة وقلّة معاش فأعطيتهم فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فقالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا ومروان خمسة عشر ألفا، قال: آخذ ذلك منهما، فانصرفوا راضين.
وقال له معاوية: أخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه، قال: لا أبتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا. قال: فأبعث إليك جندا يقيمون معك، قال: لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال معاوية: لتغتالن ولتعرين [2] ، قال: حسبي الله ونعم الوكيل. ثم سار معاوية ومرّ على عليّ وطلحة والزبير فوصّاهم بعثمان وودّعهم ومضى. وكان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم، فرجع الأمراء ولم يتهيأ لهم ذلك، وجاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذهبهم في الانحراف عن عثمان أن أقدموا علينا فإن الجهاد عندنا، فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة، فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ في خمسمائة وقيل في ألف وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكونيّ وميسرة أو قتيرة بن فلان السكونيّ، وعليهم جميعا الغافقي بن حرب العكّي، وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وولوا صاحبهم
[2] وفي نسخة ثانية: لتعيّرن(2/594)
العبديّ والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصمّ العامري، وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبديّ وذريح بن عبّاد وبشر بن شريح القيسي وابن المحرش وعليهم حرقوص بن زهير السعدي وكلهم في مثل عدد أهل مصر، وخرجوا جميعا في شوّال مظهرين للحجّ.
ولما كانوا من المدينة على ثلاث مراحل تقدّم ناس من أهل البصرة وكان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب، وتقدّم ناس من أهل الكوفة وكان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص، ونزل معهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في عليّ وتركوا عامتهم بذي المروة. وقال زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم من أهل الكوفة: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فو الله إن كان حقا لا يقوم لنا أمر.
ثم دخلوا المدينة ولقوا عليّا وطلحة والزبير وأمّهات المؤمنين وأخبروهم أنهم إنما أتوا للحجّ وأن يستعفوا من بعض العمّال، واستأذنوا في الدخول فمنعوهم ورجعوا إلى أصحابهم وتشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة وكل مصر فريق إلى أصحابهم كيادا وظلما في الفرقة، فأتى المصريون عليّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت وقد بعث ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم، فصاح بهم وطردهم وقال: إن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم ذلك الصالحون. وأتى البصريون طلحة والكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك فانصرفوا وافترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد. فتفرّق أهل المدينة فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها، وقد هجموا وأحاطوا بعثمان ونادوا بأمان من كف يده، وصلّى عثمان بالناس أياما ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه، وغدا عليهم عليّ فقال: ما ردكم بعد ذهابكم، قالوا أخذنا كتابا مع بريد بقتلنا. وقال البصريون لطلحة والكوفيون للزبير مثل مقالة أهل مصر وانهم جاءوا لينصروهم، فقال لهم عليّ: كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعا؟ هذا أمر أبرم بليل. فقالوا:
اجعلوه كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا، وهم يصلّون خلفه ومنعوا الناس من الاجتماع معه.
وكتب عثمان إلى الأمصار يستحثم فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهريّ، وبعث(2/595)
عبد الله بن أبي سرح معاوية بن حديج [1] وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، وتسابقوا إلى المدينة على الصعب والذلول، وقام بالكوفة نفر يحضّون على إعانة أهل المدينة فمن الصحابة عقبة بن عامر [2] وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب، ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله بن حكيم. وقام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر، ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حيّان. وقام بالشام وبمصر جماعة أخرى من الصحابة والتابعين.
ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة وقال يا هؤلاء الله الله فو الله إنّ أهل المدينة ليعلموا أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطايا بالصواب. فقال محمد بن مسلمة: أنا أشهد بذلك. فأقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فأقعده آخر، وحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وأصيب عثمان بالحصباء فصرع وقاتل دونه سعد بن أبي وقّاص والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة. ودخل عثمان بيته وعزم عليهم في الانصراف فانصرفوا، ودخل عليّ وطلحة والزبير على عثمان يعودونه وعنده نفر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعليّ: أهلكتنا وصنعت هذا الصنع والله لئن بلغت الّذي تريد لتمرّن عليك الدنيا، فقام مغضبا وعادوا إلى منازلهم. وصلّى عثمان بالناس وهو محصور ثلاثين يوما، ثم منعوه الصلاة، وصلّى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكّي، وتفرّق أهل المدينة في بيوتهم وحيطانهم ملازمين للسلاح وبقي الحصار أربعين يوما. وقيل بل أمر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلّى أياما، ثم صلى عليّ بعده بالناس وقيل أمر عليّ سهل بن حنيف فصلّى عشر ذي الحجة ثم صلّى العيد والصلوات حتى قتل عثمان.
وقد قيل في حصار عثمان أن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرّضان على عثمان، فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحجّ ومضمرين قتل عثمان أو خلعه وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ كان فيمن خرج مع المصريين محمد بن أبي بكر، وبعث عبد الله بن سعد في آثارهم وأقام محمد بن حذيفة بمصر، فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأنّ محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر فرجع سريعا إليهما فمنع منهما، فأتى فلسطين وأقام بها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن جريح
[2] وفي النسخة الباريسية: ابن عمر.(2/596)
حتى قتل عثمان. وأمّا المصريون فلمّا نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت عليّ ومت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم ويردّهم لئلا تظهر الجراءة منهم، فقال له عليّ: قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك وعصيتني! يعني مروان ومعاوية وابن عامر وابن أبي سرح وسعيدا. فعلى أي شيء أردّهم؟ فقال: على أن أصير إلى ما تراه وتشيره وأن أعصي أصحابي وأطيعك. فركب في ثلاثين من المهاجرين والأنصار فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدويّ وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتّاب، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسّان وكعب بن مالك، ومن العرب نيار [1] بن مكرز، فأتوا المصريين وتولى الكلام معهم: عليّ ومحمد بن مسلمة، فرجعوا إلى مصر، وقال ابن عديس لمحمد أتوصينا بحاجة، قال: تتقي الله وتردّ من قبلك عن إمامهم فقد وعدنا أن يرجع وينزع. ورجع القوم إلى المدينة ودخل عليّ على عثمان وأخبره برجوع المصريين، ثم جاءه مروان من الغد فقال له: أخبر الناس بأنّ أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عنك كان باطلا قبل أن تجيء الناس من الأمصار ويأتيك ما لا تطيقه ففعل. فلما خطب ناداه الناس من كل ناحية [2] اتّق الله يا عثمان وتب إلى الله وكان أوّلهم عمرو بن العاص، فرفع يده وقال لهم: إني تائب. وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، ثم جاء الخبر بحصاره وقتله.
وقيل إنّ عليّا لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزع قبل أن يجيء غيرهم، ففعل وخطب بذلك وأعطى الناس من نفسه التوبة، وقال: «أنا أوّل من اتعظ أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فليأت أشرافكم يروني رأيهم فو الله إن ردّني الحق عبدا لاستن [3] بسنّة العبد ولأذلنّ ذل العبد وما عن الله مذهب إلّا إليه فو الله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم» . ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله، فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة فلم يرجعوا إليها، وعابوه فيما فعل واستذلوه في إقراره بالخطبة والتوبة عند الخوف، واجتمع الناس بالباب وقد ركب بعضهم بعضا، فقال لمروان: كلّمهم فأغلظ لهم
__________
[1] في النسخة الباريسية: ينار وفي نسخة اخرى: دينار
[2] وفي النسخة الباريسية: من كل جهة
[3] وفي النسخة الباريسية: لأسيرن(2/597)
في القول. وقال: «جئتم لنزع [1] ملكنا من أيدينا. والله لئن رمتمونا ليمرنّ عليكم منا أمر لا يسرّكم ولا تحمدوا غب [2] رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا» . وبلغ الخبر عليّا فنكر ذلك، وقال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث: أسمعت خطبته بالأمس ومقالة مروان للناس اليوم؟ يا للَّه ويا للناس إن قعدت في بيتي، قال: تركتني وقرابتي وحقي وإن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السنّ وصحبة الرسول. وقام مغضبا إلى عثمان واستقبح مقالة مروان وأنبّه عليها وقال ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتكم فقد أذهبت شرفك وغلبت على رأيك. ثم دخلت عليه امرأته نائلة وقد سمعت قول عليّ، فعذلته في طاعة مروان، وأشارت عليه باستصلاح عليّ فبعث إليه فلم يأته. فأتاه عثمان إلى منزله ليلا يستلينه ويعده الثبات على رأيه معه فقال: بعد أن قام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم، فخرج عثمان وهو يقول: خذلتني وجرّأت الناس، فقال علي: والله إني أكثر الناس ذبّا عنك ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضى جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي. ثم منع عثمان الماء فغضب عليّ غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان.
وقيل إن عليّا كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم [3] والناس مجتمعون عند طلحة فجاء عثمان وقال: يا عليّ إن لي حق الإخاء والقرابة والصهر، ولو كان أمر الجاهلية فقط كان عارا على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم! فجاء عليّ إلى طلحة وقال: ما هذا، فقال طلحة: أبعد ما مسّ الحزام الطبيين [4] يا أبا حسن. فانصرف عليّ إلى بيت المال، وأعطى الناس فبقي طلحة وحده وسرّ بذلك عثمان وجاء إليه طلحة فقال له والله ما جئت تائبا ولكن مغلوبا فاللَّه حسيبك يا طلحة.
وقيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب وهو على بعير من إبل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البيّاع وحبسهم وحلق رءوسهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولا تنزعون
[2] وفي النسخة الباريسية: راغب
[3] وفي النسخة الباريسية: فقام
[4] هذا مثل يضرب به عند بلوغ الأمر غايته في الشدّة.(2/598)
ولحاهم وصلب بعضهم، وقيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلميّ. فعاد المصريون وعاد معهم الكوفيون والبصريّون وقالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم: قد كلّمنا عليّا وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فوعدونا أن يكلموه فليحضر عليّ معنا عند عثمان. ثمّ دخل عليّ ومحمد على عثمان وأخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كنت ولا علم. وقال محمد صدق هذا من عمل مروان. ودخل المصريون فشكى ابن عديس بابن أبي سرح وما أحدثه بمصر وأنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان وأنّا جئنا من مصر لقتلك فردّنا عليّ ومحمد وضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا ولقينا هذا الكتاب وفيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس وهو بيد علامك وعليه خاتمك، فحلف عثمان ما كتب ولا أمر ولا علم. قالوا: فكيف يجترأ عليك بمثل هذا فقد استحققت الخلع على التقديرين ولا يحل أن يولّى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف، فاخلع نفسك فقال: لا أنزع ما ألبسني الله ولكن أتوب وأرجع.
قال: رأيناك تتوب وتعود فلا بدّ من خلعك أو قتلك وقتال أصحابك دون ذلك أن يخلص إليك أو تموت، فقال: لا ينالكم أحد بأخرى [1] ولو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار. ثم كثر اللغط وأخرجوا ومضى عليّ إلى منزله، وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر يستحثّهم وقام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام وسار إلى عثمان وبلغهم قتله بوادي القرى، فرجعوا وقيل سار من الشام حبيب بن مسلمة ومن البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا.
وكانت بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى عليّ في كفّهم عنه على الوفاء لهم، فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف ثم بعث إليهم فقالوا لا بدّ لنا أن نتوثق منه وجاء فأعلمه وتوثق منه على أجل ثلاثة أيام، وكتب بينهم كتابا على ردّ المظالم وعزل من كرهوه من العمّال. ثم مضى الأجل وهو مستعدّ ولم يغير شيئا، فجاء المصريون من ذي خشب يستنجدون عهدهم فأبى فحصروه وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأشرف عليهم فحيّاهم ودعا لهم، ثم قال: «أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون أنه لم يستجب لكم أو تقولون أن الله لم يبال بمن ولي هذا الدين أم تقولون أن الأمة ولوا مكابرة وعن غير مشورة فوكلهم إلى أمرهم أو لم يعلم عاقبة أمري، ثم أنشدكم الله
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 170: فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل.(2/599)
هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه فمهلا فلا يحل إلّا قتل ثلاثة: زان بعد إحصان وكافر بعد إيمان وقاتل بغير حق ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف» . فقالوا له: ما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة، ولكن الله ابتلى بك عباده وأمّا حقك وسابقتك فصحيح، لكن أحدثت ما علمت ولا نترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاما قابلا، وأمّا حصر القتل في الثلاثة ففي كتب الله قتل من سعى في الأرض فسادا ومن قاتل على البغي وعلى منع الحق والمكابرة عليه، وأنت إنّما تمسكت بالإمارة علينا وإنّما قاتل دونك هؤلاء لهذه التسمية فلو نزعتها انصرفوا. فسكت عثمان ولزم الدار وأقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلّا الحسن بن عليّ ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير.
وكانت مدّة انحصاره أربعين يوما، ولثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود من الأمصار فاشتد الانحصار ومنعوه من لقاء الناس ومن الماء، وأرسل إلى عليّ وطلحة والزبير وأمّهات المؤمنين يطلب الماء فركب علي إليهم مغلسا، وقال: يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين وإنما الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى.
فقالوا: لا والله ونعمة عين. فرجع وجاءت أمّ حبيبة على بغلتها مشتملة على إداوة وقالت: أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: لا والله، وضربوا وجه البغلة فنفرت وكادت تسقط عنها وذهب بها الناس إلى بيتها.
وأشرف عليهم عثمان وقرّر حقوقه وسوابقه فقال بعضهم مهلا عن أمير المؤمنين، فجاء الأشتر وفرّق الناس وقال: لا يمكر بكم. ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى، فقال له حنظلة الكاتب: تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة وبلغ طلحة والزبير ما لقي عليّ وأمّ حبيبة فلزموا بيوتهم. وكان آل حزم يدسون الماء إلى بيت عثمان في الغفلات، وكان ابن عبّاس ممن لزم باب عثمان للمدافعة فأشرف عليه عثمان وأمره أن يحجّ بالناس، فقال: جهاد هؤلاء أحب إليّ، فأقسم عليه وانطلق.
ولما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم، وأنّ أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه يرجون في ذلك خلاصهم واشتغال الناس(2/600)
عنهم، فقاموا إلى الباب ليقتحموه فمنعهم الحسن بن عليّ وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصاحبة وقاتلوهم وغلبوهم دون الباب، ثم صدهم عثمان عن القتال وحلف ليدخلنّ فدخلوا وأغلق الباب فجاءوا بالنار وأحرقوه، ودخلوا وعثمان يصلّي وقد افتتح سورة طه، وقد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ وجلس إلى المصحف يقرأ فقرأ: «الَّذِينَ قال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 3: 173» . ثم قال لمن عنده إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليّ عهدا فأنا صابر عليه، ومنعهم من القتال وأذن للحسن في اللحاق بأبيه وأقسم عليه فأبى وقاتل دونه، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تعجّل من الحج في عصابة لنصره فقاتل حتى قتل. وجاء أبو هريرة ينادي يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار وقاتل، ثم اقتحمت الدار من ظهرها من جهة دار عمرو بن حزم فامتلأت قوما ولا يشعر الذين بالباب، وانتدب رجل فدخل على عثمان في البيت فحاوره في الخلع فأبى فخرج، ودخل آخر ثم آخر كلهم يعظه فيخرج ويفارق القوم، وجاء ابن سلّام فوعظهم فهموا بقتله، ودخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلا بما لا حاجة إلى ذكره ثم استحيا وخرج. ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم وأكبت عليه نائلة امرأته تتقي الضرب بيدها فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها. ثم قتلوه وسال دمه على المصحف، وجاء غلمانه فقتلوا بعض أولئك القاتلين وقتلاء أخر، وانتبهوا ما في البيت وما على النساء حتى نائلة، وقتل الغلمان منهم وقتلوا من الغلمان، ثم خرجوا إلى بيت المال فانتهبوه، وأرادوا قطع رأسه فمنعهم النساء فقال ابن عديس: اتركوه. ويقال إن الّذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي وطعنه عمرو بن الحمق طعنات، وجاء عمير بن ضابيء وكان أبوه مات في سجنه فوثب عليه حتى كسر ضلعا من أضلاعه. وكان قتله لثمان عشرة خلت من ذي الحجة وبقي في بيته ثلاثة أيام.
ثم جاء حكيم بن حزام وجبير بن مطعم إلى علي فأذن لهم في دفنه، فخرجوا به بين المغرب والعشاء ومعهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان فدفنوه في حشّ كوكب [1] ، وصلى عليه جبير وقيل مروان وقيل حكيم، ويقال: إنّ ناسا تعرّضوا لهم
__________
[1] هو حائط من حيطان المدينة وهو خارج البقيع(2/601)
ليمنعوا من الصلاة عليه، فأرسل إليهم عليّ وزجرهم. وقيل إنّ عليّا وطلحة حضرا جنازته وزيد بن ثابت وكعب بن مالك.
وكان عمّاله عند موته على ما نذكره: فعلى مكّة عبد الله بن الحضرميّ، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفيّ، وعلى صنعاء يعلى بن منيّة، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة والبحرين عبد الله بن عامر، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد من قبله، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة كذلك، وعلى الأردن ابو الأعور السلميّ كذلك، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكندي [1] كذلك، وعلى البحرين عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة والقعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى خراج السواد جابر المزنيّ وسمّاك الأنصاري على الخراج، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة [2] بن النهّاس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبدان خنيس [3] ، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى القضاء زيد بن ثابت.
بيعة علي رضي الله عنه
لما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا عليّا يبايعونه، فأبى وقال: أكون وزيرا لكم خير من أن أكون أميرا ومن اخترتم رضيته، فألحّوا عليه وقالوا: لا نعلم أحق منك ولا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك، فخرج إلى المسجد وبايعوه وأوّل من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيّرهما ويقال إنهما ادّعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر وخرجا إلى مكة، ثم بايعه الناس. وجاءوا بسعد فقال لعليّ: حتى تبايعك الناس [4] فقال: اخلوه وجاءوا بابن عمر فقال: كذلك. فقال: ائتني بكفيل. قال: لا أجده فقال الأشتر: دعني أقتله فقال عليّ: دعوه أنا كفيله. وبايعت الأنصار وتأخّر منهم حسّان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الكناني.
[2] وفي النسخة الباريسية: عيينة.
[3] وفي النسخة الباريسية: عنيس.
[4] الأصح ان يقول: حتى يبايعك الناس.(2/602)
سعيد الخدريّ ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة وسلمة بن سلامة بن وقش [1] ، وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلّام وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة. وأمّا النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الّذي قتل فيه ولحق بالشام صريخا.
وقيل إنّ عثمان لما قتل بقي الغافقي بن حرب أميرا على المدينة خمسة أيام، والتمس من يقوم بالأمر فلم يجبه أحد، وأتوا إلى عليّ فامتنع، وأتى الكوفيّون الزبير والبصريّون طلحة فامتنعا، ثم بعثوا إلى سعد وابن عمر فامتنعا [2] . فبقوا حيارى ورأوا أنّ رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف والفساد، فجمعوا أهل المدينة وقالوا: أنتم أهل الشورى وحكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الإمامة ونحن لكم تبع وقد أجّلناكم يومين وإن لم تفعلوا قتلنا فلانا وفلانا وغيرهما يشيرون إلى الأكابر. فجاء الناس إلى عليّ فاعتذر وامتنع، فخوّفوه الله في مراقبة الإسلام، فوعدهم إلى الغد.
ثم جاءوه من الغد وجاء حكيم بن جبلة [3] في البصريّين، فأحضر الزبير كرها، وجاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك وبايعوا لعلي، وخرج إلى المسجد وقال: هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلّا من أردتم وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم، فقالوا: نحن على ما افترقنا عليه بالأمس، فقال لهم: اللَّهمّ اشهد! ثم جاءوا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله. ثم بايع العامة، وخطب عليّ وذكر الناس وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ورجع إلى بيته، فجاءه طلحة والزبير وقالا: قد اشترطنا إقامة الحدود فأقمها على قتلة هذا الرجل، فقال: لا قدرة لي على شيء مما تريدون حتى يهدأ الناس وننظر الأمور فتؤخذ الحقوق، فافترقوا عنه. وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان وباستناده إلى أربعة في رأيه، وبلغه ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم، ثم هرب مروان وبنو أمية ولحقوا بالشام، فاشتدّ على عليّ منع قريش من الخروج، ثم نادى في اليوم الثالث برجوع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وخشب.
[2] وفي النسخة الباريسية: ثم بعثوا الى سعد بن عمر فامتنع.
[3] وفي النسخة الباريسية: وجاء حكم بن عبلة.(2/603)
الأعراب إلى بردهم، فأبوا وتدامرت معهم السبئية، وجاءه طلحة والزبير فقالا:
دعنا نأتي البصرة والكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما. وجاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمّال حتى يستقرّ الأمر ويستبدلوا بمن شاء فأمهله، ورجع من الغد فأشار بمعاجلة الاستبدال، وجاءه ابن عبّاس فأخبره بخبر المغيرة، فقال: نصحك أمس وغشّك اليوم.
قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجل إلى مكة وأمّا اليوم فإنّ بني أميّة يشبّهون على الناس بأن يلجموك طرفا من هذا الأمر ويطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم والأمر أن تقرّ معاوية. فقال علي رضي الله عنه: والله لا أعطيه إلّا السيف. فقال له ابن عبّاس: أنت رجل شجاع لست صاحب رأيي في الحرب أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحرب خدعة. قال: بلى! فقال ابن عبّاس: أمّا والله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور ولا يعرفون ما كان وجهها من غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عبّاس لست من هنيّاتك ولا هنيّات معاوية في شيء [1] . فقال ابن عبّاس: أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، وإن نهضت مع هؤلاء القوم يحمّلك الناس دم عثمان غدا. فأبى عليّ وقال: أشر عليّ وإذا خالفتك أطعني. قال: أيسر مالك عندي الطاعة. قال:
فسر إلى الشام فقد وليكتها. قال: إذا يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم عليّ لقرابتي منك ولكن أكتب إليه وعده فأبى. وكان المغيرة يقول نصحته فلم يقبل.
فغضب ولحق بمكة.
ثم فرّق على العمّال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف، وعلى الكوفة عمارة بن شهاب بن المهاجرين، وعلى اليمن عبيد الله بن عبّاس، وعلى مصر قيس بن سعد، وعلى الشام سهل بن حنيف. فمضى عثمان إلى البصرة واختلفوا عليه فأطاعته فرقة وقال آخرون: ما يصنع أهل المدينة فنقتدي بهم، ومضى عمارة إلى الكوفة فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له: ارجع فإنّ اليوم لا يستبدلون بأبي موسى وإلّا ضربت عنقك، ومضى ابن عبّاس إلى اليمن فجمع يعلى بن منيّة [2] مال الجباية
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لست من سنامك ولا سنامك معاوية في شيء.
- وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 198: لست من هناتك ولا هنات معاوية في شيء.
- وفي الطبري ج 5 ص 161: لست من هنيئتك وهنيئات معاوية في شيء.
[2] وفي النسخة الباريسية: بن حقبة.(2/604)
وخرج به إلى مكة ودخل عبيد الله إلى اليمن، ومضى قيس بن سعد إلى مصر ولقيه بأيلة خيّالة من أهل مصر فقالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد من فلّ عثمان أطلب من آوي إليه وأنتصر به. ومضى حتى دخل مصر وأظهر أمره فافترقوا عليه فرقة كانت معه وأخرى تربصوا حتى يروا فعله في قتلة عثمان. ومضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم: أنا أمير على الشام، قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع.
فلمّا رجع وجاءت أخبار الآخرين دعا عليّ طلحة والزبير وقال قد وقع ما كنت أحذركم. فسألوه الإذن في الخروج من المدينة وكتب عليّ إلى أبي موسى مع معبد [1] الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة وببيعتهم ومن الكاره منهم والراضي حتى كأنه يشاهد. وكتب إلى معاوية مع سبرة الجهنيّ فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان، ثم دعا قبيصة من عبس وأعطاه كتابا مختوما عنوانه من معاوية إلى عليّ وأوصاه بما يقول وأعاده مع رسول عليّ، فقدما في ربيع الأوّل ودخل العبسيّ وقد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى علي، ففضه فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال نعم قال تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود قال: وممن؟
قال منك وتكرت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوبا على منبر دمشق.
فقال: اللَّهمّ اني أبرأ إليك من دم عثمان! قد نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله. ثم ردّه إلى صاحبه وصاحت السبئيّة اقتلوا هذا الكلب وافد الكلاب، فنادى يا آل مضريا لقيس أحلف باللَّه ليردّنها عليكم أربعة آلاف خصيّ فانظروا كم الفحول والركاب وتقاووا عليه، فمنعته مضر ودسّ أهل المدينة على عليّ من يأتيهم برأيه في القتال وهو زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعا إليه فجالسه ساعة فقال له عليّ: سيروا لغو الشام. فقال لعليّ: الأناة والرّفق أمثل فتمثل يقول:
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم
فعلم أنّ رأيه القتال [2] ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة والزبير في العمرة ولحقا بمكّة. ثم اعتزم على الخروج إلى الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فهد.
[2] وفي الطبري ج 5 ص 163: «فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل» .(2/605)
وقال: انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الّذي عليكم. وأمر الناس بالتجهّز إلى الشام ودفع اللواء لمحمد بن الحنفيّة، وولّى عبد الله بن عبّاس ميمنته، وعمرو بن سلمة ميسرته، ويقال بل عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وولّى أبا ليلى بن عمرو بن الجرّاح ابن أخي عبيدة مقدمته، ولم يول أحدا ممن خرج على عثمان. واستخلف على المدينة تمّام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العبّاس.
وكتب الى قيس بن سعد بمصر وعثمان بن حنيف بالبصرة وأبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام، وبينما هو على التجهّز للشام إذا أتاه الخبر عن أهل مكّة بنحو آخر وأنّهم على الخلاف فانتقض عن الشام.
أمر الجمل
ولما جاء خبر مكة إلى عليّ قام في الناس وقال: ألا إنّ طلحة والزبير وعائشة قد تمالئوا على نقض إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكفّ إن كفّوا وأقتصد نحوه، وندب أهل المدينة فتثاقلوا، وبعث كميلا النخعيّ فجاءه بعبد الله بن عمر فقال: انهض معي، فقال: أنا من أهل المدينة افعل ما يفعلون، قال: فأعطني كفيلا بأنك لا تخرج [1] ، قال: ولا هذه، فتركه ورجع الى المدينة، وخرج إلى مكة وقد أخبر ابنة علي أمّ كلثوم [2] بأنه سمع من أهل المدينة تثاقلهم وأنه على طاعة عليّ ويخرج معتمرا. وجاء الخبر من الغداة إلى عليّ بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره عل كل طريق، وماج أهل المدينة، وركبت أمّ كلثوم إلى أبيها وهو في السوق يبعث الرجال ويظاهر في طلبه فحدّثته فانصرف عن ذلك ووثق به فيما قاله، ورجع إلى أهل المدينة فخاطبهم [3] وحرّضهم فرجعوا الى اجابته، وأول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين. ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن عليّ انتدب إليه وقال: من تثاقل عنك فإنّا نخفي معك ونقاتل دونك.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بأنه لا يخرج.
[2] وفي نسخة اخرى: أخبر أخته أم كلثوم.
[3] وفي النسخة الباريسية: فخطبهم.(2/606)
وكان سبب اجتماعهم بمكّة أنّ عائشة كانت خرجت إلى مكّة وعثمان محصور كما قدّمناه، فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة فلقيت في طريقها رجلا من بني ليث اخوالها فأخبرها بقتل عثمان وبيعة عليّ، فقالت: قتل عثمان والله ظلما ولأطلبنّ بدمه فقال لها الرجل: ولم أنت كنت تقولين ما قلت؟ فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وانصرفت الى مكة. وجاءها الناس فقالت: «إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما ونقّموا عليه استعمال من حدثت سنّه وقد استعمل أمثالهم من كان قبله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها فلمّا لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لاصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ولو أنّ الّذي اعتدّوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه» . فقال عبد الله بن عامر الحضرميّ وكان عامل مكّة لعثمان: أنا أوّل طالب، فكانت أوّل مجيب وتبعه بنو أمية وكانوا هربوا إلى مكّة بعد قتل عثمان، منهم: سعيد بن العاص والوليد بن عقبة. وقدم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلى بن منيّة [1] من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف فأناخ بالأبطح، ثم قدم طلحة والزبير من المدينة فقالت لهما عائشة: ما وراءكما؟ قالا:
تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب غلبوا على خيارهم فلم يمنعوا أنفسهم ولا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا، فقالت: انهضوا بنا إليهم، وقال آخرون: نأتي الشام، فقال ابن عامر: إنّ معاوية كفا كم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع ولهم في طلحة هوي. فنكروا عليه مجيئه من البصرة واستقام رأيهم على رأيه وقالوا: إنّ الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة ويحتجّون ببيعة عليّ وإذا أتينا البصرة أنهضناهم كما أنهضنا أهل مكّة وجاهدنا، فاتفقوا ودعوا عبد الله [2] بن عمر الى النهوض فأبى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. وكانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة، فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها وأجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله. وجهّزهم ابن عامر بما معه من المال ويعلى بن منيّة بما معه من المال والظهر، ونادوا في الناس
__________
[1] يعلى بن منيّه هو يعلى بن أميه، وهو أبوه، ومنيّه امه كما في شرح مسلم والكامل ينتسب تارة الى أبيه وتارة الى امه وقول الناس منبّه تحريف، قاله نصر.
[2] وفي نسخة اخرى: عبد الرحمن.(2/607)
بالحملان فحملوا على ستمائة بعير وساروا في ألف من أهل مكة ومن أهل المدينة وتلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف، وبعثت أمّ الفضل وأمّ عبد الله بن عبّاس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه عليّا، ونهضت عائشة ومن معها، وجاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير فقال: على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذن بالصلاة، فقال ابن الزبير على أبي، وقال ابن طلحة على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له أتريد أن تفرّق أمرنا ليصلّ بالناس ابن أختي [1] تعني عبد الله بن الزبير.
وودّع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات، وأشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم وأصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة وطلحة والزبير. فقالوا نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا. ثم جاء إلى طلحة والزبير فقال: لمن تجعلان الأمر إن ظفرتما؟ قالا: لأحدنا الّذي تختاره الناس، فقال: بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: وكيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟ قال:
فلا أراني أسعى إلّا لإخراجها من بني عبد مناف فرجع، ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد ووافقه المغيرة بن شعبة ومن معه من ثقيف فرجعها، ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان. وأركب يعلى بن منيّة عائشة جملا اسمه عسكر اشتراه بمائة دينار وقيل بثمانين، وقيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على ان حمله بألف فزادوه أربعمائة درهم، وسألوه عن دلالة الطريق فدلهم ومرّ بهم على الماء الحوأب فنبحتهم كلابه. وسألوه عن الماء فعرّفهم باسمه.
فقالت عائشة: ردّوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب، ثم ضربت عضد بعيرها [2] فأناخته وأقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل النجاء النجاء قد أدرككم عليّ، فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي، وأشار بأن يتقدّم عبد الله بن عامر إليهم فأرسلته عائشة وكتبت معه إلى رجال من البصرة، إلى الأحنف بن قيس وسمرة وأمثالهم، وأقامت بالحفّين [3] تنتظر الجواب، ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلا عامّة، وأبا الأسود الدؤليّ وكان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن أخي.
[2] وفي النسخة الباريسية: غضب بعيرها.
[3] لعلها: حفير وهو موضع بين مكة والمدينة وعن ابن دريد: بين مكة والبصرة (معجم البلدان) .(2/608)
رجلا خاصّة، وقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فجاءاها بالحفين وقالا: إنّ أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك؟ فقالت: إنّ الغوغاء ونزاع القبائل فعلوا ما فعلوا فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك وبالذي فيه الناس ورائنا وما ينبغي من إصلاح هذا الأمر. ثم قرأت لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نَجْواهُمْ 4: 114 الآية. ثم عدلا عنها إلى طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليّا؟ قال: بلى والسيف على رأسي وما أستقبل على البيعة إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان. وقال لهما الزبير مثل ذلك، ورجعا إلى عثمان بن حنيف فاسترجع وقال:
دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة، ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمران: اعتزل.
قال بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فجاءه هشام بن عامر فأشار عليه بالمسالمة والمسامحة حتى يأتي أمر عليّ، فأبى ونادى في الناس فلبس السلاح ثم دسّ من يتكلم في الجمع ليرى ما عندهم، فقال رجل: إنّ هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فبلدهم يأمن فيه الطير وان جاءوا لدم عثمان فما نحن بقتلته فأطيعوني وردّوهم من حيث جاءوا. فقال الأسود بن سريع السعدي: إنما جاءوا يستعينون بنا على قتلته منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أنّ لهم بالبصرة ناصرا وكسره ذلك كلّه.
وانتهت عائشة ومن معها إلى المربد، وخرج إليها عثمان فيمن معه وحضر أهل البصرة، فتكلّم طلحة من الميمنة: فحمد الله وذكر عثمان وفضله ودعا إلى الطلب بدمه وحثّ عليه، وكذلك الزبير فصدقهما أهل الميمنة. وقال أصحاب عثمان من الميسرة: بايعتم عليّا ثم جئتم تقولون. ثم تكلمت عائشة وقالت: «كان الناس يتجنّون على عثمان ويأتوننا بالمدينة فنجدهم فجرة ونجده برّا تقيا وهم يحاولون غير ما يظهرون، ثم كثروا واقتحموا عليه داره وقتلوه واستحلّوا المحرّمات بلا ترة ولا عذر، ألا وأنّ مما ينبغي لكم ولا ينبغي غيره أخذ قتلة عثمان واقامة كتاب الله» ثم قرأت «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً من الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ 3: 23» الآية.
فاختلف أصحاب عثمان عليه ومال بعضهم إلى عائشة، ثم افترق الناس وتحاصبوا وانحدرت عائشة إلى المربد، وجاءها جارية [1] بن قدامة السعدي فقال: «يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة السلاح، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك وأنّه من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حارثة(2/609)
رأى قتالك يرى قتلك، فإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وان كنت مكرهة فاستعيني باللَّه وبالناس على الرجوع» .
وأقبل حكيم بن جبلة وهو على الخيل [1] فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم فاقتتلوا على فم السكة [2] ، وحجز الليل بينهم وباتوا يتأهبون وعاداهم حكيم بن جبلة فاعترضه رجل من عبد القيس [3] فقتله حكيم، ثم قتل امرأة أخرى، واقتتلوا إلى أن زال النهار. وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف ولما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة والزبير أكرها سلم لهم عثمان الأمر وإلّا رجعا عنه. وسار كعب بن سوار القاضي الى أهل المدينة يسألهم عن ذلك، فجاءهم يوم جمعة وسألهم فلم يجبه إلا أسامة بن زيد فإنّه قال: بايعا مكرهين. فضربه الناس حتى كاد يقتل. ثم خلّصه صهيب وأبو أيوب ومحمد بن مسلمة إلى منزله، ورجع كعب وبلغ الخبر بذلك إلى عليّ، فكتب إلى عثمان بن حنيف يعجزه ويقول والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا. ولما جاء كعب بقول أهل المدينة بعث طلحة والزبير إلى عثمان ليجتمع بها، فامتنع واحتج بالكتاب وقال هذا غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الناس وجاءا إلى المسجد بعد صلاة العشاء في ليلة ظلماء شاتية، وتقدم عبد الرحمن بن عتّاب في الوحل فوضع السلاح في الجائية من الزطّ والسابحة وهم أربعون رجلا فقاتلوهم وقتلوا عن آخرهم، واقتحموا على عثمان فأخرجوه إلى طلحة والزبير وقد نتفوا شعر وجهه كله، وبعثا إلى عائشة بالخبر فقالت خلوا سبيله، وقيل أمرت بإخراجه وضربه، وكان الّذي تولى إخراجه وضربه مجاشع بن مسعود. وقيل إنّ الاتفاق إنّما وقع بينهم على أن يكتبوا إلى عليّ فكتبوا إليه وأقام عثمان يصلّي فاستقبلوه ووثبوا عليه فظفروا به وأرادوا قتله، ثم استبقوه من أجل الأنصار وضربوه وحبسوه.
ثم خطب طلحة والزبير وقالا يا أهل البصرة توبة بجوبة [4] إنما أردنا أن نستعتب عثمان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على ظهر الخيل.
[2] وفي النسخة الباريسية: فم السمكة.
[3] وفي النسخة الباريسية: من عبد الله بن القيس.
[4] توبة بحوبة: اي توبة بإثم وفي النسخة الباريسية: توبة تحويه.(2/610)
فغلب السفهاء فقتلوه. فقالوا لطلحة قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا! قال الزبير:
أمّا أنا فلم أكاتبكم، وأخذ يرمي عليّا بقتل عثمان فقال رجل من عبد القيس: يا معشر المهاجرين أنتم أوّل من أجاب داعي الإسلام وكان لكم بذلك الفضل، ثم استخلفتم مرارا ولم تشاورونا، وقتلتم كذلك، ثم بايعتم عليّا وجئتم تستعدوننا عليه فماذا الّذي نقمتم عليه؟ فهموا بقتله ومنعته عشيرته، ثم وثبوا من الغد على قتل عثمان ومن معه فقتلوا منهم سبعين.
وبلغ حكيم بن جبلة ما فعل بعثمان بن حنيف فجاء لنصره في جماعة من عبد القيس، فوجد عبد الله بن الزبير فقال له: ما شأنك؟
قال: تخلوا عن عثمان وتقيمون على ما كنتم حتى يقدم عليّ ولقد استحللتم الدم الحرام تزعمون الطلب بثأر عثمان وهم لم يقتلوه. ثم ناجزهم الحرب في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وأقام حكيم أربعة قوّاد فكان هو بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام. وتزاحفوا واستحرّ القتل فيهم حتى قتل كثير منهم وقتل حكيم وذريح، وأفلت حرقوص في فلّ من أصحابه إلى قومهم بني سعد، وتتبعوهم بالقتل وطالبوا بني سعد بحرقوص وكانوا عثمانية [1] ، فاعتزلوا وغضبت عبد القيس كلهم والكثير من بكر بن وائل، وأمر طلحة والزبير بالعطاء في أهل الطاعة لهما، وقصدت عبد القيس وبكر بيت المال فقاتلوهم ومنعوهم، وكتب عائشة إلى أهل الكوفة بالخبر [2] وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن عليّ وأن يقدموا بدم عثمان، وكتبت بمثل ذلك الى اليمامة والمدينة.
ولنرجع إلى خبر عليّ وقد كان لمّا بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة ومسيرهم إلى البصرة دعا أهل المدينة للنصرة وخطبهم، فتثاقلوا أوّلا وأجابه زياد بن حنظلة وأبو الهيثم وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين وأبو قتادة في آخرين، وبعثت أم سلمة معه ابن عمّها وخرج يسابق طلحة والزبير إلى البصرة ليردّهما، واستخلف على المدينة تمام ابن عبّاس وقيل سهل بن حنيف، وعلى مكّة قثم بن عباس، وسار في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وسار معه من نشط من الكوفيين والمصريين متخففين في تسعمائة، ولقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال يا أمير المؤمنين: لا تخرج منها فو الله إن
__________
[1] أي من اتباع الخليفة عثمان.
[2] وفي النسخة الباريسية: بالفتح.(2/611)
خرجت منهما لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا. فبدر الناس إليه، فقال: دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وسار فانتهى الى الرَّبَذَة، وجاء خبر سبقهم إلى البصرة فأقام يأتمر بما يفعل ولحقه ابنه الحسن وعذله في خروجه وما كان من عصيانه إيّاه، فقال: ما الّذي عصيتك فيه حين أمرتني؟ قال: أمرتك أن تخرج عند حصار عثمان من المدينة ولا تحضر لقتله، وثم عند قتله ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة الأمصار، ثم عند خروج هؤلاء أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا. فقال: أمّا الخروج من المدينة فلم يكن إليه سبيل وقد كان أحيط بنا كما أحيط بعثمان، وأمّا البيعة فخفنا ضياع الأمر والحل والعقد لأهل المدينة لا للعرب ولا للأمصار ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحق بالأمر بعده فبايع الناس غيري واتبعتهم في أبي بكر وعمر وعثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا أقاتل من خالف بمن أطاع إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين، وأمّا القعود عن طلحة والزبير فإذا لم انظر فيما يلزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه؟. ثم أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر يستنفران الناس، وأقام بالربذة يحرّض الناس وأرسل إلى المدينة في أداته وسلاحه، وقال له بعض أصحابه عرّفنا بقصدك من القوم؟ قال: الإصلاح إن قبلوه وإلّا ننظرهم وان بادرونا امتنعنا.
ثم جاءه جماعة من طيِّئ نافرين معه فقبلهم وأثنى عليهم. ثم سار من الرَّبَذَة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمرو بن الجرّاح، ولما انتهى الى فيد أتته أسد وطيِّئ وعرضوا عليه النفير معه، فقال: الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية. ولقيه هنالك رجل من أهل الكوفة من بني شيبان فسأله عن أبي موسى، فقال إن أردت الصلح فهو صاحبه، وان أردت القتال فليس بصاحبه. فقال: والله ما أريد إلّا الصلح حتى يردّ علينا. ثم انتهى إلى الثعلبية والأساد، فبلغه ما لقي عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة، ثم جاء بذي قار عثمان بن حنيف وأراه ما بوجهه، فقال: «أصبت أجرا وخيرا إنّ الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ثم ثالث فقالوا وفعلوا ثم بايعوني ومنهم طلحة والزبير ثم نكثا وألّبا عليّ. ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما عليّ! والله إنهما ليعلمان اني لست دونهم» . ثم أخذ في الدعاء عليهما وابن وائل هنالك يعرضون عليه النفير فأجابهم مثل طيِّئ وأسد، وبلغه خروج عبد القيس على طلحة والزبير فأثنى عليهم. وأمّا محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فبلغا إلى الكوفة(2/612)
ودفعا إلى أبي موسى كتاب عليّ وقاما في الناس بأمره فلم يجبهما أحد وشاوروا أبا موسى في الخروج إلى علي، فقال: الخروج سبيل الدنيا والقعود سبيل الآخرة فقعدوا كلهم. وغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى، فقال لهما: والله إنّ بيعة عثمان لفي عنقي وعنق عليّ وان كان لا بدّ من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا، فرجعا إلى عليّ بالخبر وهو بذي قار، فرجع عليّ باللائمة على الأشتر، وقال: أنت صاحبنا في أبي موسى فاذهب أنت وابن العباس وأصلح ما أفسدت.
فقدما على أبي موسى وكلما استعانا عليه بالناس لم يجب إلى شيء ولم ير إلّا القعود حتى تنجلي الفتنة ويلتئم الناس، فرجع ابن عبّاس والأشتر إلى عليّ فأرسل عليّ ابنه الحسن وعمّار بن ياسر وقال: لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فانطلقا حتى دخلا المسجد، وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمه إليه وقال لعمّار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا وأحللت نفسك مع الفجّار؟ فقال: لم أفعل. فأقبل الحسن على أبي موسى فقال: لم تثبط الناس عنّا وما أردنا إلا الإصلاح ومثل أمير المؤمنين لا يخاف على شيء. قال: «صدقت بأبي أنت وأمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب والمسلمون اخوان ودماؤهم وأموالهم حرام» فغضب عمّار وسبّه فسبّه آخر وتثاور الناس، ثم كفّهم أبو موسى. وجاء زيد بن صوحان بكتاب عائشة إليه وكتابها إلى أهل الكوفة فقرأهما على الناس في سبيل الإنكار عليها فسبه شبث بن ربعي [1] ، وتهاوى الناس وأبو موسى يكفّهم ويأمرهم بلزوم البيوت حتى تنجلي الفتنة، ويقول: أطيعوني وخلوا قريشا إذا أبوا إلّا الخروج من الدار الهجرة وفراق أهل العلم. حتى ينجلي الأمر. وناداه زيد بن صوحان بإجابة عليّ والقيام بنصرته وتابعه القعقاع بن عمرو فقام بعده فقال: لا سبيل إلى الفوضى وهذا أمير المؤمنين مليء بما ولي وقد دعاكم فانفروا، وقال عبد خير مثل ذلك وزاد:
يا أبا موسى هل تعلم أنّ طلحة والزبير بايعا؟ قال: نعم. قال: فهل أحدث عليّ ما ينقض البيعة؟ لا أدري قال: لا دريت ونحن نتركك حتى تدري. ثم قال سيحان [2] بن صوحان مثل ما قال القعقاع، وحرّض على طاعة عليّ وقال: فإنه
__________
[1] شبت: بفتح الشين المعجمة والموحّدة كما في القاموس.
[2] سيمان بوران جيحان أهـ.(2/613)
دعاكم تنظرون ما بينه وبين صاحبيه [1] وهو المأمون على الأمّة الفقيه في الدين، فقال عمّار وهو دعاكم إلى ذلك لتنظروا في الحق وتقاتلوا معه عليه، وقال الحسن:.
أجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم وإن أمير المؤمنين يقول: إن كنت مظلوما أطيعوني [2] أو ظالما فخذوا مني بالحق. والله إن طلحة والزبير أول من بايعني وأول من غدر. فأجاب الناس، وحرّض عديّ بن حاتم قومه وحجر بن عديّ كذلك فنفر مع الحسن من الكوفة تسعة آلاف سارت منها ستة في البر وباقيهم في الماء.
وأرسل عليّ بعد مسير الحسن وعمّار الأشتر إلى الكوفة فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى والحسن وعمّار في منازعة معه ومع الناس، فجعل الأشتر يمرّ بالقبائل ويدعوهم إلى القصر حتى انتهى إليه في جماعة الناس فدخله وأبو موسى بالمسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له اعتزل علمنا واترك منبرنا، فدخل الأشتر إلى القصر وأمر بإخراج غلمان أبي موسى بن القصر، وجاءه أبو موسى فصاح به الأشتر: أخرج لا أمّ لك وأجله تلك العشيّة. ودخل الناس لينهبوا متاعه فمنعهم الأشتر، ونفر الناس مع الحسن كما قلنا وكان الأمراء على أهل النفير على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وعلى قبائل قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن مجدوح الذهلي، وعلى مذحج والأشعريّين حجر بن عدي، وعلى بحيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، ورؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، ورؤساء النفار زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وأمثالهم. فقدموا على عليّ بذي قار، فركب إليهم ورحب بهم وقال: يا أهل الكوفة دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فهو الّذي نريد وإن يحلوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤنا بالظلم ولا ندع أمرا فيه الصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد ان شاء الله. فاجتمع الناس عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها وهم ألوف ينتظرونه ما بينه وبين البصرة، ثم دعا القعقاع وكان من الصحابة فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين فادعهما للالفة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: صاحبه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أعينوني.(2/614)
والجماعة وعظم عليهما الفرقة وقال له: كيف تصنع إذا قالوا ما لا وصاة مني فيه عندك؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهم ما لي عندنا منك رأيي فيه اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى انه ينبغي، قال: أنت لها.
فخرج القعقاع فقدم البصرة وبدأ بعائشة وقال: أي أمّة ما أشخصك؟ قالت:
أريد الإصلاح بين الناس، قال فابعثي الى طلحة والزبير تسمعي مني ومنهما، فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما: اني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح وكذلك قالا.
قال فأخبراني ما هو؟ قالا: قتلة عثمان! فإنّ تركهم ترك للقرآن، قال: فقد قتلتم منهم ستمائة من أهل البصرة وغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فان قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر وربيعة على حربكم فأين الإصلاح؟ قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال هذا الأمر دواؤه التسكين وإذا سكن اختلجوا فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء فنتعرّض له ويصرعنا وإياكم، فقالوا قد أصبت وأحسنت فارجع فان قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع وأخبر عليا فأعجبه وأشرف القوم على الصلح. وقد كانت وفود أهل البصرة أقبلوا إلى علي قبل رجوع القعقاع وتفاوضوا مع أهل الكوفة واتفقوا جميعا على الصلاح، ثم خطب عليّ الناس وأمرهم بالرحيل من الغد وأن لا يرحل معه أحد ممن أعان على عثمان. فاجتمع من أهل مصر ابن السوداء وخالد بن ملجم والأشتر والذين رضوا بمن سار إليه مثل علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى، وتشاوروا فيما قال عليّ وقالوا: هو أبصر بكتاب الله وأقرب إلى العمل به من أولئك وهو يقول ما يقول، وإنما معه الذين أعانوا على عثمان فكيف إذا اصطلحوا واجتمعوا ورأوا قلّتنا في كثرتهم. فقال الأشتر رأيهم والله فينا واحد وأن يصطلحوا فعلى دمائنا فهلموا نثب على طلحة نلحقه بعثمان ثم يرضى منا بالسكون، فقال ابن السوداء: طلحة وأصحابه نحو من خمسة آلاف وأنتم ألفان وخمسمائة فلا تجدون إلى ذلك سبيلا، وقال علباء بن الهيثم: اعتزلوا الفريقين حتى يأتيكم من تقومون به. فقال ابن السوداء: ودّ والله الناس لو انفردتم فيتخطفونكم، فقال عدي: والله ما رضيت ولا كرهت فاما إذ وقع ما وقع ونزل الناس بهذه المنزلة فان لنا خيلا وسلاحا. فإن أقدمتم أقدمنا وإن أحجمتم أحجمنا، ثم قال سالم بن ثعلبة وسويد بن أوفى: أبرموا أمركم. ثم تكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزّكم(2/615)
في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدا فانشبوا القتال فلا يجدون بدّا منه ويشغلهم الله عما تكرهون، وافترقوا على ذلك.
وأصبح عليّ راحلا حتى نزل على عبد القيس فانضموا اليه وساروا معه فنزل الزاوية، وسار من الزاوية إلى البصرة. وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة والتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد منتصف جمادى الآخرة، وتراسلت بكر بن وائل وعبد القيس وجاءوا إلى عليّ رضي الله عنه فكانوا معه، وأشار على الزبير بعض أصحابه أن يناجز القتال، فاعتذر بما وقع بينه وبين القعقاع. وطلب من عليّ رضي الله تعالى عنه أصحابه مثل ذلك فأبى وسئل ما حالنا وحالهم في القتلى؟ فقال: أرجو أن لا يقتل منّا ومنهم أحد نقي قلبه للَّه إلّا أدخله الله الجنة، ونهى عن قتالهم وبعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب إن كنتم على ما جاء به القعقاع فكفّوا حتى ننزل وننظر في الأمر، وجاءه الأحنف بن قيس وكان معتزلا عن القوم وقد كان بايع عليا بالمدينة بعد قتل عثمان مرجعه من الحج، قال الأحنف: ولم أبايعه حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وعثمان محصور وعلمت أنه مقتول فقلت لهم من أبايع بعده؟ قالوا عليّا فلما رجعت وقد قتل عثمان بايعت عليّا فلما جاءوا إلى البصرة دعوني إلى قتال عليّ فحرت في أمري بين خذلانهم أو خلع طاعتي، فقلت: ألم تأمروني بمبايعته؟ قالوا نعم لكنه بدّل وغير فقلت لا أنقض بيعتي ولا أقاتل أمّ المؤمنين، ولكن أعتزل، ونزل بالجلحاء على فرسخين من البصرة في زهاء ستة آلاف، فلما قدم عليّ جاءه وخيره بين القتال معه أو كف عشرة آلاف سيف عنه، فاختار الكفّ ونادى في تميم وبني سعد فأجابوه فاعتزل بهم حتى ظفر عليّ فرجع إليه واتبعه. ولما تراءى الجمعان خرج طلحة والزبير وجاءهم عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهم. فقال عليّ: لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما فهل من حديث أحلّ لكما دمي قال طلحة: ألّبت على عثمان! قال عليّ: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحقّ فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة. أما بايعتني؟
قال: والسيف على عنقي. ثم قال للزبير: أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقاتلّنه وأنت له ظالم؟ قال اللَّهمّ نعم ولو ذكرت قبل مسيري ما سرت.
وو الله لا أقاتلك أبدا وافترقوا. فقال عليّ لأصحابه: إنّ الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة وقال: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا(2/616)
أعرف أمري غير موطني هذا! قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال أدعهم وأذهب.
فقال له ابنه عبد الله: خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أن حامليها فتية أنجاد وأنّ تحتها الموت الأحمر فجنبت فأحفظه ذلك. وقال: حلفت. قال: كفّر عن يمينك فأعتق غلامه مكحولا. وقيل إنما أراد الرجوع عن القتال حين سمع ان عمّار بن ياسر مع عليّ لمّا ورد: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية.
وكان أهل البصرة على ثلاث فرق مفترقين مع هؤلاء وهؤلاء وثالثة اعتزلت كالأحنف ابن قيس وعمران بن حصين، ونزلت عائشة في الأزد ورأسهم صبرة بن شيمان، وأشار عليه كعب بن سور بالاعتزال فأبى وكان معها قبائل كثيرة من مضر والرباب وعليهم المنجاب بن راشد، وبنو عمرو بن تميم وعليهم أبو الجرباء، وبنو حنظلة وعليهم هلال بن وكيع وسليم وعليهم مجاشع بن مسعود، وبنو عامر وغطفان وعليهم زفر بن الحرث، والأزد وعليهم صبرة بن شيمان، وبكر وعليهم مالك بن مسمع، وبنو ناجية وعليهم الخرّيت بن راشد، وهم في نحو ثلاثين ألفا. وعليّ في عشرين ألفا.
والناس جميعا متنازلون مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، ولا يشكّون في الصلح وقد ردّوا حكيما ومالكا إلى علي: إنّا على ما فارقنا عليه القعقاع، وجاء ابن عبّاس إلى طلحة والزبير، ومحمد بن طلحة إلى عليّ وتقارب أمر الصلح وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشّر ليلة يتشاورون، واتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فغسلوا وما [1] يشعر بهم أحد، وقصد مضر الى مضر وربيعة إلى ربيعة ويمن الى يمن فوضعوا فيهم السلاح، وثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم. وبعث طلحة والزبير عبد الرحمن بن الحرث بن هشام الى الميمنة وهم ربيعة، وعبد الرحمن بن عتّاب إلى الميسرة، وركبا في القلب، وسألا [2] الناس ما هذا؟ فقالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا فقال طلحة والزبير إنّ عليّا لا ينتهي حتى يسفك الدماء. ثم دفعوا أولئك المقاتلين فسمع عليّ وأهل عسكره الصيحة، فقال ما هذا؟ فقيل له أظنّه سقط من هنا طرقنا أو نحوه السبئية بيتونا ليلا فرددتهم [3] فوجدنا القوم على أهبة فركبونا، وثار الناس وركب عليّ. وبعث الى الميمنة والميسرة صاحبها، وقال: إنّ طلحة والزبير لا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولم.
[2] وفي نسخة اخرى: وتساءل
[3] وفي نسخة اخرى: فرددناهم.(2/617)
ينتهيان حتى تسفك الدماء ونادى في الناس كفّوا، وكان رأيهم جميعا في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يقيموا الحجة ولا يقتلوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلّوا سلبا.
وأقبل كعب بن سور إلى عائشة وقال: قد أبى القوم إلّا القتال فلعل الله يصلح بك.
فأركبها وألبسوا هودجها الأدراع وأوقفوها بحيث تسمع الغوغاء، واقتتل الناس حتى انهزم أصحاب الجمل وذهب، وأصيب طلحة بسهم في رجله فدخل البصرة ودمه يسيل إلى أن مات. وذهب الزبير إلى وادي السباع لما ذكره عليّ، فمرّ بعسكر الأحنف واتّبعه عمرو بن الجرموز وكان يسائله حتى إذا قام إلى الصلاة قتله ورجع بفرسه وسلاحه وخاتمه إلى الأحنف فقال والله ما أدري أحسنت أم أسأت. فجاء ابن جرموز إلى عليّ وقال للحاجب: استأذن لقاتل الزبير فقال لحاجبه: ائذن له وبشّروه بالنار. ولما بلغت الهزيمة البصرة ورأوا الخيل أطافت بالجمل فرجعوا وشبت الحرب كما كانت. وقالت عائشة لكعب بن سور وناولته مصحفا: تقدّم فادعهم إليه واستقبل القوم فقتله السبئيّة رشقا بالسهم، ورموا عائشة في هودجها حتى جأرت بالاستغاثة ثم بالدعاء على قتلة عثمان، وضج الناس بالدعاء فقال عليّ ما هذا قالوا عائشة تدعوا على قتلة عثمان! فقال: اللَّهمّ العن قتلة عثمان. ثم أرسلت عائشة إلى الميمنة والميسرة وحرّضتهم، وتقدّم مضر الكوفة ومضر البصرة فاجتلدوا أمام الجمل حتى ضرسوا، وقتل زيد بن صوحان من أهل الكوفة وأخوه سيحان وارتث أخوهما صعصعة، وتزاحف الناس وتأخرت يمن الكوفة وربيعتها ثم عادوا فقتل على راياتهم عشرة. ثم أخذها يزيد بن قيس فثبت، وقتل تحت راية ربيعة زيد وعبد الله بن رقية وأبو عبيدة بن راشد بن سلمة، واشتدّ الأمر ولزقت ميمنة الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعت ميمنة هؤلاء ميسرة هؤلاء وميسرة هؤلاء ميمنة هؤلاء، وتنادى شجعان مضر من الجانبين بالصبر وقصدوا الأطراف يقطعونها، وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله، وقاتل عند الجمل الأزد ثم بنو ضبّه وبنو عبد مناة، وكثر القتل والقطع وصارت المجنبات إلى القلب واستحرّ القتل إلى الجمل حتى قتل على الخطام أربعون رجلا أو سبعون كلهم من قريش، فجرح عبد الله بن الزبير وقتل عبد الرحمن بن عتّاب وجندب بن زهير العامري وعبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش قتله الأشتر وأعانه فيه عدي بن حاتم، وقتل الأسود(2/618)
بن أبي البختري وهو آخذ بالخطام وبعده عمرو بن الأشرف الأزدي في ثلاثة عشر من أهل بيته وجرح مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة ما بين طعنة ورمية، ونادى عليّ اعقروا الجمل يتفرقوا، وضربه رجل فسقط فما كان صوت أشد عجيجا منه. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل فأخذها الصقعب أخوه فقتل ثم أخوهما عبد الله كذلك، فأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل ومعه زيد وسيحان ابنا صوحان وأخذها عدة فقتلوا منهم عبد الله بن رقية ثم منقذ بن النعمان، ودفعها الى ابنه مرّة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل [1] مع الحرث بن حسّان فقتل في خمسة من بني أهل ورجال من بني محدوج [2] وخمسة وثلاثين من بني ذهل.
وقيل في عقر الجمل: ان القعقاع دعا الأشتر وقد جاء من القتال عند الجمل إلى العود فلم يجبه، وحمل القعقاع والخطام بيد زفر بن الحرث فأصيب شيوخ من بني عامر، وقال القعقاع لبجير بن دجلة [3] من بني ضبّة وهو من أصحاب عليّ يا بجير صح بقومك يعقروا الجميل قبل أن يصابوا وتصاب أم المؤمنين، فضرب ساق البعير فوقع على شقّه، وأمّن [4] القعقاع من يليه واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه وهو كالقنفذ بالسهام، وفرّ من وراءه، وأمر عليّ فنودي لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور، وأمر بحمل الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبّة وأن ينظر هل بها جارحة فجاء يسألها. وقيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمّار فاحتملا الهودج إلى ناحية ليس قربة أحد وأتاها عليّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير قال:
يغفر الله لك. قالت: ولك. وجاء وجوه الناس إليها فيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها، وقالت له: وددت اني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وجاء إلى عليّ فقال له مثل قولها ولما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق البصرة،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بني هذيل.
[2] وفي نسخة اخرى: بني مخزوم.
[3] وفي النسخة الباريسية: ابن دجلة.
[4] وفي نسخة ثانية: أمر.(2/619)
فأقرّها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفيّة زوجه بنت الحرث بن أبي طلحة من بني عبد الدار أمّ طلحة الطلحات بن عبد الله، وتسلّل الجرحى من بين القتلى فدخلوا ليلا إلى البصرة وأذن عليّ في دفن القتلى فدفنوا بعد أن أطاف عليهم، ورأى كعب بن سور وعبد الرحمن بن عتّاب وطلحة بن عبيد الله وهو يقول: زعموا أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء مع أن هؤلاء فيهم. ثم صلّى على القتلى من الجانبين وأمر بالأطراف فدفنت في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من كل شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا عليه سمة السلطان. وأحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة الاف منهم من ضبّة ألف رجل.
ولما فرغ عليّ من الوقعة جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد فقال له: تربصت فقال ما أراني إلّا قد أحسنت وبأمرك كان ما كان، فارفق فانّ طريقك بعيد وأنت إليّ غدا أحوج منك أمس فلا تقل لي مثل هذا فاني لم أزل لك ناصحا. ثم دخل البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة فبايعه وعرض له في عمه زياد بأنه متربّص، فقال والله إنه لمريض وعلى مسرّتك لحريص. فقال: انهض أمامي فمضى فلما دخل عليه عليّ اعتذر فقبل عذره واعترض بالمرض قبل عذره، وأراده على البصرة فامتنع وقال: ولها رجلا من أهلك تسكن إليه الناس وسأشير عليه، وأشار بابن عبّاس فولاه، وجعل زيادا على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس بموافقته فيما يراه. ثم راح علي إلى عائشة في دار ابن خلف وكان عبد الله بن خلف قتل في الوقعة فأساءت أمه وبعض النسوة عليه، فأعرض عنهنّ وحرّضه بعض أصحابه عليهنّ فقال: إن النساء ضعيفات وكنا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات فكيف بهن مسلمات. ثم بلغه أنّ بعض الغوغاء عرض لعائشة بالقول والإساءة، فأمر من أحضر له بعضهم وأوجعهم ضربا، ثم جهّزها عليّ إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعثها مع أخيها محمد مع أربعين من نسوة البصرة اختارهن لمرافقتها، وأذن للفل ممن خرج عنها أن يرجعوا معها، ثم جاء يوم ارتحالها فودّعها واستعتبت له واستعتب لها، ومشى معها أميالا وشيّعها بنوه مسافة يوم، وذلك غرّة رجب، فذهبت إلى مكة فقضت الحج ورجعت إلى المدينة. ورجع [1]
__________
[1] وفي نسخة اخرى: وخرج.(2/620)
بنو أمية من الفل ناجين الى الشام، فعتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن [1] ويحيى أخوا مروان خلصوا إلى عصمة بن أبير التميمي إلى أن اندملت جراحهم، ثم بعثهم إلى الشام. وأمّا عبد الله بن عامر فخلص إلى بني حرقوص ومضى من هنالك، وأما مروان بن الحكم فأجاره أيضا مالك بن مسمع وبعثه وقيل كان مع عائشة فلما ذهبت إلى مكرة فارقها الى المدينة، وأما ابن الزبير فاختفى بدار بعض الأزد وبعث إلى عائشة يعلمها بمكانه فأرسلت أخاها محمدا وجاء إليها به.
ثم قسم عليّ جميع ما في بيت المال على من شهد معه، وكان يزيد على ستمائة ألف فأصاب كل رجل خمسمائة، وقال: ان أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم. فخاض السبئيّة في الطعن عليه بذلك وبتحريم أموالهم مع اراقة دمائهم، ورحلوا عنه فأعجلوه عن المقام بالبصرة، وارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه.
وقد قيل في سياق أمر الجمل غير هذا، هو أنّ عليّا لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى ليستنفر له أهل الكوفة وامتنع. سار هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص إلى عليّ بالربذة فأخبره فأعاده إليه يقول له: إني لم أولّك إلّا لتكون من أعواني على الحق، فامتنع أبو موسى وكتب إليه هاشم مع المحل بن خليفة الطائي، فبعث علي ابنه الحسن وعمّار بن ياسر يستنفران كما مرّ. وبعث قرظة [2] بن كعب الأنصاري أميرا وبعث إليه: إني قد بعثت الحسن وعمّارا يستنفران الناس وبعثت قرظة بن كعب واليا على الكوفة فاعتزل عملنا مذموما مدحورا وان لم تفعل فقد أمرته أن ينابذك وإن ظفر بك أن يقطعك إربا إربا وانّ الناس تواقفوا للقتال، وأمر عليّ من يتقدّم بالمصحف يدعوهم إلى ما فيه وان قطع وقتل وحمله بعض الناس وفعل ذلك فقتل.
وحملت ميمنتهم [3] على ميسرتهم فاقتتلوا ولاذ الناس بجمل عائشة أكثرهم من ضبّة والأزد ثم انهزموا آخر النهار، واستحرّ في الأزد القتل وحمل عمّار على الزبير يحوزه بالرمح ثم استلان له وتركه، وألقى عبد الله بن الزبير نفسه مع الجرحى. وعقر الجمل واحتمل عائشة أخوها محمد فأنزلها وضرب عليها قبة ووقف عليها عليّ يعاتبها، فقالت
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[2] وفي النسخة الباريسية: قرطه.
[3] يعني ميمنة عليّ (رضي الله عنه)(2/621)
له ملكت فأسجح [1] نعم ما أبكيت قومك اليوم، فسرّحها في جماعة رجال ونساء الى المدينة وجهزها بما تحتاج إليه. هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبريّ اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين. وقتل يوم الجمل عبد الرحمن أخوه طلحة من الصحابة والمحرز بن حارثة العبشمي وكان عمر ولّاه على أهل مكّة، ومجاشع ومجالد ابنا مسعود مع عائشة.
وعبد الله بن حكيم بن حزام وهند بن أبي هالة وهو ابن خديجة قتل مع عليّ وقيل بالبصرة وغيرهم. انتهى أمر الجمل.
ولما فرغ الناس من هذه الوقعة اجتمع صعاليك من العرب وعليهم جبلة بن عتاب الحنظليّ وعمران بن الفضيل ابرجميّ، وقصدوا سجستان وقد نكث أهلها، وبعث عليّ إليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه، فكتب إلى عبد الله بن عبّاس أن يبعث إلى سجستان واليا، فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف ومعه الحصين بن أبي الحرّ فقتل جبلة وانهزموا وضبط ربعي البلاد واستقامت.
انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله
لما قتل أبو حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمدا في كفالة عثمان وأحسن تربيته وسكر في بعض الأيام فجلده عثمان، ثم تنسك وأقبل على العبادة وطلب الولاية من عثمان، فقال: لست بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر فأذن له وجهزه ولزمه الناس وعظّموه لما رأوا من عبادته، ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مرّ، فكان يتعرّض له بالقدح فيه وفي عثمان بتوليته ويجتمع في ذلك مع محمد بن أبي بكر، وشكاهما ابن أبي سرح إلي عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذلك بعائشة وهذا لتربيته. وبعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم وحمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد، وقال: يا معشر المسلمين كيف أخادع عن ديني وآخذ الرشوة عليه. فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم، وكتب إليه عثمان يذكّره بحقوقه عليه فلم يردّه ذلك. وما زال يحرّض الناس عليه حتى خرجوا لحصاره وأقام هو بمصر، وخرج ابن أبي سرح إلى عثمان
__________
[1] اي أحسن العفو أهـ. وفي النسخة الباريسية: ملكت فاسمح.(2/622)
فاستولى هو على مصر وضبطها إلى أن قتل عثمان وبويع عليّ وبايع عمرو بن العاص لمعاوية، وسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدعا محمد حتى خرج إلى العريش فتحصن بها في ألف رجل، فحاصراه حتى نزل على حكمهم فقتلوه.
وفي هذا الخبر بعض الهون لأنّ الصحيح أنّ عمرا ملك مصر بعد صفّين، وقيس ولاه عليّ لأول بيعته، وقد قيل ان ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر وضبطها، وأقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان وبيعة علي وتوليته قيس بن سعد على مصر، فأقام بمعاوية. وقيل إنّ عمرا سار إلى مصر بعد صفّين فبرز إليه ابن أبي حذيفة في العساكر وخادعه في الرجوع إلى بيعة عليّ، وأن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود، ورجع إلى معاوية عمرو فأخبره، ثم جاء إلى ميعاده بالعريش وقد استعدّ بالجنود وأكمنهم خلفه حتى إذا التقيا طلعوا على أثره فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحصن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو. وبعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فرّ من محبسه فقتل، وقيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر وأنّه أمّنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين.
ولاية قيس بن سعد على مصر
كان عليّ قد بعث إلى مصر لأوّل بيعته قيس بن سعد أميرا في صفر من سنة ست وثلاثين وأذن له في الإكثار من الجنود وأوصاه فقال له: لو كنت لا أدخلها إلّا بجند آتي بهم من المدينة لا أدخلها أبدا فانا أدع لك الجند تبعثهم في وجوهك، وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر وقرأ عليهم كتابا يعلمهم بمبايعته وطاعته وأنّه أميرهم، ثم خطب فقال بعد أن حمدا للَّه: أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله. فبايعه الناس واستقامت مصر، وبعث عليها عمّاله إلّا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان، مثل يزيد بن الحرث ومسلمة بن مخلد، فهادنهم وجبى الخراج وانقضى أمر الجمل وهو بمصر.
وخشي معاوية أن يسير إليه عليّ في أهل العراق وقيس من ورائه في أهل مصر.
فكتب إليه يعظم قتل عثمان ويطوّقه عليّا ويحضّه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله، يولّي من أراد من أهله الحجاز(2/623)
كذلك، ويعطيه ما شاء من الأموال. فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة، فكتب إليه: «أما بعد فإنّي لم أقارف [1] شيئا مما ذكرته وما اطلعت لصاحبي علي شيء منه. وأمّا متابعتك فانظر فيها وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى وترى» . فكتب إليه معاوية:
«إنّي لم أرك تدنو فأعدّك سلما ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل والسلام» . فعلم قيس أنّ المدافعة لا تنفع معه فأظهر له ما في نفسه، وكتب إليه بالرّد القبيح والشتم والتصريح بفضل عليّ والوعيد، فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل علي، فأشاع في الناس أن قيسا شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق، فأبلغ ذلك إلى عليّ محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وعيونه بالشام فأعظم ذلك، وفاوض فيه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، فقال له عبد الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر. ثم جاء كتابه بالكفّ عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر: مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة. فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأيا وقال: متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوّك وهم الآن معتزلون والرأى تركهم. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر، وكان أخاه لأمه، واعزل قيسا فبعثه.
وقيل بعث قبل الأشتر النخعيّ، ومات بالطريق، فبعث محمد ولما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضبا إلى المدينة وكان عليها مروان بن الحكم فأخافه، فخرج هو وسهل بن حنيف إلى عليّ. وكتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو أمددت عليّا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عليّ من قيس بن سعد.
ولما قدم قيس على عليّ وكشف له عن وجه الخبر قبل عذره وأطاعه في أمره كله، وقدم محمد مصر فقرأ كتاب عليّ على الناس وخطبهم [2] ، ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم. ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا. فقالوا:
دعنا حتى ننظر. وأخذوا حذرهم، ولما انقضت صفّين وصار الأمر إلى التحكيم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لم أفارق.
[2] وفي النسخة الباريسية: خاطبهم.(2/624)
بارزوه وبعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه.
مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن بها هاربا مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله، فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء، حتى أتى دمشق فبلغه بيعة عليّ، فاشتدّ عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس، ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمّل فرجا من أمره، ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره. وسمع أنّ معاوية بالشام لا يبايع عليّا وأنّه يعظّم قتل عثمان، فاستشار ابنيه في المسير إليه، فقال له ابنه عبد الله توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس. وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت. فقال: يا عبد الله أمرتني بما هو خير لي في ديني، ويا محمد أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان، فقال: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. فأعرض معاوية قليلا، ثم رجع إليه وشركه في سلطانه.
أمر صفين
لما رجع عليّ بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعا على قصد الشام، بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان وإلى الأشعث بن قيس بآذربيجان وهما من عمّال عثمان بأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده، فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته ونكث طلحة والزبير وحزبهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا قدم عليه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان واتهامهم عليّا به، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوّثا بالدم كما قدّمناه وبأصابع زوجته نائلة، وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه، فمكث الناس يبكون مدّة وأقسموا ألّا يمسهم ماء إلّا لجنابة ولا يناموا على فراش حتى يثأروا لعثمان ومن حال دون ذلك قتلوه. فرجع جرير بذلك إلى عليّ وعذله الأشتر في بعث(2/625)
جرير وأنّه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم [1] ، فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسياء واستقدمه معاوية فقدم عليه. وقيل أن شرحبيل بن السمط الكندي أشار على معاوية بردّ جرير لأجل منافسة كانت بينهما منذ أيام عمر، وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقرّبه سعد وقدّمه ونافسه له أشعث بن قيس، فأوصى جريرا عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده، ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير، فلما جاء الى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان.
ثم خرج عليّ وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وقدم عليه عبد الله بن عبّاس في أهل البصرة، وتجهّز معاوية وأغراه عمرو بقلّة عسكر عليّ واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم، وعبّى معاوية أهل الشام وعقد لعمرو ولا بنيه وغلامه وردان الألوية. وبعث عليّ في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف وشريح بن هانئ في أربعة آلاف، وسار من النخيلة إلى المدائن واستنفر من كان بها من المقاتلة وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرّقة. وولّي عليّ على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، وسار فلما وصل إلى الرّقة نصب له جسر فعبر وجاء زياد وشريح من ورائه، وكانا سمعا بمسير معاوية وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين عليّ البحر ورجعا إلى هيت وعبر الفرات، ولحقا بعلي فقدّمهما امامه، فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه وبعثا إلى عليّ فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهم على مجنبتيه، وقال: لا تقاتلهم حتى آتيك. وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشيّ فاقتتلوا ساعة وافترقوا، ثم خرج من الغداة وخرج إليه من أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال واقتتلوا عامة يومهم. وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعيّ إلي أبي الأعور السلميّ يدعوه إلى البراز فأبي وحجز بينهم الليل، ووافاهم من الغد عليّ وعساكره، فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به عليّ. وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكى الناس إلى عليّ العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية: «بأنّا سرنا ونحن عازمون على الكفّ عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال ونحن رأينا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من ورائهم.(2/626)
الكفّ حتى ندعوك ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلّون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم وان أردت القتال حتى يشرب الغالب فعلنا» . فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم، وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء، وعرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة ورجع، وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء وجاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جدّ خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده، وأمر عليّ الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب عليّ وملكوا الماء عليهم، وأرادوا منعهم منه فنهاهم عليّ عن ذلك.
وأقام يومين ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبث بن ربعي التميمي، يدعونه إلى الطاعة وذلك أوّل ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فدخلوا عليه وتكلّم بشير بن عمرو بعد حمدا للَّه والثناء عليه والموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرّق الجماعة ولا يسفيك الدماء، فقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك. فقال بشير: ليس مثلك أحق بالأمر بالسابقة والقرابة.
قال: فما رأيك؟ قال: تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق، قال معاوية: ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبدا! ثم قال شبث بن ربعي: يا معاوية إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء العظام الى طاعتك، ولقد علمنا أنك أبطات على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. فأجابه معاوية وأبدع في سبّه وقال: انصرفوا فليس بيني وبينكم إلّا السيف. فقال له شبث: أقسم باللَّه لنعجلها [1] لك. ورجعوا إلى عليّ بالخبر.
وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذرا من الاستئصال والهلاك. ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعا في الصلح، وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة [2] ، فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة عليّ ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك ومن معك واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل. فقال معاوية:
__________
[1] وفي نسخة اخرى: لنجعلنها لك.
[2] وفي نسخة اخرى: زياد بن حفصة.(2/627)
كأنك جئت مهدّدا لا مصلحا هيهات يا عدي أنا ابن حرب والله ما يقعقع لي بالشنان وأنّك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به. فقال له يزيد بن قيس: إنما أتيناك رسلا ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الالفة والجماعة وذكر من فضل عليّ واستحقاقه للأمر بتقواه وزهده. فقال معاوية بعد الحمد والثناء: أمّا الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا وأمّا طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا وآوى أهل ثأرنا ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان. فقال شبث بن ربعي: أيسرّك يا معاوية أن تقتل عمّارا؟ قال: نعم بمولاه. قال شبث: حتى تضيق الأرض والفضاء عليك. فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق.
وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن خصفة وشكى إليه من عليّ وسأله النصر منه بعشيرته وأن يولّيه أحد المصرين، فأبى وقال: إني على بيّنة من ربي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقام عنه فقال معاوية لعمرو: كأنّ قلوبهم قلب رجل واحد.
ثم بعث معاوية إلى عليّ حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه، فتكلّم حبيب بعد الحمد للَّه والثناء فقال: إنّ عثمان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولّوا من أجمعوا عليه. فقال عليّ: ما أنت وهذا الأمر؟ فاسكت فلست بأهل له، فقال والله لتراني بحيث تكره، فقال: وما أنت لا أبقى الله عليك ان أبقيت اذهب فصوّب وصعد، ثم تكلّم بعد الحمد للَّه والثناء وهداية الناس بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا ونحن أقرب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن سمحنا لهما [1] بذلك، وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه، ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم، ونكث عليّ رجلان وخالف صاحبكم الّذي ليس له مثل سابقتي، والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيّكم ولا ينبغي لكم ذلك، وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنّة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق» فقالوا:
نشهد أن عثمان قتل مظلوما، فقال: لا أقول مظلوما ولا ظالما. قالوا: فمن لم يقل ذلك فنحن منه برآء وانصرفوا. فقرأ عليّ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى 27: 80 الآية ثم، قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في ضلالهم أجدّ منكم في حقّكم.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: سامحناهما.(2/628)
ثم تنازع عدي بن حاتم في راية طيِّئ وعامر بن قيس الحزمري [1] وكان رهطه أكثر من رهط عدي، فقال عبد الله بن خليفة البولاني: ما فينا أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي وهو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس طيِّئ في النخيلة والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند وتستر، وسأل عليّ قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعديّ. ولما انسلخ المحرّم نادى عليّ في الناس بالقتال وعبّى الكتائب وقال: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا ولا تأخذوا مالا ولا تهيّجوا امرأة وإن شتمتكم فإنّهنّ ضعاف الأنفس والقوى، ثم حرّضهم ودعا لهم وجعل الأشتر على خيل الكوفة وسهل بن حنيف على خيل البصرة وقيس بن سعد على رجالة البصرة وعمّار بن ياسر على رجّالة الكوفة وهاشم بن عتبة معه الراية ومسعر بن فدكي على القرّاء، وعبّى معاوية كتائبه فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة، وعلى المقدّمة أبا الأعور وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجّالتها مسلم بن عقبة المرّي. وعلى الناس كلهم الضحّاك بن قيس. وتبايع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم في خمسة صفوف فاقتتلوا عامة يومهم، وفي اليوم الثاني هاشم بن عتبة وأبو الأعور السلميّ، وفي اليوم الثالث عمّار بن ياسر وعمرو بن العاص فاقتتلوا أشدّ قتال وحمل عمّار فأزال عمرا عن موضعه، وفي اليوم الرابع محمد بن الحنفيّة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وتداعيا إلى البراز فرد عليّ ابنه وتراجعوا، وفي اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك، ثم عاد في اليوم السادس الأشتر وحبيب فاقتتلا قتالا شديدا وانصرفا.
وخطب عليّ الناس عشيّة يومه [2] وأمرهم بمناهضة القوم بأجمعهم وأن يطيلوا ليلتهم القيام، ويكثروا التلاوة ويدعو الله بالنصر والصبر، ويرموا [3] غدا في لقائهم بالجدّ والحزم. فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم، وعبّى عليّ الناس ليلته إلى الصباح، وزحف وسأل عن القبائل من أهل الشام وعرف مواقفهم وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، ومن ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الجرموزي.
[2] وفي نسخة اخرى: عشية يومهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: ويدنو في الكامل: القوهم.(2/629)
بالعراق مثل بجيلة صرفهم الى لخم. وخرج معاوية في أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالا شديدا عامة يومهم ثم انصرفوا، وغلس عليّ يوم الخميس بالزحف وعلى ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء وعلى ميسرته عبد الله بن عبّاس والقرّاء مع عمّار وقيس بن سعد وعبد الله بن يزيد والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليّ في القلب بين أهل الكوفة والبصرة ومعه أهل البصرة والكوفة ومعه أهل المدينة من الأنصار وخزاعة وكنانة.
ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق [1] وزحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر وهو يحرّض أصحابه. ثم كشف خيلهم واضطرهم إلى قبة معاوية، وجاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق فانجفل الناس عن ابن بديل إلا ثلاثمائة أو مائتين من القرّاء وانتهت الهزيمة إلى عليّ، وأمدّه عليّ بسهل بن حنيف في أهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم، ثم انكشفت مضر من الميسرة وثبتت ربيعة وجاء عليّ يمشي نحوهم فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر، فتناول عليّ أحمر من درعه فجذبه وضرب به الأرض وكسر منكبيه وعضديه، ثم دنا من ربيعة فصبّرهم وثبّت أقدامهم وتنادوا بينهم إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب، وكان الأشتر مرّ به راكضا نحو الميمنة واستقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة عليّ: أين فراركم من الموت الّذي لا تعجزوه [2] إلى الحياة التي لا تبقى لكم، ثم نادى أنا الأشتر فرجع إليه بعضهم فنادى مذحجا وحرّضهم فأجابوه، وقصد القوم واستقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها وكان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيسا وأصيب منهم ثمانون ومائة وزحف الأشتر نحو الميمنة، وتراجع الناس واشتدّ القتال حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية عند الاصفرار وانتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء قد لصقوا بالأرض، فانكشفوا عنهم أهل الشام وأبصروا إخوانهم وسألوا عن عليّ فقيل لهم هو في الميسرة يقاتل، فقال ابن بديل استقدموا بنا ونهاه الأشتر فأبى ومضى نحو معاوية وحوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأحاط نفسه بخيل دمشق.
[2] الصحيح ان تقول: لا تعجزونه.(2/630)
الى معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به فقتل وقتل من أصحابه ناس ورجع آخرون مجرّمين [1] وأهل الشام في اتباعهم، فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه وزحف الأشتر في همذان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركبه، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمّار فقاتلوا، وتقدّم عقبة بن حديد النميري مستميتا ومعه إخوته وقاتلوا حتى قتلوا، وتقدّم شمر بن ذي الجوشن مبارزا فضرب أدهم بن محرز الباهليّ وجهه بالسيف وحمل هو على أدهم فقتله، وحمل قيس بن المكشوح [2] ومعه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك.
ولما رأى عليّ أهل ميمنة أصحابه قد عادوا إلى مواقفهم وكشفوا العدوّ قبالتهم أقبل إليهم وعذلهم بعض الشيء عن مفرّهم وأثنى على وجوههم، وقاتل الناس قتالا شديدا وتبارز الشجعان من كل جانب وأقبلت قبائل طيِّئ والنخع وخرجت حمير من ميمنة أهل الشام، وتقدّم ذو الكلاع ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق وعليهم ابن عبّاس وحملوا عليهم حملة شديدة فثبت ربيعة وأهل الحفاظ منهم وانهزم الضعفاء والفشلة، ثم رجعوا ولحقت بهم عبد القيس وحملوا على حمير فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر وأخذ سيف ذي الكلاع وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتله. ثم خرج عمّار بن ياسر وقال اللَّهمّ اني لا أعمل اليوم عملا أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ثم نادى من سعى في رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال: «اقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان يخادعون بذلك عمّا في نفوسهم من الباطل» ، ثم مضى فلا يمرّ بواد من صفّين الا اتبعه من هناك من الصحابة. ثم جاء الى هاشم بن عتبة وكان صاحب الراية فأنهضه حتى دنا من عمرو بن العاص وقال: يا عمرو بعت دينك بمصر؟ تبّا لك فقال: إنما أطلب دم عثمان، فقال: أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمّار تقتله الفئة الباغية.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: مجروحون.
[2] المكشوح لقب واسمه هبيرة أهـ.(2/631)
ولما قتل عمّار حمل عليّ وحمل معه ربيعة ومضر وهمذان حملة منكرة فلم يبق لأهل الشام صف إلّا انتقض حتى بلغوا معاوية فناداه عليّ: علام يقتل الناس بيننا هلمّ أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر، فقال له عمرو: أنصفك.
فقال له معاوية: لكنك ما أنصفت. وأسر يومئذ جماعة من أصحاب عليّ فترك سبيلهم، وكذلك فعل عليّ، ومرّ عليّ بكتيبة من الشام قد ثبتوا فبعث إليهم محمد ابن الحنفية فازالهم عن مواقفهم، وصرح عبد الله بن كعب المرادي فمرّ به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله والقتال مع عليّ، وقال أبلغه عني السلام، وقال له قاتل على [1] المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره فإنه العالي.
ثم اقتتل الناس إلى الصباح وهي ليلة الجمعة وتسمّي ليلة الهرير، وعليّ يسير بين الصفوف ويحرّض كل كتيبة على التقدّم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عبّاس في الميسرة والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة. ثم ركب الأشتر ودعا الناس إلى الحملة على أهل الشام فحمل حتى انتهى إلى عسكرهم وقتل صاحب رايتهم، وأمدّه عليّ بالرجال، فلما رأى عمرو شدّة أهل العراق وخاف على أصحابه الهلاك، قال لمعاوية: مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن قبلوا ذلك ارتفع عنّا القتال وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة. ففعلوا ذلك، فقال الناس: نجيب إلى كتاب الله فقال لهم عليّ: «يا عباد الله امضوا على حقكم وقتال عدوّكم فإنّ معاوية وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلّا مكيدة وخديعة» . فقالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل، فقال: إنما قتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنّهم نبذوه. فقال له مسعر بن فدك التميميّ وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليّ أجب الى كتاب الله وإلّا دفعنا برمتك إلى القوم. أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفّان. فقال:
إن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر وكفّه عن القتال، فبعث إليه يزيد بن هانئ بذلك فأبى، وقال:، قد رجوت أن يفتح
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عن المعركة.(2/632)
الله لي فلما جاء يزيد بذلك ارتج الموقف باللغط، وقالوا لعليّ: ما نراك إلا أمرته بقتال فابعث إليه فليأتك وإلّا اعتزلناك، فقال عليّ: ويحك يا يزيد قل له أقبل إليّ فان الفتنة قد رفعت، فقال: ألرفع المصاحف؟ فقال: نعم قال: لقد ظننت أن ذلك يوقع فرقة كيف ندع هؤلاء وننصرف والفتح قد وقع، فقال يزيد: تحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلى عدوّه أو يقتل، ثم أقبل إليهم الأشتر وأطال عتبهم، وقال امهلوني فواقا فقد أحسست بالفتح، فأبوا فعذلهم وأطال في عذلهم، فقالوا دعنا يا أشتر قاتلناهم الله، فقال: بل خدعتم فانخدعتم. ثم كثرت الملاحاة بينهم وتشاتموا فصاح بهم عليّ فكفّوا، فقال له الأشعث بن قيس: إنّ الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية وسألته ما يريد. قال: افعل.
فأتاه وسأله: لأيّ شيء رفعتم المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به من كتابه تبعثون رجلا ترضونه، ونحن آخر ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه. ثم نتبع ما اتفقا عليه، فقال الأشعث هذا الحق ورجع إلى عليّ والناس وأخبرهم، فقال الناس رضينا وقبلنا، ورضي أهل الشام عمرا، وقال الأشعث وأولئك القرّاء الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي موسى، فقال عليّ لا أرضاه فقال الأشعث ويزيد بن الحصين [1] ومسعر بن فدك: لا نرضي إلّا به. قال فإنه ليس ثقة قد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمّنته بعد شهر، قالوا لا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، قال فالأشتر، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما بدا لكم. فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال، فقيل إنّ الناس قد اصطلحوا، فحمد الله، قيل وقد جعلوك حكما فاسترجع، وجاء أبو موسى إلى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من عليّ أن يجعله مع أبي موسى، فأبى الناس من ذلك وحضر عمرو بن العاص عند عليّ لتكتب القضية بحضوره، فكتبوا بعد البسملة هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال: عمرو ليس هو بأميرنا، فقال له الأحنف: لا تمحها فاني أتطير بمحوها فمكث مليّا، ثم قال الأشعث: امحها.
فقال عليّ: الله أكبر وذكر قصة الحديبيّة وفيها أنّك ستدعى إلى مثلها فتجيبها، فقال عمرو: وسبحان الله نشبه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال عليّ: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدّوا، فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: زيد بن الحصن.(2/633)
مجلس بعد اليوم، فقال عليّ: أرجو أن يظهر الله مجلسي منك ومن أشباهك.
وكتب الكتاب: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم ومعاوية على أهل الشام ومن معهم أنّا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله. وهما أبو موسى عبد الله ابن قيس وعمرو بن العاص وما لم يجدا في كتب الله فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الّذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا، وأجلّاء القضاء إلى رمضان وإن أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه وأنّ مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام» . وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام وضعوا خطوطهم في الصحيفة، وأبى الأشتر أن يكتب اسمه فيها وحاوره الأشعث في ذلك فأساء الردّ عليه وتهدّده. وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين. واتفقوا على أن يوافي عليّ موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرح في شهر رمضان، ثم جاء بعض الناس إلى عليّ يحضّه على قتال القوم فقال:
لا يصلح الرجوع بعد الرضى ولا التبديل بعد الإقرار.
ثم رجع الناس عن صفّين ورجع علي، وخالفت الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال ورجعوا على غير الطريق الّذي جاءوا فيه حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، ومرّ عليّ بقبر خباب بن الأرت توفي بعد خروجه فوقف واسترحم له، ثم دخل الكوفة فسمع رجة البكاء في الدور فقال يبكين على القتلى فترحم لهم، ولم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلم تدخل الخوارج معه وأتوا حرورا فنزلوا بها في اثني عشر ألفا، وقدّموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال وعبيد الله بن الكوّاء اليشكري أمير الصلاة، قالوا البيعة للَّه عزّ وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر شورى بعد الفتح. فقالوا للناس بايعتم عليّا إنّكم أولياء من والى وأعداء من عادى، وبايع أهل الشام معاوية على ما أحب وكرهوا فلستم جميعا من الحق في شيء، فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بايعناه إلا على الكتاب والسنّة لكن لما خالفتموه تعيّنتم للضلال وتعيّنا للحق. ثم بعث عليّ عبد الله بن عبّاس إليهم قوال لا تراجعهم حتى آتيك فلم يصبر عن(2/634)
مكالمتهم، وقال: ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة فقالوا لا يكون هذا بالرأي والقياس فإنّ ذلك جعله الله حكما للعباد وهذا أمضاه كما أمضى حكم الزاني والسارق. قال ابن عباس: قال الله تعالى يَحْكُمُ به ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ 5: 95، قالوا والأخرى كذلك وليس أمر الصيد والزوجين كدماء المسلمين. ثم قالوا له: قد كنّا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص فان كان عدلا فعلى ما قتلناه وان لم يكن عدلا فكيف يسوغ تحكيمه؟ وأنتم قد حكمتم الرجال في أمر معاوية وأصحابه والله تعالى قد امضى حكمه فيهم أن يقتلوا أو يرجعوا وجعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة.
ثم جاء عليّ إلى فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في رأيهم، فصلّى عنده ركعتين وولّاه على أصبهان والريّ، ثم خرج إليهم وهم في مجلس ابن عبّاس فقال من زعيمكم قالوا: ابن الكوّاء قال: فما هذا الخروج؟ قالوا لحكومتكم يوم صفين، قال أنشدكم الله أتعلمون أنّه لم يكن رأيي وإنما كان رأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن فان فعلا فلا ضير وإنّ خالفا فلا خير ونحن برآء من حكمهم، قالوا فتحكيم الرجال في الدماء عدل؟ قال إنّما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال، قالوا: فلم جعلتم الأجل بينكم؟ قال لعلّ الله يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه، وقال ادخلوا مصركم فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال ويسمن الكراع ثم نخرج الى عدوّنا فدخلوا من عند آخرهم.
أمر الحكمين
ولما انقضى الأجل وحان وقت الحكمين بعث عليّ أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي ومعهم عبد الله بن عبّاس يصلى بهم، وأوصى شريحا بموعظة عمر، فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة عليّ وأعتدّ برأيه؟ قال وما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين، وأساء الرّد عليه فسكت عنه. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل، فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عبّاس، حتى لم يكونوا يسألوه عن كتاب معاوية إذا جاءه، ويسأل أهل العراق ابن عبّاس ويتهمونه، وحضر مع الحكمين:(2/635)
عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن ابن الحرث بن هشام، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة العدويّ، والمغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقّاص على خلاف فيه، وقيل قدم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس.
ولما اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى: أتعلم أنّ عثمان قتل مظلوما وأنّ معاوية وقومه أولياؤه، قال: بلى، قال: فما يمنعك منه وهو في قريش كما علمت وإن قصّرت به السابقة قدّمه حسن السياسة وأنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه وصاحبه والطالب بدم عثمان وعرّض بالولاية، فقال أبو موسى: يا عمرو اتّق الله واعلم أنّ هذا الأمر ليس بالشرف وإلّا لكان لآل أبرهة بن الصبّاح وإنّما هو بالدين والفضل مع أنّه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب وما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان وأوليه وأدع المهاجرين الأوّلين. وأما تعرضيك بالولاية فلو خرج لي معاوية عن سلطانه ما وليته وما أرتشي في حكم الله، ثم دعاه إلى تولية عبد الله بن عمر، فقال له عمرو: فما يمنعك من ابني وهو من علمت؟ فقال: هو رجل صدق ولكنك غمسته في الفتنة، فقال عمرو: إنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لرجل له ضرس يأكل ويطعم. وكانت في ابن عمر غفلة وكان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال: فقال ابن عمر: لا أرشو عليها أبدا. ثم قال أبو موسى: يا ابن العاص إنّ العرب أسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف فلا تردّنهم في فتنة، قال له:
فخبّرني ما رأيك، قال: أرى أن نخلع الرجلين ونجعل الأمر شورى يختار المسلمون لأنفسهم. فقال عمرو: والرأي ما رأيت.
ثم أقبلوا على الناس وهم ينتظرونهم، وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه في الكلام لما له من الصحبة والسنّ، فقال: يا أبا موسى أعلمهم أنّ رأينا قد اتفق، فقال: إنّا رأينا أمرا نرجو الله أن يصلح به الأمة، فقال له ابن عبّاس: ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك، فأبى وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه وهو أن نخلع علينا ومعاوية ويولّي الناس أمرهم من أحبّوا وإني قد خلعتهما فولوا من رأيتموه أهلا، فقال عمرو: إنّ هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه وأثبتّ معاوية فهو ولّي ابن عفّان وأحق الناس بمقامه. ثم غدا ابن عبّاس وسعد على أبي موسى بالأئمة فقال: ما أصنع غدرني ورجع بالأئمة على(2/636)
عمرو وقال لا وفقك الله غدرت وفجرت. وحمل شريح على عمرو فضربه بالسيف [1] وضربه ابن عمر كذلك، وحجز الناس بينهم، فلحق أبو موسى بمكّة وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عبّاس وشريح إلى عليّ بالخبر فكان يقنت إذا صلّى الغداة ويقول اللَّهمّ العن معاوية وعمرا وحبيبا وعبد الرحمن بن مخلد والضحّاك بن قيس والوليد وأبا الأعور، وبلغ ذلك معاوية فكان إذا اقنت يلعن عليّا وابن عبّاس والحسن والحسين والأشتر [2] .
أمر الخوارج وقتالهم
ولما اعتزم عليّ أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعديّ من الخوارج وقالا له: تب من خطيئتك وارجع عن قضيّتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، وقال عليّ: قد كتبنا بيننا وبينهم كتابا وعاهدناهم، فقال حرقوص: ذلك ذنب تنبغي التوبة منه، فقال عليّ: ليس بذنب ولكنه عجز من الرأي، فقال زرعة: لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله، فقال عليّ: بؤسا لك كأني بك قتيلا تسفى عليك الرياح، قال: وددت لو كان ذلك.
وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلّا للَّه، وخطب عليّ يوما فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة، فقال عليّ: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، وخطب ثانيا فقالوا كذلك، فقال: أما آن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا الفيء ما دمتم معنا ولا نقاتلكم حتى تبدءونا وننتظر فيكم أمر الله. ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي [3] فوعظهم وحرّضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع، وتبعه حرقوص بن زهير في المقالة، فقال حمزة بن سنان الأسدي [4] : الرأي ما رأيتم لكن لا بدّ لكم من أمير وراية، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي، ثم حرقوص بن زهير، ثم حمزة بن سنان، ثم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بالسوط.
[2] قال ابن كثير في تاريخه: ان هذا لم يصحّ أهـ ولعلّ الدعاء كان لغير اللعن. قاله نصر.
[3] وفي النسخة الباريسية: عبد الله بن وهيب الراسي.
[4] وفي نسخة اخرى: حمزة بن سنان الأزديّ.(2/637)
شريح بن أوفى العنسيّ فأبوا كلّهم. ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوّال، وكان يقال له ذو الثفنات. ثم اجتمعوا في منزل شريح وتشاوروا. وكتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحشدهم [1] على اللحاق بهم، ولما اعتزموا على السير تعبدوا ليلة الجمعة ويومها ساروا، فخرج معهم طرفة بن عديّ بن حاتم الطائيّ، واتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدر عليه فرجع ولقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسا وأراد قتله فمنعه من كان معه من طيِّئ.
وأرسل عليّ إلى عامل المدائن سعد بن مسعود بخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن عبيد وسار في طلبهم في خمسمائة فارس، فتركوا طريقهم وساروا على بغداد ولحقهم سعد بالكرخ مساء، وجاءه عبد الله في ثلاثين فارسا وقاتلهم وامتنعوا، وأشار أصحابه بتركهم [2] إلى أن يأتي فيهم أمر عليّ فأبى، ولما جنّ عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة وسار إلى أصحابه بالنهروان، واجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميميّ واتبعهم أبو الأسود الدؤليّ بأمر ابن عبّاس ولحقهم فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان، ولما خرجت الخوارج بايع عليّ أصحابه على قتالهم، ثم أنكر [3] شأن الحكمين وخطب الناس وقال بعد الحمد للَّه والموعظة: ألا إنّ هذين الحكمين نبذا حكم القرآن واتبع كل واحد هواه واختلفا في الحكم وكلاهما لم يرشد، فاستعدّوا للسير إلى الشام. وكتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك واستحثهم للمسير إلى العدوّ وقال: نحن على الأمر الأوّل الّذي كنّا عليه. فكتبوا إليه: إنّك غضبت لنفسك ولم تغضب لربّك فان شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا بيننا وبينك وإلّا فقد نابذناك على السواء. فيئس عليّ منهم ورأى أن يمضي إلى الشام ويدعهم، وقام في الناس يحرّضهم لذلك، وكتب إلى ابن عبّاس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص بالعساكر والمقام إلى أن يأتي أمره، فأشخص ابن عبّاس الأحنف بن قيس في ألف وخمسمائة، ثم خطب ثانية وندب الناس وقال: كيف ينفر هذا العدد القليل وأنتم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: يستحث بهم.
[2] وفي النسخة الباريسية: وأمر أصحابه فتركهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: ثم بلغه شأن الحكمين.(2/638)
ستون ألف مقاتل! ثم تهدّدهم وأمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي، فخرج معه ألف وستمائة [1] ووافوا عليّا في ثلاثة آلاف ويزيدون. ثم خطب أهل الكوفة ولاطفهم بالقول وحرّضهم وأخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم وقال ليكتب إليّ كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلة من أبنائهم ومواليهم، فأجابه سعيد بن قيس الهمدانيّ ومعقل بن قيس وعديّ بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عديّ وأشراف الناس بالسمع والطاعة، وأمروا ذويهم ألّا يتخلّف منهم أحد، فكانوا أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ممن بلغ الحلم، وانتهت عساكره إلى ثمانية وستين ألفا.
وبلغه أنّ الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم: إنّ قتال أهل الشام أهم [2] علينا لأنّهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكا جبارين ويتخذوا عباد الله خولا فرجعوا إلى رأيه وقالوا: سر بنا إلى حيث شئت. وبينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أنّ خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من النهروان فعرّفهم بنفسه، فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيرا، ثم عن عثمان في أول خلافته وآخرها فقال: كان محقا في الأوّل والآخر، فسألوه عن عليّ قيل التحكيم وبعده، فقال: هو أعلم باللَّه وأشدّ توقيا على دينه، فقالوا: إنك توالي الرجال على أسمائها، ثم ذبحوه وبقروا بطن امرأته ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيِّئ.
فآسف عليّا قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس، فبعث الحرث بن مرّة العبديّ لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه، فقال له أصحابه: كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا إنّما نقدّم أمرهم على الشام، وقام الأشعث بن قيس بمثل ذلك فوافقهم عليّ وسار إليهم، وبعث من يقول لهم ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب [3] لعل الله يردّكم إلى خير، فقالوا: كلّنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم، ثم جاءهم قيس بن سعد ووعظهم وأبو أيوب الأنصاري كذلك.
ثم جاءهم عليّ فتهدّدهم وسفّه رأيهم ويريهم [4] شأن الحكمين وأنهما لما خالفا حكم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ألف وسبعمائة.
[2] وفي النسخة الباريسية: أحب علينا.
[3] يعني المؤرخ قتال أهل الشام.
[4] وفي نسخة اخرى: بيّن لهم.(2/639)
الكتاب والسنّة نبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فقالوا: إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا فان تبت أنت فنحن معك وان أبيت فقد نابذناك، فقال: كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي وجهادي ثم انصرف عنهم. وقيل إنّ عليّا خطبهم وأغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض والقتل فتنادوا لا تكلموهم وتأهّبوا للقاء الله. ثم قصدوا جسر الخوارج ولحقهم عليّ دونه، وقد عبّى أصحابه: وعلى ميمنته حجر بن عديّ وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس وعلى الخيل أبو أيوب وعلى الرجالة أبو قتادة وعلى أهل المدينة سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد. وعبأت نحوه الخوارج: على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العنسيّ [1] وعلى الخيل حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجالة حرقوص بن زهير.
ودفع عليّ إلى أبي أيوب راية أمانا لهم لمن جاءها ممن لم يقتل ولم يستعرض فناداهم إليها وقال: من انصرف الى الكوفة والمدائن فهو آمن. فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الأشجعيّ في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال عليّ فنزل الدسكرة، وخرج آخرون إلى الكوفة، ورجع آخرون إلى عليّ وكانوا أربعة آلاف، وبقي منهم ألف وثمانمائة فحمل عليهم عليّ والناس حتى فرّقهم [2] على الميمنة والميسرة. ثم استقبلتهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين ونهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا، وقتل عبد الله بن وهب وزيد بن حصن وحرقوص بن زهير وعبد الله بن شجرة وشريح بن أوفى. وأمر عليّ أن يلتمس المخدج في قتلاهم وهو الّذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاماتهم فوجد في القتلى فاعتبر [3] عليّ وكبر واستنصر الناس، وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين وردّ عليهم المتاع والإماء والعبيد. ودفن عدي بن حاتم ابنه طرفة ورجالا من المسلمين فنهى علي عن ذلك، وارتحل ولم يفقد من أصحابه إلّا سبعة أو نحوهم.
وشكا إليه الناس الكلال ونفوذ السهام والرماح وطلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: العبسيّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: فحملوا على الناس حتى فرّقوهم.
[3] الأصح ان يقول استعبر (من العبرة) .(2/640)
فإنه أقوى على القتال [1] ، وكان الّذي تولي كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه، وأقبل فنزل ومنعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوّهم، فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت وتركوا المعسكر خاليا فلما رأى عليّ ذلك دخل ثم ندبهم ثانيا فلم ينفروا، فأقام أياما ثم كلّم رؤساءهم على رأيهم والّذي يبطئ بهم فلم ينشط من ذلك إلّا القليل، فخطبهم وأغلظ في عتابهم وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا.
ولاية عمرو بن العاص مصر
قد تقدّم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن حديج السكونيّ، وان محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم [2] فهزموه وقتلوه، واضطربت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر، وبلغ ذلك عليّا فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة وهو نصيبين فبعثه على مصر وقال: ليس لها غيرك.
وبلغ الخبر إلى معاوية وكان قد طمع في مصر فعلم أنها ستتمنع بالأشتر، وجاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك، وقيل إنّ معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسمّه على أن يسقط عنه الخراج وهذا بعيد. وبلغ خبر موته عليّا فاسترجع واسترحم وكان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشتر شق عليه فكتب عليّ يعتذر إليه وأنّه لم يولّه لسوء رأي في محمد وإنّما هو لما كان يظن فيه من الشدّة، وقد صار إلى الله ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب، فاصبر لعدوّك وشمّر للحرب وادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر من ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفيك ما أهمّك ويعينك على ما ولّاك. فأجابه محمد بالرضى برأيه والطاعة لأمره، وأنه مزمع على حرابة من خالفه.
ثم لمّا كان من أمر الحكمين ما كان واختلف أهل العراق على عليّ، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، فأراد معاوية صرف عمله [3] إلى مصر لما كان يرجو من الاستعانة على حروبه بخراجها، ودعا بطانته أبا الأعور السلميّ وحبيب بن مسلمة وبسر بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أقوى على العدو.
[2] هو ابن مضاهم الكلبي.
[3] وفي النسخة الباريسية: فازداد معاوية وصرف همه.(2/641)
أرطاة والضحّاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط وشاورهم في شأنها، فأشار عليه عمرو بافتتاحها وأشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق ويجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية، وقال معاوية: بل الرأي أن نكاتب العثمانيّة بالوعد ونكاتب العدو بالصلح والتخويف ونأتي الحرب من بعد ذلك، ثم قال معاوية: إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة وأنا في التؤدة، فقال: أفعل ما تراه وأظن الأمر لا يصير إلا للحرب. فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف، ويحثهما على الحرب والقيام في دم عثمان، وفرحا بجوابهما [1] فطلب المدد فجمع أصحابه وأشاروا بذلك، فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل ووصّاه بالتؤدة وترك العجلة، فنزل أدنى أرض مصر واجتمعت إليه العثمانيّة، وبعث كتابه وكتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد وأنّ الناس اجتمعوا عليك وهم مسلموك فاخرج، فبعث بالكتابين إلى عليّ فوعده بإنفاذ [2] الجيوش وأمره بقتال العدوّ والصبر.
فقدّم محمد بن أبي بكر كنانة بن بشر في ألفين، فبعث معاوية عمرو بن حديج [3] وسرّحه في أهل الشام فأحاطوا بكنانة، فترجل عن فرسه وقاتل حتى استشهد. وجاء الخبر الى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه وفرّوا، وآوى في مفرّه إلى خربة واستتر في تلك الخربة، فقبض عليه فأخذه ابن حديج وجاء به إلى الفسطاط، وطلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلى ابن حديج في البقاء عليه فأبى، وطلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان، ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو. وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته. ويقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج [4] وأصحابه، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل.
ولما بلغ الخبر عليّا خطب الناس وندبهم الى أعدائهم وقال: اخرجوا بنا إلى الجزاعة بين الحيرة والكوفة. وخرج من الغد إلى المنتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها فلم يلحق
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وجاء جوابهما.
[2] وفي النسخة الباريسية: بانقياد.
[3] وفي النسخة الباريسية: فبعث عمرو معاوية بن حديج.
[4] اي من الشاميين والمصريين الذين قتلوا محمد بن أبي بكر أهـ (ابن كثير)(2/642)
به أحد، فرجع من العشي وجمع أشراف الناس ووبّخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبيّ في ألفين، فقال سر وما أراك تدركهم فسار خمسا، ولقي [1] حجّاج بن عرفة الأنصاري قادما من مصر فأخبره بقتل محمد، وجاء إلى عليّ عبد الرحمن بن شبث الفزاريّ وكان عينا له بالشام، فأخبره بقتل محمد واستيلاء عمرو على مصر، فحزن لذلك، وبعث الى مالك بن كعب [2] أن يرجع بالجيش وخطب الناس فأخبرهم بالخبر وعذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر ووبّخهم طويلا ثم نزل.
دعاء ابن الحضرميّ بالبصرة لمعاوية ومقتله
ولما فتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرميّ إلى البصرة داعيا لهم وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل عليّ أباهم يوم الجمل وأنهم على راية في دم عثمان، وأوصاه بالنزول في مصر يتودّد إلى الأزد وحذّره من ربيعة وقال إنّهم ترائبه يعني شيعة لعليّ.
فسار ابن الحضرميّ حتى قدم البصرة. وكان ابن عبّاس قد خرج إلى عليّ واستخلف عليها زيادا، ونزل في بني تميم واجتمع إليه العثمانيّة فحضهم على الطلب بدم عثمان من عليّ، فقال الضحّاك بن قيس الهلاليّ: قبّح الله ما جئت به وما تدعو إليه تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع وعلى الموت ليكون معاوية أميرا؟ فقال له عبد الله بن حازم السلمي: اسكت فلست لها بأهل. ثم قال لابن الحضرميّ: نحن أنصارك ويدك والقول قولك، فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنّة ويضاعف لهم الأعطية. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس معتزلا وحض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة والجماعة، وقام العبّاس بن حجر في مناصرة ابن الحضرميّ، فقال له المثنى بن مخرمة لا يغرّنك ابن صحّار وارجع من حيث جئت، فقال ابن الحضرميّ لصبرة بن شيمان الأزدي ألا تنصرني؟ قال: لو نزلت عندي فعلت. ودعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذور ومالك بن مسمع ورءوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرميّ إلى أن يأتي أمر عليّ، فأجاب حصين وتثاقل مالك وكان هواه في بني أميّة، فأرسل زياد الى صبرة بن شيمان يدعوه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولحق.
[2] وفي النسخة الباريسية: كعب بن مالك.(2/643)
إلى الجوار [1] بما معه من بيت المال [2] فقال: إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال والمنبر، وكان يصلي الجمعة في مسجد قومه، وأراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره بهم اليهم، وأخذ زياد جندا منهم بعد صبره لذلك وقال: إن جاءوا جئناهم، وكتب زياد إلي عليّ بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة [3] ليفرّق تميما عن ابن الحضرميّ ويقاتل من عصاه بمن أطاعه، فجاء لذلك وقاتلهم يوما أو بعض يوم، ثم اغتاله قوم فقتلوه يقال من الخوارج.
ولاية زياد على فارس
ولما قتل ابن الحضرميّ بالبصرة والناس مختلفون على عليّ طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج، وأخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف، فاستشار عليّ الناس فأشار عليه جارية بن قدامة [4] بزيادة فأمر ابن عبّاس أن يولّيه عليها، فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس وضرب ببعضهم بعضا وهرب قوم وأقام آخرون، وصفت له فارس بغير حرب. ثم تقدّم إلى كرمان فدوّخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس، ونزل إصطخر وسكن قلعة بها تسمّي قلعة زياد [5] .
فراق ابن عبّاس لعلي رضي الله عنهم
وفي سنة أربعين فارق عبد الله بن عبّاس عليّا [6] ولحق بمكة، وذلك أنه مرّ يوما بأبي الأسود [7] ووبّخه على أمر، فكتب أبو الأسود إلي عليّ بأنّ ابن عبّاس استثر بأموال الله فأجابه عليّ يشكره على ذلك وكتب لابن عبّاس ولم يخبره بالكاتب، فكتب اليه
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الجدار.
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 361: فأرسل الى صبره بن شيمان الحدّاني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين.
[3] كذا بالأصل وفي الكامل ج 3 ص 362. وفي النسخة الباريسية: ابن صعصعة.
[4] وفي النسخة الباريسية: حارثة بن قادمة وفي الكامل جارية بن قادمة السعدي.
[5] وفي نسخة اخرى: زيّار.
[6] وفي النسخة الباريسية: البصرة.
[7] وفي النسخة الباريسية: بابي الحسن.(2/644)
بكذب ما بلغه من ذلك وانه ضابط للمال [1] حافظ له، فكتب إليه عليّ أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما صنعت [2] ؟ فكتب إليه ابن عبّاس فهمت استعظامك لما رفع إليك اني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فاني ظاعن عنه واستدعى أخواله من بني هلال، فجاءته قيس كلها ولم يبعث الأموال [3] وقال:
هذه أرزاقنا، وأتبعه أهل البصرة ووقفت دونه قيس. فرجع صبرة بن شيمان الهمدانيّ بالأزد وقال قيس: إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني، وانصرف معهم بكر وعبد القيس ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية تميم عنه، ولحق ابن عبّاس بمكة.
مقتل علي
قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين لسبع عشرة من رمضان وقيل لإحدى عشرة وقيل في ربيع الآخر والأوّل أصح، وكان سبب قتله أنّ عبد الرحمن بن ملجم المراديّ والبرك [4] بن عبد الله التميميّ الصريميّ واسمه الحجّاج وعمرو بن بكر التميمي السعديّ، ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من فلّهم بالحجاز، واجتمعوا فتذاكروا ما فيه الناس وعابوا الولاة وترحّموا على قتلى النهروان، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس، فقال ابن ملجم وكان من مصر: أنا أكفيكم عليّا، وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا أن لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت. واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان وانطلقوا، ولقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم، ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع ودعاه إلى الموافقة [5] في شأنه، فقال شبيب ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله. قال:
أكمن له في المسجد في صلاة الغداة فان قتلناه وإلّا فهي الشهادة، قال: ويحك لا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وانه بريء ضابط للمال.
[2] وفي نسخة ثانية: وضعت.
[3] وفي نسخة ثانية: فحمل المال.
[4] البرك على وزن صرد كذا خطه الحافظ أهـ. (تاج العروس)
[5] وفي النسخة الباريسية، المرافقة.(2/645)
أجدني أنشرح لقتله مع سابقته وفضله، قال: ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان؟ قال: بلى. قال: فنقتله بمن قتله منهم، فأجابه: ثم لقي امرأة من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها وأخوها يوم النهروان، فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبدا وقينة وقتل عليّ، فقالت كيف يمكن ما أنت تريدين؟ قالت التمس غرته فان قتلته شفيت النفوس وإلّا فهي الشهادة. قال: والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت، قالت: سأبعث معك من يشدّ ظهرك ويساعدك، وبعثت معه رجلا من قومها اسمه وردان.
فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل عليّ وكانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السّدة التي يخرج منها علي للصلاة، فلما خرج ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على مقدّم رأسه، وقال: الحكم للَّه لا لك يا عليّ ولا لأصحابك. وهرب وردان إلى منزله وأخبر بعض أصحابه بالأمر فقتله. وهرب شبيب مغلسا. وصاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت فأخذه وجلس عليه والسيف في يد شبيب والناس قد أقبلوا في طلبه، وخشي الحضرميّ على نفسه لاختلاط الغلس فتتركه وذهب في غمار الناس، وشدّ الناس على ابن ملجم واستخلف علي على الصلاة جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ فصلى الغداة بالناس، وأدخل ابن ملجم مكتوفا على عليّ فقال: أي عدوّ الله ما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه، فقال: أراك مقتولا به. ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وان بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب لا تحرّضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي، يا حسن إن أنا متّ من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا تمثلنّ بالرجل فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة. وقالت أمّ كلثوم لابن ملجم وهو مكتوف وهي تبكي: أي عدوّ الله إنه لا بأس على أبي والله مخزيك قال: فعلام تبكين؟ والله لقد شريته بألف وصقلته أربعين ولو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد. وقال جندب بن عبد الله لعليّ أنبايع الحسن إن فقدناك؟ قال: ما آمركم به ولا أنهاكم أنتم أبصر، ثم دعا الحسن والحسين ووصّاهما قال: أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وان(2/646)
بغتكما ولا تأسفا علي شيء زوى منها عنكما [1] وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع [2] وكونا للظالم خصما وللمظلوم ناصرا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم قال لمحمد بن الحنفية: اني أوصيك بمثل ذلك وبتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك ولا تقطع أمرا دونهما، ثم وصّاهم بابن الحنفية، ثم أعاد على الحسن وصيته. ولما حضرته الوفاة كتب وصيّته العامة ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض.
فأحضر الحسن ابن ملجم فقال له: هل لك في البقاء عليّ واني قد عاهدت الله أن أقتل عليّا ومعاوية واني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخلّ بيني وبين ذلك فإن قتلته وبقيت فلك عهد الله أن آتيك، فقال: لا والله حتى تعاين النار ثم قدّمه فقتله. وأما البرك فإنه قعد لمعاوية تلك الليلة فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في أليته وأخذ فقال: عندي بشري [3] أتنفعني ان أخبرتك بها قال: نعم. قال: إنّ أخا لي قتل عليّا هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر عليه، قال: بلى إنّ عليّا ليس معه حرس، فأمر به معاوية فقتل، وأحضر الطبيب فقال: ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد. فقال: في يزيد وعبد الله ما تقرّبه عيني والنار لا صبر لي عليها، وقد قيل إنّه أمر بقطع البرك فقطع وأقام إلى أيام زيادة فقتله بالبصرة، وعند ذلك اتخذ معاوية المقصورة وحرس الليل وقيام الشرط على رأسه إذا سجد. ويقال إنّ أوّل من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع وأربعين حين طعنه اليمانيّ.
وأمّا عمرو بن بكر فإنّه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤيّ يصلي بالناس فشدّ عليه فضربه فقتله وهو يرى أنه عمرو بن العاص، فلما أخذوه وأدخلوه على عمرو قال فمن قتلت إذا؟ قالوا خارجة فقال: لعمرو بن العاص والله ما ظننته غيرك! فقال عمرو: وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وأمر بقتله.
وتوفي عليّ رضي الله عنه وعلى البصرة عبد الله بن عبّاس وعلى قضائها ابو الأسود الدؤلي وعلى فارس زياد بن سميّة وعلى اليمن عبيد الله بن العبّاس حتى وقع أمر بسر بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولا تبكيا منها على شيء رزى عنكما.
[2] وفي النسخة الباريسية: واضنعا الله.
[3] وفي النسخة الباريسية: مسرّة.(2/647)
أبي أرطاة، وعلى مكّة والطائف قثم بن عبّاس وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف.
بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية
ولما قتل عليّ رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن، وأوّل من بايعه قيس ابن سعد وقال: ابسط يدك على كتاب الله وسنّة رسوله وقتال الملحدين. فقال الحسن على كتاب الله وسنة رسوله. ويأتيان على كل شرط. ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم انكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، فارتابوا وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال.
وبلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع بالخلافة ودعي بأمير المؤمنين، وقد كان بويع بها بعد اجتماع الحكمين. ولأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه، ثم مات من أصحاب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي.
وكان عليّ قبل قتله قد تجهز بالمسلمين إلى الشام، وبايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه وعلى مقدّمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفا، وقيل بل كان عبد الله بن عبّاس على المقدّمة وقيس في طلائعه. فلمّا نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أنّ قيس بن سعد قتل، واهتاج الناس وماج بعضهم في بعض وجاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الّذي كان عليه واستلبوه رداءه وطعنه بعضهم في فخذه. وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن ودخل الى القصر وكاد أمره أن ينحلّ، فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف، ويعطيه خراج دارابجرد من فارس والّا يشتم عليّا وهو يسمع، وأخبر بذلك أخوه الحسين وعبد الله بن جعفر وعذلاه فلم يرجع اليهما. وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة الى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة، فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الاولى وقال هو الّذي(2/648)
طلبت [1] . ثم نزعه أهل البصرة خراج دارابجرد وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه. وخطب الحسن أهل العراق وقال: سخى نفسي عنكم ثلاث: قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي، ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلين قبيل بصفين يبكون له وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره وأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر وأنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبا السيوف، وإن أدرتم الحياة قبلنا وأخذنا لكم الرضى. فناداه الناس من كل جانب البقية البقية فأمضى الصلح. ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته.
ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة، فقال له الناس: طاعة الإمام أولى، وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف. فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيبا ليبدو للناس عيّه، فلما قدم حمد الله وقال: أيها الناس إنّ الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا وإنّ لهذا الأمر مدّة والدنيا دول الله عزل وجل يقول لنبيه: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 21: 111، فقال له معاوية اجلس وعرف أنه خدع في رأيه. ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين، فلم يزل مقيما بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين. وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة احدى وخمسين وعلى فراشه بالمدينة، وما ينقل من أنّ معاوية دس إليهم السمّ مع زوجه جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك.
وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عبّاس لما كتب إليه في الأمان بنفسه، فلقيه ليلا وأمّنه وسار معه إلى معاوية، فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة عليّ علي دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة، وبلغ الخبر الى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله، وقال معاوية: يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه. ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال: اكتب في هذا ما شئت فهو لك، فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: اشترطت.(2/649)
ولم يسأل مالا فأعطاه معاوية ذلك وبايعه قيس والشيعة الذين معه، ثم جاء سعد بن أبي وقّاص فبايعه واستقرّ الأمر لمعاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة احدى وأربعين وسمّي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك. ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من إفراد الأخبار عن الدول وأهل النحل دولة دولة وطائفة طائفة.
وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردّة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبريّ وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمّة من خيارهم وعدولهم عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، فكثيرا ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسوّد بها الصحف [1] ، وأتبعتها بمفردات من غير كتاب الطبريّ بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة وإذا ذكرت شيئا في الأغلب نسبته إلى قائلة، وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة، ولا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة فإنه لم يصحّ، والحق أنّ معاوية في عداد الخلفاء وإنّما أخّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين:
الأوّل أنّ الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره، وأمّا قبل ذلك كانت اختيارا واجتماع فميّزوا بين الحالتين، فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبيّة الذين يعبّر عنهم أهل الأهواء بالملوك، ويشبّهون بعضهم ببعض وحاشى الله أن يشبّه معاوية بأحد ممّن بعده، فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس، ولا يقال إنّ الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكا.
واعلم أنّ الملك الّذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتيّة المعبر عنها بالكسرويّة التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها، وأما الملك الّذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوّة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات
__________
[1] وفي نسخة اخرى: العيون.(2/650)
الله عليهما نبيّين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربّهما عزّ وجل. ومعاوية لم بطلب الملك ولا أبّهته للاستكثار من الدنيا، وانما ساقه أمر العصبيّة بطبعها لمّا استولى المسلمون على الدول كلها وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عند ما تستفحل العصبيّة وتدعو لطبيعة الملك. وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه، والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي، فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين، ومن خرجت أفعاله عن ذلك فهو من ملوك الدنيا وإنما سمّي خليفة بالمجاز.
الأمر الثاني في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخفاء الأربعة أنهم كانوا أهل نسب واحد وعظيمهم معاوية، فجعل مع أخل نسبه، والخفاء الأوّلون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريبا في الفضل والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم.
تمت تكملة الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوّله الخبر عن الدول الإسلامية ونبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر الإسلام وذكر أوليتهم وأخبار دولهم واحدة واحدة الى انقضائها(2/651)
[المجلد الثالث]
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
[تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ]
[الخبر عن الدول الإسلامية ونبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر الإسلام وذكر أوليتهم وأخبار دولهم واحدة واحدة الى انقضائها]
(كان) لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش. وكان فخذاهم بنو أميّة وبنو هاشم حيا جميعا ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه. وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرئاسة عليهم الا أنّ بني أمية كانوا أكثر عددا من بني هاشم وأوفر رجالا. والعزّة إنّما هي بالكثرة، قال الشاعر:
وإنّما العزّة للكاثر
وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أميّة وكان رئيسهم في حرب الفجّار. وحدّث الأخباريون أنّ قريشا تواقعوا ذات يوم وحرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة فتبادر إليه غلمة منهم ينادون يا عم أدرك قومك، فقام يجرّ إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا ولوّح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم. (ولما) جاء الإسلام ودهش الناس لما وقع من أمر النبوّة والوحي وتنزل الملائكة، وما وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العصبيّة مسلمهم وكافرهم. أمّا المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أنّ الله أذهب عنكم غبية [1] الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم وآدم من تراب. وأما المشركون فشغلهم ذلك الأمر
__________
[1] غبية: بالغين المعجمة أي الافتخار بالآباء وغير ذلك من أمور العصبية انتهى.(3/3)
العظيم عن شأن العصائب وذهلوا عنه حينا من الدهر. ولذلك لمّا افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام. إنما كان ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد ولم يبق إلّا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزّة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين ألا ترى إلى صفوان بن أميّة وقوله عند ما انكشف المسلمون يوم حنين وهو يومئذ مشرك في المدّة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسلم، فقال له أخوه: ألا بطل السحر اليوم؟ فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك. لان يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. ثم أنّ شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس وبني هاشم. فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة كذلك. ثم من بعده العبّاس والكثير من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم خلا الجوّ حينئذ من مكان بني هاشم بمكّة واستغلظت رياسة بني أمية في قريش. ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر وهلك فيها عظماء بني عبد شمس: عتبة وربيعة والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم. فاستقلّ أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدّم في قريش، وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها. (ولما كان الفتح) قال العبّاس للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما أسلم أبو سفيان ليلتئذ، كما هو معروف وكان صديقا له:
يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكرا. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا. وشكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم من التخلّف عن رتب المهاجرين الأوّلين، وما بلغهم من كلام عمر في تركه شوراهم فاعتذر لهم أبو بكر وقال أدركوا إخوانكم بالجهاد وأنفذهم لحروب الردّة فأحسنوا الغناء عن الإسلام وقوّموا الأعراب عن الحيف والميل. ثم جاء عمر فرمي بهم الروم وأرغب قريشا في النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام. وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولّى مكانه أخاه معاوية وأقرّه عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوّة ونبذوا الدنيا من أيديهم بما اعتاضوا عنها من مباشرة الوحي وشرف القرب من الله برسوله وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية. وانظر(3/4)
مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر: إنّ هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف. (ولما هلك عثمان) واختلف الناس على عليّ كانت عساكر عليّ أكثر عددا لمكان الخلافة والفضل إلّا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكه، ثم كسر من جناح عليّ ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عند ما نسي الناس شأن النبوّة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنو أمية للغلب على مضر وسائر العرب ومعاوية يومئذ كبيرهم. فلم تتعدّه الخلافة ولا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في أرض مصر رياسته وتوثق عقده. وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يدا من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم ويصانع رءوس العرب وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع ومرقاته فيها تزلّ عنها الأقدام (ذكر) أنه مازح عديّ بن حاتم يوما يؤنبه بصحبة عليّ فقال له عديّ: والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وأنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبرا لندنينّ إليك من الشرّ باعا وأنّ حزّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم [1] ، لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليّ فشم السيف يا معاوية يبعث السيف، فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا وأخباره في الحلم كثيرة.
بعث معاوية العمال الى الأمصار
لما استقلّ معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمّال إلى الأمصار، فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة. ويقال إنه ولّى عليها أوّلا عبد الله بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة منتصحا وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد فعزله وولّى المغيرة. وبلغ
__________
[1] قوله وحشرجة إلخ. قال المجد: والحشرجة الغرغرة عند الموت تردد النفس انتهى. وقوله الحيزوم، قال المجد أيضا: وكأمير، الصدر أو وسطه كالحيزوم فيهما، جمعه احزمة وحزم انتهى.(3/5)
ذلك عمرا فقال لمعاوية: يختان المال فلا تقدر على ردّه فعد فاستعمل من يخافك فنصب المغيرة على الصلاة وولّى على الخراج غيره، وكان على القضاء شريح. (ولما ولي) المغيرة على الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الريّ وأقرّه زياد بعده. وكان يغزو الديلم ثم بعث على البصرة بسر بن أرطاة وكان قد تغلّب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية فبعث بسرا عليها فخطب الناس وتعرّض لعليّ. ثم قال: نشدت الله رجلا يعلم أني صادق أو كاذب ولا صدقني أو كذّبني. فقال أبو بكرة: اللَّهمّ لا نعلمك إلّا كاذبا فأمر به فخنق فقام أبو لؤلؤة الضبيّ فدفع عنه. وكان على فارس من أعمال البصرة زياد بن أبيه وبعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال: صرفت بعضه في وجهه واستودعت بعضه للحاجة إليه وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك فامتنع فلما ولي بسر على البصرة جمع عنده أولاد زياد والأكابر عبد الرحمن وعبد الله وعبّاد وكتب إليه لتقدمنّ أو لأقتلنّ بنيك فامتنع واعتزم بسر على قتلهم فأتاه أبو بكرة وكان أخا زياد لأمّه فقال: أخذتهم بلا ذنب وصالح الحسن على أصحاب عليّ حيث كانوا فأمهله بسر إلى أن يأتي بكتاب معاوية. ثم قدم أبو بكرة على معاوية وقال: إنّ الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال وإنّ بسرا يريد قتل بني زياد! فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد ولم يبق منه إلّا ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم وأطلقهم انتهى. (ثم عزل) معاوية بسرا عن البصرة وأراد أن يولي عتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر:
إنّ لي بالبصرة أموالا وودائع وإن لم تولني عليها ذهبت. فولّاه وجعل إليه معها خرسان وسجستان وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلميّ وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة ويوشلخ [1] قد نضوا، فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة، وقيل إنّما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي (ثم قدم) قيس على ابن عامر فضربه وحبسه وولّى مكانه عبد الله بن حازم، وقدم خراسان فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس ويوشلخ في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر مالا انتهى. (ثم ولّى) معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم وعلى مكّة خالد بن العاص بن هشام. واستقصى مروان عبد الله بن الحرث بن نوفل وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين وولّى مكانه سعيد بن العاص وذلك لثمان سنين من
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بوشنج.(3/6)
ولايته. وجعل سعيد على القضاء [1] ابن عبد الرحمن مكان عبد الله بن الحرث ثم عزل معاوية سعيدا سنة أربع وخمسين وردّ إليها مروان.
قدوم زياد
وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل عليّ كما قدّمناه وكان عبد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة ورفع إلى معاوية أنّ زيادا استودع أمواله عبد الرحمن فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك فأحضر عبد الرحمن وقال له: إن يكن أبوك أساء إليّ فقد أحسن عمك وأحسن العذر عند معاوية (ثم قدم المغيرة) على معاوية فذكر له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس فقال: داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب خدعة، فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال: إنّ معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك. قال: أشر عليّ والمستشار مؤتمن فقال أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله وترجع عنه فكتب إليه معاوية بأمانه وخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن رابد الضبّي وحارثة بن بدر الغداني، واعترضه عبد الله بن حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به فلما رأى كتاب الأمان تركه وقدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى عليّ وبما بقي عنده مودعا للمسلمين فصدّقه معاوية وقبضه منه. ويقال إنه قال له: أخاف أن تكون مكروبا بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له وكان المغيرة يكرمه ويعظمه وكتب إليه معاوية أن يلزم زيادا وحجر بن عديّ وسليمان بن صرد وسيف بن ربعي وابن الكوّاء وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات.
عمال ابن عامر على الثغور
لما ولي ابن عامر على البصرة استعمل عبد الرحمن بن سمرة على سجستان فأتاها وعلى شرطتها عبّاد بن الحصين ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر وغيره. وكان أهل البلاد قد كفروا، ففتح أكثرها حتى بلغ كابل وحاصرها أشهرا ونصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها ولم يقدر المشركون على سد الثلمة.
وبات عبّاد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح، ثم خرجوا من الغد للقتال فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة انتهى. (ثم سار) إلى نسف فملكها عنوة ثم إلى حسك فصالحه أهلها
__________
[1] بياض بالأصل وقال الطبري: وكان على قضاء المدينة لمروان فيما زعم الواقدي حين عزل عبد الله بن الحارث بن نوفل. فلما ولي سعيد بن العاص عزله عن القضاء واستقضى ابا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. (ج 6 ص 130) .(3/7)
ثم إلى الرجح فقاتلوه وظفر بهم وفتحها انتهى. ثم إلى زابلستان (وهي غزنة) وأعمالها ففتحها ثم عاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها انتهى. (واستعمل) على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبديّ، ويقال بل ولّاه معاوية من قبله فغزا التيعان فأصاب مغنما ووفد على معاوية وأهدى له من خيولها، ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك وقتلوه، وكان كريما في الغاية يقال: لم يكن أحد يوقد النار في عسكره، وسأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام. (واستعمل) على خراسان قيس بن الهيثم فتغافل بالخراج والهدنة فولى مكانه عبد الله بن حاتم. فخاف قيسا وأقبل فزاد ابن عامر غضبا لتضييعه الثغر وبعث مكانه رجلا من يشكر وقيل أسلم بن زرعة الكلابي (انتهى) . (ثم بعث) عبد الله بن حازم وقيل: إنّ ابن حازم قال لابن عامر: إنّ قيسا لا ينهض بخراسان وأخاف إن لقي قيس حربا أن ينهزم ويفسد خراسان، فاكتب لي عهدا إن عجز عن عدوّ قمت مقامه. فكتب وخرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه الناس فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده وقام بأمر الناس وهزم العدوّ. وبلغ الخبر إلى الأمصار فغضبت أصحاب قيس وقالوا خدع صاحبنا، وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر فقبل منه، وقال له أقم في الناس بعذرك ففعل انتهى. (وفي سنة) ثلاث [1] وأربعين توفي عمرو بن العاص بمصر فاستعمل معاوية مكانه عبد الله ابنه.
عزل ابن عامر
وكان ابن عامر حليما ليّنا للسفهاء فطرق البصرة الفساد من ذلك. وقال له زياد جرّد السيف فقال: لا أصلح الناس بفساد نفسي. ثم بعث وفدا من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة ومنهم ابن الكوّاء وهو عبد الله بن أبي أوفى اليشكري فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن الكوّاء بعجز ابن عامر وضعفه فقال معاوية: تتكلم على أهل البصرة وهم حضور! وبلغ ذلك ابن عامر فغضب وولّى على خراسان من أعداء ابن الكوّاء عبد الله بن أبي شيخ اليشكري أو طفيل بن عوف فسخر منه ابن الكوّاء لذلك وقال: وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي. ثم أنّ معاوية استقدم ابن عامر فقدم
__________
[1] قوله وفي سنة ثلاث إلخ.. هذا يخالف ما ذكره الميداني في مجمع الأمثال قال: ليس هذا من كيسك، يضرب لمن يرى منه ما لا يمكن ان يكون هو صاحبه. وأصل هذا ان معاوية لما أراد المبايعة ليزيد دعا عمرا فعرض عليه البيعة له فامتنع فتركه معاوية ولم يستقص عليه. فلما اعتل معاوية العلة التي توفي فيها دعا يزيدا وخلا به وقال له: إذا وضعتم سريري على شفير حفرتي فادخل أنت القبر ومر عمرا يدخل معك فإذا دخل فاخرج واخترط سيفك ومره ليبايعك فان فعل والا فادفنه قبلي ففعل ذلك يزيد فبايع عمرو وقال ما هذا من كيسك ولكنه من كيس الموضوع في اللحد فذهبت مثلا انتهى.(3/8)
وأقام أياما فلما ودّعه قال: إني سائلك ثلاثا قال: هنّ لك، قال: ترد عليّ عملي ولا تغضب وتهب لي مالك بعرفة ودورك بمكّة. قال: قد فعلت. قال: وصلتك رحم، فقال ابن عامر: وإني سائلك ثلاثا ترد عليّ عملي بعرفة ولا تحاسب لي عاملا ولا تتبع لي أثرا وتنكحني ابنتك هندا. قال: قد فعلت! ويقال: إنّ معاوية خيّره بين أن يردّه على اتباع أثره وحسابه بما سار إليه أو يعزله ويسوغه ما أصاب فاختار الثالثة فعزله وولّى مكانه الحرث ابن عبد الله الأزدي [1]
استخلاف زياد
كانت سميّة أم زياد مولاة للحرث بن كندة الطبيب وولدت عنده أبا بكرة ثم زوّجها بمولى له وولدت زيادا وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية وولدت زيادا هذا، ونسبه [2] إلى أبي سفيان وأقرّ لها به، إلّا أنه كان بخفية، ولما شبّ زياد سمت به النجابة واستكتبه أبو موسى الأشعريّ وهو على البصرة، واستكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام فقال عمرو بن العاص وكان حاضرا للَّه هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. قال أبو سفيان وعليّ يسمع: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمّه، فقال له عليّ: اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك سريعا. ثم استعمل عليّ زيادا على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدّده ويعرض له بولادة أبي سفيان إيّاه فقام في الناس فقال: عجبا لمعاوية [3] يخوّفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار! وكتب إليه عليّ إني ولّيتك وأنا أراك أهلا وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس، لا توجب ميراثا ولا نسبا. ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام (هـ) . ولما قتل عليّ وصالح زياد معاوية وضع مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ على معاوية ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه، وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة. (وكتب زياد) إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة فكتبت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الأسدي والصحيح الازدي.
[2] مقتضى السياق: ونسبته الى أبي سفيان.
[3] وفي بعض الروايات: عجبا لابن آكلة الأكباد.(3/9)
إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد. وكان عبد الله بن عامر يبغض زيادا وقال يوما لبعض أصحابه: من عبد القيس؟! ابن سميّة يقبّح آثاري ويعترض عمّالي لقد هممت بقسامة من قريش أنّ أبا سفيان لم ير سميّة! فأخبر زياد بذلك فأخبر به معاوية، فأمر حاجبه أن يردّه من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد، فركب معه فأدخله على معاوية فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته فقال يزيد: نقعد في انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول، وقال: إني لا أتكثر بزياد من قلّة ولا أتعزّز به من ذلّة ولكن عرفت حق الله فوضعته موضعه فخرج ابن عامر وترضّى زيادا ورضي له معاوية.
ولاية زياد البصرة
كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة وكان يتشوّف الامارة عليها. فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه. فيقال إنه خرج زياد إلى الشام، ثم إنّ معاوية عزل الحرث بن عبد الله الأزدي عن البصرة وولّى عليها زيادا سنة خمس وأربعين، وجمع له خراسان وسجستان ثم جمع له السند والبحرين وعمان، وقدم البصرة فخطب خطبته البتراء وهي معروفة، وإنما سمّيت البتراء لأنه لم يفتحها بالحمد والثناء، فحذّرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات والاسترسال في الفسق والضلال، وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم، فأطال في ذلك عنّفهم ووبّخهم وعرّفهم ما يجب عليهم في الطاعة من المناصحة والانقياد للأئمة وقال: لكم عندي ثلاث لا أحتجب عن طالب حاجة ولو طرقني ليلا ولا أحبس العطاء عن اباية ولا أحمر البعوث [1] فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأيهم: أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. قال: كذبت ذاك نبيّ الله داود ثم استعمل على شرطته عبد الله بن حصين وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل. وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلّا سفكت دمه وكان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة ثم يمهل بقدر ما يبلغ الرجل أقصى البصرة، ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحدا إلّا قتله. وكان أوّل من شدّد أمر السلطان وشيّد الملك فجرّد السيف وأخذ بالظنّة وعاقب على الشبهة وخافه السفهاء والذعّار وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرّض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه ولا يغلق أحد بابا وأدرّ العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف [2] وسئل في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عن ابانة ولا اجرّ البعوث.
[2] يعتبر زياد أول من أعلن الأحكام العرفية في الإسلام.(3/10)
إصلاح السابلة فقال: حتى أصلح المصر. فلما ضبطه أصلح ما وراءه، وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى، فولى مكانه عبد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصما، ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد، وكان يستعين بأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب. ويقال: إن زيادا أوّل من سيّر بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس رابطة، فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد، ثم قسّم ولاية خراسان على أربعة: فولّى على مرو أمين ابن أحمد اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مروالروذ والعاربات والطالقات قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائي. ثم إنّ نافعا بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض وجوهه، وكانت قوائمه منه، فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهبا وبعث الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى أموره فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة فعزله وحبسه، وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتابا، وقيل ثمانمائة ألف. وشفع فيه رجال من الأزد فأطلقه واستعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاريّ وجعل معه رجالا على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابيّ. وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى جبال الغور، وكانوا قد ارتدّوا، ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه فملأه غارة. ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو واستخلف على عمله أنس بن أبي أناس [1] بن ربين فلم يرضه زياد. وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفا من البصرة والكوفة.
صوائف الشام
ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم فهزموهم وقتلوا جماعة من البطارقة وأثخنوا فيها ثم دخل بسر بن أرطاة أرضهم سنة ثلاث وأربعين ومشى بها وبلغ القسطنطينيّة. ثم دخل عبد الرحمن بن خالد وكان على حمص فشتّى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر. ثم دخل عبد الرحمن إليها سنة ست وأربعين فشتى بها، وشتى أبو عبد الرحمن السبيعي على انطاكية ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين فشتّى عبد الرحمن بأنطاكية أيضا. ودخل عبد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكريّ في البحر وعقبة بن عامر الجهنيّ في البحر أيضا بأهل مصر وأهل المدينة. ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتّى بأرض الروم ودخل عبد الله بن كرز الجيلي بالصائفة وشتّى يزيد بن ثمرة الرهاويّ في بلاد الروم بأهل الشام في البحر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انس بن أبي إياس بن روبين.(3/11)
وعقبة بن نافع بأهل مصر كذلك (ثم) بعث معاوية سنة خمسين جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف وندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه. ثم بلغ الناس أنّ الغزاة أصابهم جوع ومرض وبلغ معاوية أنّ يزيد أنشد في ذلك:
ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالفدفد البيد من حمّى ومن شوم
إذا اتطأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مرّان عندي أمّ كلثوم
وهي امرأته بنت عبد الله بن عامر فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير جمعهم إليه معاوية فيهم ابن عبّاس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينيّة وقاتلوا الروم عليها. فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريبا من سورها ورجع يزيد والعساكر إلى الشام ثم شتّى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين وغزا بسر بن أرطاة بالصائفة.
وفاة المغيرة
توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون، وقيل سنة تسع وأربعين وقيل سنة إحدى وخمسين، فولّى مكانه معاوية زيادا وجمع له المصرين فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب فلما وصل الكوفة خطبهم فحصبوه على المنبر فلما نزل جلس على كرسيّ وأحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك، ومن لم يخلف حبسه فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس. ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه، فهرب ثم أخذه فقتله وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط: إنّ عمر بن الحمق يجتمع إليه شيعة عليّ فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع عنده. وقال لا أبيح أحدا حتى يخرج عليّ، وأكثر سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد انتهى.
(كان عمرو بن العاص) قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عبد قيس على إفريقية، وهو ابن خالته انتهى الى لواته [1] ومرانه، فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس. وفي السنة التي بعدها ودّان وكورا من كور السودان وأثخن في تلك النواحي، وكان له فيها جهاد وفتوح. ثم ولّاه معاوية على إفريقية سنة خمسين وبعث إليه عشرة آلاف فارس، فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا، فإذا رجعوا عنهم ارتدّوا فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها
__________
[1] من نواحي الأندلس من أعمال فرّيش، ولواته: قبيلة من البربر.(3/12)
العساكر من البربر فاختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع، وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم، وكان دورها [1] ثلاثة آلاف باع وستمائة باع، وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب، ودخل أكثر البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين ورسخ الدين. ثم ولّى معاوية على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري واستعمل على إفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة واستخف به فسيّر ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية وشكا إليه فاعتذر له ووعده بردّه إلى عمله، ثم ولّاه يزيد سنة اثنتين وستين (وذكر) الواقدي: أنّ عقبة ولي إفريقية سنة ست وأربعين فاختط القيروان ثم عزله يزيد سنة اثنتين وستين بأبي المهاجر.
فحينئذ قبض على عقبة وضيّق عليه فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده واليا على إفريقية فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعا كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد. (كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة) كثيرا ما يتعرّض لعليّ في مجالسه وخطبه، ويترحّم على عثمان ويدعو له فكان حجر بن عديّ إذا سمعه يقول:
بلاياكم قد أضلّ الله ولعن. ثم يقول أنا أشهد أنّ من تذمّون أحق بالفضل، ومن تزكّون أحق بالذم. فبعث له المغيرة يقول: يا حجر اتّق غضب السلطان وسطوته، فإنّها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك. (ولما كان) آخر إمارته المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول فصاح به حجر ثم قال له: مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعا بذم المؤمنين، وصاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعا. فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه، ويسخط عليه معاوية فقال لا أحبّ أن آتي بقتل أحد من أهل المصر. وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله ثم توفي المغيرة وولي زياد فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه. وقال حجر ما كان يقول فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث وبلغه أنّ حجرا يجتمع إليه شيعة عليّ ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم وأنهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها ثم خطب الناس وحجر جالس يسمع فتهدّده وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأودعه نكالا لمن بعده ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة فبعث صاحب الشرطة شدّاد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة فسبهم
__________
[1] اي محيطها ودورانها.(3/13)
أصحابه. فجمع زياد أهل الكوفة وتهدّدهم فتبرّءوا فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا حتى إذا لم يبق معه إلّا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فأت به طوعا أو كرها فلما جاءه يدعوه امتنع من الإجابة فحمل عليهم وأشار إليه أبوا العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر ثم غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق فسقط ودخل في دور الأزد فاختفى وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه واجتمع إليه الناس ولم يأته من كندة إلّا قليل ثم أرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان ليأتوه بحجر، فلما علم أنهم قصدوه تسرّب من داره إلى النخع ونزل على أخي الأشتر. وبلغه أنّ الشرطة تسأل عنه في النخع. فأتى الأزد واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد ومعه جرير بن عبد الله وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحرث أخو الأشتر فاستأمنوا له زيادا فأجابهم ثم أحضروا حجرا فحبسه وطلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل ومعه زواعة بن شدّاد فاختفى في جبل هناك ورفع أمرهما إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية، ويعرف بابن أمّ الحكم فسار إليهما وهرب زواعة وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية بذلك فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعا بمشاقص كانت معه فاطعنه كذلك فمات في الأولى والثانية ثم جدّ زياد في طلب أصحاب حجر وأتى بقبيصة بن ضبعة العبسيّ بأمان فحبسه وجاء قيس بن عبّاد الشّبلي برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد وسأله عن عليّ فأثنى عليه فضربه وحبسه. وعاش قيس بن عبّاد حتى قاتل مع ابن الأشعث، ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجّاج فقتله. ثم أرسل زياد إلى عبد الله ابن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى وجاء الشرط فأخذوه ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه فأخذ زياد عديّ بن حاتم وهو في المسجد وقال: ائتني بعبد الله وخبره جهرة فقال: آتيك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه، فنكر ذلك الناس وكلّموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبير طيِّئ قال: أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه وأمر عدي عبد الله أن يلحق بجبل طيِّئ فلم يزل هنالك حتى مات وأتى زياد بكريم بن عفيف الخثعميّ من أصحاب حجر وغيره(3/14)
ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رءوس الأرباع يومئذ [1] وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد. فشهدوا كلهم أنّ حجرا جمع الجموع وأظهر شتم معاوية، ودعا إلى حربه وزعم أنّ الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين ووثب بالمصر وأخرج العامل وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوّه وأهل حربه، وأنّ النفر الذين معه وهم رءوس أصحابه على مقدّم رأيه ثم استكثر زياد من الشهود فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة والمنذر ابن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقّاص وغيرهم وفي الشهود شريح بن الحرث وشريح بن هانئ ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرميّ وكثير ابن شهاب ودفع إليهما حجر بن عديّ وأصحابه وهم الأرقم بن عبد الله الكنديّ وشريك بن شدّاد الحضرميّ وصيفي بن فضيل الشيبانيّ وقبيصة بن ضبيعة العبسيّ، وكريم ابن عفيف الخثعميّ، وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سميّ البجلي، وكرام بن حبّان العنزي وعبد الرحمن بن حسّان العنزي ومحرز بن شهاب التميمي وعبد الله بن حويّة السعدي ثم أتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر وسعد بن غوات الهمدانيّ، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى معاوية. ثم لحقهما شريح بن هانئ ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل ولما انتهوا إلى مرج غدراء [2] قريب دمشق تقدّم ابن وائل وكثير إلى معاوية، فقرأ كتاب شريح وفيه بلغني أنّ زيادا كتب شهادتي وأنّي أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، حرام الدم والمال فإن شئت فاقبله أو فدعه، فقال معاوية: ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس وسعد بن غوات اللذين ألحقهما زياد بهما. وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصما وورقاء ابني عمه وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما فأطلقهما معاوية وشفع وائل بن حجر في الأرقم وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم وسأله مالك بن هبيرة السكونيّ
__________
[1] يظهر من سياق المعنى ان العبارة تامة وليس مكان البياض شيء.
[2] هو مرج عذراء بغوطة دمشق (معجم البلدان) .(3/15)
في حجر فردّه فغضب وحبس في بيته وبعث معاوية هدبة بن فيّاض القضاعيّ، والحسين بن عبد الله الكلابي، وأبا شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله فأتوهم وعرض عليهم البراءة من عليّ فأبوا وصلّوا عامة ليلتهم ثم قدموا من الغد للقتل وتوضأ حجر وصلّى وقال: لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها. اللَّهمّ إنّا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة، يشهدون علينا، وأهل الشام يقتلوننا. ثم مشى إليه هدبة بن فيّاض بالسيف، فارتعد فقالوا: كيف وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت؟ فابرأ من صاحبك وندعك.
فقال: وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن، والسيف. وإن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الربّ فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم شريك بن شدّاد وصيفي بن فضيل وقبيصة بن حنيفة، ومحرز بن شهاب، وكرام بن حبان ودفنوهم وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسّان العنزي [1] وجيء بكريم بن الخثعميّ إلى معاوية فطلب منه البراءة من عليّ فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله الخثعميّ من معاوية فوهبه له، على أن لا يدخل الكوفة. فنزل إلى الموصل ثم سأل عبد الرحمن بن حسّان عن عليّ فأثنى خيرا ثم عن عثمان فقال: أوّل من فتح باب الظلم وأغلق باب الحق فردّه إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حيّا وهو سابع القوم. (وأمّا مالك) بن هبيرة السكونيّ فلما لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه فلقي القتلة وسألهم فقالوا مات القوم وسار إلى عديّ فتيقن قتلهم فأرسل في إثر القتلة فلم يدركوهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حربا فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه. (ولما بلغ) عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت عبد الرحمن بن الحرث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا فقال لمعاوية: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال: حيث غاب عليّ مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سميّة فاحتملت وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه. وقيل في سياقة الحديث غير ذلك وهو أنّ زيادا أطال الخطبة في يوم جمعة فتأخرت الصلاة فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه. وخشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء، وقام إلى
__________
[1] هذه العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 485 «وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرّبّ. فقتلوه وقتلوا ستة. فقال عبد الرحمن بن حسّان العنزي وكريم الخثعميّ:
ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته» .(3/16)
الصلاة فقام الناس معه فخافهم زياد ونزل فصلى. وكتب إلى معاوية وعظّم عليه الأمر، فكتب إليه أن يبعث به موثقا في الحديد وبعث من يقبض عليه فكان ما مرّ.
ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية، فلما رآه معاوية أمر بقتله فصلى ركعتين وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيدا ولا تغسلوا دما فإنّي لاق معاوية غدا على الجادّة وقتل (انتهى) . (وقالت) عائشة لمعاوية: أين حملك عن حجر؟ قال: لم يحضرني رشيد (انتهى) . (وكان) زياد قد ولّى الربيع بن زياد الحارثيّ على خراسان سنة إحدى وخمسين بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاريّ وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفا فيهم بريدة بن الحصيب، وأبو برزة الأسلمي من الصحابة وغزا بلخ ففتحها صلحا، وكانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس. ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان بناحيتها من الترك، ولم يفلت منهم إلّا قيزل طرخان وقتله قتيبة ابن مسلم في ولايته فلما بلغ الربيع بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك وقال: لا تزال العرب تقتل بعده صبرا ولو نكروا قتله منعوا أنفسهم من ذلك، لكنهم أقرّوا فذلوا. ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره وقال للناس: إني قد مللت الحياة، واني داع فأمّنوا ثم رفع يديه وقال: اللَّهمّ إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمّن الناس. ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط، فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله ومات من يومه. ثم مات ابنه بعده بشهرين واستخلف خليد ابن عبد الله الحنفي وأقرّه زياد.
وفاة زياد
ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه يقال بدعوة ابن عمر، وذلك أنّ زيادا كتب إلى معاوية إني ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهده بذلك، وخاف أهل الحجاز وأتوا عبد الله بن عمر يدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك فاستقبل القبلة ودعا معهم وكان من دعائه: اللَّهمّ اكفناه، ثم كان الطاعون فأصيب في يمينه فأشير عليه بقطعها فاستدعى شريحا القاضي فاستشاره فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم [1]
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 3 ص 494 «فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه» «وفي مروج الذهب ما يؤخذ منه تسويده وعباراته وانه شاور شريحا في قطعها، فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني اكره ان كانت لك مدة ان تعيش أجذم، وإن حم أجلك أن تلق ربك مقطوع اليد. فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت بغضا للقائك وفرارا من قضائك انتهى.» ج 3 ص 27.
ابن خلدون م 2 ج 3-(3/17)
كراهية في لقائه وإلّا فتعيش أقطع، ويعيّر ولدك فقال: لا أبيت والطاعون في لحاف واحد، واعتزم على قطعها فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل تركه لإشارة شريح وعذل الناس شريحا في ذلك فقال: المستشار مؤتمن. ولما حضرته الوفاة قال له ابنه: قد هيأت لكفنك ستين ثوبا فقال: يا بني قد دنا لأبيك لباس خير من لباسه. ثم مات ودفن بالتوسة قرب الكوفة، وكان يلبس القميص ويرقعه، ولما مات استخلف على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد وكان خليفته على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان وعزل بعد ذلك عبد الله بن خالد عن الكوفة وولّى عليها الضحّاك بن قيس.
ولاية عبيد الله بن زياد على خراسان ثم على البصرة
ولما قدم ابنه عبيد الله على معاوية وهو ابن خمس وعشرين سنة قال: من استعمل أبوك على المصرين؟ فأخبره فقال: لو استعملك لاستعملتك. فقال عبيد الله:
أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك لو استعملك أبوك وعمك استعملتك. فولّاه خراسان ووصّاه فكان من وصيته: اتق الله ولا تؤثرنّ على تقواه شيئا، فإنّ في تقواه عوضا وق عرضك من أن تدنسه، وإن أعطيت عهدا فأوف به، ولا تتبعنّ كثيرا بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردنّ عليك. وإذا لقيت عدوّك فكبّر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعنّ أحدا في غير حقه، ولا تؤيسنّ أحدا من حق هو له. ثم ودّعه فسار إلى خراسان أوّل سنة أربع وخمسين، وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلابي، ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل ففتح رامين ونسف وسكند ولقيه الترك فهزمهم وكان مع ملكهم امرأته خاتون، فأعجلوها عن لبس خفيها، فأصاب المسلمون أحدهما وقوّم بمائتي ألف درهم. وكان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه ثم يرفع رايته تقطر دما. وكان هذا الزحف من زحوف خراسان المعدودة، وكانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان والمرعات وزحف لعبد الله بن حازم قضى فيه جموع فاران وأقام عبيد الله واليا على خراسان سنتين وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على البصرة. وذلك أنّ ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة، فحصبه رجل من بني ضبّة فقطع يده فأتاه بنو ضبة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار(3/18)
عنه، وأنه قطع على أمر لم يصح، مخافة أن يعاقبهم معاوية جميعا فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة وأوفاه الضبّيّون بالكتاب، فادّعوا أنّ ابن غيلان قطع صاحبهم ظلما فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أمّا القود من عمّالي فلا سبيل إليه، ولكن أدي صاحبكم من بيت المال وعزل عبد الله بن غيلان عن البصرة، واستعمل عليها عبيد الله بن زياد، فسار إليها عبيد الله وولّى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي فلم يغز ولم يفتح.
العهد ليزيد
ذكر الطبري بسنده قال: قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف، فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولّي سعيد بن العاص وقال أصحاب المغيرة للمغيرة: إنّ معاوية قلاك، فقال لهم: رويدا ونهض إلى يزيد وعرض له بالبيعة. وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش ورادوا أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وسياسة، وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك فأدّى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في ذلك. فقال: قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان وفي يزيد منك خلف، فاعهد له يكون كهفا للناس بعدك فلا تكون فتنة ولا يسفك دم وأنا أكفيك الكوفة ويكفيك ابن زياد البصرة فردّ معاوية المغيرة إلى الكوفة، وأمره أن يعمل في بيعة يزيد فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية فأجابوه، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد.
فقال: أوقد رضيتموه؟ قالوا: نعم! نحن ومن وراءنا. فقال: ننظر ما قدمتم له ويقضي الله أمره، والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر [1] .
وكف عن هدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الظعينة بين قرايته ويقول لو لم تكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم يجب عليك أن تدعي ذلك فاعتذر له معاوية وتنصّل. وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيرا فلما كان سنة سبع وخمسين عزل مروان وولّى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقيل سنة ثمان [2] .
__________
[1] بياض بالأصل وفي تاريخ الطبري «حدثني الحارث قال: حدثنا علي عن مسلمة، قال: لما أراد معاوية
[2] هذا المقطع غير منسجم مع العنوان: العهد ليزيد، فهو يتكلم عن عزل سعيد بن العاص وتولية مروان بن الحكم مكانه، وأمره مروان بهدم دار سعيد والقصة مذكورة في مكان سابق من هذا الكتاب.
506- 511- طبعة دار صادر 1965(3/19)
__________
[ () ] ان يبايع ليزيد كتب الى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد ابن كعب النميري فقال: ان لكل مستبشر ثقة ولكل سر مستودع وان الناس قد أبدعت من خصلتان: اذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها. وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه، وقد عجمتها منك فاحمدت الّذي قبلك. وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف. ان أمير المؤمنين كتب إلي يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد وهو يتخوف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم. ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدّيا عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقل له: رويدك بالأمر، فأقمن ان يتم لك ولا تعجل. فان دركا في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت.
فقال عبيد له أفلا غير هذا؟ قال ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه ولا تمقت اليه ابنه، وألقى أنا يزيد سرا من معاوية فأخبره عنك ان أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخاف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وانك ترى له ترك ما ينقم عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد. فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة.
فقال زياد: رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فان أصبت فما لا ينكر وان يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إنشاء الله من الخطأ. قال تقول بما ترى ويقضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكتب زياد الى معاوية يأمره بالتؤدة وان لا يعجل فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فاقطعه قطيعة» . الطبري ج 6 ص 169- 170.
وورد في الكامل لابن الأثير بعد ذكر الرواية المذكورة أعلاه عن الطبري بفارق قليل: ج 3 ص 507.
«فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل الى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد ان ديني عندي إذن لرخيص وامتنع، ثم كتب معاوية بعد ذلك الى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني ودق عظمي وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي. وقد رأيت ان أتخير لهم من يقوم بعدي، وقد كرهت ان اقطع امرا دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم واعلمني بالذي يردون عليك. فقام مروان بالناس فأخبرهم به. فقال الناس:
أصاب ووفق، وقد أحببنا ان يتخير لنا فلا يألو.
فكتب مروان الى معاوية بذلك، فأعاد اليه الجواب يذكر يزيد، فقام مروان فيهم وقال: ان أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال:
كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون ان تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الّذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قال لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما 46: 17 الآية.
فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء حجاب وقالت: يا مروان يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله وما هو به ولكنه فلان بن فلان ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله.
وقام الحسين بن عليّ فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر وابن الزبير. فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب الى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وان يوفدوا اليه الوفود من الأمصار ...
تم ذكر الوفود التي وفدت على معاوية ويزيد وذكر كلام المتكلمين بهذا الشأن. وسفر معاوية الى المدينة ثم الى مكة الى ان قال ص 510: ثم أقبل معاوية على ابن الزبير فقال: هات لعمري انك خطيبهم فقال: نعم نخيرك بين ثلاث خصال. قال اعرضهن قال: تصنع كما صنع رسول الله (ص) أو كما صنع أبو بكر أو كما صنع عمر. قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله (ص) ولم يستخلف(3/20)
عزل الضحاك عن الكوفة وولاية ابن أمّ الحكم ثم النعمان بن بشير
عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين وولى مكانه عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي وهو ابن أمّ الحكم أخت معاوية فخرجت عليه الخوارج الذين كان المغيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة، وخرجوا من سجنه بعد موته فاجتمعوا على حيّان بن ضبيان السلميّ ومعاذ بن جرير الطائي، فسيّر إليهم عبد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج. ثم إنّ أهل الكوفة نقلوا عن عبد الرحمن سوء سيرته، فعزله معاوية عنهم وولّى مكانه النعمان بن بشير. وقال: أوليك خيرا من الكوفة، فولّاه مصر، وكان عليها معاوية بن خديج السكونيّ، وسار إلى مصر فاستقبله معاوية على مرحلتين منها، وقال: ارجع إلى حالك لا تسر فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن خديج في عمله.
__________
[ () ] أحدا فارتضى الناس ابا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد الى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وان شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.
قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال لا! ثم قال: فأنتم! قالوا: قولنا قوله. قال: فاني قد أحببت ان أتقدم إليكم انه قد أعذر من أنذر، أني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح واني قائم بمقالة، فأقسم باللَّه لئن رد علي أحدكم بكلمة في مقامي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه في حضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فان ذهب رجل منهم يرد على كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ان هؤلاء الرهط من المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يقضى إلا عن مشورتهم وأنهم رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف الى المدينة.
فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انكم لا تبايعون فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم ان تردوا على الرجل. قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثم انصرف الى الشام» ص 511(3/21)
ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفي سنة تسع وخمسين قدم عبد الرحمن بن زياد وافدا على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين أما لنا حق؟ قال: بلى! فماذا قال توليني؟ قال: بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالبصرة وخراسان عبيد الله أخوك، وبسجستان عبّاد أخوك ولا أرى ما يشبهك إلا أن أشركك في عمل عبيد الله فإن عمله واسع يحتمل الشركة فولّاه خراسان فسار إليها، وقدّم بين يديه قيس بن الهيثم السلميّ، فأخذ أسلم بن زرعة وحبسه. ثم قدم عبد الرحمن فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم وأقام بخراسان وكان متضعّفا لم يقرّ قط. وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين، فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم. فقال له يزيد: كم معك من مال خراسان؟ قال عشرون ألف درهم فخيّره بين أخذها بالحساب وردّه إلى عمله أو تسويغه إياها وعزله، على أن يعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، فاختار تسويغها والعزل. وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني. ثم إنّ أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله فرحب به معاوية وأجلسه معه على سريره. ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت الأحنف، فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم، فقال: انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله واطلبوا واليا ترضونه، فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أمية وأشراف الشام، وقعد الأحنف في منزله، ثم أحضرهم معاوية وقال: من اخترتم فسمّى كل فريق رجلا والأحنف ساكت. فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال: إن ولّيت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت من غيرهم ينظر في ذلك قال: فإنّي قد أعدته عليكم، ثم أوصاه بالأحنف وقبّح رأيه في مباعدته ولما هاجت الفتنة لم يعزله غير الأحنف ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم.
بقية الصوائف
دخل بسر بن أرطاة سنة اثنتين وخمسين أرض الروم وشتّى بها وقيل رجع ونزل هنالك سفيان بن عوف الأزديّ فشتّى بها وتوفي هنالك انتهى. وغزا بالصائفة محمد بن عبد الله الثقفيّ، ثم دخل عبد الرحمن ابن أمّ الحكم سنة ثلاث وخمسين إلى أرض الروم وشتّى بها وافتتحت في هذه السنة رودس، فتحها جنادة بن أبي أميّة الأزديّ ونزلها المسلمون على حذر من الروم، ثم كانوا يعترضونه في البحر(3/22)
ويأخذون سفنه، وكان معاوية يدركهم بالعطاء حتى خافهم الروم ثم نقلهم يزيد في ولايته. ثم دخل سنة أربع وخمسين الى بلاد الروم محمد بن مالك وشتى بها وغزا بالصائفة [1] ابن يزيد السلميّ، وفتح المسلمون جزيرة أروى قرب القسطنطينيّة ومقدمهم جنادة بن أبي أمية، فملكوها سبع سنين ونقلهم يزيد في ولايته وفي سنة خمس وخمسين كان شتّى سفيان بن عوف بأرض الروم، وقيل عمر بن محرز وقيل عبد الله بن قيس. وفي سنة ست وخمسين كان شتّى جنادة بن أبي أميّة، وقيل عبد الرحمن بن مسعود، وقيل غزا في البحر يزيد ابن سمرة. وفي البرّ عياض بن الحرث. وفي سنة سبع وخمسين كان شتّى عبد الله بن قيّس بأرض الروم. وغزا مالك بن عبد الله الخثعميّ في البرّ، وعمر بن يزيد الجهنيّ في البحر.
وفي سنة ثمان وخمسين كان شتّى عمر بن مرّة الجهنيّ بأرض الروم، وغزا في البحر جنادة بن أميّة. وفتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد الروم، وعليهم عمير بن الحباب السلميّ صعد سورها وقاتل عليه وحده حتى انكشف الروم وفتحه.
وفي سنة ستين غزا مالك بن عبد الله سويّة وملك جنادة بن أبي أمية رودس وهدم مدينتها.
وفاة معاوية
وتوفي معاوية سنة ستين وكان خطب الناس قبل موته وقال: إني كزرع مستحصد وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أنّ من كان قبلي خير مني. وقد قيل من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه. اللَّهمّ إني قد أحببت لقاءك فاحبب لقائي وبارك لي. فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه فدعا ابنه يزيد وقال: يا بنيّ إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأمور وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد. وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الّذي انتسب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأمّا ابن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق غيره بايعك. وأمّا الحسين فإنّ أهل العراق لم يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإنّ له رحما ما مثله وحقا
__________
[1] بياض في الأصل وفي الطبري ج 3 ص 164: «ففيها كان مشتى محمد بن مالك أرض الروم وصائفة معن بن يزيد السلمي» .(3/23)
عظيما. وأمّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله وليس له همّة إلّا في النساء. وأمّا الّذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك وقدرت عليه فقطعه إربا إربا. هذا حديث الطبري عن هاشم وله عن هاشم من طريق آخر قال: لما حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد غائبا فدعا بالضحّاك بن قيس الفهريّ وكان صاحب شرطته، ومسلم بن عتبة المزنيّ فقال: أبلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنّهم أهلك فأكرم من قدم إليك منهم وتعاهد من غاب. وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف. وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شيء من عدوّك فانتصر بهم، فإذا أصبتم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن قاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم ولست أخاف عليك من قريش إلّا ثلاثا ولم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر. وقال في ابن عمر: قد وقذه الدين فليس ملتمسا شيئا قبلك وقال في الحسين: ولو أني صاحبه عفوت عنه. وأنا أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه. وقال في ابن الزبير: إذا شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحا فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت.
(وتوفي في منتصف رجب) ويقال جمادى لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته وكان على خاتمه عبد الله بن محصن الحميريّ وهو أوّل من اتخذ ديوان الخاتم، وكان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم، وكتب له بذلك إلى زياد بالعراق، ففض عمر الكتاب وصيّر المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، وأخذ عمر بردّها وحبسه فأدّاها عنه أخوه عبد الله فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم، وحزم الكتب ولم تكن تحزم وكان على شرطته قيس بن همزة الهمدانيّ، فعزله ابن بيد بن عمر العدويّ، وكان على حرسه المختار من مواليه. وقيل أبو المحارى مالك مولى حميرة وهو أوّل من اتخذ الحرس. وعلى حجابه مولاه سعد، وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي، وعلى القضاء فضالة بن عبد الله الأنصاري وبعده أبو دويس عائذ بن عبد الله الخولانيّ.
بيعة يزيد
بويع يزيد بعد موت أبيه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمر(3/24)
ابن سعيد بن العاص، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير. ولم يكن همّه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد بموت معاوية، وأن يأخذ حسينا وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية، استرجع وترحم، واستشار الوليد في أمر أولئك النفر، فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلّا ابن عمر فإنه لا يحب القتال، ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر. فبعث الوليد لوقته عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث، فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس وقال: أجيبا الأمير فقالا: لا تنصرف إلا أن نأتيه، ثم حدّثا فيما بعث إليهما، فلم يعلموا ما وقع. وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار اليه فأجلسهم بالباب، وقال إنّ دعوتكم أو سمعتم صوتي عاليا فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل فسلّم ومروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعة، ودعا لهما بإصلاح ذات البين فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحم وقال: مثلي لا يبايع سرّا ولا يكتفى بها مني، فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان أمرنا واحدا وكنت أوّل مجيب فقال الوليد وكان يحب المسالمة: انصرف. فقال مروان: لا يقدر منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينهم، ألزمه البيعة وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال أنت تقتلني أو هو! كذبت والله! وانصرف إلى منزله. وأخذ مروان في عذل الوليد. فقال: يا مروان والله ما أحب أنّ لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت الحسين إن قال لا أبايع. واما ابن الزبير فاختفى في داره وجمع أصحابه، وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وهدّدوه، وأقاموا ببابه في طلبه، فبعث ابن الزبير أخاه جعفرا يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من الذعر، ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه، فبعث إليهم وانصرفوا.
وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى مكة فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه. ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال: أصبحوا وترون وفري. وسار في الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد نصحه وقال تنحّ عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس، فإن أجابوك فاحمد الله، وإن(3/25)
اجتمعوا على غيرك فلم يضرّ بذلك دينك ولا عقلك، ولم تذهب به مروأتك ولا فضلك، وأنا أخاف أن تأتي مصرا أو قوما فيختلفون عليك، فتكون الأوّل إساءة، فإذا خير الأمّة نفسا وأبا أضيعها ذمارا وأذلها. قال له الحسين: فإنّي ذاهب قال:
انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن فاتت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال. ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس، وتعرف الرأي فقال يا أخي نصحت وأشفقت! ولحق بمكة. وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال: أنا أبايع أمام الناس، وقيل ابن عمر وابن عبّاس كانا بمكة، ورجعا إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين، وقدم هو وابن عبّاس المدينة وبايعا عنه بيعة الناس ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمر بن سعيد قال: أنا عائد بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه ناحية.
عزل الوليد عن المدينة وولاية عمر بن سعيد
ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر، عزله عن المدينة واستعمل عليها عمر بن سعيد الأشرق فقدمها في رمضان واستعمل على شرطته عمر ابن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء، وأحضر نفرا من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم. ثم جهّز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها، وقال لعمر بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ فقال: لا تجد رجلا أنكى له مني.
فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم أنيس بن عمرو الأسلمي. وعذله مروان بن الحكم في غزو مكة وقال له: اتّق الله ولا تحلّ حرمة البيت فقال: والله لنغزونه في جوف الكعبة وجاء أبو شريح الخزاعيّ إلى عمر بن سعيد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس. فقال له عمر: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ. وقيل إنّ يزيد كتب إلى عمر بن سعيد أن يبعث عمر بن الزبير بالجيش إلى أخيه، فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدّمته أنيس. فنزل أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح وبعث إلى أخيه أن برّ يمين(3/26)
يزيد، فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلّا أن يؤتى بك في جامعه فلا يضرب الناس بعضهم بعضا، فإنك في بلد حرام. فأرسل عبد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عبد الله بن صفوان فهزموا أنيسا بذي طوى وقتل أنيس في الهزيمة وتخلّف عن عمر بن الزبير أصحابه فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير. وقال لأخيه:
قد أجرته فأنكر ذلك عليه. وقيل: إنّ صفوان قال لعبد الله بن الزبير: اكفني أخاك أنا أكفيك أنيس بن عمرو، وسار إلى أنيس فهزمه وقتله. وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمر فتفرّق عنه أصحابه، وأجاره أخوه عبدة، فلم يجز أخوه عبد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة وحبسه بسجن عارم ومات تحت السياط.
مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله
ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع وسأله أين تريد؟ فقال: مكة وأستخير الله فيما بعد، فنصحه أن لا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس. ورجع عنه وترك الحسين بمكّة فأقام والناس يختلفون إليه، وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتي ويعلم أنّ أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين.
ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب ابن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ، وعبد الله بن وال ثم كتبوا إليه ثانيا بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثا يستحثونه للحاق بهم كتب له بذلك شيث بن ربعيّ وحجاز بن ابجر ويزيد بن الحرث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجّاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي فأجابهم الحسين: فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، يكتب إليّ بأمركم ورأيكم، فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريبا. ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدين بدين الحق. وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد وودّع أهله واستأجر دليلين من قيس فضلّا الطريق وعطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا(3/27)
إليهم بموضع الماء، فانتهوا إليه وشربوا ونجوا فتطيّر مسلم من ذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه. فكتب إليه خشيت أن لا يكون حملك على ذلك إلّا الجبن، فامض لوجهك والسلام. وسار مسلم فدخل الكوفة أوّل ذي الحجة من سنة ستين، واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب الحسين، فبكوا ووعدوه النصر وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة وكان حليما يجنح إلى المسالمة، فخطب وحذّر الناس الفتنة. وقال:
لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آخذ بالظنّة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فو الله لأضربنّكم بسيفي ما دام قائمته بيدي، ولو لم يكن لي ناصر فقال له بعض حلفاء بني أمية: لا يصلح ما ترى إلا الغشم، وهذا الّذي أنت عليه مع عدوّك رأي المستضعفين فقال: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب اليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله. ثم تركه فكتب عبد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقّاص إلى يزيد بالخبر، وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل عملك في عدوّك فأشار عليه سرجون [1]
__________
[1] هنا بياض بالأصل نحو ثلاث ورقات. وجاء في الكامل لابن الأثير ج 4 ص 22 وما بعدها (طبعة دار صادر) : «فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية فأقرأه الكتب، واستشاره فيمن يوليه الكوفة، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم! قال: فاخرج عهد عبيد الله على الكوفة. فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه. وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره اليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه. فلما وصل كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهّز ليبرز من الغد. وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخة واحدة إلى الاشراف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله ... ص 23» .
وجاء في الطبري ج 6 ص 200 (طبعة مصر) : «وقد كان حسين كتب إلى أهل البصرة كتابا. قال هشام، قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن أبي عثمان النهديّ قال: كتب حسين مع مولى لهم يقال له سليمان وكتب بنسخة إلى رءوس الأخماس بالبصرة والى الاشراف. فكتب إلى مالك بن مسمع البكري والى الأحنف بن قيس والى المنذر بن الجارود والى مسعود بن عمرو والى قيس بن الهيثم والى عمر بن عبد الله بن معمر. فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع اشرافها وهذا نصه: «أما بعد فان الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته. ثم قبضه الله اليه.
وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وسلم.
وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة. وأحببنا العافية ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه. وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وانا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه (ص) . فان السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله.»(3/28)
__________
[ () ] مسير الحسين إلى الكوفة ووقعة كربلاء:
انها وقعة عظيمة، وهي ضمن الأوراق البيضاء في هذا الكتاب، تاريخ العبر للعلامة ابن خلدون.
ذكرها الطبري باسهاب في الجزء السادس من ص (194) إلى ص (271) .
وذكرها ابن الأثير في تاريخ الكامل في ج 4 ص 37 وما بعدها إلى ص 94 وقد أثبتنا هنا عن هذه الوقعة ما ورد في تاريخ المختصر في أخبار البشر لابي الفداء صاحب حماه ج 2. ص 104- 107 طبعة بيروت.» ومن أراد زيادة الإسهاب فليرجع الى التواريخ المطولة.
ذكر مسير الحسين إلى الكوفة كما ورد بتاريخ ابو الفداء وورد على الحسين مكاتبات يحثونه على المسير اليهم ليبايعوه، وكان العامل عليها النعمان ابن بشير الأنصاري، فأرسل الحسين إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليأخذ البيعة عليهم، فوصل إلى الكوفة وبايعه بها، قيل ثلاثون الفا، وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس، وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد وكان واليا على البصرة فقدم الكوفة ورأى ما الناس عليه، فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية، واستمر مع مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين، وحصروا عبيد الله بن زياد بقصره، ولم يكن مع عبيد الله في القصر أكثر من ثلاثين رجلا، ثم ان عبيد الله أمر أصحابه ان يشرفوا من القصر ويمنوا أهل الطاعة ويخذلوا أهل المعصية، حتى ان المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول انصرف ان الناس يكفونك، فتفرق الناس عن مسلم، ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلا، فانهزم واستتر، ونادى منادي عبيد الله بن زياد من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته، فأمسك مسلم واحضر اليه، ولما حضر مسلم بين يدي عبيد الله شتمه وشتم الحسين وعليا وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته من القصر، ثم أحضر هانئ بن عروة وكان ممن أخذ البيعة للحسين فضرب عنقه أيضا، وبعث برأسيهما الى يزيد بن معاوية، وكان مقتل مسلم بن عقيل لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه الى العراق، وكان عبد الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق خوفا عليه، وقال للحسين يا ابن العم إني أخاف عليك أهل العراق، فإنهم قوم أهل غدر، وأقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، وان أبيت الا أن تخرج فسر الى اليمن، فان بها شيعة لأبيك وبها حصون وشعاب، فقال الحسين يا ابن العم اني أعلم والله أنك ناصح مشفق، ولقد أزمعت وأجمعت، ثم خرج ابن عباس من عنده وخرج الحسين من مكة يوم التروية سنة ستين، واجتمع عليه جماعة من العرب، ثم لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، اعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يمينا وشمالا، ولما وصل الحسين الى مكان يقال له سراف، وصل اليه الحر صاحب شرطة عبيد الله بن زياد في الفي فارس، حتى وقفوا مقابل الحسين في حر الظهيرة، فقال لهم الحسين ما أتيت الا بكتبكم فان رجعتم رجعت من هنا، فقال له صاحب شرطة ابن زياد انا أمرنا ان لا نفارقك حتى نوصلك الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أهون من ذلك، وما زالوا عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد (ثم دخلت سنة احدى وستين) .
ذكر مقتل الحسين كما ورد في تاريخ ابو الفداء ولما سار الحسين مع الحر ورد كتاب من عبيد الله بن زياد الى الحر يأمره ان ينزل الحسين ومن معه على غير ماء، فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء، وذلك يوم الخميس ثاني المحرم من هذه السنة أي سنة(3/29)
مسيرة المختار الى الكوفة وأخذها من ابن المطيع بعد وقعة كربلاء
مضى إبراهيم الى المختار وأخبره الخبر وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر الحسين، ومضى
__________
[ () ] احدى وستين، ولما كان من الغد قدم من الكوفة عمر بن سعد ابن أبي وقاص بأربعة آلاف فارس، أرسله ابن زياد لحرب الحسين، فسأله الحسين في أن يمكن اما من العود من حيث أتى، واما ان يجهز الى يزيد بن معاوية، واما ان يمكن أن يلحق بالثغور، فكتب عمر الى ابن زياد يسأل أن يجاب الحسين الى أحد هذه الأمور، فاغتاظ ابن زياد فقال لا ولا كرامة، فأرسل مع شمر بن ذي الجوشن الى عمر بن سعد، اما ان تقاتل الحسين وتقتله وتطأ الخيل جثته، واما ان تعتزل ويكون الأمير على الجيش شمر، فقال عمر بن سعد بل أقاتله، ونهض عشية الخميس تاسع المحرم من هذه السنة، والحسين جالس امام بيته بعد صلاة العصر. فلما قرب الجيش منه سألهم مع أخيه العباس ان يمهلوه الى الغد، وانه يجيبهم الى ما يختارونه فأجابوه إلى ذلك. وقال الحسين لأصحابه اني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فقال اخوه العباس لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا! ثم تكلم اخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر في نحو ذلك، وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله ويدعون، فلما أصبحوا ركب عمر بن سعد في أصحابه وذلك يوم عاشوراء من المذكورة، وعبى الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا. ثم حملوا على الحسين وأصحابه واستمر القتال الى وقت الظهر من ذلك اليوم، فصلى الحسين وأصحابه صلاة الخوف. واشتد بالحسين العطش، فتقدم ليشرب فرمي بسهم فوقع في فمه. ونادى شمر: ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه، فضربه زرعة بن شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح، فوقع فنزل اليه فذبحه واحتز رأسه. وقيل ان الّذي نزل واحتز رأسه هو شمر المذكور، وجاء به الى عمر بن سعد، فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بخيولهم، ثم بعث بالرءوس والنساء والأطفال الى عبيد الله بن زياد فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم ارفع هذا القضيب فو الّذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (ص) على هاتين الشفتين. ثم بكى، وروي انه قتل مع الحسين من أولاد علي أربعة هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر ومحمد، ومن أولاد الحسين أربعة، وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر ومن أولاد عقيل. ثم بعث ابن زياد بالرءوس وبالنساء والأطفال. ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم، وأن يبعث معهم أمينا يوصلهم الى المدينة، فجهزهم الى المدينة، ولما وصلوا اليها لقيهم نساء بني هاشم حاسرات وفيهن ابنة عقيل بن أبي طالب وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون ان قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
(واختلف) في موضع الحسين فقيل جهز الى المدينة ودفن عند امه. وقيل دفن عند باب الفراديس، وقيل ان خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأسا الى القاهرة ودفنوه بها وبنوا عليه مشهدا يعرف بمشهد الحسين، وقد اختلف في عمره والصحيح انه خمس وخمسون سنة وأشهر. وقيل حج الحسين خمسا وعشرين حجة ماشيا، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة (وأما) عبد الله بن الزبير فإنه استمر بمكة ممتنعا عن الدخول في طاعة يزيد بن معاوية.(3/30)
إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلا وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء ثم لقي بعضهم فهزمهم، ثم آخرين كذلك ثم رجع إلى المختار فوجد شيث بن ربعيّ وحجاز بن أبجر العجليّ يقاتلانه فهزمهما، وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم قبل فولّى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافي إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة وبعث ابن مطيع شيث بن ربعي في ثلاثة آلاف، وربع بن إياس في أربعة آلاف فسرّح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل ونعيم بن هبيرة لشيث في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل واقتتلوا من بعد صلاة الصبح. وقتل نعيم فوهن المختار لقتله وظهر شيث وأصحابه عليهم وقاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه وركبهم الفشل. وبعث ابن المطيع جيشا كثيفا فهزمهم، ثم حمل على شيث فهزمه، وبعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة. ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش فشجعه عمر ابن الحجّاج الزبيديّ وقال له: اخرج واندب الناس ففعل. وقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وندبهم ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في ألفين ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف. ووقف هو بكتائبه. واختلف على القصر شيث بن ربعي فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره، ثم من عليه ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثا ومعه يزيد بن أنس وأحمد بن شميط، ولما اشتدّ الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شيث بن ربعي بأن يستأمن للمختار، ويلحق بابن الزبير وله ما يعده. فخرج عنهم مساء ونزل دار أبي موسى واستأمن القوم للمختار فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد فخطبهم، ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة، واللطف بأهل البيت، ووعدهم بحسن السيرة وبلغه أنّ ابن مطيع في دار أبي موسى فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه. وكان ابن مطيع قد فرّق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك الكوفة، وجعل على شرطته عبد الله بن كامل، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة، وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحرث بن الأشتر على أرمينية، ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، ولإسحاق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن حذيفة ابن اليمان على حلوان. وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة. وولى شريحا على(3/31)
القضاء ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عديّ، ولم يبلغ عن هانئ بن عروة رسالته إلى قومه وأنّ عليّا غرمه وأنه عثمانيّ [1] . وسمع ذلك هو فتمارض فجعل مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم مرض فولّى مكانه عبد الله بن مالك الطائيّ.
مسيرة ابن زياد الى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه
كان مروان بن الحكم لما استوثق له الشام بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش ابن دلجة القينيّ وقد شاتة ومقتلة [2] . والآخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد فكان من أمره وأمر التوّابين من الشيعة ما تقدّم وأقام محاصرا لزفر بن الحرث بقرقيسياء، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها. ثم توفي مروان وولي بعده عبد الملك فأقرّه على ولايته وأمره بالجدّ ويئس من أمر زفر وقيس، فنهض إلى الموصل فخرج عنها عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت، وكتب إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسديّ في ثلاثة آلاف إلى الموصل، فسار إليها على المدائن وسرّح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنويّ في ثلاثة آلاف فالتقيا ببابل وعبّأ يزيد أصحابه وهو راكب على حمار وحرّضهم، وقال: إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسديّ وإن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري، وإن هلك فسعد الخثعميّ. ثم اقتتلوا يوم عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار الفلّ غير بعيد فلقيهم عبد الله بن حملة الخثعميّ قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف فردّ المنهزمين وعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام وأثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم. وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد، وقال: نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك. وانصرف الناس وتقدّم الخبر إلى الكوفة فأرجف الناس بالمختار وأشيع أنّ يزيد قتل وسرّ المختار رجوع العسكر فسرّح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف وضم إليه جيش يزيد ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك. ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهليا اسلاميا، وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به. فقال: حتى ألقاه وأعذر إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه فوعده
__________
[1] نسبة الى عثمان بن عفان.
[2] لم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه الأسماء.(3/32)
الرجوع إلى مرادهم، وذكر له شأن الموالي وشركتهم في الفيء فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن الزبير تركتهم فقال: اخرج إليهم بذلك وخرج فلم يرجع. واجتمع رأيهم على قتاله وهم شيث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعد بن قيس وشمر بن ذي الجوشن وكعب بن أبي كعب النخعيّ، وعبد الرحمن بن مخنف الأزديّ. وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشدّ، فأبوا من رأيه وقالوا: لا تفسد جماعتنا. ثم خرجوا وشهروا السلاح وقالوا للمختار: اعتزلنا فإنّ ابن الحنفية لم يبعثك. قال: نبعث إليه الرسل مني ومنكم، وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات وكفّ أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع فجاء فرأى القوم مجتمعين ورفاعة بن شدّاد البجليّ [1] يصلي بهم. فلما وصل إبراهيم عبّأ المختار أصحابه وسرح بين يديه أحمد ابن شميط البجليّ وعبد الله بن كامل الشادي فانهزم أصحابهما وصبرا ومدّهما المختار بالفرسان والرجال فوجا بعد فوج، وسار ابن الأشتر الى مصر وفيهم شيث ابن ربعيّ فقاتلوه فهزمهم فاشتدّ ابن كامل على اليمن ورجع رفاعة بن شدّاد أمامهم إلى المختار فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عبد الله بن سعيد بن قيس، والفرات ابن زخر بن قيس، وعمر بن مخنف، وخرج أخوه عبد الرحمن فمات وانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم فكانوا نصفهم وأطلق الباقين ونادى المختار الأمان إلا من شهد في دماء أهل البيت وفرّ عمر بن الحجّاج الزبيدي، وكان أشدّ من حضر قتل الحسين، فلم يوقف له على خبر وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه وانتهى إلى قرية الكلبانية فارتاح يظنّ أنه نجا. وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار، بعثه مسلخة بينه وبين أهل البصرة، فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله وألقى شلوه للكلاب وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا أكثرهم من اليمن، وكان آخر سنة ست وستين، وخرج أشراف الناس إلى البصرة وتتبع المختار قتلة الحسين ودلّ على عبيد الله بن أسد الجهنيّ ومالك بن نسير الكنديّ.
وحمل ابن مالك المحاربيّ بالقادسية فأحضرهم وقتلهم. ثم أحضر زياد بن مالك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الجبيليّ.
ابن خلدون م 3 ج 3-(3/33)
الضبعيّ وعمران بن خالد العثريّ وعبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي، وعبد الله ابن قيس الخولانيّ، وكانوا نهبوا من الورث الّذي كان مع الحسين فقتلهم وأحضر عبد الله أو عبد الرحمن بن طلحة وعبد الله بن وهيب الهمدانيّ ابن عم الأعشى فقتلهم. وأحضر عثمان بن خالد الجهنيّ وأبا أسماء بشر بن سميط القابسيّ، وكانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فقتلهما وحرقهما بالنار. وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحيّ صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق بالنار. ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عبد الله بن أبي جعدة ابن هبيرة فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده فقال: تعرف هذا؟ قال:
نعم! ولا خير في العيش بعده فقتله. ويقال: إن الّذي بعث المختار على قتلة الحسين أنّ يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية، فقال له ابن الحنفية:
يزعم المختار أنه لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدّثونه فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل وبعث برأس عمر وابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين بسهم، وأصاب سلب العباس ابنه. وجاء عديّ بن حاتم يشفع فيه فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذرا من قبول المختار شفاعته. وبحث عن مرّة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير وقد شلّت يده بضربة وبحث عن زيد وفاد الحسين [1] قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى فخرج بالسيف يدافع. فقال ابن كامل: ارموه بالحجارة فرموه حتى سقط وأحرقوه حيّا. وطلب سنان بن أنس الّذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة. وطلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعنا بالرماح، وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسيّة فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره. وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 243: «وبعث المختار الى زيد بن رقاد الجنبيّ أو الحبّاني» .(3/34)
شأن المختار مع ابن الزبير
كان على البصرة الحرث بن أبي ربيعة وهو القبّاع عاملا لابن الزبير. وعلى شرطته عبّاد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم. وجاء المثنّى بن مخرمة العبديّ وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد، ورجع فبايع للمختار وبعثه إلى البصرة يدعو له بها فأجابه كثير من الناس، وعسكر لحرب القبّاع. فسرّح إليه عبّاد بن حسين وقيس بن الهيثم في العساكر فانهزم المثنّى إلى قومه عبد القيس، وأرسل القبّاع عسكرا يأتونه به فجاءه زياد بن عمر العنكبيّ فقال له: لتردنّ خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنّهم فأرسل الأحنف بن قيس وأصلح الأمر على أن يخرج المثنّى عنهم فسار إلى الكوفة. وقد كان المختار لما أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتمّ أمره في الدعاء لأهل البيت، وطلب المختار في الوفاء بما وعده به من الولاية، فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره، فولّى عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام على الكوفة، وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها وجاء الخبر إلى المختار، فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس، وأعطاه سبعين ألف درهم، وقال: ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق، وأمره بالانصراف بعد تمكث، فإن أبى فأره الخيل فكان كذلك. ولما رأى عمر الخيل أخذ المال وسار نحو البصرة، واجتمع هو وابن مطيع في امارة القبّاع قبل وثوب ابن مخرمة. وقيل إنّ المختار كتب إلى ابن الزبير: إني اتخذت الكوفة دارا فإن سوّغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى الشام وكفيتك مروان، فمنعه من ذلك فأقام المختار بطاعته ويوادعه ليتفرّغ لأهل الشام ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى فسرّح شرحبيل ابن دوس الهمدانيّ في ثلاثة آلاف أكريم [1] من الموالي وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك، واتهمه ابن الزبير فبعث من مكّة عبّاس بن سهل بن سعد في ألفين وأمره أن يستنفر العرب وإن رأى من جيش المختار خلافا ناجزهم وأهلكهم. فلقيهم عبّاس
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 247: فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمدانيّ فسيّره في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي ... »(3/35)
بالرقيم وهم على تعبية فقال: سيروا بنا إلى العدوّ الّذي بوادي القرى. فقال ابن دوس: إنما أمرني المختار أن آتي المدينة ففطن عبّاس لما يريد فأتاهم بالعلوفة والزاد وتخيّر ألفا من أصحابه وحمل عليهم فقتل ابن دوس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين فرجعوا للكوفة، ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير، ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته، ففعل بهم ابن الزبير ما فعل. ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلا من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك، فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت قصدك ووفاءك بحقي وأحبّ الأمر إليّ الطاعة، فأطع الله وتجنب دماء المسلمين. فلو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعا والأعوان كثيرا لكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. (ثم دعا ابن الزبير) محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع وبعث إليه ابن الزبير وأغلظ عليه وعليهم، فاستكانوا وصبروا فتركهم. فلما استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به، فاعتزم عليهم في البيعة، وتوعدهم بالقتل، وحبسهم بزمزم، وضرب لهم أجلا وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة وندبهم وبعث أمراء منهم في نحو ثلاثمائة، عليهم أبو عبد الله الجدلي وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم وساروا إلى مكّة فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم وطفقوا ينادون بثأر الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم وأخرج ابن الحنفية وكان قد بقي من أجله يومان، واستأذنوه في قتال ابن الزبير.
فقال: لا أستحلّ القتال في الحرم ثم جاء باقي الجند وخافهم ابن الزبير وخرج ابن الحنفية إلى شعب عليّ واجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال. (ولما قتل المختار) واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم في البيعة فخافه على نفسه وكتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس ووعده بالإحسان. وخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام. ولما وصل مدين لقيه خبر مهلك عمر بن سعيد فندم وأقام بأيلة، وظهر في الناس فضله وعبادته وزهده وكتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب، فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف، وعذل ابن عبّاس ابن الزبير على شأنه، ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هنالك وصلى عليه ابن الحنفية وعاش إلى أن أدرك حصار الحجّاج لابن الزبير. (ولما قتل(3/36)
ابن الزبير) بايع لعبد الملك وكتب عبد الملك إلى الحجّاج بتعظيم حقه وبسط أمله، ثم قدم إلى الشام وطلب من عبد الملك أن يرفع حكم الحجّاج عنه ففعل، وقيل إنّ ابن الزبير بعث إلى ابن عبّاس وابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام، فإنّ في هذه فتنة فحبس ابن الحنفية في زمزم وضيق على ابن عبّاس في منزله وأراد إحراقهما فأرسل المختار جيشه كما تقدّم ونفس عنهما ولما قتل المختار قوى ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف.
مقتل ابن زياد
ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه، وبعث معه بالكرسي الّذي كان يستنصر به وهو كرسيّ قد غشاه بالذهب وقال للشيعة: هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكبر شأنه وعظم. وقاتل ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة، ويقال: إنه كرسي عليّ بن أبي طالب، وإنّ المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة، وكانت أمّه أمّ هانئ بنت أبي طالب فهو ابن أخت عليّ. ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مرّ. فلما دخل إبراهيم أرض الموصل عبّى أصحابه، ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريبا من النهر وكانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج، وجند عبد الملك يومئذ [1] فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر وأوعده أن ينهزم بالميسرة، وأشار عليه بالمشاجرة ورأى عند ابن الأشتر ميلا إلى المطاولة فثناه عن ذلك وقال: إنهم
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 261: فسار إبراهيم وخلّف أرض العراق وأوغل في أرض الموصل وجعل على مقدمته الطفيل بن لقيط النّخعيّ، وكان شجاعا. فلما دنا ابن زياد عبّأ أصحابه ولم يسر إلّا على تعبية واجتماع، إلا أنه يبعث الطفيل على الطلائع حتى يبلغ نهر خازر من بلد الموصل فنزل بقرية بارشيا. واقبل ابن زياد اليه حتى نزل إليه حتى نزل قريبا منهم على شاطئ الخازر.
وأرسل عمير بن الحباب السلمي وهو من أصحاب ابن زياد، الى ابن الأشتر أن القني، وكانت قيس كلها مضطفنة على ابن مروان وقصة مرج راهط وجند عبد الملك يومئذ كلب ... » وفي الطري ج 7 ص 142: «وجاء عبد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى ابن الأشتر: اني معك وانا أريد الليلة لقاءك فأرسل إليه ابن الأشتر ان القني إذا شئت.
وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم بجدل، فأتاه عمير ليلا فبايعه» .(3/37)
ميلوا [1] منكم رعبا وإن طاولتهم اجترءوا عليكم قال: وبذاك أوصاني صاحبي. ثم عبّى أصحابه في السحر الأوّل، ونزل يمشي ويحرّض الناس حتى أشرف على القوم وجاءه عبد الله بن زهير السلولي بأنهم خرجوا على دهش وفشل وابن الأشتر يحرّض أصحابه ويذكّرهم أفعال ابن زياد وأبيه. ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم فقتل علي بن مالك الخثعميّ، ثم أخذ الراية فرد بن علي فقتل، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا. وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالا شديدا. وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشدّ قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين، وإبراهيم يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم. ثم حملوا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد. وقال ابن الأشتر إني قتلت رجلا تحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك وضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته. وحمل شريك بن جدير الثعلبي على الحصين بن نمير فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين. ويقال إنّ الّذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع وادّعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأزدي، وعبيد الله بن زهير السلمي واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكبر ممن قتل، وغنموا جميع ما في العسكر وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن وأنفذ ابن الأشتر عمّاله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة. وولّى زفر بن الحرث قيس [2] وحاتم بن النعمان الباهليّ حرّان والرهاء وشمشاط وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين وأقام بالموصل وأنفذ رءوس عبيد الله وقوّاده إلى المختار.
__________
[1] لا معنى للميل هنا ولعلها ملئوا.
[2] «قال في المشترك: قيس بفتح القاف وسكون المثناة من تحت وفي آخرها سين مهملة. وقال في اللباب:
كيش بكسر الكاف وسكون المثناة التحتية وفي آخرها شين معجمة، وجزيرة كيش بين الهند والبصرة، وبهذه الجزيرة مغاص لؤلؤ وبها نخيل محدث وأشجار جبلية وشرب أهلها من الآبار انتهى من أبي الفداء» .(3/38)
مسير مصعب إلى المختار وقتله إياه
كان ابن الزبير في أوّل سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحرث بن ربيعة وهو القبّاع وولّى مكانه أخاه مصعبا فقدم البصرة وصعد المنبر وجاء الحرث فأجلسه مصعب تحته بدرجة ثم خطب وقرأ الآيات من أوّل القصص ونزل ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار، ودخل عليه شيث بن ربعي وهو ينادي وا غوثاه! ثم قدم محمد ابن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير وبعث إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار فأبطأ وأغفل فأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب: ما وجد مصعب بريدا غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد ولكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا وحرمنا فأقبل معه المهلّب بالجموع والأموال وعسكر مصعب عند الجسر فأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سرّا ليثبط الناس عن المختار ويدعو إلى ابن الزبير وسار على التعبية وبعث في مقدمته عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي وعلى ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى ميسرته المهلّب وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه، وقرّبهم إلى الخروج مع ابن شميط وعسكر محمد في أعفر وبعث رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلّب من الميسرة على ابن كامل فثبت ثم كرّ المهلب وحمل حملة منكرة وصبر ابن كامل قليلا وانهزموا وحمل الناس جميعا على ابن شميط فانهزم وقتل واستمرّ القتل في الرجالة وبعث مصعب عبّادا فقتل كل أسير أخذه.
وتقدّم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة فلم يدركوا منهزما إلّا قتلوه. ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط وحملوا الضعفاء وأثقالهم في السفن ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة. ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه وأنّ مصعبا أقبل إليه في البرّ والبحر سار إلى مجتمع الأنهار نهر الجزيرة والمسلحين والقادسية ونهر يسر فسكّر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار. وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه وقصدوا الكوفة. وسار المختار ونزل حروراء بعد أن حصّن القصر وأدخل عدّة الحصار، وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ(3/39)
الهمدانيّ وعلى الخيل عمر بن عبيد الله النهدي. ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين. ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله ابن جعدة بن هبيرة المخزوميّ على من بإزائه فحطّم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة فقتل ابن الأشعث وعامّة أصحابه، وقتل عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب وقاتل المختار. ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل السبخة وقطع عنهم الميرة وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية ففطن مصعب لذلك فمنعه وأصابهم العطش فكانوا يصبون العسل في الآبار ويشربون. ثم إنّ المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنّط وتطيّب وخرج في عشرين رجلا منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله فقال: ويحك يا أحمق وثب ابن الزبير بالحجاز، ووثب بجدة باليمامة، وابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلّا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عقد العرب، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نيّة. ثم تقدّم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة وطرّاف ابني عبد الله بن دجاجة. وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر، واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين وأشار عليه المهلّب باستبقائهم، فاعترضه أشراف أهل الكوفة، ورجع إلى رأيهم. ثم أمر بكف المختار ابن أبي عبيد فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجّاج.
وقتل زوجه عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أنّ المختار [1] فاستأذن أخاه عبد الله وقتلها. ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة. وكتب إليه عبد الملك بولاية العراق، واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد وأشراف أهل الشام وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلّب بن أبي صفرة. وقيل إنّ المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وإنه بعث على مقدّمته أحمد بن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 275: «وقالت عمرة: رحمه الله كان عبد الله صالحا، فحبسها، وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير انها تزعم انه نبي فأمر بقتلها، فقتلت ليلا بين الكوفة والحيرة، قتلها بعض الشرط ... » .(3/40)
شميط، وبعث مصعب عبّاد الحبطيّ ومعه عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب، وتراضوا ليلا، فناجزهم المختار من ليلته وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتدّ القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة منهم محمد بن الأشعث فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب وليس عنده أحد فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به، ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم.
وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل، وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعا، وكانوا ستة آلاف رجل. ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن الحق بأبيك. وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعبا ففعل وخرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكفّ عنه. وقيل إن عبيد الله بن الزبير إنّما ردّ مصعبا إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار.
ولما ردّه إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولّاه حرب الأزارقة. وكان المهلّب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما ردّ مصعبا أراد أن يولّي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة. فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج.
خلاف عمر بن سعيد الأشرف ومقتله
كان عبد الملك بعد رجوعه من قنّسرين أقام بدمشق زمانا، ثم سار لقتال زخر [1] بن الحرث الكلابي بقرقيسياء، واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ابن أخته، وسار معه عمر بن سعيد. فلما بلغ بطنان انتقض عمر وأسرى ليلا إلى دمشق، وهرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمر وهدم داره، واجتمع إليه الناس
__________
[1] هو زفر بن الحارث الّذي ذكره الأخطل بقوله:
بني أمية اني ناصح لكم ... فلا يبيتن فيكم آمنا زفر(3/41)
فخطبهم ووعدهم وجاء عبد الملك على أثره فحاصره بدمشق ووقع بينهما القتال أياما ثم اصطلحا وكتب بينهما كتابا وأمّنه عبد الملك فخرج إليه عمر ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام ثم بعث إلى عمر ليأتيه، فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأتيه [1] فإنّي أخشى عليك منه فقال: والله لو كنت نائما ما أيقظني! ووعد الرسول بالرواح إليه، ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء، ومضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان وحسّان بن نجد الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمر فدخل. ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحسّ بالشرّ وقال للغلام: انطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك وهو لا يفهم فقال له: أغرب عني. ثم أذن عبد الملك لحسّان وقبيصة فلقيا عمر، ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثة زمنا، ثم أمر بنزع السيف عنه فأنكر ذلك عمر وقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين! فقال له عبد الملك أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟ فأخذ عنه السيف، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت بيمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم! وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟ فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية فقال عمر: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين فأخرج من تحت فراشه جامعة وأمر غلاما فجمعه فيها وسأله أن لا [2] يخرجه على رءوس الناس فقال أمكرا عند الموت؟
ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء فقال عبد الملك: والله لو علمت أنك تبقى إن أبقيت عليك وتصلح قريش لأبقيتك، ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد فشتمه عمر وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله. فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم، فامسك عنه وجلس ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمر فذبحه بيده وقيل أمر غلامه بن الزغير فقتله وفقد الناس عمر مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفا، ومعه حميد بن الحرث وحريث وزهير
__________
[1] الأصح أن يقول: لا تأته.
[2] اللام هنا زائدة، وكانت نية عمران يرى أعوانه ما هو فيه، فيهبوا لنجدته.(3/42)
ابن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وخرج الوليد بن عبد الملك واقتتلوا ساعة ثم خرج عبد الرحمن ابن أمّ الحكم الثقفيّ بالرأس فألقاه إلى الناس وألقى اليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا. ثم خرج عبد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فأخبر بجراحته وأتى بيحيى ابن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعا وألحقهم بمصعب، حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم. وكان بنو عمر أربعة أمية وسعد [1] وإسماعيل ومحمّد. ولما حضروا عنده، قال: أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم، والّذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوّليكم على أوّلينا في الجاهلية فقال سعيد: يا أمير المؤمنين تعدّ علينا أمرا كان في الجاهلية والإسلام قد هدم ذلك ووعد جنة وحذر نارا. وأمّا عمر فهو ابن عمك وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أحد ثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك وقال: أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلي، وأمّا أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم. وقيل إنّ عمر إنما كان خلفه وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها وكان قتله سنة تسعة وستين.
مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب
ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه فأبى، وسار نحو العراق وبلغ مصعبا سيره فأرسل إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولّى مكانه المهلّب وذلك حين استخلف على الكوفة. وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد على البصرة مختفيا، وأعيد لعبد الملك عند مالك ابن مسمع في بكر بن وائل والأزد، وأمدّ عبد الملك بعبيد الله ابن زياد بن ضبيان وحاربهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا فأخرجوه وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 302: سعيد.(3/43)
فسخط على ابن معمر وسبّ أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم وهدم دار مالك بن مسمع واستباحها. وعزل ابن معمر عن فارس وولّى المهلّب وخرج إلى الكوفة فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلّب على قتال الخوارج ردّه وقال له المهلّب إنّ أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا يتعدّى ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره، وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد ابن مروان، وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد، فنزلوا قريبا من قرقيسيا. وحضر زفر ابن الحرث الكلابي، ثم صالحه وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريبا من مسكن مصعب وفرّ الهذيل بن زفر فلحق بمصعب. وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوما [1] إلى مصعب فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه وقال مثل هذا الا يرغب عنه فقال إبراهيم ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ولقد كتب عبد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعن واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس، فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب. وعذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة أهل الشام فأعرضوا عنه. ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب بقول، فقال: نجعل الأمر شورى فقال مصعب: ليس بيننا إلّا السيف فقدّم عبد الملك أخاه محمدا وقدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمدّه بالجيش، فأزال محمدا عن موقفه، وأمدّه عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتدّ القتال وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهليّ والد قتيبة، وأمدّ مصعب إبراهيم بعتّاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم ونكره. وقال أوصيته لا يمدّني بعتاب وأمثاله وكان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وتقدّم أهل الشام فقاتل مصعب ودعا رءوس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال: أتظنهم يعرفون لك ذلك؟ فإن أحببت فافعل قال: لا يتحدّث نساء قريش
__________
[1] مختوم هي مضاف اليه والأصح بكتاب مختوم.(3/44)
أنى رغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب إلى عمك بمكّة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني، فإنّي مقتول. فقال: لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الطاعة أو بأمير المؤمنين بمكّة فقال: لا يتحدّث قريش أني فررت. ثم قال لعيسى: تقدّم يا بني أحتسبك فتقدّم في ناس فقتل وقتلوا. وألح عبد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق وخرج فقاتل ودعاه عبيد الله بن زياد بن ضبيان فشتمه وحمل عليه وضربه فجرحه. وخذل أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة أنفس، وأثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد ابن ضبيان فقتله وجاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها. وقال:
إنما قتلته بثأر أخي. وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته وقيل: إنّ الّذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار وأخذ عبيد الله رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل وكان ذلك سنة إحدى وسبعين. ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوما وخطب الناس فوعد المحسن، وطلب يحيى بن سعيد من جعفة وكانوا أخواله فأحضروه فأمّنه وولّى أخاه بشر بن مروان على الكوفة ومحمد بن نمير على همدان ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه، وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري، ويحيى بن معتوق الهمدانيّ قد لجئا إلى علي بن عبد الله بن عبّاس ولجأ هذيل بن زفر بن الحرث وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاما فأخبره بالخورنق وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس. ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه ولما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن معمر؟
قيل: هو على فارس. قال: فالمهلب قيل: في قتال الخوارج، قال: فعبّاد بن الحسين؟ قيل على البصرة. قال: وأنا بخراسان!
خذيني فجرّيني جهارا وأنشدي ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة، ثم إلى الشام فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف [1] به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن
__________
[1] لعله يقصد التطواف، والفعل طاف.(3/45)
معاوية فغسلته ودفنته. وانتهى قتل مصعب إلى المهلّب وهو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان ولما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال: الحمد للَّه الّذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، ألا وإنه لم يذلّ الله من كان الحق معه وإن كان الناس عليه طرّا. وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب فالذي أفرحنا منه أنّ قتله شهادة وأمّا الّذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإنّ أهل العراق، أهل الغدر والنفاق سلّموه وباعوه بأقل الثمن فإن [1] فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام ولا نموت إلّا طعنا بالرماح وتحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الّذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطور، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (ولما بلغ الخبر) إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة واستعان حمدان بعبد الله ابن الأهتم عليها، وكانت له منزلة عند بني أمية، فلما تمهّد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولّى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد، فاستخلف عليها عبيد الله ابن أبي بكرة، فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد، ثم عزل خالدا سنة ثلاث وسبعين وولّى مكانه على البصرة أخاه بشرا وجمع له المصرين وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمر بن حريث وولّى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين، فغزا الروم ومزّقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم.
أمر زفر بن الحرث بقرقيسياء
قد ذكرنا في وقعة راهط مسير بن زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه وأقام بها يدعو لابن الزبير ولما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط، وهو على
__________
[1] بياض بالأصل وفي كتاب الكامل لابن الأثير ج 4 ص 335: «فإن يقتل فمه! والله ما نموت على مضاجعنا ... » .(3/46)
حمص بالمسير إلى زفر، فسار وعلى مقدمته عبد الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب وقتل من أصحابه نحو ثلاثمائة ثم أقبل أبان فواقع زفر، وقيل ابنه وكيع بن زفر وأوهنه. ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره ونصب عليه المجانيق وقال: كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسيّة، فإنّهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل. واشتدّ حصارهم وكان زفر يقاتلهم في كل غداة وأمر ابنه الهذيل يوما أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل وقطع بعض أطنابه، ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومن معهما وأنّ لهم ما أحبوا فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك. وقال: عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنة. وأن ينزل حيث شاء ولا يعين على ابن الزبير وبينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد هدم من المدينة أربعة أبراج، فترك الصلح وزحف إليهم، فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم ورجع إلى الصلح واستقرّ بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال. وأن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه، وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه وتأخر زفر عن لقاء عبد الملك خوفا من فعلته بعمر بن سعيد. فأرسل إليه بقضيب النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره وزوّج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر وسار عبد الملك إلى قتال مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر ولما قارب مصعبا هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمّنه عبد الملك كما مرّ.
مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها
قد تقدّم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق، وكف فرقتين منهم. وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور وعليهم بجير [1] بن ورقاء الصريميّ فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين. وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة. فقال ابن حازم: لولا الفتنة بين سليم وعامر ولكن كل كتابك فأكله وكان بكير بن وشّاح [2] التميمي خليفة بن حازم على مرو، فكتب إليه عبد الملك بعهده على
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: بحير: «بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة» .
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: وسّاج.(3/47)
خراسان ورغّبه بالمطامع إن انتهى، فخلع ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك وأجابه أهل مرو وبلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيرا وارتحل عنه إلى مرو ويزيد ابنه يترمّد [1] فأتبعه بجير ولحقه قريبا من مرو واقتتلوا فقتل ابن حازم. طعنه بجير وآخران معه فصرعوه وقعد أحدهم على صدره فقطع رأسه وبعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك وترك الرأس وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو وأراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك وأنه الّذي قتل ابن حازم وأقام في ولاية خراسان. وقيل إنّ ذلك إنّما كان بعد قتل ابن الزبير وأنّ عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة فغسل الرأس وكفّنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه [2] .
(كان) عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشأم وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحرث بن حاطب بن الحرث بن معمر الجمعيّ، فهرب الحرث وأقام ابن أنيف شهرا يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحرث إلى المدينة وبعث ابن الزبير بن خالد الدورقي على خيبر وفدك. ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحرث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى، وبعث سرية إلى سليمان بخيبر وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام وذكر لعبد الملك ذلك فاغتمّ وقال قتلوا رجلا صالحا بغير ذنب. ثم عزل ابن الزبير الحرث بن حاطب عن المدينة وولّى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبرا. ثم بعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى، ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار، وليسدّ خللا إن ظهر له بالحجاز، فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه وكتب ابن الزبير إلى القبّاع وهو
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: ويزيد ابنه بترمذ.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 346: «فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى اهله بالمدينة واطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله وحلف ان لا يطيع عبد الملك ابدا.(3/48)
عامله على البصرة يستمدّه ألفي فارس إلى المدينة فبعثهم القبّاع وأمر ابن الزبير جابر ابن الأسود أن يسيّرهم إلى قتال طارق ففعل ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم، وقتل من أصحابه خلقا وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى. ثم عزل ابن الزبير جابرا عن المدينة واستعمل طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو طلحة النّداء وذلك سنة سبعين. فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق ولما قتل عبد الملك مصعبا ودخل الكوفة وبعث منها الحجّاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يتعرّض للمدينة ونزل الطائف. وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فينهزمون دائما وتعود خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرّق أصحابه ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمدّه، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجّاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عنها طلحة النّداء عامل ابن الزبير، وولّى مكانه رجلا من أهل الشام وسار إلى الحجّاج بمكّة في خمسة آلاف. ولما قدم الحجّاج مكّة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون وحج بالناس ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكّة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي. ثم نصب الحجّاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان ابن عمر قد حجّ تلك السنة فبعث إلى الحجّاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل، ونادى منادي الحجّاج عند الإفاضة انصرفوا فإنّا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى بالمنجنيق على الكعبة وألحت الصواعق عليهم في يومين وقتلت من أصحاب الشام رجالا فذعروا. فقال لهم الحجّاج لا شك فهذه صواعق تهامة وإنّ الفتح قد حضر فأبشروا. ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسرى عن أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسّم لحمها في أصحابه وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمدّ من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق، يقوّي بها نفوس أصحابه. ثم أجهدهم الحصار وبعث الحجّاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف، وافترق الناس عنه(3/49)
وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب، وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه. وحرّض الناس الحجّاج وقال: قد ترون قلّة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق فتقدّموا واملؤا ما بين الحجون والأبواء فدخل ابن الزبير على أمّه أسماء وقال يا أمّه قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت له:
أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أميّة. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال: يا أمّه أخاف أن يمثّلوا بي ويصلبوني فقالت: يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعن باللَّه فقبّل رأسها وقال هذا رأيي والّذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلّا الغضب للَّه وأن تستحلّ حرماته، ولكن أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني [1] بصيرة وإني يا أمّه في يومي هذا مقتول فلا يشتدّ حزنك وسلّمي لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم، ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى. اللَّهمّ لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني فقالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدّمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك. ثم قالت: أخرج حتى انظر ما يصير أمرك جزاك الله خيرا. قال: فلا تدعي الدعاء لي، فدعت له وودّعها وودّعته ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبستها إلا لأشدّ منك فقالت: إنه لا يشدّ مني فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال: بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام والحجّاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف فيجيبه من جانب المعترك ولما رأى الحجّاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه فتقدّم ابن الزبير
__________
[1] الأصح ان يقول زدتني.(3/50)
إليهم وكشفهم عنه ورجع فصلّى ركعتين عند المقام وحملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام. ويقال: إنه قال: لأصحابه يوم قتل: يا آل الزبير أوطبتم لي نفسا عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله؟ فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشدّ من ألم وقعها، صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا تسألوا عني، ومن كان سائلا فإنّي في الرعيل الأوّل ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته حجارة في وجه فأرغش [1] لها ودمي وجهه. ثم قاتل قتالا شديدا وقتل في جمادى الآخر سنة ثلاث وسبعين وحمل رأسه إلى الحجّاج فسجد، وكبّر أهل الشام وثار الحجّاج وطارق حتى وقفا عليه، وبعث الحجّاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك وصلب جثته منكّسة على ثنية الحجون اليمنى. وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلّى بينها وبينه ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجّاج إلى عبد الملك فرحّب به وأجلسه على سريره، وجرى ذكر عبد الله فقال عروة: إنه كان! فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل فخرّ ساجدا. ثم أخبره عروة أنّ الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمّه فقال: نعم، وكتب إلى الحجّاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمّه وصلّى عليه عروة ودفنه وماتت أمّه بعده قريبا. ولما فرغ الحجّاج من ابن الزبير دخل إلى مكّة فبايعه أهلها لعبد الملك وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين وأساء إلى أهلها وقال: أنتم قتلة عثمان وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله، وقيل إنّ ولاية الحجّاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين وإنّ عبد الملك عزل عنها طارقا واستعمله. ثم هدم الحجّاج بناء الكعبة الّذي بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الّذي أقرّه عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولم يصدّق ابن الزبير في الحديث الّذي رواه عن عائشة. فلمّا صحّ عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل.
__________
[1] وفي الكامل ج 4 ص 356: فأرعش.(3/51)
ولاية المهلب حرب الازارقة
ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر بن مروان وجمع له المصرين أمره أن يبعث المهلّب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة ويتركه وراءه في الحرب، وأن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس والنجدة في جيش كثيف إلى المهلب، فيتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم.
فأرسل المهلّب جديع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان. وشق على بشر أنّ امرأة المهلب جاءت من عند عبد الملك، فغص به ودعا عبد الرحمن بن مخنف فأعلمه منزلته عنده وقال: إني أوليك جيش الكوفة بحرب الأزارقة فكن عند حسن ظني بك ثم أخذ يغريه بالمهلّب وأن لا يقبل رأيه ولا مشورته، فأظهر له الوفاق وسار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز ولقي بها الخوارج فحدق [1] عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم وأنه استخلف على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم، ونزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدّدهم ويحذّرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمر بن حريث في الدخول ولم يأذن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه.
ولاية أسد بن عبد الله على خراسان
ولما ولي بكير بن وشّاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في العصبية له وعليه سنتين، وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم العدوّ فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وانها لا تصلح إلّا على رجل من قريش واستشار أصحابه فقال له أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد: نزكيهم برجل منك فقال: لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها فاعتذر وحلف أنّ الناس خذلوه ولم يجد مقاتلا فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علمه الناس، فولّاه خراسان. (ولما) سمع بكير بن وشّاح بمسيره بعث، الى بجير بن ورقاء وهو في حبسه كما مرّ فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل
__________
[1] لعلها تكون خندق.(3/52)
وصالح بكير أو بعث إليه بكير بأربعين ألفا على أن لا يقاتله فلما قارب أميّة نيسابور إليه بجير وعرّفه عن أمور خراسان وما يحسن به طاعة أهلها وحذّره غدر بكير وجاء معه إلى مرو فلم يعرض أمية لبكير ولا لعمّاله وعرض عليه شرطته فأبى. وقال: لا أحمل الجزية اليوم وقد كانت تحمل إليّ بالأمس وأراد أن يولّيه بعض النواحي من خراسان فحذّره بجير منه. ثم ولّى أمية ابنه عبد الله على سجستان فنزل بستا. وغزا رتبيل الّذي ملك على الترك بعد المقتول الأوّل وكان هائبا للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف وبعث بهدايا ورقيق فأبى عبد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عبد الله. ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي عينه عن المسلمين فشرط رتبيل عليه ثلاثمائة ألف درهم والعهد بأن لا يغزو بلادهم فأعطاه ذلك وبلغ الخبر بذلك عبد الملك فعزله.
ولاية الحجاج العراق
ثم ولّى عبد الملك الحجّاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق فسار على النجب في اثني عشر راكبا حتى قدم الكوفة في شهر رمضان. وقد كان بشر بعث المهلّب إلى الخوارج فدخل المسجد وصعد المنبر وقال: عليّ بالناس فظنّوه من بعض الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابئ البرجمي الحصباء وأراد أن يحصبه، فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهو لا يشعر به. ثم حضر الناس فكشف الحجّاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة. ذكرها الناس وأحسن من أوردها المبرّد في الكامل يتهدّد فيها أهل الكوفة ويتوعدهم عن التخلّف عن المهلّب. ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلّب فقام إليه عمير ابن ضابئ وقال: أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشدّ مني فقال: هذا خير لنا منك قال: ومن أنت؟ قال عمير بن ضابئ قال:
الّذي غزا عثمان في داره؟ قال: نعم. فقال: يا عدوا الله [1] إلى عثمان بدلا. قال: إنه حبس أبي وكان شيخا كبيرا. فقال: إني لا أحب حياتك إنّ في قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل ونهب ماله. وقيل إنّ عنبسة بن سعيد بن العاص هو الّذي أغرى به الحجّاج حين دخل عليه. ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 378: «قال: يا عدو الله أفلا إلى عثمان بعثت بدلا؟»(3/53)
إنّ ابن ضابئ تخلّف بعد ثالثة من النداء فأمرنا بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب فتساءل الناس إلى المهلب وهو بدار هرمز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر ثم بعث الحجّاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفيّ وأمره أن يشتدّ على خالد بن عبد الله، وبلغه الخبر فقسّم في أهل البصرة ألف ألف وخرج عنها. ويقال إن الحجّاج أوّل من عاقب على التخلّف عن البعوث بالقتل قال الشعبيّ: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الّذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعليّ تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرءوس واللحى، فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات فلما جاء الحجّاج ترك ذلك كله وجعل عقوبة من تخلّى بمكانه من الثغر أو البعث القتل. ثم ولّى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية ابن الحرث الكلابي العلاقي وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه فأرسل الحجّاج مجاعة ابن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته.
وقوع أهل البصرة بالحجاج
ثم خرج الحجّاج من الكوفة واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة وسار إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة وتوعد على القعود عن المهلب كما توعد فأتاه شريك بن عمرو اليشكري وكان به فتق فاعتذر به وبأنّ بشر بن مروان قبل عذره بذلك وأحضر عطاءه ليردّ لبيت المال فضرب الحجاج عنقه وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب ثم سار حتى كان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. وأقام يشدّ ظهره وقال: يا أهل المصرين هذا والله مكانكم حتى يهلك الله الخوارج. ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية وكانت مائة مائة وقال: لسنا نجيزها. فقال عبد الله بن الجارود: إنما هي زيادة عبد الملك وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجّاج فقال: إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجّاج أشهرا لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها فردّ عليه ابن الجارود مثل الردّ الأوّل. فقال له مضفلة بن كرب العبديّ سمعا وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا وليس لنا أن نردّ عليه. فانتهره ابن الجارود وشتمه وأتى الوجوه إلى عبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعيّ وقالوا:
إنّ هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة وإنّا نبايعك على إخراجه من العراق،(3/54)
ونكتب إلى عبد الملك أن يولّي علينا غيره وإلّا خلعناه وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق، فبايعوه سرّا وتعاهدوا وبلغ الحجّاج أمرهم فاحتاط وجدّ. ثم خرجوا في ربيع سنة ستة وسبعين وركب عبد الله بن الجارود في عبد قيس على راياتهم ولم يبق مع الحجّاج إلا خاصته وأهل بيته وبعث الحجاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله، وصرّح بخلع الحجّاج فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك! وأبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا زجاجته وانصرفوا عنها.
فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه. وقال الغضبان بن أبي القبعثري الشيبانيّ لابن الجارود: لا ترجع عنه وحرضه على معالجته فقال إلى الغداة، وكان مع الحجّاج عثمان بن قطن وزياد لا ترجع عنه وحرضه على معالجته فقال إلى الغداة، وكان مع الحجّاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر العتكيّ صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما فأشار زياد بأن يستأمن القوم ويلحق بأمير المؤمنين وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت. وقال: لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقّاك إلى ما رقّاك وفعلت ما فعلت بابن الزبير والحجاز فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذ لك الأمان من الناس فجعل الحجّاج يغالطه رافعا صوته عليه ليسمع الناس ويقول والله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران وعبد الله بن حكيم. ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن ائتني فامنعني، فقال له: إن أتيتني منعتك فأبى وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك، وأجابوه مثله. ثم إنّ عبّاد بن الحصين الجفطيّ مرّ بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم يتناجون فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجّاج وجاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحميّة القتيبيّة. ثم جاءه سبرة بن عليّ الكلابي وسعيد بن أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فثابت إليه نفسه وعلم أنه قد امتنع. وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت عنك، فأجابه أن أقم فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف وقال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي؟ قال تركته أمس ولم يبق إلّا الصبر ثم تراجعوا وعبّى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، وحمل ابن الجارود حتى حاصر اصحاب الحجّاج وعطف الحجّاج عليه فقارب ابن الجارود أن يظفر. ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتا ونادى منادي الحجّاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن حكيم وأمر أن لا يتبع المنهزمين، ولحق ابن ضبيان بعمار فهلك هنالك. وبعث الحجّاج برأس ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك ونصبت ليراها الخوارج فيتأسوا من الاختلاف وحبس الحجاج عبيد بن كعب ومحمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه وحبس ابن القبعثري لتحريضه عليه، فأطلقه عبد الملك وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك فقال الحجاج: لا أرى أنسا يعين عليّ ودخل البصرة وأخذ ماله. وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش في كلمة في شتمه وكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس. «وأن تجيء إلى منزله وتتنصل إليه وإلّا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك» . قالوا وجعل الحجّاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقا. ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه. وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير وأفسدوا الثمار والزروع. ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم وقتل بعضهم وصلبه. فلما كانت هذه الواقعة قدّموا عليهم رجلا منهم اسمه رياح ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا فلما فرغ الحجّاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم وبعث ابنه حفصا في جيش فقتلوه وانهزم أصحابه فبعث جيشا فهزم الزنج وأبادهم.
مقتل ابن مخنف وحرب الخوارج
كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفين للخوارج برامهرمز فلما أمدّهم الحجّاج بالعساكر من الكوفة والبصرة تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون وأتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم. وخندق المهلّب على نفسه، وقال ابن مخنف وأصحابه خدمنا [1] سيوفنا. فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرّة في ابن مخنف فقاتل هو وأصحابه حتى قتلوا، هكذا حديث أهل البصرة، وأمّا أهل الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا
__________
[1] ولعلها خندقنا سيوفنا، لأن خدمنا ليس لها معنى هنا. اي انهم يحمون أنفسهم بسيوفهم وليس بالخندق حولهم.(3/55)
الخوارج اشتدّ القتال بينهم ومال الخوارج على المهلب فاضطروه إلى معسكره وأمدّه عبد الرحمن بالخيل والرجال، ولما رأى الخوارج مدده تركوا من يشغل المهلّب وقصدوا عبد الرحمن فقاتلوه وانكشفوا عنه، وصبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء، وقد أمره الحجّاج أن يسمع للمهلّب فثقل ذلك عليه، فلم يحسن بينهما العشرة وكان يتراءف في الكلام، وربما أغلظ له المهلب. فأرسل عتاب إلى الحجّاج يسأله القعود، وكان حرب الخوارج وشبيب قد اتسع عليه، فصادفا منه ذلك مرقعا [1] واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلّب فولّى المهلب عليهم ابنه حبيبا، وأقام يقاتلهم بنيسابور نحوا من سنة وتحرّكت الخوارج على الحجّاج من لدن سنة ستة وسبعين إلى سنة ثمان وشغل بحربهم وأوّل من خرج منهم صالح بن سرح من بني تميم بعث إليه العساكر فقتل فولّوا عليهم شبيبا واتبعه كثير من بني شيبان وبعث إليهم الحجّاج العساكر مع الحرث بن عميرة ثم مع سفيان الخثعميّ ثم انحدر ابن سعيد فهزموها وأقبل شبيب إلى الكوفة فحاربهم الحجّاج وامتنع ثم سرّح عليه العساكر وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم. ثم بعث عتّاب بن ورقاء وزهرة بن حويّة مددا لهم فانهزموا وقتل عتاب وزهرة ثم قتل شبيب واختلف الخوارج بينهم وقتل منهم جماعة كما يذكر ذلك كله في أخبارهم.
ضرب السكة الإسلامية
كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1 وذكر النبيّ مع التاريخ، فنكر ذلك ملك الروم وقال: اتركوه وإلّا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهونه فعظم ذلك عليه واستشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم ففعل. ثم نقش الحجّاج فيها قل هو الله أحد فكره الناس ذلك لأنه قد يمسّها غير الطاهر. ثم بالغ في تخليص الذهب والفضة من الغش وزاد ابن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك عليه. ثم زاد خالد القسريّ عليهم في ذلك أيام هشام ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة وامتحان العيار وضرب عليه فكانت الهبيريّة والخالديّة واليوسفيّة أجود نقود بني أمية. ثم أمر المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها وسميت النقود الأولى مكروهة إمّا لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجّاج
__________
[1] لا معنى للكلمة مرقعا ولعلها: وصادف منه ذلك موقعا.(3/57)
وكرهه. وكانت دراهم العجم مختلفة بالصغر والكبر، فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطا واثني عشر وعشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت اثنين وأربعين فجعلوا ثلثها وهو اثنا عشر قيراطا وزن الدرهم العربيّ فكانت كل عشرة دراهم تزن مثاقيل. وقيل إنّ مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله والأصح أنّ عبد الملك أوّل من ضرب السكة في الإسلام.
مقتل بكير بن وشاح [1] بخراسان
قد تقدّم لنا عزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد سنة أربع وسبعين وأنّ بكيرا أقام في سلطان أمية بخراسان وكان يكرمه ويدعوه لولاية ما شاء من أعمال خراسان، فلا يجيب، وأنه ولّاه طخارستان، وتجهز لها فيه بجير بن ورقاء فمنعه، ثم أمره بالتجهّز لغزو ما وراء النهر، فحذره منه بجبر فردّه فغضب بكير. ثم تجهز أمية لغزو غارا، وموسى بن عبد الله بن حازم لترمذ واستخلف ابنه على خراسان. فلما أراد قطع النهر قال لبكير: ارجع إلى مرو فأكفنيها فقد وليتكها، وقم بأمر ابن حازم فإنّي أخشى أن لا يضبطها. فانتخب من وثق به من أصحابه ورجع، وأشار عليه صاحبه عتّاب بأن يحرق السفن ويرجع إلى مرو فيخلع أميّة، ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على ذلك فقال لهم بكير: أخشى على من معي.
قالوا نأتيك من أهل مرو بمن تشاء، قال: يهلك المسلمون. قال ناد في الناس برفع الخراج فيكونون معك. قال فيهلك أميّة وأصحابه. قال لهم عدد وعدد يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين فأحرق بكير السفن ورجع إلى مرو فخلع أمية وحبس ابنه وبلغ الخبر أمية فصالح أهل الشام بخارى ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وجاءه موسى بن عبد الله بن حازم من [2] مددا له وبعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيته بكير وهزمه، فبعث مكانه ثابت بن عطية فهزمه. ثم التقى أمية وبكير فاقتتلوا أياما. ثم انهزم بكير إلى مرو وحاصره أمية أياما حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء من خراسان، وأن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه، ويصل أصحابه
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 443: بكير بن وسّاج.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل الابن الأثير ج 4 ص 445 «وأتاه موسى بن عبد الله بن حازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة وسار إليه بكير فبيته وهزمه» .(3/58)
ولا يقبل فيه سعاية بجير فتمّ الصلح ودخل أمية مدينة مرو وأعاد بكيرا إلى ما كان عليه من الكرامة وأعطى عتاب العدابي عشرين ألفا وعزل بجير عن شرطته بعطا بن أبي السائب. وقيل إنّ بكيرا لم يصحب أمية إلى النهر وإنما استخلفه على مرو فلما عبر أمية النهر خلع وفعل ما فعل. ثم أنّ بجيرا سعى بأمية بأنّ بكيرا دعاه إلى الخلاف وشهد عليه جماعة من أصحابه، وأنّ معه ابني أخيه فقبض عليه أمية وقتله وقتل معه ابني أخيه وذلك سنة سبع وسبعين. ثم عبر النهر لغزو بلخ فحصره الترك حتى جهد هو وعسكره وأشرفوا على الهلاك ثم نجوا ورجعوا إلى مرو.
مقتل بجير بن زياد
[1] ولما قتل بكير بسعاية بجير بن ورقاء تعاقد بنو سعد بن عوف من تميم وهم عشيرته على الطلب بدمه وخرج فتى منهم من البادية اسمه شمردل وقدم خراسان ووقف يوما على بجير فطعنه فصرعه ولم يمت وقتل شمردل وجاء مكانه صعصعة بن حرب العوفيّ ومضى إلى سجستان وجاور قرابة بجير مدّة وانتسب إلى خنفيّة ثم قال لهم: إنّ لي بخراسان ميراثا فاكتبوا إلى بجير يعينني، فكتبوا له وجاء إليه وأخبره بنسبه وميراثه، وأقام عنده شهرا يحضر باب المهلّب وقد أنس به وأمن غائلته، وجاء صعصعة يوما وهو عند المهلب في قميص ورداء ودنا ليكلمه فطعنه ومات من الغد وقال صعصعة فمنعته مقاعس وقالوا أخذ بثأره فحمل المهلب دم صعصعة وجعل دم بجير ببكير وقيل إنّ المهلب بعثه إلى بجير فقتله والله أعلم وكان ذلك سنة إحدى وثمانين.
ولاية الحجاج على خراسان وسجستان
وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجّاج بن يوسف فبعث المهلّب بن أبي صفرة على خراسان وقد كان فرغ من حرب الأزارقة فاستدعاه وأجلسه معه على السرير، وأحسن إلى أهل البلاد من أصحابه وزادهم وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان فأما المهلب فقدّم ابنه حبيبا إلى خراسان فلم يعرض لأمية ولا لعمّاله حتى قدم أبوه المهلب بعد سنة من
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 457: بحير بن ورقاء.(3/59)
ولايته، وسار في خمسة آلاف وقطع النهر الغربي وما وراء النهر، وعلى مقدمته أبو الأدهم الرمّاني في ثلاثة آلاف، فنزل على كشّ وجاءه ابن عمر الختن يستنجده على ابن عمه، فبعث معه ابنه يزيد، فبيّت ابن العم عساكر الختن وقتل الملك وجاءه صرّ يريد قلعتهم حتى صالحوا بما رضي، ورجع. وبعث المهلب ابنه حبيبا في أربعة آلاف ووافى صاحب بخارى في أربعين ألفا. وكبس بعض جنده في قرية فقتلهم وأحرقها ورجع إلى أبيه. وأقام المهلب يحاصر كش سنتين حتى صالحوه على فدية وأما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان ورتبيل على صلحه يؤدّي الخراج. ثم امتنع فأمر الحجاج ابن أبي بكرة فغزوه واستباحوا بلاده، فسار في أهل المصرين وعلى أهل الكوفة شريح بن هانئ من أصحاب علي، فدخل بلاد رتبيل وتوغّل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخا من مدينتهم وأثخن واستباح وخرّب القرى والحصون. ثم أخذ الترك عليهم القرى والشعاب حتى ظنوا الهلكة فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم، على أن يعطيهم سبعمائة ألف درهم. ونكر ذلك عليه شريح وأبى إلا القتال وحرّض الناس ورجع وقتل حين، قتل في ناس من أصحابه ونجا الباقون وخرجوا من بلاد رتبيل، ولقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا. فجعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا حتى استمرّوا وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له فجهّز عشرين ألف فارس من الكوفة وعشرين ألفا من البصرة واختار أهل الغنى والشجاعة، وأزاح عللهم وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، وأخذهم بالخيل الرائعة والسلاح الكامل. وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان يبغضه ويقول أريد قتله. ويخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا أزيله عن سلطانه، فلما بعثه على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجّاج وقال لا تبعثه فإنّي أخشى خلافه. فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسار عبد الرحمن في الجيش وقدم سجستان واستنفرهم وحذر العقوبة لمن يتعدّى وساروا جميعا إلى بلاد رتبيل وبذل الخراج فلم يقبل منه ودخل بلاده فحواها شيئا فشيئا وبعث عمّاله عليها ورجع المصالح بالنواحي والأرصاد على العقاب والشعاب، وامتلأت أيدي الناس من الغنائم، ومنع من التوغل في البلاد إلى قابل.
وقد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا وهو أن الحجّاج كان قد أنزل هميان بن عديّ السديّ مسلحة بكرمان إن احتاج إليه عامل السند وسجستان،(3/60)
فمضى هميان فبعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمه وقام بموضعه. ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولّاه الحجاج مكانه وجهّز إليه هذا الجيش وكان يسمى جيش الطواويس لحسن زيهم.
أخبار ابن الأشعث ومقتله
ولما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجاج كتب إليه يوبّخه على القعود عن التوغل ويأمره بالمضيّ لما أمره به من هدم حصونهم وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم. وأعاد عليه الكتاب بذلك ثانيا وثالثا وقال له: إن مضيت وإلّا فأخوك إسحاق أمير الناس.
فجمع عبد الرحمن الناس وردّ الرأي عليهم وقال: قد كنّا عزمنا جميعا على ترك التوغل في بلد العدوّ ورأينا رأيا وكتبت بذلك إلى الحجّاج وهذا كتابه يستعجزني ويستضعفني ويأمرني بالتوغل بكم وأنا رجل منكم، فثار الناس وقالوا: لا نسمع ولا نطيع للحجّاج. وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكنانيّ: اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن فتنادى الناس من كل جانب فعلنا فعلنا. وقال عبد المؤمن بن شيث بن ربعي: انصرفوا إلى عدوّ الله الحجّاج فانفوه عن بلادكم ووثب الناس إلى عبد الرحمن على خلع الحجاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك. وصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل ما بقي من الدهر، وإن هزم منعه ممن يريده. وجعل عبد الرحمن على سبت عيّاض بن هميان الشيبانيّ وعلى رومج عبد الله بن عامر التميمي، وعلى كرمان حرثة بن عمر التميمي. ثم سار إلى العراق في جموعه وأعشى همدان بين يديه يجري بمدحه وذمّ الحجّاج. وعلى مقدمته عطيّة بن عمير العيرني. ولما بلغ فارس بدا للناس في أمر عبد الملك وقالوا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعناه فخلعه الناس وبايعوا عبد الرحمن على السنة وعلى جهاد أهل الضلالة والمخلين وخلعهم. وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره ويستمدّه وكتب المهلّب إلى الحجّاج بأن لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم، فنكر كتابه واتهمه. وجنّد عبد الملك الجند إلى الحجّاج فساروا إليه متتابعين، وسار الحجّاج من البصرة فنزل تستر وبعث مقدمة خيل فهزمهم أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد وقتل منهم جمعا كثيرا وذلك في أضحى إحدى وثمانين، وأجفل الحجّاج إلى البصرة، ثم تأخّر عنها إلى الغاوية(3/61)
وراجع كتاب المهلب فعلم نصيحته. ودخل عبد الرحمن البصرة فبايعه أهلها وسائر نواحيها لأنّ الحجّاج كان اشتد على الناس في الخراج، وأمر من دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى، يستوفي الجزية، فنكر ذلك الناس وجعل أهل القرى يبكون منه، فلما قدم عبد الرحمن بايعوه على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك. ثم اشتدّ القتال بينهم في المحرّم سنة اثنتين وثمانين، وتزاحفوا على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك. وانهزم أهل العراق وقصدوا الكوفة وانهزم منهم خلق كثير. وفشا القتل في القرى فقتل منهم عقبة بن الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه، وقتل الحجّاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف وكان هذا اليوم يسمّى يوم الراوية. واجتمع من بقي بالبصرة على عبد الرحمن ابن عبّاس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وبايعوه، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليال ثم لحق بابن الأشعث بالكوفة ربيعة طائفة من أهل البصرة. ولما جاء عبد الرحمن الكوفة وخليفة الحجّاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرميّ وثب بع مطر بن ناحية من بني تميم مع أهل الكوفة، فاستولى على القصر وأخرجه. فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة واحتف به همدان وجاء إلى القصر فمنعه مطر فصعد الناس القصر وأخذوه فحبسه عبد الرحمن وملك الكوفة. ثم إنّ الحجّاج استعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ورجع إلى الكوفة فنزل دوير فيرة، ونزل عبد الرحمن دير الجماجم واجتمع إلى كل واحد أمداده وخندق على نفسه وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمدا في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجّاج ويجرى عليهم أعطياتهم كأهل الشام، وينزل عبد الرحمن إلى أيّ بلد شاء عاملا لعبد الملك.
فوجم الحجّاج لذلك وكتب إلى عبد الملك: إنّ هذا ممن يزيدهم جراءة وذكّره بقضية عثمان وسعيد بن العاص. فأبى عبد الملك من رأيه وعرض عبد الله ومحمد بن مروان ما جاء به عبد الملك وتشاور أهل العراق بينهم وأشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك، وأن العزّة لهم على عبد الملك لا تزول، فتواثبوا من كل جانب منكرين لذلك ومجدّدين الخلع. وتقدّمهم في ذلك عبد الله بن دواب السلميّ وعمير بن تيحان، ثم برزوا للقتال وجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللّخميّ، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى الرجّالة عبد الله بن حبيب الحكميّ. وجعل عبد الرحمن على ميمنته الحجّاج بن(3/62)
حارثة الخثعميّ، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن ابن العبّاس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، وعلى رجّالته محمد بن سعد بن أبي وقّاص، وعلى مجنبته عبد الله بن رزم الحرشيّ، وعلى القرى [1] جبلة بن زخر بن قيس الجعفيّ وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون بقية سنتهم، وكتيبة القرى معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص. فعبّى الحجّاج ثلاث كتائب مع الجرّاح بن عبد الله الحكمي وحملوا على القرى ثلاث حملات وجبلة يحرّض القرى ويبيتهم والشعبي وسعيد بن جبير كذلك. ثم حملوا على الكتائب ففرّقوها وأزالوها عن مكانها وتأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون إليه، وأبصره الوليد بن نجيب الكلبيّ فقصده في جماعة من أهل الشام وقتله وجيء برأسه إلى الحجّاج وقدموا عليهم مكانه وظهر القتل في القرى. ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيها القتلى والمبارزة. ثم اقتتلوا يوما في منتصف جمادى الآخرة وحمل سفيان بن الأبرد في ميمنة الحجاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرّة من غير قتّال فتقوّضت صفوف الميمنة، وركبهم أصحاب الحجّاج، ثم انهزم عبد الرحمن وأصحابه.
ومضى الحجّاج إلى الكوفة ومحمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام. وأخذ الحجّاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وقتل من أبى ودعا بكميل بن زياد صاحب عليّ فقتله لاقتصاصه. ثم أقام بالكوفة شهرا وأنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة، ولحق ابن الأشعث بالبصرة فاجتمع إليه جموع المنهزمين ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة ولحق به محمد بن سعد بن أبي وقّاص بالمدائن، وسار نحو الحجّاج ومعه بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ كان قدم عليه قبل الهزيمة من الري وكان انتقض بها ثم غلب عليها ولحق بعبد الرحمن فكان معه وبايع عبد الرحمن خلق كثير على الموت، ونزل مسكن وخندق عليه وعلى أصحابه والحجّاج قبالتهم وقاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله وكان قدم من خراسان في بعث الكوفة، فقاتلهم خمسة عشر يوما من شعبان أشدّ قتال، وقتل زياد بن غنيم القيني. وكان عليّ صالح الحجّاج فهدّ منهم ثم أبى بكر القتال. وحل بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف من فرسان الكوفة والبصرة، كسروا جفون
__________
[1] اي القرّاء.(3/63)
سيوفهم وحملوا على أهل الشام فكشفوهم مرارا وأحاط بهم الرماة ولحقوا فقتلوا.
وحمل عبد الملك بن المهلّب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم. ثم حمل أصحاب الحجّاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه، وأبو البحتري الطائي ومعلّى بن الأشعث نحو سجستان ويقال إنّ بعض الأعراب جاء إلى الحجّاج فدلّه على طريق من وراء معسكر ابن الأشعث فبعث معه أربعة آلاف جاءوا من ورائه، وأصبح الحجّاج فقاتله واستطرد له حتى نهب معسكره وأقبلت السرية من الليل إلى معسكر ابن الأشعث وكان الغرقى منهم أكثر من القتلى، وجاء الحجاج إلى المعسكر فقتل من وجد فيه وكان عدّة القتلى أربعة آلاف منهم: عبد الله بن شدّاد بن الهادي وبسطام بن مصقلة وعمر بن ربيعة الرقاشيّ وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم. (ولما سار) ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجاج بالعساكر، وعليهم عمارة بن تميم اللخمي، ومعهم محمد بن الحجّاج فأدركوه بالسوس فقاتلوه وانهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد وقاتلوا العساكر قتالا شديدا فهزم، وخرج عمارة ولحق ابن الأشعث بكرمان فلقيه عامله بها وهيأ له النزول فنزل. ثم رحل إلى زرنج فمنعه عامله من الدخول، فحاصرها أياما ثم سار إلى بست وعليها من قبله عيّاض بن هميان بن هشام السلوبيّ الشيبانيّ، ثم استغفله فأوثقه. وكان رتبيل ملك الترك قد سار ليستقبله، ونزل على بست وتهدّد عيّاضا فأطلقه، وحمل رتبيل إلى بلاده وأنزله عنده. واجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم وقصدوا للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث يستقدمونه فقدم عليهم وثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة يزيد بن المهلّب وأن يجتمع أهل الشام وأهل خراسان فأبوا وقالوا بل يكثر بها تابعنا. فسار معهم إلى هراة فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة فخشي الانتقاض وقال: إنما أتيتكم وأمركم جميعا وأنا الآن منصرف إلى صاحبي الّذي جئت من عنده يعني رتبيل. ورجع عنهم في قليل وبقي معظم العسكر مع عبد الرحمن بن العبّاس بسجستان، فجمع بابن الأشعث وسار إلى خراسان في عشرين ألفا ونزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه. وبعث إليه يزيد بن المهلب بالرحلة من البلاد، فقال إنما نزلنا لنستريح ونرتحل، ثم أخذ في الجباية وسار نحوه يزيد بن المهلب والتقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن عنه، وصبرت معه طائفة(3/64)
ثم انهزموا وأمر يزيد بالكف عنهم وغنم ما في عسكرهم وأسر جماعة منهم فيهم محمد بن سعد بن أبي وقّاص وعمر بن موسى بن عبد الله بن معمر وعبّاس بن الأسود بن عوف والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز وأبوا العلج مولى عبيد الله بن معمر وسوار بن مروان وعبد الله بن طلحة الطلحات، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي. ولحق عبد الرحمن بن العبّاس بالسند وأتى ابن سمرة إلى مرو وانصرف يزيد إلى مرو. وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع سيدة بن نجدة، وقال له أخوه حبيب: ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة؟ فإنّ له عندنا يدين، وقد ودى عن المهلب أبوه طلحة مائة ألف، فتركه وترك عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد. وبعث الباقين وقدموا عليه بمكان واسط قبل بنائها فدعا بفيروز وقال: ما أخرجك مع هؤلاء وليس بينك وبينهم نسب؟ قال: فتنة عمّت الناس! قال: أكتب أموالك فكتب ألفي ألف وأكثر. فقال للحجاج: وأنا آمن على دمي؟ قال: لا والله لتؤدّينها ثم أقتلك. قال: لا تجمع مالي ودمي وأمر به فنحي. ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقّاص فوبّخه طويلا ثم أمر به فقتل ثم دعا بعمر بن موسى فوبخه ولاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به فقتل. ثم أحضر الهلقام بن نعيم فوبخه.
وقال: ابن الأشعث طلب الممالك فالذي طلبت أنت؟ قال: أن توليني العراق مكانك فأمر به فقتل. ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله يزيد بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر وقاد نحوه مطرا، فأطرق الحجّاج، ثم قال: ما أنت وذاك؟ ثم أمر به فقتل فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله. ثم أمر بفيروز فعذب ولما أحس بالموت قال أظهروني للناس ليردّوا عليّ ودائعي فلما ظهر نادى من كان لي عنده شيء فهو في حل فأمر به فقتل. وأمر بقتل عمر بن فهر الكندي وكان شريفا، وأحضر أعشى همدان واستنشده قصيدته بين الأثلج وبين قيس، وفيها تحريض ابن الأشعث وأصحابه فقال: ليست هذه وإنما التي بين الأثلج وبين قيس بارق على رويّ الدال. فأنشده فلما بلغ قوله بخ بخ للوالدة وللمولود. قال: والله لا تبخبخ بعدها أبدا وقتل. (وسأل الحجاج) عن الشعبي فقال له يزيد بن أبي مسلم إنه لحق بالري فكتب إلى قتيبة بن مسلم وهو عامله على الري بإرسال الشعبي. فقدم على الحجّاج سنة ثلاث وثمانين، وكان ابن أبي مسلم له صديقا فأشار عليه بحسن الاعتذار فلما دخل على الحجّاج سلّم عليه بالإمرة وقال: وأيم الله لا أقول إلا الحق(3/65)
قد والله حرّضنا وجهدنا فما كنا أقوياء فجرة، ولا أتقياء بررة، وقد نصرك الله وظفرت فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا. فقال الحجاج: هذا والله أحب اليّ ممن يقول ما شهدت ولا فعلت وسيفه يقطر من دمائنا. ثم أمّنه وانصرف. (ولما ظفر الحجّاج) بابن الأشعث وهزمه لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت وقد كان غلب على الري في تلك الفتنة. فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند الحجاج ويمحوا عن أنفسهم ذنب الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجّاج فامتنع فدسوا عليه أباه فأجاب. ولما سار قتيبة إلى الري خرجوا مع عمر لقتاله ثم غدروا به فانهزم، ولحق بطبرستان وأقرّه الأصبهبد وأحسن اليه، وأرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه وقال: قد علمت الأعاجم أني أشرف منه فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري وكتب الحجّاج إلى الأصبهبد أن يبعث بهم أو برءوسهم ففعل ذلك: (ولما انصرف) عبد الرحمن بن الأشعث من هراة إلى رتبيل قال له علقمة ابن عمر الازدي: لا أدخل معك دار الحرب لأنّ رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك وفي أصحابك قتلكم أو أسلمكم إليه، ونحن خمسمائة قد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراما وقدم عليهم مودود البصري، وزحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي وحاصرهم حتى استأمنوا فخرجوا إليه وقلاهم وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل في عبد الرحمن يرهبه ويرغبه. وكان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب ابن الأشعث وكان رسوله إلى رتبيل أوّلا فأنس به رتبيل وزحف عليه وأغرى القاسم بن الأشعث أخاه عبد الرحمن بقتله فخافه وزير لرتبيل أخذ العهد من الحجّاج وإسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين فأجابه رتبيل وخرج إلى عمارة سرّا. وكتب عمارة إلى الحجّاج بذلك فأجاب وكتب له بالكفّ عنه عشر سنين، وبعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن وقيل مات بالسل فقطع رأسه وبعث به، وقيل أرسله مقيّدا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح القصر فمات، فبعث عمارة برأسه وذلك سنة أربع أو خمس وثمانين.
قد كنا قدمنا حصار المهلب مدينة كشّ من وراء النهر فأقام عليها سنتين، وكان استخلف على خراسان ابنه المغيرة فمات سنة اثنتين وثمانين، فجزع عليه وبعث ابنه يزيد إلى مرو ومكنه في سبعين فارسا، ولقيهم في مفازة نسف جمع من الترك يقاربون الخمسمائة فقاتلوهم قتالا شديدا يطلبون ما في أيديهم والمغيرة يمتنع حتى أعطى بعض(3/66)
أصحابه لبعضهم شيئا من المتاع والسلاح، ولحقوا بهم ولحق يزيد بمرو. ثم سأل أهل كشّ من المهلب الصلح على مال يعطونه، فاسترهن منهم رهنا من أبنائهم في ذلك، وانفتل المهلّب وخلّف حريث بن قطنة مولى خزاعة ليأخذ الفدية ويردّ الرهن، فلما صار ببلخ كتب إليه: لا تخل الرهن وإن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك فأقرأ صاحب كشّ كتابه وقال: إن عجلت أعطيتك الرهن، وأقول له جاء الكتاب بعد إعطائه. فعجّل صاحب كشّ بالفدية وأخذ الرهن وعرض له الترك كما عرضوا ليزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى، ففدوهم فردا فردا وأطلقهم. ولما وصل إلى المهلّب ضربه ثلاثين سوطا عقوبة على مخالفة كتابه في الرهن. فحلف حريث بن قطنة ليقتلنّ المهلب، وخاف ثابتا أن كان ذلك المسير إليه فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى وحلف ليقتلن المهلب، وخاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعا فأشار عليه باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم، فلحق به في ثلاثمائة من أصحابهما. (ثم هلك المهلّب) واستخلف ابنه يزيد، وأوصى ابنه حبيبا بالصلاة وأوصى ولده جميعا بالاجتماع والألفة، ثم قال:
أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنها كم عن القطيعة، فإنّها تعقب النار والذلة والقلة، وعليكم بالطاعة والجماعة ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم واتقوا الجواب وزلة اللسان فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينعش ويزلّ لسانه فيهلك واعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وآثروا الجود على البخل وأحبوا العرف واصنعوا المعروف، فإنّ الرجل من العرب تعده العدة فيموت فكيف بالصنيعة عنده. وعليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنّها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء وإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر، وإن لم يظفر قيل ما فرّط ولا ضيّع ولكن القضاء غالب.
وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات وذلك سنة اثنتين وثمانين. (ويقال) إنه لما حثّهم على الألفة والاجتماع أحضر سهاما محزومة فقال: أتكسرون هذه مجتمعة؟ قالوا: لا. قال:
فتكسرونها مفترقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. واستولى يزيد على خراسان بعد أبيه وكتب له الحجّاج بالعهد عليها ثم وضع العيون على بيزك حتى بلغه خروجه عن قلعته فسار إليها وحاصرها ففتحها وغنم ما كان فيها من الأموال والذخائر، وكانت(3/67)
من أحصن القلاع. وكان بيزك إذا أشرف عليها يسجد لها. ولما فتحها كتب إلى الحجّاج بالفتح وكان كاتبه يعمر العدوانيّ حليف هذيل فكتب: إنّا لقينا العدوّ فمنحنا الله أكنافهم فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برءوس الجبال ومهامه الأودية وأهضام الغيطان وأفناء الأنهار. فقال الحجّاج: من يكتب ليزيد؟ قيل:
يحيى بن يعمر. فكتب بحمله على البريد فلما جاءه قال: أين ولدت؟ قال:
بالأهواز قال: فمن أين هذه الفصاحة؟ قال: حفظت من أولاد أبي وكان فصيحا قال: يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا. قال ففلان؟ قال: نعم. قال:
فأنا؟ قال: تلحن خفيفا تجعل أنّ موضع إنّ وأنّ موضع أنّ. قال: أجلتك ثلاثا وإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان.
بناء الحجاج مدينة واسط
كان الحجاج ينزل أهل الشام على أهل الكوفة فضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان سنة ثلاث وثمانين، وعسكروا قريبا من الكوفة حتى يستتموا، ورجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه فطرق بيته ودق الباب فلم يفتح له إلّا بعد هنيهة وإذا سكران من أهل الشام فشكت إليه ابنة عمه مراودته إيّاها. فقال لها: ائذني له فأذنت له، وجاء فقتله الفتى وخرج إلى العسكر وقال: ابعثي إلى الشاميين وارفعي إليهم صاحبهم فأحضروها عند الحجّاج فأخبرته. فقال: صدقت! وقال للشاميين لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد وبعث الروّاد فارتادوا له مكان واسط ووجد هناك راهبا ينظف بقعته من النجاسات فقال: ما هذه؟ قال: نجد في كتبنا أنه ينشأ هاهنا مسجد للعبادة.
فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك وبنى المسجد في تلك البقعة.
عزل يزيد عن خراسان
يقال إنّ الحجّاج وفد إلى عبد الملك ومرّ في طريقه براهب قيل له إنّ عنده علما من الحدثان فقال: هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه؟ قال: نعم فقال: مسمّى أو موصوفا؟ قال: موصوفا. قال: فما تجدون صفة ملكنا؟ قال: صفته كذا. قال ثم من؟ قال: آخر اسمه الوليد. قال: ثم من؟ قال: آخر اسمه ثقفي. قال فمن تجد(3/68)
بعدي قال رجل يدعى يزيد. قال أتعرف صفته قال لا أعرف صفته إلا أنه يغدر غدرة فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن المهلب ووجل منه وقدم على عبد الملك. ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد الملك يذمّ يزيد وآل المهلب وأنهم زبيريّة فكتب إليه إنّ وفاءهم لآل الزبير يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجّاج يخوّفه غدرهم وما يقول الراهب فكتب إليه عبد الملك إنك أكثرت في يزيد فانظر من تولّي مكانه فسمّى له قتيبة بن مسلم فكتب له أن يوليه. وكره الحجاج أن يكاتبه بالعزل فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل واستشار يزيد حصين بن المنذر الرقاشيّ فقال له: أقم واعتل وكاتب عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف. وأخذ يتجهز وأبطأ فكتب الحجّاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد. فقال: إنه لا يضرّك بعدي وإنما ولّاك مخافة أن امتنع وخرج يزيد في ربيع سنة خمس وثمانين. ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته وولى قتيبة بن مسلم وقيل سبب عزل اليزيد أنّ الحجاج أذل العراق كلهم إلّا آل المهلب وكان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا [1] والحروب وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بأنها قليلة السلب شديدة الكلف. ثم استقدمه بعد ذلك فقال إنّي أغزو خوارزم فكتب الحجّاج لا تغزها فغزاها وأصاب سبيا وصالحه أهلها وانفتل في الشتاء. وأصاب الناس البرد فتدثروا بلباس الأسرى فبقوا عرايا وقتلهم المفضل. ولما ولى المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه ثم غزا شومان فغنم وقسّم ما أصابه.
مقتل موسى بن حازم
كان عبد الله بن حازم لما قتل بني تميم بخراسان وافترقوا عليه فخرج إلى نيسابور، وخاف بنو تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى: اقطع نهر بلخ حتى نلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن نقيم فيه. فسار موسى عن مرو في مائتين وعشرين فارسا واجتمع إليه شبه الأربعمائة وقوم من بني سليم وأتى قم فقاتله أهلها فظفر بهم وأصاب منهم مالا، وقطع النهر. وسأل صاحب بخارى أن يأوي إليه فأبى وخافه، وبعث إليه بصلة فسار عنه وعرض نفسه على ملوك الترك فأبوا خشية منه، وأتى سمرقند فأذن
__________
[1] لعلها العدي ومعناها الأعداء.(3/69)
له ملكها طرخون ملك الصغد في المقام فأقام وبلغه قتل أبيه عبد الله بن حازم ولم يزل مقيما بسمرقند. وبارز بعض أصحابه يوما بعض الصغد فقتله فأخرجه طرخون عنه فأتى كشّ فنزلها ولم يطق صاحبها مدافعته واستجاش عليه بطرخون. فخرج موسى للقائه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس فاقتتلوا إلى الليل ودسّ موسى بعض أصحابه إلى طرخون يخوّفه عاقبة أمره وأنّ كل من يأتي خراسان يطالبه بدمه فقال:
يرتحل عن كشّ؟ قال له: نعم! وكفّ حتى ارتحل وأتى ترمذ، فنزل إلى جانب حصن بها مشرف على النهر، وأبى ملك ترمذ من تمليكه الحصن فأقام هنالك ولاطف الملك وتودّد له وصار يتصيد معه. وصنع له الملك يوما طعاما وأحضره في مائة من أصحابه ليأكلوا، فلما طعموا امتنعوا من الذهاب. وقال موسى هذا الحصن إمّا بيتي أو قبري وقاتلهم فقتل منهم عدّة واستولى على الحصن وأخرج ملك ترمذ ولم يتعرّض له ولا لأصحابه. ولحق به جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم، وكان يغير على ما حوله. ولما ولي أمية خراسان سار لغزوه وخالفه بكير كما تقدّم. ثم بعث إليه بعد صلحه مع بكير الجيوش مع رجل من خزاعة وحاصروه. وعاود ملك ترمذ استنصاره بالترك في جمع كثير ونزلوا عليه من جانب آخر. وكان يقاتل العرب أوّل النهار والترك آخره ثلاثة أشهر. ثم بيّت الترك ليلة فهزمهم وحوى عسكرهم بما فيه من المال والسلاح ولم يهلك من أصحابه إلا ستة عشر رجلا. وأصبح الخزاعي والعرب وقد خافوا مثلها. وغدا عمر بن خالد بن حصين الكلابي على موسى بن حازم وكان صاحبه فقال: إنّا لا نظفر إلّا بمكيدة فاضربني وخلني، فضربه خمسين سوطا فلحق بالخزاعي وقال: إنّ ابن حازم اتهمني بعصبيتكم وأني عين لكم فأمّنه الخزاعي وأقام عنده. ودخل عليه يوما وهو خال فقال له: لا ينبغي أن تكون بغير سلاح.
فرفع طرف فراشه وأراه سيفا منتضى تحته فضربه عمر حتى قتله ولحق بموسى. وتفرّق الجيش واستأمن بعضهم موسى. ولما ولي المهلّب على خراسان قال لبنيه: إياكم وموسى فإنه إن مات جاء على خراسان أمير من قيس. ثم لحق به حريث وثابت ابنا قطنة الخزاعي فكانا معه. ولما ولي يزيد أخذ أموالهما وحرمهما، وقتل أخاهما للأم الحرث بن معقّد، فسار ثابت إلى طرخون صريخا، وكان محببا إلى الترك فغضب له طرخون. وجمع له نيزك وملك الصغد وأهل بخارى والصاغان، فقدموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع عليه فلّ عبد الرحمن بن عبّاس من هراة وفل ابن(3/70)
الأشعث من العراق ومن كابل. فكان معه نحو ثمانية آلاف فقال له ثابت وحريث:
سر بنا في هذا العسكر مع الترك، فنخرج يزيد من خراسان ونوليك، فحذّر موسى أن يغلباه على خراسان، ونصحه بعض أصحابه في ذلك فقال لهما: إن أخرجنا يزيد قدم عامل المدينة عبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر ويكون لنا، فأخرجوهم وانصرف طرخون والترك. وقوي أمر العرب بترمذ وجبوا الأموال واستبد ثابت وحريث على موسى وأغراه أصحابه بهما فهم بقتلهما، وإذا بجموع العجم قد خرجت إليهم من الهياطلة والتبّت والترك فخرج موسى فيمن معه للقتال. ووقف ملك الترك على ما قيل في عشرة آلاف، فحمل عليهم حريث بن قطنة حتى أزالهم عن موضعهم، وأصيب بسهم في وجهه وتحاجزوا ثم بيّتهم موسى فانهزموا وقتل من الترك خلق كثير ومات منهم قليل. ومات حريث بعد يومين ورجع موسى بالظفر والغنيمة. وقال له أصحابه: قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى. وبلغ ثابتا بعض ما كانوا يخوضون فيه ودسّ محمد بن عبد الله الخزاعي عليهم على أنه من سبي الباسيان ولا يحسن العربية، فاتصل بموسى وكان ينقل إلى ثابت خبر أصحابه فقال لهم ليلة: قد أكثرتم عليّ فعلى أيّ وجه تقتلونه ولا أغدر به؟ فقال له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عد لنا به إلى بعض الدور فقتلناه قبل أن يصل إليك. فقال والله: إنه لهلاككم وجاء الغلام إلى ثابت بالخبر فخرج من ليلته في عشرين فارسا وأصبحوا ففقدوه وفقدوا الغلام فعلموا أنه كان عينا. ونزل ثابت بحشور واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم. وسار إليه موسى وقاتله، فحصر ثابتا بالمدينة. وأتاه طرخون مددا فرجع موسى إلى ترمذ. ثم اجتمع ثابت وطرخون وأهل بخارى ونسف وأهل كش في ثمانين ألفا. فحاصروا موسى بترمذ حتى جهد أصحابه. وقال يزيد بن هذيل والله لأقتلن ثابتا أو أموت. فاستأمن إليه وحذّره بعض أصحابه منه فأخذ ابنيه قدامة والضحّاك رهنا وأقام يزيد يتلمّس غرّة ثابت. ومات ابن الزياد والقصير الخزاعي فخرج إليه ثابت يعزيه وهو بغير سلاح فضربه يزيد على رأسه وهرب وأخذ طرخون قدامة والضحّاك ابني يزيد فقتلهما. وهلك ثابت لسبعة أيام وقام مكانه من أصحابه ظهير [1] وضعف أمرهم وبيّتهم موسى ليلا في
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 511: «وأخذ طرخون قدامة والضحّاك ابني يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام ومات. وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياما ضعيفا وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم ... »(3/71)
ثلاثمائة فبعث إليه طرخون كف أصحابك فإنّا نرحل الغداة. فرجع وارتحل طرخون والعجم جميعا. ولما ولي المفضل خراسان بعث عثمان بن مسعود في جيش إلى موسى ابن حازم وكتب إلى مدرك بن المهلب في بلخ بالمسير معه، فعبر النهر في خمسة عشر ألفا، وكتب إلى رتبيل وإلى طرخون أن يكونوا مع عثمان. فحاصروا موسى بن حازم فضيّقوا عليه شهرين، وقد خندق عثمان على معسكره حذر البيات فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا مستميتين واقصدوا الترك فخرجوا وخلّف النضر ابن أخيه سليمان في المدينة وقال له: إن أنا قتلت فملك المدينة لمدرك بن المهلّب دون عثمان وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال لا تقاتلوه إلا إن قاتلكم وقصد طرخون وأصحابه وصدقوهم القتال، فانهزم طرخون وأخذوا وحجزت الترك والصغد بينهم وبين الحصن فقاتلهم فعقروا فرسه وأردفه مولى له فبصر به عثمان حين وثب فعرفه فقصده وعقروا به الفرس وقتلوه، وقتل خلق كثير من العرب وتولى قتل موسى واصل العنبريّ ونادى منادي عثمان بكفّ القتل وبالأسر وبعث النضر بن سليمان إلى مدرك ابن المهلب فسلّم إليه مدينة ترمذ وسلّمها مدرك إلى عثمان وكتب المفضل إلى الحجّاج بقتل موسى فلم يسرّه لأنه من قيس وكان قتل موسى [1] سنة خمس وثمانين لخمس عشرة سنة من تغلبه على ترمذ.
البيعة للوليد بالعهد
وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد والبيعة لابنه الوليد، وكان قبيصة ينهاه عن ذلك ويقول: لعلّ الموت يأتيه وتدفع العار عن نفسك وجاءه روح بن زنباع [2] ليلة وكان عنده عظيما ففاوضه في ذلك فقال: لو فعلته ما انتطح فيه عنزان.
فقال: نصلح إن شاء الله. وأقام روح عنده ودخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من جنح
__________
[1] رحمه الله لو أبقي في حصنه ليكون سدا بينهم وبين طوائف الأمم المجاورة له لكان خيرا لهم وللإسلام، فقد فجعوا الإسلام بقتله، كما فجعوه بقتل قتيبة بن مسلم الباهلي. فاني أظن انه لم يأت في صدر الإسلام عند قيام الدولة الأموية مثلهما. يعرف ذلك من نظر في وقائعهما وحروبهما. «من خط الشيخ العطّار» .
[2] روح بن زنباع قالت فيه زوجته:
بكن الخز من روح وأنكر جلده ... وعجبت عجبا من جزام المطارف
وهذا البيت أورده السنوسي في شرح الكبرى، واختلفت نسخ الشراح والحواشي فيه فمن قائل عون وآخر عوف والصحيح روح. وله ترجمة في كتاب الاغاني. ولزوجته قائلة البيت قصة ظريفة رحمهما الله تعالى أهـ. من خط الشيخ العطار» .(3/72)
الليل وهما نائمان وكان لا يحجب عنه وإليه الخاتم والسكة فأخبره بموت عبد العزيز أخيه.
فقال روح: كفانا الله ما نريد ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولّاه عليها.
ويقال: إنّ الحجاج كتب إلى عبد الملك يزيّن له بيعة الوليد فكتب إلى عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك، فكتب له أن تجعل الأمر له من بيعة فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب له عبد الملك أن يحمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا ولا ندري أينا يأتيه الموت فلا تفسد عليّ بقية عمري فرقّ له عبد الملك وتركه. (ولما) بلغ الخبر بموت عبد العزيز عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنه الوليد وسليمان، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان. وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا وأبى سعيد بن المسيّب فضربه ضربا مبرحا وطاف به وحبسه. وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه ويقول: إنّ سعيدا ليس عنده شقاق ولا نفاق ولا خلاف وقد كان ابن المسيّب امتنع من بيعة ابن الزبير فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطا، وكتب إليه ابن الزبير يلومه.
وقيل إنّ بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين والأوّل أصح. وقيل قدم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصّاه عبد الملك فقال: أبسط بشرك وألن كنفك وآثر الرّفق في الأمور فهو أبلغ لك، وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك. ولا يقفنّ أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الّذي تأذن له أو تردّه، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنّها تفتح مغاليق الأمور المبهمة واعلم أنّ لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ عن مشورة وإذا سخطت على أحد فأخّر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردّها بعد إصابتها.
وفاة عبد الملك وبيعة الوليد
ثم توفي عبد الملك منتصف شوال سنة ست وثمانين وأوصى إلى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنّها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الّذي عنه تفترّون، ولحيكم الّذي عنه ترمون وأكرموا الحجّاج فإنه الّذي وطّأ لكم المنابر، ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم مغنى الأعداء. وكونوا بني أم بررة لا تدب بينكم العقارب. وكونوا في الحرب أحرارا فإنّ القتال لا يقرّب منيّة وكونوا(3/73)
للمعروف منارا فإنّ المعروف يبقى أجره وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له، واشكر [1] لما يؤتي إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا. (ولما دفن عبد الملك) قال الوليد: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين والحمد للَّه على ما أنعم علينا من الخلافة. فكان أوّل من عزّى نفسه وهنأها. ثم قام عبد الله بن همّام السامولي وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها
وبايعه ثم بايعه الناس بعده وقيل إنّ الوليد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدّم لما أخّره الله ولا مؤخر لما قدّمه الله وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ووليّ هذه الأمّة بالذي يحق للَّه عليه في الشدّة على المذنب واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منازل الإسلام وإعلائه من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزا ولا مفرّطا. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإنّ الشيطان مع المنفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الّذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه ثم نزل.
ولاية قتيبة بن مسلم خراسان وأخباره
قدم قتيبة [2] خراسان أميرا عن الحجّاج سنة ستة وثمانين فعرض الجند وحثّ على الجهاد وسار غازيا وجعل على الحرب بمرو [3] إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي وتلقاه دهاقين البلخ والطالقان وساروا معه. ولما عبر النهر تلقّاه ملك الصغانيان بهداياه. وكان ملك أخرون وشومان يسيء جواره فدعاه إلى بلاده وسلّمها إليه. وسار قتيبة إلى أخرون وشومان وهو من طخارستان فصالحه ملكهما على فدية أدّاها إليه. وقبضها ثم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح بعد
__________
[1] لعلها واشكروا حسب مقتضى السياق لأنه يخاطب أولاده.
[2] هذا فحل الدولة الأموية كما ان الحجاج فرعونها، كتبه الشيخ العطار.
[3] مرو احدى قواعد إقليم خراسان الأربع وهي مرو وهراة وبلخ ونيسابور كتبه الشيخ العطار أيضا.(3/74)
رجوع قتيبة كاشان وأورشت من فرغانة، ثم أخسيكت مدينة فرغانة القديمة، وكان معه ابن يسّار وأبلى في هذه الغزاة. وقيل إنّ قتيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين وكان من ذلك السبي امرأة برمك. وكان برمك على النوبهار، فصارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة فوقع عليها وعلقت منه بخالد، ثم صالح أهل بلخ وأمر قتيبة بردّ السبي، فألحق عبد الله به حملها. ثم ردّت إلى برمك. وذكر أنّ ولد عبد الله بن مسلم ادّعوه ورفعوا أمرهم إلى المهدي وهو بالري، فقال لهم بعض قرابتهم إنكم إن استلحقتموه لا بدّ لكم أن تزوّجوه، فتركوه ولما صالح قتيبة ملك شومان [1] كتب إلى بترك طرخان صاحب باذغيس فيمن عنده من أسرى المسلمين هدّدهم فبعث بهم إليه. ثم كتب إليه يستقدمه على الأمان فخشي وتثاقل، ثم قدم وصالح لأهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة ثم غزا بيكنداد في مدائن بخارى إلى النهر سنة سبع وثمانين. فلما نزل بهم استجاشوا بالصغد وبمن حولهم من الترك. وساروا إليه في جموع عظيمة، وأخذوا عليه الطرق.
فانقطعت الأخبار والرسل ما بينه وبين المسلمين شهرين، ثم هزمهم بعض الأيام وأثخن فيهم بالقتل والأسر وجاء إلى السور ليهدمه، فسألوا الصلح فصالحهم واستعمل عليهم وسار عنهم غير بعيد. فقتلوا العامل ومن معه فرجع إليهم وهدم سورهم وقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة وغنم من السلاح وآنية الذهب والفضة ما لم يصيبوا مثله. ثم غزا سنة ثمان وثمانين بلد نومكثت فصالحوه وسار إلى رامسة فصالحوه أيضا، فانصرف وزحف أيضا إليه الترك والصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كوربعابور ابن أخت ملك الصين، واعترضوا مقدمته وعليها أخوه عبد الرحمن فقاتلهم حتى جاء قتيبة وكان ينزل معه، فأبلى مع المسلمين ثم انهزم الترك وجموعهم، ورجع قتيبة إلى مرو. ثم أمره الحجّاج سنة تسع وثمانين وبخارى، وملكها وردان خذاه فعبر النهر من زمّ ولقيه الصغد وأهل كشّ ونسف بالمفازة وقاتلوه فهزمهم ومضى إلى بخارى فنزل عن يمين وردان ولم يظفر منه بشيء ورجع إلى مرو.
عمارة المسجد
كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين لأربع سنين من ولايته، وولّى عليها عمر بن عبد العزيز فقدمها ونزل دار مروان ودعا عشرة من فقهاء المدينة
__________
[1] وفي نسخة ثانية سومرن.(3/75)
فيهم الفقهاء السبعة المعروفون، فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمرا دونهم وأمرهم أن يبلغوه الحاجات والظلامات فشكروه وجزوه خيرا. ودعا له الناس ثم كتب إليه سنة ثمان [1] أن يدخل حجر أمّهات المؤمنين في المسجد ويشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها، وقدّم القبلة ومن أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل وادفع إليه الثمن وأهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان إسوة. فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها وبعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء المسجد فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ومائة من الفعلة وأربعين حملا من الفسيفساء [2] وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز واستكثر معهم من فعله الشام وشرع عمر في عمارته أهـ وولّى الوليد في سنة تسع وثمانين على مكّة خالد بن عبد الله القسريّ.
فتح السند
كان الحجّاج قد ولّى على ثغر السند ابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، وجهّز معه ستة آلاف مقاتل ونزل مكران، فأقام بها أياما ثم أتى فيريوز ففتحها ثم أرمايل ثم سار إلى الدبيل وكان به بدّ [3] عظيم في وسط المدينة على رأسه دقل عظيم وعليه راية فإذا هبت الريح دارت فأطافت بالمدينة والبد صنم مركوز في بناء والدقل منارة عليه وكل ما يعبد فهو عندهم بدّ. فحاصر الدبيل ورماهم بالمنجنيق فكسر الدقل فتطيّروا بذلك ثم خرجوا إليه فهزمهم وتسنّم الناس الأسوار ففتحت عنوة وأنزل فيها أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى النيروز. وقد كانوا بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه فلقوا محمدا بالميرة وأدخلوه مدينتهم وسار عنها وجعل لا يمرّ بمدينة من مدائن السند إلا فتحها حتى بلغ نهر مهران، واستعد ملك السند لمحاربته واسمه داهر بن صصّة ثم عقد الجسر على النهر وعبر فقاتله داهر وهو على الفيل وحوله الفيلة. ثم اشتدّ القتال وترجّل داهر فقاتل حتى قتل وانهزم الكفّار واستلحمهم المسلمون ولحقت امرأة داهر بمدينة راور فساروا إليها وخافته، فأحرقت نفسها وجواريها. وملك المدينة ولحق الفلّ بمدينة بدهمتاباد العتيقة على فرسخين من مكان المنصورة وهي يومئذ غيضة، ففتحها عنوة واستلحم من وجد بها
__________
[1] اي سنة ثمان وثمانين.
[2] قوله الفسيفساء حي أحجار صغيرة ملونة انتهى. من خط الشيخ العطار.
[3] بد: صنم كبير.(3/76)
وخرّبها. ثم استولى على مدائن السند واحدة واحدة وقطع نهر ساسل إلى الملقاد فحاصرها وقطع الماء فنزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقتل سدنة البلد وهم ستة آلاف وأصابوا في البلد ذهبا كثيرا في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية كانت الأموال تهدى إليه من البلدان ويحجون إليه ويحلقون شعرهم عنده ويزعمون أنه هو أيوب فاستكمل فتح السند وبعث من الخمس بمائة وعشرين ألف ألف وكانت النفقة نصفها.
فتح الطالقان وسمرقند وغزو كش ونسف والشاش وفرغانة وصلح خوارزم
قد تقدّم أن قتيبة غزا بخارى سنة تسع وثمانين، وانصرف عنها ولم يظفر. وبعث إليه الحجّاج سنة تسعين يوبخه على الانصراف عنها ويأمره بالعود فسار إليها ومعه نيزك طرخان صاحب باذغيس، وحاصرها واستجاش ملكها وردان أخذاه [1] بمن حوله من الصغد والترك. فلما جاء مددهم خرجوا إلى المسلمين وكانت الأزد في المقدّمة فانهزموا حتى جازوا عسكر المسلمين ثم رجعوا وزحفت العساكر حتى ردّوا الترك إلى موقفهم. ثم زحف بنو تميم وقاتلوا الترك حتى خالطوهم في مواقفهم وأزالوهم عنها وكان بين المسلمين وبينهم نهر لم يتجاسر أحد على عبوره إلا بنو تميم، فلما زالوا عن مواقفهم عبر الناس واتبعوهم وأثخنوا فيهم بالقتل، وخرج خاقان وابنه وفتح الله على المسلمين وكتب بذلك إلى الحجّاج ولما استوت الهزيمة جاء طرخون ملك الصغد ومعه فارسان ودنا من عسكر قتيبة يطلب الصلح على فدية يؤدّيها فأجابه قتيبة وعقد له ورجع قتيبة ومعه نيزك وقد خافه لما رأى من الفتوح، فاستأذنه في الرجوع وهو بآمد، فرجع يريد طخارستان وأسرع السير وبعث قتيبة إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسه وتبعه المغيرة فلم يدركه وأظهر نيزك الخلع ودعا لذلك الأصبهند [2] ملك بلخ. وباذان ملك مروالروذ وملك الطالقان وملك القاربات وملك الجوزجان فأجابوه، وتوعدوا [3] لغزو قتيبة. وكتب إلى كاتب شاه يستظهر به وبعث إليه بأثقاله وأمواله واستأذنه في الإتيان إن اضطر إلى ذلك. وكان جيفونة ملك
__________
[1] ورد اسمه سابقا وردان خذاه.
[2] هو الأصبهبذ كما مرّ اسمه في مكان سابق.
[3] لعلها تواعدوا حسب مقتضى السياق اي اتفقوا على موعد، اما التوعد اي التهديد فلا معنى لها هنا.(3/77)
طخارستان نيزك ينزل عنده، فاستضعفه وقبض عليه وقيّده خشية من خلافه وأخرج عامل قتيبة من بلده. وبلغ قتيبة وخبرهم قبل الشتاء وقد تفرّق الجند فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألف إلى البروقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انقضى الشتاء تقدّم إلى طخارستان وأنا قريب منك. ولما انصرم الشتاء استقدم قتيبة الجنود من نيسابور وغيرها فقدموا، فسار نحو الطالقان وكان ملكها قد دخل معهم في الخلع ففتحها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في مثلها، واستخلف عليها أخاه محمد بن مسلم، وسار إلى القاربات فخرج إليه ملكها مطيعا واستعمل عليها وسار إلى الجوزجان فلقيه أهلها بالطاعة، وهرب ملكها إلى الجبال واستعمل عليها عامر بن ملك الحماس. ثم أتى بلخ وتلقاه أهلها بالطاعة وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب حمله، ومضى نيزك إلى بغلان وخلف المقاتلة على فم الشعب ولا يهتدي إلى مدخل، ومضايقوه يمنعونه. ووضع أثقاله في قلعة من وراء الشعب، وأقام قتيبة أياما يقاتلهم على فم الشعب ولا يهتدى إلى مدخل، حتى دلّه عليه بعض العجم هنالك على طريق سرّب منه الرجال إلى القلعة فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومضى إلى سمنجان ثم إلى نيزك، وقدّم أخاه عبد الرحمن وارتحل نيزك إلى وادي فرغانة، وبعث أثقاله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى إلى السكون فتحصّن به ولم يكن له إلا مسلك واحد صعب على الدواب فحاصره قتيبة شهرين حتى جهدوا وأصابهم جهد الجدري وقرب فصل الشتاء فدعا قتيبة بعض خواصه ممن كان يصادق نيزك فقال:
انطلق إليه وأثن عليه بغير أمان وإن أعياك فأمنه وإن جئت دونه صلبتك. فمضى الرجل وأشار عليه بلقائه وأنه عازم على أن يشق هنالك، فقال: أخشاه فقال له:
لا يخلّصك إلا إتيانك، تنصّح له بذلك وبأنه يخشى عليه من غدر أصحابه الذين معه. ولم يزل يفتل له [1] في الذروة والغارب، وهو يمتنع حتى قال له: إنه قد أمّنك. فأشار عليه أصحابه بالقبول لعلمهم بصدقة وخرج معه نيزك ومعهم جيفونة ملك طخارستان الّذي كان قيّده حتى انتهوا إلى الشعب وهناك خيل أكمنه الرجل ما كان فيه وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل نيزك فوافاه كتابه لأربعين يوما بقتله فقتله وقتل معه صول طرخان خليفة جيفونة وابن أخي نيزك ومن أصحابه
__________
[1] «قوله يفتل له ... هو مثل من أمثال العرب يضرب في الخداع والمماكرة أهـ. من الميداني» .(3/78)
سبعمائة وصلبهم وبعث برأسه إلى الحجاج وأطلق جيفونة وبعث به إلى الوليد ثم رجع إلى مرو. وأرسل إليه ملك الجوزجان يستأمنه فأمّنه على أن يأتيه فطلب الرهن فأعطاه. وقدم ثم رجع فمات بالطالقان وذلك سنة إحدى وتسعين. ثم سار إلى شومان فحاصرها، وقد كان ملكها طرد عامل قتيبة من عنده، فبعث إليه بعد مرجعه من هذه الغزاة أن يؤدّي ما كان صالح عليه، فقتل الرسول، فسار إليه قتيبة وبعث له صالح أخو قتيبة وكان صديقه ينصحه في مراجعة الطاعة فأبى، فحاصره قتيبة ونصب عليه المجانيق فهدم الحصن وجمع الملك ما في الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر لا يدرك قعره، ثم استمات وخرج فقاتل حتى قتل وأخذ قتيبة القلعة عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرّية ثم بعث أخاه عبد الرحمن إلى الصغد وملكهم طرخون فأعطى ما كان صالح عليه قتيبة. وسار قتيبة إلى كشّ ونسف فصالحوه. ورجع ولقي أخاه ببخارى وساروا إلى مرو. (ولما رجع) عن الصغد، حبس الصغد ملكهم طرخون لإعطائه الجزية وولّوا عليهم غورك فقتل طرخون نفسه ثم غزا في سنة اثنتين وتسعين إلى سجستان يريد رتبيل فصالحه وانصرف. وكان ملك خوارزم قد غلبه أخوه خرزاد على أمره وكان أصغر منه وعاث في الرعية وأخذ أموالهم وأهليهم فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلّمها إليه على أن يمكنه من أخيه ومن عصاه من دونهم، فأجابه قتيبة ولم يطلع الملك أحدا من مرازبته على ذلك وتجهز قتيبة سنة ثلاث وتسعين وأظهر غزو الصغد، فأقبل أهل خوارزم على شأنهم ولم يحتفلوا بغزوه، وإذا به قد نزل هزارسب قريبا منهم، وجاء أصحاب خوارزم شاه إليه فدعوه للقتال فقال: ليس لنا به طاقة ولكن نصالحه على شيء نعطيه كما فعل غيرنا، فوافقوه. وسار إلى مدينة الفيد من وراء النهر، وهذا حصن بلاده وصالحه بعشرة آلاف رأس وعين ومتاع وأن يعينه على خام جرد وقيل على مائة ألف رأس [1] . وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد وهو عدو لخوارزم شاه فقاتله وقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وأسر منهم أربعة آلاف فقتلهم وسلّم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفه من أمرائه فقتلهم، ودفع أموالهم إلى قتيبة. ولما قبض قتيبة أموالهم أشار عليه المحشر بن مخازم
__________
[1] قوله على مائة ألف رأس لعله ممن يأخذ منهم خراجا، والا فمن العبيد استرقاق هذا العدد وأخذه منهم.
وماذا يصنعون بهذا العدد وأي طعام يكفيهم كل يوم. من خط الشيخ العطار.(3/79)
السلميّ بغزو الصغد وهم آمنون على مسافة عشرة أيام. فقال أكتم ذلك فقدّم أخاه في الفرسان والرماة، وبعثوا بالأثقال إلى مرو، وخطب قتيبة الناس وحثّهم على الصغد وذكّرهم الضغائن فيهم. ثم سار فأتى الصغد بعد ثلاث من وصول أخيه، فحاصرهم بسمرقند شهرا واستجاشوا ملك الشاش وأخشاد [1] خاقان وفرغانة فانتخبوا أهل النجدة من أبناء الملوك والمرازبة والأساورة وولّوا عليهم ابن خاقان وجاءوا إلى المسلمين، فانتخب قتيبة من عسكره ستمائة فارس، وبعث بهم أخاه صالحا لاعتراضهم. في طريقهم، فلقوهم بالليل وقاتلوهم أشدّ قتال، فهزموهم وقتلوهم وقتلوا ابن خاقان ولم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم، ونصب قتيبة المجانيق فرماهم بها وثلم السور واشتدّ في قتالهم، وحمل الناس عليهم إلى أن بلغوا الثلمة. ثم صالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال، في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، وأن يمكّنوه من بناء مسجد بالمدينة ويخلوها حتى يدخل فيصلّي فيه.
فلما فعل ذلك ودخل المدينة أكرههم على إقامة جند فيها وقيل إنه شرط عليهم الأصنام وما في بيوت النار فأعطوه فأخذ الحلية وأحرق الأصنام وجمع من بقايا مساميرها وكانت ذهبا خمسين ألف مثقال. وبعث بجارية من سبيها من ولد يزدجرد إلى الحجّاج، فأرسلها الحجّاج إلى الوليد وولدت له يزيد. ثم قال فورك لقتيبة انتقل عنّا فانتقل وبعث إلى الحجاج بالفتح. ثم رجع إلى مرو واستعمل على سمرقند إياس ابن عبد الله على حربها، وعبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم على خراجها، فاستضعف أهل خوارزم إياسا وجمعوا له فبعث قتيبة عبد الله عاملا على سمرقند وأمره أن يضرب إياسا وحبايا السطي مائة مائة ويخلعهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم مع المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك وخشي ملكهم من أبناء الذين كان قتلهم ففرّ إلى بلاد الترك. وجاء المغيرة فقتل وسبى وصالحه الباقون على الجزية، ورجع إلى قتيبة فولّاه على نيسابور ثم غزا قتيبة سنة أربع وتسعين إلى ما وراء النهر وفرض البعث على أهل بخارى وكشّ ونسف وخوارزم، فسار منهم عشرون ألف مقاتل فبعثهم إلى الشاش وسار هو إلى خجندة فجمعوا له واقتتلوا مرارا كان الظفر فيها للمسلمين. وفتح الجند الذين ساروا إلى الشاش مدينة الشاش وأحرقوها ورجعوا إلى قتيبة وهو على كشان
__________
[1] قوله واخشاد لعله اخشيد فرغانة لأن ملك فرغانة يقال له الإخشيد من خط الشيخ العطار.(3/80)
مدينة فرغانة وانصرف إلى مرو ثم بعث الحجّاج إليه جيشا من العراق وأمره بغزو الشاش فسار لذلك وبلغه موت الحجّاج فرجعوا إلى مرو.
خبر يزيد بن المهلب واخوته
كان الحجاج قد حبس يزيد وإخوته سنة ست وثمانين وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان فأقاموا في محبسهم إلى سنة تسعين. وبلغه أنّ الأكراد غلبوا على فارس فعسكر قريبا من البصرة للبعث وأخرج معه بني المهلب وجعلهم في فسطاط قريبا منه ورتّب عليهم الحرس من أهل الشام. ثم طلب منهم ستة آلاف ألف، وأمر بعذابهم وبكت أختهم هند بنت المهلب زوجة الحجاج فطلقها. ثم كفّ عنهم وجعل يستأدبهم وبعثوا إلى أخيهم مروان وكان على البصرة أن يعدّ لهم خيلا وكان حبيب منهم يعذب بالبصرة فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا وأمر لهم بشراب فأقاموا يتعاقرون واستغفلهم يزيد والمفضل وعبد الملك وخرجوا ولم يفطنوا لهم. ورفع الحرس خبرهم إلى الحجّاج فخشيهم على خراسان وبعث البريد إلى قتيبة يخبرهم ليحذرهم، وكان يزيد قد ركب السفن إلى البطائح واستقبلته الخيل المعدّة له هناك، وساروا إلى الشام على السماوة ومعهم دليل من كلب ونمى خبرهم إلى الحجّاج فبعث إلى الوليد بذلك.
وقدموا إلى فلسطين فنزلوا على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريما على سليمان فأخبره بحالهم وأنهم استجاروا به من الحجاج، فقال: ائتني بهم فقد أجرتهم.
وكتب الحجّاج إلى الوليد أنّ بني المهلب خانوا مال الله وهربوا مني فلحقوا بسليمان.
فسكن ما به لأنه كان خشيهم على خراسان كما خشيهم الحجّاج وكان غضبا للمال الّذي ذهبوا به فكتب سليمان إلى الوليد أنّ يزيد عندي وقد أمّنته، وكان الحجّاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدّ نصفها وأنا أؤدّي النصف. فكتب الوليد لا أؤمنه حتى تبعث به، فكتب سليمان لأجيئنّ معه، فكتب الوليد إذن لا أؤمنه. فقال يزيد لسليمان: لا يتشاءم الناس بي لكما فاكتب معي وتلطف ما أطقت، فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب وكان الوليد أمر أن يبعث مقيدا. فقال سليمان لابنه: أدخل على عمك أنت ويزيد في سلسلة. فقال: الوليد لما رأى ذلك لقد بلغنا من سليمان. ثم دفع أيوب كتاب أبيع بالشفاعة وضمان المال عن يزيد فقرأه الوليد واستعطفه أيوب في ذمّة أبيه وجواره، وتكلم يزيد واعتذر فأمّنه الوليد ورجع إلى سليمان وكتب الوليد إلى الحجاج(3/81)
بالكفّ عنهم فكف عن حبيب وأبي عبسة وكانا عنده وأقام يزيد عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة.
ولاية خالد القسري على مكة وإخراج سعيد بن جبير عنها ومقتله
ولما كان في سنة ثلاث وتسعين كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد يقص عليه أفعال الحجّاج بالعراق وما هم فيه من ظلمه وعدوانه، فبلغ بذلك الحجّاج فكتب إلى الوليد: إنّ كثيرا من المرّاق وأهل الشقاق قد انجلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة ومنعهم عمر وأصابه من ذلك وهن. فولّى الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القسري [1] وعثمان بن حيّان بإشارة الحجّاج، وعزل عمر عن الحجاز وذلك في شعبان من السنة. ولما قدم خالد مكة أخرج من كان بها من أهل العراق كرها وتهدّد من أنزل عراقيا أو أجره دارا وكانوا أيام عمر بن عبد العزيز يلجأ إلى مكة والمدينة كل من خلف الحجّاج فيأمن. وكان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجّاج وكان قد جعله على عطاء الجند الذين وجههم مع عبد الرحمن بن الأشعث إلى قتال رتبيل فلما خرج عبد الرحمن كان سعيد فيمن خلع فكان معه إلى أن هزم وسار إلى بلاد رتبيل. فلحق سعيد بأصبهان، وكتب الحجاج فيه إلى عاملها فتحرّج من ذلك ودسّ إلى سعيد فسار إلى أذربيجان. ثم طال عليه المقام فخرج إلى مكة فكان بها مع ناس أمثاله من طلبة الحجاج يستخفون بأسمائهم. فلما قدم خالد بن عبد الله مكّة أمره الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج فأخذ سعيد بن جبير ومجاهدا وطلق بن حبيب، وبعث بهم إلى الحجّاج فمات طلق في الطريق وجيء بالآخرين إلى الكوفة وأدخلا على الحجاج. فلما رأى سعيدا شتم خالدا القسري على إرساله وقال: لقد كنت أعرف أنه بمكّة وأعرف البيت الّذي كان فيه، ثم أقبل على سعيد وقال: ألم أشركك في أمانتي؟ ألم أستعملك؟ ثم تفعل بعدد أياديه عنده. فقال: بلى! قال:
فما أخرجك على قتالي؟ أنا امرؤ من المسلمين أخطئ مرّة وأصيب أخرى. ثم استمرّ في محاورته فقال: إنما كانت بيعة في عنقي فغضب الحجاج وقال: ألم آخذ بيعتك لعبد الملك بمكّة بعد مقتل ابن الزبير؟ ثم جددت له البيعة بالكوفة فأخذت بيعتك
__________
[1] خالد هذا من جبابرة أمراء الدولة المروانية على شاكلة الحجاج أهـ. من خط الشيخ العطار.(3/82)
ثانيا؟ قال: بلى! قال: فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين، وتوفي بواحدة للفاعل بن الفاعل، والله لأقتلنك. فقال: إني لسعيد كما سمتني أمي فضربت عنقه فهلل رأسه ثلاثا أفصح منها بمرّة. ويقال: إن عقل الحجاج التبس يومئذ وجعل يقول: قيودنا قيودنا فظنّوها قيود سعيد بن جبير، فأخذوها من رجليه وقطعوا عليها ساقيه، وكان إذا نام يرى سعيد بن جبير في منامه آخذا بمجامع ثوبه يقول: يا عدوّ الله فيم قتلتني؟ فينتبه مرعوبا يقول: ما لي ولسعيد بن جبير.
وفاة الحجاج
وتوفي الحجاج في شوّال خمس وتسعين لعشرين سنة من ولايته العراق، ولما حضرته الوفاة استخلف على ولايته ابنه عبد الله وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرّهم الوليد بعد وفاته. وكتب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهدك وجهادك أعداء المسلمين وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الّذي تحب، فأتمم مغازيك وانتظر ثواب ربّك ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني انظر إلى بلادك والثغر الّذي أنت فيه ولم يغير الوليد أحدا من عمّال الحجاج.
أخبار محمد بن القاسم بالسند
كان محمد بن القاسم بالملتان وأتاه خبر وفاة الحجاج هنالك فرجع إلى الدور والثغور [1] وكان قد فتحها. ثم جهّزه الناس إلى السلماس مع حبيب فأعطوا الطاعة وسالمه أهل شرست [2] وهي مغزى أهل البصرة وأهلها يقطعون في البحر. ثم سار في العسكر إلى [3] فخرج إليه دوهر فقاتله محمد وهزمه وقتله. ونزل أهل المدينة على حكمه فقتل وسبى ولم يزل عاملا على السند إلى أن ولي سليمان بن عبد الملك فعزله وولّى يزيد بن أبي كبشة السكسكيّ على السند مكانه فقيّده يزيد وبعث به إلى العراق فحبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط وعذبه في رجال من قرابة الحجّاج على
__________
[1] وفي الكامل ج 4 ص 588: فرجع إلى الدور والبغرور وكان قد فتحها، وفي بعض النسخ الثغور والثغرور.
[2] وفي الكامل لابن الأثير: سرشت.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 588: ثم إلى محمد الكيرج فخرج اليه دوهر.(3/83)
قتلهم. وكان الحجاج قتل أخاه آدم على رأي الخوارج ومات يزيد بن أبي كبشة لثمان عشرة ليلة من مقدمه. فولى سليمان على السند حبيب بن المهلّب فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع حبشة بن داهر إلى برهماباذ [1] فنزل حبيب على شاطئ مهران وأعطاه أهل الروم الطاعة، وحارب فظفر، ثم أسلم الملوك لما كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإسلام على أن يملكهم وهم أسوة المسلمين فيما لهم وعليهم، فأسلم حبشة والملوك وتسمّوا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهليّ عامل عمر على ذلك الثغر فغزا بعض الهند وظفر. ثم ولّى الجنيد بن عبد الرحمن على السند أيام هشام بن عبد الملك، فأتى شط مهران، ومنعه حبشة بن داهر العبور وقال: إني قد أعملت وولّاني الرجل الصالح ولست آمنك فأعطاه الرهن ثم ردّها حبشة وكفر وحارب فحاربه الجنيد في السفن وأسره ثم قتله. وهرب صصّة بن داهر إلى العراق شاكيا لغدر الجنيد فلم يزل يؤنسه حتى جاءه فقتله. ثم غزا الجنيد الكيرج من آخر الهند وكانوا نقضوا فاتخذ كباشا [2] زاحفة ثم صك بها سور المدينة فثلمها ودخل فقتل وسبى وغنم، وبعث العمّال إلى المرمد والمعدل [3] ودهنج [4] وبعث جيشا إلى أرين فأغاروا عليها وأحرقوا ربضها وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل مثلها. وولّى تميم بن زيد الضبيّ [5] فضعف ووهن ومات قريبا من الدّيبل. وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند وتركوا مراكزهم. ثم ولي الحكم بن سوّام [6] الكلبي وقد كفر أهل الهند الا أهل قصّة، فبنى مدينة سمّاها المحفوظة وجعلها مأوى المسلمين، وكان معه عمر بن محمد بن القاسم وكان يفوّض إليه عظائم الأمور وأغزاه عن المحفوظة. فلما قدم وقد ظهر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة وهي التي كانت أمراء السند ينزلونها واستخلص ما كان غلب عليه العدوّ، ورضي الناس بولايته. ثم قتل الحكم وضعفت الدولة الأموية عن الهند وتأتي أخبار السند في دولة المأمون.
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير: ورجع جيشبه بن ذاهر إلى برهمناباذ.
[2] ليس المراد بالكباش هاهنا الغنم، وانما هي آلة من خشب وحديد يجرونها بنوع من الخيل فتدق الحائط فينهدم. وقد بطلت هذه الآلة كالمنجنيق لما حدثت الآلات النارية من المدافع وغيرها، كبطلان النبال فليس الآن من الآلات القديمة الا السيف والرماح قليلة أهـ. من خط الشيخ العطار.
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 590.
[4] وفي نسخة اخرى: وهج.
[5] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 590: تميم بن زبيد القينيّ.
[6] وفي الكامل لابن الأثير: الحكم بن عوّام الكلبي.(3/84)
فتح مدينة كاشغر
أجمع قتيبة لغزو مدينة كاشغر سنة ست وتسعين وهي أدنى مدائن الصين فسار لذلك وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعها بسمرقند وعبر النهر، وجعل على المجاز مسلحة [1] يمنعون الراجع من العسكر إلا بإذنه! وبعث مقدمه إلى كاشغر فغنموا وسبوا وختم أعناق السبي. وأوغل حتى قارب الصين فكتب إليه ملك الصين يستدعي من أشراف العرب من يخبره عنهم وعن دينهم فانتخب قتيبة عشرة من العرب كان منهم هبيرة بن شمرج الكتابيّ. وامر لهم بعدة حسنة ومتاع من الخزّ والوشي وخيول أربعة وقال لهم: أعلموه أني حالف أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم. ولما قدموا على ملك الصين دعاهم في اليوم الأوّل فدخلوا وعليهم الغلائل والأردية، وقد تطيبوا ولبسوا النعال. فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن حضره، وقالوا بعد انصرافهم هؤلاء نسوان. فلبسوا الوشي والمطارف وعمائم الخز وغدوا عليه فلم يكلموهم وقالوا هذه أقرب إلى هيئة الرجال ثم دعاهم الثالثة فلبسوا سلاحهم وعلى رءوسهم البيضات والمغافر وتوشحوا السيوف واعتقلوا الرماح ونكبوا القسيّ فهالهم منظرهم ثم انصرفوا وركبوا فتطاردوا فعجب القوم منهم. ثم دعا زعيمهم هبيرة بن شمرج فسأله لم خالفوا في زيّهم فقال: أمّا الأوّل فإنّا نساء في أهلنا وأما الثاني فزيّنا عند أمرائنا، وأما الثالث فزينا لعدوّنا. فاستحسن ذلك، ثم قال له: قد رأيتم عظم ملكي وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وقد عرفت قلّتكم فقولوا لصاحبكم ينصرف وإلّا بعثت من يهلككم. فقال هبيرة كيف نكون في قلة وأول خيلنا في بلادك وآخرها في منابت الزيتون. وأما القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه، ولنا آجال إذا حضرت فلن نتعدّاها وقد حلف صاحبنا أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويأخذ جزيتكم قال الملك: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث له بتراب من أرضنا فيطؤه، ويقبض أبناءنا فيختمهم وبهدية ترضيه، ثم أجازهم فأحسن. وقدموا على قتيبة فقبل الجزية ووطئ التراب وختم الغلمان وردّهم ثم انصرف من غداته. وأوفد هبيرة إلى الوليد، وبلغه وهو في الفرات موت الوليد.
__________
[1] المسلمة: جماعة من العسكر يقفون في الطريق للحاجة اليهم أهـ. من خط الشيخ العطار.(3/85)
وفاة الوليد وبيعة سليمان
ثم توفي الوليد في منتصف جمادى الأخيرة من سنة ست وتسعين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان من أفضل خلفاء بني أمية وبنى المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد القدس ومسجد دمشق. ولما أراد بناء مسجد دمشق كانت في موضعه كنيسة فهدمها وبناها مسجدا وشكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال: نردّ عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنّها خارج المدينة مما فتح عنوة ونبنيها مسجدا فتركوا ذلك. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند، وكان يتخذ الضياع وكان متواضعا يمرّ بالبقّال فيسأله بكم حزمة البقل؟ ويسعّر عليه وكان يختم القرآن في ثلاث وفي رمضان في يومين وكان أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان فكتب إلى عمّاله ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجّاج وقتيبة وبعض خواصه. واستقدم سليمان ثم استبطأه فأجمع السير إليه ليخلعه فمات دون ذلك. ولما مات بويع سليمان من يومه وهو بالرملة فعزل عثمان بن حيّان من المدينة آخر رمضان، وولّى عليها أبا بكر ابن محمد بن عمر بن حزم، وعزل ولاة الحجاج عن العراق فولّى يزيد بن المهلّب على المصرين وعزل عنهما يزيد بن أبي مسلم. فبعث يزيد أخاه زيادا على عمان وأمر سليمان يزيد بن المهلب بنكبة آل أبي العقيّل قوم الحجاج وبني أبيه وبسط أصناف العذاب عليهم، فولّى على ذلك عبد الملك بن المهلّب.
مقتل قتيبة بن مسلم
ولما ولي سليمان خافه قتيبة لما قدّمناه من موافقته الوليد على خلعه فخشي أن يولّي يزيد ابن المهلب خراسان فأجمع خلعه وكتب إليه لئن لم تقرّني على ما كنت عليه وتؤمّني لأخلعنك ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا فأمّنه وكتب له العهد على خراسان وبعث إليه رسوله بذلك، فبعث الرسول وهو بحلوان أنه قد خلع وكان هو بعد بعثة الكتاب إلى سليمان قد اشتدّ وجله وأشار عليه أخوه عبد الله بالمعاجلة، فدعا الناس إلى الخلع وذكرهم بوائقه وسوء ولاية من تقدّمه فلم يجبه أحد، فغضب وشتمهم وعدّد وقالبهم قبيلة قبيلة وأثنى على نفسه بالأب والبلد والمعشر. فغضب الناس وكرهوا خلع سليمان وأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه وعذل قتيبة أصحابه فيما كان منه فقال: لما لم تجيبوني(3/86)
غضبت فلم أدر ما قلت. وجاء الأزد إلى حضين بن المنذر «بالضاد المعجمة» فقالوا:
كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال: إنّ مضر كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال: إنّ مضر بخراسان كثير وتميم أكثرهم وهم شوكتها ولا يرضون بغيرهم فيصيبوا قتيبة ولا أرى لها إلا وكيعا. وكان وكيع موثقا من قتيبة بعزله وولاية ضرار بن حصين الضبيّ مكانه.
وقال حيّان النبطيّ مولى بن شيبان ليس لها غير وكيع، ومشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا وتولى كبر ذلك حيّان ونمي خبره إلى قتيبة فأمر بقتله إذا دخل عليه، وتنصح بعض خدم قتيبة بذلك إلى حيّان فلما دعاه تمارض، واجتمع الناس إلى وكيع وبايعوه. فمن أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف رئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف عليهم ابن زخر ومن الموالي سبعة آلاف عليهم حيّان النبطيّ وقيل من الديلم، وسمي نبطيّا للكنته. وشرط على وكيع أن يحوّل له الجانب الشرقي من نهر بلخ فقبل، وفشا الخبر وبلغ قتيبة فدسّ ضرار بن سيان الضبي [1] إلى وكيع فبايعه، وجاء إلى قتيبة بالخبر فأرسل قتيبة إلى وكيع فاعتذر بالمرض. فقال لصاحب شرطته: ائتني به وإن أبى ائتني برأسه فلما جاء إلى وكيع ركب ونادى في الناس فأتوه أرسالا. واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصه وثقاته وبنو عمه، وأمر فنودي في الناس قبيلة قبيلة، وأجابوه بالجفوة. يقول: أين بنو فلان؟ فيقولون: حيث وضعتهم فنادى بأذكركم الله والرحم، فقالوا: أنت قطعتها! فنادى لكم العتبى، فقالوا: إنّا لنا الله إذا فدعا ببرذون ليركبه فمنعه ورمحه فعاد إلى سريره وجاء حيّان النبطي في العجم، فأمره عبد الله أخو قتيبة أن يحمل على القوم، فاعتذر وقال لابنه: إذا لقيتني حولت قلنسوتي فمل بالأعاجم إلى وكيع، ثم حوّلها وسار بهم ورمى صالح أخو قتيبة بسهم فحمل إلى أخيه. ثم تهايج الناس وجاء إلى عبد الرحمن أخي قتيبة الغوغاء ونحوهم فأحرقوا آريّا [2] فيه إبل قتيبة ودوابه. ثم زحفوا به حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه وجرح جراحات كثيرة ثم قطعوا رأسه وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم ومسلم وابنه كثير، وقيل قتل عبد الكريم بقزوين، فكان عدّة من قتل من أهله أحد عشر رجلا، ونجا أخوه عمر مع أخواله من تميم. ثم صعد وكيع المنبر وأنشد الشعر في الثناء على نفسه وفعله والذم من قتيبة ووعد بحسن السيرة وطلب رأس قتيبة وخاتمه من الأزد
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 15: ضرار بن سنان الضبي.
[2] الآري: محبس الدابة أو حبل تشد به: جمعها اواري وأوار.(3/87)
وهدّدهم عليه فجاءوا به فبعثه إلى سليمان. ووفّى وكيع لحيّان النبطيّ بما ضمن له.
ولاية يزيد بن المهلب خراسان
كان يزيد بن المهلّب لما ولاه سليمان العراق على الحرب والصلاة والخراج استكره أن يحيف على الناس في الخراج فتلحقه المذمة كما لحقت الحجاج ويخرب العراق، وإن قصّر عن ذلك لم يقبل منه فرغب من سليمان أن يعفيه من الخراج وأشار عليه بصالح ابن عبد الرحمن مولى تميم فولاه سليمان الخراج وبعثه قبل يزيد فلما جاء صالح إلى يزيد ضيّق عليه صالح، وكان يزيد يطعم على ألف خوان فاستكثرها صالح فقال:
اكتب ثمنها عليّ وغير ذلك وضجر يزيد وجاء خبر خراسان ومقتل قتيبة فطمع يزيد في ولايتها ودسّ عبد الله بن الأهتم على سليمان أن يولّيه خراسان ولا يشعر بطلبته بذلك. وسيّره على البريد فقال له سليمان: إنّ يزيد إليّ بذكر عملك بالعراق! فقال: نعم بها ولدت وبها نشأت. ثم استشاره فيمن يوليه خراسان ولم يزل سليمان بذكر الناس وهو يردّهم، ثم حذّره من وكيع وغدره قال: فسمّ أنت! قال شريطة الكمال الإجازة ممن أشير به، وإذا علم يكره ذلك. ثم قال: هو يزيد بن المهلب فقال سليمان: العراق أحب إليه، فقال ابن الأهتم: قد عملت ولكن نكرهه فيستخلف على العراق ويسير إلى خراسان، فكتب عهد يزيد على خراسان وبعثه مع ابن الأهتم فلما جاءه بعث ابنه مخادا على خراسان ثم سار بعده واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وعلى البصرة ابن عبد الله بن هلال الكلابي، وعلى الكوفة حرملة بن عيد اللمغميّ. ثم عزله لأشهر بشير بن حيّان النهدي، فكانت قيس تطلب بثأر قتيبة وتزعم أنه لم يخلع. فأوصى سليمان يزيد إن أقامت قيس بيّنة أنه لم يخلع أن يقيد به من وكيع.
أخبار الصوائف [1] وحصار قسطنطينية
كانت الصوائف تعطلت من الشام منذ وفاة معاوية وحدوث الفتن واشتدّت الفتن أيام عبد الملك اجتمعت الروم واستجاشوا على أهل الشام فصالح عبد الملك صاحب قسطنطينية على أن يؤدّي إليه كل يوم جمعة ألف دينار خشية منه على المسلمين ونظرا
__________
[1] الصوائف هي الجيوش التي كانت تجهز في أوان الصيف لسد الثغور وحرب الكفار، استمر ذلك من صدر الإسلام إلى أواخر الدولة العباسية أهـ. من خط الشيخ العطار.(3/88)
لهم، وذلك سنة سبعين لعشر سنين من وفاة معاوية. ثم لما قتل مصعب وسكنت الفتنة بعث الجيوش سنة إحدى وسبعين في الصائفة. فدخل فافتتح قيساريّة، ثم ولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وسبعين فدخل في الصائفة إلى بلاد الروم فهزمهم، ودخل عثمان بن الوليد من ناحية أرمينية في أربعة آلاف ولقيه الروم في ستين ألفا فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر. ثم غزا محمد بن مروان سنة أربع وسبعين فبلغ أنبولية وغزا في السنة بعدها في الصائفة من طريق مرعش، فدوّخ بلادهم وخرج الروم في السنة بعدها إلى العتيق فغزاهم من ناحية مرعش ثانية، ثم غزاهم سنة ست وسبعين من ناحية ملطية ودخل في الصائفة سنة سبع وسبعين الوليد ابن عبد الملك فأثخن فيهم ورجع وجاء الروم سنة تسع وسبعين فأصابوا من أهل أنطاكية وظفروا بهم فبعث عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بالعسكر ففتح قاليقلا. ثم غزا محمد بن مروان سنة اثنتين وثمانين أرمينية وهزمهم، فسألوه الصلح فصالحهم وولّى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروه وقتلوه فغزاهم سنة خمس وثمانين وصاف فيها وشتى ثم غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ودوّخها، ورجع وعاد إليها سنة سبع وثمانين. فأثخن فيهم بناحية المصيصة وفتح حصونا كثيرة. منها حصن بولق والأحزم وبولس وقمقيم. وقتل من المستقربة ألف مقاتل وسبى أهاليهم. ثم غزا بلاد الروم سنة تسع وثمانين مسلمة بن عبد الملك والعبّاس بن الوليد، فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح العبّاس أردولية، ولقي جمعا من الروم فهزمهم. وقيل إنّ مسلمة قصد عمّورية فلقي بها جمعا من الروم فهزمهم. وافتتح هرقلة وقموليّة وغزا العبّاس الصائفة من ناحية البلد بدون. وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك سنة تسع وثمانين من ناحية أذربيجان ففتح حصونا ومدائن هناك. ثم غزا سنة تسعين ففتح الحصون الخمس التي بسورية. وغزا العبّاس حتى بلغ أردنّ وسورية. وفي سنة إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد في الصائفة مع مسلمة بن عبد الملك وكان الوليد قد ولّى مسلمة على الجزيرة وأرمينية وعزل عمه محمد بن مروان عنها، فغزا الترك من ناحية أذربيجان حتى الباب وفتح مدائن وحصونا، ثم غزا سنة اثنتين وتسعين بعدها ففتح ثلاثة حصون وجلا أهل سر سنّة إلى بلاد الروم ثم غزا العبّاس بن الوليد سنة ثلاث بعدها بلاد الروم ففتح سبيطلة، وغزا مروان بن الوليد فبلغ حنجرة. وغزا مسلمة ففتح ماشية وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية. وغزا(3/89)
العبّاس بن الوليد سنة أربع وتسعين ففتح انطاكية. وغزا عبد العزيز بن الوليد ففتح غزالة وبلغ الوليد بن هشام المعيطيّ مروج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفي سنة خمس وتسعين غزا العبّاس الروم ففتح هرقلة. وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الرضاخيّة وفتح الحصن الّذي فتحه الرّصاع، وغزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتّى بها، وبعث سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية وبعث ابنه داود على الصائفة ففتح حصن المراة، وفي سنة ثمان وتسعين مات ملك الروم، فجاء القون إلى سليمان فأخبره وضمن له فتح الروم، وسار سليمان إلى وابق وبعث الجيوش مع أخيه مسلمة، ولما دنا من القسطنطينيّة أمر أهل المعسكر أن يحمل كل واحد مدّين من الطعام ويلقوه في معسكرهم فصار أمثال الجبال واتخذ البيوت من الخشب وأمر الناس بالزراعة وصاف وشتّى وهم يأكلون من زراعتهم وطعامهم الّذي استاقوه مدّخرا. ثم جهد أهل القسطنطينية الحصار، وسألوا الصلح على الجزية دينارا على الرأس، فلم يقبل مسلمة وبعث الروم إلى ألقون إن صرفت عنّا المسلمين ملّكناك فقال لمسلمة: لو أحرقت هذا الزرع علم الروم أنك قصدتهم بالقتال فنأخذهم باليد وهم الآن يظنون مع بقاء الزرع أنك تطاولهم، فأحرق الزرع فقوي الروم وغدر ألقون وأصبح محاربا، وأصاب الناس الجوع فأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وسلمان مقيم بوابق وحال الشتاء بينهم وبينه فلم يقدر أن يمدّهم حتى مات وأغارت برجان على مسلمة وهو في قلّة فهزمهم وفتح مدينتهم. وغزا في هذه السنة الوليد بن هشام فأثخن في بلاد الروم. وغزا داود بن سليمان سنة ثمان وتسعين ففتح حصن المراة مما يلي ملطية. وفي سنة تسع وتسعين بعث عمر بن عبد العزيز مسلمة وهو بأرض الروم وأمدّه بالنفول بالمسلمين وبعث إليه بالخيل والدواب، وحث الناس على معونتهم ثم أمر عمر بن عبد العزيز أهل طريدة بالجلاء عنها إلى ملطية وخرّبها. وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين وفرض على أهل الجزيرة مسلحة تكون عندهم إلى فصل الشتاء، وكانت متوغلة في أرض الروم فخرّبها عمر، وولّى على ملطية جعونة بن الحرث من بني عامر بن صعصعة. وأغزى عمر سنة مائة من الهجرة بالصائفة الوليد بن هشام المعيطي وعمر ابن قيس الكندي.(3/90)
فتح جرجان وطبرستان
كان يزيد بن المهلب يريد فتحهما لما أنهما كانتا للكفار، وتوسطتا بين فارس وخراسان ولم يصبهما الفتح. وكان يقول وهو في جوار سليمان بالشام إذا قصّت عليه أخبار قتيبة وما يفعله بخراسان وما وراء النهر، ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت يوسس ونيسابور وليست هذه الفتوح بشيء والشأن في جرجان. فلما ولّاه سليمان خراسان سار إليها في مائة ألف من أهل العراق والشام وخراسان سوى الموالي والمتطوّعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخارم يقوم الرجل على باب منها فيمنعه فابتدأ بقهستان فحاصرها وبها طائفة من الترك فكانوا يخرجون فيقاتلون وينهزمون في كل يوم ويدخلون حصنهم ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه دهقان يستأذن [1] يسأل في الصلح ويسلّم المدينة وما فيها فصالحه وأخذ ما فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألفا من الترك، وكتب إلى سليمان بذلك. ثم سار إلى جرجان وكان سعيد بن العاصي قد صالحهم على الجزية مائة ألف في السنة فكانوا أحيانا يجبون مائة وأحيانا مائتين وأحيانا ثلاثمائة، وربما أعطوا ذلك وربما منعوا، ثم كفروا ولم يعطوا خراجا، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا الطريق إلى خراسان على [2] فكان الناس يسلكون على فارس وسلماس. ثم فتح قتيبة طريق قومس وبقي أمر جرجان حتى جاء يزيد فصالحوه. ولما فتح يزيد قهستان وجرجان طمع في طبرستان فاستعمل عبد الله بن معمر اليشكريّ على ساسان وقهستان، وخلف معه أربعة آلاف فارس، وسار إلى أدنى جرجان من جهة طبرستان ونزل بآمد. ونسا [3] راشد بن عمر في أربعة آلاف. ودخل بلاد طبرستان فسأل صاحبها الأصبهبذ في الصلح، وأن يخرج من طبرستان فأبى يزيد ورجا أن يفتحها، ووجه أخاه عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه، وإذا اجتمعا فعيينة على الناس واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم والتقوا فانهزم
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: «فأرسل صول، دهقان مهستان، الى يزيد يطلب منه ان يصالحه ويؤمنه على نفسه واهله وماله ليدفع اليه المدينة بما فيها، فصالحه ووفّى له» .
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: «ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلّا على فارس» .
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: واستعمل على ايذوسا راشد بن عمرو(3/91)
المشركون، واتبعهم المسلمون إلى الشّعب وصعد المشركون في الجبل فامتنعوا على المسلمين وصعد أبو عيينة بمن معه خلفهم فهزمهم المشركون في الوعر فكفّوا وكاتب الأصبهبذ أهل جرجان ومقدّمهم المرزبان أن يبيتوا للمسلمين عندهم ليقطعوا المادّة عن يزيد والطريق بينه وبين جرجان ووعدهم بالمكافأة على ذلك فساروا بالمسلمين وهم غارّون، وقتل عبد الله بن معمر وجميع من معه ولم ينج أحد وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق، وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم، وفزع يزيد إلى حيّان النبطيّ وكان قد غرّمه مائتي ألف درهم بسبب أنه كتب إلى ابنه مخلد كتابا فبدأ بنفسه. فقال له: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، وقد علمت ما جاءنا من جرجان فاعمل في الصلح. فأتى حيّان الأصبهبذ ومت إليه بنسب العجم وتنصّل له وفتل له في الذروة والغارب حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة وقر [1] زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل على يد كل رجل منهم ترس وطيلسان وجام من فضة وخرقة حرير وكسوة، فأرسل يزيد لقبض ذلك ورجع. أهـ. (وقيل) في سبب مسير يزيد إلى جرجان أنّ صولا [2] التركي كان على قهستان والبحيرة، جزيرة في البحر على خمسة فراسخ من قهستان، وهما من جرجان مما يلي خوارزم وكان يغير على فيروز بن فولفول مرزبان جرجان وأشار فيروز بنصيب من بلاده، فسار فيروز إلى يزيد هاربا منه وأخذ صول جرجان وأشار فيروز على يزيد أن يكتب إلى الأصبهبذ ويرغبه في العطاء إن هو حبس صولا بجرجان حتى يحاصر بها، ليكون ذلك وسيلة إلى معاكسته وخروجه عن جرجان فيتمكن يزيد منه فكتب إلى الأصبهبذ وبعث بالكتاب إلى صول فخرج من حينه إلى البحيرة وبلغ يزيد الخبر فسار إلى جرجان ومعه فيروز واستخلف على خراسان ابنه مخلدا. وعلى سمرقند وكشّ ونسف وبخارى ابنه معاوية وعلى طخارستان ابن قبيصة بن المهلّب، وأتى جرجان فلم يمنعه دونها أحد ودخلها ثم سار منها إلى البحير وحصر صولا بها شهرا حتى سأل الصلح على نفسه وماله وثلاثمائة ويسلّم إليه البحيرة فأجابه
__________
[1] الوقر: الحمل الثقيل. وأكثر ما يستعمل في حمل الحمار والبغل. اما حمل الحمل فيسمى الوسق.
[2] قبوله صول هو اسم ملك من ملوك الترك وقول بعض العرب:
ما اقدر الله ان يدني على شحط من داره الحزن فمن داره صول أي داره دار صول أهـ. من خط الشيخ العطار.(3/92)
يزيد وخرج صول عن البحيرة وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا وأمر إدريس بن حنظلة العمى أن يحصي ما في البحيرة ليعطي الجند فلم يقدر. وكان فيها من الحنطة والشعير والأرزّ والسمسم والعسل شيء كثير ومن الذهب والفضة كذلك ولما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان كما قدّمناه سار إلى جرجان وعاهد الله إن ظفر بهم ليطحننّ القمح على سائل دمائهم ويأكل منه فحاصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه فيقاتلونه ويرجعون وكانوا متمنعين [1] في الجبل والأوعار وقصد رجل من عجم خراسان فأتبع [2] بخلا في الجبل وانتهى إلى معسكرهم وعرف الطريق إليه ودلّ الأدلّة على معالمه، وأتى يزيد فأخبره فانتخب ثلاثمائة رجل مع ابنه خالد وضم إليه جهم بن ذخر وبعثه وذلك الرجل يدل به، وواعده أن يناهضهم العصر من الغداة ولما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب عنده حتى اضطرمت النيران ونظر العدوّ إلى النار فهالهم وحاموا للقتال آمنين خلفهم فناشبهم يزيد إلى العصر وإذا بالتكبير من ورائهم فهربوا إلى حصنهم وأتبعهم المسلمون فأعطوا ما بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد فقتل المقاتلة وسبى الذرّية وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى وادي جرجان، ومكّن أهل الثأر منهم حتى استلحموهم وجرى الماء على الدم وعليه الأرحاء فطحن وخبز وأكل وقتل منهم أربعين ألفا وبنى مدينة جرجان ولم تكن بنيت قبل ورجع إلى خراسان وولّى على جرجان جهم بن ذخر الجعفيّ ولما قتل مقاتلهم صلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره.
وفاة سليمان وبيعة عمر بن عبد العزيز
ثم توفى سليمان بدابق من أرض قنّسرين من سنة تسعة وتسعين في صفر منها، وقد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود، ثم استصغره وقال له كاتبه رجاء بن حيوة ابنك غائب عنك بقسطنطينية ولا يعرف حياته من موته فعدل إلى عمر بن عبد العزيز وقال له: إني والله لأعلم أنها تكون فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد جعل ذلك له وكتب بعد البسملة هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني قد وليتك الخلافة من بعدي
__________
[1] الأصح ان يقول ممتنعين.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 34: فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصير، وقيل رجل من طيِّئ فأبصر وعلا في الجبل فتبعه.(3/93)
ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله، ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب ثم أمر كعب بن جابر العبسيّ صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته، وأمر رجاء بن حيوة أن يدفع لهم كتابه وقال: أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا من ولّيت فيه فبايعوه رجلا رجلا وتفرّقوا وأتى عمر إلى رجاء يستعمله ويناشده الله والمودّة يستعفي من ذلك فأبى وجاءه هشام أيضا يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى، فانصرف أسفا أن يخرج من بني عبد الملك ثم مات سليمان وجمع رجاء أهل بيته فقرأ عليهم الكتاب فلما ذكر عمر قال هشام: والله لا نبايعه أبدا فقال له رجاء: والله نضرب عنقك فقام أسفا يجرّ رجليه حتى جاء إلى عمر بن عبد العزيز وقد أجلسه رجاء على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فبايعه واتبعه الباقون ودفن سليمان وصلى عليه عمر بن عبد العزيز والوليد كان غائبا عن موت سليمان ولم يعلم بيعة عمر فعقد لواء ودعا لنفسه وجاء إلى دمشق. ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر واعتذر إليه وقال: بلغني أنّ سليمان لم يعهد فخفت على الأموال أن تنهب فقال: عمر لو قمت بالأمر لقعدت في بيتي ولم أنازعك فقال عبد العزيز: والله لا أحب لهذا الأمر غيرك وأوّل ما بدأ به عمر لما استقرّت البيعة له أنه ردّ ما كان لفاطمة بنت عبد الملك زوجته من المال والحلي والجوهر إلى بيت المال وقال: لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد فردّته جميعه ولما ولّى أخوها يزيد من بعد ردّه عليها فأبت وقالت: ما كنت أعطيه حيّا أعطيه ميتا [1] ففرّقه يزيد على أهله وكان بنو أمية يسبّون عليّا فكتب عمر إلى الآفاق بترك ذلك، وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول بالمسلمين.
عزل يزيد بن المهلب وحبسه والولاية على عماله
ولما استقرّت البيعة لعمر كتب في سنة مائة إلى يزيد بن المهلب أن يستخلف على عماله ويقدم فاستخلف مخلدا ابنه وقدم من خراسان وقد كان عمر ولّى على البصرة عديّ ابن أرطاة الفزاريّ وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب وضم إليه أبا الزناد، فكتب إلى عدي بن أرطاة موسى أن يقبض على يزيد بن المهلب ويبعثه مقيدا، فلما نزل يزيد واسط وركب السفن يريد البصرة بعث عليّ بن
__________
[1] الجملة غير مفهومة حسب مقتضى السياق وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 42: «ما كنت أطيعه حيّا وأعصيه ميتا.»(3/94)
أرطاة موسى بن الرحيبة الحميريّ فلقيه في نهر معقل عند الجسر فقيّده وبعث به إلى عمر، وكان عمر يبغضه ويقول إنه مراء وأهل بيته جبابرة فلما طالبه بالأموال التي كتب بها إلى سليمان من خمس جرجان قال: إنما كتبت لأسمع الناس، وعلمت أنّ سليمان لم يكن ليأخذني بذلك. فقال له عمر: اتق الله وهذه حقوق المسلمين لا يسعني تركها ثم حبسه بحصن حلب وبعث الجرّاح بن عبد الله الحكميّ واليا على خراسان مكانه. وانصرف يزيد بن يزيد فقدم على عمر واستعطفه لأبيه وقال له: يا أمير المؤمنين إن كانت له بيّنة فخذ بها وإلا فاستحلفه وإلا فصالحه أو فصالحني على ما تسأل فأبى عمر من ذلك وشكر من مخلد ما فعل، ثم ألبس يزيد جبة صوف وحمله على جمل وسيّره إلى دهلك ومرّ يزيد على الناس وهو ينادي بعشيرة وبالنكير لما فعل به فدخل سلامة بن نعيم الخولانيّ على عمر وقال: أردد يزيد إلى محبسه لئلا ينزعه قومه، فإنّهم قد غضبوا، فرده إلى أن كان من أمر فزارة ما يذكر.
ولاية عبد الرحمن بن نعيم القشيري على خراسان
ولما عزل يزيد عن خراسان وكان عامل جرجان جهم بن ذخر الجعفيّ فأرسل عامل العراق على جرجان عاملا مكانه، فحبسه جهم وقيّده فلما جاء الجرّاح إلى خراسان أطلق أهل جرجان عاملهم، ونكر الجرّاح على جهم ما فعل وقال: لولا قرابتك مني ما سوغتك هذا! يعني أنّ جهما وجعفا معا ابنا سعد العشيرة. ثم بعث في الغزو وأوفد على عمر وفدا فكلّم فيه بعضهم عمر بأنه يعرّي الموالي بلا عطاء ولا رزق ويؤاخذ من أسلم من أهل الذمّة بالخراج. ثم عرّض بأنه سيف من سيوف الجرّاح قد علم بالظلم والعدوان. فكتب عمر إلى الجرّاح انظر من صلى قبلك فخل عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام فرارا من الجزية فامتحنهم بالختان وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه عمران! الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا واستقدم الجرّاح وقال: احمل معك أبا مخلد واستخلف على حرب خراسان عبد الرحمن ابن نعيم القشيري ولما قدم على عمر قال: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان.
قال: صدق من وصفك بالجفاء، ألا أقمت حتى تقطر ثم تسافر. ثم سأل عمر أبا مخلد عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال يكافئ الأكفّاء ويعادي الأعداء ويقدم إن وجد ما يساعده، قال: فعبد الرحمن بن نعيم؟ قال: يحب العافية وتأتيه! قال:(3/95)
هو أحب إليّ فولّاه الصلاة والحرب، وولّى عبد الرحمن القشيريّ الخراج فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى قتل يزيد بن المهلّب. وولي مسلمة فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف وظهر من أيام الجرّاح بخراسان دعاة بني العبّاس فيمن بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس إلى الآفاق حسبما يذكر في أخبار الدولة العبّاسية.
وفاة عمر بن عبد العزيز وبيعة يزيد
ثم توفى عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان ودفن بها السنتين وخمسة أشهر من ولايته ولأربعين من عمره وكان يدعى أشجّ بني أمية رمحته دابة وهو غلام فشجّته. ولما مات ولي بعده يزيد بن عبد الملك بعهد سليمان كما تقدّم وقيل لعمر حين احتضر: أكتب إلى يزيد فأوصه بالأمّة فقال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك! ثم كتب أمّا بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما أترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام. ولما ولي يزيد عزل أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن المدينة وولّى عليها عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري وغير كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز وكان من ذلك شأن خراج اليمن فإنّ محمدا أخا الحجّاج جعل عليهم خراجا مجدّدا وأزال ذلك عمر إلى العشر أو نصف العشر وقال: لئن يأتيني من اليمن حبة ذرة أحب إليّ من تقرير هذه الوظيفة فلما ولي يزيد أعادها وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضا وهلك عمّه محمد بن مروان فولّى مكانه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية عمّه الآخر مسلمة بن عبد الملك.
احتيال يزيد بن المهلب مقتله
قد تقدّم لنا حبس يزيد بن المهلب فلم يزل محبوسا حتى اشتدّ مرض عمر بن عبد العزيز فعمل في الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لأنّ زوجته بنت أخي الحجّاج وكان سليمان أمر ابن المهلب بعذاب قرابة الحجاج كلهم فنقلهم من البلقاء وفيهم زوجة يزيد وعذّبها وجاءه يزيد بن عبد الملك إلى منزله شافعا فلم يشفعه فضمن حمل ما قرّر عليها فلم يقبل فتهدّده فقال له ابن المهلب لئن وليت أنت لأرمينّك بمائة ألف(3/96)
سيف، فحمل يزيد بن عبد الملك عنها مائة ألف دينار. ولما اشتدّ مرض عمر خاف من ذلك وأرسل إلى مواليه أن يغدوا له بالإبل والخيل في مكان عيّنه لهم وبعث إلى عامل حلب باشفاقه من يزيد، وبذل له المال وإلى الحرس الذين يحفظونه فخلّى سبيله، وأتى إلى دوابه فركبها ولحق بالبصرة. وكتب إلى عمر: إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك. ولكن خفت أن يقتلني يزيد شرّ قتله فقرأ عمر الكتاب وبه رمق فقال: اللَّهمّ إن كان ابن المهلب يريد بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه فقد هاض. انتهى. ولما بويع ليزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة وإلى عديّ بن أرطاة بالبصرة بهربه والتحرّر منه وأبى عديّ أن يأخذ المهلب بالبصرة فحبس المفضّل حبيبا ومروان ابني المهلب، وبعث عبد الحميد من الكوفة جندا عليهم هشام بن ساحق بن عامر فأتوا العذيب ومرّ بيزيد عليهم فوق القطقطانة فلم يقدموا عليه. ومضى نحو البصرة وقد جمع عديّ بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها وبعث على خيلها المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل وجاء يزيد على أصحابه الذين معه وانضم إليه أخوه محمد فيمن اجتمع إليه من قومهم. وبعث عديّ بن أرطاة على كل خمس من أخماس البصرة رجالا: فعلى الأزد المغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ، وعلى تميم محرز بن حمدان السعديّ، وعلى بكرة نوح بن شيبان بن مالك بن مسمع، وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وهم قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان ومزينة فلم يعرضوا ليزيد وأقبل فانزل. انتهى. واختلف الناس إليه وأرسل إلى عديّ أن يطلق له إخوته فينزل به البصرة، ويخرج حتى يأخذ لنفسه من يزيد، وبعث حميد ابن أخيه عبد الملك بن المهلب يستأمن له من يزيد بن عبد الملك فأجاره خالد القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد له ولأهله وقد كان بعد منصرف حميد فرّق في الناس قطع الذهب والفضة فانثالوا عليه، وعديّ يعطي درهمين درهمين ثم تناجزوا الحرب وحمل أصحاب يزيد على أصحاب عديّ فانهزموا ودنا يزيد من القصر، وخرج عديّ بنفسه فانهزم أصحابه. وخاف إخوة يزيد وهم في الحبس أن يقتلوا قبل وصوله فأغلق الباب وامتنعوا فجاءهم الحرس يعالجون فأجفلهم الناس عنه فخلّوا عنهم وانطلقوا إلى أخيهم. ونزل يزيد دار مسلم بن زياد إلى جنب القصر وتسوّر القصر بالسلالم وفتحه وأتى بعديّ بن أرطاة فحبسه. وهرب رءوس(3/97)
البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر إلى الكوفة والشام وخرج المغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ إلى الشام فلقي خالدا القسري وعمر بن يزيد وقد جاءوا بأمان يزيد بن المهلب مع حميد بن أخيه فأخبرهما بظهور يزيد على البصرة وحبسه عديا فرجعا إلى وعد لهما فلم يقبلا، وقبض عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة على خالد بن يزيد ابن المهلب وحمّاد بن ذخر، وحملهما وسيرهما إلى الشام فحبسهما يزيد حتى هلكا بالسجن وبعث يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثني عليهم ويمنيهم الزيادة وجهز أخاه مسلمة وابن أخيه العبّاس بن الوليد إلى العراق في سبعين ألف مقاتل أو ثمانين من أهل الشام والجزيرة، فقدموا الكوفة ونزلوا النخيلة. وتكلم العبّاس يوما ببعض الكلام فأساء عليه حيّان النبطيّ بالكشّة الأعجمية ولما سمع ابن المهلب بوصول مسلمة وأهل الشام فخطب الناس وشجّعهم للقائهم وهوّن عليهم أمرهم وأخبرهم أن أكثرهم له واستوثق له أهل البصرة وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب وعليها عبد الرحمن بن نعيم وبعث بنو تميم ليمنعوه ولقيه الأزد على رأس المغارة فقالوا: ارجع عنّا حتى نرى مآل أمركم. ثم خطب يزيد الناس يدعوهم إلى الكتاب والسنة ويحثهم على الجهاد وأنّ جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم ونكر ذلك الحسن البصريّ والنضر بن أنس بن مالك وتابعهما الناس في النكير. وسار يزيد من البصرة إلى واسط واستخلف عليها أخاه مروان بن المهلب وأقام بواسط أياما ثم خرج منها سنة اثنتين ومائة واستخلف عليها أمان معونة وقدّم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة فاستقبله ابن الوليد بسور له فاقتتلوا وانهزم عبد الملك وعاد إلى يزيد وأقبل مسلمة على شاطئ الفرات إلى الأنهار فعقد الجسر وعبر وسار حتى نزل على يزيد بن المهلب وفزع إليه ناس من أهل الكوفة وكان عسكره مائة وعشرين [1] وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة وشق المياه وجعل الأرصاد على أهل الكوفة أن يفزعوا إلى يزيد بن المهلّب، وبعث بعثا إلى مسلمة مع صبرة بن عبد الرحمن بن مختف فعزل مسلمة بن عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد بن عمر بن الوليد بن عقبة. ثم أراد يزيد بن المهلّب أن يبعث أخاه محمد بالعساكر يبيّتون مسلمة فأبى عليه أصحابه وقالوا: قد وعدناهم بالكتاب والسنة ووعدوا بالإجابة فلا نغدرهم فقال يزيد: ويحكم تصدّقونهم إنهم
__________
[1] أي مائة وعشرين الفا.(3/98)
يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه والله ما في بني مروان أمكر ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصغرى يعني مسلمة. وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحثّ الناس على اللحاق بيزيد أخيه والحسن البصريّ يثبطهم ويتهدّده فلم يكف ثم طلب الذين يجتمعون إليه فافترقوا فأقام مسلمة بن عبد الملك يطاول يزيد بن المهلب ثمانية أيام ثم خرج يوم الجمعة منتصف صغر فعبّى أصحابه وعبّى العبّاس بن الوليد كذلك والتقوا، واشتدّ القتال وأمر مسلمة فأحرق الجسر فسطع دخانه فلما رآه أصحاب يزيد انهزموا واعترضهم يزيد يضرب في وجوههم حتى كثروا عليه فرجع وترجّل في أصحابه وقيل له: قتل أخوك حبيب فقال: لا خير في العيش بعده ولا بعد الهزيمة.
ثم استمات ودلف إلى مسلمة لا يريد غيره فعطف عليه أهل الشام فقتلوه هو وأصحابه، وفيهم أخوه محمد وبعث مسلمة برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد ابن الوليد بن عقبة وقيل إن الّذي قتله الهذيل بن زفر بن الحرث الكلابي وأنف أن ينزل فيأخذ رأسه فأخذه غيره وكان المفضل بن المهلب يقاتل في ناحية المعترك وما علم بقتل يزيد فبقي ساعة كذلك يكرّ ويفرّ حتى أخبر بقتل إخوته فافترق الناس عنه، ومضى إلى واسط وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة ومعه جماعة منهم صدق، فقاتلوا ساعة من النهار ثم انصرفوا وأسر مسلمة ثلاثمائة أسير حبسهم بالكوفة. وجاء كتاب يزيد إلى محمد بن عمر بن الوليد بقتلهم فأمر العريان بن الهيثم صاحب الشرطة بذلك وبدأ بثمانين من بني تميم فقتلهم. ثم جاء كتاب يزيد بإعفائهم فتركهم وأقبل مسلمة فنزل الحيرة وجاء الخبر بقتل يزيد إلى واسط فقتل ابنه معاوية عديّ بن أرطاة ومحمدا ابنه ومالكا وعبد الملك ابنا مسمع في ثلاثين ورجع إلى البصرة بالمال والخزائن واجتمع بعمّه المفضّل وأهل بيتهم، وتجهزوا للركوب في البحر وركبوا إلى قندابيل وبها وداع بن حميد الأزدي ولّاه عليها يزيد بن المهلب ملجأ لأهل بيته إن وقع بهم ذلك فركبوا البحر بعيالهم وأموالهم إلى جبال كرمان فنزلوا بها واجتمع إليهم الفلّ من كل جانب. وبعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبي في طلبهم فقاتلهم وقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث وأسر ابن صول قهستان، وهرب عثمان بن إسحاق بن محمد بن الأشعث فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة ورجع ناس من أصحاب بني المهلب فاستأمنوا وأمّنهم مسلمة منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر والورد(3/99)
ابن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي ومضى إلى آل المهلب ومن معهم بقندابيل فمنعهم وداع بن حميد من دخولها وخرج معهم لقتال عدوّهم وكان مسلمة قد ردّ مدرك بن ضبّ بعد هزيمتهم في جبال كرمان وبعث في أثرهم هلال بن أحور التميمي فلحقهم بقندابيل فتبعوا لقتاله! وبعث هلال راية أمان فمال إليه وداع بن حميد وعبد الملك بن هلال وافترق الناس عن آل المهلب ثم استقدموا فاستأمنوا فقتلهم عن آخرهم: المفضل وعبد الملك وزياد ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب برتبيل [1] ملك الترك وبعث هلال بن أحور برءوسهم وسبيهم وأسراهم إلى مسلمة بالحيرة فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك فسيّرهم يزيد إلى العبّاس بن الوليد في حلب فنصب الرءوس وأراد مسلمة أن يبتاع الذرّية فاشتراهم الجرّاح بن عبد الله الحكميّ بمائة ألف وخلّى سبيلهم. ولم يأخذ مسلمة من الجرّاح شيئا ولما قدم بالأسرى على يزيد بن عبد الملك وكانوا ثلاثة عشر أمر يزيد فقتلوا وكلهم من ولد المهلب واستأمنت هند بنت المهلب لأخيها عيينة إلى يزيد بن عبد الملك فأمّنه وأقام عمر وعثمان عند رتبيل حتى أمّنهما أسد بن عبد الله القسري وقدما عليه بخراسان.
ولاية مسلمة على العراق وخراسان
ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب بني المهلب ولّاه يزيد بن عبد الملك على العراق وجمع له ولاية البصرة والكوفة وخراسان فأقرّ على الكوفة محمد بن عمر بن الوليد وكان قد قام بأمر البصرة بعد بني المهلب شبيب بن الحرث التميمي فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى شرطتها عمر بن يزيد التميمي وأراد عبد الرحمن أن يقتل شيعة بن المهلب بالبصرة فعزله وولّى على البصرة عبد الملك بن بشر ابن مروان. وأقرّ عمر بن يزيد على الشرطة واستعمل مسلمة على خراسان صهره على [2] سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العبّاس
__________
[1] الظاهر من سياق المعنى ان عبارة سقطت أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 86: «وحملت رءوسهم وفي اذن كل واحد رقعة فيها اسمه إلّا ابا عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل، فإنهم لحقوا برتبيل» .
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 90: «واستعمل مسلمة على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية» .(3/100)
ويلقب سعيد خدينة. دخل عليه بعض العرب بخراسان وعليه ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، وسئل عنه لما خرج فقال: خدينة وهي الدهقانة ربة البيت. ولمّا ولّاه على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشليّ على سمرقند فسار إليها وقدم الصغد وكان أهلها كفروا أيام عبد الرحمن بن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح فوبّخ ساكنها من العرب وغيرهم بالجبن فاعتذروا بأمر أميرهم عليّ بن حبيب العبديّ. ثم حبس سعيد عمّال عبد الرحمن بن عبد الله وأطلقهم، ثم حبس عمّال يزيد بن المهلب رفع لهم أنهم اختانوا الأموال فعذبهم فمات بعضهم في العذاب وبقي بعضهم بالسجن حتى غزاهم الترك والصغد فأطلقهم.
العهد لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد
لما بعث يزيد بن عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب مع مسلمة أخيه والعبّاس بن أخيه الوليد قال له العباس: إنا نخاف أن يرجف أهل العراق بموتك ويبث [1] ذلك في أعضادنا وأشار عليه بالعهد لعبد العزيز أخيه بن الوليد وبلغ ذلك مسلمة فجاءه وقال: أخوك أحق فإنّ ابنك لم يبلغ وأشار عليه بأخيه هشام وابنه الوليد من بعده.
والوليد ابن إحدى عشرة سنة فبايع لهما كذلك ثم بلغ ابنه الوليد فكان إذا رآه يقول الله بيني وبين من قدّم هشاما عليك.
غزوة الترك
لما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسمّوه خدينة واستعمل شعبة على سمرقند ثم عزله كما مرّ وولّى مكانه عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخّير فطمعت الترك، وبعثهم خاقان إلى الصغد، وعلى الترك كورصول وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهليّ وفيه مائة أهل بيت بذراريهم. وكتبوا إلى عثمان بسمرقند وخافوا أن يبطئ المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. وندب عثمان الناس فانتدب المسيّب بن بشر الرياحيّ ومعه أربعة آلاف من سائر القبائل.
فقال لهم المسيّب: من أراد الغزو والصبر على الموت فليتقدّم فرجع عنه ألف، وقالها بعد فرسخ فرجع ألف آخر، ثم أعادها ثالثة بعد فرسخ فاعتزله ألف. وسار حتى كان
__________
[1] بث الخبر اي أذاعه ونشره وليس لها معنى هنا. ولعلها يفت من اعضادنا اي يوهن فوقنا.(3/101)
على فرسخين من العدوّ فأخبره بعض الدهاقين بقتل الرهائن وميعادهم غدا. وقال أصحابي ثلاثمائة مقاتل وهم معكم فبعث المسيب إلى القصر رجلين عجميّا وعربيّا يأتيانه بالخبر، فجاءوا في ليلة مظلمة وقد أجرت الترك الماء بدائر القصر لئلا يصل إليه أحد فصاح بهما فقالا له اسكت وادع لنا فلانا. فأعلماه قرب العسكر وسألا هل عندكم امتناع غدا؟ فقال: لهما نحن مستميتون. فرجعا إلى المسيب فأخبراه فعزم على تبييت الترك وبايعه أصحابه على الموت وساروا يومهم إلى الليل. ولما أمسى حثّهم على الصبر وقال: ليكن شعاركم يا محمد ولا تتبعوا موليّا واعقروا الدواب فإنه أشدّ عليهم، وليست بكم قلّة فإنّ سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنته، وان كثر أهله. ثم دنوا من العسكر في السحر وثار الترك وخالطهم المسلمون وعقروا الدواب وترجّل المسيب في أصحاب له فقاتلوا قتالا شديدا وقتل عظيم من عظماء الترك فانهزموا ونادى منادي المسيب لا تتبعوهم واقصدوا القصر واحملوا من فيه، ولا تحملوا من متاعهم إلّا المال ومن حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله وإلا فله أربعون درهما. وحملوا من في القصر إلى سمرقند ورجع الترك من الغد فلم يروا في القصر أحدا. ورأوا قتلاهم فقالوا: لم يكن الذين جاءونا بالأمس.
غزو الصغد
ولما كان من انتقاض الصغد إعانتهم الترك على المسلمين ما ذكرنا تجهّز سعيد لغزوهم وعبر النهر فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون. ونهاهم سعيد عن اتباعهم وقال هم جباية أمير المؤمنين فانكفوا عنهم. ثم سار المسلمون إلى واد بينهم وبين المرج فقطعه بعض العسكر وقد أكمن لهم الترك فخرجوا عليهم وانهزم المسلمون إلى الوادي وقيل بل كان المنهزمون مسلحة للمسلمين وكان فيمن قتل شعبة بن ظهر [1] في خمسين رجلا. وجاء الأمير والناس فانهزم العدوّ وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا ردّ السبي وعاقب السرية فثقل سعيد على الناس وضعفوه ولما رجع من هذه الغزاة وكان سورة بن الأبجر قد قال لحيّان النبطيّ يوم أمر سعيد بالكف عن الصغد وأنهم جباية أمير المؤمنين [2] فقال: سورة ارجع عنهم يا حيّان فقال: عقيرة
__________
[1] وقد مرّ اسمه في السابق بن ظهير.
[2] قوله جباية أمير المؤمنين معناه: أنه يأخذ منهم المال، ففي استئصالهم ضياع له انتهى. من خط الشيخ العطار.(3/102)
الله لا أدعها. فقال انصرف يا نبطيّ. قال: أنبط الله وجهك فحقدها عليه سورة وأغرى به سعيد خدينة وقال: إنه أفسد خراسان على قتيبة ويثب عليك ويتحصّن ببعض القلاع فقال له سعيد: لا يسمع هذا منك أحد، ثم حاول عليه وسقاه لبنا قد ألقى فيه ذهبا مسحوقا. ثم ركض والناس معه أربعة فراسخ فعاش حيّان من بعدها ليالي قلائل ومات.
ولاية ابن هبيرة على العراق وخراسان
كان مسلمة لما ولي على هذه الأعمال لم يدفع من الخراج شيئا واستحيا يزيده من عزله فكتب إليه بالقدوم وأن يستخلف على عمله وسار لذلك سنة ثلاث وأربعمائة، فلقيه عمر بن هبيرة بالطريق على دواب البريد، وقال: وجّهني أمير المؤمنين لحيازة أموال بني المهلب فارتاب لذلك، وقال له بعض أصحابه: كيف يبعث ابن هبيرة من عند الجزيرة لمثل هذا الغرض؟ ثم أتاه أنّ ابن هبيرة عزل عمّاله. وكان عمر بن هبيرة من النجابة بمكان، وكان الحجّاج يبعثه في البعوث، وهو ممن سار لقتال مطرف بن المغيرة حين خلع ويقال إنه الّذي قتله، وجاء برأسه، فسيره الحجّاج إلى عبد الملك فاقطعه قرية قريبة من دمشق. ثم بعثه إلى كروم ابن مرثد الفزاري ليخلّص منه مالا فارتاب وأخذ المال ولحق بعبد الملك عائدا به من الحجّاج وقال قتلت ابن عمه ولست آمنه على نفسي، فأجاره عبد الملك، وكتب الحجّاج إليه فيه فقال: أمسك عنه وعظّم شأنه عبد الملك وبنوه واستعمله عمر بن عبد العزيز على الروم من ناحية أرمينية وأثخن فيهم وأسر سبعمائة منهم وقتلهم. واستخدم أيام يزيد لمحبوبته حبّابة [1] فسعت له في ولاية العراق، فولّاه يزيد مكان أخيه مسلمة. ولمّا ولي قدم عليه المجشر بن مزاحم السلميّ، وعبد الله بن عمر الليثي في وفد فشكوا من سعيد وحذيفة عاملهم وهو صهر مسلمة فعزله وولى مكانه على خراسان سعيد بن عمر الحريشيّ من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسار خدينة عن خراسان وقدم سعيد فلم يعرض لعماله. ولما قدم على خراسان كان الناس بإزاء العدوّ وقد نكثوا، فحثّهم على الجهاد وخاف الصغد منه بما كانوا أعانوا الترك أيام خدينة، فقال لهم ملكهم: احملوا له خراج ما مضى واضمنوا خراج ما يأتي
__________
[1] حبّابة هذه جارية أحبها يزيد حبّا تجاوز به الحد وضرب به المثل، أهـ. من خط الشيخ العطار.(3/103)
والعمارة والغزو معه، وأعطوه الرهن بذلك. فأبوا إلّا أن يستجيروا بملك فرغانة وخرجوا من بلادهم إلى خجندة وسألوا الجوار وأن ينزلوا شعب عصام. فقال:
أمهلونا عشرين يوما أو أربعين لنخليه لكم وليس لكم عليّ جوار قبل دخولكم إيّاه.
ثم غزاهم الحريش سنة أربع ومائة فقطع النهر وترك قصر الريح على فرسخين من الدنوسيّة، وأتاه ابن عم ملك فرغانة يغريه بأهل الصغد وأنهم بخجندة، ولم يدخلوا جواره بعد، فبعث معه عبد الرحمن القسريّ في عسكر، وجاء في أثره حتى نزلوا على خجندة، وخرج أهل صغد لقتالهم فانهزموا، وقد كانوا حفروا خندقا وغطّوه بالتراب ليسقط فيه المسلمون عند القتال. فلما انهزموا ذلك اليوم أخطأهم الطريق وأسقطهم الله في ذلك الخندق. ثم حاصرهم الحريشيّ، ونصب عليهم المجانيق وأرسلوا إلى ملك فرغانة ليجيرهم، فقال: قد شرطت عليكم أن لا جوار قبل الأجل الّذي بيني وبينكم. فسألوا الصلح من الحريشيّ على أن يردّوا ما في أيديهم من سبي العرب، ويعطوا ما كسر من الخراج ولا يتخلف أحد منهم بخجندة، وإن أحدثوا حدثا استبيحت دماؤهم. فقبل منهم وخرجوا من خجندة ونزلوا في العسكر على كل من يعرفه. وبلغ الحريشيّ أنهم قتلوا امرأة فقتل قاتلها، فخرج قبيل منهم فاعترض الناس وقتل جماعة. وقتل الصغد من أسرى المسلمين مائة وخمسين، ولقي الناس منهم عنفا ثم أحاطوا بهم وهم يقاتلون بالخشب ليس لهم سلاح فقتلوا عن آخرهم ثلاثة آلاف أو سبعة آلاف. وكتب الحريشيّ إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب لعمر بن هبيرة فأحفظه ذلك ثم سرّح الحريشيّ سليمان بن أبي السري إلى حصن يطيف به وراء الصغد ومعه خوارزم شاه وملك أجرون وسومان. فسار سليمان وعلى مقدمته المسيّب بن بشر الرياحي، ولقيه أهل الحصن فهزمهم ثم حاصرهم فسألوا الصلح على أن لا يعرض لسبيهم ويسلموا القلعة بما فيها فقبل. وبعث إلى الحريشيّ فقبضه [1] وبعث من قبضه. وسار الحريشيّ إلى كشّ ونسف حربا وخراجا سليمان بن أبي السريّ واستنزل مكانه آخر اسمه قشقري من حصنه على الأمان وجاء به إلى مرو فشنقه وصلبه.
__________
[1] مقتضى السياق فقبله وبعث من قبضه.(3/104)
ولاية الجرّاح على أرمينية وفتح بلنجر
ولما سار ابن هبيرة على الجزيرة وأرمينية تشبب البهراني فحفل لهم الخزر وهم التركمان واستجاشوا بالقفجاق وغيرهم من أنواع الترك، ولقوا المسلمين بمرج الحجارة فهزموهم واحتوى التركمان على عسكرهم وغنموا ما فيه. وقدم المنهزمون على يزيد بن عبد الملك فولّى على أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وأمدّه بجيش كثيف وسار لغزو الخزر فعادوا للباب والأبواب. ونزل الجرّاح بردعة فأراح بها قليلا، ثم سار نحوهم وعبر نهر الكرّ وأشاع الإقامة ليرجع بذلك عيونهم إليهم ثم أسرى من ليلته وأجدّ السير إلى مدينة الباب فدخلها وبثّ السرايا للنهب والغارة. وزحف إليه التركمان وعليهم ابن ملكهم فلقيهم عند نهر الزمان واشتد القتال بينهم، ثم انهزم التركمان وكثر القتل فيهم، وغنم المسلمون ما معهم وساروا حتى نزلوا على الحصن، ونزل أهلها على الأمان فقتلهم. ثم سار إلى مدينة برغوا [1] فحاصرها ستة أيام، ثم نزلوا على الأمان ونقلهم [2] ثم ساروا إلى بلنجر وقاتلهم التركمان دونها فانهزموا وافتتح الحصن عنوة.
وغنم المسلمون جميع ما فيه فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار وكانوا بضعة وثلاثين ألفا. ثم إن الجرّاح رجّع حصن بلنجر إلى صاحبه وردّ عليه أهله وماله، على أن يكون عينا للمسلمين على الكفّار. ثم نزل على حصن الوبيد [3] وكان به أربعون ألف بيت من الترك فصالحوا الجرّاح على مال أعطوه إياه. ثم تجمع الترك والتركمان وأخذوا الطرق على المسلمين فأقام في رستاق سبى وكتب إلى يزيد بالفتح وطلب المدد وكان ذلك آخر عمر يزيد وبعث هشام بعد ذلك إليه بالمدد وأقرّه على العمل.
ولاية عبد الواحد القسري على المدينة ومكة
كان عبد الرحمن بن الضحّاك عاملا على الحجاز منذ أيام عمر بن عبد العزيز وأقام عليها ثلاث سنين ثم حدثته نفسه خطبة فاطمة بنت الحسين فامتنعت فهدّدها بأن يجلد ابنها في الخمر وهو عبد الله بن الحسن المثنّى. وكان على ديوان المدينة عامل من أهل الشام يسمّى ابن هرمز. ولما رفع حسابه وأراد السير إلى يزيد جاء ليودّع فاطمة، فقالت: أخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحّاك وما يتعرّض لي. ثم بعث
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 112: يرغوا.
[2] وفي نسخة اخرى: فقتلهم.
[3] وفي الكامل ج 5 ص 112: الوبندر.(3/105)
رسولها بكتابها إلى يزيد يخبره. وقدم ابن هرمز على يزيد فبينما هو يحدثه عن المدينة قال الحاجب: بالباب رسول فاطمة بنت الحسين، فذكر ابن هرمز ما حملته.
فنزل عن فراشه وقال عندك مثل هذا وما تخبرني به! فاعتذر بالنسيان. فأدخل يزيد الرسول وقرأ الكتاب وجعل ينكث الأرض بخيزارنة ويقول: لقد اجترأ ابن الضحّاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب قيل له عبد الواحد بن عبد الله القسري فكتب إليه بيده قد وليتك المدينة فانهض إليها واعزل ابن الضحّاك وغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع وأنا على فراشي. وجاء البريد بالكتاب إليه ولم يدخل على ابن الضحّاك فأحضر البريد ودس إليه بألف دينار فأخبره الخبر فسار ابن الضحّاك إلى مسلمة بن عبد الملك واستجار به وسأل مسلمة فيه يزيد فقال: والله لا أعفيه أبدا فردّه مسلمة إلى عبد الواحد بالمدينة فعذّبه ولقي شرّا، ولبس جبة صوف يسأل الناس وكان قد آذى الأنصار فذمّوه وكان قدوم القسري في شوّال سنة أربع ومائة وأحسن السيرة فأحبّه الناس وكان يستشير القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله.
عزل الحريشيّ وولاية مسلم الكلبي على خراسان
كان سعيد الحريشيّ عاملا على خراسان لابن هبيرة كما ذكرنا وكان يستخف به ويكاتب الخليفة دونه ويكنيه أبا المثنّى. وبعث من عيونه من يأتيه بخبره فبلغه أعظم مما سمع فعزله وعذّبه حتى أدّى الأموال وعزم على قتله ثم كف عنه. وولّى ابن هبيرة على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، ولما جاء إلى خراسان حبسه وقيّده وعذّبه كما قلنا. فلما هرب ابن هبيرة بعد ذلك عن العراق أرسل خالد القسري في طلبه الحريشيّ فأدركه على الفرات وقال لابن هبيرة ما ظنك بي قال: إنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قسر قال: هو ذاك ثم انصرف وتركه.
وفاة يزيد وبيعة هشام
ثم توفي يزيد بن عبد الملك في شعبان سنة خمس ومائة لأربع سنين من خلافته وولّى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مرّ، وكان بحمص فجاءه الخبر بذلك فعزل عمر ابن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري فسار إلى العراق من يومه.(3/106)
غزو مسلم الترك
غزا مسلم بن سعيد الترك سنة خمسة ومائة فعبر النهر وعاث في بلادهم ولم يفتح شيئا وقفل فأتبعه الترك ولحقوه على النهر فعبر بالناس ولم ينالوا منه. ثم غزا بقية السنة وحاصر أفشين حتى صالحوه على ستة آلاف رأس، ثم دفعوا إليه القلعة. ثم غزا سنة ست ومائة، وتباطأ عنه الناس، وكان ممن تباطأ البختري بن درهم، فردّ مسلم نصر بن سيّار إلى بلخ وأمره أن يخرج الناس إليه، وعلى بلخ عمر بن قتيبة أخو مسلم، فجاء نصر وأحرق باب البختري وزياد بن طريف الباهليّ. ثم منعهم عمر من دخول بلخ وقد قطع سعيد النهر، ونزل نصر بن سيّار البروقان وأتاه جند الضلاضيان، وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر وخرجت مضر إلى نصر، وخرج عمر بن مسلم إلى ربيعة والأزد وتوافقوا وسفر الناس بينهما في الصلح وانصرف نصر. ثم حمل البختري وعمر بن مسلم على نصر فكرّ عليهم فقتل منهم ثمانية عشر وهزمهم وأتى بعمر بن مسلم والبختريّ وزياد بن طريف فضربهم مائة مائة وحلق رءوسهم ولحاهم وألبسهم المسوح. وقيل إنّ سبب تعزير عمر بن مسلم انهزام تميم عنه وقيل انهزام ربيعة والأزد ثم أمنهم نصر بعد ذلك وأمرهم أن يلحقوا بمسلم بن سعيد. ولما قطع مسلم النهر ولحقه من لحق من أصحابه سار إلى بخارى فلحقه بها كتاب خالد بن عبد الله القسري بولايته وبأمره بإتمام غزاته، فسار إلى فرغانة وبلغه أنّ خاقان قد أقبل إليه فارتحل. ولحقه خاقان بعد ثلاثة مراحل لقي فيها طائفة من المسلمين فأصابهم. ثم أطاف بالعسكر وقاتل المسلمين، وقتل المسيّب بن بشر الرياحيّ والبرّاء من فرسان المهلّب وأخو غورك وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر ورحل مسلم بالناس ثمانية أيام والترك مطيفون بهم بعد أن أمر بإحراق ما ثقل من الأمتعة، فأحرقوا ما قيمته ألف ألف. وأصبحوا في التاسع قريب النهر دونه أهل فرغانة والشاش. فأمر مسلم الناس أن يخرطوا سيوفهم ويحملوا فافرج أهل فرغانة والشاش عن النهر، ونزل مسلم بعسكره ثم عبر من الغد، واتبعهم ابن خاقان. فكان حميد بن عبد الله على الساقة من وراء النهر وهو مثخن بالجراحة.
فبعث إلى مسلم بالانتظار وعطف على الترك فقاتلهم وأسر قائدهم وقائد الصغد ثم أصابه سهم فمات. وأتوا خجندة وقد أصابتهم مجاعة وجهد ولقيهم هنالك كتاب(3/107)
أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بولايته على خراسان واستخلافه عبد الرحمن بن نعيم. فقرأ مسلم الكتاب وقال سمعا وطاعة.
ولاية أسد القسري على خراسان
ولما غزا خالد بن عبد الله خراسان استخلف عليها أخاه أسد بن عبد الله فقدم ومسلم ابن سعيد بفرغانة فلما رجع وأتى النهى ليقطعه منعه الأشهب بن عبد الله التميمي وكان على السفن بآمد [1] حتى عرفه أنه الأمير فأذن له. ثم عبر أسد النهر ونزل بالمرج وعلى سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج بالناس وتلقى أسدا وأدخله سمرقند وبعث أسد إلى عبد الرحمن بن نعيم بالولاية على العسكر فقفل بالناس إلى سمرقند. ثم عزل أسدا عنها وولّى مكانه الحسن بن أبى العمّرطة الكنديّ ثم قدم مسلم بن سعيد بن عبد الله بخراسان فكان يكرّمه ومرّ بابن هبيرة وهو يروم الهرب وأسلم على يديه. ثم غزا الغور وهي جبال هراة فوضع أهلها أثقالهم في الكهوف ولم يكن إليهم طريق فاتخذ التوابيت ووضع فيها الرجال ودلّاها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه ثم قطع كماق النهر وجاءه خاقان ولم يكن بينهما قتال وقيل عاد مهزوما من الجسر. ثم سار إلى عوبرين وقاتلها وأبلى نصر بن سيّار ومسلم بن أحور وانهزم المشركون وحوى المسلمون عسكرهم بما فيه.
ولاية أشرس على العراق
كان أسد بن عبد الله في ولايته على خراسان يتعصّب حتى أفسد الناس وضرب نصر ابن سيّار بالسياط وعبد الرحمن بن نعيم وسورة بن أبجر والبختريّ بن أبي درهم، وعامر بن مالك الحماني وحلقهم وسيّرهم إلى أخيه، وكتب إليه أنهم أرادوا الوثوب بي فلامه خالد وعنّفه وقال: هلّا بعثت برءوسهم؟ وخطب أسد يوما فلعن أهل خراسان. فكتب هشام بن عبد الملك إلى خالد اعزل أخاك فعزله في رمضان سنة تسع وولّى مكانه الحكم بن عوانة الكلبي فقعد عن الصائفة تلك السنة فاستعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي وأمره أن يراجع خالدا فكان خيرا ففرح به أهل خراسان.
__________
[1] وفي الكامل ج 5 ص 131: بآمل.(3/108)
عزل أشرس
أرسل أشرس إلى سمرقند سنة عشر ومائة أبا الصيدا صالح بن ظريف مولى بني ضبّة والربيع بن عمران التميمي إلى سمرقند وغيرها مما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، وعليها الحسن بن العمرّطة الكندي على حربها وخراجها، فدعاهم لذلك وأسلموا. وكتب غورك إلى الأشرس أنّ الجرّاح قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن العمرّطة: بلغني أنّ أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما أسلموا نفورا من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. ثم عزل ابن العمرّطة عن الخراج وولّى عليها ابن هانئ ومنعهم أبو الصيدا أخذ الجزية ممن أسلم، وكتب هانئ إلى أشرس بأنهم أسلموا وبنوا المساجد فكتب إليه وإلى العمّال أن يعيدوا الجزية على من كانت عليه ولو أسلم، فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على فراسخ من سمرقند وخرج معهم أبو الصيدا وربيع بن عمران والهيثم الشيبانيّ وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشير وبشير الجحدري وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم. وبلغ الخبر إلى أشرس فعزل ابن العمرّطة عن الحرب وولّى مكانه المجشر بن مزاحم السلمي وعميرة بن سعد الشيبانيّ، فكتب المجشر إلى أبي الصيدا يستقدمه هو وأصحابه فقدم ومعه ثابت قطنة فحبسهما وسيرهما إلى أشرس، واجتماع الباقون وولّوا عليهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا فكتب أشرس ووضع عنهم الخراج فرجعوا وضعف أمرهم وتتبعوا فحبسوا كلهم وألحّ هانئ في الخراج واستخف بفعل العجم والدهاقين. وأقيموا في العقوبات وحرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم وأخذت الجزية ممن أسلم.
فكفرت الصغد وبخارى، واستجاشوا بالترك وخرج أشرس غازيا فنزل آمد وأقام أشهرا وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم في عشرة آلاف فعبر النهر ولقي الترك وأهل الصغد وبخارى ومعهم خاقان، فحصروا قطنا في خندقه. وأغار الترك على سرح المسلمين، وأطلق أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو وبعثه معه في خيل، فاستقدمه من أيدي الترك ما أخذوه ثم عبر أشرس بالناس ولحق بقطن ولقيهم العدوّ فانهزموا أمامهم وسار أشرس بالناس حتى جاء بيكند فحاصرها المسلمون، وقطع أهل البلد عنهم الماء، وأصابهم العطش فرحلوا إلى المدينة(3/109)
واعترضهم دونها العدوّ فقاتلوهم قتالا شديدا وأبلى الحرث بن شريح وقطن بن قتيبة بلاء شديدا وأزالوا الترك عن الماء فقتل يومئذ ثابت قطنة وصخر بن مسلم بن النعمان العبديّ، وعبد الملك بن دثار الباهلي وغيرهم وحمل قطن بن قتيبة في جماعة تعاقدوا على الموت، فانهزم العدوّ واتبعهم المسلمون يقتلونهم إلى الليل. ثم رجع أشرس إلى بخارى وجهز عليها عسكرا يحاصرونها وعليهم الحرث بن شريح الأزدي ثم حاصر خاقان مدينة كمرجة من خراسان وبها جمع من المسلمين. وقطعوا القنطرة وأتاهم ابن جسر وابن يزدجرد وقال: إنّ خاقان جاء يردّ عليّ منكبي وأنا آخذ لكم الأمان فشتموه وأتاهم يزغري في مائتين وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه.
فطلب رجلا يكلمه فجاءه يزيد بن سعد الباهلي فرغّبه باضعاف العطاء والإحسان على النزول ويسيرون معهم، فلاطفه ورجع إلى أصحابه وقال هؤلاء يدعونكم لقتال المسلمين، فأبوا وأمر خاقان فألقى الحطب الرطب في الخندق ليقطعه، وألقى المسلمون البهائم ليأكلوها ويحشوا جلودها ترابا ويملئوا بها الخندق. وأرسل الله سبحانه سحابة فاحتمل السيل ما في الخندق إلى النهر الأعظم ورمى المسلمون بالسهام فأصيب يزغري بسهم ومات من ليلته فقتلوا جميع من عندهم من الأسرى والرهن.
ولم يزالوا كذلك حتى نزلت جيوش المسلمين فرغانة فجرّدوا عليهم واشتدّ قتالهم وصالحهم المسلمون على أن يسلموا لهم كمرجة ويرحلوا عليها إلى سمرقند والدنوسيّة وتراهنوا على ذلك وتأخر خاقان حتى يخرجوا وخلف معهم كورصول ليبلغهم إلى مأمنهم فارتحلوا حتى بلغوا الدنوسية وأطلقوا الرهن وكان مدّة الحصار ستين يوما.
عزل أشرس عن خراسان وولاية الجنيد
وفي سنة إحدى عشرة ومائة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان وولّى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن عمر بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المريّ أهدى إلى أمّ حكيم بنت يحيي بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جواهر فأعجبت هشاما فأهدى له أخرى مثلها فولّاه خراسان وحمله على البريد فقدم خراسان في خمسمائة ووجد الخطّاب ابن محرز السلمي خليفة أشرس على خراسان فسار الجنيد إلى ما وراء النهر ومعه الخطاب واستخلف على مرو المجشر بن مزاحم(3/110)
السلمي وعلى بلخ سورة بن أبجر التميمي. وبعث إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد أن يبعث إليه بسرية مخافة أن يعترضه العدوّ، فبعث إليه أشرس عامر بن مالك الجابي فعرض له الترك والصغد فقاتلوهم ثم استداروا وراء معسكر الترك وحمل المسلمون عليهم من أمامهم فانهزم الترك ولحق عامر بالجنيد فأقبل معه وعلى مقدمته عمارة بن حزيم واعترضه الترك فهزمهم. وزحف اليه خاقان بنواحي سمرقند وقطن ابن قتيبة على ساقته، فهزم خاقان وأسر ابن أخيه وبعث به إلى هشام، ورجع إلى مرو ظافرا. واستعمل قطن بن قتيبة على بخارى والوليد بن القعقاع العبسيّ على هراة وحبيب بن مرّة العبسيّ على شرطته ومسلم بن عبد الرحمن الباهلي على بلخ وعليها نصر بن سيّار فبعث مسلم إلى نصر وجيء به في قميص دون سراويل، فقال شيخ مضر جئتم به على هذه الحالة؟ فعزل الجنيد مسلما عن بلخ وأوفد وفدا إلى هشام يخبر غزاته.
مقتل الجرّاح الحكمي
قد كان تقدّم لنا دخوله إلى بلاد الخزر سنة أربع ومائة وانهزامهم أمامه وأنه أثخن فيهم وملك بلنجر وردّها على صاحبها وأدركه الشتاء فأقام هنالك. وأنّ هشاما أقرّه على عمله ثم ولّاه أرمينية فدخل بلاد التركمان من ناحية تفليس سنة إحدى عشرة ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف ظافرا. فاجتمع الخزر والترك من ناحية اللاف، وزحف إليهم الجرّاح سنة اثنتي عشرة ولقيهم بمرج أردبيل، فاقتتلوا أشدّ قتال، وتكاثر العدوّ عليه فاستشهد ومن معه وقد كان استخلف أخاه الحجّاج على أرمينية ولما قتل طمع الخزر وهم التركمان وأوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وقيل كان قتله ببلنجر.
ولما بلغ الخبر هشاما دعا سعيد الحريشيّ فقال: بلغني أنّ الجرّاح انهزم! قال:
الجرّاح أعرف باللَّه من أن ينهزم ولكن قتل فابعثني على أربعين من دواب البريد وابعث إليّ كل يوم أربعين رجلا مددا واكتب إلى أمراء الأجناد يواسوني ففعل وسار الحريشيّ فلا يمرّ بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من أراد الجهاد. ووصل مدينة أزور فلقيه جماعة من أصحاب الجرّاح فردّهم معه ووصل إلى خلاط فحاصرها وفتحها وقسّم غنائمها. ثم سار عنها يفتح القلاع والحصون إلى بروعة فنزلها وابن خاقان يومئذ بأذربيجان يحاصر مدينة ورثان منها ويعيث في نواحيها، وبعث الحريشيّ إلى(3/111)
أهل ورثان يخبرهم بوصوله فأخرج العدوّ عنهم ووصل إليهم الحريشيّ. ثم اتبع العدوّ إلى أردبيل وجاءه بعض عيونه بأنّ عشرة آلاف من عسكرهم على أربعة فراسخ منه ومعهم خمسة آلاف بيت من المسلمين أسارى وسبايا، فبيتهم وقتلهم أجمعين ولم ينج منهم أحد واستنقذ المسلمين منهم. وسار إلى باجروان فجاءه عين آخر ودله على جمع منهم فسار إليهم واستلحمهم أجمعين واستنقذ من معهم من المسلمين، وكان فيهم أهل الجرّاح وولده فحملهم إلى باجروان. ثم زحف إليهم جموع الخزر مع ابن ملكهم والتقوا بأرض زرند، واشتدّ القتال والسبي من معسكر الكفّار فبكى المسلمون رحمة لهم وصدقوا الحملة، فانهزم الكفّار واتبعهم المسلمون إلى نهر أرس وغنموا ما كان معهم من الأموال واستنقذوا الأسرى والسبايا وحملوهم إلى باجروان. ثم تناصر الخزر في ملكهم ورجعوا فنزلوا نهر البيلقان واقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزموا فكان من غرق أكثر ممن قتل وجمع الحريشيّ الغنائم وعاد إلى باجروان فقسّمها وكتب إلى هشام بالفتح. واستقدمه وولّى أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان.
وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان
وخرج الجنيد سنة اثنتي عشرة ومائة من خراسان غازيا إلى طخارستان وبعث إليها عمارة ابن حزيم في ثمانية عشر ألفا، وبعث إبراهيم بن سام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر وحاشتك الترك [1] وزحف بهم خاقان إلى سمرقند وعليها سورة بن أبجر فكتب إلى الهند مستغيثا فأمر الجنيد بعبور النهر فقال له المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي: إن الترك ليسوا كغيرهم وقد مزقت جندك فسلّم ابن عبد الرحمن بالنبراود والبختري بهراة وعمارة بن حزيم بطخارستان ولا تعبر النهر في أقل من خمسين الفا. فاستقدم عمارة وأمهل فقال: أخي على سورة وعبر الجنيد فنزل كشّ وتأهب للسير. وغوّر الترك الآبار في طريق كشّ وسار الجنيد على التعبية واعترضه خاقان ومعه أهل الصغد وفرغانة والشاش، وحملوا على مقدّمته، وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخّير فرجعوا والترك في أتباعهم ثم حملوا على المدينة وأمدّهم الجنيد
__________
[1] العبارة غير واضحة والأسماء مختلفة عن بعض المراجع وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 162: «فوجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر الفا، ووجه إبراهيم بن بسّام الليثي في عشرة الاف إلى وجه آخر، وجاشت الترك....»(3/112)
بنصر بن سيّار وشدّوا على العدوّ وقتل أعيانا منهم وأقبل الجنيد على الميمنة وأقبل تحت راية الأزد فقال له صاحب الراية: ما قصدت كرامتنا لكن علمت أنّا لا نصل إليك ومنا عين تطرف. فصبروا وقاتلوا حتى كلّت سيوفهم وقطع عبيدهم الخشب فقاتلوا بها حتى أدركهم الملل وتعانقوا ثم تحاجزوا وهلك من الأزد في ذلك المعترك نحو من ثمانين فيهم عبد الله بن بسطام ومحمد بن عبد الله بن جودان والحسين بن شيخ ويزيد ابن المفضّل الحرّاني. وبين الناس كذلك إذ طلعت أوائل عسكر خاقان فنادى منادي الجنيد بالنزول فترجلوا، وخندق كل كائن على رجاله. وقصد خاقان جهة بكر بن وائل وعليهم زياد بن الحرث فحملت بكر عليهم فأفرجوا واشتد القتال، وأشار أصحاب الجنيد عليه بأن يبعث إلى سورة بن أبجر من سمرقند ليتقدّم الترك إليه ليكون لهم شغل به عن الجنيد وأصحابه، فكتب يستقدمه فاعتذر فأعاد عليه وتهدّده وقال:
أخرج وسر مع النهر لا تفارقه فلما خرج هو استبعد طريق النهر واستخلف على سمرقند موسى بن أسود الحنظليّ وسار محمد في اثني عشر ألفا حتى إذا بقي بينه وبين الجنيد وعساكره فرسخ لقيه خاقان عند الصباح وحال بينهم وبين الماء واضرم النار في اليبس حواليهم فاستماتوا وحملوا وانكشفت الترك وأظلم الجوّ بالعجاج. وكان من وراء الترك لهب سقط فيه جميع العدوّ والمسلمون وسقط سورة فاندقت فخذه ثم عطف الترك فقتلوا المسلمين ولم يبق منهم إلا القليل وانحاش بالناس المهلب بن زياد والعجمي في ستمائة أو ألف، ومعه قريش بن عبد الله العبديّ إلى رستاق المرغاب، وقاتلوا بعض قصوره فأصيب المهلب وولّوا عليهم الرحب بن خالد. وجاءهم الاسكيد صاحب نسف وغورك ملك الصغد فنزلوا معه إلى خاقان فلم يجز أمان غورك وقتلهم ولم ينج منهم أحد. ثم خرج الجنيد من الشعب قاصدا سمرقند وأشار عليه مجشر بن مزاحم بالنزول فنزل ووافقته جموع الترك فجال الناس جولة وصبر المسلمون وقاتل العبيد وانهزم العدوّ ومضى الجنيد إلى سمرقند فحمل العيالات إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر وكان صاحب الرأي بخراسان في الحرب المجشّر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن ابن صبح المخزومي وعبيد الله بن حبيب الهجريّ. ولما انصرفت الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة بن تيم الله وزميل بن سويد بن شيم بالخبر وتحامل فيه على سورة بن أبجر بما عصاه من مفارقة النهر حتى نال العدوّ منه فكتب إليه هشام قد بعث إليك من المدد عشرة آلاف من البصرة ومثلها من الكوفة وثلاثون ألف رمح ومثلها سيفا. وأقام(3/113)
الجنيد بسمرقند وسار خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم فخاف عليه من الترك واستشار عبد الله بن أبي عبد الله مولى بن سليم بعد أن اختلف عليه أصحابه فاشترط عليه أن لا يخالفه فأشار بحمل العيالات من سمرقند فقدّمهم واستخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخّير في أربعمائة فارس وأربعمائة راجل ووفّر أعطياتهم وسار العيادات في مقدمته حتى [1] من الضيق ودنا من الطواويس. فأقبل إليه خاقان بكير ميمنية [2] أوّل رمضان سنة اثنتي عشرة، واقتتلوا قليلا، ثم رجع الترك وارتحل من الغد، فاعترضه الترك ثانيا وقتل مسلم بن أحوز بعض عظمائهم فرجعوا من الطواويس. ثم دخل الجنيد بالمسلمين بخارى وقدمت الجنود من البصرة والكوفة فسرّح الجنيد معهم حورثة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه.
ولاية عاصم على خراسان وعزل الجنيد
بلغ هشاما سنة ست عشرة أن الجنيد بن عبد الرحمن عامل خراسان تزوّج بنت يزيد بن المهلّب فغضب لذلك وعزله وولّى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي وكان الجنيد قد مرض بالاستسقاء. فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه فلما قدم عاصم وجده قد مات وكانت بينهما عداوة فحبس عمارة بن حزيم وكان الجنيد استخلفه وهو ابن عذبة فعذّبه عاصم وعذّب عمال الجنيد.
ولاية مروان بن محمد على أرمينية وأذربيجان
لما عاد مسلمة من غزو الخزر وهم التركمان إلى بلاد المسلمين وكان في عسكره مروان بن محمد بن مروان، فخرج مختفيا عنه إلى هشام وشكا له من مسلمة وتخاذله عن الغزو وما أدخل بذلك على المسلمين من الوهم. وبعث إلى العدوّ بالحرب وأقام شهرا حتى استعدّوا وحشدوا ودخل بلادهم فلم يكن له فيهم نكاية وقصد أراد السلامة ورغب إليه بالغزو إليهم لينتقم منهم، وأن يمدّه بمائة وعشرين ألف مقاتل ويكتم عليه.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 169: «حتى خرجوا من الأماكن المخوفة ودنا من الطواويس.
[2] وفي الكامل ج 5 ص 169: بكر مينية.(3/114)
فأجابه لذلك وولّاه على أرمينية. فسار إليها وجاءه المدد من الشام والعراق والجزيرة.
فأظهر أنه يريد غزو اللان وبعث إلى ملك الخزر في المهادنة فأجاب. وأرسل رسله لتقرير الصلح فأمسكهم مروان إلى أن تجهّز وودّعهم وسار على أقرب الطرق فوافاهم ورأى ملك الخزر أنّ اللقاء على تلك الحال غرر فتأخر إلى أقصى بلاده. ودخل مروان فأوغل فيها وخرّب وغنم وسبى إلى آخرها. ودخل بلاد ملك السرير وفتح قلاعها وصالحوه على ألف رأس نصفها غلمان ونصفها جواري ومائة ألف مد تحمل إلى الباب. وصالحه أهل تومان على مائة رأس نصفين وعشرين ألف مد. ثم دخل أرض وردكران فصالحوه. ثم أتى حمرين وافتتح حصنهم، ثم أتى سبدان فافتتحها صلحا، ثم نزل صاحب اللكز في قلعته وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج يريد ملك الخزر فأصيب بسهم ومات وصالح أهل اللكز مروان، وأدخل عامله وسار مروان إلى قلعة سروان فأطاعوا، وسار إلى الرودانيّة فأوقع بهم ورجع.
خلع الحرث بن شريح [1] بخراسان
كان الحرث هذا عظيم الأزد بخراسان فخلع سنة ست عشرة ولبس السواد، ودعا إلى كتاب الله وسنة نبيّه والبيعة للرضا على ما كان عليه دعاة بني العبّاس هناك. وأقبل الى الغاربات [2] وجاءته رسل عاصم مقاتل بن حيّان النبطيّ والخطّاب بن محرز السلميّ فحبسهما وفرّوا [3] من السجن إلى عاصم بدم الحرث وغدره. وسار الحرث من الغاربات إلى بلخ وعليها نصر بن سيّار والتخيبيّ، فلقياه في عشرة آلاف وهو في أربعة فهزمهم، وملك بلخ واستعمل عليها سليمان بن عبد الله بن حازم. وسار إلى الجوزجان [4] عليها ثم سار إلى مرو ونمي إلى عاصم أنّ أهل مرو يكاتبونه فاستوثق منهم بالقسامة وخرج وعسكر قريبا من مرو، وقطع الجسور وأقبل الحرث في ستين ألفا ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين الجوزجان والغاربات، وملك الطالقان وأصلحوا القناطر ثم نزع محمد بن المثنّى في ألفين من الأزد وحمّاد بن عامر
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: الحرث بن سريج.
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: الغارياب
[3] الأصح أن يقول وفرّا.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: «وسار إلى الجوزجان فغلب عليها وعلى الطالقان ومروالروذ.»(3/115)
الجابي في مثلها من بني تميم إلى عاصم، ولحقوا به. ثم اقتتلوا فانهزم الحرث وغرق كثير من أصحابه في نهر مرو وقتلوا قتلا ذريعا. وكان ممن غرق حازم. ولما قطع الحرث نهر مرو ضرب رواقه واجتمع إليه بها ثلاثة آلاف فارس وكفّ عاصم عنهم.
ولاية أسد القسري الثانية بخراسان
كتب عاصم إلى هشام سنة سبع عشرة أنّ خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى العراق ليكون مددها قريب الغوث، فضم هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله القسري وكتب إليه: ابعث أخاك يصلح ما أفسد فبعث خالد أخاه أسدا فسار على مقدمته محمد بن مالك الهمدانيّ. (ولما بلغ عاصم) الخبر راود الحرث بن شريح على الصلح وأن يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه الكتاب والسنة، فإن أبى اجتمعا وأبى بعض أهل خراسان ذلك فانتقض بينهما واقتتلا، فانهزم الحرث وأسر من أصحابه كثير قتلهم عاصم. وبعث بالفتح إلى هشام مع محمد بن مسلم العنبريّ فلقيه أسد بالري وجاء إلى خراسان فبعث عاصما وطلبه بمائة ألف درهم، وأطلق عمارة بن حزيم وعمّال الجنيد. ولم يكن لعاصم بخراسان إلا مرو ونيسابور وكانت مروالروذ للحرث، وواصل لخالد بن عبيد الله الهجريّ على مثل رأي الحرث. فبعث أسد عبد الرحمن بن نعيم في أهل الكوفة والشام إلى الحرث، وسار هو بالناس إلى آمد.
فخرج إليه زياد القرشيّ مولى حيّان النبطي في العسكر، فهزمهم أسد وحاصرهم حتى سألوا الأمان، واستعمل عليهم يحيي بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ، وسار إلى بلخ، وقد بايعوا سليمان بن عبد الله بن حازم. فسار حتى قدمها ثم سار منها إلى ترمذ والحرث محاصر لهما، وأعجزه وصول المدد إليها فخرج إلى بلخ، وخرج أهل ترمذ فهزموا الحرث وقتلوا أكثر أصحابه. ثم سار أسد إلى سمرقند ومرّ بحصن زمّ وبه أصحاب الحرث فبعث إليهم وقال: إنما نكرتم منا سوء السيرة ولم يبلغ ذلك النساء واستحلال الفروج ولا مظاهرة المشركين على مثل سمرقند وأعطاه الأمان على تسليم سمرقند، وهدّده إن قاتل بأنه لا يؤمنه أبدا. فخرج إلى الأمان وسار معه إلى سمرقند فأنزلهم على الأمان ثم رجع أسد إلى بلخ وسرّح جديعا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحرث وأصحابه في طخارستان. فحاصرها وفتحها وقتل مقاتلهم ومنهم بنو بزري من ثعلب أصحاب الحرث. وباع سبيهم في سوق بلخ وانتقض على الحرث(3/116)
أربعمائة وخمسون من أصحابه بالقلعة، ورئيسهم جرير بن ميمون القاضي. فقال لهم الحرث: إن كنتم مفارقيّ ولا بدّ فاطلبوا الأمان، وإن طلبتموه بعد رحيلي لا يعطونه لكم، فأبوا إلّا أن ارتحل، فبعثوا بالأمان فلم يجبهم إليه. وسرّح جديعة الكرمانيّ في ستة آلاف فحصرهم حتى نزلوا على حكمه وحمل خمسين منهم إلى أسد فيهم ابن ميمون القاضي. فقتلهم وكتب إلى الكرماني بإهلاك الباقين واتخذ أسد مدينة بلخ دارا ونقل إليها الدواوين. ثم غزا طخارستان وأرض حبونة [1] فغنم وسبى.
مقتل خاقان
ولما كانت سنة تسع عشرة غزا أسد بن عبد الله بلاد الختّل فافتتح منها قلاعا وامتلأت أيدي العسكر من السبي والشاء وكثب بن السائحي [2] صاحب البلاد يستجيش خاقان على العرب، ويضعفهم له فتجهز وخفف من الأزودة استعجالا للعرب فلما أحس به ابن السائحيّ بعث بالنذير إلى أسد فلم يصدّقه، فأعاد عليه إني الّذي استمددت خاقان لأنك معّرت البلاد، ولا أريد أن يظفر بك خشية من معاداة العرب واستطالة خاقان عليّ، فصدّقه حينئذ أسد وبعث الأثقال مع إبراهيم بن عاصم العقيليّ، الّذي كان ولي سجستان، وبعث معه المشيخة كثيّر بن أميّة، وأبا سفيان بن كثيّر الخزاعي وفضيل بن حيّان المهري وغيرهم وأمدّهما بجند آخر. وجاء في أثرهم فانتهى إلى نهر بلخ وقد قطعه إبراهيم بن عاصم بالسبي والأثقال، فخاض النهر من ثلاثة وعشرين موضعا، وحمل الناس شياههم حتى حمل هو شاة فما استكمل العبور حتى طلعت عليهم الترك وعلى المسلمة الأزد وتميم. فحمل خاقان عليهم فانكشفوا فرجع أسد إلى عسكره وخندق. وظنوا أنّ خاقان لا يقطع النهر فقطع النهر إليهم وقاتله المسلمون في معسكرهم وباتوا والترك محيطون بهم فلما أصبحوا لم يروا منهم أحدا فعلموا أنهم اتبعوا الأثقال والسبي، واستعلموا علمها من الطلائع، فشاور أسد الناس فأشاروا بالمقام وأشار نصر بن سيّار باتباعهم يخلص الأثقال ويقطع شقة لا بد من قطعها، فوافقه أسد وطيّر النذير إلى إبراهيم بن عاصم. وصبح خاقان للأثقال وقد خندقوا عليهم فأمر أهل الصغد بقتلهم فهزمتهم مسلحة المسلمين فصعد
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 198: حبوية. وفي نسخ اخرى: حبوية.
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 200: انسايجي.(3/117)
على تلّ حتى رأى المسلمين من خلفهم. وأمر الترك أن يأتوهم من هنالك ففعلوا وخالطوهم في معسكرهم وقتلوا صاغان خذاه وأصحابه وأحسوا بالهلاك وإذا بالغبار قد رهج والترك يتنحّون قليلا قليلا. وجاء أسد ووقف على التلّ الّذي كان عليه خاقان وخرج إليه بقية الناس وجاءته امرأة صاغان خذاه معولة فأعول معها، ومضى خاقان يقود أسرى المسلمين في الآفاق ويسوق الإبل الموقورة والجواري وأراد أهل العسكر قتالهم فمنعهم أسد ونادى رجل من عسكر خاقان وهو من أصحاب الحرث بن شريح يعيّر أسدا ويحرّضه ويقول: قد كان لك عن الختّل مندوحة وهي أرض آبائي وأجدادي، قد كانت ما رأيت، ولعلّ الله ينتقم منك. ومضى أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى جاء الشتاء، فدخل البلد وشتّى فيها. وكان الحرث بن شريح بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان وأغراه بغزو خراسان وزحفوا إلى بلخ. وخرج أسد يوم الأضحى فخطب الناس وعرّفهم بأن الحرث بن شريح استجلب الطاغية ليطفئ نور الله ويبدّل دينهم، وحرّضهم على الاستنصار باللَّه وقال أقرب ما يكون العبد للَّه ساجدا. ثم سجد وسجد الناس وأخلصوا الدعاء وخرج للقائهم وقد استمدّ خاقان من وراء النهر، وأهل طخارستان وحبونة في ثلاثين ألفا وجاء الخبر إلى أسد وأشار بعض الناس بالتحصّن منهم بمدينة بلخ. واستمدّ خالد وهشام. وأبى الأسد إلّا اللقاء، فخرج واستخلف على بلخ الكرماني بن علي، وعهد إليه أنه لا يدع أحدا يخرج من المدينة. واعتزم نصر بن سيّار والقاسم بن نجيب وغيرهم على الخروج فأذن لهم وصلّى بالناس ركعتين وطوّل. ثم دعا وأمر الناس بالدعاء ونزل من وراء القنطرة ينتظر من تخلف، ثم بدا له وارتحل فلقي طليعة خاقان وأسر قائدهم وسار حتى نزل على فرسخين من الجوزجان ثم أصبحوا وقد تراءى الجمعان وأنزل أسد الناس ثم تهيأ للحرب ومعه الجوزجان (أهـ) . وحملت الترك على الميسرة فانهزموا إلى رواق أسد، فشدت عليهم الأسد وبنو تميم والجوزجان من الميمنة فانكشفوا إلى خاقان وقد انهزم والحرث معه واتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلونهم واستاقوا مائة وخمسين ألفا من الشاء ودواب كثيرة. وسلك خاقان غير الجادّة والحرث بن شريح [1] ولقيهم أسد عند الطريق. وسلك الجوزجان بعثمان بن عبد الله بن الشخّير طريقا،
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 205: وأخذ خاقان طريقا في الجبل والحرث يحميه وسار منهزما.»(3/118)
يعرفها حتى نزلوا على خاقان وهو آمن، فتركوا الأبنية والقدور تغلي وبناء العرب والموالي والعسكر مشحون من آنية الفضّة، وركب خاقان والحرث يمانع عنه. وأعجلوا امرأة خاقان عن الركوب فقتلها الخصيّ الموكل بها. وبعث أسد بجوار الترك دهاقين خراسان يفادون بها أسراهم، وأقام خمسة أيام وانصرف إلى بلخ لتاسعة من خروجه. ونزل الجوزجان وخاقان هارب أمامه. وانتهى خاقان إلى جونة الطخاريّ، فنزل عليه، وانصرف أسد إلى بلخ، وأقام خاقان عند جونة حتى أصلح آلته، وسار وسبيه بها فأخذه جدكاوش أبو فشين فأهدى إليه وأتحفه وحمل أصحابه يتخذ بذلك عنده يدا. ثم وصل خاقان بلاده وأخذ في الاستعداد في الحرب ومحاصرة سمرقند وحمل الحرث وابن شريح وأصحابه على خمسة آلاف برذون.
ولاعب خاقان بالنرد كورصول يوما فغمزه كورصول فأنف وتشاجر، فصك كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرنّ يده فتنحّى وجمع. ثم بيّت خاقان فقتله وافترق الترك وحملوه وتركوه بالعراء فحمله بعض عظمائهم ودفنه. وكان أسد بعث بالفتح من بلخ إلى خالد بن عبد الله فأخبره وبعث به إلى هشام فلم يصدّقه، ثم بعده القاسم بن نجيب بقتل خاقان، فحثّت قيس أسدا وخالدا، وقالوا لهشام: استقدم مقاتل بن حيّان. فكتب بذلك إلى خالد، فأرسل إلى أسد أن يبعث به فقدم على هشام والأبرش وزيره جالس عنده، فقصّ عليه الخبر فسرّ بذلك وقال لمقاتل: ما حاجتك؟ قال يزيد بن المهلّب أخذ من حيّان أبي مائة ألف درهم بغير حق، فأمر بردّها عليّ. فاستحلفه وكتب له بردها، وقسّمها مقاتل بين ورثة حيّان. ثم غزا أسد الختّل بعد مقتل خاقان، وقدم مصعب بن عمر الخزاعيّ إليها فسار إلى حصن بدرطرخان فاستأمن له أن يلقي أسدا فأمنه وبعث إلى أسد فسأل أن يقبل منه ألف درهم، وراوده على ذلك فأبى أسد وردّه إلى مصعب ليردّه إلى حصنه، فقال له مسلمة بن أبي عبد الله وهو من الموالي: إن أمير المؤمنين سيندم على حبسه. ثم أقبل أسد بالناس ووعد له المجشّر بن مزاحم بدرطرخان أو قبول ما عرض، فندم أسد وأرسل إلى مصعب يسأل عنه فوجده مقيما عند مسلمة، فجيء به وقطعت يده. ثم أمر رجلا من الأزد كان بدرطرخان قتل أباه فضرب عنقه وغلب على القلعة. وبعث العساكر في بلاد الختّل فامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وامتنع ولد بدرطرخان(3/119)
وأمواله في قلعة فوق بلدهم صغيرة فلم يوصل [1] إليهم.
وفاة أسد
وفي ربيع الأوّل سنة عشرين توفي ابن عبدا القسري بمدينة بلخ واستخلف جعفر بن حنظلة النهروانيّ فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيّار بالعمل في رجب.
ولاية يوسف بن عمر الثقفي على العراق وعزل خالد
وفي هذه السنة عزل هشام خالدا عن أعماله جميعها بسعاية أبي المثنّى وحسّان النبطيّ وكانا يتوليان ضياع هشام بالعراق، فنقلا على خالد وأمر الأشدق بالنهوض على الضياع وأنهى ذلك حسّان بعد أبي المثنّى، وأنّ غلته في السنة ثلاثة عشر ألف ألف فوقرت في نفس هشام. وأشار عليه بلال بن أبي بردة والعريان بن الهيثم أن يعرض أملاكه على هشام ويضمنون له الرضا فلم يجبهم. ثم شكا من خالد بعض آل عمر والأشدق بأنه أغلظ له في القول بمجلسه، فكتب إليه هشام يوبّخه ويأمره بأن يمشي ساعيا على قدميه إلى بابه ويترضاه ونميت عنه من هذا أقوال كثيرة وأنه يستقل ولاية العراق، فكتب إليه هشام: يا ابن أم خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف، يا ابن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أمّا والله إني لأظنّ أنّ أوّل من يأتيك صقر من قريش يشدّ يديك إلى عنقك. ثم كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي وهو باليمن يأمره أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولّاه ذلك. فسار إلى الكوفة ونزل قريبا منها وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده وأهدى إليه وصيفا ووصيفة سوى الأموال والثياب ومرّ يوسف وأصحابه ببعض أهل العراق فسألوهم فعرضوا وظنّوهم خوارج، وركب يوسف إلى دور ثقيف فكتموا، ثم جمع يوسف بالمسجد من كان هنالك من مضر ودخل مع الفجر فصلى، وأرسل إلى خالد وطارق فأخذهما. وقيل إنّ خالدا كان بواسط وكتب إليه بالخبر بعض أصحابه من دمشق، فركب إلى خالد وأخبره بالخبر وقال: اركب إلى أمير المؤمنين واعتذر إليه قال: لا أفعل بغير إذن قال: فترسلني أستأذنه قال: لا. قال: فاضمن له جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده
__________
[1] الأصح ان يقول: لم يصل اليهم.(3/120)
وهي مائة ألف ألف قال: والله ما أجد عشرة آلاف ألف قال: أتحملها أنا وفلان وفلان. قال: لا أعطي شيئا وأعود فيه فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستبقي الدنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند الكوفة فنقتل ويأكلون الأموال فأبى خالد من ذلك كله فودعه طارق ومضى وبكى ورجع إلى الكوفة. وخرج خالد إلى الحمّة وجاء كتاب هشام بخطه إلى يوسف بولاية العراق وأن يأخذ ابن النصرانيّة يعني خالدا وعمّاله فيعذّبهم، فأخذ الأولاد وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت وقدم في جمادى الأخيرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف وأرسل مولى كيسان فجاء بطارق ولقيه بالحيرة فضربه ضربا مبرّحا ودخل الكوفة. وبعث عثمان عطاء بن مقدم إلى خالد بالحمّة فقدم عليه وحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على سبعة آلاف ألف. وقيل أخذ منه مائة ألف وكانت ولايته العراق خمس عشرة سنة ولما ولي يوسف نزلت الذلّة بالعراق في العرب وصار الحكم فيه إلى أهل الذمّة.
ولاية نصر بن سيار خراسان وغزوة وصلح الصغد
ولما مات أسد بن عبد الله ولّى هشام على خراسان نصر بن سيّار وبعث إليه عهده على عبد الكريم بن سليط الحنفيّ، وقد كان جعفر بن حنظلة لما استخلفه أسد عند موته عرض على نصر أن يولّيه بخارى فقال له: البحتريّ بن مجاهد مولى بني شيبان لا تقبل فإنك شيخ مضر بخراسان، وكان عهدك قد جاء على خراسان كلها فكان كذلك ولما ولي نصر استعمل على بلخ مسلم بن عبد الرحمن وعلى مروالروذ وشاح ابن بكير بن وشاح، وعلى هراة الحرث بن عبد الله بن الحشرج، وعلى نيسابور زياد بن الرحمن القسريّ، وعلى خوارزم أبا حفص عليّ بن حقنة، وعلى الصغد قطن بن قتيبة. وبقي أربع سنين لا يستعمل في خراسان إلّا مضريّا فعمرت عمارة لم تعمر مثلها، وأحسن الولاية والجباية. وكان وصول العهد إليه بالولاية في رجب سنة عشرين فغزا غزوات أوّلها إلى ما وراء النهر من نحو باب الحديد. وسار إليها من بلخ ورجع إلى مرو فوضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة وجعلها على من كان يخفف عنه منهم وانتهى عددهم ثلاثين ألفا من الصنفين وضعت عن هؤلاء وجعلت على هؤلاء. ثم غزا الثانية إلى سمرقند، ثم الثالثة إلى الشاش سار إليها من(3/121)
مرو ومعه ملك بخارى وأهل سمرقند وكشّ ونسف في عشرين ألفا. وجاء إلى نهر الشاش فحال بينه وبين عبوره كورصول، عسكر نصر في ليلة ظلماء، ونادى نصر لا يخرج أحد وخرج عاصم بن عمير في جند سمرقند، فجاولته خيل الترك ليلا وفيهم كورصول فأسره عاصم وجاء به إلى نصر فقتله وصلبه على شاطئ النهر فحزنت الترك لقتله وأحرقوا أبنيته وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهم. وأمر نصر بإحراق عظامه لئلا يحملوها بعد رجوعه. ثم سار إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس، وكتب إليه يوسف بن عمران ليسير إلى الحرث بن شريح في الشاش ويخرّب بلادهم ويسبيهم. فسار لذلك وجعل على مقدّمته يحيى بن حصين وجاء بهم إلى الحرث وقاتلهم وقتل عظيما من عظماء الترك وانهزموا. وجاء ملك الشاش في الصلح والهدنة والرهن واشترط نصر عليه إخراج الحرث بن شريح من بلده فأخرجه إلى فاراب.
واستعمل على الشاش ينزل ابن صالح مولى عمرو بن العاص. ثم سار إلى أرض فرغانة وبعث أمّه في إتمام الصلح، فجاءت لذلك وأكرمها نصر وعقد لها ورجعت. وكان الصغد لما قتل خاقان طمعوا في الرجعة إلى بلادهم، فلما ولي نصر بعث إليهم في ذلك وأعطوه ما سألوه من الشروط، وكان أهل خراسان قد نكروا شروطهم، وكان منها أن لا يعاقب من ارتدّ عن الإسلام إليهم ولا يؤخذ منهم أسرى إلا ببينة وحكم وعاب الناس ذلك على نصر لما أمضاه لهم. فقال: لو عاينتم شكوتهم في المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم. وأرسل إلى هشام في ذلك فأمضاه وذلك سنة ثلاث وعشرين.
ظهور زيد بن على ومقتله
ظهر زيد بن عليّ بالكوفة خارجا على هشام داعيا للكتاب والسنّة وإلى جهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء وردّ المظالم وأفعال الخير ونصر أهل البيت. واختلف في سبب خروجه فقيل: إنّ يوسف ابن عمران لما كتب في خالد القسريّ كتب إلى هشام أنه شيعة لأهل البيت، وأنه ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار وردّ عليه الأمن، وأنه أودع زيدا وأصحابه الوافدين عليه مالا، فكان زيد قد قدم على خالد بالعراق هو ومحمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، وداود بن علي بن عبد الله بن عبّاس فأجازهم ورجعوا إلى المدينة(3/122)
فبعث هشام عنهم وسألهم فأقرّوا بالجائزة وحلفوا على ما سوى ذلك وأنّ خالدا لم يودعهم شيئا فصدّقهم هشام وبعثهم إلى يوسف فقاتلوا خالدا وصدّقهم الآخر، وعادوا إلى المدينة ونزلوا القادسية. وراسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم، وقيل في سبب ذلك، إنّ زيدا اختصهم مع ابن عمه جعفر ابن الحسن المثنّى في وقف عليّ، ثم مات جعفر فخاصم أخوه عبد الله زيدا وكانا يحضران عند عامل خالد بن عبد الملك بن الحرث، فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمة وأنكر زيد من خالد إطالته للخصومة وأن يستمع لمثل هذا فأغلظ له زيد وسار إلى هشام فحجبه، ثم أذن له بعد حين فحاوره طويلا ثم عرض له بأنه ينكر الخلاف وتنقصه. ثم قال له: أخرج؟ قال: نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره! فسار إلى الكوفة وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: ناشدتك الله الحق بأهلك ولا تأت الكوفة وذكّره بفعلهم مع جدّه وجدّه يستعظم ما وقع به. وأقبل الكوفة فأقام بها مستخفيا ينتقل في المنازل واختلف إليه الشيعة وبايعه جماعة منهم: مسلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسيّ ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وناس من وجوه أهل الكوفة يذكر لهم دعوته. ثم يقول: أتبايعون على ذلك؟ فيقولون: نعم فيضع يده على أيديهم ويقول عهد الله عليك وميثاقه وذمّته وذمّة نبيه بيقين تتبعني ولا تقاتلني مع عدوّي ولتنصحنّ لي في السر والعلانية. فإذا قال نعم وضع يده على يده ثم قال: اللَّهمّ اشهد فبايعه خمسة عشر ألفا وقيل أربعون. وأمرهم بالاستعداد وشاع أمره في الناس وقيل: إنه أقام في الكوفة ظاهرا ومعه داود بن عليّ ابن عبد الله بن عبّاس لما جاءوا لمقاتلة خالد فاختلف إليه الشيعة، وكانت البيعة. وبلغ الخبر إلى يوسف بن عمران فأخرجه من الكوفة ولحق الشيعة بالقادسية أو الغلبية وعذله داود بن عليّ في الرجوع معه وذكره حال جدّه الحسين فقالت الشيعة لزيد: هذا إنما يريد الأمر لنفسه ولأهل بيته فرجع معهم ومضى داود إلى المدينة. ولما أتى الكوفة جاءه مسلمة بن كهيل فصدّه عن ذلك وقال أهل الكوفة لا يعوّلون لك. وقد كان مع جدّك منهم أضعاف من معك ولم تعاوله، وكان أعزّ عليهم منك على هؤلاء فقال له: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال: فتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث وأنا لا أهلك نفسي، فخرج لليمامة وكتب عبد الله بن الحسن المثنّى إلى زيد يعذله ويصدّه فلم يصغ إليه وتزوّج نساء بالكوفة وكان يختلف إليهنّ والناس يبايعونه، ثم أمر(3/123)
أصحابه يتجهّزون. ونمى الخبر إلى يوسف بن عمر فطلبه وخاف فتعجّل الخروج وكان يوسف بالحيرة وعلى الكوفة الحكم بن الصلت وعلى شرطته عمر بن عبد الرحمن من القاهرة ومعه عبيد الله بن عبّاس الكندي في ناس من أهل الشام. ولما علم الشيعة أنّ يوسف يبحث عن زيد جاء إليه جماعة منهم فقالوا: ما تقول في الشيخين؟
فقال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، وما سمعت أهل بيتي يذكرونهما إلا بخير. وغاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنّة. قال: فإذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم؟ فقال: إنّ هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين فإنا ندعوهم إلى الكتاب والسنّة وأن نحيي السنن ونطفئ البدع، فإن أجبتم سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام الحق يعنون محمدا الباقر، وأنّ جعفرا ابنه إمامنا بعده، فسمّاهم زيد الرافضة ويقال إنما سمّاهم الرافضة حيث فارقوه ثم بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بأن يجمع أهل الكوفة في المسجد فجمعوا وطلبوا زيدا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة فخرج منها ليلا واجتمع إليه ناس من الشيعة وأشعلوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر، وأصبح جعفر بن أبي العباس الكندي فلقى اثنين من أصحاب زيد يناديان بشعاره فقتل واحدا وأتى بالآخر إلى الحكم فقتله، وأغلق أبواب المسجد على الناس وبعث إلى يوسف بالخبر فسار من الحيرة وقدم الريّاف بن سلمة الأراثيني في ألفين خيالة وثلاثمائة ماشية. وافتقد زيد الناس فقيل إنهم في الجامع محصورون، ولم يجد معه إلا مائتين وعشرين. وخرج صاحب الشرطة في خيله فلقي نصر بن خزيمة العبسيّ من أصحاب زيد ذاهبا إليه فحمل عليه نصر وأصحابه فقتلوه وحمل زيد على أهل الشام فهزمهم وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزدي ممن بايعه وناداه فلم يخرج إليه.
ثم سار زيد إلى الكناسة فحمل على أهل الشام فهزمهم ثم دخل الكوفة، والريات في اتباعه فلما رأى زيد خذلان الناس قال لنصر بن خزيمة: أفعلتموها حسينية؟ قال:
أمّا أنا فو الله لأموتنّ معك وإنّ الناس بالمسجد فامض بنا إليهم فجاء إلى المسجد ينادي بالناس بالخروج إليه فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد فانصرفوا عند المساء. وأرسل يوسف بن عمر من الغد العبّاس ابن سعد المزني في أهل الشام فجاءه في دار الزرق وقد كان أوى إليها عند المساء، فلقيه زيد بن ثابت فاقتتلوا فقتل نصر.(3/124)
ثم حملوا على أصحاب العبّاس فهزمهم زيد وأصحابه وعبأهم يوسف بن عمر من العشيّ ثم سرّحهم فكشفهم أصحاب زيد ولم يثبت خيلهم لخيله. وبعث إليهم يوسف بن عمر بالقادسية واشتدّ القتال وقتل معاوية بن زيد ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته فرجع أصحابه وأهل الشام يظنون أنهم تحاجزوا ولما نزع النصل من جبهته مات فدفنوه وأجروا عليه الماء وأصبح الحكم يوم الجمعة يتبع الجرحى من الدور ودلّه بعض الموالي على قبر زيد فاستخرجه وقطع رأسه وبعث بها إلى يوسف بالحيرة، فبعثه إلى هشام فنصبه على باب دمشق وأمر يوسف الحكم أن يصلب زيدا بالكناسة ونصر ابن خزيمة ومعاوية بن إسحاق ويحرسهم فلما ولي الوليد أمر بإحراقهم واستجار يحيي ابن زيد بعبد الملك بن شبر بن مروان فأجاره حتى سكن المطلب ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية.
ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية
كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس دعاته إلى الآفاق سنة مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، لمّا مرّ أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيّة ذاهبا وجائيا من الشام من عند سليمان بن عبد الملك فمرض عنده بالحميمة من أعمال البلقاء وهلك هنالك وأوصى له بالأمر. وكان أبو هاشم قد علّم شيعته بالعراق وخراسان وأنّ الأمر صائر في ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس. فلما مات أبو هاشم قصدت الشيعة محمدا وبايعوه سرّا وبعث دعاته منهم إلى الآفاق وكان الّذي بعث إلى العراق مسيرة بن والي خراسان محمد بن حبيش، وأمّا عكرمة السرّاج وهو أبو محمد الصادق وحيّان العطّار خال إبراهيم بن سلمة فجاءوا إلى خراسان ودعوا إليه سرّا وأجابهم الناس وجاءوا بكتب من أجاب إلى مسيرة انتهى. فبعث بها إلى محمد واختار أبو محمد الصادق اثني عشر رجلا من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهم وهم: سليمان بن كثيّر الخزاعي ولاهز بن قريط التميمي، وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وأبو حمزة بن عمر ابن أعين مولى خزاعة وأخوه عيسى، وأبو علي شبلة بن طهمان الهروي مولى بني حنيفة. واختار بعده سبعين رجلا وكتب إليه محمد بن علي كتابا يكون لهم مثالا(3/125)
يقتدون به في الدعوة، وأقاموا على ذلك ثم بعث مسيرة رسله من العراق سنة اثنتين ومائة في ولاية سعيد خدينة، وخلافة يزيد بن عبد الملك. وسعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار فضمنهم قوم من ربيعة واليمن فأطلقهم وولد محمد ابنه عبد الله السفّاح سنة أربع ومائة، وجاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعاة خراسان فأخرجه لهم ابن خمسة عشر يوما قال: هذا صاحبكم الّذي يتمّ الأمر على يده، فقبلوا أطرافه وانصرفوا. ثم دخل معهم في الدعوة بكير بن هامان جاء من السند مع الجنيد بن عبد الرحمن فلما عزل قدم الكوفة ولقي أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن حبيش وعمّار العبادي خال الوليد الأزرق دعاه إلى خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام ووشى بهم إليه فقطع أيدي من ظفر به منهم وصلبه وأقبل عمّار إلى بكير بن هامان فأخبره فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابه: الحمد للَّه الّذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم قتلى ستعدّ. ثم كان أوّل من قدّم محمد بن علي إلى خراسان أبو محمد زياد مولى همذان بعثه محمد بن عليّ سنة تسعة في ولاية أسد أيام هشام وقال له: انزل في اليمن وتلطّف لمضر ونهاه عن الغالب النيسابورىّ شيعة بني فاطمة. فشتّى زياد بمرو ثم سعى به إلى أسد فاعتذر بالتجارة، ثم عاد إلى أمره، فأحضره أسد وقتله في عشرة من أهل الكوفة ثم جاء بعدهم إلى خراسان رجل من أهل الكوفة اسمه كثيّر ونزل على أبي الشحم وأقام يدعو سنتين أو ثلاثة، ثم أخذ أسد بن عبد الله في ولايته الثانية سنة سبع عشرة. أخذ سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريط بثلاثمائة سوط وشهد حسن ابن زيد الأزدي ببراءتهم فأطلقهم. ثم بعث بكير بن هامان سنة ثماني عشرة عمّار بن زيد على شيعتهم بخراسان فنزل مرو وتسمّى بخراش وأطاعه الناس. ثم نزل دعوتهم بدعوة الحزمية [1] فأباح النساء وقال: إنّ الصوم إنما هو عن ذكر الإمام وأشار إلى إخفاء اسمه والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه وكان خراش هذا نصرانيّا بالكوفة وأتبعه على مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم. وظهر أسد على خبره وبلغ الخبر بذلك إلى محمد بن عليّ فنكر عليهم قبولهم من خراش وقطع مراسلتهم فقدم عليه ابن كثيّر منهم يستعلم خبره ويستعطفه على ما وقع منهم، وكتب معه إليهم كتابا مختوما لم يجدوا فيه غير البسملة، فعلموا مخالفة خراش لأمره وعظم
__________
[1] وفي نسخة ثانية الخرّميّة.(3/126)
عليهم. ثم بعث محمد بن بكير بن بان وكتب معه بكذب خراش فلم يصدّقوه فجاء إلى محمد وبعث معه عصيا مضبّية بعضها بالحديد وبعضها بالنحاس ودفع إلى كل رجل عصا فعلموا أنهم قد خالفوا السيرة فتابوا ورجعوا وتوفي محمد بن علي سنة أربع وعشرين وعهد ابنه إبراهيم بالأمر وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمّونه الإمام.
وجاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه والدعاء لإبراهيم الإمام سنة ست وعشرين ومائة، ونزل مرو ودفع إلى الشيعة والنقباء كتابه بالوصية والسيرة فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم فقدم بها بكير على إبراهيم. ثم بعث إليهم أبا مسلم سنة أربع وعشرين وقد اختلف في أوّليته اختلافا كثيرا وفي سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد فقيل: كان من ولد بزرجمهر، ولد بأصبهان وأوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى السرّاج، فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين ونشأ بها واتصل بإبراهيم الإمام وكان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار فسمّاه إبراهيم الإمام عبد الرحمن وزوجة أبيه أبي النجم عمران ابن إسماعيل من الشيعة فبنى بها بخراسان وزوّج ابنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب.
وابنته أسماء من فهم بن محرز فأعقبت فاطمة وهي التي يذكرها الحزمية [1] .
وقيل في اتصاله بإبراهيم الإمام أنّ أبا مسلم كان مع موسى السرّاج وتعلم منه صناعة السروج وكان يتجهّز فيها بأصبهان والجبال والجزيرة والموصل واتصل بعاصم بن يونس العجليّ صاحب عيسى السراج وابني أخيه عيسى وإدريس ابني معقل، وإدريس هو جد أبي دلف ونمى إلى يوسف بن عمران العجليّ من دعاة بني العباس فحبسهم مع عمال خالد القسري. وكان أبو مسلم معهم في السجن بخدمتهم وقبل منهم الدعوة وقيل لم يتصل بهم من عيسى السرّاج وإنما كان من ضياع بني العجليّ بأصبهان أو الجبل. وتوجه سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريط وقحطبة بن شبيب من خراسان يريدون إبراهيم الإمام بمكّة، فمرّوا بعاصم بن يونس وعيسى وإدريس ابني معقل العجليّ بمكانهم من الحبس فرأوا معهم أبا مسلم فأعجبهم وأخذوه ولقوا إبراهيم الإمام بمكّة فأعجبه فأخذه. وكان يخدمه ثم قدم النقباء بعد ذلك على إبراهيم الإمام يطلبون أن يوجّه من قبله إلى خراسان فبعث معه أبا مسلم. فلما تمكن ونوى أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عبّاس وكان من أولية هذا الخبر أنّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية الخرّمية.(3/127)
جارية لعبد الله بن العبّاس ولدت لغير رشدة [1] فحدّها واستعبد وليدها وسمّاه سليطا فنشأ واختص بالوليد. وادّعى أنّ عبد الله بن عبّاس أقرّ بأنه ابنه وأقام البينة على ذلك وخاصم عليّ بن عبد الله في الميراث وأذاه. وكان في صحابته عمر الدنّ من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها سليط بالخبر، فاستعدت الوليد على عليّ فأنكر وحلف، فنبشوا في البستان فوجدوه. فأمر الوليد بعليّ فضرب ليدلّه على عمر الدنّ. ثم شفع فيه عبّاد بن زياد فأخرج إلى الحميمة. ولما ولي سليمان ردّه إلى دمشق وقيل: إنّ أبا مسلم كان عبدا للعجليين، وابن بكير بن هامان كان كاتبا لعمّال بعض السند وقدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا وبكير معهم.
وكان العجليون في الحبس، وأبو مسلم العبسيّ بن معقل. فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه، واستحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم وبعث به إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى موسى السرّاج من الشيعة. فسمع منه وحفظ وصار يتردّد إلى خراسان. وقيل كان لبعض أهل هراة وابتاعه منه إبراهيم الإمام، ومكث عنده سنين وكان يتردّد بكتبه إلى خراسان ثم بعثه أميرا على الشيعة وكتب إليهم بالطاعة له، وإلى أبي سلمة الخلّال داعيهم بالكوفة يأمره بإنفاذه إلى خراسان فنزل على سليمان بن كثيّر وكان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم جاء سليمان بن كثيّر ولاهز بن قريط وقحطبة إلى مكّة سنة سبع وعشرين بعشرين ألف دينار للإمام إبراهيم ومائتي ألف درهم ومسك ومتاع كثير ومعهم أبو مسلم وقالوا: هذا مولاك وكتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمان الخلّال وهو رضى فكتب إليه إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه وصدّقوه وبعثوا بخمس أموالهم ونفقة الشيعة للإمام إبراهيم. ثم بعث إبراهيم في سنة ثمان وعشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان وكتب له: إني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا. وقد أمّرته على خراسان وما غلبت عليه فارتابوا من قوله ووفدوا على إبراهيم الإمام من قابل مكّة وذكر له أبو مسلم أنهم لم يقبلوه. فقال لهم: قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله، وكان عرضه على سليمان بن كثيّر ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا. وإني قد أجمع رأيي على أبي مسلم وهو منّا أهل البيت فاسمعوا له وأطيعوا. وقال لأبي مسلم: انزل في أهل
__________
[1] الرشدة ضد الزنية ويقال: ولد لرشدة اي شرعي، وولد لغير رشدة اي ابن زنى. (قاموس) .(3/128)
اليمن وأكرمهم. فإنّ بهم يتمّ الأمر وآتهم البيعة. وأمّا مضر فهم العدوّ والغريب، واقتل من شككت فيه وإن قدرت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل وارجع إلى سليمان بن كثيّر واكتف به مني وسرّحه معهم فساروا إلى خراسان.
وفاة هشام بن عبد الملك وبيعة الوليد بن يزيد
توفي هشام بن عبد الملك بالرصافة في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة لعشرين سنة من خلافته وولي بعده الوليد ابن أخيه يزيد بعهد يزيد بذلك كما مرّ، وكان الوليد متلاعبا وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه فلم يمكنه. وكان يضرب من يأخذه في صحبته، فخرج الوليد في ناس من خاصته ومواليه وخلف كاتبه عيّاض بن مسلم ليكاتبه بالأحوال فضربه هشام وحبسه. ولم يزل الوليد مقيما بالبرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم ابن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر فسأل عن كاتبه عيّاض فقال: لم يزل محبوسا حتى مات هشام، فأرسل إلى الحرّاق أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاما من شيء طلبه. ثم خرج بعد موته من الحبس وختم أبواب الخزائن ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العبّاس بن عبد الملك أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده وعمّاله وخدمه إلّا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه في الرّفق بالوليد، فانتهى العبّاس لما أمر به الوليد. ثم استعمل الوليد العمّال وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة فجاءته بيعتهم وكتب مروان ببيعته واستأذن في القدوم. ثم عقد الوليد من سنته لابنيه الحكم وعثمان بعده وجعلهما وليي عهده وكتب بذلك إلى العراق وخراسان.
ولاية نصر للوليد على خراسان
وكتب الوليد في سنته إلى نصر بن سيّار بولاية خراسان وأفرده بها، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا وعمّاله فردّ إليه الوليد خراسان. وكتب يوسف إلى نصر بالقدوم ويحمل معه الهدايا والأموال وعياله جميعا وكتب له الوليد بأن يتّخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة ويجمع له البراذين الغرّة [1] ويجمع بذلك إليه في
__________
[1] الغرّة لا تتناسب مع معنى الجملة ولعلها الفرة جمع فارة ويقال للبرذون والبغل والحمار فاره إذا كان سيورا.(3/129)
وجوه أهل خراسان، واستحثه رسول يوسف فأجازه. ثم سار واستخلف على خراسان عصمة بن عبد الله الأسدي وعلى شاش موسى بن ورقاء وعلى سمرقند حسّان بن [1] من أهل الصغانيان وعلى آمد مقاتل بن عليّ الصغديّ. وأسرّ إليهم أن يداخلوا الترك في المسير إلى خراسان ليرجع إليهم وبينا هو في طريقه إلى العراق بيهق لقيه مولى لبني ليث، وأخبره بقتل الوليد والفتنة بالشام وأنّ منصور بن جمهور قدم العراق وهرب يوسف بن عمر فرجع بالناس.
مقتل يحيى بن زياد
كان يحيى بن زياد سار بعد قتل أبيه وسكون الطلب عنه كما مرّ فأقام عنه الحريش ابن عمر ومروان في بلخ ولما ولي الوليد كتب إلى نصر بأن يأخذه من عند الحريش فأحضر الحريش وطالبه بيحيى، فأنكر، فضربه ستمائة سوط، فجاء ابنه قريش ودلّه على يحيى فحبسه وكتب إلى الوليد فأمره أن يخلي سبيله وسبيل أصحابه فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد فسار وأقام بسرخس فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عيّاد يخرجه عنها فأخرجه إلى بيهق وخاف يحيى بن يوسف بن عمر فسار إلى نيسابور وبها عمر ابن زرارة، وكان مع يحيى سبعون رجلا ولقوا دواب وأدركهم الإعياء فأخذوها بالثمن. وكتب عمر بن زرارة بذلك إلى نصر فكتب إليه يأمره بحربهم، فحاربهم في عشرة آلاف فهزموه وقتلوه، ومروا بهراة فلم يعرضوا لها وسرّح نصر بن سيّار مسلم بن أحور المازني إليهم فلحقهم بالجوزجان فقاتلهم قتالا شديدا وأصيب يحيى بسهم في جبهته فمات. وقتل أصحابه جميعا وبعثوا برأسه إلى الوليد وصلب بالجوزجان. وكتب الوليد إلى يوسف بن عمر بأن يحرق شلو زيد، فأحرقه وذراه في الفرات ولم يزل يحيى مصلوبا بالجوزجان حتى استولى أبو مسلم على خراسان فدفنه ونظر في الديوان أسماء من حضر لقتله فمن كان حيّا قتله ومن كان ميتا خلفه في أهله بسوء.
مقتل خالد بن عبد الله القسري
قد تقدّم لنا ولاية يوسف بن عمر على العراق وأنه حبس خالدا أصحاب العراق
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 270: «وحسّان من أهل الصغانيان بسمرقند» وفي الطبري ج 8 ص 299: وحسان من أهل صغانيان الاسدي سمرقند.»(3/130)
وخراسان قبله [1] فأقام بحبسه في الحيرة ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد ابن خالد والمنذر ابن أخيه أسد واستأذن هشاما في عذابه فأذن له على أنه إن هلك قتل يوسف به فعذبه. ثم أمر هشام بإطلاقه سنة إحدى وعشرين، فأتى إلى قرية بإزاء الرصافة فأقام بها، حتى خرج زيد وقتل وانقضى أمره، فسعى يوسف بخالد عند هشام بأنه الّذي داخل زيدا في الخروج، فردّ هشام سعايته ووبّخ رسوله وقال:
لسنا نتهم خالدا في طاعة. وسار خالد إلى الصائفة وأنزل أهله دمشق وعليها كلثوم بن عيّاض القشيريّ، وكان يبغض خالدا. فظهر في دمشق حريق في ليال، فكتب كلثوم إلى هشام بأنّ موالي خالد يريدون الوثوب إلى بيت المال ويتطرّقون إلى ذلك بالحريق كل ليلة في البلد. فكتب إليه هشام بحبس الكبير منهم والصغير والموالي فحبسهم. ثم ظهر على صاحب الحريق وأصحابه. وكتب بهم الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج ولم يذكر فيهم أحدا من آل خالد ومواليه فكتب هشام إلى كلثوم يوبّخه ويأمره بإطلاق آل خالد وترك الموالي فشفع فيهم خالد عند مقدمه من الصائفة، فلما قدم دخل منزله وأذّن للناس فاجتمعوا ببابه فوبّخهم وقال: إنّ هشاما يسوقهنّ إلى الحبس كل يوم. ثم قال خرجت غازيا سامعا مطيعا فحبس أهلي مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين. ولم يغير ذلك أحد منكم، أخفتم القتل؟ أخافكم الله. والله ليكفنّ عني هشام أو لأعودن إلى عراقيّ الهوى شاميّ الدار حجازي الأصل يعني محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس. وبلغ ذلك هشاما فقال: خرف أبو الهيثم. ثم تتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام بطلب يزيد بن خالد فأرسل إلى كلثوم بإنفاذه إليه فهرب يزيد فطلبه كلثوم من خالد وحبسه فيه فكتب إليه هشام بتخليته ووبّخه انتهى.
ولما ولي الوليد بن يزيد استقدم خالدا وقال أين ابنك؟ قال: هرب من هشام وكنّا نراه عندك حتى استخلفك الله فلم نره وطلبناه ببلاد قومه من الشراة فقال: ولكن خلفته طلبا للفتنة فقال: إنّا أهل بيت طاعة. فقال: لتأتيني به أو لازهقنّ، نفسك فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فأمر الوليد بضربه. ولما قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال اشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف فقال له الوليد: إنّ
__________
[1] العبارة هنا مبهمة وغير واضحة وفي الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 5 ص 276 «ثم سار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالدا فحبسه بها تمام ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد ... »(3/131)
يوسف يشتريك بكذا فاضمنها إلي قبل أن أدفعك إليه. فقال: ما عهدت العرب تباع! والله لو سألتني عودا ما ضمنته. فدفعه إلى يوسف فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء وعذبه عذابا شديدا وهو لا يكلمه. ثم حمله إلى الكوفة فاشتدّ في عذابه ثم قتله ودفنه في عباءة يقال: إنه قتله بشيء وضعه على وجهه. وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه. وذلك في المحرّم سنة ستة وعشرين ومائة.
مقتل الوليد وبيعة يزيد
ولما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى والمجون. حتى نسب إليه في ذلك كثير من الشنائع مثل رمية المصحف بالسهام حين استفتح فوقع على قوله: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 14: 15 وينشدون له في ذلك بيتين تركتهما لشناعة مغزاهما [1] . ولقد ساءت القالة فيه كثيرا، وكثير من الناس نفوا ذلك عنه وقالوا: إنها من شناعات الأعداء الصقوها به. قال المدائني: دخل ابن الغمر بن يزيد على الرشيد فسأله: ممن أنت؟
فقال: من قريش. قال: من أيها؟ فوجم، فقال: قل وأنت آمن ولو أنّك مروان فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله الوليد ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعا عليه، ارفع حوائجك فرفعها وقضاها. وقال شبيب بن شبّة:
كنا جلوسا عند المهدي فذكر الوليد فقال المهدي: كان زنديقا فقام ابن علانة الفقيه [2] فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الله عزّ وجلّ أعدل من أن يولي خلافة النبوّة وأمر الأمّة زنديقا لقد أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبة وشربه ويراه في طهارته وصلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المصيبة المصبغة. ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض نظيفة فيلبسها ويشتغل بربه. أترى هذا فعل من لا يؤمن باللَّه؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا ابن علانة، وإنما كان الرجل محسودا في خلاله ومزاحما بكبار عشيرة بيته من بني عمومته مع لهو كان يصاحبه، أوجد لهم به السبيل على نفسه. وكان من خلاله قرض الشعر الوثيق ونظم الكلام
__________
[1]
تهددني بجبار عنيد ... فها انا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشد ... فقل: يا رب خزقني الوليد
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 291: ابو علانة الفقيه.(3/132)
البليغ. قال يوما لهشام يعزّيه في مسلمة أخيه: إنّ عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختلّ الثغر فهوى. وعلى أثر من سلف، يمضي من خلف، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى. فأعرض هشام وسكت القوم.
وامّا حكاية مقتله فإنه لما تعرّض له بنو عمه ونالوا من عرضه أخذ في مكافأتهم.
فضرب سليمان بن عمه هشام مائة سوط وحلقه وغرّبه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرّق بين ابن الوليد وبين امرأته، وحبس عدّة من ولد الوليد، فرموه بالفسق والكفر واستباحة نساء أبيه.
وخوّفوا بني أمية منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم [1] وطعنوا عليه في تولية ابنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما. وكان أشدّهم عليه في ذلك يزيد بن الوليد لأنه كان يتنسّك فكان الناس إلى قوله أميل. ثم فسدت اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري. وقالوا: إنما حبسه ونكبه لامتناعه من بيعة ولديه. ثم فسدت عليه قضاعة وكان اليمن وقضاعة أكثر جند الشام. واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف ابن عمر، وصنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنيّة بشأن خالد. فازداد واختفى. وأتوا إلى يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة. وشاور عمر بن زيد الحكمي فقال: شاور أخاك العبّاس وإلا فأظهر أنه قد بايعك، فإنّ الناس له أطوع. فشاور العبّاس فنهاه عن ذلك فلم ينته، ودعا الناس سرّا وكان بالبادية. وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يعظّم عليه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد، فأعظم ذلك سعيد وبعث بالكتاب إلى العبّاس فتهدّد أخاه يزيد فكتمه فصدّقه. ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكرا، معه سبعة نفر على الحمر. ودخل دمشق ليلا وقد بايع له أكثر أهلها سرّا وأهل المزّة.
وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج فاستوياها فنزل قطنا، واستخلف عليها ابنه محمدا وعلى شرطته أبو العاج كثيّر بن عبد الله السلميّ. ونمى الخبر إليهما فكذّباه وتواعد يزيد مع أصحابه بعد المغرب بباب الفراديس. ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة، ولما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين، وطرقوا باب المقصورة فأدخلهم الخادم فأخذوا أبا العاج وهو سكران
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 280: وقد اتخذ مائة جامعة لبني أمية.(3/133)
وخزان [1] بيت المال. وبعث عن محمد بن عبد الملك فأخذه وأخذوا سلاحا كثيرا كان بالمسجد، وأصبح الناس من الغد من النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزّة والسكاسك وأهل دارا وعيسى بن شيب الثعلبيّ في أهل درهة وحرستا، وحميد بن حبيب اللّخميّ في أهل دمّرّعران، وأهل حرش والحديثة ودرير كاوربعيّ بن هشام الحرثي في جماعة من عرّ وسلامان. ويعقوب بن عمير بن هانئ العبسيّ وجهينة ومواليهم. ثم بعث عبد الرحمن بن مصادي في مائتي فارس، فجاء بعبد الملك بن محمد بن الحجّاج من قصره على الأمان. ثم جهّز يزيد الجيش الى الوليد بمكانه من البادية مع عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك، ومنصور بن جمهور وقد كان الوليد لما بلغه الخبر بعث عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق فأقام بطريقة قليلا، ثم بايع ليزيد وأشار على الوليد أصحابه أن يلحق بحمص فيتحصّن بها. قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عبد الله بن عنبسة وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل فسار إلى قصر النعمان ابن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحّاك وغيره. وجاء كتاب العبّاس بن الوليد بأنه قادم عليه، وقاتلهم عبد العزيز ومنصور بعد أن بعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى الكتاب والسنّة. فقتله أصحاب الوليد واشتدّ القتال بينهم وبعث عبد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العبّاس بن الوليد أن يأتي بالوليد، فجاء به كرها إلى عبد العزيز وأرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف عنه فأبى. ثم قاتل قتالا شديدا حتى سمع النداء بقتله وسبّه من جوانب الحومة، فدخل القصر فأغلق الباب وطلب الكلام من أعلى القصر، فكلّمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكّره بحرمة وفعله فيهم فقال ابن عنبسة: إنّا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله، وشرب الخمر ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. قال: حسبك الله يا أخا السكاسك! فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإنّ فيما أحل الله سعة عما ذكرت. ثم رجع إلى الدار فجلس يقرأ في المصحف وقال: يوم كيوم عثمان فتسوّروا عليه وأخذ يزيد بن عنبسة بيده يقيه لا يريد قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه واجتزوا رأسه فساروا به إلى يزيد فأمر بنصبه، فتلطّف له يزيد بن فروة مولى
__________
[1] لعلها خزائن بيت المال.(3/134)
بني مرّة في المنع من ذلك، وقال: هذا ابن عمك وخليفة وإنما تنصب رءوس الخوارج ولا آمن أن يتعصب له أهل بيته. فلم يجبه، وأطافه بدمشق على رمح ثم دفع إلى أخيه سليمان بن يزيد وكان معهم عليه وكان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين لسنتين وثلاثة أشهر من بيعته. ولما قتل خطب الناس يزيد فذمّه وثلبه وأنه إنما قتله من أجل ذلك، ثم وعدهم بحسن الظفر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم وسدّ الثغور والعدل في العطاء والأرزاق ورفع الحجاب وإلّا فلكم ما شئتم من الخلع.
وكان يسمى الناقص لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة. وردّ العطاء كما كان أيام هشام وبايع لأخيه إبراهيم بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض طرقه [1] .
ولما قتل الوليد وكان قد حبس سليمان ابن عمّه هشام بعمان، خرج سليمان من الحبس وأخذ ما كان هناك من الأموال ونقله إلى دمشق. ثم بلغ مقتله إلى حمص وأنّ العبّاس بن الوليد أعان على قتله فانتقضوا وهدموا دار العبّاس وسبوها، وطلبوه فلحق بأخيه يزيد. وكاتبوا الأجناد في الطلب بدم يزيد وأمّروا عليهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك ومعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وراسلهم يزيد فطردوا رسوله فبعث أخاه مسرورا في الجيش فنزل حوّارين. ثم جاء سليمان بن هشام من [2] فردّ عليه ما أخذ الوليد من أموالهم، وبعث على الجيش وأمر أخاه مسرورا بالطاعة. واعتزم أهل حمص على المسير إلى دمشق فقال لهم مروان: ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هذا الجيش وإنما نقاتله قبل، فيكون ما بعده أهون علينا. فقال لهم السميط بن ثابت [3] : إنما يريد خلافكم وإنما هواه مع يزيد والقدرية، فقتلوه وولّوا عليهم محمدا السفياني وقصدوا دمشق، فاعترضهم ابن
__________
[1] بياض بالأصل وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 22: «شتم مروان بن محمد يزيد بن الوليد فقال: الناقص بن الوليد فسمّاه الناقص، فسمّاه الناس الناقص لذلك، وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بن يزيد بعمان» راجع الكامل لابن الأثير ج 5 ص 291- 292.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 293: «فنزلوا حوّارين ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام، فردّ عليه يزيد ما كان الوليد أخذه من أموالهم ... » وفي الطبري ج 9 ص 23 عبارة واحدة وهي «ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام» .
[3] وفي الكامل ج 5 ص 293: السّمط بن ثابت(3/135)
هشام بغدرا [1] فقاتلهم قتالا شديدا وبعث يزيد عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك في ثلاثة آلاف إلى ثنيّة العقاب وهشام بن مضاد في ألف وخمسمائة إلى عقبة السلاميّة. وبينما سالم يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنيّة العيقاب فانهزم أهل حمص، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الله القسريّ: الله الله على قومك يا سليمان. فكفّ الناس عنهم وبايعوا ليزيد. وأخذ أبا محمد السفياني ويزيد بن خالد ابن يزيد وبعثهما إلى يزيد فحبسهما أهـ. واستعمل على حمص معاوية بن يزيد بن الحصين وكان لما قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه وتولّى منهم سعيد وضبعان ابنا روح. وكان ولد سليمان ينزلون فلسطين فأحضروا يزيد بن سليمان وولّوه عليهم. وبلغ ذلك أهل الأردن فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك. وبعث يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني على ثمانين ألفا، وبعث إلى ابني روح بالإحسان والولاية، فرجعا بأهل فلسطين. وقدّم سليمان عسكرا من خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى والضياع وخشي أهل طبرية على من وراءهم، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك، ونزلوا بمنازلهم، فافترقت جموع الأردن وفلسطين وسار سليمان بن هشام ولحقه أهل الأردن فبايعوا ليزيد وسار إلى طبرية والرملة وأخذ على أهلهما البيعة ليزيد وولّى على فلسطين ضبعان بن روح وعلى الأردن إبراهيم بن الوليد.
ولاية منصور بن جمهور على العراق ثم ولاية عبد الله بن عمر
لما ولي يزيد استعمل منصور بن جمهور على العراق وخراسان ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانيّة، وحنقا على يوسف بقتله خالد القسري. ولما بلغ يوسف قتل الوليد ارتاب في أمره، وحبس اليمانيّة لما تجتمع المضريّة عليه. فلم ير عندهم ما يحب فأطلق اليمانية. وأقبل منصور وكتب من عين البقر [2] إلى قوّاد الشام في الحيرة بأخذ يوسف وعمّاله، فأظهر يوسف الطاعة ولما قرب منصور
__________
[1] وفي الكامل ج 5 ص 293: عذراء.
[2] وفي الكامل ج 5 ص 294: عين التمر.(3/136)
دخل دار عمر ابن محمد بن سعيد بن العاص ولحق منها بالشام سرّا وبعث يزيد بن الوليد خمسين فارسا لتلقّيه. فلما أحسّ بهم هرب واختفى، ووجد بين النساء فأخذوه وجاءوا به إلى يزيد فحبسه مع ابني الوليد، حتى قتلهم مولى ليزيد بن خالد القسري.
ولما دخل منصور بن جمهور الكوفة لأيام خلت من رجب أفاض العطاء وأطلق من كان في السجون من العمّال وأهل الخراج، واستعمل أخاه على الري وخراسان، فسار لذلك فامتنع نصر بن سيّار من تسليم خراسان له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور لشهرين من ولايته، وولّى على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وقال: سر إلى أهل العراق فإنّ أهله يميلون إلى أبيك. فسار وانقاد له أهل الشام وسلّم إليه منصور العمل، وانصرف إلى الشام وبعث عبد الله العمّال على الجهات واستعمل عمر بن الغضبان بن القبعثرى على الشرطة وخراج السواد والمحاسبات وكتب إلى نصر بن سيّار بعهده على خراسان.
انتقاض أهل اليمامة
ولما قتل الوليد كان عليّ بن المهاجر على اليمامة عاملا ليوسف بن عمر فجمع له المهير بن سليمان بن هلال من بني الدول بن خولة [1] . وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر فالتقوا وانهزم عليّ وقتل ناس من أصحابه، وهرب إلى المدينة وملك المهير اليمامة ثم مات. واستخلف عليها عبد الله بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة. من الدؤل فبعث المندلب [2] بن إدريس الحنفي على الفلج قرية من قرى بني عامر بن صعصعة فجمع له بني كعب بن ربيعة بن عامر وبني عمير فقتلوا المندلب وأكثر أصحابه. فجمع عبد الله ابن النعمان جموعا من حنيفة وغيرها وغزا الفلج وهزم بني عقيل وبني بشير وبني جعدة وقتل أكثرهم. ثم اجتمعوا ومعهم نمير فلقوا بعض حنيفة بالصحراء فقتلوهم وسلبوا نساءهم، ثم جمع عمر بن الوازع الحنفي الجموع وقال لست بدون عبد الله بن النعمان وهذه فترة من السلطان. وأغار وامتلأت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه وأقبلت بنو عامر والتقوا فانهزم بنو حنيفة ومات أكثرهم من العطش. ورجع بنو عامر بالأسرى والنساء ولحق عمر بن الوازع باليمامة ثم جمع
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 298: «المهير بن سلمى بن هلال، أحد بني الدؤل بن حنيفة.»
[2] وفي الكامل لابن الأثير: المندلث بن إدريس الحنفي.(3/137)
عبيد الله بن مسلم الحنفي جمعا وأغار على قشير وعكل فقتل منهم عشرين وسمّى المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة واليا على اليمامة من قبل أبيه حتى ولي العراق لمروان فتعرّض المثنّى لبني عامر وضرب عدّة من بني حنيفة وحلقهم. ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفيا حتى قدم كسرى بن عبيد الله الهاشمي واليا على العامّة لبني العبّاس ودلّ عليه فقتله.
اختلاف أهل خراسان
ولما قتل الوليد وقدم على نصر عهد خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز صاحب العراق، انتقض عليه جديع بن عليّ الكرماني وهو أزدي. وإنما سمى الكرماني لأنه ولد بكرمان وقال لأصحابه: هذه فتنة فانظروا لأموركم رجلا.
فقالوا له: أنت! وولّوه. وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما ولي نصر عزله عن الرئاسة بغيره فتباعد ما بينهما. وأكثر على نصر أصحابه في أمر الكرماني، فاعتزم على حبسه، وأرسل صاحب حرسه ليأتي به.
وأراد الأزد أن يخلّصوه فأبى، وجاء إلى نصر يعدّد عليه أياديه قبله من مراجعة يوسف بن عمر في قتله، والغرامة عنه، وتقديم ابنه للرئاسة. ثم قال: فبدلت ذلك بالإجماع على الفتنة، فأخذ يعتذر ويتنصّل، وأصحاب نصر يتحاملون عليه مثل مسلم بن أحور وعصمة بن عبد الله الأسدي. ثم ضربه وحبسه آخر رمضان سنة ست وعشرين. ثم نقب السجن واجتمع له ثلاثة آلاف، وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على الكتاب والسنّة. فلما جاء الكرماني قدّمه عبد الملك ثم عسكر نصر على باب مروالروذ، واجتمع إليه الناس، وبعث سالم بن أحور في الجموع إلى الكرماني وسفر الناس بينهما على أن يؤمّنه نصر ولا يحبسه. وأجاب نصر إلى ذلك وجاء الكرماني إليه وأمره بلزوم بيته. ثم بلغه عن نصر شيء فعاد إلى حاله، وكلّموه فيه فأمّنه، وجاء إليه وأعطى أصحابه عشرة عشرة. فلما عزل جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز خطب نصر قدّام بن جمهور وأثنى على عبد الله، فغضب الكرماني لابن الجمهور وعاد لجمع المال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة ويصلّي خارج المقصورة، ويدخل فيسلّم ولا يحبس. ثم أظهر الخلاف وبعث إليه نصر سالم بن أحور فأفحش في(3/138)
صرفه وسفر بينهما الناس في الصلح على أن يخرج الكرماني من خراسان وتجهّز للخروج إلى جرجان.
أمان الحرث بن شريح وخروجه من دار الحرث
لما وقعت الفتنة بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر أن يستظهر الكرماني عليه بالحرث بن شريح، وكان مقيما ببلاد الترك منذ اثنتي عشرة سنة كما مرّ، فأرسل مقاتل بن حيّان النبطي يراوده على الخروج من بلاد الترك، بخلاف ما يقتضي له الأمان من يزيد بن الوليد وبعث خالد بن زياد البديّ الترمذيّ وخالد بن عمرة مولى بني عامر لاقتضاء الأمان له من يزيد، فكتب له الأمان وأمر نصرا أن يردّ عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة أن يكتب لهما بذلك أيضا. ولما وصل إلى نصر بعث إلى الحرث بذلك فلقيه الرسول راجعا مع مقاتل بن حيّان وأصحابه ووصل سنة سبع وعشرين في جمادى الأخيرة وأنزله نصر بمرو، وردّ عليه ما أخذ له، وأجرى عليه كل يوم خمسين درهما وأطلق أهله وولده. وعرض عليه أن يولّيه ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل. وقال: لست من الدنيا واللذات في شيء، وإنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنة وبذلك أساعدك على عدوّك، وإنّما خرجت من البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور فكيف تزيدني عليه؟ وبعث إلى الكرماني: إن عمل نصر بالكتاب عضدته في أمر الله ولا أعتبك إن ضمنت لي القيام بالعدل والسنّة. ثم دعا قبائل تميم فأجاب منهم ومن غيرهم كثير واجتمع إليه ثلاثة آلاف وأقام على ذلك.
انتقاض مروان لما قتل الوليد
كان مروان بن محمد بن مروان على أرمينية وكان على الجزيرة عبدة بن رياح العباديّ. وكان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه فبعث معه مروان ابنه عبد الملك. فلما انصرفوا من الصائفة لقيهم بجرزان حين مقتل الوليد، وسار عبدة عن الجزيرة.
فوثب عبد الملك بالجزيرة وجرزان فضبطهما، وكتب إلى أبيه بأرمينية يستحثه، فسار طالبا بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها. وكان معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين، وكان صاحب فتنة. وكان هشام قد حبسه على إفساد(3/139)
الجند بإفريقية عند مقتل كلثوم بن عيّاض، وشفع فيه مروان فأطلقاه واتخذا عنده يدا. فلما سار من أرمينية داخل ثابت أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات واجتمع له الكبير من جند مروان وناهضه القتال. ثم غلبهم وانقادوا له وحبس ثابت بن نعيم وأولاده. ثم أطلقهم من حرّان إلى الشام وجمع نيّفا وعشرين ألفا من الجزيرة ليسير بهم إلى يزيد، وكتب إليه يشترط ما كان عبد الملك ولّى أباه محمدا من الجزيرة والموصل وأذربيجان، فأعطاه يزيد ولاية ذلك وبايع له مروان وانصرف.
وفاة يزيد وبيعة أخيه إبراهيم
ثم توفي يزيد آخر سنة ست وعشرين لخمسة أشهر من ولايته. ويقال إنه كان قدريا وبايعوا لأخيه إبراهيم من بعده، إلا أنه انتقض عليه الناس ولم يتم له الأمر وكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وأقام على ذلك نحوا من ثلاثة أشهر ثم خلعه مروان ابن محمد على ما يذكر وهلك سنة اثنتين وثلاثين [1] .
مسير مروان إلى الشام
ولما توفي يزيد وولي أخوه إبراهيم وكان مضعفا، انتقض عليه مروان لوقته، وسار إلى دمشق. فلما انتهى إلى قنّسرين وكان عليها بشر بن الوليد عاملا لأخيه يزيد ومعه أخوهما مسرور، ودعاهم مروان إلى بيعته ومال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة، وخرج بشر للقاء مروان فلما تراءى الجمعان مال ابن هبيرة وقيس إلى مروان وأسلموا بشرا ومسرورا فأخذهما مروان وحبسهما، وسار بأهل قنّسرين ومن معه إلى حمص، وكانوا امتنعوا من بيعة إبراهيم. فوظه إليهم عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك في جند أهل دمشق. فكان يحاصرهم. فلما دخل مروان رحل عبد العزيز عنهم، وبايعوا مروان وخرج للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفا ومروان في ثمانين فدعاهم إلى الصلح وترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا ابنيه الحكم وعثمان وليي عهده فأبوا وقاتلوه. وسرّب عسكرا جاءوهم من خلفهم فانهزموا، وأثخن فيهم أهل حمص فقتلوا
__________
[1] اي سنة اثنتين وثلاثين ومائة.(3/140)
منهم نحوا من سبعة عشر ألفا وأسروا مثلها. ورجع مروان بالفلّ وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد وحبس يزيد بن العقّار والوليد بن مصاد الكلبيّين فهلكا في حبسه. وكان ممن شهد قتل الوليد ابن الحجّاج وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق فاجتمع له مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجّاج وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان، خشية أن يطلقهما مروان فيثأرا بأبيهما. وولوا ذلك يزيد بن خالد فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما وأخرج يوسف ابن عمر فقتله، واعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس فلم يطيقوا فتحة، وأعجلهم خيل مروان فدخل دمشق وأتى بأبي الوليد ويوسف بن عمر مقتولين فدفنهما، وأتى بأبي عمر السفياني في قيوده فسلّم عليه بالخلافة وقال: إنّ ولي العهد جعلها لك. ثم بايعه وسمع الناس فبايعوه وكان أوّلهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وأهل حمص. ثم رجع مروان إلى خراسان واستأمن له إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام وقدما عليه، وكان قدوم سليمان من تدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة فبايعوا لمروان.
انتقاض الناس على مروان
ولما رجع إلى خراسان راسل ثابت بن نعيم من فلسطين أهل حمص في الخلاف على مروان فأجابوه وبعثوا إلى من كان بتدمر ممن طلب وجاء الأصبغ بن دؤالة الكلبيّ وأولاده، ومعاوية السّكسكيّ فارس أهل الشام وغيرها في ألف من فرسانهم، ودخلوا حمص ليلة الفطر من سنة سبعة وعشرين وزحف مروان في العساكر من حرّان ومعه إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام، ونزل عليهم ثالث يوم الفطر، وقد سدّوا أبوابهم فنادى مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا لم ننكث ونحن على الطاعة.
ودخل عمر الوضّاح في ثلاثة آلاف فقاتله المحتشدون هنالك للخلاف وخرجوا من الباب الآخر وجفل مروان في اتباعهم وعلا الباب. فقتل منهم نحو خمسمائة وصلبهم وهدم من سورها علوه وأفلت الأصبغ بن دؤالة وابنه قرافصة. ثم بلغ مروان وهو بحمص خلاف أهل الغوطة وأنهم ولّوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحاصروا دمشق وأميرها زامل بن عمر، فبعث مروان إليهم ابا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث، وعمر بن الوضّاح في عشرة آلاف. فلما دنوا من دمشق حملوا عليهم، وخرج إليهم من كان بالمدينة فهزموهم وقتلوا يزيد بن خالد وبعثوا برأسه إلى مروان وأحرقوا المزّة(3/141)
وقرى البرامة. ثم خرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين وحاصر طبرية وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم. فبعث مروان إليه أبا الورد، فلما قرب منه خرج أهل طبرية عليه فهزموه ولقيه أبو الورد منهزما فهزمه أخرى، وافترق أصحابه وأسر ثلاثة من ولده وبعث بهم إلى مروان. وتغيب ثابت وولّى مروان على فلسطين الرّماحس بن عبد العزيز الكنانيّ فظفر بثابت بعد شهرين وبعث به إلى مروان موثقا فقطعه وأولاده الثلاثة، وبعثهم إلى دمشق فصلبوه. ثم بايع لابنيه عبد الله وعبيد الله وزوجهما بنتي هشام، ثم سار إلى ترمذ [1] من دير أيوب وكانوا قد غوروا المياه فاستعمل المزاد والقرب والإبل وبعث وزيره الأبرش الكلبيّ إليهم وأجابوا إلى الطاعة. وهرب نفر منهم إلى البلد وهدم الأبرش سورها ورجع بمن أطاع إلى مروان ثم بعث مروان يزيد ابن عمر بن هبيرة إلى العراق لقتال الضحّاك الشيبانيّ الخارجي بالكوفة وأمدّه ببعوث أهل الشام ونزل قرقيسيا ليقدّم ابن هبيرة لقتال الضحّاك. وكان سليمان بن هشام قد استأذنه بالمقام في الرصافة أياما ويلحق به فرجعت طائفة عظيمة من أهل الشام الذين بعثهم مروان مع ابن هبيرة فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان بن هشام بالبيعة فأجاب، وسار معهم إلى قنّسرين فعسكر بها، وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه. وبلغ الخبر مروان فكتب إلى ابن هبيرة بالمقام ورجع من قرقيسيا إلى سليمان فقاتله فهزمه، واستباح معسكره وأثخن فيهم وقتل أسراهم، وقتل إبراهيم أكبر ولد سليمان وخالد بن هشام المخزومي جا [2] أبيه فيما ينيف على ثلاثين ألفا وهرب سليمان إلى حمص في الفل فعسكر بها وبنى ما كان تهدم من سورها. وسار مروان إليه فلما قرب منه بيّته جماعة من أصحاب سليمان تبايعوا على الموت، وكان على احتراس وتعبية فترك القتال بالليل وكمنوا له في طريقه من الغد فقاتلهم إلى آخر النهار، وقتل منهم نحوا من ستمائة وجاءوا إلى سليمان فلحق بتدمر وخلف أخاه سعيدا بحمص وحاصره مروان عشرة أشهر ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا حتى استأمنوا
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 330: وكان مروان بدير أيوب فبايع لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك وجمع كذلك بني أمية، واستقام له الشام ما خلا تدمر ... وكانوا قد عوّروا المياه فاستعمل المزاد والقرب والإبل ... »
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص: ومثل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وخالد بن هشام المخزوميّ خال هشام بن عبد الملك، وادّعى كثير من الأسراء للجند انّهم عبيد، فكف عن قتلهم وامر ببيعهم فيمن يزيد مع من أصيب من عسكرهم ومضى سليمان حتى انتهى إلى حمص ... »(3/142)
له وأمكنوه من سعيد بن هشام وآخرين شرطهم عليهم. ثم سار لقتال الضحّاك الخارجيّ بالكوفة. وقيل إنّ سليمان بن هشام لما انهزم بقنّسرين لحق بعبد الله ابن عمر بن عبد العزيز بالعراق، وسار معه إلى الضحّاك فبايعوه وكان النصر بن سعيد قد ولي العراق، فلما اجتمعوا على قتاله سار نحو مروان فاعترضه بالقادسية جنود الضحّاك من الكوفة مع ابن ملحان فقتله النضر. وولّى الضحّاك مكانه بالكوفة المثنّى بن عمران وسار الضحّاك إلى الموصل وأقبل ابن هبيرة إلى الكوفة فنزل بعيد التمر [1] وسار إليه المثنّى فهزمه ابن هبيرة وقتله وعدّة من قوّاد الضحّاك. وانهزم الخوارج ومعهم منصور بن جمهور ثم جاءوا إلى الكوفة واحتشدوا وساروا للقاء ابن هبيرة فهزمهم ثانية، ودخل الكوفة وسار إلى واسط وأرسل الضحّاك عبيدة بن سوار الثعلبيّ لقتاله، فنزل الصّراة وقاتله ابن هبيرة هنالك فانهزمت الخوارج كما يأتي في أخبارهم.
ظهور عبد الله بن معاوية
كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الكوفة في إخوانه وولده، فأكرمهم عبد الله وأجرى عليهم ثلاثمائة درهم في كل يوم وأقاموا كذلك. ولما بويع إبراهيم بن الوليد بعد أخيه واضطرب الشام وسار مروان إلى دمشق، حبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده، وزاد في رزقه بعده لمروان يبايعه ويقاتله [2] . فلما ظفر مروان بإبراهيم سار إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة وقاتله عبد الله بن عمر ثم خاف إسماعيل أن يفتضح فكفوا خبرهم فوقعت العصبية بين الناس من إيثار عبد الله بن عمر بعضا من مضر وربيعة بالعطاء دون غيرهم، فثارت
__________
[1] اسمها عين التمر وقد مر ذكرها في مكان سابق وقد ذكرها ابن خلدون عين البقر وعين التمر اسمها الصحيح وما تزال إلى آلاف تعرف بهذا الاسم وهي تقع إلى الجنوب الغربي من كربلاء ويسمونها شفاثة أيضا» .
[2] العبارة هنا غير واضحة وفي الطبري ج 8 ص 49: فاحتبس عبد الله بن عمر عبد الله ابن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه واعده لمروان بن محمد ان هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له ويقاتل به مروان.»(3/143)
ربيعة فبعث إليهم أخاه عاصما ملقيا بيده فاستحيوا ورجعوا وأفاض [1] في رءوس الناس يستميلهم. فاستنفر الناس واجتمعت الشيعة إلى عبد الله بن معاوية فبايعوه وأدخلوه قصر الكوفة وأخرجوا منه عاصم بن عمر فلحق بأخيه بالحيرة وبايع الكوفيون ابن معاوية ومنهم منصور بن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء، وجاءته البيعة من المدائن وجمع الناس وخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة، فسرّح للقائه مولاه. ثم خرج في أثره وتلاقيا ونزع منصور بن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء. وجاءته البيعة من ابن عمر ولحقوا بالحيرة وانهزم ابن معاوية إلى الكوفة. وكان عمر بن الغضبان قد حمل على ميمنة ابن عمر فكشفها وانهزم أصحابه من ورائه، فرجع إلى الكوفة وأقام مع ابن معاوية في القصر، ومعهم ربيعة والزيدية على أفواه السكك يقاتلون ابن عمر. ثم أخذ ربيعة الأمان لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية، وسار ابن معاوية إلى المدائن وتبعه قوم من أهل الكوفة فتغلب بهم على حلوان والجبل وهمذان وأصبهان والري إلى أن كان من خبره ما نذكره.
غلبة الكرماني على مرو وقتله الحرث بن شريح
لما ولي مروان وولّى على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كتب يزيد إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد فارتاب الحرث وقال: ليس لي أمان من مروان وخرج فعسكر وطلب من نصر أن يجعل الأمر شورى فأبى، وقرأ جهم بن صفوان مولى راسب وهو رأس الجهميّة سيرته وما يدعو إليه على الناس، فرضوا وكثر جمعه. وأرسل إلى نصر في عزل سالم بن أحور عن الشرطة، وتغيير العمّال.
فتقرّر الأمر بينهما على أن يردوا ذلك إلى رجال أربعة: مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيّان بتعيين نصر والمغيرة بن شعبة الجهضمي [2] ومعاذ بن جبلة بتعيين الحرث.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 8 ص 50: «وبلغ الخبر ابن عمر فأرسل إليهم أخاه عاصما فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا فالقى نفسه بينهم وقال: هذه يدي لكم فاحكموا فاستحيوا وعظموا عاصما وتشكروا له، واقبل على صاحبيهم فسكتا وكفّا، فلما امسى ابن عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بن الغضبان بمائة ألف فقسمها في قومه بني همام وأرسل إلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف، فقسمها في قومه وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة آلاف وإلى عثمان بن الخيبري بعشرة آلاف» .
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 342: المغيرة بن شعبة الجهضمي.(3/144)
وأمر نصر أن يكتب بولاية سمرقند وطخارستان لمن يرضاه هؤلاء الأربعة. وكان الحرث يقول إنه صاحب السور وإنه يهدم سور دمشق ويزيل ملك بني أمية فأرسل إليه نصر: إن كان ما تقوله حقا فتعال نسير إلى دمشق، وإلا فقد أهلكت عشيرتك.
فقال الحرث: هو حق لكن لا تبايعني عليه أصحابي. قال: فكيف تهلك عشرين ألفا من ربيعة واليمن؟ ثم عرض عليه ولاية ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل.
فقال له: فابدأ بالكرمانيّ فأقتله وأنا في طاعتك. ثم اتفقا على تحكيم جهم ومقاتل، فاحتكما بأن يعزله نصر ويكون الأمر شورى. فأتى نصر فخالفه الحرث، وقدم على نصر جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة منهم عاصم بن عمير الضريمي وأبو الديّال الناجي ومسلم بن عبد الرحمن وغيرهم، فكانوا معه وأمر الحرث أن يقرأ سيرته في الأسواق والمساجد، وأتاه الناس وقرئت على باب نصر.
فضرب غلمان نصر قارئها فنادى بهم وتجهّزوا للحرب. ونقب الحرث سور مرو من الليل ودخل بالنهار فاقتتلوا وقتل جهم بن مسعود الناجي وأعين مولى حيّان ونهبوا منزل مسلم بن أحور، فركب سالم حين أصبح فقاتل الحرث وهزمه، وجاء إلى عسكره فقتل كاتبه وبعث نصر إلى الكرمانيّ وكان في الأزد وربيعة وكان موافقا للحرث لما قدّمناه، فجاءه نصر على الأمان وحادثهم وأغلظوا له في القول فارتاب ومضى، وقتل من أصحابه جهم بن صفوان. ثم بعث الحرث ابنه حاتما إلى الكرمانيّ يستجيشه فقال له أصحابه: دع عدويك يضطربان، ثم ضرب بعد يومين وناوش القتال أصحاب نصر فهزمهم، وصرع تميم بن نصر ومسلم بن أحور وخرج نصر من مرو من الغد فقاتلهم ثلاثة أيام وانهزم الكرمانيّ وأصحابه ونادى مناد يا معشر ربيعة واليمن إنّ أبا سيّار قتل فانهزمت مضر ونصر وترجل ابنه تميم فقاتل وأرسل إليه الحرث إني كافّ عنك فإنّ اليمانية يعيّرونني بانهزامكم، فاجعل أصحابك إزاء الكرمانيّ، ولما انهزم نصر غلب الكرمانيّ على مرو ونهب الأموال فأنكر ذلك عليه الحرث، ثم اعتزل عن الحرث بشر بن جرموز الضبيّ في خمسة آلاف وقال: إنما كنا نقاتل معك طلبا للعدل، فأمّا إن اتبعت الكرماني للعصبية فنحن لا نقاتل فدعا الحرث الكرماني إلى الشورى فأبى، فانتقل الحرث عنه وأقاموا أياما. ثم ثلم الحرث السور ودخل البلد وقاتله الكرمانيّ قتالا شديدا فهزمه وقتله وأخاه سوادة. واستولى الكرمانيّ على مرو وقيل إنّ الكرمانيّ خرج مع الحرث لقتال(3/145)
بشر بن جرموز ثم ندم الحرث على اتباع الكرماني وأتى عسكر بشر فأقام معهم وبعث إلى مضر من عسكر الكرماني فساروا إليهم وكانوا يقتتلون كل يوم ويرجعون إلى خنادقهم ثم نقب الحرث بعد أيام سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني واقتتلوا فقتل الحرث وأخاه وبشر بن جرموز وجماعة من بني تميم وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة فانهزم الباقون وصفت مرو لليمن وهدموا دور المضريّة.
ظهور الدعوة العباسية بخراسان
قد ذكرنا أنّ أبا مسلم كان يتردّد إلى الإمام من خراسان ثم استدعاه سنة تسعة وعشرين ليسأله عن الناس فسار في سبعين من النقباء مؤدين بالحج ومر بنسا فاستدعى أسيدا فأخبره بأن كتب الإمام جاءت إليه مع الأزهر بن شعيب وعبد المالك بن سعيد، ودفع إليه الكتب ثم لقيه بقومس كتاب الإمام إليه وإلى سليمان بن كثيّر إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث يلقاك كتابي ووجّه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض وجاء أبو مسلم إلى مرو وأعطى كتاب الإمام لسليمان بن كثيّر وفيه الأمر بإظهار الدعوة، فنصبوا أبا مسلم وقالوا رجل من أهل البيت ودعوا إلى طاعة بني العبّاس وكتبوا إلى الدعاة بإظهار الأمر، وترك أبو مسلم بقرية من قرى مرو في شعبان من سنة تسع وعشرين ثم بثوا الدعاة في طخارستان ومروالرود والطالقان وخوارزم، وأنهم إن أعجلهم عدوّهم دون الوقت عاجلوه وجرّدوا السيوف للجهاد، ومن شغله العدوّ عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعد الوقت. ثم سار أبو مسلم فنزل على سليمان بن كثيّر الخزاعي آخر رمضان ونصر بن سيّار يقاتل الكرماني وشيبان فعقد اللواء الّذي بعث به الإمام إليه وكان يدعى الظلّ على رمح طوله أربعة عشر ذراعا. ثم عقد الراية التي بعثها معه وتسمى السحاب وهو يتلو: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ 22: 39 الآية. ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثيّر وأخوه سليمان ومواليه ومن أجاب الدعوة من أهل تلك القرى وأوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم في خرقان فأصبحوا عنده ثم قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضّاح في سبعمائة راجل. وقدم من الدعاة أبو العبّاس المروزي وحصن أبو مسلم بسفيدنج ورمّها وحضر عيد الفطر، فصلى سليمان بن كثيّر وخطب على المنبر في العسكر وبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة. وكبر في الأولى ست تكبيرات وفي الثانية خمسا خلاف ما كان بنو أمية(3/146)
يفعلون. وكل ذلك مما سنّه لهم الإمام وأبوه. ثم انصرفوا من الصلاة مع الشيعة فطمعوا وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب نصر بن سيار يبدأ باسمه فلما قوى بمن اجتمع إليه كتب إلى نصر وبدأ بنفسه وقال: (أمّا بعد) فإنّ الله تباركت أسماؤه عيّر قوما في القرآن فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ 35: 42 (إلى) وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا 35: 43 فاستعظم الكتاب وبعث مولاه يزيد لمحاربة أبي مسلم لثمانية عشر شهرا من ظهوره فبعث إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي فدعاه إلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستكبروا فقاتلهم مالك وهو في مائتين يوما بكماله.
وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبيّ وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى فسرّحهم إلى مالك فقوي مالك بهم، وقاتلوا القوم فحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر فأسره، وانهزم أصحابه وأرسله الطائي إلى أبي مسلم ومعه رءوس القتلى فأحسن أبو مسلم إلى يزيد وعالجه، ولما اندملت جراحة قال: إن شئت أقمت عندنا وإلا رجعت إلى مولاك سالما بعد أن تعاهدنا على أن لا تحاربنا ولا تكذب علينا فرجع إلى مولاه. وتفرس نصر أنه عاهدهم فقال: والله هو ما ظننت وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم وأنهم الله يصلون الصلاة لوقتها بأذان وإقامة ويتلون القرآن ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو ولولا أنك مولاي لأقمت عندهم. وكان الناس يرجفون عنهم بعبادة الأوثان واستحلال الحرام. ثم غلب حازم بن خزيمة على مروالروذ وقتل عامل نصر بها وكان من بني تميم من الشيعة وأراد بنو تميم منعه فقال: أنا منكم فإن ظفرت فهي لكم وإن قتلت كفيتم أمري فنزل قرية زاها. ثم تغلب على أهلها فقتل بشر بن جعفر السغدي عامل نصر عليها أوائل ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن حازم. وقيل في أمر أبي مسلم غير هذا وأنّ إبراهيم الإمام أزوج أبا مسلم لما بعثه خراسان بابنه أبي النّجم وكتب إلى النقباء بطاعته. وكان أبو مسلم من سواد الكوفة فهزما فانتهى [1] لإدريس بن معقل العجليّ ثم سار إلى ولاية محمد بن علي، ثم ابنه إبراهيم، ثم للأئمة من ولاية [2] من ولده وقدم خراسان وهو حديث
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 361: «وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة وكان قهرمانا لإدريس بن معقل العجليّ.»
[2] الظاهر من المعنى ان «من ولاية زائدة» ولا لزوم لوجودها.(3/147)
السن واستصغره سليمان بن كثيّر فردّه وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا وراء النهر، فلما جاء إلى مرو أقرأه كتاب الإمام وسألهم عن أبي مسلم فأخبروه أنّ سليمان بن كثيّر ردّه لحداثة سنّه وأنه لا يقدر على الأمر، فنخاف على أنفسنا وعلى من يدعوه فقال لهم أبو داود: إنّ الله بعث نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى جميع خلقه، وأنزل عليه كتابه بشرائعه وأنبأه بما كان وما يكون وخلف علمه رحمة لأمته وعمله إنما هو عند عترته وأهل بيته وهم معدن العلم وورثة الرسول فيما علمه الله أتشكون في شيء من ذلك؟ قالوا: لا. قال: فقد شككتم والرجل لم يبعثه إليكم حتى علم أهليته لما يقوم به فبعثوا عن أبي مسلم وردّوه من قومس بقول أبي داود وولوه أمرهم وأطاعوه ولم تزل في نفس أبي مسلم من سليمان بن كثيّر. ثم بعث الدعاة ودخل الناس في الدعوة أفواجا واستدعاه الإمام سنة تسع وعشرين أن يوافيه بالمرسوم ليأمره في إظهار الدعوة وأن يقدم معه قحطبة بن شبيب ويحمل ما اجتمع عنده من الأموال فسار في جماعة من النقباء والشيعة فلقيه كتاب الإمام بقومس يأمره بالرجوع وإظهار الدعوة بخراسان، وبعث قحطبة بالمال وأنّ قحطبة سار إلى جرجان. واستدعى خالد بن برمك وأبا عون فقدما بما عندهما من مال الشيعة فسار به نحو الإمام.
مقتل الكرماني
قد ذكرنا من قبل أنّ الكرماني قتل الحرث بن شريح فخلصت له مرو وتنحّى نصر عنها ثم بعث نصر سالم بن أحور في رابطته وفرسانه إلى مرو فوجد يحيي بن نعيم الشّيبانيّ في ألف رجل من ربيعة ومحمد بن المثنّى في سبعمائة من الأزد وأبو الحسن ابن الشيخ في ألف منهم والحربي السغدي [1] في ألف من اليمن. فتلاحى سالم وابن المثنّى وشتم سالم الكرماني فقاتلوه فهزموه وقتل من أصحابه نحو مائة. فبعث نصر بعده عصمة بن عبد الله الأسديّ فكان بينهم مثل ما كان أوّلا، فقاتلهم محمد السغدي، فانهزم السغدي وقتل من أصحابه أربعمائة. ورجع إلى نصر فبعث مالك بن عمر التميميّ فاقتتلوا كذلك وانهزم مالك وقتل من أصحابه سبعمائة ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة. ولما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنه لا مدد لهم جعل يكتب إلى شيبان الخارجي يذمّ اليمانية تارة ومضر أخرى ويوصي
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 363: الجرجيّ السعدي.(3/148)
الرسول بكتاب مضر أن يتعرّض لليمانيّة ليقرؤا ذمّ مضر والرسول بكتاب اليمانيّة أن يتعرّض لمضر ليقرؤا ذمّ اليمانيّة حتى صار هوى الفريقين معه ثم كتب إلى نصر بن سيّار والكرماني: أنّ الإمام أوصاني بكم ولا أعد ورأيه فيكم. ثم كتب يستدعي الشيعة أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا ومقاتل بن حكيم بن غزوان وكانوا أوّل من سوّد ونادوا يا محمد يا منصور! ثم سوّد أهل أبي ورد ومروالروذ وقرى مرو فاستدعاهم أبو مسلم وأقبل فنزل بين خندق الكرماني وخندق نصر وهابه الفريقان وبعث إلى الكرماني إني معك وقبل فانضم أبو مسلم إليه، وكتب نصر بن سيّار إلى الكرماني يحذّره منه ويشير عليه بدخول مرو ليصالحه فدخل ثم خرج من الغد، وأرسل إلى نصر في إتمام الصلح في مائتي فارس، فرأى نصر فيه غرّة فبعث إليه ثلاثمائة فارس فقتلوه. وسار ابنه إلى أبي مسلم وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة إلى بعض الدور. ودخل أبو مسلم مرو فبايعه عليّ بن الكرماني، وقال له أبو مسلم أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. وكان نصر حين نزل أبو مسلم بين خندقه وخندق الكرماني ورأى قوّته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بخروجه وكثرة من معه ودعائه لإبراهيم بن محمد:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكو ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام
فإن لم تطفئوها يخرجوها ... مسجّرة يشيب لها الغلام
أقول من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام
فإن يك قومنا أضحوا نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام
تعزّي عن رجالك ثمّ قولي ... على الإسلام والعرب السلام.
فوجده مشتغلا بحرب الضحّاك بن قيس فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحثهم التلول قبلك. فقال نصر: أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده.
وصادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثورهم على كتاب من إبراهيم الإمام لابي مسلم يوبّخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكنته ويأمره أن لا يدع بخراسان متكلّما بالعربية. فلما قرأ الكتاب بعث إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحيسة [1] فيبعث إليه بإبراهيم بن محمد مشدود الوثاق فحبسه مروان.
__________
[1] وفي الكامل ج 5 ص 366: الى الحميمة.(3/149)
اجتماع أهل خراسان على قتل أبي مسلم
لما أظهر أبو مسلم أمره سارع إليه الناس، وكان أهل مرو يأتونه ولا يمنعهم نصر، وكان الكرماني وشيبان الخارجي لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان وكان أبو مسلم ليس له حرس ولا حجّاب ولا غلظة الملك، فكان الناس يأنسون به لذلك، وأرسل نصر إلى شيبان الخارجي في الصلح ليتفرّغ لقتال أبي مسلم، إمّا أن يكون معه أو يكفّ عنه، ثم نعود إلى ما كنا فيه فهمّ شيبان بذلك، وكتب أبو مسلم إلى الكرمانيّ فحرّضه على منع شيبان من ذلك فدخل عليه وثناه عنه ثم بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة فملكها وطرد عنها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي عامل نصر. فجاء يحيي بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ إلى الكرماني وشيبان وأغراهما بمصالحة نصر وقال: إن صالحتم نصرا قاتله أبو مسلم وترككم لأنّ أمر خراسان لمضر وإن لم تصالحوه صالحه وقاتلكم فقدّموا نصر قبلكم. فأرسل شيبان إلى نصر في الموادعة فأجلب وجاء مسلم بن أحور بكتب الموادعة فكتبوها وبعث أبو مسلم إلى شيبان في موادعة ثلاثة أشهر فقال ابن الكرمانيّ إذا ما صالحت نصرا إنما صالحه شيبان وأنا موتور بأبي ثم عاود القتال وقعد شيبان عن نصره وقال: لا يحلّ الغدر فاستنصر ابن الكرمانيّ بأبي مسلم فأقبل حتى نزل الماخران لاثنتين وأربعين يوما من نزوله يسفيدنج وخندق على معسكره وجعل له بابين وعلى شرطته مالك بن الهيثم وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند أبا صالح كامل بن المظفّر وعلى الرسائل أسلم بن صبيح وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب وكان القاسم يصلي بأبي مسلم ويقرأ القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم وسالف بني أميّة ولما نزل أبو مسلم الماخران أرسل إلى ابن الكرمانيّ بأنه معه فطلب لقاءه فجاءه أبو مسلم وأقام عنده يومين ثم رجع وذلك أوّل المحرّم سنة ثلاثين [1] ثم عرض الجند وأمر كامل ابن مظفّر بكتب أسمائهم وأنسابهم في دفتر فبلغت عدّته سبعة آلاف ثم إن القبائل من ربيعة ومضر واليمن توادعوا على وضع الحرب والاجتماع على قتال أبي مسلم فعظم ذلك عليه وتحوّل عن الماخران لأربعة أشهر من نزولها لأنها كانت
__________
[1] اي سنة ثلاثين ومائة.(3/150)
تحت الماء وخشي أن يقطع فتحوّل إلى طبسين وخندق بها، وخندق نصر بن سيّار على نهر عياض وأنزل عمّاله بالبلاد، فأنزل أبا الدّيال في جنده لطوسان فآذوا أهلها وعسفوهم وكان أكثرهم مع أبي مسلم في خندق فسير إليهم جندا فقاتلوه فهزموه وأسروا من أصحابه ثلاثين، فأطلقهم أبو مسلم ثم بعث محرز بن إبراهيم في جمع من الشيعة ليقطع مادّة نصر من مروالروذ وبلخ وطخارستان فخندق بين نصر وبين هذه البلاد، واجتمع إليه ألف رجل وقطع المادة عن نصر.
مقتل عبد الله بن معاوية
قد تقدّم لنا أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بويع بالكوفة وغلبه عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ولحق بالمدائن وجاءه ناس من أهل الكوفة وغيرها فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس وأصبهان والريّ وأقام بأصبهان وكان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس فجاء إلى دار الإمارة بإصطخر وطرد عامل عبد الله بن عمر عنها، وبايع الناس لعبد الله بن معاوية. ثم سار إلى كرمان فأغار عليها وانضم إليه قوّاد من أهل الشام فسار إلى سالم بن المسيّب عامل عبد الله ابن عمر على شيراز فقتله سنة ثمان وعشرين. ثم سار محارب إلى أصبهان وحوّل عبد الله ابن معاوية إلى إصطخر بعد أن استعمل على الجبال أخاه الحسن بن معاوية، وأتى إلى إصطخر فنزل بها وأتاه بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال وبعث العمّال. وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام، وأتاه شيبان بن عبد العزيز الخارجي ثم أتاه أبو جعفر المنصور وعبد الله ابن أخيه عيسى. ولما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي على الأهواز وأن يقاتل عبد الله بن معاوية، وبلغ سليمان بن حبيب وهو بالأهواز فسرّح داود بن حاتم للقاء نباتة، وهرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور وقد غلب الأكراد عليها فطردهم عنها، وبايع لابن معاوية، فبعث أخاه يزيد بن معاوية عليها. ثم إنّ محارب بن موسى فارق عبد الله بن معاوية وجمع، وقصد نيسابور فقاتله يزيد بن معاوية وهزمه، فأتى كرمان وأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه ثم نافره، فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابنا له. ثم بعث يزيد بن هبيرة بعد نباتة بن حنظلة ابنه داود ابن يزيد في العساكر إلى عبد الله بن معاوية، وعلى مقدّمته داود بن ضبارة. وبعث(3/151)
معن بن زائدة من وجه آخر، فقاتلوا عبد الله بن معاوية وهزموه وأسروا وقتلوا، وهرب منصور بن جمهور إلى السند وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر، وبعثوا بالأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم ومضى ابن معاوية عن فارس إلى خراسان. وسار معن بن زائدة في طلب منصور بن جمهور وكان فيمن أسر مع عبد الله بن معاوية عبد الله بن علي بن عبد الله ابن عبّاس، شفع فيه حرب ابن قطن من أخواله بني هلال، فوهبه له ضبارة وغاب عبد الله بن معاوية عن ابن ضبارة، ورمى أصحابه باللواطة، فبعث إلى ابن هبيرة ليخبره، وسار ابن ضبارة في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحاصره بها حتى خرج منها هاربا ومعه أخوه الحسن ويزيد وجماعة من أصحابه، فسلك المفازة على كرمان إلى خراسان طمعا في أبي مسلم لأنه كان يدعو إلى الرضا من آل محمد، وقد استولى على خراسان فوصل إلى نواحي هراة وعليها مالك فقال له:
انتسب نعرفك. فانتسب له فقال: أمّا عبد الله وجعفر فمن أسماء آل الرسول وأمّا معاوية فلا نعرفه في أسمائهم. قال: إنّ جدّي كان عند معاوية حين ولد أبي فبعث إليه مائة ألف على أن يسمي ابنه باسمه فقال: لقد اشتريتم الأسماء الخبيثة بالثمن اليسير [1] فلا نرى لك حقا فيما تدعو إليه ثم بعث بخبره إلى أبي مسلم فأمره بالقبض عليه وعلى من معه فحبسهم. ثم كتب إليه بإطلاق أخويه الحسن ويزيد وقتل عبد الله فوضع الفراش على وجهه فمات [2] .
لما تعاقد نصروا ابن الكرماني وقبائل ربيعة واليمن ومضر على قتال أبي مسلم عظم على الشيعة، وجمع أبو مسلم أصحابه ودسّ سليمان بن كثيّر إلى ابن الكرماني يذكّره بثأر أبيه من نصر فانتقضوا، فبعث نصر إلى أبي مسلم بموافقة مضر وبعث إليه أصحاب ابن الكرماني وهم ربيعة واليمن بمثل ذلك. واستدعى وفد الفريقين ليختار الركون إلى أحدهما وأحضر الشيعة لذلك وأخبرهم بأنّ مضر أصحاب مروان وعمّاله وشيعته وقبله [3] يحيى بن زيد. فلما حضر الوفد تكلم سليمان بن كثيّر، ويزيد بن شقيق
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 373: «لقد اشتريتم الاسم الخبيث بالثمن اليسير.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 373: فأمر من وضع فراشا على وجهه فمات واخرج فصلّي عليه ودفن، وقبره بهراة معروف يزار، رحمه الله.»
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 378: قتله يحيى بن زيد.(3/152)
السلميّ بمثل ذلك وبأن نصر بن سيّار عامل مروان ويسمّيه أمير المؤمنين وينفّذ أوامره فليس على هدى، وإنما يختار عليّ بن الكرماني وأصحابه ووافق السبعون من الشيعة على ذلك وانصرف الوفد ورجع أبو مسلم من أبين إلى الماخران وأمر الشيعة ببناء المساكن وأمن من فتنة العرب ثم أرسل إليه علي بن الكرماني أن يدخل مرو من ناحيته ليدخل هو وقومه من الناحية الأخرى، فلم يطمئن لذلك أبو مسلم وقال:
ناشبهم الحرب من قبل فناشب ابن الكرمانيّ نصر بن سيّار الحرب ودخل مرو من ناحيته وبعث أبو مسلم بعض النقباء. فدخل معه ثم سار وعلى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعيّ، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، ومضى إلى قصر الإمارة وهو يتلو: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها 28: 15. وأمر الفريقين بالانصراف فانصرفوا إلى معسكرهم وصفت له مرو، وأمر بأخذ البيعة من الجند، وتولى أخذها أبو منصور طلحة بن زريق أحد النقباء الذين اختارهم محمد بن علي من الشيعة حين بعث دعاته إلى خراسان سنة ثلاث وأربع، وكانوا اثني عشر رجلا. فمن خزاعة سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحة بن زريق وعمر بن أعين. ومن طيِّئ قحطبة بن شبيب بن خالد سعدان. ومن تميم أبو عيينة موسى بن كعب ولاهز ابن قريط والقاسم بن مجاشع وأسلم بن سلام ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم الشّيبانيّ وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان وكان عمر بن أعين مكان موسى بن كعب وأبو النّجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي وهو ختن أبي مسلم. ولم يكن أحد من النقباء ووالده غير أبي منصور طلحة بن زريق بن سعد وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلّب وغزا معه. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور. وكان نصّ البيعة: أبايعكم على كتاب الله وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والطاعة للرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا تسألوا رزقا ولا طمعا حتى تبدأكم به ولاتكم، وذلك سنة ثلاثين ومائة. ثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريط في جماعة إلى نصر بن سيّار يدعو إلى البيعة، وعلم نصر أن أمره قد استقام ولا طاقة له بأصحابه، فوعده بأنه يأتيه يبايعه من الغد، وأرسل أصحابه بالخروج من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه. فقال(3/153)
أسلم بن أحوز لا يتهيأ لنا الليلة. فلما أصبح [1] أبو مسلم كتابه وأعاد لاهز بن قريط إلى نصر يستحثه فأجاب وأقام لوضوئه، فقال لاهز: إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فخرج نصر عند المساء من خلف حجرته ومعه ابنه تميم والحكم بن غيلة النميري وامرأته المرزبانة وانطلقوا هرابا. واستبطأه لاهز فدخل المنزل فلم يجده وبلغ أبا مسلم هربه فجاء إلى معسكره وقبض على أصحابه منهم سالم ابن أحوز صاحب شرطته والبحتري كاتبه، وابنان له ويونس بن عبد ربه ومحمد ابن قطن وغيرهم. وسار أبو مسلم وابن الكرماني في طلبه ليلتهما فأدركا امرأته قد خلفها وسار فرجعوا إلى مرو. وبلغ نصر من سرخس فأقام بطوس خمس عشرة ليلة. ثم جاء نيسابور فأقام بها وتعاقد ابن الكرماني مع أبي مسلم على رأيه. ثم بعث إلى شيبان الحروري يدعوه إلى البيعة فقال شيبان: بل أنت تبايعني [2] واستنصر بابن الكرماني فأبى عليه، وسار شيبان إلى سرخس واجتمع له جمع من بكر بن وائل وبعث إليه أبو مسلم في الكفّ فسجن الرسل. فكتب إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث المكنّى بأبي ورد أن يسير إليه فقاتله وقتله وقتل بكر بن وائل الرسل الذين كانوا عنده. وقيل إنّ أبا مسلم إنما وجه إلى شيبان عسكرا من عنده عليهم خزيمة بن حازم وبسّام بن إبراهيم. ثم بعث أبو مسلم كعبا من النقباء إلى أبيورد فافتتحها، ثم أبا داود خالد بن إبراهيم من النقباء إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيريّ فجمع له أهل بلخ وترمذ وجند طخارستان ونزل الجوزجان، ولقيهم أبو داود فهزمهم وملك مدينة بلخ. وساروا إلى ترمذ فكتب أبو مسلم إلى أبي داود يستقدمه وبعث مكانه على بلخ يحيى بن نعيم أبا الميلاء فداخله زياد بن عبد الرحمن في الخلاف على أبي مسلم، واجتمع لذلك زياد ومسلم بن عبد الرحمن الباهليّ، وعيسى بن زرعة السلميّ وأهل بلخ وترمذ وملوك طخارستان وما وراء النهر ونزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه. واتفقت كلمة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المسوّدة وولّوا عليهم مقاتل بن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 381: «فلما كان الغد عبّأ ابو مسلم أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر وأعاد إلى نصر لاهز بن قريظ وجماعة معه» .
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 383: «فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي. فأرسل اليه ابو مسلم أن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الّذي أنت به..(3/154)
حيّان النبطيّ مخافة أن يتنافسوا. وبعث أبو مسلم أبا داود إليهم فأقبل بعساكره حتى اجتمعوا على نهر السرحسان [1] واقتتلوا. وكان زياد وأصحابه قد خلفوا أبا سعيد القرشي مسلحة وراءهم خشية أن يؤتوا من خلفهم وكانت راياته سودا وأغفلوا ذلك. فلما اشتدّ القتال زحف أبو سعيد في أصحابه لمددهم فظنّوه كمينا للمسوّدة فانهزموا وسقطوا في النهر، وحوى أبو داود معسكرهم بما فيه وملك بلخ. ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ وكتب أبو مسلم يستقدم أبا داود وبعث النضر بن صبيح المزني على بلخ. ولما قدم أبو داود أشار على أبي مسلم بالتفرقة بين عليّ وعثمان ابني الكرماني. فبعث عثمان على بلخ وقدمها فاستخلف الفرافصة بن ظهير العبسيّ وسار هو والنضر بن صبيح إلى مروالروذ وجاء مسلم بن عبد الرحمن الباهليّ من ترمذ في المضريّة، فاستولى على بلخ ورجع إليه عثمان والنضر فهربوا من ليلتهم ولم يعن النضر في طلبهم وقاتلهم عثمان ناحية عنه فانهزم، ورجع أبو داود إلى بلخ وسار أبو مسلم إلى نيسابور ومعه علي بن الكرماني وقد اتفق مع أبي داود على قتال ابني الكرماني فقتل أبو داود عثمان في بلخ وقتل أبو مسلم عليّا في طريقه إلى نيسابور.
مسير قحطبة للفتح
وفي سنة ثلاثين قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم من عند الإمام إبراهيم وقد عقد له لواء على محاربة العدوّ فبعثه أبو مسلم في مقدمته وضمّ إليه العساكر وجعل إليه التولية والعزل، وأمر الجنود بطاعته. وقد كان حين غلب على خراسان بعث العمّال على البلاد فبعث ساعي بن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان ومحمد بن الأشعث الخزاعي على طبسين وجعل مالك بن الهيثم على شرطته. وبعث قحطبة إلى طوس ومعه عدّة من القوّاد: أبو عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك وعثمان بن نهيك، وحازم بن خزيمة وغيرهم فهزم أهل طوس وأفحش في قتلهم، ثم بعث أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق الحجّة، وكتب إلى قحطبة بقتال تميم ابن نصر بالسودقان،
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 384: نهر السرجنان.(3/155)
ومعه الثاني بن سويد وأصحاب شيبان، وأمدّه بعشرة آلاف مع عليّ بن معقل فزحف إليهم ودعاهم بدعوته وقاتلهم، فقتل تميم بن نصر وجماعة عظيمة من أصحابه، يقال بلغوا ثلاثين ألفا واستبيح معسكرهم وتحصّن الباقي بالمدينة فاقتحمها عليهم، وخلّف خالد بن برمك على قبض الغنائم، وسار إلى نيسابور فهرب منها نصر بن سيّار الى قومس ثم تفرّق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان وكان يزيد بن هبيرة بعثه مددا لنصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الريّ، ثم إلى جرجان وقدم قحطبة نيسابور فأقام بها رمضان وشوّال وارتحل إلى جرجان، وجعل ابنه الحسن على مقدمته وانتهى إلى جرجان وأهل الشام بها مع نباتة فهابهم أهل خراسان فخطبهم قحطبة وأخبرهم أنّ الإمام أخبره أنهم يلقونه مثل هذه العدد فينصرونه عليهم. ثم تقدّم للقتال وعلى ميمنته ابنه الحسن فانهزم أهل الشام وقتل نباتة في عشرة آلاف منهم وبعث برأسه إلى أبي مسلم، وذلك في ذي الحجة من السنة وملك قحطبة جرجان. ثم بلغه أنّ أهل جرجان يرومون الخروج عليه فاستعرضهم وقتل منهم نحوا من ثلاثين ألفا وسار نصر من قومس إلى خوار الري وعليها أبو بكر العقيليّ وكتب إلى ابن هبيرة بواسط يستمدّه فحبس رسله. فكتب مروان إلى ابن هبيرة فجهز ابن هبيرة جيشا كثيفا إلى نصر وعليهم ابن عطيف.
هلاك نصر بن سيار
ثم بعث قحطبة ابنه الحسن إلى محاصرة نصر في خوار الري في محرّم سنة إحدى وثلاثين، وبعث إليه المدد مع أبي كامل وأبي القاسم محرز بن إبراهيم وأبي العبّاس المروزيّ. ولما تقاربوا نزع أبو كامل إلى نصر فكان معه وهرب جند قحطبة وأصحاب نصر أصابهم شيء من متاعهم فبعثه نصر إلى ابن هبيرة فاعترضه ابن عطيف بالري فأخذه فغاضبه نصر فأقام ابن عطيف بالري وسار نصر إلى الري وعليها حبيب بن يزيد النهشليّ. فلما قدمها سار ابن عطيف إلى همذان وكان فيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي، فعدل ابن عطيف عنها إلى أصبهان وبها عامر بن(3/156)
ضبارة، وقدم نصر الري فأقام بها يومين ومرض وارتحل. فلما بلغ نهاوة [1] مات لاثنى عشر من ربيع الأوّل من اسنة ودخل أصحابه همذان.
استيلاء قحطبة على الريّ
ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن حازم إلى سمنان وأقبل قحطبة من جرجان وقدم زياد بن زرارة القشيري وقد كان قدم على طاعة أبي مسلم واعتزم على اللحاق بابن ضبارة، فبعث قحطبة في أثره المسيّب بن زهير الضبيّ فهزمه، وقتل عامة من مع ابن معاوية ورجع، ولحق قحطبة ابنه الحسن إلى الريّ فخرج عنها حبيب بن يزيد النهشليّ وأهل الشام، ودخلها الحسن في صفر ثم لحق به أبوه وكتب بالخبر إلى أبي مسلم. وقد أكثر أهل الريّ إلى بني أمية فأخذ أبو مسلم أملاكهم ولم يردّها عليهم إلا السفاح بعد حين فأقام قحطبة بالريّ وكتب أبو مسلم إلى أصبهبذ طبرستان بالطاعة وأداء الخراج فأجاب، وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند وكبير الديلم بمثل ذلك فأفحش في الردّ.
فكتب أبو مسلم إلى موسى بن كعب أن يسير إليه من الري فسار ولم يتمكن منه لضيق بلاده وكان الديلم يقاتلونه كل يوم، فكثر فيهم الجراح والقتل، ومنعهم الميرة فأصابهم الجوع فرجع موسى إلى الري ولم يزل المصمغان متمنّعا إلى أيام المنصور فأغزاه حمّاد بن عمر في جيش كثيف، ففتح دنباوند. ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم ارتحل عن مرو ونزل نيسابور ثم سير قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الريّ بثلاث ليال، فسار عنها مالك بن أدهم وأهل الشام وخراسان إلى نهاوند ونزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطيّة مولى باهلة في سبعمائة وأقام محاصرا لها.
استيلاء قحطبة على أصبهان ومقتل ابن ضبارة وفتح نهاوند وشهرزور
قد تقدّم لنا أنّ ابن هبيرة بعث ابنه داود يزيد لقتال عبد الله بن معاوية بإصطخر،
__________
[1] وفي نسخة أخرى نهاوند. وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 396: «فلما بلغ ساوة مات» .(3/157)
وبعث معه عامر بن ضبارة فهزموه واتبعوه إلى كرمان سنة تسع وعشرين، فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بجرجان سنة ثلاثين، كتب إلى ابنه داود ضبارة بالمسير إلى قحطبة فسار من كرمان في خمسين ألفا ونزلوا أصبهان وبعث إليهم قحطبة جماعة من القوّاد عليهم مقاتل بن حكيم الكعبيّ فنزلوا قمّ وسار قحطبة إلى نهاوند مددا لولده الحسن الّذي حاصرهم فبعث مقاتلا بذلك قحطبة، فسار حتى لحقه، وزحفوا للقاء داود ابن ضبارة وهم في مائة ألف وقحطبة في عشرين ألفا.
وحمل قحطبة وأصحابه فانهزم ابن ضبارة وقتل واحتووا على ما كان في معسكرهم مما لا يعبّر عنه من الأصناف وذلك في رجب. وطيّر قحطبة بالخبر إلى ابنه الحسن وسار إلى أصبهان فأقام بها عشرين ليلة، وقدم على ابنه فحاصروا نهاوند ثلاثة أشهر إلى آخر شوّال، ونصبوا عليهم المجانيق وبعث بالأمان إلى من كان في نهاوند من أهل خراسان فلم يقبلوا، فبعث إلى أهل الشام فقالوا أشغل عنا أهل المدينة بالقتال نفتح لك المدينة من ناحيتنا، ففعلوا، وخرجوا إليه جميعا فقتلوا أهل خراسان فيهم أبو كامل وحاتم بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعليّ بن عقيل وبيهس. وكان قحطبة لما جاء إلى نهاوند بعث ابنه الحسن إلى جهات حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكنديّ فتركها وهرب. ثم بعث قحطبة عبد الملك بن يزيد ومالك بن طرا في أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدمته عبد الله بن محمد فقاتلوا عثمان آخر ذي الحجة فانهزم وقتل. وملك أبو عون بلاد الموصل. وقيل إنّ عثمان هرب إلى عبد الله بن مروان وغنم أبو عون عسكره وقتل أصحابه، وبعث إليه قحطبة بالمدد وكان مروان بن محمد بحرّان فسار في أهل الشام والجزيرة والموصل ونزل الزاب الأكبر وأتوا شهرزور إلى المحرّم سنة اثنتين وثلاثين.
حرب سفاح بن هبيرة مع قحطبة ومقتلهما وفتح الكوفة
ولما قدم على يزيد بن هبيرة ابنه داود منهزما من حلوان خرج يزيد للقاء قحطبة في مدد لا يحصى، وكان مروان أمدّه بحوثرة بن سهيل الباهليّ، فسار معه حتى نزل حلوان واحتفر الخندق الّذي كانت فارس احتفرته أيام الواقعة. وأقام وأقبل(3/158)
قحطبة إلى حلوان ثم عبر دجلة إلى الأنبار فرجع ابن هبيرة مبادرا إلى الكوفة وقدم إليها حوثرة في خمسة عشر ألفا وعبر قحطبة الفرات من الأنبار لثمان من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات وعلى ثلاثة وعشرين فرسخا من الكوفة، ومعه حوثرة وفلّ ابن ضبارة. وأشار عليه أصحابه أن يدع الكوفة ويقصد هو خراسان فيتبعه قحطبة فأبى إلا البدار إلى الكوفة، وعبر إليها دجلة من المدائن، وعلى مقدمته حوثرة والفريقان يسيران على جانب الفرات. وقال قحطبة لأصحابه إنّ الإمام أخبرني بأنّ وقعة تكون بهذا المكان والنصر لنا، ثم دلّوه على مخاضة فعبر منها، وقاتل حوثرة وابن نباتة فانهزم أهل الشام، وقعد قحطبة وشهد مقاتل العللي بأنّ قحطبة عهد لابنه الحسن بعده، فبايع جميع الناس لأخيه الحسن، وكان في سرية فبعثوا عنه وولّوه ووجد قحطبة في جدول هو وحرب بن كمّ ابن أحوز وقيل: إنّ قحطبة لما عبر الفرات وقاتل ضربه معن بن زائدة فسقط وأوصى إذا مات أن يلقى في الماء. ثم انهزم ابن نباتة وأهل الشام ومات قحطبة وأوصى بأمر الشيعة إلى أبي مسلمة الخلّال بالكوفة وزير آل محمد. ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة فانهزم إلى واسط واستولى الحسن ابن قحطبة على ما في معسكرهم. وبلغ الخبر إلى الكوفة فثار بها محمد بن خالد القسري بدعوة الشيعة خرج ليلة عاشوراء وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثيّ وعلى شرطته عبد الرحمن بن بشير العجليّ وسار إلى [1] فهرب زياد ومن معه من أهل الشام ودخل القصر ورجع إليه حوثرة [2] وعن محمد عامة من معه ولزم القصر. ثم جاء قوم من بجيلة من أصحاب حوثرة فدخلوا في الدعوة ثم آخرون من كنانة، ثم آخرون من نجدل [3] فارتحل حوثرة نحوه [4] وكتب محمد إلى قحطبة
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 405: «وسار محمد إلى القصر، فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام، ودخل محمد القصر.»
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 405: وسمع حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة فتفرّق عنه محمد عامة من معه.»
[3] وفي نسخة أخرى بجدل وفي الكامل ج 5 ص 405: من آل بحدل.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 405: «ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل فلما رأى ذلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه.»(3/159)
وهو لم يعلم بهلاكه فقرأه الحسن على الناس وارتحل نحو الكوفة فصبحها الرابعة من مسيرة وقيل إنّ الحسن بن قحطبة سار إلى الكوفة بعد قتل ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجليّ فهرب عنها وسبق محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلا فلقى الحسن ودخل معه وأتوا إلى أبي مسلمة فاستخرجوه من بني مسلمة وعسكر بالنخيلة، ثم نزل حمام أعين. وبعث الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة وبايع الناس أبا مسلمة حفص ابن سليمان الخلّال وزير آل محمد واستعمل محمد بن خالد القسري على الكوفة وكان يسمّى الأمير، حتى ظهر أبو العبّاس السفّاح وبعث حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد والمسيّب بن هبيرة وخالد بن مرمل [1] ، إلى دير فناء وشراحيل إلى عير [2] وبسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز، وبها عبد الرحمن بن عمر بن هبيرة فقاتله بسّام وانهزم إلى البصرة وعليها مسلم بن قتيبة الباهليّ عاملا لأخيه. وبعث بسّام في أثره سفيان ابن معاوية بن يزيد بن المهلّب واليا على البصرة، فجمع سالم قيسا ومضر وبني أمية وجاء قائد من قواد ابن هبيرة في ألفي رجل، وجمع سفيان اليمانيّة وحلفاءهم من ربيعة واقتتلوا في صفر. وقتل ابن سفيان واسمه معاوية فانهزم لذلك. ثم جاء إلى سالم أربعة آلاف مددا من عند مروان فقاتل الأزد واستباحهم ولم يزل بالبصرة حتى قتل ابن هبيرة فهرب عنها واجتمع ولد الحرث بن عبد المطّلب إلى محمد بن جعفر فولّوه أياما حتى قدم أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم. فلما بويع أبو العباس السفّاح ولّاها سفيان بن معاوية.
بيعة السفاح
قد كنا قدمنا خبر الدعاة وقبض مروان على إبراهيم بن محمد وأنه حبسه بحرّان وكان نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم باللحاق بالكوفة وأوصى على أخيه أبي العبّاس عبد الله ابن الحرثية. فسار أبو العبّاس ومعه أهل بيته وفي إخوته أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ومحمد ابن أخيه إبراهيم وعيسى ابن أخيه موسى ومن أعمامه داود وعيسى وصالح
__________
[1] هو خالد بن برمك.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 406: «وبعث المسيب بن زهير وخالد بن برمك إلى دير منّى، وبعث المهلّبيّ وشراحيل إلى عين التمر.»(3/160)
وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عبّاس، وموسى ابن عمه داود ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس، فقدموا الكوفة في صفر وأبو سلمة والشيعة على حمام أعين بظاهر الكوفة وأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم عن جميع القوّاد والشيعة أربعين ليلة، وأراد فيما زعموا أن يحوّل الأمر إلى أبي طالب. وسأله أبو الجهم من الشيعة وغيره فيقول: لا تعجلوا ليس هذا وقته. ولقي أبو حميد محمد بن إبراهيم ذات يوم خادم إبراهيم الإمام وهو سابق الخوارزميّ فسأله عن الإمام فقال: قتل إبراهيم وأوصى إلى أخيه أبي العبّاس وها هو بالكوفة ومعه أهل بيته. فسأله في اللقاء فقال: حتى أستأذن وواعده من الغد في ذلك المكان، وجاء أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره وكان في عسكر أبي سلمة فقال له: تلطف في لقائهم. فجاء إلى موعد سابق ومضى معه ودخل عليهم فسأل عن الخليفة فقال داود ابن علي: هذا إمامكم وخليفتكم يشير إلى أبي العبّاس.
فسلّم عليه بالخلافة وعزّاه بإبراهيم الإمام، ورجع ومعه خادم من خدمهم إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وأنّ أبا العبّاس أرسل إلى أبي سلمة أن يبعث إليه كراء الرواحل التي جاءوا إليها، فلم يبعث إليهم شيئا فمشى أبو الجهم وأبو الحميد والخادم إلى موسى بن كعب وأخبروه بالأمر وبعثوا إلى الإمام مائتي دينار مع خادمه. واتفق رأي القوّاد على لقاء الإمام فنهض موسى بن كعب وأبو الجهم عبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وعبد الله الطائي وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وأبو حميد وعبد الله ابن بسّام ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن حصين وسليمان بن الأسود فدخلوا على أبي العبّاس فسلّموا عليه بالخلافة وعزّوه في إبراهيم. ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم وخلفوا الباقين عند الإمام وأوصوهم إن جاء أبو سلمة لا يدخلنّ إلّا وحده وبلغه الخبر فجاء ودخل وحده كما حدوا له وسلم على أبي العباس بالخلافة وأمره بالعود إلى معسكره وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأوّل فلبسوا الصفّاح واصطفّوا للخروج إلى أبي العبّاس وأتوه بالدواب له ولمن معه من أهل بيته، وأركبوهم إلى دار الإمارة، ثم رجع إلى المسجد فخطب وصلى بالناس وبايعوه ثم صعد المنبر ثانية فقام في أعلاه وصعد عمه داود فقام دونه وخطب خطبته البليغة المشهورة وذكر حقهم في الأمر وميراثهم له، وزاد الناس في أعطياتهم، وكان موعوكا فاشتد عليه الوعك فحبس على المنبر وقام عمّه داود على أعلى المراقي فخطب(3/161)
مثله وذمّ سيرة بني أمية وعاهد الناس على إقامته الكتاب والسنّة وسيرة النبي. ثم اعتذر عن عود السفّاح بعد الصلاة إلى المنبر وأنه أراد أن لا يخلط كلام الجمعة بغيرها، وإنما قطعه عن إتمام الكلام شدّة الوعك فأدعوا الله له بالعافية. ثم بالغ في ذم مروان وشكر شيعتهم من أهل خراسان وأنّ الكوفة منزلهم لا يتخلون عنها وأنه ما صعد هذا المنبر خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار إلى السفّاح وأنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج عنّا حتى نسلمه لعيسى بن مريم. ثم نزل أبو العبّاس وداود أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر في المسجد يأخذ البيعة على الناس حتى جنّ الليل.
وخرج أبو العبّاس إلى عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر. وحاجب السفّاح يومئذ عبد الله بن بسّام واستخلف على الكوفة عمه داود وبعث عمه عبد الله إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور وبعث ابن أخيه موسى إلى الحسن ابن قحطبة وهو يحاصر ابن هبيرة بواسط وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس إلى أحمد ابن قحطبة بالمدائن وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسّام إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك ابن الطوّاف وأقام السفّاح بالعسكر شهرا ثم ارتحل فنزل قصر الإمارة من المدينة الهاشمية. وقد قيل إنّ داود بن عليّ وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بني العبّاس إلى الكوفة وإنهما لقياهم بدومة الجندل فعرفا خبرهم وقال لهم داود: كيف تأتون الكوفة ومروان بن محمد في حرّان في أهل الشام والجزيرة فطلّ على العراق ويزيد بن هبيرة بالعراق؟ فقال: يا عم من أحب الحياء ذلّ فرجع داود وابنه معه.
مقتل إبراهيم بن الامام
قد تقدّم لنا أنّ مروان حبسه بحرّان وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان والعبّاس بن الوليد بن عبد الملك وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز وأبا محمد السفياني فهلك منهم في السجن من وباء وقع بحرّان: العبّاس بن الوليد وإبراهيم بن الإمام وعبد الله بن عمر. وخرج سعيد بن هشام ومن معه من المحبوسين بعد أن قتلوا صاحب السجن فقتلهم الغوغاء من أهل حرّان وكان فيمن قتلوه شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك بن بشر الثعلبي وبطريق أرمينية واسمه كوشان(3/162)
وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس لم يستحلّ الخروج منه. ولما قدم مروان منهزما من الزاب حل عنه فيمن بقي وقيل إنّ شراحيل بن مسلمة كان محبوسا مع إبراهيم وكانا يتزاوران ويتهاديان، فدسّ في بعض الأيام إلى إبراهيم بن الإمام بلبن مسموم على لسان شراحيل فاستطلق بطنه. وقيل إنّ شراحيل قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 احتيل والله عليه، وأصبح ميتا من ليلته.
هزيمة مروان بالزاب ومقتله بمصر
قد ذكرنا أنّ قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور فقتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل وأنّ مروان بن محمد سار إليه من حرّان في مائة وعشرين ألفا وسار أبو عون إلى الزاب ووجه أبو سلمة عيينة بن موسى والمنهال بن قبّان [1] وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف مددا له. فلما بويع أبو العباس وبعث مسلمة بن محمد في ألفين وعبد الله الطائيّ في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين ودراس بن فضلة [2] في خمسمائة كلهم مددا لأبي عون، ثم ندب أهل بيته إلى المسير إلى أبي عون، فانتدب عبد الله بن عليّ فسار وقدم على أبي عون فتحوّل له عن سرادقه بما فيه ثم أمر عيينة بن موسى بخمسة آلاف تعبر النهر من الزاب أوّل جمادى الأخير سنة اثنتين وثلاثين وقاتل عساكر مروان إلى المساء ورجع ففقد مروان الجسر من الغد وقدم ابنه عبد الله وعبر فبعث عبد الله بن عليّ المخارق بن غفّار في أربعة نحو عبد الله بن مروان فسرّح ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فانهزم أصحاب المخارق وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رءوس القتلى، فقال: أنت المخارق؟ قال: لا. قال: فتعرفه في هذه الرءوس؟ قال: نعم. قال: هو ذا فخلّى سبيله وقيل بل أنكر أن يكون في الرءوس فخلّى سبيله وعاجلهم عبد الله بن عليّ بالحرب قبل أن يفشوا الخبر وعلى ميمنته أبو عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية وكان عسكره نحوا من عشرين ألفا، وقيل اثني عشر وأرسل مروان إليه في الموادعة فأبى وحمل الوليد بن معاوية بن مروان
__________
[1] المنهال بن فتّان: ابن الأثير ج 5 ص 416.
[2] وداس بن نضلة: ابن الأثير ج 5 ص 416.(3/163)
وهو صهر مروان على ابنته، فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عبد الله بن علي فأمر الناس فارتحلوا ومشى قدما ينادي يا لثارات إبراهيم وبالأشعار يا محمد يا منصور. وأمر مروان القبائل بأن يحملوا فتخاذلوا واعتذروا حتى صاحب شرطته. ثم ظهر له الخلل فأباح الأموال للناس على أن يقاتلوا فأخذوها من غير قتال. فبعث ابنه عبد الله يصدّهم عن ذلك فتبادروا بالفرار وانهزموا وقطع مروان الجسر وكان من غرق أكثر ممن قتل. وغرق إبراهيم بن الوليد المخلوع وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام وممن قتل يحيى بن علي ابن هشام وكان ذلك في جمادى الأخيرة سنة اثنتين وثلاثين، وأقام عبد الله في عسكره سبعة أيام واجتاز عسكر مروان بما فيه وكتب بالفتح إلى أبي العبّاس السفّاح، وسار مروان منهزما إلى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمر الثعلبي وابن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر ومنعاه العبور إليهم وقيل هذا أمير المؤمنين فتجاهلوا وقالوا أمير المؤمنين لا يفرّ. ثم أسمعوه الشتم والقبائح فسار إلى حرّان وبها أبان ابن أخيه، وسار إلى حمص وجاء عبد الله إلى حرّان فلقيه أبو مسعود فأمنه ولقي الجزيرة. ولما بلغ مروان حمص أقام بها ثلاثا وارتحل فاتبعه أهلها لينهبوه فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وسار إلى دمشق وعليها الوليد ابن عمه فأوصاه بقتال عدوّه. وسار إلى فلسطين فنزل نهر أبي فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل إلى عبد الله ابن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، ثم سار عبد الله بن عليّ في أثره من حرّان بعد أن هدم الدار التي حبس فيها أخوه الإمام إبراهيم. وانتهى إلى قنج [1] فأطاعه أهلها وقدم عليه أخوه عبد الصمد بعثه السفاح مددا في ثمانية آلاف وافترق قوّاد الشيعة على أبواب دمشق فحاصروها أياما ثم دخلوها عنوة لخمس من رمضان واقتتلوا بها كثيرا وقتل عاملها الوليد بن معاوية وأقام عبد الله بدمشق خمس عشرة ليلة وارتحل يريد فلسطين فأجفل مروان إلى العريش، وجاء عبد الله فنزل نهر أبي فطرس ووصله هناك كتاب السفّاح بأن يبعث صالح بن عليّ في طلب مروان. فسار صالح في ذي القعدة وعلى مقدمته أبو عون وعامر بن إسماعيل الحارثي فأجفل مروان إلى النيل ثم إلى الصعيد ونزل صالح الفسطاط وتقدّمت عساكره فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم ودلوهم على مكانه ببوصير فسار إليه أبو عون وبيته هنالك خوفا من أن
__________
[1] منبج: ابن الأثير ج 5 ص 425.(3/164)
يفضحه الصبح فانهزم مروان وطعن فسقط في آخر ذي الحجة الحرام وقطع رأسه، وبعث به طليعة أبي عون إليه. فبعثه إلى السفّاح وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان إلى أرض الحبشة وقاتلوهم فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وبقي إلى أيام المهدي فأخذه عامل فلسطين وسجنه المهدي. وكان طليعة أبي عون عامر بن إسماعيل الحارثي فوجد نساء مروان وبناته في كنيسة بوصير قد وكل بهنّ خادما يقتلهنّ بعده بهنّ صالح ولما دخلن عليه سألنه في الإبقاء فلامهنّ على قتالهم عند بني أمية. ثم عفا عنهنّ وحملهنّ إلى حرّان يبكين. وكان مروان يلقب بالحمار لحرنه في مواطن الحرب. وكان أعداؤه ويلقبونه الجعديّ نسبة إلى الجعد بن درهم كان يقول بخلق القرآن ويتزندق. وأمر هشام خالد القسري بقتله فقتله. ثم تتبعوا بني أمية بالقتل ودخل أسديف [1] يوما على السفّاح وعنده سليمان بن هشام وقد أمّنه والده فقال:
لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إنّ بين الضلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فأمر السفاح بسليمان فقتل. ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده ثمانون أو تسعون من بني أمية يأكلون على مائدته فقال:
أصبح الملك في ثبات الأساس ... بالبهاليل من بني العبّاس
طلبوا أمر هاشم فنعونا ... بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... فاقطعن كلّ رقلة وغراس
فلنا أظهر التودّد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي
فلقد غاضني وغاض سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الّذي بحرّان أضحى ... ثاويا رهن غربة ونعاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسط من فوقهم الأنطاع فأكل الطعام عليهم وأنينهم يسمع حتى ماتوا، وذلك بنهر أبي فطرس وكان فيمن قتل: محمد بن عبد الملك بن مروان والمعزّ بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان وسعيد بن عبد الملك وأبو
__________
[1] سديف: ابن الأثير ج 5 ص 429.(3/165)
عبيدة بن الوليد بن عبد الملك. وقيل: إنّ إبراهيم المخلوع قتل معهم، وقيل إنّ أسديفا هو الّذي أنشد هذا الشعر للسفّاح وأنه الّذي قتلهم. ثم قتل سليمان بن علي بن عبد الله بن العبّاس بالبصرة جماعة من بني أمية فأمر بأشلائهم في الطرق فأكلتهم الكلاب، وقيل إنّ عبد الله بن علي أمر بنبش قبور الخلفاء من بني أمية فلم يجدوا في القبور إلّا شبه الرماد وخيطا في قبر معاوية وجمجمة في قبر عبد الملك. وربّما وجد فيها بعض الأعضاء الا هشام بن عبد الملك فإنه وجد كما هو لم يبل، فضربه بالسوط ثم صلبه وحرقة وذرّاه في الريح، والله أعلم بصحّة ذلك. ثم تتبعوا بني أمية بالقتل فلم يفلت منهم إلا الرضعاء أو من هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام وغيره ممن تبعه من قرابته كما يذكر في أخبارهم.
بقية الصوائف في الدولة الاموية
قد انتهينا بالصوائف إلى آخر أيام عمر بن عبد العزيز وفي سنة اثنتين ومائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقا وقتل منهم سبعمائة أسير. وغزا العبّاس بن الوليد الروم أيضا ففتحها لسنة. ثم غزا سنة ثلاث بعدها فافتتح مدينة رسلة. ثم غزا الجرّاح الحكميّ أيام هشام سنة خمس فبلغ وراء بلنجر وغنم، وغزا في هذه السنة سعيد بن عبد الملك أرض الروم وبعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعا. وغزا فيها مروان بن محمد بالصائفة اليمنى، ففتح مدينة قريبة من أرض الزوكخ. ثم غزا سعيد بن عبد الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست. ثم غزا مسلمة بن عبد الملك الروم من الجزيرة وهو وال عليها ففتح قيساريّة. وغزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا [1] . وغزا معاوية بن هشام في البحر قبرس، وغزا سنة تسع ففتح حصنا آخر يقال له طبسة [2] . وغزا سنة عشر بالصائفة عبد الله بن عقبة الفهريّ، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج. وغزا بالصائفة اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام وبالصائفة اليمنى سعيد بن هشام وفي البحر عبد الله بن أبي مريم. وافتتح معاوية في
__________
[1] فتح حصنا من حصون الروم.
[2] طيبة: ابن الأثير ج 5 ص 145.(3/166)
صائفة ثلاث عشرة مدينة خرشفة [1] . وغزا سنة ثلاث عشرة عبد الله البطّال، فانهزم فثبت عبد الوهّاب من أصحابه فقتل. ودخل معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش. ثم غزا سنة أربع عشرة بالصائفة اليسرى وأصحاب ربض أفرق [2] .
والتقى عبد الله البطّال مع قسطنطين، فهزمه البطّال وأسره. وغزا سليمان بن هشام بالصائفة اليسرى [3] فبلغ قيساريّة، وهزم مسلمة بن عبد الملك خاقان وباب الباب [4] . وغزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة وغزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة. وسليمان بن هشام بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة، وفرّق السرايا في أرض الروم وبعث فيها مروان بن محمد من أرمينية [5] فافتتحوا من أرض اللان آهلها أخذها قومانساه صلحا، وغزا معاوية وسليمان أيضا أرض الروم سنة ثماني عشرة. وغزا فيها مروان بن محمد من أرمينية ودخل أرض وارقيس [6] ، فهرب وارقيس إلى الحرور [7] ونازل حصنه فحاصره. وقتل وارقيس بعض من اجتاز به وبعث برأسه إلى مروان ونزل أهل الحصن على حكمه فقتل وسبى. وغزا سنة تسع عشرة مروان بن محمد من أرمينية ومرّ ببلاد اللّان إلى بلاد الخزر على بلنجر وسمندر وانتهى إلى خاقان فهرب خاقان منه. وغزا سليمان بن هشام سنة عشرين بالصائفة فافتتح سندرة وغزا إسحاق بن مسلم العقيلي قومانساه [8] وافتتح قلاعه وخرب أرضه.
وغزا مروان من أرمينية سنة إحدى وعشرين وأفنى [9] قلعة بيت السرير فقتل وسبى، ثم قلعة أخرى كذلك ودخل عزسك [10] وهو حصن الملك فهرب منه الملك ودخل
__________
[1] خرشنة: ابن الأثير ج 5 ص 171
[2] العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 179: «وفي هذه السنة (أي سنة اربع عشرة ومائة) غزا معاوية بن هشام بالصائفة اليسرى فأصاب ربض أقرف.»
[3] بالصائفة اليمنى «المرجع السابق» .
[4] هزم خاقان وأحكم ما هناك وبنى الباب: ابن الأثير ج 179
[5] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 186: «وفيها بعث مروان بن محمد وهو على أرمينية، بعثين وافتتح أحدهما حصونا ثلاثة من اللّان، ونزل الآخر على تومان شاه فنزل أهلها على الصلح.»
[6] أرض ورنيس: ابن الأثير ج 5 ص 198
[7] الخزر: ابن الأثير ج 5 ص 198
[8] وغزا إسحاق بن سلم العقيلي تومان شاه: ابن الأثير ج 5 ص 228
[9] لعلها أتى قلعة بيت السرير
[10] غوميك: ابن الأثير ج 5 ص 240(3/167)
حصنا له يسمى جرج [1] فيه سرير الذهب فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة ومائة ألف مدني [2] ثم دخل أرض أرزق ونصران [3] فصالحه ملكها. ثم أرض تومان كذلك. ثم أرض حمدين [4] فأخرب بلاده وحصر حصنا له شهرا حتى صالحه ثم أرض مسداد [5] ففتحها على صلح ثم نزل كيلان [6] فصالحه أهل طبرستان وكيلان [7] وكل هذه الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان. وغزا مسلمة بن هشام الروم في هذه السنة فافتتح بها مطامير وفي سنة اثنتين وعشرين بعدها قتل البطّال واسمه عبد الله بن الحسين الأنطاكي وكان كثير الغزو في بلاد الروم والإغارة عليهم. وقدّمه مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان يغزو بلاد الروم إلى أن قتل هذه السنة. وفي سنة أربعة وعشرين غزا سليمان بن هشام بالصائفة على عهد أبيه فلقي أليون ملك الروم فهزمه وغنم. وفي سنة خمسة وعشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره [8] وكان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهري وخزينة [9] الروم وبني بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان. ثم بناه الرشيد وطرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه وتحصينه ثم طرقوه أيام المعتصم وخبره معروف. وفي هذه السنة غزا الوليد بن يزيد بالصائفة أخاه العمر وبعث الأسود بن بلال المحاربي [10] بالجيش في البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام والروم فافترقوا فريقين، وغزا أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام ونزل العمق وبنى حصن مرعش
__________
[1] خيزج: ابن الأثير ج 5 ص 240
[2] مدي: ابن الأثير ج 5 ص 240
[3] أزر وبطران: ابن الأثير ج 5 ص 240
[4] حمزين: ابن الأثير ج 5 ص 240
[5] مداز: ابن الأثير ج 5 ص 240
[6] كيران: ابن الأثير ج 5 ص 240
[7] فصالحه أهل طبرستان وفيلان: المرجع السابق
[8] زبطرة: ابن الأثير ج 5 ص 274
[9] حسب مقتضى السياق: واضربته الروم
[10] اغزى الوليد أخاه الغمر بن يزيد وأمّر على جيوش البحر الأسود بن بلال المحاذيّ: ابن الأثير ج 5 ص 274.(3/168)
عمال بني أمية على النواحي
استعمل معاوية أوّل خلافته سنة أربعين عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة ثم عزله واستعمل المغيرة بن شعبة على الصلاة واستعمل [1] على الخراج وكان على النقباء بها شريح وكان حمران بن أبان قد وثب على البصرة عند ما صالح الحسن معاوية فبعث معاوية بشر بن أرطاة على البصرة وأمدّه فقتل أولاد زياد بن أبيه، وكان عاملا على فارس لعليّ بن أبي طالب، فقدم البصرة وقد ذكرنا خبره مع بني زياد فيما قبل. ثم ولّى على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وضم إليه خراسان وسجستان فجعل على شرطته حبيب بن شهاب وعلى القضاء عميرة بن تبرى، وقد تقدّم لنا أخبار قيس في خراسان وكان عمرو بن العاص على مصر كما تقدّم، فولّى سنة إحدى وأربعين من قبله على إفريقية عقبة بن نافع بن عبد قيس، وهو ابن خالته فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوه ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى.
ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين بعدها غذامس وقتل وسبى وافتتح سنة ثلاثة وأربعين بعدها بلد ودّان وولّى معاوية بالمدينة سنة اثنتين وأربعين مروان بن الحكم فاستقضى عبد الله بن الحرث بن نوفل، وولّى معاوية على مكّة في هذه السنة خالد بن العاص ابن هشام، وكان على أرمينية حبيب بن مسلمة الفهريّ وولاه عليها معاوية ومات سنة اثنتين وأربعين فولى مكانه [2] واستعمل ابن عامر في هذه السنة على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبديّ ويقال ولّاه معاوية وعزل ابن عامر في هذه السنة قيس بن الهيثم عن خراسان وولّى مكانه الحرث ابن عبد الله بن حازم. ثم عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة سنة أربع وأربعين وولّى مكانه الحرث بن عبد الله الأزدي، ثم عزله لأربعة أشهر وولّى أخاه زيادا سنة
__________
[1] بياض بالأصل: يذكر ابن الأثير في كتاب الكامل ج 3 ص 413 خبر تولية عمرو بن العاص الكوفة وعزله عنها بدسيسة المغيرة ثم تولية المغيرة الكوفة وعزله عن الخراج واستعماله على الصلاة فقط بتحذير من عمرو بن العاص. ولم يذكر ابن الأثير من تولى أمر الخراج. وكذلك الطبري لم يذكر خبر عزله عن الخراج ج 6 ص 98.
[2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 425 خبر وفاة محمد بن مسلمه بالمدينة ولم يذكر من ولي مكانه. وكذلك الطبري لم يذكر وفاته ولا من تولى بعده أمر أرمينية.(3/169)
خمس وأربعين، فولّى على خراسان الحكم بن عمر الغفاريّ، وجعل معه على الخراج أسلم بن زرعة الكلابي. ثم مات الحكم فولّى خليد بن عبد الله الحنفيّ سنة سبعة وأربعين ثم ولّى على خراسان سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثيّ، وتولى عمرو بن العاص سنة تسعة وأربعين فولّى مكانه سعيد بن العاص، فعزل عبد الله بن الحرث عن القضاء واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن وفي سنة خمسين توفي المغيرة بن شعبة فضم الكوفة إلى أخيه زياد، فجاء إليها واستخلف على البصرة سمرة ابن جندب، وكان يقسم السنة بين المصريين في الإقامة نصفا بنصف وفي سنة خمسين هذه اقتطع معاوية إفريقية عن معاوية بن خديج بمصر وولّى عقبة بن نافع الفهريّ وكان مقيما ببرقة وزويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن العاص، فأمدّه بعشرة آلاف فسار إليها وانضاف إليه من أسلم من البربر، ودوّخ البلاد وبنى بالقيروان، وأنزل عساكر المسلمين ثم استعمل معاوية على مصر وإفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة، وجاء عقبة إلى الشام فاعتذر إليه معاوية ووعده بعمله ومات معاوية فولّاه يزيد سنة اثنتين وستين. وذكر الواقدي أن عقبة ولي سنة اثنتين وستين واستعمل أبا المهاجر فولي الأمصار، فحبس عقبة وضيّق عليه وأمره يزيد بإطلاقه فوفد عقبة فأعاده إلى عمله. فحبس أبا المهاجر وخرج غازيا وأثخن حتى قتله كسيلة كما يأتي في أخباره وفي سنة إحدى وخمسين ولّى زياد على خراسان الربيع بن زياد الحرث مكان خليد بن عبد الله الحنفي وفي سنة ثلاث وخمسين توفي زياد واستخلف على البصرة سمرة بن جندب وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد. ثم ولّى الضحاك بن قيس سنة خمس بعدها وفي هذه السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد واستخلفه ابنه عبد الله ومات لشهرين واستخلف خليد بن يربوع الحنفي وكان على صفا بيروز الدّيلميّ من قبل معاوية فمات سنة ثلاث وخمسين وفي سنة أربع وخمسين عزل معاوية عن المدينة سعيد بن العاص وردّ إليها مروان بن الحكم ثم عزله سنة سبعة وولّى مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان وعزل سنة تسعة وخمسين عن البصرة ابن جندب وولّى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان، وولّى على خراسان عبيد الله بن زياد ثم ولّاه سنة خمس بعدها على البصرة مكان بن غيلان ثم ولّى على خراسان سنة ستة وخمسين سعيد بن عثمان بن عفّان وفي سنة ثمانية وخمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحّاك بن قيس واستعمل مكانه ابن أمّ الحكم وهي(3/170)
أخته، وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وطرده أهل الكوفة فولّاه مصر فردّه معاوية بن خديج وولّى مكانه على الكوفة سنة تسعة وخمسين النعمان بن بشير وولّى فيها على خراسان عبد الرحمن بن زياد فقدم إليها قيس بن الهيثم السلميّ فحبس أسلم بن زرعة فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم. ثم مات معاوية سنة ستين وولاته على النواحي من ذكرناه وعلى سجستان عبّاد بن زياد وعلى كرمان شريك بن الأعور وعزل يزيد لأوّل ولايته الوليد بن عقبة عن المدينة والحجاز وولّاها عمر بن سعيد الأشدق ثم عزله سنة إحدى وستين، وردّ الوليد بن عقبة وولّى على خراسان سالم بن زياد، فبعث سالم إليها الحرث بن معاوية الحرثي وبعث أخاه يزيد إلى سجستان وكان بها أخوهما عبّاد فخرج عنهما. وقاتل يزيد أهل كابل فهزموه، فبعث مسلم على سجستان طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعيّ فبقي سنة، وبعث سنة اثنتين وستين عقبة بن نافع إلى إفريقية فحبس أبا المهاجر، واستخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي كما نذكر في اخباره. وتوفي في هذه السنة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ أمير مصر. ثم هلك يزيد سنة أربع وستين واستخلف على أهل العراق عبيد الله بن زياد. وولّى أهل البصرة عليهم عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب ويلقب ببّة، وهرب ابن زياد إلى الشام. وجاء إلى الكوفة عامر بن مسعود من قبل ابن الزبير وبلغه خلاف أهل الري وعليهم الفرّخان فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه، فبعث عتّاب بن ورقاء فهزمهم. ثم بويع مروان وسار إلى مصر فملكها من يد عبد الرحمن بن حجّام القرشيّ داعية ابن الزبير وولّى عليها عمر بن سعيد ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير لما بعثه أخوه عبد الله إلى الشام، وولّى على مصر ابنه عبد العزيز فلم يزل عليها واليا إلى أن هلك لسنة خمسة وثمانين، فولّى عبد الملك عليها ابنه عبد الله بن عبد الملك.
وخلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد واستخلف المهلّب بن أبي صفرة، ثم ولىّ مسلم عبد الله بن حازم فاستبدّ بخراسان إلى حين. ثم خرج أهل الكوفة عمر بن حريث خليفة بن زياد وبايعوا لابن الزبير وقدم المختار بن أبي عبيد أميرا على الكوفة(3/171)
من قبله بعد ستة أشهر من مهلك يزيد، وامتنع شريح من القضاء أيام الفتنة [1] واستعمل ابن الزبير على المدينة أخاه مصعبا سنة خمس وستين مكان أخيه عبد الله وثار بنو تميم بخراسان على عبد الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشّاح وغلب المختار على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست وستين (ثم مات) مروان سنة خمس وستين وولي عبد الملك. وولىّ ابن الزبير أخاه مصعبا على البصرة وولىّ مكانه بالمدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهريّ. ثم ملك عبد العزيز العراق سنة إحدى وسبعين واستعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن أسد وعلى الكوفة أخاه بشر بن مروان وكان على خراسان عبد الله بن حازم بدعوة ابن الزبير، فقام بكير بن وشّاح التميمي بدعوة عبد الملك وقتله. وولّاه عبد الملك خراسان. وكان على المدينة طلحة بن عبد الله بن عوف بدعوة ابن الزبير بعد جابر بن الأسود، فبعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان فغلبه عليها. ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين وانفرد عبد الملك بالخلافة وولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمدا. وعزل خالد بن عبد الله عن البصرة وضمّها إلى أخيه بشر فسار إليها واستخلف على الكوفة عمر بن حريث وولىّ على الحجاز واليمن واليمامة الحجّاج بن يوسف وبعثه من الكوفة لحرب ابن الزبير وعزل طارقا عن المدينة وسار من جنده. وفي سنة أربع وسبعين استقضى أبا إدريس الخولانيّ وأمر بشر أخاه أن يبعث المهلّب بن أبي صفرة لحرب الأزارقة. وعزل عن خراسان بكير بن وشّاح وولّى مكانه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد فبعث أمية ابنه عبد الله على سجستان. وكان على إفريقية زهير بن قيس البلوي فقتله البربر سنة تسع وستين.
وشغل عبد الملك بفتنة ابن الزبير، فلما فرغ منها بعث إلى إفريقية سنة أربع وسبعين حسّان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها، فأثخن فيها وافترقت جموع الروم
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الطبري ج 7 ص 66: «وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة فيها اخوه عبيدة بن الزبير وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطميّ، وعلى قضائها سعد بن ثمران، وأبي شريح ان يقضي فيها. وقال فيما ذكر عنه: انا لا أقضي في الفتنة. وعلى البصرة عمر بن عبد الله بن معمر التميمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله بن خازم» . وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 174 لم يذكر امتناع شريح من القضاء وانما يذكر توليه عبد الله بن يزيد الخطميّ على الكوفة وعلى قضائها هشام بن هبيرة. وقد تولى القضاء بعد امتناع شريح عن القضاء في الكوفة أبا بردة بن أبي موسى كما سنعلم.(3/172)
والبربر. وقتل الكاهنة كما يذكر في أخبار إفريقية ثم ولىّ عبد الملك سنة خمس وسبعين الحجّاج بن يوسف على العراق فقط، وولىّ على السند سعيد بن أسلم بن زرعة وقتل في حروبها، وكان أمر الخوارج وفي سنة ست وسبعين ولي على المدينة أبان ابن عثمان وكان على قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى بعد هشام بن هبيرة وعلى قضاء المدينة عبد الله بن قشير بن مخرمة. ثم كانت حروب الخوارج كما نذكر في أخبارهم. وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أميّة بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمّهما إلى الحجّاج بن يوسف، فبعث الحجّاج على خراسان المهلّب بن أبي صفرة وعلى سجستان عبد الله بن أبي بكرة وولىّ على قضاء البصرة موسى بن أنس واستعفى شريح بن الحرث من القضاء بالكوفة فولّى مكانه أبا بردة بن أبي موسى ثم ولى على قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة وخرج عبد الرحمن بن الأشعث فملك سجستان وكرمان وفارس والبصرة ثم قتل ورجعت إلى حالها، وذلك سنة إحدى وثمانين. وفي سنة اثنتين وثمانين مات المهلّب بن أبي صفرة واستخلف ابنه يزيد على خراسان فأقرّه الحجّاج. وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة وولىّ مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي فعزل هشام نوفل ابن مساحق عن القضاء وولىّ مكانه عمر بن خالد الزرقيّ. وبنى الحجّاج مدينة واسط. وفي سنة خمس وثمانين عزل الحجّاج يزيد بن المهلّب عن خراسان وولىّ مكانه هشام أخاه المفضّل قليلا ثم ولى قتيبة بن مسلم وتوفي عبد الملك. وعزل الوليد لأوّل ولايته هشام بن إسماعيل عن المدينة وولّى مكانه عمر بن عبد العزيز فولّى على القضاء أبا بكر بن عمر بن حزم وولىّ الحجّاج على البصرة الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وولىّ على قضائها عبد الله بن أذينة وعلى قضاء الكوفة أبا بكر بن أبي موسى الأشعري. وفي سنة تسع وثمانين ولىّ الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القسريّ وكان على ثغر السند محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهو ابن عمّ الحجاج. ففتح السند وقتل ملكه، وكان على مصر عبد الله بن عبد الملك ولّاه عليها أبوه ففل ملكها. فعزله الوليد في هذه السنة وولىّ مكانه قرّة بن شريك، وعزل خالدا عن الحجاز وولىّ عمر بن عبد العزيز. وفي سنة إحدى وتسعين عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية وولىّ مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان على طندة في قاصية المغرب طارق بن زياد عاملا لمولاه موسى بن نصير(3/173)
عامل الوليد بالقيروان فأجاز البلاد والبحر إلى بلاد الأندلس وافتتحها سنة اثنتين وتسعين كما يذكر في أخبارها، وفي سنة ثلاث وتسعين عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وولّى مكانه خالد بن عبد الله على مكّة وعثمان بن حيّان على المدينة. ومات الحجّاج سنة خمس وتسعين ثم مات الوليد سنة ست وتسعين وفيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه على سليمان وولّاها سليمان يزيد بن المهلّب وفيها مات قرّة بن شريك [1] وكان على المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم وعلى مكّة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة وفي سنة سبع وتسعين عزل سليمان بن موسى بن نصير [2] عن إفريقية وولّى مكانه محمد بن يزيد القرشيّ حتى مات سليمان فعزل واستعمل عمر مكانه إسماعيل بن عبد الله [3] وفي سنة ثمان وتسعين كان فتح طبرستان وجرجان أيام سليمان بن عبد الملك على يد يزيد ابن المهلّب وفي سنة تسع وتسعين استعمل عمر ابن عبد العزيز على البصرة عدي بن أرطاة الفزاريّ، وأمره بإبقاء يزيد بن المهلّب موثوقا فولّى على القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري ثم إياس بن معاوية وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطّاب. وولّى على المدينة عبد العزيز بن أرطاة وولّى على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمي. ثم عزل سنة مائة وولّى عبد الرحمن بن نعيم القرشي وولّى على الجزيرة عمر بن هبيرة الفزاري، وعلى إفريقية إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم وعلى الأندلس السمح بن مالك الخولانيّ.
ثم في سنة إحدى ومائة عزل إسماعيل عن إفريقية وولّاها يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجّاج، فلم يزل عليها إلى أن قتل. وفي سنة اثنتين ومائة ولي يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على العراق وخراسان فولّى على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة ويقال له سعيد خدينة. ثم استحيا من مسلمة في أمر الجرّاح فعزله وولّى مكانه ابن يزيد بن هبيرة، فجعل على قضاء الكوفة القاسم
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 20: «وفي هذه السنة (96) مات قرّة بن شريك العبسيّ أمير مصر في صفر، وقيل مات سنة خمس وتسعين في الشهر الّذي مات فيه الحجّاج» .
[2] العبارة غير صحيحة. وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 23: «وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل عليها محمد بن يزيد القرشي» .
[3] إسماعيل بن عبيد الله: ابن الأثير (المرجع السابق) .(3/174)
ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
وكان على مصر أسامة بن زيد، وليها بعد قرّة بن شريك وولّى ابن هبيرة على خراسان سعيدا الحريشيّ مكان حذيفة. وفي سنة ثلاث ومائة جمع يزيد مكّة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحّاك، وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عن مكّة وعن الطائف وولّى مكانه على الطائف عبد الواحد بن عبد الله البصري. وفي سنة أربع ومائة ولّى يزيد على أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكمي وعزل عبد الرحمن بن الضحّاك عن مكّة والمدينة لثلاث سنين من ولايته، وولّى عليهما مكانه عبد الواحد النصري [1] وعزل ابن هبيرة سعيد الحريشيّ عن خراسان وولّى عليها مسلم بن سعيد ابن أسلم بن زرعة الكلابي، وولّى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي. ومات يزيد بن عبد الملك سنة خمس وولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري، واستعمل خالد على خراسان أخاه أسدا سنة سبع ومائة.
وعزل مسلم بن سعيد وولّى على البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس. وولّى على السند الجنيد بن عبد الرحمن. واستعمل هشام على الموصل الحرّ بن يوسف، وعزل عبد الواحد النصري عن الحجاز، وولّى مكانه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، واستقضى بالمدينة محمد بن صفوان الجمحيّ، ثم عزله واستقضى الصّلت الكندي. وعزل الجرّاح بن عبد الله عن أرمينية وأذربيجان وولّى مكانه أخاه مسلمة، فولّى عليها الحرث ابن عمر الطائي. وكان على اليمن سنة ثمان يوسف بن عمر، وفي سنة تسع عزل خالد أخاه أسدا عن خراسان وولّى هشام عليها أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالدا بعد أن كان خالد ولّى الحكم بن عوانة الكلبي مكان أخيه، فلم يقرّ فعزله هشام. ومات في سنة تسع عامل القيروان بشر بن صفوان، فولى هشام مكانه عبيدة بن عبد الرحمن بن الأغرّ السلمي فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس، واستعمل حذيفة بن الأخوص الأشجعيّ. ثم عزل لستة أشهر ووليها عثمان بن أبي نسعة الخثعميّ وفي سنة عشر ومائة جمع خالد الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بردة وعزل تمامة عن القضاء. وفي سنة إحدى عشرة عزل هشام عن خراسان أشرس بن عبد الله وولّى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن الحرث بن خارجة بن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: البصري وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 113: النضريّ.(3/175)
سنان بن أبي حارثة المرّي وولّى على أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكمي وعزل مسلمة.
وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن عامل إفريقية وعثمان بن أبي تسعة عن الأندلس، وولّى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني. وفي سنة اثنتي عشرة قتل الجرّاح بن عبد الله صاحب أرمينية قتله التركمان، فولّى هشام مكانه سعيدا الحريشيّ. ومات الهيثم عامل الأندلس وولّوا على أنفسهم مكانه محمد بن عبد الله الأشجعي شهرين وبعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقيّ من قبيل ابن عبد الرحمن السلمي عامل إفريقية.
وغزا إفرنجة فاستشهد، فولّى عبيدة مكانه عبد الملك بن قطن الفهري وعزل عبيدة عن إفريقية وولّى مكانه عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار إليها. وفي سنة أربع عشرة عزل هشام مسلمة عن أرمينية وولّى مكانه مروان بن محمد بن مروان.
وعزل إبراهيم بن هشام عن الحجاز وولّى مكانه على المدينة خالد بن عبد الملك بن الحرث بن الحكم، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام المخزوميّ. وفي سنة ست عشرة ومائة عزل هشام الجنيد بن عبد الرحمن المرّي عن خراسان وولّى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلاليّ. وفيها استعمل عبد الله بن الحجاب على الأندلس عقبة بن الحجّاج القيسي مكان عبد الملك بن قطن ففتح خليتيه [1] وفي سنة سبع عشرة ومائة عزل هشام عاصم بن عبد الله عن خراسان وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري فاستخلف خالد أخاه أسدا. وولّى هشام على إفريقية والأندلس عبيد الله بن الحجاب وكان على مصر فسار اليها واستخلف على مصر ولده وولّى على الأندلس عقبة بن الحجّاج وعلى طنجة ابنه إسماعيل وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان وفتح وغنم. وأغزاه إلى صقلّيّة سنة اثنتين وعشرين ومائة ففتح أكثرها ثم واستدعاه لفتنة ميسرة كما نذكره في أخبارهم وفي سنة ثمان عشرة عزل هشام عن المدينة خالد بن عبد الملك بن الحرث وولّى مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل. وفي سنة عشرين مات أسد بن عبد الله الخراسانيّ وولي مكانه نصر بن سيّار. وعزل هشام خالد القسري عن جميع أعماله بالعراقين وخراسان وولّى مكانه يوسف بن عمر الثقفي
__________
[1] وفيها استعمل عبد الله بن الحجاب عطيّة بن الحجّاج القيسيّ على الأندلس فسار اليها ووليها في شوّال من هذه السنة وعزل عبد الملك بن قطن، وكان له كلّ سنة غزاة، وهو الّذي افتتح جليقية والبتة وغيرهما. (ابن الأثير ج 5 ص 185) .(3/176)
استقدمه إليها من ولاية اليمن، فأقرّ نصر بن سيّار على خراسان، وكان على قضاء الكوفة ابن شرمة [1] وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة وولّى يوسف بن عمر بن شرمة على سجستان واستقضى مكانه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وكان على قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرّة فمات في هذه السنة وفي سنة ثلاث وعشرين قتل كلثوم بن عيّاض الّذي حثه هشام لقتال البربر بالمغرب وتوفي عقبة بن الحجّاج أمير الأندلس وقيل بل خلعوه، وولّى مكانه عبد الملك بن قطن ولايته الثانية كما يذكر.
وفي سنة أربع وعشرين ظهر أمر أبي مسلم بخراسان. وتلقب بلخ [2] على الأندلس ثم مات وكان سار إليها من فل كلثوم بن عيّاض لما قتله البربر بالمغرب وولّى هشام على الأندلس أبا الخطّار حسام بن ضرار الكلبي فأمر حنظلة بن صفوان أن يوليه فولّاه وكان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد ولوه بعد بلج فعزله أبو الخطار. وفي هذه السنة ولّى الوليد بن يزيد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفيّ على الحجاز فأسره ثم قتل الوليد سنة ست وعشرين فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر وولّى مكانه منصور ابن جمهور، فبعث عامله على خراسان فامتنع نصر بن سيّار من تسليم العمل له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور وولّى مكانه على العراق عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز، وغلب حنظلة على إفريقية عبد الرحمن بن حبيب كما يذكر في خبرها. وعزل يزيد عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف، وولّى مكانه عبد العزيز ابن عمر بن عثمان، وغلب سنة سبع وعشرين عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على الكوفة، وولّى مروان على الحجاز عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعلى العراق النضر بن سعيد الحريشيّ. وامتنع ابن عمر من استلام العمل إليه ووقعت الفتنة بينهم. ولحق ابن عمر بالخوارج كما يذكر في أخبارهم واستولى بنو العبّاس على خراسان. وفي سنة تسع وعشرين ولي يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ على الأندلس بعد نوّابة بن سلامة كما يأتي في أخبارهم. وولّى مروان على الحجاز عبد الواحد [3] وعلى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة وفي سنة ثلاثين ملك أبو مسلم
__________
[1] ابن شبرمة (ابن الأثير ج 5 ص 228) وفي نسخة اخرى شبرمة.
[2] هو بلج (ابن الأثير ج 5 ص 259) .
[3] عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك: ابن الأثير ج 5 ص 373. وفي الطبري ج 9 ص 96: «وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن ودان» .(3/177)
خراسان وهرب عنها نصر بن سيّار فمات بنواحي همذان سنة إحدى وثلاثين وجاء المسوّدة عليهم قحطبة فطلبوا ابن هبيرة على العراق وملّكوه وبايعوا خليفتهم أبا العبّاس السفّاح. ثم غلبوا مروان على الشام ومصر وقتلوه. وانقرض أمر بني أمية وعاد الأمر والخلافة لبني العبّاس والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده وهذه أخبار بني أمية مخلصة [1] من كتاب أبي جعفر الطبري ولنرجع إلى أخبار الخوارج كما شرطنا في أخبارها بالذكر، والله المعين لا ربّ غيره.
الخبر عن الخوارج وذكر أوّليتهم وتكرّر خروجهم في الملة الإسلامية
قد تقدّم لنا خبر الحكمين في حرب صفين واعتزل الخوارج عليا منكرين للتحكيم مكفّرين به ولاطفهم في الرجوع عن ذلك وناظرهم فيه بوجه الحق فلجّوا وأبوا إلا الحرب وجعلوا أشعارهم النداء بلا حكم إلا للَّه وبايعوا عبد الله ابن وهب الراسبي وقاتلهم عليّ بالنهروان فاستلحمهم أجمعين ثم خرج من فلّهم طائفة بالأنبار فبعث إليهم من استلحمهم ثم طويفة أخرى مع هلال بن عليّة فبعث معقل بن قيس فقتلهم. ثم أخرى ثالثة كذلك، ثم أخرى على المدائن كذلك، ثم أخرى بشهرزور كذلك، وبعث شريح بن هانئ فهزموه فجرح واستلحمهم أجمعين، واستأمن من بقي فأمّنهم وكانوا نحو خمسين. وافترق شمل الخوارج ثم اجتمع من وجدانهم الثلاثة الذين توعدوا [2] لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فقتل بالسهم عبد الرحمن بن ملجم عليّا رضى الله عنه وباء بإثمه وسلم الباقون، ثم اتفقت الجماعة على بيعة معاوية سنة إحدى وأربعين واستقل معاوية بخلافة الإسلام.
وقد كان فروة بن نوفل الأشجعي اعتزل عليّا والحسن ونزل شهرزور وهو في خمسمائة من الخوارج فلما بويع معاوية قال فروة لأصحابه: قد جاء الحق فجاهدوا وأقبلوا فنزلوا النخيلة عند الكوفة فاستنفر معاوية أهل الكوفة فخرجوا لقتالهم، وسألوا أهل الكوفة أن يخلوا بينهم وبين معاوية فأبوا فاجتمعت أشجع على فروة وأتوا له من القتال
__________
[1] لعلها ملخصة.
[2] الأصح: تواعدوا أي اتفقوا على ميعاد، بينما هنا تعني تهددوا.(3/178)
ودخلوا الكوفة قهرا [1] واستعمل الخوارج بعده عبد الله بن أبي الحريشيّ من طيِّئ وقاتلوا أهل الكوفة فقاتلوا وابن أبي الحريشيّ معهم ثم اجتمعوا بعده على حوثرة بن وداع الأسدي وقدموا إلى النخيلة في مائة وخمسين ومعهم فلّ ابن أبي الحريشيّ.
وبعث معاوية إلى حوثرة أباه ليردّه عن شأنه فأبى، فبعث إليهم عبد الله بن عوف في معسكر فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين دخلوا الكوفة وتفرّقوا فيها، وذلك في جمادى الأخيرة سنة إحدى وأربعين. وسار معاوية إلى الشام وخلف المغيرة بن شعبة فعاد فروة ابن نوفل الأشجعي إلى الخروج فبعث إليه المغيرة خيلا عليها ابن ربعي ويقال معقل ابن قيس فلقيه بشهرزور فقتله ثم بعث المغيرة إلى شبيب بن أبجر من قتله، وكان من أصحاب ابن ملجم وهو الّذي أتى معاوية يبشّره بقتل عليّ فخافه على نفسه وأمر بقتله فتنكّر بنواحي الكوفة إلى أن بعث المغيرة من قتله ثم بلغ المغيرة أنّ بعضهم يريد الخروج وذكر له معن بن عبد الله المحاربي فحبسه ثم طالبه بالبيعة لمعاوية فأبى فقتله.
ثم خرج على المغيرة أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب فأخرج معه النساء، فبعث المغيرة من قتله وأصحابه ثم حكم أبو ليلى في المسجد بمشهد الناس وخرج في اثنين من الموالي فأتبعه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسور الكوفة سنة اثنتين وأربعين ثم خرج على ابن عامر في البصرة سهم بن غانم الجهنيّ في سبعين رجلا منهم الحطيم وهو يزيد بن حالك الباهليّ، ونزلوا بين الجسرين والبصرة ومرّ بهم بعض الصحابة منقلبا من الغزو فقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، وقالوا: هؤلاء كفرة وخرج إليهم ابن عامر فقتل منهم عدّة وأمّن باقيهم ولما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب منهم الحطيم إلى الأهواز وجمع ورجع إلى البصرة فافترق عنه أصحابه فاختفى وطلب الأمان من زياد فلم يؤمنه ثم دل عليه فقتله وصلبه بداره. وقيل بل قتله عبد الله بعد زياد سنة أربع وخمسين. ثم اجتمع الخوارج بالكوفة على المستورد بن عقلة التيمي من تيم الرباب وعلى حيّان بن ضبيان السلمي وعلى معاذ بن جوين الطائي. وكلهم من فلّ النهروان الذين ارتموا في القتلى ودخلوا الكوفة بعد مقتل عليّ واجتمعوا في أربعمائة في منزل حيّان بن ضبيان وتشاوروا في الخروج، وتدافعوا الإمارة. ثم اتفقوا على المستورد وبايعوه في جمادى الأخيرة وكبسهم المغيرة في منزلهم فسجن حيّان وأفلت
__________
[1] المعنى غير واضح وفي نسخة اخرى: «فاجتمعت أشجع على فروة فوعظوه فلم يرجع فأخذوه قهرا وأدخلوه الكوفة» .(3/179)
المستورد فنزل الحيرة واختلف إليه الخوارج. وبلغ المغيرة خبرهم فخطب الناس وتهدّد الخوارج فقام إليه معقل بن قيس فقال: ليكفك كل رئيس قومه. وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس وكان عالما بمنزلهم عند سليم بن مخدوج العبديّ إلا أنه لا يسلم عشيرته، فخرجوا ولحقوا بالصراة في ثلاثمائة فجهّز إليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف وجعل معظمهم من شيعة عليّ، وخرج معقل في الشيعة وجاء الخوارج ليعبروا النهر إلى المدائن فمنعهم عاملها سمّال بن عبد العبسيّ ودعاهم إلى الطاعة على الأمان فأبوا فساروا إلى المذار. وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فبعث شريك بن الأعور الحارثيّ في ثلاثة آلاف من الشيعة وجاء معقل بن قيس إلى المدائن وقد ساروا إلى المذار، فقدّم بين يديه أبا الرواع الشاكريّ في ثلاثمائة، وسار ولحقهم أبو الرواع بالمذار فقاتلهم. ثم لحقه معقل بن قيس متقدّما أصحابه عند المساء فحملت الخوارج عليه فثبت وباتوا على تعبية، وجاء الخبر إلى الخوارج بنهوض شريك بن الأعور من البصرة فأسروا من ليلتهم راجعين وأصبح معقل واجتمع بشريك وبعث أبا الرواع في أتباعهم في ستمائة فلحقهم بجرجان فقاتلهم فهزمهم إلى ساباط وهو في اتباعهم. ورأى المستورد أن هؤلاء مع أبي الرواع حماة أصحاب معقل فتسرب عنهم إلى معقل وأبو الرواع في اتباعه ولما لحق بمعقل قاتلهم قتالا وأدركهم أبو الرواع بعد أن لقي كثيرا من أصحاب معقل منهزمين فردّهم واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل المستورد معقلا طعنه بالرمح فأنفذه وتقدّم معقل والرمح فيه إلى المستورد فقسم دماغه بالسيف وماتا جميعا. وأخذ الراية عمر بن محرز بن شهاب التميمي بعهد معقل بذلك. ثم حمل الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم إلا خمسة أو ستة. وعند ابن الكلبي أنّ المستورد من تيم من بني رباح. خرج بالبصرة أيام زياد قريب الأزدي ورجاف الطائي ابنا الخالة، وعلى البصرة سمرة بن جندب وقتلوا بعض بني ضبّة فخرج عليهم شبان من بني عليّ وبني راسب فرموهم بالنبل، وقتل قريب وجاء عبد الله بن أوس الطائي برأسه واشتد زياد في أمر الخوارج وسمرة وقتلوا منهم خلقا. ثم خرج سنة اثنتين وخمسين على زياد بن حراش العجليّ في ثلاثمائة بالسواد فبعث اليهم زياد سعد بن حذيفة في خيل فقتلوهم، وخرج أيضا أصحاب المستورد حيّان بن ضبيان ومعاذ من طيِّئ فبعث إليهما من قتلهما وأصحابهما. وقيل بل استأمنوا وافترقوا. ثم اجتمع بالبصرة سنة ثمان وخمسين سبعون رجلا من الخوارج من عبد(3/180)
القيس وبايعوا طواف بن [1] على أن يفتكوا بابن زياد، وكان سبب ذلك أنّ ابن زياد حبس جماعة من الخوارج بالبصرة وحملهم على قتل بعضهم بعضا وخلى سبيل القاتلين ففعلوا وأطلقهم، وكان منهم طوّاف ثم ندموا وعرضوا على أولياء المقتولين القود والدية فأبوا، وأفتاهم بعض علماء الخوارج بالجهاد لقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من بَعْدِ ما فُتِنُوا 16: 110 الآية، فاجتمعوا للخروج كما قلنا. وسعى بهم إلى ابن زياد فاستعجلوا الخروج وقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء كما قلنا. فندب ابن زياد الشرط والمحاربة فقاتلوهم. فانهزم الشرط أوّلا ثم كثرهم الناس فقتلوا عن آخرهم.
واشتد ابن زياد على الخوارج وقتل منهم جماعة كثيرة منهم: عروة بن أدبة أخو مرداس وأدبة أمهما وأبوهما جرير بن تميم. وكان وقف على ابن زياد يوما يعظه فقال أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 26: 128 الآيات؟ فظن ابن زياد أنّ معه غيره فأخذه وقطعه وقتل ابنيه. وكان أخوه مرداس من عظمائهم وعبّادهم وممن شهد النهروان بالاستعراض ويحرّم خروج النساء ولا يرى بقتال من لا يقاتله. وكانت امرأته من العابدات من بني يربوع وأخذها ابن زياد فقطعها. والحّ ابن زياد في طلب الخوارج وقتلهم وخلّى سبيل مرداس من بينهم لما وصف له من عبادته، ثم خاف فخرج إلى الأهواز وكان يأخذ مال المسلمين إذا مرّ به فيعطي منه أصحابه ويرد الباقي. وبعث ابن زياد إليهم أسلم بن زرعة الكلابي في الغي رجل ودعاهم إلى معاودة الجماعة فأبوا وقاتلوهم فهزموا أسلم وأصحابه فسرّح إليهم ابن زياد عبّاد بن علقمة المازنيّ. ولحقهم بتوج وهم يصلون فقتلهم أجمعين ما بين راكع وساجد لم يتغيروا عن حالهم ورجع إلى البصرة برأس أبي بلال مرداس فرصده عبيدة بن هلال في ثلاثة نفر عند قصر الإمارة ليستفتيه فقتلوه واجتمع عليهم الناس فقتلوا منهم وكان على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة فأمره زياد بتتبع الخوارج إلى أن تقدّم فحبسهم، وأخذ الكفلاء على بعضهم وأتى بعروة بن أدبة فقال أنا كفيلك وأطلقه. ولما جاء ابن زياد قتل المحبوسين منهم والمكفولين، وطالب ابن أبي بكرة بعروة بن أدبة فبحث عنه حتى ظفر به وجاء به إلى ابن زياد فقطعه وصلبه سنة ثمان وخمسين. ثم مات يزيد واستفحل أمر ابن الزبير بمكة وكان الخوارج لما اشتدّ عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال مرداس أشار عليهم
__________
[1] ضوّاف بن غلّاق: ابن الأثير ج 3 ص 516(3/181)
نافع بن الأزرق منهم باللحاق بابن الزبير لجهاد عساكر يزيد لما ساروا إليه قالوا: وإن لم يكن على رأينا داحضا عن البيت وقاموا يقاتلون معه فلما مات يزيد وانصرفت العساكر كشفوا عن رأي ابن الزبير فيهم وجاءوه يرمون من عثمان ويتبرّءون منه فصرّح بمخالفتهم. وقال بعد خطبة طويلة أثنى فيها على الشيخين وعليّ وعثمان واعتذر عنه فيما يزعمون، وقال: أشهدكم ومن حضرني أني وليّ لابن عفّان وعدوّ لأعدائه قالوا: فبرئ الله منك قال بل بريء الله منكم فافترقوا عنه. وأقبل نافع بن الأزرق الحنظليّ وعبد الله بن صفّار السعديّ وعبد الله بن أباض، وحنظلة بن بيهس وبنو الماخور: عبد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع وكلهم من تميم، حتى أتوا البصرة وانطلق أبو طالوت عن بني بكر بن وائل وأبو فديك عبد الله بن نور بن قيس ابن ثعلبة وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة فوثبوا بها مع أبي طالوت. ثم تركوه ومالوا عنه إلى نجدة ابن عامر الحنفيّ. ومن هنا افترقت الخوارج على أربع فرق:
الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنظليّ وكان رايه البراءة من سائرة المسلمين وتكفيرهم والاستعراض وقتل الأطفال واستحلال الأمانة لأنه يراهم كفّارا. والفرقة الثانية النجديّة وهم بخلاف الأزارقة في ذلك كلّه. والفرقة الثالثة الإباضيّة أصحاب عبد الله بن إباض المريّ وهم يرون أنّ المسلمين كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين فلا ينتهون إلى الرأي الأوّل ولا يقفون عند الثاني ولا يحرّمون مناكحة المسلمين ولا موارثتهم ولا المنافقين فيهم وهم عندهم كالمنافقين، وقول هؤلاء أقرب إلى السنّة ومن هؤلاء البيهسيّة أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعيّ. والفرقة الرابعة الصفريّة وهم موافقون للأباضية إلا في العقدة فإنّ الإباضية أشد على العقدة منهم. وربما اختلفت هذه الآراء من بعد ذلك واختلف في تسمية الصفريّة فقيل نسبوا إلى ابن صفّار وقيل اصفروا بما نهكتهم العبادة وكانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشاذ من الفروع. وفي أصل اختلافهم هذا مكاتبات بين نافع بن الأزرق وأبي بيهس وعبد الله بن إباض ذكرها المبرد في كتاب الكامل فلينظر هناك، (ولما جاء نافع) إلى نواحي البصرة سنة أربع وستين فأقام بالأهواز يعترض الناس وكان على البصرة عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب، فسرّح إليه مسلم عبس بن كويز بن ربيعة من أهل البصرة بإشارة الأحنف ابن قيس، فدافعه عن نواحي البصرة وقاتله بالأهواز، على ميمنة مسلم الحجّاج بن(3/182)
باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر العدابي، وعلى ميمنة ابن الأزرق عبيدة بن هلال وعلى ميسرته الزبير بن الماخور التميمي. فقتل مسلم ثم قتل نافع فأمّر أهل البصرة عليهم الحجّاج بن باب والخوارج عبد الله بن الماخور ثم قتل الحجّاج، وعبد الله فأمّر أهل البصرة ربيعة بن الاخدم [1] والخوارج عبيد الله بن الماخور. ثم اقتتلوا حتى أمسوا، وجاء إلى الخوارج مدد فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتل ربيعة وولّوا مكانه حارثة بن بدر فقاتل وردّهم على الأعقاب ونزل الأهواز. ثم عزل عن البصرة عبد الله بن الحرث وبعث ابن الزبير عليها الحرث القبّاع بن أبي ربيعة فزحف الخوارج إلى البصرة، وأشار الأحنف بن قيس بتولية المهلّب حروبهم، وقد كان ابن الزبير ولّاه خراسان، فكتبوا لابن الزبير بذلك فأجاب، واشترطوا للمسلم ما سأل من ولاية ما غلب عليه، والإعانة بالأموال، فاختار من الجند اثني عشر ألفا وسار إليهم فدفعهم عن الجسر. وجاء حارثة بن بدر بمن كان معه في قتال الخوارج، فردّهم الحرث إلى المهلّب وركب حارثة البحر يريد البصرة فغرق في النهر. وسار المهلّب وعلى مقدمته ابنه المغيرة فقاتلهم المقدمة ودفعوهم عن سوق الأهواز إلى مادر.
ونزل المهلّب بسولاف وقاتله الخوارج وصدقوا الحملة فكشفوا أصحاب المهلّب ثم ترك من الغد قتالهم وقطع دجيل ونزل العقيل ثم ارتحل فنزل قريبا منهم وخندق عليه وأذكى العيون والحرس. وجاء منهم عبيدة بن هلال والزبير بن الماخور في بعض الليالي ليبيّتوا عسكر المهلّب فوجدوهم حذرين وخرج إليهم المهلب من الغد في تعبية والأزد وتميم في ميمنته، وبكر وعبد القيس في ميسرته، وأهل العالية في القلب.
وعلى ميمنة الخوارج عبيدة بن هلال اليشكريّ، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماخور واقتتلوا ونزل الصبر. ثم شدّوا على الناس فأجفل عسكر المهلّب وانهزم وسبق المنهزمين إلى ربوة ونادى فيهم فاجتمع له ثلاثة آلاف أكثرهم من الأزد، فرجع بهم وقصد عسكر الخوارج واشتدّ قتالهم ورموهم بالحجارة، وقتل عبد الله بن الماخور [2] وكثير منهم وانكفؤا راجعين إلى كرمان وناحية أصبهان منهزمين، واستخلفوا عليهم الزبير ابن الماخور [3] وأقام المهلّب بمكانه حتى جاء مصعب بن الزبير أميرا على البصرة وعزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ربيعة بن الأخزم.
[2] عبد الله بن الماخور: ابن الأثير ج 4 ص 199
[3] الزبير بن الماخور: ابن الأثير ج 4 ص 200(3/183)
المهلب. (وأمّا نجدة) وهو نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيّار [1] بن مفرّج الحنفيّ.
وكان مع نافع بن الأزرق، فلما افترقوا سار إلى اليمامة ودعا أبو طالوت إلى نفسه، وهو من بكر بن وائل وتابعه نجدة ونهب الحضارم بلد بني حنيفة وكان فيها رقيق كثير يناهز أربعة آلاف فقسّمها في أصحابه، وذلك سنة خمس وستين. واعترض عيرا من البحرين جاءت لابن الزبير فأخذها وجاء بها إلى أبي طالوت فقسّمها بين أصحابه. ثم رأى الخوارج أن نجدة خير لهم من أبي طالوت فخالفوه وبايعوا نجدة وسار إلى بني كعب بن ربيعة فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع نجدة إلى اليمامة في ثلاثة آلاف، ثم سار إلى البحرين سنة سبع وستين فاجتمع أهل البحرين من عبد القيس وغيرهم على محاربته. وسالمته الأزد والتقوا بالعطيف فانهزمت عبد القيس وأثخن فيهم نجدة وأصحابه وأرسل سرية إلى الخط فظفروا بأهله. ولما قدم مصعب بن الزبير البصرة سنة تسع وستين بعث عبد الله بن عمر الليثي الأعور في عشرين ألفا [2] ونجدة بالعطيف فقاتلوهم وهزمهم نجدة وغنم ما في عسكرهم وبعث عطية بن الأسود الحنفي من الخوارج إلى عمان وبها عبّاد ابن عبد الله شيخ كبير فقاتله عطيّة فقتله وأقام أشهرا وسار عنها، واستخلف عليها بعض الخوارج فقتله أهل عمان وولّوا عليهم سعيدا وسليمان ابني عبّاد. ثم خالف عطيّة نجدة وجاء إلى عمان فامتنعت منه، فركب البحر إلى كرمان وأرسل إليه المهلّب جيشا فهرب إلى سجستان ثم إلى السند فقتله خيل المهلّب بقندابيل. ثم بعث نجدة المعرفين إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير فقاتلوا بني تميم بكاظمة وأعانهم أهل طويلع فبعث نجدة من استباحهم وأخذ منهم الصدقة كرها.
ثم سار إلى صنعاء فبايعوه وأخذ الصدقة من مخالفيها. ثم بعث أبا فديك إلى حضرموت فأخذ الصداقة منهم. وحج سنة ثمان وستين في تسعمائة رجل وقيل في ألفين، ووقف ناحية عن ابن الزبير على صلح عقد بينهما. ثم سار نجدة إلى المدينة وتأهبوا لقتاله، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتا لعبد الله بن عمر بن عثمان فضمّها إليه وامتحنه الخوارج بسؤاله بيعها فقال: قد أعتقت نصيبي منها. قالوا: فزوّجها، قال: هي أملك بنفسها، وقد كرهت الزواج ولما قرب من الطائف جاءه عاصم بن عروة بن مسعود فبايعه عن قومه وولّى عليهم الخازرق وعلى يبانة والسراة. وولّى على
__________
[1] بن ساد: ابن الأثير ج 4 ص 201
[2] عبد الله بن عمير الليثي الأعور في اربعة عشر الفا: ابن الأثير ج 4 ص 202(3/184)
ما يلي نجران سعد الطلائع، ورجع إلى البحرين وقطع الميرة عن الحرمين. وكتب إليه ابن عبّاس أنّ ثمامة بن أشاك [1] لما أسلم قطع الميرة عن مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فخلّاها لهم، وانك قطعت الميرة ونحن مسلمون فخلّاها لهم نجدة. ثم اختلف إليه أصحابه لأنّ أبا سنان حييّ بن وائل أشار عليه بقتل من أطاعه تقية، فانتهره نجدة وقال: إنما علينا أن نحكم بالظاهر. وأغضبه عطية في منازعة جرت بينهما على تفضيله لسرية البرّ على سرية البحر في الغنيمة فشتمه نجدة فغضب وسأله في درء الحدّ في الخمر عن رجل من شجعانهم فأبى، وكاتبه عبد الملك في الطاعة على أن يولّيه اليمامة ويهدر له ما أصاب من الدماء فاتّهموه في هذه المكاتبة ونقموا عليه أمثال هذه، وفارقه عطية إلى عمان. ثم انحازوا عنه وولّوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة واستخفى نجدة وألح أبو فديك في طلبه وكان مستخفيا في قرية من قرى حجر. ثم نذر به فذهب إلى أخواله من تميم وأجمع المسير إلى عبد الملك، فعلم به أبو فديك، وجاءت سرية منهم وقاتلهم فقتلوه. وسخط قتله جماعة من أصحاب أبي فديك وأعتمده مسلم بن جبير فطعنه اثنتي عشر طعنة وقتل مسلم لوقته، وحمل أبو فديك إلى منزله، ثم جاء مصعب إلى البصرة سنة ثمان وستين واليا على العراقين عن أخيه، وكان المهلّب في حرب الأزارقة فأراد مصعب أن يولّيه بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية، ليكون بينه وبين عبد الملك فاستقدمه من فارس وولّاه، وولّى على فارس وحرب الأزارقة عمر بن عبد الله بن معمر. وكان الخوارج قد ولّوا عليهم بعد قتل عبد الله بن الماخور سنة خمس وستين أخاه الزبير فجاءوا به إلى إصطخر، وقدم عمر ابنه عبيد الله إليهم فقتلوه ثم قاتل الزبير عمر فهزمهم وقتل منهم سبعون. وفلق قطري بن الفجاءة وشتر صالح بن مخراق وساروا إلى نيسابور، فقاتلهم عمر بها وهزمهم، فقصدوا أصبهان فاستحموا بها. ثم أقبلوا إلى فارس وتجنّبوا عسكر عمر ومروا على ساجور ثم أرّجان، فأتوا الأهواز قاصدين العراق.
وأغذ عمر السير في أثرهم، وعسكر مصعب عند الجسر. فسار الزبير بالخوارج فقطع أرض صرصر وشنّ الغارة على أهل المدائن يقتلون الولدان والرجال، ويبقرون بطون الحبالى، وهرب صاحب المدائن عنها وانتهت جماعة منهم إلى الكرخ، فقاتلهم أبو
__________
[1] ثمامة بن أثال: ابن الأثير ج 4 ص 204(3/185)
بكر بن مخنف فقتلوه وخرج أمير الكوفة وهو الحرث بن أبي ربيعة القبّاع حتى انتهى إلى الصراة ومعه إبراهيم بن الأشتر وشبيب بن ربعي، وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحرث ومحمد بن عمير، وأشاروا عليه بعقد الجسر والعبور إليهم، فانهزموا إلى المدائن. وأمر الحرث عبد الرحمن ابن مختف باتباعهم في ستة آلاف إلى حدود أرض الكوفة، فانتهوا إلى الري وعليها يزيد بن الحرث بن دويم الشّيبانيّ وما والاهم عليه أهل الري فهزموه وقتلوه. ثم انحطوا إلى أصبهان وبها عتاب بن ورقاء فحاصروه أشهرا وكان يقاتلهم على باب المدينة ثم دعا إلى الاستماتة في قتالهم فخرجوا وقاتلوهم، وانهزمت الخوارج وقتل الزبير واحتووا على معسكرهم. ثم بايع الخوارج قطري بن الفجاءة المازنيّ ويكنى أبا نعامة وارتحل بهم إلى كرمان حتى استجمعوا فرجعوا إلى أصبهان فامتنعت، فأتوا الأهواز وقاموا. وبعث مصعب إلى المهلّب فردّه إلى قتال الخوارج وولّى على الموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلّب فانتجعت الناس من البصرة وسار إلى الخوارج فلقيهم بسولاف واقتتلوا ثمانية أشهر وبعث مصعب إلى عتاب بن ورقاء الرباحي [1] عامل أصبهان بقتال أهل الري بما فعله في ابن دويم، فسار إليهم وعليهم الفرّخان فقاتلهم وافتتحها عنوة وقلاعها وعاث في نواحيها.
خبر ابن الحرّ ومقتله
كان عبيد الله بن الحرّ الجعفي من خيار قومه صلاحا وفضلا. ولما قتل عثمان حزن عليه، وكان مع معاوية على عليّ، وكانت له زوجة بالكوفة فتزوّجت لطول مغيبه.
فأقبل من الشام وخاصم زوجها إلى عليّ فعدّد [2] عليه شهوده صفين. فقال:
أيمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا وردّ إليه امرأته. فرجع إلى الشام وجاء إلى الكوفة بعد مقتل عليّ ولقي إخوانه وتفاوضوا في النكير على عليّ ومعاوية. ولما قتل الحسين تغيّب على ملحمته وسأل عنه ابن زياد فلم يره. ثم لقيه فأساء عذله، وعرض له بالكون مع عدوّه فأنكر وخرج مغضبا. وراجع ابن زياد رأيه فيه فطلبه فلم يجده فبعث عنه فامتنع، وقال: أبلغوه أني لا آتيه طائعا أبدا وأتى منزل أحمد بن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الرياحي.
[2] لعلها ندّد(3/186)
زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه، وخرج إلى المدائن. ومضى لمصارع الحسين وأصحابه فاستغفر لهم، ولما مات يزيد وقعت الفتنة اجتمع إليه أصحابه وخرج بنواحي المدائن، ولم يعترض للقتل ولا للمال، إنما كان يأخذ مال السلطان متى لقيه فيأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويردّ الباقي ويأخذ لصاحب المال بما أخذ. وحبس المختار امرأته بالكوفة وجاء فأخرجها من الحبس وأخرج كل من فيه وأراد المختار أن يسطو به فمنعه إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل لقتال ابن زياد. ثم فارقه ولم يشهد معه وشهد مع مصعب قتال المختار وقتله. ثم أغرى به مصعب فحبسه وشفع فيه رجال من وجوه مذحج فشفعهم وأطلقه، وأتى إليه الناس يهنئونه فصرّح بأن أحدا لا يستحق بعد الأربعة ولا يحلّ أن يعقد لهم بيعة في أعناقنا، فليس لهم علينا من الفضل ما يستحقون به ذلك، وكلهم عاص مخالف، قوي الدنيا ضعيف الآخرة، ونحن أصحاب الأيام مع فارس، ثم لا يعرف حقنا وفضلنا وإني قد أظهرت لهم العداوة. وخرج للحرب فأغار فبعث إليه مصعب سيف بن هانئ المراديّ يعرض عليه الطاعة على أن يعطيه قطعة من بلاد فارس فأبى، فسرّح إليه الأبرد بن فروة الرباحيّ في عسكر فهزمه عبيد الله فبعث إليه حريث بن زيد فهزمه فقتله، فبعث إليه الحجّاج بن حارثة الخثعميّ ومسلم بن عمر فقاتلهما بنهر صرصر وهزمهما، فأرسل إليه مصعب بالأمان والولاية فلم يقبل، وأتى إلى فارس فهرب دهقانها بالمال وتبعه ابن الحرّ إلى عين التمر وعليه بسطام بن معقلة بن هبيرة الشّيبانيّ، فقاتل عبيد الله وأوفاهم الحجّاج بن حارثة فهزمهما عبيد الله وأسرهما وأخذ المال الّذي مع الدهقان. وأقام بتكريت ليحيي الخراج فسرّح مصعب لقتاله الأبرد ابن فروة الرباحي والجون بن كعب الهمدانيّ في ألف وأمدهم المهلّب بيزيد بن المعقل في خمسمائة وقاتلهم عبيد الله يومين في ثلاثمائة ثم تحاجزوا وقال لأصحابه: إني سائر بكم إلى عبد الملك فتجهّزوا! ثم قال: إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعبا وقصد الكوفة وجاءته العساكر من كل جهة، ولم يزل يهزمهم ويقتل منهم بنواحي الكوفة والمدائن. وأقام يغير بالسواد ويجبي الخراج ثم لحق بعبد الملك فأكرمه وأجلسه معه على سريره، وأعطاه مائة ألف درهم وقسّم في أصحابه الأعطيات وسأل من عبد الملك أن يوجّه معه عسكرا لقتال مصعب فقال: سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال. فسار نحو الكوفة ونزل بناحية الأنبار وأذن لأصحابه في(3/187)
إتيان الكوفة ليخبروا أصحابه بقدومه. وبعث الحرث بن أبي ربيعة إليه جيشا كثيفا فقاتلهم وتفرّق عنه أصحابه وأثخنه الجراح فخاض البحر إلى سفينة فركبها حتى توسط الفرات فأشرف خيل على السفينة وتبادروا به فقام يمشي في البحر فتعلقوا به فألقى نفسه في الماء مع بعضهم فغرّقوه.
حروب الخوارج مع عبد الملك والحجاج
ولما استقرّ عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب بعث على البصرة خالد بن عبد الله وكان المهلّب يحارب الأزارقة فولّاه على خراج الأهواز وبعث أخاه عبد العزيز بن عبد إلى قتال الخوارج، ومعه مقاتل بن مسمع، وأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى داربجرد وبعث قطريّ بن الفجاءة صالح بن مخراق [1] في تسعمائة فاستقبل عبد العزيز ليلا على غير تعبية فانهزم وقتل مقاتل بن مسمع وأسرت بنت المنذر بن الجارود امرأة عبد العزيز فقتلها الخوارج. وتغيّر عبد العزيز إلى رامهرمز. وكتب خالد بالخبر إلى عبد الملك فكتب إليه [2] على ولاية أخيه الحرب وولاية المهلّب جباية الخراج وأمره بأن يسرّح المهلّب بحربهم. وكتب إلى بشر بالكوفة بإمداده بخمسة آلاف مع من يرضاه، فإذا فرغوا من قتال الخوارج ساروا إلى الري، فكانوا هنالك مسلحة فأنفذ بشر العسكر وعليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكتب له عهده على الريّ. وخرج خالد بأهل البصرة ومعه المهلّب واجتمعوا بالأهواز.
وجاءت الازارقة فأحرقوا السفن. ومرّ المهلّب بعبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن يخندق عليه وأقاموا كذلك عشرين ليلة. ثم زحف الخوارج بالناس فهال الخوارج كثرتهم وانصرفوا. وبعث خالد داود بن قحدم في آثارهم وانصرف إلى البصرة وكتب بالخبر إلى عبد الملك فكتب إلى أخيه بشر أن يبعث أربعة آلاف من أهل الكوفة إلى فارس، ويلحقوا بداود بن قحدم في طلب الأزارقة. فبعث بهم بشر بن عتاب ولحقوا بداود واتبعوا الخوارج حتى أصابهم الجهد ورجع عامتهم مشاة إلى الأهواز.
__________
[1] صالح بن مخارق: ابن الأثير ج 4 ص 342.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 343: فكتب اليه عبد الملك: قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني انه عامل على الأهواز، فقبّح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج.»(3/188)
(ثم خرج أبو فديك) من بني قيس بن ثعلبة فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفيّ كما مرّ. وهزم خالدا فكتب إلى عبد الملك بذلك، وأمر عبد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير لقتال أبي فديك. فانتدب معه عشرة آلاف وسار بهم وأهل الكوفة على ميمنته عليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة في ميسرته عليهم عمر بن موسى أخيه، وهو في القلب وانتهوا إلى البحرين واصطفوا للقتال وحملوا على أبي فديك وأصحابه فكشفوا ميسرته حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب ومجاعة وعبد الرحمن وفرسان الناس فإنّهم مالوا إلى أهل الكوفة بالميمنة ورجع أهل الميسرة. وحمل أهل الميمنة على الخوارج فهزموهم واستباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر حتى نزلوا على الحكم فقتل منهم ستة آلاف وأسر ثمانمائة وذلك سنة ثلاث وسبعين. ثم ولّى عبد الملك أخاه بشرا على البصرة فسار إليها وأمره أن يبعث المهلّب إلى حرب الأزارقة وأن ينتخب من أهل البصرة من أراد ويتركه ورأيه في الحرب ويمدّه بعسكر كثيف من أهل الكوفة مع رجل معروف بالنجدة. فبعث المهلّب لانتخاب الناس جديع بن سعيد بن قبيصة وشق على بشر أن ولاية المهلّب من عبد الملك وأوغرت صدره فبعث على عسكر الكوفة عبد الرحمن ابن مخنف وأغراه بالمهلّب في ترك مشورته وتنغّصه. وسار المهلّب إلى رامهرمز وبها الخوارج وأقبل ابن مخنف في أهل الكوفة فنزل على ميل منه بحيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نبأ بشر ابن مروان وأنه استخلف خالد بن عبد الله بن خالد على البصرة وخليفته على الكوفة عمر بن حريث فافترق ناس كثيرة من أهل البصرة وأهل الكوفة فنزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدّدهم فلم يلتفتوا إليه. وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة وكتب إليهم عمر بن حريث بالنكير والعود إلى المهلّب ومنعهم الدخول فدخلوا ليلا إلى بيوتهم (ثم قدم الحجّاج) أميرا على العراقين سنة خمس وسبعين فخطب بالكوفة خطبته المعروفة كان منها: «ولقد بلغني رفضكم المهلّب وإقبالكم إلى مصركم عاصين مخالفين، وأيم الله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه وأنهب داره» . ثم دعا العرفاء وقال ألحقوا الناس بالمهلّب وأتوني بالبراءة بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر. ووجد عمر بن ضابىء من المتخلفين وأخبر أنه من قتلة عثمان فقتله فأخر جند المهلّب وازدحموا على الجسر وجاء العرفاء إلى المهلّب برامهرمز(3/189)
فأخذوا كتابه بموافاة الناس، وأمرهم الحجّاج بمناهضة الخوارج فقاتلوهم شيئا ثم انزاحوا إلى كازرون وسار المهلّب وابن مخنف فنزلوا بهم وخندق المهلّب ولم يخندق ابن مخنف وبيّتهم الخوارج فوجدوا المهلّب حذرا فمالوا إلى ابن مخنف فانهزم عنه أصحابه وقاتل حتى قتل وفي حديث أهل الكوفة أنّهم لما ناهضوا الخوارج مالوا إلى المهلّب واضطروه إلى معسكره وأمدّه عبد الرحمن بعامة عسكره وبقي في خفّ من الجند. فمال إليه الخوارج فنزل ونزل معه القرّاء واحد وسبعون من أصحابه فقتلوا. وجاء المهلّب من الغد فدفنه وصلى عليه وكتب بالخبر إلى الحجّاج فبعث على معسكره عتاب بن ورقاء وأمره بطاعة المهلّب، فأجاب لذلك وفي نفسه منه شيء. وعاتبه المهلب يوما ورفع إليه القضيب فردّه ابنه المغيرة عن ذلك وكتب عتاب يشكو المهلّب إلى الحجّاج ويسأله العود وصادف ذلك أمر شبيب فاستقدمه وبقي المهلّب.
حروب الصفرية وشبيب مع الحجاج
ثم خرج صالح بن مسرّح التميمي من بني امرئ القيس بن زيد مناة وكان يرى رأي الصغريّة وكان عابدا ومسكنه أرض الموصل والجزيرة وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه وكان يأتي الكوفة ويلقى أصحابه ويعدّ ما يحتاج إليه فطلبه الحجّاج فترك الكوفة وجاء إلى أصحابه بالموصل ودار فدعاهم إلى الخروج وحثّه عليه. وجاءه كتاب شبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانيّ من رءوسهم يحثّه على مثل ذلك. فكتب إليه إني في انتظارك فاقدم. فقدم شبيب في نفر من أصحابه منهم أخوه المضّاد والمحلّل ابن وائل اليشكريّ ولقيه بدارا، وأجمع صالح الخروج. وبث إلى أصحابه وخرجوا في صفر سنة ست وسبعين. وأمر بالدعاء قبل القتال وخيّر في الدماء والأموال وعرضت لهم دواب لمحمد بن مروان بالجزيرة فأخذوها وحملوا عليها أصحابهم. وبلغ محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة خروجهم فسرّح إليهم عدي بن عدي الكندي في ألف فسار من حرّان وكان ناسكا فكره حروبهم وبعث إليهم بالخروج فحبسوا الرسول. فساروا إليه فطلعوا عليه وهو يصلي الضحى وشبيب في الميمنة وسويد بن سليم في الميسرة وركب عديّ على غير تعبية فانهزم واحتوى الخوارج على معسكره ومضوا إلى آمد وسرّح محمد بن مروان خالد بن حرّ السلمي في ألف وخمسمائة، والحرث بن جعونة العامريّ في مثلها، وقال: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه.(3/190)
وبعث صالح شبيبا إلى الحرث وتوجه نحو خالد وقاتلوهم أشدّ القتال واعتصم أصحاب محمد بخندقهم فسارت الخوارج عنهم وقطعوا أرض الجزيرة والموصل إلى الدسكرة. فسرّح إليهم الحجّاج الحرث بن عميرة ابن ذي الشعار في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة فلقيهم على تخم ما بين الموصل وصرصر والخوارج في تسعين رجلا.
فانهزم سويد بن سليم وقتل صالح وصرع شبيب. ثم وقف على صالح قتيلا فنادى بالمسلمين فلاذوا به ودخلوا حصنا هنالك وهم سبعون. وعاث الحرث بهم وأحرق عليهم الباب ورجع حتى يصحبهم من الغداة. فقال لهم شبيب بايعوا من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا إليهم فبايعوه وأطفئوا النار بالماء في اللبود وخرجوا إليه فبيتوا وصرّح الحرث فحملوا أصحابه وانهزموا نحو المدائن وحوى شبيب عسكرهم. وسار شبيب إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سنان التميمي من تميم شيبان [1] إلا أخاه فضالة من أكابر الخوارج. وكان خرج قبل صالح في ثمانية عشر رجلا ونزل على ماء لبني عنزة فقتلوهم، وأتوا برءوسهم إلى عبد الملك يتقرّبون له بهم. فلما دعا شبيب سلامة إلى الخروج شرط عليه أن ينتخب ثلاثين فارسا ويسير بهم إلى عنزة فيثأر منهم بأخيه فقبل شرطه وسار إلى عنزة فأثخن فيهم وجعل يقتل الحلّة بعد الحلّة [2] . ثم أقبل شبيب إلى داران [3] في نحو سبعين رجلا ففرّت منهم طائفة من بني شيبان نحو ثلاثة آلاف فنزلوا ديرا خرابا وامتنعوا منه، وسار في بعض حاجاته واستخلف أخاه مضاد بن يزيد بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين، فقتل منهم ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد وأشرف بنو شيبان على مضّاد وأصحابه، وسألوا الأمان ليخرجوا إليهم ويسمعوا دعوتهم فأخرجوا وقبلوا ونزلوا إليهم واجتمعوا بهم وجاء شبيب فاستصوب فعلهم وسار بطائفة نحو أذربيجان. وكان الحجّاج قد بعث سفيان بن أبي العالية الخثعميّ إلى طبرستان يحاصرها في ألف فارس، فكتب إليه الحجّاج أن يرجع فصالح أهل طبرستان ورجع فأقام بالدسكرة يطلب المدد وبعث الحجّاج أيضا إلى الحرث بن عميرة الهمدانيّ قاتل صالح أن يأتيه بجيش الكوفة والمدائن وإلى سورة
__________
[1] سلامة بن سنان التيمي من تيم شيبان: ابن الأثير ج 4 ص 397.
[2] فجعل يقتل محلّة بعد محلّة. ابن الأثير ج 4 ص 397.
[3] رأذان: ابن الأثير ج 4 ص 398.(3/191)
ابن أبجر التميمي [1] في خيل المناظر. ويعجّل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين فاستطردهم وأكمن كمينا لهم مع أخيه، واتبعوه في سفح الجبل فخرج عليهم الكمين فانهزموا بغير قتال، وثبت سفيان وقاتل ثم حمل شبيب فانكشف ونجا إلى بابل مهرود، وكتب إلى الحجّاج بالخبر وبوصول العساكر إلّا سورة بن أبجر فكتب الحجّاج إلى سورة يتهدّده ويأمره أن يتّخذ من المدائن خمسمائة فارس ويسير إلى شبيب فسار. وانتهى شبيب إلى المدائن ثم إلى الهندوان فترحّم على أصحابه هنالك وبيّتهم سورة هنالك وهم حذرون فلم يصب منهم الغرة ورجع نحو المدائن وشبيب في اتّباعه. وخرج ابن أبي العصغي [2] عامل المدائن فقاتلهم وهرب الكثير من جنده إلى الكوفة ومضى شبيب إلى تكريت ووصل سورة إلى الكوفة بالغلّ فحبسه الحجّاج ثم أطلقه. وسرّح عثمان بن سعيد بن شرحبيل الكنديّ [3] ويلقب الجزل في أربعة آلاف ليس فيهم من المنهزمين أحد وساروا لحرب شبيب وأصحابه. وقدّم بين يديه عيّاض بن أبي لبنة الكنديّ وجعلوا يتبعون شبيبا من رستاق إلى رستاق وهو على غير تعبية والجزل على التعبية ويخندق على نفسه متى نزل وطال ذلك على شبيب وكان في مائة وستين فقسمه على أربع فرق وثبت الجزل ومشايخه فلم يصب منهم فرجع عنهم.
ثم صحبهم ثانية فلم يظفر منهم بشيء. وسار الجزل في التعبية كما كان وشبيب يسير في أرض الخوارج وغيرها يكسب الخراج. وكتب الحجّاج إلى الجزل ينكر عليه البطء ويأمره بالمناهضة وبعث سعيد بن المجالدي على جيش الجزل فجاءهم بالهندوان [4] ووبّخهم وعجّزهم وجاءهم الخبر بأنّ شبيبا قد دخل قطيطيا والدهقان يصلح لهم الغداء، فنهض سعيد في الناس وترك الجزل مع العسكر وقد صفّ بهم خارج الخندق وجاء سعيد إلى قطيطيا وعلم به شبيب فأكل وتوضأ وصلى. وخرج فحمل على سعيد وأصحابه مستعرضا فانهزموا وثبت سعيد فقتله وسار في اتباعهم إلى الجزل فقاتلهم الجزل حتى وقع بين القتلى جريحا. وكتب إلى الحجّاج بالخبر وأقام بالمدائن وانتهى شبيب إلى الكرخ وعبر دجلة إليه وأرسل إلى سوق بغداد فأتاهم في يوم سوقهم
__________
[1] سورة بن الحرّ التميمي: ابن الأثير ج 4 ص 398.
[2] ابن أبي العصيفر: ابن الأثير ج 4 ص 401.
[3] الجزل بن سعيد بن شرحبيل الكندي واسمه عثمان: ابن الأثير ج 4 ص 401.
[4] النهروان: ابن الأثير ج 4 ص 403.(3/192)
واشترى منه حاجاته وسار إلى الكوفة فلما قرب منها بعث الحجّاج سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل فساروا إلى شبيب وأمر عثمان بن قطن فعسكر في السّبخة وخالفه شبيب إلى أهل السبخة فقاتلوه وجاء سويد في آثاره فمضى نحو الحيرة وسويد في إتباعه ثم رحل من الحيرة. وجاء كتاب الحجّاج إلى سويد يأمره باتباعه فمضى في إتيانه وشبيب يغير في طريقه وأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل ثم على الأنبار ثم ارتفع على أدنى أذربيجان. ولما أبعد سار الحجّاج إلى البصرة واستعمل على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فجاءه كتاب دهقان بابل مهرود يخبره بقصد شبيب الكوفة فبعث بالكتاب إلى الحجّاج. وأقبل شبيب حتى نزل عقرقوبا [1] ، ونزل وسار منها يسابق الحجّاج إلى الكوفة. وطوى الحجّاج المنازل فوصل الكوفة عند العصر ووصل شبيب عند المغرب فأراح وطعموا ثم ركبوا ودخلوا إلى السوق وضرب شبيب القصر بعموده. ثم اقتحموا المسجد الأعظم فقتلوا فيه من الصالحين ومروا بدار صاحب الشرطة فدعوه إلى الأمير ونكرهم فقتلوا غلامه ومرّوا بمسجد بني ذهل فقتلوا ذهل بن الحرث وكان يطيل الصلاة فيه. ثم خرجوا من الكوفة واستقبلهم النضر بن القعقاع بن شور الذهلي، وكان ممن أقبل مع الحجّاج من البصرة فتخلّف عنه فلما رآه قال: السلام عليك أيها الأمير، فقال له شبيب:
قل أمير المؤمنين ويلك! فقالها. وأراد شبيب أن يلقّنه للقرابة بينهما. وكان النضر ناحية بيت هانئ بن قبيصة الشيبانيّ فقال له: يا نضر لا حكم إلا للَّه ففطن بهم وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 وشدّ عليه أصحاب شبيب فقتلوه. ونادى منادي الحجّاج بالكوفة يا خيل الله اركبي وهو بباب القصر وكان أوّل من أتاه عثمان بن قطن ابن عبد الله بن الحسين ذي القصّة [2] ، ثم جاء الناس من كل جانب، فبعث الحجاج خالد بن الأسدي [3] وزائدة بن قدامة الثقفيّ وأبا الضريس مولى بني تميم، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وزياد بن عبد الله العتكيّ [4] في ألفين ألفين وقال: إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة وبعث معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله من سجستان، وكان عبد الملك قد ولّاه عليها، وأمر الحجّاج أن
__________
[1] عقرقوف: ابن الأثير ج 4 ص 406.
[2] بن الحصين ذي الغصة: ابن الأثير ج 4 ص 407.
[3] فبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي: المرجع السابق.
[4] زياد بن عمرو العتكيّ: المرجع السابق.(3/193)
يجهّزه ويبعثه في آلاف من الجنود إلى عمله، فجهّزه. وحدث أمر شبيب فقال له الحجّاج: تجاهد ويظهر اسمك ثم تمضي إلى عملك، فساروا جميعا ونزلوا أسفل الفرات. وأخذ شبيب نحو القادسية وجرّد الحجاج ألفا وثمانمائة من نقاوة الجند مع ذخر بن قيس [1] ، وأمره بمواقعة شبيب أينما أدركه، وإن ذهب فأتركه. فأدركه بالسلخين [2] وعطف عليه شبيب فقاتل ذخر حتى صرع وفيه بضعة عشر جرحا وانهزم أصحابه يظنون أنه قتل ثم أفاق من برد السحر فدخل قرية وسار إلى الكوفة ثم قصد شبيب وأعوانه وهم على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فقال: إنّ هزمناهم فليس دون الحجّاج والكوفة مانع وانتهى إليهم وقد تعبوا للحرب وعلى الميمنة زياد بن عمر العتكيّ وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدي وكل أمير بمكانه. وعبّى شبيب أصحابه ثلاثة كتائب فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمر فانكشفوا وثبت زياد قليلا. ثم حمل الثانية فانهزموا وانهزم جريحا عند المساء. ثم حملوا على عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر فانهزم ولم يقاتل ولحق بزياد بن عمر وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند الغروب فقاتلوه وصبر لهم ثم حمل مضاد أخو شبيب على بشر بن غالب في الميسرة فصبر ونزل في خمسين رجلا فقاتلوه حتى قتلوا. وحملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم فهزموه حتى انتهى إلى أعين ثم حملوا عليه وعلى أعين فهزموهما إلى زائدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه نادى نزال [3] وقاتلهم إلى السحر ثم حمل شبيب عليه فقتله وقتل أصحابه ودخل أبو الضريس مع الفلّ إلى الجوسق بإزائهم. ورفع الخوارج عنهم السيف ودعوهم إلى البيعة لشبيب عند الفجر فبايعوه وكان فيمن بايعه أبو بردة وبقي محمد بن موسى لم ينهزم، فلما طلع الفجر سمع شبيب أذانهم وعلم مكانهم فأذّن وصلّى ثم حمل عليهم فانهزمت طائفة منهم وثبتت أخرى وقاتل محمد حتى قتل. وأخذ الخوارج ما في العسكر وانهزم الذين بايعوا شبيبا فلم يبق منهم أحد. وجاء شبيب إلى الجوسق الّذي فيه أعين وأبو الضريس فتحصنوا منه فأقام يوما عليهم وسار عنهم وأراده أصحابه على
__________
[1] زحر بن قيس: ابن الأثير ج 8 صفحة 408.
[2] السّيلحين: المرجع السابق.
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 410: «فلما انتهوا إليه نادى: يا أهل الإسلام الأرض الأرض» .
ويعني النزول عن خيلهم إلى الأرض والقتال راجلين.(3/194)
الكوفة وازاءهم خوخى [1] فتركها وخرج على نفر وسمع الحجّاج بذلك فظنّ أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة وأكثر السواد لها فهاله ذلك وبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وخوخى والأنبار وعزل عنها عبد الله بن أبي عصيفير. وقيل في مقتل محمد بن موسى غير هذا وهو أنه كان شهد مع عمر بن عبد الله بن معمر قتال أبي فديك فزوّجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك فولّاه سجستان فمرّ بالكوفة وقيل للحجّاج إن جاء إلى هذا أحد ممن تطلبه منعك منه فمره بقتال شبيب في طريقه لعل الله يريحك منه ففعل الحجّاج. وعدل محمد إلى قتال شبيب وبعث إليه شبيب بدهاء الحجّاج وخديعته إياه وأن يعدل عنه فأبى إلا شبيبا فبارزه وقتله شبيب. ولما انهزم الأمراء وقتل موسى بن محمد بن طلحة دعا الحجّاج عبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن ينتخب ستة آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان، فسار لذلك. ثم كتب إليه وإلى أصحابه يتهدّدهم إن انهزموا ومرّ ابن الأشعث بالمدائن وعاد الجزل من جراحته فوصّاه وحذّره وحمله على فرسه وكانت لا تجاري. وسار شبيب على دقوقا وشهرزور وابن الأشعث في إتباعه إلى أن وقف على أرض الموصل وأقام يقاتله أهلها، فكتب إليه الحجّاج: أما بعد فاطلب شبيبا وأسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فأقتله أو تنفيه فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. فجعل ابن الأشعث يتبعه وشبيب يقصد به الأرض الخشنة الغليظة وإذا دنا منه رجع يبيته فيجده على حذرة حتى أتعب الجيش وأحفى دوابهم ونزل بطن أرض الموصل ليس بينه وبين سواد إلا نهر حولايا [2] في دادان الأعلى من أرض خوخى ونزل عبد الرحمن في عواقيل النهر وكانت أيام النحر، وطلب شبيب الموادعة فيها فأجابه قصدا للمطاولة وكتب عثمان بن قطن بذلك إلى الحجّاج فنكر وبعث إلى عثمان بن قطن بإمارة العسكر وأمره بالمسير وعزل عبد الرحمن بن الأشعث وبعث على المدائن مطرّف بن المغيرة مكان ابن قطن وقدم ابن قطن على عسكر الكوفة عشية يوم التروية وناداهم إلى الحرب فاستمهلوه وأنزله عبد الرحمن بن الأشعث وأصبحوا إلى القتال ثالث يومهم على تعبية وفي الميمنة خالد بن نهيك بن قيس وفي الميسرة عقيل بن شدّاد السّلوليّ وابن قطن في الرجالة
__________
[1] جوخى: ابن الأثير ج 4 ص 411.
[2] وفي الكامل ج 4 ص 414: «ثم اقبل البتّ وهي من قرى الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا، وهو في راذان الأعلى من أرض جوص» .(3/195)
وعبر إليهم شبيب في مائة وثلاثين رجلا فوقف في الميمنة وأخوه مضاد في القلب وسويد بن سليم في الميسرة وحمل شبيب على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا ونزل عقيل بن شدّاد فقاتل حتى قتل وقتل معه مالك بن عبد الله الهمدانيّ وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وقاتل خالد بن نهيك فجاء شبيب من ورائه فقتله وتقدّم عثمان إلى مضاد في القلب فاشتدّ القتال وحمل شبيب من وراء عثمان وعطف عليهم سويد بن سليم ومضاد من القلب حتى أحاطوا به فقتلوه وانهزمت العساكر ووقع عبد الرحمن بن الأشعث فأتاه ابن أبي شثبة الجعفي [1] وهو على بغلة فأردفه ونادى في الناس باللحاق بدير أبي مريم ورفع شبيب السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه ولحق ابن الأشعث بالكوفة فاختفى حتى أمّنه الحجّاج ومضى شبيب إلى ماه نهرادان [2] فأقام فيه فصل الصيف فلحق به من كان للحجّاج عليه تبعة ثم أقبل إلى المدائن في ثمانمائة رجل وعليها مطرّف بن المغيرة وبلغ الخبر إلى الحجّاج فقام في الناس وتسخط وتوعد. فقال زهرة بن حويّة وهو شيخ كبير لا يستطيع القيام إلا معتمدا: أنت تبعث الناس متقطعين فيصيبون منهم فاستنفر الناس جميعا وابعث عليهم رجلا شجاعا مجرّبا يرى الفرار عارا والصبر مجدا وكرما. فقال الحجّاج: أنت ذلك الرجل! فقال: إنما يصلح من يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على الفرس ولا أطيق من هذا شيئا وقد ضعف بصري ولكن أكون مع أمير وأشير عليه.
فقال له: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله أوّل أمرك وآخره. ثم قال للناس:
سيروا فتجهّزوا بأجمعكم فتجهزوا وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بأنّ شبيبا شارف المدائن يريد الكوفة وهم عاجزون عن قتاله بما هزم جندهم وقتل أمراءهم ويستمدّه من جند الشام، فبعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبيّ في أربعة آلاف وحبيب بن عبد الرحمن الحكميّ في ألفين وذلك سنة ست وسبعين وكتب الحجّاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحيّ يستقدمه من عند المهلب وقد وقع بينهما كما مرّ فقدم عتاب وولّاه على الجيش فشكر زهرة بن حويّة له وقال: رميتهم بحجرهم والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وبعث الحجّاج إلى جند الشام يحذّرهم البيات ويوصيهم
__________
[1] ابن أبي سيرة الجعفي: ابن الأثير ج 4 ص 415.
[2] ماه يهراذان: ابن الأثير ج 4 ص 419.(3/196)
الاحتياط وأن يأتوا على عين التمر. وعسكر عتاب بجماع أعين [1] ثم قطع شبيب دجلة الى المدائن وبعث إليه مطرّف أن يأتيه رجال من وجوههم ينظر في دعوتهم فرجا منه وبعث اليه بغيث بن سويد [2] في جماعة مكثوا عنده أربعا ولم يرجعوا من مطرّف بشيء. ونزل عتاب الصراة وخرج مطرف إلى الجبال خوفا أن يصل خبره مع شبيب إلى الحجّاج فخلا لهم الجوّ. وجاء مضّاد إلى المدائن فعقد الجسر ونزل عتاب سوق حكم [3] في خمسين ألفا وسار شبيب بأصحابه في ألف رجل، فصلى الظهر بساباط وأشرف على عسكر عتاب عند المغرب وقد تخلف عنه أربعمائة من أصحابه فصلى المغرب، وعبّى أصحابه ستمائة سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، والمحلّل بن وائل في مائتين في الميمنة وهو في مائتين في القلب. وكان على ميمنة عتاب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد وعلى ميسرته نعيم بن عليم وعلى الرجّالة حنظلة بن الحرث اليربوعي وهو ابن عمه وهم ثلاثة صفوف بين السيوف والرماح والرماة. ثم حرّض الناس طويلا وجلس في القلب ومعه زهرة بن مرتد [4] وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وابو بكر بن محمد بن أبي جهم العدويّ وأقبل شبيب حين أضاء القمر بين العشاءين فحمل على الميسرة وفيها ربيعة فانقضوا وثبت قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم على رايتهم حتى قتلوا. ثم حمل شبيب على عتاب بن ورقاء وحمل سويد بن سليم على محمد بن سليم في الميمنة في تميم وهمدان واشتدّ القتال وخالط شبيب القلب وانفضوا وتركوا عتابا وفرّ ابن الأشعث في ناس كثيرين وقتل عتاب بن ورقاء وركب زهرة بن حويّة فقاتل ساعة ثم طعنه عامر بن عمر الثعلبي من الخوارج ووطأته الخيل فقتله الفضل بن عامر الشيبانيّ منهم، ووقف عليه شبيب وتوجع له ونكر الخوارج ذلك وقالوا: أتتوجع لرجل كافر؟ فقال: أعرف قديمه.
ثم رفع السيف عن الناس ودعا للبيعة فبايعوه وهربوا تحت ليلهم وحوى ما في العسكر وأتاه أخوه من المدائن وأقام يومين ثم سار نحو الكوفة ولحق سفيان بن الأبرد وعسكر الشام بالحجّاج، فاستغنى بهم عن أهل الكوفة واشتدّ بهم وخطب فوبّخ أهل الكوفة
__________
[1] حمام أعين: ابن الأثير ج 4 ص 421.
[2] قعنب بن سويد: ابن الأثير ج 4 ص 421.
[3] سوق حكمة: ابن الأثير ج 4 ص 422.
[4] زهرة بن حوية: ابن الأثير ج 4 ص 423.(3/197)
وعجّزهم وجاء شبيب فنزل حمام أعين فسرّح الحجّاج إليه الحرث بن معاوية الثقفي في نحو ألف من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب فبادر إليه شبيب فقتله وانهزم أصحابه إلى الكوفة وأخرج الحجّاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك وجاء شبيب فنزل السّبخة ظاهر الكوفة وبنى بها مسجدا وسرّح الحجّاج مولاه أبا الورد في غلمان لقتاله فحمل عليه شبيب وقتله يظنه الحجّاج ثم أخرج إليه مولاه طهمان كذلك فقتله. فركب الحجّاج في أهل الشام وجعل سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك وقعد على كرسيه ونادى في أهل الشام وحرّضهم فغضوا الأبصار وجثوا على الركب وشرّعوا الرماح وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس معه ومع سويد بن سليم ومع المحلّل بن وائل وحمل سويد وبيتوا وطاعنوه حتى انصرف وقدّم الحجّاج كرسيّه وحمل المحلّل ثانية فكذلك وقدّم الحجّاج كرسيّه فثبتوا له وألحقوه بأصحابه. وسرب شبيب سويد بن سليم إلى أهل السكك وكان عليها عروة بن المغيرة بن شعبة فلم يطق دفاعه ثم حمل شبيب فطاعنوه وردّوه وانتهى الحجّاج إلى مسجده وصعده وملك العرصة. وقال له خالد ابن عتاب ائذن لي في قتالهم فإنّي موتور فأذن له، فجاءهم من ورائهم وقتل أخا شبيب وغزالة امرأته وخرّق عسكرهم وحمل الحجّاج عليهم فانهزموا، وتخلّف شبيب ردءا لهم. فأمر الحجّاج أصحابه بموادعتهم ودخل الكوفة فخطب وبشّر الناس. ثم سرّح حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ثلاثة آلاف فارس لاتباعه وحذّره بيانه فانتهى في أثره إلى الأنبار وقد افترق عن شبيب كثير من أصحابه للأمان الّذي نادى الحجاج به، فجاءه شبيب عند الغروب وقد قسّم حبيب جنده أرباعا وتواصوا بالاستماتة فقاتلهم شبيب طائفة بعد طائفة فما زالت قدم إنسان عن موضعها إلى آخر الليل. ثم نزل شبيب وأصحابه واشتدّ القتال وكثر القتلى وسقطت الأيدي وفقئت الأعين، وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين ومن أهل الشام نحو مائة وأدركهم الإعياء والفشل جميعا فانصرف شبيب بأصحابه وقطع دجلة ومرّ في أرض خوخى.
ثم قطع دجلة أخرى عند واسط ومضى على الأهواز وفارس إلى كرمان ليريح بها.
(وقد قيل) في هذه الحرب غير هذا، وهو أنّ الحجاج بعث إليه أمراء واحدا بعد واحد فقتلهم وكان منهم أعين صاحب حمام أعين وكان غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين [1] بالبقرة وآل عمران فجاء شبيب ودخل الكوفة ليلا
__________
[1] ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران.(3/198)
وأوفت بنذرها. ثم قاتلهم الناس وخرجوا وقام الحجّاج في الناس يستشيرهم وبرز إليه قتيبة وعذله في بعث الرعاع ينهزمون ويموت قائدهم والرأي أن تخرج بنفسك فتحالمه [1] فخرج من الغد إلى السّبخة وبها شبيب واختفى مكانه عن القوم ونصب أبا الورد مولاه تحت اللواء فحمل عليه شبيب فقتله. ثم حمل على خالد بن عتاب في الميسرة ثم على مطرف بن ناجية [2] في الميمنة فكشفهما ونزل عند ذلك الحجّاج وأصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد وبينما هم على ذلك إذ اختلف الخوارج وقال مصقلة بن مهلهل الضبيّ لشبيب: ما تقول في صالح بن مسرّح؟
قال: برئت منه. فبرئ مصقلة منه، وفارقه. وشعر الحجّاج باختلافهم فسرّح خالد بن عتاب لقتالهم فقاتلهم في عسكرهم وقتل غزالة وبعث برأسها إلى الحجّاج فأمر شبيب من اعترضه فقتل حامله، وجاء به فغسله ودفنه. وانصرف الخوارج وتبعهم خالد وقتل مضاد أخو شبيب ورجع خالد عنهم بعد أن أبلى. وسار شبيب إلى كرمان. وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يستمدّه فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبيّ في العساكر فأنفق فيهم المال، وسرّحه بعد انصراف الخوارج بشهرين وكتب إلى عامل البصرة وهو الحكم بن أيّوب زوج ابنته أن يبعث بأربعة آلاف فارس من جند البصرة إلى سفيان فبعثهم مع زياد بن عمر العتكيّ فلحقه [3] انقضاء الحرب. وكان شبيب بعد أن استجم بكرمان أقبل راجعا فلقي سفيان بالأهواز فعبر إليه جسر دجيل وزحف في ثلاثة كراديس فقاتلهم أشدّ قتال وحملوا عليهم أكثر من ثلاثين حملة وسفيان وأهل الشام مستميتين يزحفون زحفا حتى اضطرّ الخوارج إلى الجسر فنزل شبيب في مائة من أصحابه، وقاتل إلى المساء حتى إذا جاء الليل انصرف وجاء إلى الجسر فقدّم أصحابه وهو على أثرهم فلما مرّ بالجسر اضطرب حجر تحت حافر فرسه وهو على حرف السفينة فسقط في الماء وغرق وهو يقول: وكان أمر الله مفعولا، ذلك تقدير العزيز العليم. وجاء صاحب الجسر إلى سفيان وهو يريد الانصراف بأصحابه فقال: إنّ رجلا من الخوارج سقط فتنادوا بينهم غرق أمير
__________
[1] فتحاكمه: ابن الأثير ج 4 ص 429.
[2] مطر بن ناجية: المرجع السابق.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 431: «فسيّرهم مع زياد بن عمرو العتكيّ، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب» .(3/199)
المؤمنين ومرّوا وتركوا عسكرهم فكبّر سفيان وأصحابه وركب إلى الجسر وبعث إلى عسكرهم فحوى ما فيه وكان كثير الخيرات ثم استخرجوا شبيبا من النهر ودفنوه.
خروج المطرف والمغيرة بن شعبة
لما ولى الحجّاج الكوفة وقدمها وجد بني المغيرة صلحاء أشرافا فاستعمل عروة على الكوفة ومطرّفا على المدائن وحمزة على همذان فكانوا أحسن العمّال سيرة وأشدّهم على المريب. ولما جاء شبيب إلى المدائن نزل نهر شير [1] ومطرّف بمدينة الأبواب فقطع مطرّف الجسر وبعث إلى شبيب أن يرسل إليه من يعرض عليه الدعوة، فبعث إليه رجلا من أصحابه فقالوا نحن ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّا نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتبسط بالجزية فقال مطرّف دعوتم إلى حق [2] جورا ظاهرا وأنا لكم متابع فبايعوني على قتال هؤلاء الظلمة بإحداثهم وعلى الدعاء إلى الكتاب والسنة على الشورى كما تركها عمر بن الخطّاب حتى يولّي المسلمون من يرضونه، فإنّ العرب إذا علمت أنّ المراد بالشورى الرضا من قريش رضوا فكثر مبايعكم فقالوا: لا نجيبك إلى هذا! وأقاموا أربعة أيام يتناظرون في ذلك ولم يتفقوا وخرجوا من عنده. ثم دعا مطرّف أصحابه وأخبرهم بما دار بينه وبين أصحاب شبيب وأنّ رأيه خلع عبد الملك والحجّاج فوجموا من قوله وأشاروا عليه بالكتمان فقال له يزيد بن أبي زياد مولى أبيه لن والله يخفى على الحجاج شيء مما وقع ولو كنت في السحاب لاستنزلك فالنجاء بنفسك، ووافقه أصحابه فسار عن المدائن إلى الجبال ولما كان في بعض الطريق دعا أصحابه إلى الخلع والدعاء إلى الكتاب والسنّة، وأن يكون الأمر شورى فرجع عنه بعض إلى الحجّاج منهم سبرة بن عبد الرحمن مخنف وسار مطرّف ومرّ بحلوان وبها سويد بن عبد الرحمن السعدي مع الأكراد فاعترضوه فأوقع مطرّف بهم وأثخن في الأكراد ومال عن همذان ذات اليمين وبها أخوه حمزة واستمدّه بمال وسلاح فأمدّه سرّا. وسار إلى قم وقاشان فبعث عماله في نواحيه وفزع إليه كل جانب فجاء سويد بن سرحان الثقفي وبكير بن هارون
__________
[1] بهرسير: ابن الأثير ج 4 ص 434.
[2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 434: «ما دعوتم إلّا إلى حق، وما نقمتم إلّا جورا ظاهرا» وكذلك الطبري ج 7 ص 260.(3/200)
النّخعيّ من الري في نحو مائة رجل. وكان على الريّ عديّ بن زياد الأيادي وعلى أصبهان البرّاء بن قبيصة فكتب إلى الحجّاج بالخبر واستمدّه فأمدّه بالرجال، وكتب إلى عديّ بالري أن يجتمع مع البرّاء على حرب مطرّف فاجتمعوا في ستة آلاف وعديّ أميرهم. وكتب الحجّاج إلى قيس بن سعد البجليّ [1] وهو على شرطة حمزة بهمذان بأن يقبض على حمزة ويتولى مكانه فجاءه في جمع من عجل وربيعة وأقرأه كتاب الحجّاج فقال سمعا وطاعة. وقبض قيس عليه وأودعه السجن وسار عديّ والبرّاء نحو مطرّف فقاتلوه وانهزم أصحابه وقتل يزيد مولى أبيه وكان صاحب الراية.
وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي وكان ناسكا صالحا وكان الّذي تولى قتل مطرّف عمر بن هبيرة الفزاريّ. وبعث عديّ أهل البلاء إلى الحجّاج وأمر بكير بن هارون وسويد بن سرحان، وكان الحجّاج يقول مطرّف ليس بولد للمغيرة وإنما هو ابن مصقلة الحر، لأن أكثر الخوارج كانوا من ربيعة لم يكن فيهم من قيس.
اختلاف الازارقة
قد تقدّم لنا مقام المهلّب في قتال الأزارقة على سابور بعد مسير عتاب عنه إلى الحجّاج وأنه أقام في قتالهم سنة، وكانت كرمان لهم وفارس للمهلّب فانقطع عنهم المدد وضاقت حالهم فتأخروا إلى كرمان وتبعهم المهلّب ونزل خيررفت [2] مدينة كرمان وقاتلهم حتى أزالهم عنها وبعث الحجّاج العمال على نواحيها وكتب إليه عبد الملك بتسويغ [3] للمهلّب معونة له على الحرب. وبعث الحجّاج إلى المهلّب البرّاء بن قبيصة يستحثه لقتال الخوارج فسار وقاتلهم والبرّاء مشرف عليه من ربوة واشتدّ قتاله، وجاء البرّاء من الليل فتعجّب لقتاله وانصرف إلى الحجّاج وأنهى غدر المهلّب وقاتلهم ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شيء. ثم وقع الاختلاف بينهم فقيل في سببه انّ المقعطر الضبيّ وكان عاملا لقطريّ على بعض نواحي كرمان قتل
__________
[1] قيس بن سعد العجليّ: ابن الأثير ج 4 ص 436.
[2] جيرفت: ابن الأثير ج 4 ص 437.
[3] بياض في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 437: «فكتب اليه عبد الملك يأمره ان يترك بيد المهلب فسا ودارابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب.»(3/201)
بعض الخوارج فطلبوا القود منه فمنعه قطري وقال: تأول فأخطأ، وهو من ذوي السابقة فاختلفوا وقيل بل كان رجل في عسكرهم يصنع النصول مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلّب فكتب المهلّب كتابا مع رجل وامرأة أن يلتقيه في عسكرهم وفيه وصلت نصالك وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما وقف على الكتاب سأل الصانع فأنكر فقتله فأنكر عليه عبد ربه الكبير واختلفوا. (وقيل) بعث المهلّب نصرانيا وأمره بالسجود لقطريّ فقتله بعض الخوارج وولّوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطريا فبقي في نحو الخمسين منهم وأقاموا يقتتلون شهرا، ثم لحق قطريّ بطبرستان وأقام عبد ربه بكرمان وقاتلهم المهلّب وحاصرهم بخيرفت [1] ولما طال عليهم الحصار خرجوا بأموالهم وحريمهم وهو يقاتلهم حتى أثخن فيهم. ثم دخل خيرفت وسار في اتباعهم فلحقهم على أربعة فراسخ فقاتلهم هو وأصحابه حتى أعيوا وكفّ عنهم. ثم استمات الخوارج ورجعوا فقاتلوه حتى يئس من نفسه. ثم نصره الله عليهم وهزمهم وقتل منهم نحوا من أربعة آلاف كان منهم عبد ربه الكبير ولم ينج إلا القليل. وبعث المهلّب المبشر إلى الحجّاج فأخبره وسأله عن بني المهلّب فأثنى عليهم واحدا واحدا قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلّب يشكره ويأمره أن يولّي على كرمان من يراه وينزل حامية ويقدّم عليه، فولّى عليها ابنه يزيد وقدم على الحجّاج فاحتفل لقدومه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلّب! وسرّح سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش عظيم نحو طبرستان لطلب قطريّ وعبيدة بن هلال ومن معهم من الخوارج. والتقوا هنالك بإسحاق بن محمد بن الأشعث في أهل الكوفة واجتمعا على طلبهم، فلقوهم في شعب من شعب طبرستان وقاتلوهم فافترقوا عن قطريّ ووقع عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب ومرّ به علج فاستقاه على أن يعطيه سلاحه، فعمد إلى أعلى الشعب وحدّر عليه حجرا من فوق الشعب فأصابه في رأسه فأوهنه ونادى بالناس فجاء في أوّلهم نفر من أهل الكوفة فقتلوه [2] منهم سورة بن أبجر التميمي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف والسياح بن محمد بن الأشعث [3] وحمل رأسه أبو الجهم إلى
__________
[1] جيرفت: ابن الأثير ج 4 ص 439 وقد مرّ ذكرها من قبل.
[2] هنا بياض بالأصل وبعد مراجعة الكامل تبين انه لا يوجد اي نقص. (ابن الأثير ج 4 ص 442) :
«فقتلوه، منهم سورة بن الحر التميمي..»
[3] الصبّاح بن محمد بن الأشعث: المرجع السابق.(3/202)
إسحاق بن محمد فبعث به إلى الحجّاج، وبعثه الحجّاج إلى عبد الملك وركب سفيان فأحاط بالخوارج وحاصرهم حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه واستماتوا فقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الحجّاج ودخل دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجّاج قبل دير الجماجم. قال بعض العلماء وانقرضت الأزارقة بعد قطريّ وعبيدة آخر رؤسائهم وأوّل رؤسائهم نافع بن الأزرق. واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة إلى أن افترقوا كما ذكرناه سنة سبع وسبعين فلم تظهر لهم جماعة، إلى رأس المائة.
خروج سودب
خرج سودب [1] هذا أيام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة واسمه بسطام وهو من بني يشكر فخرج في مائتي رجل وسار في خوخى [2] وعامل الكوفة يومئذ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب. فكتب إليه عمر أن لا يعرض لهم حتى يقتلوا أو يفسدوا فيوجه إليهم الجند مع صليب حازم فبعث عبد الحميد بن جرير بن عبد الله البجليّ في ألفين فأقام بإزائه لا يحرّكه. وكتب عمر إلى سودب: بلغني أنك خرجت غضبا للَّه ولرسوله، وكنت أولى بذلك مني، فهلمّ إليّ أناظرك فإن كان الحق معنا دخلت مع الناس، وإن كان الحق معك نظرنا في أمرك. فبعث إليه عاصما الحبشيّ مولى بني شيبان ورجلا من بني يشكر فقدما عليه بخاصر [3] فسألهما ما أخرجكم وما الّذي نقمتم؟ فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر مشورة من الناس أم غلبت عليه؟ قال عمر: ما سألته ولا غلبت عليه وعهد إليّ رجل قبلي فقمت ولم ينكر أحد، ومذهبكم الرضا لكل من عدل، وإن أنا خالفت الحق فلا طاعة لي عليكم. قالا: فقد خالفت أعمال أهل بيتك وسمّيتها مظالم فتبرّأ منهم والعنهم فقال عمر: أنتم تريدون الآخرة وقد أخطأتم طريقها، وإنّ الله لم يشرع اللعن. وقد قال إبراهيم: ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقال: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وبقي تسمية أعمالهم مظالم ذما، ولو كان لعن أهل الذنوب فريضة لوجب عليكم لعن فرعون، أنتم لا تلعنونه وهو أخبث
__________
[1] شوذب: ابن الأثير ج 5 ص 45.
[2] جوخى: ابن الأثير ج 5 ص 45 وقد مرّ ذكرها من قبل.
[3] خناصرة: ابن الأثير ج 5 ص 45.(3/203)
الخلق، فكيف ألعن أنا أهل بيتي وهم مصلّون صائمون ولم يكفروا بظلمهم! لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإيمان والشريعة، فمن عمل بها قبل منه، ومن أحدث حدثا فرض عليه الحدّ. فقالا: فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد والإقرار بما نزل عليه. فقال عمر: وليس أحد ينكر ما نزل عليه ولا يقول لا أعمل بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن القوم أسرفوا على أنفسهم. قال عاصم: فابرأ منهم وردّ أحكامهم. قال عمر: أتعلمان أنّ أبا بكر سبى أهل الردّة وأنّ عمر ردّها بالفدية ولم يبرأ من أبي بكر وأنتم لا تبرءون من واحد منهما. قال:
فأهل النهروان خرج أهل الكوفة منهم فلم يقتتلوا ولا استعرضوا وخرج أهل البصرة فقتلوا عبد الله بن حبّاب وجارية حاملا، ولم يتبرّأ من لم يقتل ممن قتل واستعرض، ولا أنتم تتبرّءون من واحد منهما. وكيف ينفعكم ذلك مع علمكم باختلاف أعمالكم؟
ولا يسعني أنا البراءة من أهل بيتي والدين واحد فاتقوا الله ولا تقبلوا المردود وتردّوا المقبول، وقد أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد شهادة الإسلام وعصم ماله ودمه، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر الأديان وتحرّمون دماءهم وأموالهم فقال اليشكريّ من استأمن على قوم وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون أتراه أدّى الحق الّذي لزمه؟ فكيف تسلم هذا الأمر بعدك إلى يزيد مع علمك أنه لا يعدل فيه؟ فقال: إنما ولّاه غيري والمسلمون أولى بذلك بعدي. قال: فهو حق ممن فعله وولّاه، قال أنظراني ثلاثا ثم جاءه عاصم فرجع عن رأي الخوارج وقال له اليشكري: أعرض عليهم ما قلت واسمع حجّتهم. وأقام عاصم عند عمرو وأمر له بالعطاء وتوفي عمر لأيام قلائل ومحمد بن جرير ينتظر عود الرسل. ولما مات عمر كتب عبد الحميد إلى محمد بن جرير بمناجزة سودب قبل أن يصل إليهم خبر عمر، فقالت الخوارج ما خالف هؤلاء ميعادهم إلّا وقد مات الرجل الصالح. واقتتلوا فانهزم محمد بن جرير واتبعه الخوارج إلى الكوفة، ورجعوا وقدم على سودب صاحباه وأخبراه بموت عمر، وسرّح يزيد تميم بن الحباب في ألفين فهزمه أصحابه، ثم بعث إليهم الشجاع بن وداع [1] في ألفين فقتلوه وهزموه بعد أن قتل منهم هدبة ابن عم سودب وبقي الخوارج بمكانهم. وجاء مسلمة إلى الكوفة فأرسل سعيد بن عمرو
__________
[1] السمّاج بن وداع: ابن الأثير ج 5 ص 69.(3/204)
الحريشيّ [1] في عسكر [2] آلاف فاستماتت الخوارج وكشفوا العساكر مرارا ثم حملوا عليهم فطحنوهم طحنا. وقتل سودب وأصحابه ولم يبق منهم أحد، وضعف أمر الخوارج إلى ظهور [3] أيام هشام سنة عشرين ومائة بهلول بن بشر بن شيبان وبلغت كنارة، وكان لما عزم على الخوارج حج ولقي بمكة من كان على رأيه، فأبعدوا إلى قرية من قرى الموصل واجتمعوا بها وهم أربعون وأمّروا عليهم البهلول وأخفوا أنفسهم بأنهم قدموا من عند هشام ومرّوا بقرية كان بهلول ابتاع منها خلّا فوجده خمرا وأبى البائع من ردّه واستعدى عليه عامل القرية، فقال: الخمر خير منك ومن قومك فقتلوه وأظهروا أمرهم وقصدوا خالد القسري بواسط وتعلّلوا عليه بأنه يهدم المساجد ويبني الكنائس ويولّي المجرّد على المسلمين. وجاء الخبر إلى خالد فتوجه من واسط إلى الحيرة وكان بها جند من بني العين نحو ستمائة بعثوا مددا لعامل الهند، فبعثهم خالد مع مقدمهم لقتال بهلول وأصحابه وضمّ إليهم مائتين من الشرط والتقوا على الفرات، فقتل مقدمهم وانهزموا إلى الكوفة، وبعث خالد عابدا الشيبانيّ من بني حوشب بن يزيد بن رويم فلقيه بين الموصل والكوفة فهزمهم إلى الكوفة وارتحل يريد الموصل. ثم بدا له وسار يريد هشاما بالشام وبعث خالد جندا من العراق وعامل الجزيرة جندا، وبعث هشام جندا فاجتمعوا بين الجزيرة والموصل بكحيل وهم في عشرين ألفا وبهلول في سبعين فقاتلوا واستماتوا وصرع بهلول وسأله أصحابه العهد فعهد إلى دعامة الشيبانيّ ثم إلى عمر اليشكريّ من بعده. ومات بهلول من ليلته وهرب دعامة وتركهم ثم خرج عمر اليشكريّ فلم يلبث أن قتل. (ثم خرج) على خالد بعد ذلك بسنتين الغفريّ صاحب الأشهب وبهذا كان يعرف فبعث اليه السمط بن مسلم البجليّ في أربعة آلاف فالتقوا بناحية الفرات فانهزمت الخوارج ولقيهم عبيد أهل الكوفة وغوغاؤهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم. ثم خرج وزير السختيانيّ على خالد بالحيرة فقتل وأحرق القرى فوجّه إليه خالد جندا فقتلوا أصحابه، وأثخن بالجراح وأتى به خالد فوعظه فأعجبه وعظه فأعفاه من القتل. وكان يسامره بالليل وسعى بخالد إلى هشام وأنه أخذ حروريا يستحق القتل فجعله سميرا، فكتب إليه
__________
[1] سعيد بن عمر والحرشيّ: ابن الأثير ج 5 ص 70.
[2] في عشرة الاف: ابن الأثير ج 5 ص 70 والعبارة هنا غير واضحة وربما يكون قد سقطت كلمة «من عشرة» أثناء النسخ فتصبح العبارة: في عسكر من عشرة الاف.
[3] العبارة هنا غير واضحة والأصح: الى ان ظهر أيام هشام.(3/205)
هشام بقتله فقتله. ثم خرج بعد ذلك الصخاري بن شبيب بالفريضة فمضى وندم خالد فطلبه فلم يرجع، وأتى جبل وبها نفر من اللّات بن ثعلبة فأخبرهم وقال: إنما أردت التوصل إليه لأقتله بفلان من قعدة الصغرية كان خالد قتله صبرا. ثم خرج معه ثلاثون منهم فوجه إليهم خالد جندا فلقوهم بناحية المناذر فاقتتلوا فقتل الصحاري وأصحابه أجمعون. وردّ أمر الخوارج بعد ذلك مرّة فلما وقعت الفتن أيام هشام بالعراق والشام وشغل مروان بمن انتقض عليه فخرج بأرض كفريموتا سعيد بن بهدل الشيبانيّ في مائتين من أهل الجزيرة وكان على رأي الحرورية، وخرج بسطام البهسيّ في مثل عدّتهم من ربيعة، وكان مخالفا لرأيه، فبعث إليه من الصغريّة أربعة آلاف أو يزيدون. وولّى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشيّ وعزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فامتنع عبد الله بالحيرة، وسار إليه النضر وتحاربا أشهرا. وكانت الصغريّة مع النضر عصبة لمروان لطلبه بدم الوليد وأمه قيسية. فلما علم الضحّاك والخوارج باختلافهم، أقبل إلى العراق سنة سبع وعشرين وزحف إليهم فتراسل ابن عمر والنّضر وتعاقدا واجتمعا لقتاله بالكوفة، وكل واحد منهما يصلى بأصحابه وابن عمر أمير على الناس وجاء الخوارج فقاتلوهم فهزموهم إلى خندقهم ثم قاتلوهم في اليوم الثاني كذلك فسلك الناس إلى واسط منهم النّضر بن سعيد الحريشيّ ومنصور ابن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وغيرهم من الوجوه. فلحق ابن عمر بواسط واستولى الضحّاك على الكوفة وعادت الحرب بين ابن عمر والنضر. ثم زحف إليهما الضحّاك فاتفقا وقاتلا حتى ضرّستهما الحرب، ولحق منصور بن جمهور بالضحّاك والخوارج وبايعهم ثم صالحهم ابن عمر ليشغلوا مروان عنه، وخرج إليهم وصلّى خلف الضحّاك وبايعه وكان معه سليمان بن هشام وصل إليه هاربا من حمص لما انتقض بها وعليه عليها مروان فلحق بابن عمر وبايع معه الضحّاك وصار معه وحرّضه على مروان انما لحق بالضحّاك وهو يحاصر نضيرا وتزوّج أخت شيبان الحروري. فرجع الضحّاك إلى الكوفة وسار منها إلى الموصل بعد عشرين شهرا من حصار واسط، بعد أن دخل أهل الموصل وعليهم القطرن أم أكمه من بني شيبان عامل لمروان فأدخلهم أهل البلد وقاتلهم القطرن فقتل ومن معه وبلغ الخبر إلى مروان وهو يحاصر حمص فكتب إلى ابنه عبد الله أن يسير إلى يمانع الضحّاك عن توسط الجزيرة فسار في ثمانية آلاف فارس(3/206)
والضحّاك في مائة ألف وحاصره بنصيبين. ثم سار مروان بن محمد إليه فالتقيا عند كفريموتا من نواحي ماردين فقاتله عامّة يومه إلى الليل وترجّل الضحّاك في نحو ستة آلاف وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وعثر على الضحّاك في القتلى فبعث مروان برأسه إلى [1] الجزيرة وأصبح الخوارج فبايعوا الخبيريّ قائد الضحّاك وعاودوا الحرب مع مروان فهزموه وانتهوا إلى خيامه فقطعوا أطنابهم وجلس الخبيريّ على فرشه والجناحان ثابتان وعلى الميمنة عبد الله بن مروان وعلى الميسرة إسحاق بن مسلم العقيليّ فلما انكشف قلّة الخوارج أحاطوا بهم في مخيم مروان فقتلوهم جميعا والخبيريّ معهم. ورجع مروان من نحو ستة أميال وانصرف الخوارج وبايعوا شيبان الحروريّ وهو شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ ويكنى أبا الدلقاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ وأقام في قتالهم أياما وانصرف عن شيبان كثير منهم وارتحلوا إلى الموصل بإشارة سليمان بن هشام وعسكروا شرقي دجلة، وعقدوا الجسور واتبعهم مروان فقاتلهم لتسعة أشهر، وقتل من الطائفتين خلق كثير وأسر ابن أخ لسليمان بن هشام اسمه أمية بن معاوية فقطعه ثم ضرب عنقه وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة وهو بقرقيسياء يأمره بالسير إلى العراق وولّاه عليها وعلى الكوفة يومئذ المثنّى بن عمران العائدي من قريش خليفة للخوارج فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا وانهزمت الخوارج. ثم تجمّعوا له بالنخيلة ظاهر الكوفة فهزمهم، ثم تجمعوا بالبصرة فأرسل شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فهزمهم ابن هبيرة وقتل عبيدة واستباح عسكرهم، واستولى على العراق وكان منصور بن جمهور مع الخوارج فمضى إلى الماهين وغلب عليها وعلى الخيل جميعا، وسار ابن هبيرة إلى واسط فحبس ابن عمر وكان سليمان بن حبيب عامل ابن عمر على الأهواز فبعث ابن هبيرة إليه نباتة بن حنظلة، وبعث هو داود بن حاتم والتقيا على دجلة
__________
[1] هنا اربع بياضات بالأصل كما ترى، وان الكلام الّذي بين البياضات غير مترابط وكثير الاغلاط لذلك نقلنا ما ورد في تاريخ الطبري ج 9 ص 76: فذكر هشام عن أبي مخنف ان الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقي مروان بكفرثوثى من أرض الجزيرة فقتل الضحاك يوم التقوا. وابو هاشم مخلد بن محمد بن صالح قال: فيما حدثني احمد بن زهير قال حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم عنه ان الضحاك، لما قتل عطية التغلبي صاحبه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السليحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر بواسط وجّه مكانه من أصحابه رجلا يقال له مطاعن، واصطلح عبد الله بن عمر(3/207)
فانهزم داود وقتل وكتب مروان إلى ابن هبيرة أن يبعث إليه عامر بن ضبابة المزنيّ فبعثه في ثمانية آلاف وبعث شيبان لاعتراضه الجون بن كلاب الخارجي في جمع فانهزم عامر وتحصّن بالسند وجعل مروان يمدّه بالجنود وكان منصور بن جمهور بالجبل يمدّ شيبان بالأموال. ثم كثرت جموع عامر فخرج إلى الجون والخوارج اللذين يحاصرونه فهزمهم وقتل الجون وسار قاصدا الخوارج بالموصل، فارتحل شيبان عنها وقدم عامر على مروان فبعثه في اتباع شيبان، فمرّ على الجبل وخرج على بيضاء
__________
[ () ] والضحاك على أن يدخل في طاعته. فدخل وصلى خلفه وانصرف إلى الكوفة. وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط. ودخل الضحّاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكنوه منها، فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهرا حتى انتهى اليها، وعليها يومئذ عامل لمروان وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة، يقال له القطران بن أكمه. ففتح أهل الموصل المدينة للضحّاك، وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا. واستولى الضحّاك على الموصل وكورها، وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص مشتغل بقتال أهلها. فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين يشغل الضحّاك عن توسط الجزيرة فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلف بحرّان قائدا في ألف أو نحو ذلك. وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة من مع الضحّاك، فهو فيما بلغنا عشرون ومائة ألف..
وأقام الضحّاك على نصيبين محاصرا لها ووجّه قائدين من قواده ( ... ) حتى وردا الرقة فقاتلهم من بها من خيل مروان وهم نحو من خمسمائة فارس. ووجه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلا من روابطه، فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضحّاك منصرفين إليه فاتبعتهم خيله فاستسقطوا من ساقتهم نيّفا وثلاثين رجلا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة ومضى صامدا إلى الضحّاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا فقاتله يومه ذلك. فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف، وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه وأحدقت بهم خيول مروان، فالحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة. وانصرف من بقي من أصحاب الضحّاك إلى عسكرهم، ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحّاك أن الضحّاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل.
وجاءهم بعض من عيانه حين ترجل فأخبرهم بخبره ومقتله فبكوه وناحوا عليه. وخرج عبد الملك بن بشر التغلبيّ القائد الّذي كان وجهه في عسكرهم إلى الرقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فاعلمه أن الضحاك قتل. فأرسل معه رسلا من حرسه معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلبا القتلى حتى استخرجوه فاحتملوه حتى أتوا به مروان وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحّاك أنهم قد علموا بذلك. وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها. وقيل: إن الخيبريّ والضحّاك انما قتلا سنة 129.
راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 5 ص 348- 349.(3/208)
فارس وبها يومئذ عامر بن عبد الله بن حطويه بن جعفر [1] في جموع كثيرة، فسار ابن معاوية إلى كرمان وقاتله عامر فهزمه ولحق بهراة وسار عامر بمن معه فلقي شيبان والخوارج بخيرفت [2] فهزمهم واستباح عسكرهم ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها سنة ثلاثين ومائة، وقيل بل كان قتال مروان وشيبان على الموصل شهرا، ثم انهزم شيبان ولحق بفارس وعامر بن صراة [3] في اتباعه، ثم سار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان، وأقام بها. ولما ولي السفّاح بعث حارثة بن خزيمة لحرب الخوارج هنالك لموجدة وجدها عليه، فأشير عليه ببعثه لذلك. فسار في عسكر إلى البصرة وركب السفن إلى جزيرة ابن كاوان، وبعث فضالة بن نعيم النهيليّ في خمسمائة، فانهزم شيبان إلى عمان وقاتل هناك وقتله جلندي بن مسعود بن جعفر بن جلندي ومن معه سنة أربع وثلاثين. وركب سليمان بن هشام السفن بأهله ومواليه إلى الهند بعد مسير شيبان إلى جزيرة ابن كاوان حتى إذ بويع السفّاح قدم عليه وأنشده سديف البيتين المعروفين وهما:
لا يغرّنّك ما ترى من رجال ... إنّ بين الضّلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع الصوت حتّى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فقتله السفّاح وانصرف مروان بعد مسير شيبان إلى الموصل الى منزله بحرّان. فلم يزل بها حتى سار إلى الزاب، ومضى شيبان بعد سلمة إلى خراسان والفتنة بها يومئذ بين نصر ابن سيّار والكرماني والحرث بن شريح وقد ظهر أبو مسلم بالدعوة العباسية فكان له من الحوادث معهم ما ذكرناه واجتمع مع علي بن الكرماني على قتال نصر بن سيّار فلما صالح الكرماني أبا مسلم كما مرّ وفارق شيبان تنحّى شيبان عن عمر لعلمه أنه لا يقاومه. ثم هرب نصر بن سيّار إلى سرخس واستقام أمر أبي مسلم بخراسان، فأرسل إلى شيبان يدعوه إلى البيعة ويأذنه بالحرب، واستجاش بالكرماني فأبى، فسار إلى سرخس واجتمع إليه الكثير من بكر بن وائل، وأرسل إليه أبو مسلم في الموادعة، فحبس الرسل، فكتب أبو مسلم إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث بالمسير إلى شيبان
__________
[1] عبد الله بن معاوية بن حبيب بن جعفر: ابن الأثير ج 5 ص 355.
[2] جيرفت: المرجع السابق وقد مر ذكرها من قبل.
[3] عامر بن ضبارة: المرجع السابق.(3/209)
فسار إليه فهزمه وقتل في عدّة من بكر بن وائل. ويقال إنّ خزيمة بن حازم حضر مع بسّام في ذلك.
خبر أبى حمزة وطالب وإسحق
كان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي البصري [1] وكان من الخوارج الإباضية وكان يوافي مكة كل موسم يدعو إلى خلاف مروان، وجاء عبد الله ابن يحيي المعروف بطالب الحق سنة ثمان وعشرين وهو من حضرموت فقال له:
انطلق معي فإنّي مطاع في قومي. فانطلق معه إلى حضرموت وبايعه على الخلافة وبعثه عبد الله سنة تسع وعشرين مع بلخ بن عقبة الأزدي [2] في سبعمائة فقدموا مكة وحكموا بالموقف وعامل المدينة يومئذ عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، فطلبهم في الموادعة حتى ينقضي الموسم. وأقام للناس حجّهم ونزل بمعنى وبعث إلى أبي حمزة عبيد الله بن حسن بن الحسن ومحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد وعبيد الله ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر [3] بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن في أمثالهم، فكشّر في وجه العلويّ والعثمانيّ وانبسط إلى البكريّ والعمريّ، وقال لهما: ما خرجنا إلا بسيرة أبويكما! فقال له عبيد الله بن حسن: ما جئنا للتفضيل بين آبائنا وإنما جئنا برسالة من الأمير وربيعة يخبرك بها. ثم أحكموا معه الموادعة إلى مدتها. ونفر عبد الواحد في النفر الأوّل فمضى إلى المدينة وضرب على أهلها البعث وزادهم في العطاء عشرة، وبعث عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ابن عثمان، فانتهوا إلى فديك. وجاءتهم رسل أبي حمزة يسألونهم التجافي عن حربهم وأن يخلوا بينهم وبين عدوّهم فلما نزلوا قديد وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب، فطلع عليهم أصحاب أبي حمزة من الغياض فأثخنوا فيهم وكان قتلاهم نحو سبعمائة من قريش. وبلغ الخبر إلى عبد الواحد فلحق بالشام ودخل أبو حمزة المدينة منتصف صفر سنة ثلاثين وخطب على المنبر وأعلن بدعوته ووعظ، وذكر وردّ مقالات من عليهم وسفّه رأيهم وأحسن السيرة في أهل المدينة واستمالهم حتى سمعوه
__________
[1] المختار بن عوف الازدي السلّمي البصري: ابن الأثير ج 5 ص 351.
[2] بلج بن عقبة الازدي: ابن الأثير ج 5 ص 373.
[3] وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وعمر بن ربيعة: ابن الأثير ج 5 ص 374.(3/210)
يقول: من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر وأقام ثلاثة أشهر، ثم ودّعهم وسار نحو الشام. وكان مروان قد سرّح إليهم عبد الملك بن محمد بن عطيّة بن هوازن في أربعة آلاف ليقاتل الخوارج حتى يبلغ اليمن فلقي أبا حمزة في وادي القرى، فانهزمت الخوارج وقتل أبو حمزة ولحق فلّهم بالمدينة. وسار عطية في أثرهم إلى المدينة فأقام بها شهرا، ثم سار إلى اليمن واستخلف على المدينة الوليد ابن أخيه عروة، وعلى مكّة رجلا من أهل الشام. وبلغ عبد الله طالب الحق مسيره إليه وهو بصنعاء فخرج للقائه، واقتتلوا، وقتل طالب الحق وسار ابن عطيّة إلى صنعاء وملكها. وجاء كتاب مروان بإقامة الحج بالناس، فسار في اثني عشر رجلا ومعه أربعون ألف دينار وخلّف ثقله بصنعاء ونزل الحرف فاعترضه ابن حماية المرادي في جمع، وقال له ولأصحابه: أنتم لصوص فاستظهروا بعهد مروان فكذّبوه وقاتلهم فقتلوه. وركد ريح الخوارج من يومئذ إلى أن ظهرت الدولة العبّاسية وبويع المنصور بعد السفّاح (فخرج سنة سبع وثلاثين) بالجزيرة ملبد بن حرملة الشيبانيّ فسارت اليه روابط الجزيرة في ألف فارس فهزمهم وقاد منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلّبيّ ومهلّل بن صفوان مولى المنصور، ثم نزار من قوّاد خراسان، ثم زياد بن مسكان ثم صالح بن صبيح فهزمهم كلهم واحدا بعد واحد، وقتل منهم. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو عامل الجزيرة فهزمه وتحصّن حميد منه، فبعث المنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبّار في الجيوش، ومعه زياد بن مسكان فأكمن له الملبّد، وقاتلهم. ثم خرج الكعبين [1] فانهزم عبد العزيز وقتل عامّة أصحابه فبعث المنصور حازم بن خزيمة في ثمانية آلاف من أهل خراسان فسار إلى الموصل وعبر إليه الملبّد دجلة فقاتله فانهزم أهل الميمنة وأهل الميسرة من أصحاب حازم، وترجّل حازم وأصحابه، وترجّل ملبّد كذلك. وأمر حازم أصحابه فنضحوهم بالنبل، واشتدّ القتال وتزاحفت الميمنة والميسرة ورشقوهم، فقتل ملبّد في ثمانمائة ممن ترجل معه، وثلاثمائة قبل أن يترجل. وتبعهم فضالة صاحب الميمنة فقتل منهم زهاء مائة وخمسين. ثم خرج سنة ثمان وأربعين أيام المنصور بنواحي الموصل حسّان بن مخالد [2] بن مالك بن الأجدع
__________
[1] حسب مقتضى السياق «الكمين» .
[2] حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانيّ: ابن الأثير ج 5 ص 584.(3/211)
الهمدانيّ أخو مسروق. وكان على الموصل الصغر بن يجدة [1] وليها بعد حرب بن عبد الله، فسار إليهم فهزموه إلى الدجلة. وسار حسّان إلى العمّال ثم إلى البحر وركب إلى السند وقاتل، وكاتب الخوارج بعمان يدعوهم ويستأذنهم في اللحاق بهم فأبوا، وعاد إلى الموصل فخرج إليه الصّفر بن الحسن ابن صالح بن جنادة الهمذاني وهلال، فقتل هلالا واستبقى ابن الحسن فاتهمه بعض أصحابه بالعصبيّة وفارقوه.
وقد كان حسّان أمّه من الخوارج وخاله حفص بن أشتم من فقهائهم ولما بلغ المنصور خروجه قال: خارجي من همذان فقيل له إنه ابن أخت حفص بن أشتم. قال:
من هناك وإنما أنكر المنصور ذلك لأنّ عامّة همذان شيعة. وعزم المنصور على الفتك بأهل الموصل، فإنّهم عاهدوه على أنهم إن خرجوا فقد فلت ديارهم وأموالهم وأحضر أبا حنيفة وابن أبي ليلى بن شبرمة واستفتاهم فتلطّفوا له في العفو فأشار إلى أبي حنيفة فقال: أباحوا ما لا يملكون كما لو أباحت امرأة، فزوّجها بغير عقد شرعيّ فكف عن أهل الموصل. ثم خرج أيام المهدي بخراسان يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرّة واجتمع شركس فبعث إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيبانيّ ابن أخي معن فاقتتلوا قتالا شديدا وأسره يزيد وبعث به إلى المهدي موثقا، وحمل من النهروان على بعير وحوّل وجهه إلى ذنبه كذلك فدخلوا إلى الرصافة وقطعوا ثم صلبوا [2] . وكان حروبا متعودا فغلب على بوشنج ومروالروذ والطالقان والجوزجان، وكان على بوشنج مصعب بن زريق جدّ طاهر بن الحسين فهرب منه وكان من أصحابه معاذ الفارياني وقبض معه ثم خرج معه أيام المهدي بالجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي سنة تسع وستين وهزم منصور بن زياد وصاحب الخراج وقوي أمره، ثم اغتاله بعض أصحابه فقتله. ثم خرج آخر أيام المهدي بأرض الموصل خارجيّ من بني تميم اسمه ياسين يميل إلى مقاتلة صالح بن مسرّح فهزم عسكر الموصل وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليه المهدي القائد أبا هريرة محمد بن مروخ وهزيمة بن أعين مولى بني ضبّة فحارباه حتى قتل في عدّة من أصحابه وانهزم الباقون. ثم خرج بالجزيرة أيام الرشيد سنة ثمان وسبعين الوليد بن طريف من بني مغلب، وقتل إبراهيم بن خالد ابن خزيمة بنصيبين، ثم دخل أرمينية وحاصر خلاط عشرين يوما وافتدوا بثلاثين
__________
[1] الصقر بن نجدة: المرجع السابق.
[2] حسب مقتضى السياق: فقطّعوه ثم صلبوه والضمير يعود إلى يوسف بن إبراهيم.(3/212)
ألفا. ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان وأرض السواد، وعبر إلى غرب دجلة وعاث في أرض الجزيرة، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيبانيّ، وهو ابن أخي معن في العساكر فمكث يقاتله، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فاغروا به الرشيد وأنه أبقى على الوليد برجم وائل. فكتب إليه الرشيد يتهدّده فناجزه يزيد الحرب في رمضان سنة تسع وسبعين وقاتلهم قتالا شديدا فقتل الوليد وجيء برأسه.
ثم أصبحت أخته مستلئمة للحرب فخرج إليها يزيد وضربها على رأسها بالرمح وقال لها اعدي فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول في رثائه الأبيات المشهورة التي منها:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحبّ الزاد إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف
وانقرضت كلمة هؤلاء بالعراق والشام، فلم يخرج بعد ذلك إلّا شذاذ متفرّقون يستلحمهم الولاة بالنواحي إلّا ما كان من خوارج البربر بإفريقية، فإنّ دعوة الخارجية فشت فيهم من لدن مسيرة الظّفريّ سنة ثلاث وعشرين ومائة. ثم فشت دعوة الإباضيّة والصّفريّة منهم في هوارة ولماية ونفزة ومغيلة وفي مغراوة وبني يفرن من زناتة حسبما يذكر في أخبار البربر لسي رستم من الخوارج بالغرب دولة في تاهرت من الغرب الأوسط نذكرها في أخبار البربر أيضا. ثم سار بإفريقية منهم على دولة العبيديّين خلفاء القيروان أبو يزيد بن مخلد المغربيّ، وكانت له معهم حروب وأخبار تذكرها في موضعها. ثم لم يزل أمرهم في تناقص إلى أن اضمحلّت ديانتهم وافترقت جماعتهم وبقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر الذين دانوا بها أوّل الأمر. ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باق لهذا العهد في قصور ربع وواديه، في مغراوة من شعوب زناتة ويسمّون الراهبية نسبة إلى عبد الله بن وهب الراهبي. أوّل من بويع منهم أيام عليّ بن أبي طالب. وهم في قصور هنالك مظهرين لبدعتهم لبعدهم عن مقال أهل السنّة والجماعة، وكذلك في جبال طرابلس وزناتة أثر باق تلك النحلة تدين بها أولئك البربر في المجاورة لهم مثل ذلك وتطير إلينا هذا العهد من تلك البلاد دواوين ومجلّدات من كلامهم في فقه الدين، وتمهيد عقائده، وفروعه مباينة لمناحي السنّة وطرقها بالكلية، إلّا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب(3/213)
وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة. وكان بنواحي البحرين وعمان إلى بلاد حضرموت وشرقي اليمن ونواحي الموصل آثار تفشي وعروق في كل دولة، إلى أن خرج عليّ بن مهدي من خولان باليمن ودعا إلى هذه النحلة. وغلب يومئذ من كان من الملوك باليمن واستلحم بني الصليحيّ القائمين بدعوة العبيديّين من الشيعة وغلبوهم على ما كان بأيديهم من ممالك اليمن، واستولوا أيضا على زبيد ونواحيها من يد موالي بني نجاح ومولى ابن زياد كما نذكر ذلك كله في أخبارهم إن شاء الله سبحانه وتعالى. فلتصفح في أماكنها. ويقال إنّ باليمن لهذا العهد شيعة من هذه الدعوة ببلاد حضرموت، والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
الدولة الإسلامية بعد افتراق الخلافة
لم يزل أمر الإسلام جميعا دولة واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية من بعدهم لاجتماع عصبية العرب. ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة، وهم الدعاة لأهل البيت، فغلب دعاة بني العبّاس على الأمر واستقلوا بخلافة الملك، ولحق الفلّ من بني أمية بالأندلس، فقام بأمرهم فيها من كان هنالك من مواليهم، ومن هرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العبّاس، وانقسمت لذلك دولة الإسلام بدولتين لافتراق عصبية العرب. ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب والعراق من العلويّة ونازعوا خلفاء بني العبّاس واستولوا على القاصية من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصى، والعبيديّين بالقيروان ومصر، والقرامطة بالبحرين، والدواعي بطبرستان والديلم والأطروش فيها من بعده. وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرّقة نذكرها واحدة بعد واحدة. ونبدأ منها أوّلا بذكر الشيعة ومبادئ دولهم، وكيف انساقت إلى العبّاسية ومن بعدهم إلى آخر دولهم. ثم نرجع إلى دولة بني أمية بالأندلس. ثم نرجع إلى دولة الدعاة للدولة العبّاسية في النواحي من العرب والعجم كما ذكرناه في برنامج الكتاب، والله الموفق للصواب.
مبدأ دولة الشيعة
(أعلم) أن مبدأ هذه الدولة أنّ أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر وأنّ الخلافة لرجالهم دون من سواهم من قريش. وفي(3/214)
الصحيح أنّ العبّاس قال لعليّ في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي توفي فيه: اذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال له عليّ: إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده. وفي الصحيح أيضا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الّذي توفي فيه: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا فاختلفوا عنده في ذلك، وتنازعوا ولم يتم الكتاب. وكان ابن عبّاس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم، حتى لقد ذهب كثير من الشيعة إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه ذلك لعليّ، ولم يصح ذلك من وجه يعوّل عليه. وقد أنكرت هذه الوصية عائشة وكفى بإنكارها. وبقي ذلك معروفا من أهل البيت وأشياعهم. وفيما نقله أهل الآثار أنّ عمر قال يوما لابن العبّاس: إنّ قومكم يعني قريشا ما أرادوا أن يجمعوا لكم، يعني بني هاشم بين النبوّة والخلافة فتحموا عليهم، وأنّ ابن عبّاس نكر ذلك، وطلب من عمر إذنه في الكلام فتكلّم بما عصب له. وظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أنّ في نفوس أهل البيت شيئا من أمر الخلافة والعدول عنهم بها. وفي قصّة الشورى: أنّ جماعة من الصحابة كانوا يتشيعون لعليّ ويرون استحقاقه على غيره، ولما عدل به إلى سواه تأفّفوا من ذلك وأسفوا له مثل الزبير ومعه عمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود وغيرهم. إلا أنّ القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الألفة، لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفّف والأسف. ثم لما فشا التكبّر على عثمان والطعن في الآفاق كان عبد الله ابن سبإ ويعرف بابن السوداء، من أشدّ الناس خوضا في التشنيع لعليّ بما لا يرضاه من الطعن على عثمان وعلى الجماعة في العدول إليه عن عليّ، وأنه وليّ بغير حق، فأخرجه عبد الله بن عامر من البصرة ولحق بمصر فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا إلى الغلوّ في ذلك وانتحال المذاهب الفاسدة فيه، مثل خالد بن ملجم وسوذان بن حمدان وكنانة بن بشر وغيرهم. ثم كانت بيعة عليّ وفتنة الجمل وصفين، وانحراف الخوارج عنه بما أنكروا عليه من التحكيم في الدين. وتمحّضت شيعته للاستماتة معه في حرب معاوية مع عليّ، وبويع ابنه الحسن وخرج عن الأمر لمعاوية، فسخط ذلك شيعة عليّ منه وأقاموا يتناجون في السرّ باستحقاق أهل البيت والميل إليهم، وسخطوا من الحسن ما كان منه، وكتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع، وأوعدهم(3/215)
إلى هلاك معاوية. فساروا إلى محمد بن الحنفيّة وبايعوه في السرّ على طلب الخلافة متى أمكنه، وولّى على كل بلد رجلا، وأقاموا على ذلك ومعاوية يكف بسياسة من غربهم، ويقتلع الداء إذا تعيّن له منهم، كما فعل بحجر بن عديّ وأصحابه، ويروّض من شماس أهل البيت ويسامحهم في دعوى تقدّمهم واستحقاقهم. ولا يهيّج أحدا منهم بالتثريب عليه في ذلك، إلى أن مات ووليّ يزيد، وكان من خروج الحسين وقتله ما هو معروف، فكانت من أشنع الوقائع في الإسلام. عظمت بها الشحناء، وتوغّل الشيعة في شأنهم، وعظم النكير والطعن على من تولّى ذلك أو قعد عنه ثم تلاوموا على ما أضاعوه من أمر الحسين وأنهم دعوه ثم لم ينصروه فندموا ورأوا أن لا كفّارة في ذلك إلا الاستماتة دون ثأره، وسمّوا أنفسهم التوّابين. وخرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صرد الخزاعيّ، ومعه جماعة من خيار أصحاب عليّ. وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق ولحق بالشام وجمع وزرينج [1] قاصدا العراق فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل سليمان وكثير من أصحابه كما ذكرنا في خبره وذلك سنة خمس وستين. ثم خرج المختار بن أبي عبيد ودعا لمحمد بن الحنفية كما قدّمناه في خبره، وفشا التعصّب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج عن حدود الحق، واختلفت مذاهب الشيعة فيمن هو أحق بالأمر من أهل البيت، وبايعت كل طائفة لصاحبها سرّا ورسخ الملك لبني أمية وطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها، وتستّروا بها مع تعدّد فرقهم وكثرة اختلافهم كما ذكرناه عند نقل مذاهبهم في فصل الإمامة من الكتاب الأوّل. ونشأ زيد بن عليّ بن الحسين وقرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته، وكان واصل متردّدا في إصابة عليّ في حرب صفين والجمل، فنقل ذلك عنه وكان أخوه محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى سخطيّة جدّه، وكان زيد أيضا مع قوله بأفضلية عليّ على أصحابه، يرى أنّ بيعة الشيخين صحيحة وأنّ إقامة المفضول جائزة خلاف ما عليه الشيعة. ويرى أنهما لم يظلما عليّا. ثم دعته الحال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، واجتمع له عامّة الشيعة ورجع عنه بعضهم لما سمعوه يثني على الشيخين وأنهما لم يظلما عليّا. وقالوا: لم يظلمك هؤلاء ورفضوا دعوته فسمّوا الرافضة من أجل ذلك. ثم قاتل يوسف بن عمر
__________
[1] العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل ج 4 ص 164: «وكان مروان قد سيّر ابن زياد إلى الجزيرة، ثم إذا فرغ منها سار الى العراق» .(3/216)
فقتله يوسف وبعث برأسه إلى هشام وصلب شلوه بالكناسة ولحق ابنه يحيى بخراسان فأقام بها، ثم دعته شيعة إلى الخروج فخرج هنالك سنة خمس وعشرين، وسرّح إليه نصر بن سيّار العساكر مع سالم بن أحور المازنيّ فقتلوه وبعث برأسه إلى الوليد وصلب شلوه بالجوزجان وانقرض شأن الزيدية. وأقام الشيعة على شأنهم وانتظار أمرهم، والدعاء لهم في النواحي يدعون على الأحجال [1] للرضا من آل محمد، ولا يصرّحون بمن يدعون له حذرا عليه من أهل الدولة. وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت، وكانوا يرون أنّ الأمر بعد محمد بن الحنفيّة لابنه أبي هشام عبد الله. وكان كثيرا ما يغدو على سليمان بن عبد الملك فمرّ في بعض أسفاره محمد بن علي ابن عبد الله بن عبّاس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات، وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلم شيعته بالعراق وخراسان أنّ الأمر صائر إلى ولد محمد بن عليّ هذا، فلما مات قصدت الشيعة محمد بن عليّ وبايعوه سرّا. وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، وأجابه عامّة أهل خراسان وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك. وتوفي محمد سنة أربع وعشرين وعهد لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك وكانوا يسمّونه الإمام. ثم بعث أبو مسلم إلى أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره فهلك، وكتب إليهم بولايته ثم قبض مروان بن محمد على إبراهيم الإمام وحبسه بخراسان فهلك هنالك لسنة. وملك أبو مسلم خراسان وزحف إلى العراق فملكها كما ذكرنا ذلك كله من قبل وغلبوا بني أمية على أمرهم وانقرضت دولتهم.
الخبر عن بني العبّاس من دول الإسلام في هذه الطبقة الثالثة للعرب وأولية أمرهم وإنشاء دولتهم والإلمام بنكت أخبارهم وعيون أحاديثهم
هذه الدولة من دولة الشيعة كما ذكرناه وفرقها منهم يعرفون بالكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن عليّ بن الحنفية بعد عليّ، ثم بعده إلى ابنه أبي هشام عبد الله. ثم
__________
[1] الأحجال: ج حجل وهو القيد.(3/217)
بعده إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بوصيته كما ذكرنا. ثم بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد، ثم بعده إلى أخيه أبي العبّاس السفّاح وهو عبد الله بن الحارثية، هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية ويسمّون أيضا الحرماقيّة نسبة إلى أبي مسلم لأنه كان يلقب بحرماق. ولبني العبّاس أيضا شيعة يسمّون الراوندية من أهل خراسان يزعمون أنّ أحق الناس بالإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم هو العبّاس، لأنه وارثه وعاصبه لقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وأنّ الناس منعوه من ذلك وظلموه إلى أن ردّه الله إلى ولده، ويذهبون إلى البراءة من الشيخين وعثمان ويجيزون بيعة عليّ لأنّ العباس قال له يا ابن أخي هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان ولقول داود بن عليّ (عم الخليفة العبّاسي) على منبر الكوفة يوم بويع السفّاح: يا أهل الكوفة إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب وهذا القائم فيكم يعني السفّاح.
دولة السفاح
قد تقدّم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم، ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم بيعة السفّاح بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ثم قتل مروان بن محمد وانقراض الدولة الأموية. ثم خرج بعض أشياعهم وقوّادهم وانتقضوا على أبي العبّاس السفّاح، وكان أوّل من انتقض حبيب بن مرّة المرّيّ من قوّاد مروان، وكان بخولان والبلقاء خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض ومعناه لبس البياض ونصب الرايات البيض مخالفة لشعار العبّاسية في ذلك.
وتابعته قيس ومن يليهم والسفّاح يومئذ بالحيرة بلغه أنّ أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابيّ انتقض بقنّسرين، وكان من قوّاد مروان، ولما انهزم مروان وقدم عليه عبد الله بن عليّ بايعه ودخل في دعوة العبّاسية وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فبعث بهم وبنسائهم القائد الّذي جاءهم من قبل عبد الله بن عليّ. وشكوا ذلك إلى أبي الورد فقتل القائد، وخلع معه أهل قنّسرين، وكاتبوا أهل حمص في الخلاف وقدّموا عليهم أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية، وقالوا هو السفياني الّذي يذكر. ولما بلغ ذلك عبد الله بن عليّ وادع حبيب(3/218)
ابن مرّة وسار إلى أبي الورد بقنّسرين ومرّ بدمشق، فخلع بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلى حمص فبلغه أنّ أهل دمشق خلعوا وبيّضوا وقام فيهم بذلك عثمان بن عبد الأعلى ابن سراقة الأزدي.
وأنّهم هزموا أبا غانم وعسكره وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وانتهبوا ما خلف عندهم فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي الورد، وقدّم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف فكشف ورجع إلى أخيه عبد الله منهزما، فزحف عبد الله في جماعة القوّاد ولقيهم بمرج الأحزم وهم في أربعين ألفا فانهزموا، وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعا. وهرب أبو محمد إلى ترمذ وراجع أهل قنّسرين طاعة العبّاسيّة ورجع عبد الله بن علي إلى قتال أهل دمشق ومن معهم. فهرب عثمان بن سراقة ودخل أهل دمشق في الدعوة وبايعوا لعبد الله بن عليّ، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيبا إلى أيام المنصور فقتله زياد بن عبد الله الحارثي عامل الحجاز يومئذ، وبعث برأسه إلى المنصور مع ابنين له أسيرين فأطلقهما المنصور. ثم خلع أهل الجزيرة وبيّضوا وكان السفّاح قد بعث إليهما ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قواده وأنزلهم بحرّان. وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحرّان شهرين فبعث السفّاح أخاه أبا جعفر إليهم وكان محاصرا لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال إسحاق بن مسلم، ومرّ بقرقيسياء والرقّة وأهلهما قد خلعوا وبيّضوا. وسار نحو حرّان فأجفل إسحاق بن مسلم عنها، ودخل الرها وبعث أخاه بكّار بن مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ برمكة من الحروريّة، فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم وقتل برمكة في المعركة وانصرف بكّار إلى أخيه إسحاق، فخلعه بالرها وسار إلى شمشاط بمعظم عسكره. وجاء عبد الله بن عليّ فحاصره، ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر وهو يقول: لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقّن موت صاحبها.
ثم تيقّن موت مروان فطلب الأمان واستأذنوا السفّاح، فأمرهم بتأمينه وخرج إسحاق إلى أبي جعفر فكان من آثر أصحابه. واستقام أهل الجزيرة والشام وولّى السفّاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فلم يزل عليها حتى استخلف.(3/219)
حصار ابن هبيرة بواسط ومقتله
ثم تقدّم لنا هزيمة يزيد بن هبيرة امام الحسن بن قحطبة وتحصنه بواسط وكان جويرة [1] وبعض أصحابه أشاروا عليه بعد الهزيمة باللحاق بالكوفة فأبى. وأشار عليه يحيي بن حصين [2] باللحاق بمروان وخوّفه عاقبة الحصار فأبى خشية على نفسه من مروان واعتصم بواسط. وبعث أبو مسلمة [3] الحسن بن قحطبة في العسكر لحصاره وعلى ميمنته ابنه داود [4] فانهزم أهل الشام واضطرّوا إلى دجلة وغرق منهم كثير. ثم تحاجزوا ودخل ابن هبيرة المدينة وخرج لقتالهم ثانية بعد سبعة أيام فانهزم كذلك، ومكثوا أياما لا يقتتلون إلا رميا. وبلغ ابن هبيرة أن أبا أمية الثعلبيّ [5] قد سوّد فحبسه فغضبت لذلك ربيعة ومعن بن زائدة وحبسوا ثلاثة نفر من فزارة رهنا في أبي أمية، واعتزل معن وعبد الله بن عبد الرحمن بن بشير العجليّ فيمن معهما فخلّى ابن هبيرة سبيل أبي أمية وصالحهم وعادوا إلى اتفاقهم. ثم قدم على الحسن بن قحطبة من ناحية سجستان أبو نصر مالك بن الهيثم فأوقد [6] غيلان بن عبد الله الخزاعي على السفّاح يخبره بقدوم أبي نصر، وكان غيلان واجدا على الحسن، فرغب من السفّاح أن يبعث عليهم رجلا من أهل بيته، فبعث أخاه أبا جعفر، وكتب إلى الحسن العسكر لك والقوّاد قوّادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرا فأحسن طاعته ومؤازرته. وقدم أبو جعفر فأنزله الحسن في خيمته وجعل على حرسه عثمان بن نهيك. ثم تقدّم مالك بن الهيثم لقتال أهل الشام وابن هبيرة فخرجوا لقتاله وأكمنوا معن بن زائدة وأبا يحيى الجرافي [7] ثم استطردوا لابن الهيثم وانهزموا للخنادق فخرج عليهم معن وأبو يحيى فقاتلوهم إلى الليل وتحاجزوا
__________
[1] حوثرة: ابن الأثير ج 5 ص 438.
[2] يحيي بن حضين: ابن الأثير ج 5 ص 438.
[3] ابو سلمة: ابن الأثير ج 5 ص 438.
[4] «وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود، فالتقوا وعلى ميمنة الحسن خازم بن خزيمة» ابن الأثير ج 5 438.
[5] ابا أمية التغلبي: المرجع السابق.
[6] اي الحسن بن قحطبة هو الّذي أوفد.
[7] ابا يحيي الجذامي: ابن الأثير ج 5 ص 440.(3/220)
وأقاموا بعد ذلك أياما. ثم خرج أهل واسط مع معن ومحمد بن نباتة، فهزمهم أصحاب الحسن إلى دجلة فتساقطوا فيها وجاء مالك بن الهيثم فوجد ابنه قتيلا في المعركة، فحمل على أهل واسط حتى أدخلهم المدينة. وكان مالك يملأ السفن حطبا ويضرمها نارا فتحرق ما تمرّ به فيأمر ابن هبيرة بأن تجر بالكلاليب، ومكثوا كذلك أحد عشر شهرا. وجاء إسماعيل بن عبد الله القسريّ إلى ابن هبيرة بقتل مروان وفشلت اليمانية عن القتال معهم، وتبعهم الفزاريّة فلم يقاتل معه إلا الصعاليك.
وبعث ابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى بأن يبايع له فأبطأ عنه جوابه، وكاتب السفّاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحرثيان، ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له جهة السفّاح ولم يفعلا وتردّد الشعراء بين أبي جعفر وابن هبيرة في الصلح، وأن يكتب له كتاب أمان على ما اختاره ابن هبيرة وشاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه وأنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه إلى السفّاح وأمر بإمضائه، وكان لا يقطع أمرا دون أبي مسلم، فكتب إليه يحي بن هبيرة قد خرج بعد الأمان إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة فلقيه الحاجب سلّام بن سليم فأنزله وأجلسه على وسادة وأطاف بحجرة أبي جعفر عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن لابن هبيرة فدخل على المنصور وحادثة وخرج عنه ومكث يأتيه يوما ويغبه يوما. ثم أغرى أبا جعفر أصحابه بأنه يأتي في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل فيهتز له العسكر فأمر أبو جعفر أن يأتي في حاشيته فقط. فكان يأتي في ثلاثين ثم آخرا في ثلاثة ثم الحّ السفّاح على أبي جعفر في قتله، وهو يراجعه للأمان الّذي كتب له حتى كتب إليه السفّاح والله لتقتلنه أو لأبعثنّ من يخرجه من حجرتك فيقتله.
فبعث أبو جعفر إلى وجوه القيسيّة والمضرية وقد أعدّ لهم ابن نهيك في مائة من الخراسانية في بعض حجره. وجاء القوم في اثنين وعشرين رجلا يقدمهم محمد بن نباتة وجويرة [1] بن سهيل فدعاهم سلّام الحاجب رجلين رجلين وعثمان بن نهيك يقيدهما إلى أن استكملهم وبعث أبو جعفر لحازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة في مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال فدلّهم حاجبه على الخزائن فأقاموا عندها الرجال وأقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم، فضربه الهيثم فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل في جماعة من مواليه ثم قتل ابن هبيرة آخرا وحملت رءوسهم
__________
[1] حوثرة بن سهيل: ابن الأثير ج 5 ص 441.(3/221)
إلى أبي جعفر. ونادى بالأمان للناس إلّا الحكم بن عبد الملك أبي بشر وخالد بن مسلمة المخزومي وعمر بن در [1] فهرب الحكم وأمن أبو جعفر خالدا فلم يجز السفّاح أمانه وقتله واستأمن زياد بن عبيد الله لابن در فأمنه.
مقتل أبي مسلمة بن الخلال وسليمان بن كثير
قد تقدّم لنا ما كان من أبي مسلمة الخلال في أمر أبي العباس السفّاح واتهام الشيعة في أمره وتغير السفّاح عليه وهو بعكوة أعين [2] ظاهر الكوفة. ثم تحوّل إلى مدينة الهاشمية ونزل قصرها وهو يتنكر لأبي مسلمة، وكتب إلى أبي مسلم ببغيته وبرأيه فيه، فكتب إليه أبو مسلم بقتله. وقال له داود بن عليّ لا تفعل فيحتج بها أبو مسلم عليك والذين معك أصحابه وهم له أطوع، ولكن أكتب إليه يبعث من يقتله ففعل. وبعث أبو مسلم مرار بن أنس الضّبيّ فقتله. فلما قدم نادى السفّاح بالرضا عن أبي مسلمة ودعا به وخلع عليه ثم دخل عنده ليلة أخرى فسهر عامّة ليله، ثم انصرف إلى منزله فاعترضه مرار بن أنس وأصحابه فقتلوه وقالوا قتله الخوارج. وصلى عليه من الغد يحيى أخو السفّاح وكان يسمّى وزير آل محمد وأبو مسلم أمير آل محمد. وبلغ الخبر إلى أبي مسلم، وسرّح سليمان بن كثيّر بالنكير لذلك فقتله أبو مسلم، وبعث على فارس محمد بن الأشعث وأمره أن يقتل ابن أبي مسلمة ففعل.
عمال السفاح
ولما استقام الأمر للسفّاح ولّى على الكوفة والسواد عمّه داود بن عليّ ثم عزله وولّاه على الحجاز واليمن واليمامة وولّى مكانه على الكوفة عيسى ابن أخيه موسى بن محمد. ثم توفي داود سنة ثلاث وثلاثين فولّى مكانه على الحجاز واليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله بن عبيد وعلى اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد [3]
__________
[1] عمر بن ذرّ: ابن الأثير ج 5 ص 442.
[2] العبارة هنا غير واضحة وفي الكامل ج 5 ص 436: «وتغيّر السفّاح عليه وهو بعسكره، بحمّام أعين.»
[3] بياضان بالأصل، وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 147: لا وفيها مات داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، وكانت ولايته فيما ذكر محمد بن عمر ثلاثة أشهر، واستخلف داود بن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى. ولمّا بلغت ابا العباس وفاته وجه على المدينة ومكة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثيّ، ووجه محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان على اليمن.»(3/222)
وولّى السفّاح على البصرة سفيان بن معاوية المهلّبيّ، ثم عزله وولى مكانه عمّه سليمان بن عليّ وأضاف إليه كور دجلة والبحرين وعمان. وولّى عمّه إسماعيل بن عليّ الأهواز وعمّه عبد الله بن عليّ على الشام، وأبا عون عبد الملك ابن يزيد على مصر، وأبا مسلم على خراسان، وبرمك على ديوان الخراج. وولى عمّه عيسى بن عليّ على فارس، فسبقه إليها محمد بن الأشعث من قبل أبي مسلم. فلما قدم عليه عيسى همّ محمد بقتله، وقال أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره. ثم أقصر عن قتله واستحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبرا ما عاش ولا يتقلد سيفا إلا في جهاد فوفّى عيسى بذلك بقية عمره. واستعمل بعده على فارس عمّه إسماعيل بن علي واستعمل على الموصل محمّد بن صول فطرده أهلها وقالوا: بل علينا تولّى خثعم، وكانوا منحرفين عن بني العبّاس، فاستعمل السفّاح عليهم أخاه يحيى وبعثه في اثني عشر ألفا، فنزل قصر الإمارة وقتل منهم اثني عشر رجلا، فثاروا به وحمل السلاح فنودي فيهم بالأمان لمن دخل المسجد الجامع فتسايل الناس إليه، وقد أقام الرجال على أبوابه فقتلوا كل من دخل. يقال: قتل أحد عشر ألفا ممن لبس وما لا يحصى من غيرهم. وسمع صياح النساء بالليل فأمر من الغد بقتل النساء والصبيان، واستباحهم ثلاثة أيام. وكان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعانوا في النساء. وركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته وقالت له: ألست من بني هاشم؟ ألست ابن عمّ الرسول؟ أما تعلم أنّ المؤمنات المسلمات ينكحهنّ الزنوج؟ فأمسك عنها وجمع الزنج من الغد للعطاء، وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وبلغ السفّاح سوء أمره في أهل الموصل فعزله، وولّى مكانه إسماعيل بن عليّ، وولّى يحيى مكان إسماعيل بالأهواز وفارس. وملك الروم ملطية وقاليقلا. وفي سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم فحصر ملطية والفتن يومئذ بالجزيرة، وعاملها يومئذ موسى بن كعب بن أسان. فلم يزل حاصرهم حتى نزلوا على الأمان وانتقلوا إلى بلاد الجزيرة، وحملوا ما قدروا عليه. وخرّب الروم ملطية وسار عنها إلى مرج الحصى [1] ، وأرسل قسطنطين العساكر إلى قاليقلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمنيّ فحصرها وداخل بعض الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور فاقتحم البلد من ذلك النقب واستباحها.
__________
[1] مرج الخصبي: ابن الأثير ج 5 ص 447.(3/223)
الثوّار بالنواحى
[1] كان المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة قد ولّاه أبو عليّ اليمامة، فلما قتل يزيد أبوه امتنع هو باليمامة فبعث إليه زياد بن عبيد المدن [2] بالعساكر من المدينة مع إبراهيم بن حبّان [3] السلميّ فقتله وقتل أصحابه وذلك سنة ثلاث وثلاثين (وفيها) خرج شريك بن شيخ اسحارا على أبي مسلم ونقض أفعاله واجتمع إليه أكثر من ثلاثين ألفا فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعيّ فقاتله وقتله. (وفيها) توجه أبو داود وخالد بن إبراهيم إلى الختّل فتحصن ملكهم ابن السبيل [4] منهما ومنعه الدهاقين فحاصره أبو داود حتى جهد الحصار فخرج من حصنه مع الدهاقين ولحق بفرغانة ثم سار منها إلى بلد الصين وأخذ أبو داود من ظفر به في الحصن فبعث بهم إلى أبي مسلم (وفيها) الفتنة بين إخشيد فرغانة وملك الشاش، واستمدّ الإخشيد ملك الصين فأمدّه بمائة ألف مقاتل وحصروا ملك الشاش حتى نزلوا على حكم ملك الصين، فلم يعرض له ولا لقومه بسوء. وبعث أبو مسلم زياد بن صالح لاعتراضهم فلقيهم على نهر الطراز فظفر بهم وقتل منهم نحوا من خمسين ألفا وأسر نحوا من عشرين ألفا ولحق بهم بالصين، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين. ثم انتقض بسّام بن إبراهيم ابن بسّام من فرسان أهل خراسان وسار من عسكر السفّاح وجماعة على رأيه سرّا إلى المدائن، فبعث السفّاح في أثرهم خازم بن خزيمة فقاتلهم وقتل أكثرهم واستباحهم، وبلغ ماه. وانصرف، فمرّ بذات المطامير، وبها أخوال السفّاح من بني عبد المدان في نحو سبعين من قرابتهم ومواليهم. وقيل له إنّ المغيرة من أصحاب بسّام عندهم فسألهم عنه فقالوا مرّ بنا مجتازا فهدّدهم إن لا يأخذه فأغلظوا له في القول فقتلهم أجمعين، ونهب أموالهم وهدم دورهم، وغضبت اليمانية لذلك ودخل بهم زياد بن عبيد الله الحرثي على السفّاح وشكوا إليه ما فعل بهم فهمّ بقتله وبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة فدخلا على السفّاح وذكراه سابقة الشيعة وطاعتهم وأنهم آثروكم على الأقارب والأولاد وقتلوا من خالفكم، فإن كان لا بدّ من
__________
[1] المراد بالثوار الخارجون عن الطاعة المحاربون للخليفة «من خط الشيخ العطار أهـ.»
[2] زياد بن عبد الله بن عبد المدان: ابن الأثير ج 5 ص 448.
[3] إبراهيم بن حسّان: المرجع السابق.
[4] ابن الشّبل. الكامل في التاريخ لابن الأثير.(3/224)
قتله فابعثه لوجه من الوجوه، فإن قتل فهو الّذي تريد وإن ظفر فلك، بعثه إلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان من عمان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فبعث معه سبعمائة رجل فحملهم سليمان بن عليّ من البصرة في السفن وقد انضمّ إليه من أهله وعشيرته ومواليه وعدّة من بني تميم من البصرة، فلما أرسوا بجزيرة ابن كاوان قدّم خازم فضلة بن نعيم المنشلي [1] في خمسمائة إلى شيبان فانهزم هو وأصحابه وكانوا صفريّة، وركبوا إلى عمان فقاتلهم الجلندي في الإباضيّة، فقتل شيبان ومن معه كما مرّ، وشيبان هذا غير شيبان بن سلمة الّذي قتل بخراسان فربما يشتبهان. ثم ركب خازم البحر إلى ساحل عمان فنزل وقاتل الجلندي أياما أمر خازم أصحابه في آخرها أن يجعلوا على أطراف أسنّتهم المشاقة ويدوّروها [2] بالنفط ويشعلوها بالنيران ويرموها في بيوت القوم، وكانت من خشب فلما اضطرمت فيها النار شغلوا بأهليهم وأولادهم عن القتل، فحمل عليهم خازم وأصحابه فاستلحموهم وقتل الجلندي وعشرة آلاف، فبعث خازم برءوسهم إلى البصرة فبعثها سليمان إلى السفّاح فندم أهـ، ثم غزا خالد بن إبراهيم أهل كشّ فقتل الاخريد [3] ملكها وهو مطيع واستباحهم وأخذ من الأواني الصينية المنقوشة المذهّبة، ومن الديباج والسروج ومتاع الصين وظرفه ما لم ير مثله، وحمله إلى أبي مسلم بسمرقند. وقتل عدّة من دهاقين كشّ وملك طازان [4] أخا الأخريد على كش، ورجع أبو مسلم إلى مرو بعد أن فتك في الصغد وبخارى وأمر ببناء سور سمرقند. واستخلف زياد بن صالح على بخارى وسمرقند ورجع أبو داود إلى بلخ. ثم بلغ السفّاح انتقاض منصور ابن جمهور بالسّند فبعث صاحب شرطته موسى بن كعب واستخلف مكانه على الشرطة المسيّب بن زهير. وسار موسى لقتال ابن جمهور فلقيه بتخوم الهند وهو في نحو اثني عشر ألفا فانهزم ومات عطشا في الرمال ورحل عامله على السّند بعياله وثقلته فدخل بهم بلاد الخزر. ثم انتقض سنة خمس وثلاثين زياد بن صالح وراء النهر. فسار أبو مسلم إليه من مرو وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى
__________
[1] فضلة بن نعيم النّهشليّ: ابن الأثير ج 5 452.
[2] ويرووها بالنفط: ابن الأثير ج 5 ص 452.
[3] وفي نسخة ثانية الإخشيد.
[4] طاران: ابن الأثير ج 5 ص 453.(3/225)
ترمذ ليمنعها من زياد فلما وصل إليها خرج عليه ناس من الطّالقان فقتلوه فبعث مكانه عيسى بن ماهان فسمع قتلة نصر فقتلهم. وسار أبو مسلم فانتهى إلى آمد ومعه سباع ابن النعمان الأزديّ وكان السفّاح قد دسّ معه إلى زياد بن صالح الأزدي أن ينتهز فرصة في أبي مسلم فيقتله. ونمي الخبر إلى أبي مسلم فحبس سباعا بآمد، وسار عنها وأمر عامله بقتله. ولقيه قوّاد زياد في طريقه وقد خلعوا زيادا فدخل أبو مسلم بخارى ونجا زياد إلى دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلى أبي مسلم. وكتب أبو مسلم إلى أبي داود فقتله، وكان قد شغل بأهل الطّالقان فرجع إلى كشّ وبعث عيسى بن ماهان إلى بسّام فلم يظفر منها بشيء، وبعث إلى بعض أصحاب أبي مسلم يعيب أبا داود عيسى، فضربه وحبسه، ثم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه ورجع أبو مسلم إلى مرو.
حج أبي جعفر وأبي مسلم
وفي سنة ست وثلاثين استأذن أبو مسلم السفّاح في القدوم عليه للحج، وكان منذ ولي خراسان لم يفارقها فأذن له في القدوم مع خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم إني قد عاديت الناس ولست أمن على نفسي فاذن له في ألف، وقال: إنّ طريق مكة لا تحتمل العسكر فسار في ثمانية آلاف فرّقهم ما بين نيسابور والريّ، وخلّف أمواله وخزائنه بالريّ وقدم في ألف وخرج القواد بأمر السفّاح لتلقيه، فدخل على السفّاح وأكرمه وأعظمه واستأذن في الحج فأذن له، قال: لولا أنّ أبا جعفر يريد الحج لاستعملتك على الموسم، فأنزله بقرية وكان قد كتب إلى أبي جعفر أنّ أبا مسلم استأذنني في الحج وأذنت له وهو يريد ولاية الموسم، فاسألني أنت في الحج، فلا تطمع أن يتقدّمك، وأذن له فقدم الأنبار وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدا من حيث بعث السفّاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ البيعة له ولابي جعفر من بعده ويولي أبا مسلم على خراسان فاستخلى [1] أبو مسلم بأبي جعفر. فلما قدم ألان أبو جعفر السفّاح بقتله وأذن له فيه ثم ندم وكفه عن ذلك، وسار أبو جعفر إلى الحج ومعه أبو مسلم واستعمل على حرّان مقاتل بن حكيم العكيّ.
__________
[1] فاستخفّ ابو مسلم بابي جعفر: ابن الأثير ج 5 ص 458.(3/226)
موت السفاح وبيعة المنصور
كان أبو العبّاس السفّاح قد تحوّل من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين فأقام بها سنتين ثم توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين لثلاث عشرة ليلة خلت منه ولأربع سنين وثمانين أشهر من لدن بويع وصلى عليه عمّه عيسى ودفن بالأنبار. وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة وكان قبل موته قد عهد بالخلافة لأخيه أبي جعفر ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى، وجعل العهد في ثوب وختمه بخواتيمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى، ولما توفي السفّاح وكان أبو جعفر بمكّة فأخذ البيعة على الناس عيسى بن موسى، وكتب إليه بالخبر فجزع واستدعى أبا مسلم وكان متأخرا عنه فاقرأه الكتاب فبكى واسترجع، وسكن أبا جعفر عن الجزع فقال: أخاف شرّ عبد الله بن عليّ. فقال أنا أكفيكه وعامة جنده أهل خراسان وهم أطوع لي منه فسرّي عنه. وبايع له أبو مسلم والناس وأقبلا حتى قدما الكوفة. ويقال إنّ أبا مسلم كان متقدما على أبي جعفر، فإنّ الخبر قد أتاه قبله فكتب أبو مسلم إليه يعزّيه ويهنّيه بالخلافة، وبعد يومين كتب له ببيعته وقدم أبو جعفر الكوفة سنة سبع وثلاثين وسار منها إلى الأنبار فسلّم إليه عيسى بيوت الأموال والدواوين واستقام أمر أبي جعفر.
انتقاض عبد الله بن علي وهزيمته
كان عبد الله بن عليّ قدم على السفّاح قبل موته فبعثه إلى الصائفة في جنود أهل الشام وخراسان فانتهى إلى دلوك ولم يدر حتى جاءه كتاب عيسى بن موسى بوفاة السفّاح وأخذ البيعة لأبي جعفر وله من بعده كما عهد به السفّاح، فجمع عبد الله الناس وقرأ عليهم الكتاب وأعلمهم أنّ السفّاح حين أراد أن يبعث الجنود إلى حرّان تكاسل بنو أبيه عنها فقال لهم: من انتدب منكم فهو وليّ عهدي فلم يندب غيري! وشهد له أبو غانم الطائي وخفاف المروزيّ وغيرهما من القوّاد وبايعوه، وفيهم حميد بن حكيم بن قحطبة وغيره من خراسان والشام والجزيرة. ثم سار عبد الله حتى نزل حرّان وحاصر مقاتل بن حكيم العكّيّ أربعين يوما وخشي من أهل خراسان فقتل منهم جماعة، وولى حميد بن قحطبة على حلب وكتب معه إلى عاملها زفر بن عاصم بقتله فقرأ الكتاب في طريقه وسار إلى العراق وجاء أبو جعفر من الحج(3/227)
فبعث أبا مسلم لقتال عبد الله ولحقه حميد بن قحطبة نازعا عن عبد الله فسار معه وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي. ولما بلغ عبد الله خبر إقباله وهو على حرّان بذل الأمان لمقاتل بن حكيم ومن معه وملك حرّان. ثم بعث مقاتلا بكتابة إلى عثمان بن عبد الأعلى، فلما قرأ الكتاب قتله وحبس ابنيه حتى إذا هزم عبد الله قتلهما.
وأمر المنصور محمد بن صول وهو على أذربيجان أن يأتي عبد الله بن علي ليمكر به، فجاء وقال: إني سمعت السفّاح يقول الخليفة بعدي عمّي عبد الله فشعر بمكيدته وقتله. وهو جدّ إبراهيم بن العبّاس الصولي الكاتب. ثم أقبل عبد الله بن عليّ حتى نزل نصيبين وخندق عليه وقدم أبو مسلم فيمن معه. وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة عامله على أرمينية بأن يوافي أبا مسلم، فقدم عليه بالموصل، وسار معه ونزل أبو مسلم ناحية نصيبين وكتب إلى عبد الله: إني قد وليت الشام ولم أومر بقتالك فقال أهل الشام لعبد الله: سر بنا إلى الشام لنمنع نساءنا وأبناءنا. فقال لهم عبد الله ما يريد إلّا قتالنا وإنما قصد المكر بنا، فأبوا إلا الشام. فارتحل بهم إلى الشام ونزل أبو مسلم في موضع معسكره وغوّر ما حوله من المياه فوقف أصحاب عبد الله بكّار بن مسلم العقيليّ وعلى ميسرته حبيب بن سويد الاسدي وعلى الخيل عبد الصمد بن عليّ أخو عبد الله وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة وعلى ميسرته خازم بن خزيمة، فاقتتلوا شهرا. ثم حمل أصحاب عبد الله على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم وحمل عبد الصمد فقتل منهم ثمانية عشر رجلا. ثم حمل عليهم ثانية فأزالوا صفهم. ثم نادى منادي أبي مسلم في أهل خراسان فتراجعوا وكان يجلس إذا لقي الناس على عريش ينظر منه إلى الحومة فإن رأى خللا أرسل بسدّه فلا تزال رسله تختلف بينه وبين الناس حتى ينصرفوا. فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين اقتتلوا وأمر أبو مسلم الحسن بن قحطبة أن يضمّ إلى الميسرة وينزل في الميمنة حماة أصحابه، فانضمّ أهل الشام من الميسرة إلى الميمنة كما أمرهم. وأمر أبو مسلم أهل القلب فحطموهم [1] وركبهم أصحاب أبي مسلم
__________
[1] الحادثة هنا غير واضحة وعن ابن الأثير ج 5 ص 467: «فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا، فمكر بهم ابو مسلم، وأمر الحسن بن قحطبة ان يعرّي الميمنة ويضمّ أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة جماعة أصحابه وأشدّائهم، فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم، وأمر أبو مسلم أهل القلب ان يحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام فحطّموهم، وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم، فانهزم أصحاب عبد الله ... »(3/228)
فانهزم أصحاب عبد الله فقال لابن سراقة ما ترى؟ قال: الصبر إلى أن تموت فالغرار فيكم بمثلك قبيح. قال: بل آتي العراق فأنا معك فانهزموا وحوى أبو مسلم عسكرهم. وكتب بذلك إلى المنصور ومضى عبد الله وعبد الصّمد. فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى، وأمّنه المنصور وقيل بل أقام بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مروان العجليّ في خيول أرسلها المنصور، فبعث به موثقا مع أبي الخطيب، فأطلقه المنصور. وأمّا عبد الله فقدم البصرة وأقام عند أخيه سليمان متواريا حتى طلبه وأشخص إليه. ثم إنّ أبا مسلم أمّن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكفّ عنهم.
ذكر قتل أبي مسلم الخراساني
كان أبو مسلم لما حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه ويتقدّم بالإحسان للوفود وإصلاح الطريق والمياه، وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه ولما صدروا عن الموسم تقدّم أبو مسلم ولقيه الخبر بوفاة السفاح فبعث إلى أبى جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة ولا رجع اليه ولا أقام ينتظره فغضب أبو جعفر وكتب اليه وأغلظ في العتاب فكتب يهنّئه بالخلافة ويقدم إلى [1] فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأبى وقدم أبو جعفر، وقد خلع عبيد الله بن عليّ، فسرّح أبا مسلم لقتاله فهزمه كما مرّ، وجمع الغنائم من عسكره. فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها، فغضب أبو مسلم وقال: أنا أعين على الدعاء فكيف أخون الأموال؟ وهمّ
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 468 وتحت عنوان قتل أبي مسلم الخراساني: «وفي هذه السنة- 137- قتل ابو مسلم الخراساني، قتله المنصور، وكان سبب ذلك ان ابا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج، على ما تقدّم، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وآذربيجان: إن ابا مسلم كتب الي يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد ان يسألني ان اوليّة الموسم، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك، فانّك إن كنت بمكة لم يطمع ان يتقدمك. فكتب المنصور الى أخيه السفاح يستأذنه في الحجّ، فأذن له، فقدم الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟ وحقدها عليه، وحجّا معا، فكان أبو مسلم يكسوا الأعراب ويصلح الآبار، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه. فلما قدم مكّة ورأى أهل اليمن قال: اي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة!. فلما صدر الناس عن الموسم تقدّم ابو مسلم في الطريق على أبي جعفر خبر وفاة السفّاح، فكتب إلى أبي جعفر يعزّيه عن أخيه ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع. فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتابا غليظا. فلمّا أتاه الكتاب كتب إليه يهنّئه بالخلافة وتقدّم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى بن موسى إلى ان يبايع له ... »(3/229)
بقتل الخصيب ثم خلّى عنه. وخشي المنصور أن يمضي إلى خراسان فكتب إليه بولاية مصر والشام فازداد نفارا، وخرج من الجزيرة يريد خراسان وسار المنصور إلى المدائن، وكتب إليه يستقدمه، فأجابه بالامتناع والمسك بالطاعة عن بعد، والتهديد بالخلع إن طلب منه سوى ذلك. فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط وأنه لا يحسن طاعة. وبعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه ويسليه. وقيل بل كتب إليه أبو مسلم يعرّض له بالخلع وأنه قد تاب إلى الله مما جناه من القيام بدعوتهم، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان وأمر المنصور عمّه عيسى ومشيخة بني هاشم بالكتاب على أبي مسلم يحرّضونه على التمسّك بالطاعة ويحذّرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالمراجعة. وبعث الكتب مع مولاه أبي حميد المروروذي، وأمره بملاينته والخضوع له بالقول حتى ييأس منه، فإذا يئس يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلى غيري ولو خضت البحر لخضته وراءك ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت. فأوصل أبو حميد الكتب وتلطّف له في القول ما شاء واحتجّ عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم، فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلى هذا القول وقال والله لئن أتيته ليقتلنك. ثم بعث إلى نيزك صاحب الريّ يستشيره فأبى له من ذلك، وأشار عليه بنزول الريّ وخراسان من ورائه فيكون أمكن لسلطانه. فأجاب أبا حميد بالامتناع فلما يئس منه أبلغه مقالة المنصور فوجم طويلا ورعب من ذلك القول وأكبره. وكان المنصور قد كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرغّبه في الانحراف عنه بولاية خراسان فأجاب سرّا وكتب إلى أبي مسلم يحذّره الخلاف والمعصية فزاده ذلك رعبا وقال لأبي حميد قبل انصرافه: قد كنت عزمت على المضيّ إلى خراسان ثم رأيت أنّ أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين يأتيني برايته فإنّي أثق به. ولما قدم أبو إسحاق تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يجب وداخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهة خراسان ووعده بولايتها، فرجع إليه وأشار عليه بلقاء المنصور، فاعتزم على ذلك واستخلف مالك بن الهيثم على عسكره بحلوان، وسار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك فدعا بعض إخوانه وأشار عليه بأن يأتي أبا مسلم ويتوسل به إلى المنصور في ولاية كسكر ليعيب فيها مالا عظيما. وأن يشكر أخاه في ذلك، فإنّ أمير المؤمنين عازم أن يولّيه ما ورى به ويريح نفسه. واستأذن له المنصور في لقاء أبي مسلم فأذن(3/230)
له، فلقي أبا مسلم وتوسل إليه وأخبره الخبر فطابت نفسه وذهب عنه الحزن. ولما قرب أمر الناس بتلقيه ثم دخل على المنصور فقبّل يده وانصرف ليريح ليلته، ودعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس منهم شبيب بن رواح وابن حنيفة حرب بن قيس، وأجلسهم خلف الرواق، وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفّق بيديه. واستدعى أبا مسلم، فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمّه عبد الله بن عليّ وكان متقلدا بأحدهما فقال: هذا أحدهما! فقال: أرني فانتضاه أبو مسلم وناوله إياه فأخذ يقلبه بيده ويهزّه. ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل يعاتبه فقال: كتبت إلى السفّاح تنهاه عن الموت كأنك تعلمه: قال: ظننت أنه لا يحلّ، ثم اقتديت بكتاب السفّاح وعلمت أنكم معدن العلم. قال فتوركك عني بطريق مكة! قال كرهت مزاحمتك على الماء قال فامتناعك من الرجوع إليّ حين بلغك موت السفّاح أو الإقامة حتى ألحقك! قال: طلبت الرّفق بالناس والمبادرة إلى الكوفة! قال: فجارية عبد الله بن عليّ أردت أن تتخذها لنفسك! قال: لا إنما وكانت بها من يحفظها.
قال: فمراغمتك ومسيرك إلى خراسان قال: خشيت منك فقلت آتي خراساني وأكتب بعذري فأذهب ما في نفسك مني! قال فالمال الّذي جمعته بحرّان! قال أنفقته في الجند تقوية لكم. قال ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك وتخطب آسية بنت عليّ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عبّاس؟ لقد ارتقيت لا أمّ لك مرتقى صعبا. ثم قال له: وما الّذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثيّر مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا من قبل أن ندخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلافة فقتلته. ثم قال أبو مسلم: كيف يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة لو كانت أمة مكانك لأغنت إنما ذلك بدولتنا وربحنا. وأكبّ أبو مسلم يقبل يده ويعتذر فازداد المنصور غضبا. ثم قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت لا أخاف إلا الله فشتمه المنصور وصفّق بيديه فخرج الحرس وضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه فقال: استبقني لعدوّك فقال: لا أبقاني الله إذا وأي عدوّ أعدى منك وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه، بذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين.
وخرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس، وقال: الأمير قائل عند أمير المؤمنين فانصرفوا وأمر لهم بالجوائز وأعطى إسحاق مائة ألف ودخل عيسى بن موسى على المنصور فسأل عنه وأخذ في الثناء على طاعته وبلائه وذكر رأي الإمام إبراهيم فيه.(3/231)
فقال المنصور: والله ما أعلم على وجه الأرض عدوّا أعدى لكم منه هو ذا في البساط فاسترجع عيسى، فأنكر عليه المنصور وقال: وهل كان لكم ملك معه؟ ثم دعا جعفر بن حنظلة واستشاره في أمر أبي مسلم فأشار بقتله فقال له المنصور وفقك الله ثم نظر إليه قتيلا فقال له يا أمير المؤمنين عدّ خلافتك من هذا اليوم. ثم دعا أبا إسحاق عن متابعة أبي مسلم وقال تكلّم بما أردت وأخرجه قتيلا فسجد أبو إسحاق ثم رفع رأسه يقول الحمد للَّه أميت هو والله ما جئته قطّ إلا تكفّنت وتحنّطت ورفع ثيابه وأراه كفنه وحنوطه فرحمه. وقال له استقبل طاعتك واحمد الله الّذي أراحك. وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر بن الهيثم على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله، وقد كان أبو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب بخاتمي تامّا فاعلم أني لم أكتبه، فلما رآه كذلك فطن وانحدر إلى همذان يريد خراسان، فكتب له المنصور بولاية شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي بهمذان يحبسه فمرّ أبو نصر بهمذان وخادعه زهير ودعاه إلى طعامه وحبسه وجاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر فأطلقه زهير ثم جاءه بعد ذلك الكتاب بقتله فقال: جاءني كتاب عهده فخلّيت سبيله. وقدم أبو نصر على المنصور فعذله في إشارته على أبي مسلم بخراسان فقال: نعم استنصحني فنصحت له وان استنصحني أمير المؤمنين نصحت وشكرت، واستعمله على الموصل. وخطب أبو جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم وانسهم وافترق أصحابه وخرج منهم بخراسان رجل اسمه سنباد ويسمّى فيروز أصبهبذ وتبعه أكثر الجيال يطلبون بدم أبي مسلم وغلب على نيسابور والريّ وأخذ خزائن أبي مسلم التي خلفها بالريّ حين شخص إلى السفّاح وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يعرض إلى التجّار وكان يظهر أنه قاصد إلى الكعبة يهدمها فسرّح إليه المنصور جمهور بن مرّار العجليّ والتقوا على طرق المفازة بين همذان والريّ، فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم ولحق سنباد بطبرستان فقتله بعض عمّال صاحبها وأخذ ما معه وكتب إلى المنصور بذلك فكتب إليه المنصور في الأموال فأنكر فسرّح إليه الجنود فهرب إلى الديلم ثم إنّ جمهور بن مرّار لما حوى ما في عسكر سنباد ولم يبعث به خاف من المنصور فخلع واعتصم بالريّ فسرّح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش، فخرج من الريّ إلى أصبهان فملكها وملك محمد الريّ. ثم اقتتلوا وانهزم جمهور فلحق بأذربيجان، وقتله بعض أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور، وذلك سنة ثمان وثلاثين
.(3/232)
حبس عبد الله بن علي
كان عبد الله بن علي بعد هزيمته أمام أبي مسلم لحق بالبصرة، ونزل على أخيه سليمان.
ثم إنّ المنصور عزل سليمان سنة تسع وثلاثين فاختفى عبد الله وأصحابه، فكتب المنصور إلى سليمان وأخيه عيسى بأمان عبد الله وقوّاده ومواليه وإشخاصهم إلى المنصور منهما فشخصوا. ولما قدما عليه فأذن لهما فأعلماه بحضور عبد الله واستأذناه له فشغلهما بالحديث وأمر بحبسه في مكان قد هيئ له في القصر، فلما خرج سليمان وعيسى لم يجدا عبد الله فعلما أنه قد حبس وأن ذمّتهما قد أخفرت، فرجعا إلى المنصور فحبسا عنه وتوزع أصحاب عبد الله بين الحبس والقتل، وبعث ببعضهم إلى أبي داود خالد ابن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها. ولم يزل عبد الله محبوسا حتى عهد المنصور إلى المهدي سنة تسع وأربعين وأمر موسى بن عيسى فجعله بعد المهدي ودفع إليه عبد الله، وأمره بقتله، وخرج حاجا وسارّ عيسى كاتبه يونس بن فروة في قتل عبد الله بن علي فقال:
لا تفعل فإنه يقتلك به، وإن طلبه منك فلا تردّه إليه سرّا فلما قفل المنصور من الحج دسّ على أعمامه من يحرّضهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله فشفعهم، وقال لعيسى جئنا به فقال: قتلته كما أمرتني فأنكر المنصور وقال خذوه بأخيكم فخرجوا به ليقتلوه حتى اجتمع الناس واشتهر الأمر فجاء به وقال: هو ذا حي سويّ، فجعله المنصور في بيت أساسه ملح وأجرى عليه الماء فسقط ومات.
وقعة الراوندية
كان هؤلاء القوم من أهل خراسان ومن أتباع أبي مسلم يقولون بالتناسخ والحلول، وأن روح آدم في عثمان بن نهيك وأنّ الله حلّ في المنصور وجبريل في الهيثم بن معاوية. فحبس المنصور نحوا من مائتين منهم فغضب الباقون واجتمعوا وحملوا بينهم نعشا كأنهم في جنازة وجاءوا إلى السجن فرموا بالنعش وأخرجوا أصحابهم وحملوا على الناس في ستمائة رجل وقصدوا قصر المنصور وخرج المنصور من القصر ماشيا وجاء معن بن زائدة الشيبانيّ وكان مستخفيا من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة وقد اشتدّ طلب المنصور له فحضر عنده هذا اليوم متلثّما وترجّل وأبلى. ثم جاء إلى المنصور ولجام بغلته في يد الربيع حاجبه وقال: تنح ذا أنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت(3/233)
وأعظم فنازل وقاتل حتى ظفر بالراوندية. ثم سأله فانتسب فأمّنه واصطنعه. وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم ووقف على باب المنصور وقال أنا اليوم بوّاب. ثم قاتلهم أهل السوق وفتح باب المدينة ودخل الناس وحمل عليهم خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة حتى قتلوهم عن آخرهم. وأصاب عثمان بن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام وجعل على الحبس بعده أخاه عيسى ثم بعده أبا العبّاس الطوسي وذلك كله بالهاشمية. ثم أحضر معنا ورفع منزلته وأثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمّه عيسى، فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلى الحومة وجلا حتى رأيت شدّتك فحملني ذلك على ما رأيت مني. وقيل إنه كان مختفيا عند أبي الخصيب حاجب المنصور وأنه جاء يوم الراوندية فاستأذن أبو الخصيب وشاوره المنصور في أمرهم فأشار ببث المال في الناس، وأبى المنصور إلا الركوب إليهم بنفسه فخرج بين يديه وأبلى حتى قتلوا. ثم تغيّب فاستدناه وأمّنه وولّاه على اليمن.
انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها
كان السفّاح قد ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الدّهليّ بعد انتقاض بسّام ابن إبراهيم ومهلكه. فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند وهو بكشماهن وجاءوا إلى منزله فأشرف عليهم ليلا من السطح فزلت قدمه فسقط ومات ليومه. وكان عصام صاحب شرطته فقام بالأمر بعده. ثم ولّى المنصور على خراسان عبد الجبّار بن عبد الرحمن فقدم عليها وحبس جماعة من القوّاد اتهمهم بالدعاء للعلويّة، منهم مجاشع ابن حريث الأنصاري عامل بخارى وأبو المعرة خالد بن كثيّر مولى بني تميم عامل قهستان والحريش بن محمد الذهليّ ابن عم أبي داود في آخرين. ثم قتل هؤلاء وألحّ على عمال أبي داود في استخراج المال وانتهت الشكوى إلى المنصور بذلك فقال لأبي أيوب: إنما يريد بفناء شيعتنا الخلع، فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت واستمكن منه. فكتب إليه بذلك فأجاب بأنّ الترك قد جاشت وإن فرّقت الجنود خشيت على خراسان فقال له أبو أيوب: اكتب إليه بأنك ممدّه بالجيوش وابعث معها من شئت يستمكن منه، فأجاب عبد الجبّار بأنّ خراسان مغلّبة في عامها ولا تحتمل زيادة العسكر فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله فبعث ابنه المهدي فسار ونزل الريّ وقدم خازم بن خزيمة(3/234)
لحرب عبد الجبّار فقاتلوه، فانهزم وجاء إلى مقطنة [1] وتوارى فيها. فعبر إليه المحشد [2] بن مزاحم من أهل مروالرّوذ وجاء به إلى خازم فحمله على بعير وعليه جبّة صوف، ووجهه إلى عجز البعير وحمله إلى المنصور في ولده وأصحابه فبسط إليهم العذاب حتى استخرج الأموال ثم قطع يديه ورجليه وقتله وذلك سنة اثنتين وأربعين وبعث بولده إلى دهلك [3] فعزلهم بها وأقام المهدي بخراسان حتى رجع إلى العراق سنة تسع وأربعين. [4] وفي سنة اثنتين وأربعين انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسّند، وكان عاملا عليها من بعد أبيه، وكان أبوه يستخلف المسيّب بن زهير على الشرط فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يولّيه على الشرط، فحذّره المنصور وحرّضه على الخلاف فخلع الطاعة وسار المنصور إلى البصرة وسرّح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكيّ لحرب عيينة وولاه على السند والهند فورد السند وغلب عليها. وفي هذه السنة انتقض الأصبهبد بطبرستان وقتل من كان في أرضه من المسلمين فبعث المنصور مولاه أبا الخطيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم في العساكر فحاصروه في حصنه مدّة ثم تحيّلوا ففتح لهم الحصن من داخله وقتلوا المقاتلة وسبى الذرية وكان مع الأصبهبد سم فشربه فمات.
أمر بني العباس
بنو هاشم [5] حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه وتشاوروا فيمن يعقدون
__________
[1] مقطنة: ابن الأثير ج 5 ص 506.
[2] المجشّر: ابن الأثير ج 5 ص 506.
[3] دهلك: جزيرة باليمن.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 506: «وامر بتسيير ولده إلى دهلك- وهي جزيرة باليمن- فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم فيمن سبوا» .
[5] ربما يكون قد سقطت بعض الجمل أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 513 وتحت عنوان «ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة وامر محمد بن عبد الله بن الحسن» وفيها (144) استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها. وكان سبب عزله وعزل زياد قبله ان المنصور أهمّه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حجّ أيام السفاح سنة ست وثلاثين، وذكر ان محمد بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد.»(3/235)
له الخلافة فاتفقوا على محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى بن عليّ. وكان يقال:
إنّ المنصور ممن بايعه تلك الليلة. ولما حج أيام أخيه السفّاح سنة ست وثلاثين تغيب عنه محمد وأخوه إبراهيم، ولم يحضرا عنده مع بني هاشم. وسأل عنهما فقال له زياد ابن عبيد الله الحرثى أنا آتيك بهما وكان بمكة فردّه المنصور إلى المدينة. ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سرّا، فكلهم يقول:
إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر فخافك على نفسه، ويحسن العذر عنه إلا الحسن ابن زيد بن الحسن بن عليّ. فإنه قال له: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه لا ينام عنك، فكان موسى بن عبد الله بن حسن يقول بعد هذا: اللَّهمّ اطلب الحسن بن زيد بدمائنا. ثم إنّ المنصور حج سنة [1] وألحّ على عبد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد فاستشار عبد الله سليمان بن علي في إحضاره فقال له: لو كان عافيا عفى عن عمّه! فاستمرّ عبد الله على الكتمان وبث المنصور العيون بين الأعراب في طلبه بسائر بوادي الحجاز ومياهها ثم كتب كتابا على لسان الشيعة إلى محمد بالطاعة والمسارعة وبعثه مع بعض عيونه إلى عبد الله وبعث معه بالمال والإلطاف كأنه من عندهم. وكان للمنصور كاتب على سرّه يتشيع، فكتب إلى عبد الله بن حسن بالخبر وكان محمد بجهينة، وألحّ عليه صاحب الكتاب أمر محمد ليدفع إليه كتاب الشيعة فقال له: اذهب إلى عليّ بن الحسن المدعو بالأغرّ يوصلك إليه في جبل جهينة فذهب وأوصله إليه. ثم جاءهم حقيقة خبره من كاتب المنصور وبعثوا أبا هبّار إلى محمد وعليّ بن حسن يحذرهما الرجل، فجاء أبو هبّار إلى عليّ بن حسن وأخبره ثم سار إلى محمد فوجد العين عنده جالسا مع أصحابه فخلا به وأخبره، فقال: وما الرأي؟ قال: تقتله. قال: لا أقارف دم مسلم. قال: تقيّده وتحمله معك. قال: لا آمن عليه لكثرة الخوف والإعجال. قال: فودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال: هذه إذن. ورجع فلم يجد الرجل ولحق بالمدينة. ثم قدم على المنصور وأخبره الخبر وسمّى اسم أبي هبّار وكنيته، وقال: معه وبر فطلب أبو جعفر وبرا المرّيّ فسأله عن أمر محمد فأنكره وحلف فضربه وحبسه. ثم دعا عقبة بن سالم الأزدي وبعثه منكرا بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان إلى
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 500: «وفيها حجّ المنصور ... » اما الطبري فقد ذكر حج المنصور في حوادث سنة أربع وأربعين ومائة. «ج 9 ص 180» .(3/236)
عبد الله بن حسن ليظهر على أمره، فجاءه بالكتاب فانتهره وقال لا أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل يتردّد إليه حتى قبله وأنس به وسأله عقبة الجواب فقال: لا أكتب لأحد ولكن أقرئهم مني سلاما وأعلمهم أنّ ابنيّ خارجان لوقت كذا. فرجع عقبة إلى المنصور فأنشأ الحج، فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلى جنبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه. ثم قال لعبد الله بن حسن قد أعطيتني العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطانا فقال: وأنا على ذلك. فلحظ المنصور عقبة بن سالم فوقف بين عبد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل، وأمر بحبسه وكان محمد يتردّد في النواحي وجاء إلى البصرة فنزل في بني راهب وقيل في بني مرّة بن عبيد، وبلغ الخبر إلى المنصور فجاء إلى البصرة وقد خرج عنها محمد، فلقي المنصور عمر بن عبيد فقال له: يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟
فقال: لا، فانصرف واشتدّ الخوف على محمد وإبراهيم وسار إلى عدن ثم إلى السّند ثم إلى الكوفة، ثم إلى المدينة وكان المنصور حج سنة أربعين وحج محمد وإبراهيم وعزما على اغتيال المنصور وأبي محمد من ذلك. ثم طلب المنصور عبد الله بإحضار ولديه وعنّفه وهمّ به، فضمنه زياد عامل المدينة. وانصرف المنصور وقدم محمد المدينة قدمة فتلطف له زياد وأعطاه الأمان له. ثم قال له: الحق بأيّ بلاد شئت وسمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلى المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطّلب ويقبض زيادا وأصحابه. فسار بهم فحبسهم المنصور، وخلف زياد ببيت المال ثمانين ألف دينار ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ، وأمره بطلب محمد وإنفاق المال في ذلك فكثرت نفقته واستبطأه المنصور واستشار في عزله، فأشار عليه يزيد بن أسيد السلميّ من أصحابه باستعمال رباح بن عثمان بن حسّان المزنيّ فبعثه أميرا على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين، وأطلق يده في محمد بن خالد القسريّ. فقدم المدينة وتهدّد عبد الله بن حسن في إحضار ابنيه. وقال له عبد الله يومئذ: إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة، فاستشعر ذلك ووجد فقال له حاجبه أبو البختري: إنّ هذا ما اطلع على الغيب فقال: ويلك! والله ما قال إلا ما سمع، فكان كذلك. ثم حبس رباح محمد بن خالد وضربه وجدّ في طلب محمد فأخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل جهينة، فبعث عامله في طلبه فأفلت منه. ثم إنّ رباح بن مرّة(3/237)
حبس بني حسن وقيّدهم وهم عبد الله بن حسن بن الحسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر وابنه موسى بن عبد الله، وبنو أخيه داود وإسماعيل وإسحاق بنو إبراهيم بن الحسن، ولم يحضر معهم أخوه عليّ العائد. ثم حضر من الغد عند رباح وقال:
جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه، وكتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان المعروف بالديباجة. وكان أخا عبد الله لأمّه أمّهما فاطمة بنت الحسين. وكان عامل مصر قد عثر على علي بن محمد بن عبد الله ابن حسن بعثه أبوه إلى مصر يدعو له فأخذه وبعث به إلى المنصور فلم يزل في حبسه وسمّى من أصحاب أبيه عبد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير فضربهما المنصور وحبسهما. وقيل عبد الله حبس أولا وحده وطال حبسه. فأشار عليه أصحابه بحبس الباقين فحبسهم. ثم حج المنصور سنة أربع وأربعين، فلما قدم مكة بعث إليهم وهم في السجن محمد بن عمران بن إبراهيم بن طلحة ومالك بن أنس يسألهم أن يرفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابني عبد الله، فطلب عبد الله الإذن في لقائه فقال المنصور: لا والله حتى يأتيني به وبابنيه، وكان محسنا مقبولا لا يكلم أحدا إلّا أجابه إلى رأيه. ثم إنّ المنصور قضى حجّه وخرج إلى الرَّبَذَة، وجاء رباح ليودعه فأمر باشخاص بني حسن ومن معهم إلى العراق فأخرجهم في القيود والأغلال وأردفهم في محامل بغير وطء، وجعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي. وجاء محمد إبراهيم مع أبيهما عبد الله يسايرانه مستترين بزيّ الأعراب ويستأذنه في الخروج فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما وإن منعتما أن تعيشا كريمين تمنعا أن تموتا كريمين، وانتهوا إلى الزيدية. وأحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربه مائة وخمسين سوطا بعد ملاحاة جرت بينهما أغضبت المنصور. ويقال: إنّ رباحا أغرى المنصور به وقال له: إنّ أهل الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد. ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى المنصور بأنّ أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عبد الله واحذر منهم. فأمر المنصور بقتل العثماني وبعث برأسه إلى خراسان، وبعث من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأنّ أمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قدم المنصور بهم الكوفة وحبسهم بقصر ابن هبيرة، يقال: انه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم على أسطوانة وهو حيّ فمات. ثم بعده عبد الله بن حسن ثم علي بن حسن، ويقال: إنّ المنصور أمر بهم فقتلوا، ولم ينج منهم إلا سلمان وعبد الله ابنا داود وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن حسن وجعفر بن حسن والله أعلم.(3/238)
ظهور محمد المهدي ومقتله
ولما سار المنصور إلى العراق وحمل معه بني حسن رجع رباح [1] إلى المدينة وألحّ في طلب محمد وهو مختف يتنقل في اختفائه من مكان إلى مكان وقد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر. فتدلى فغمس في مائها وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع ودلّ عليه رباح بالمداد، فركب في طلبه فاختفى عنه ولم يره. ولما اشتدّ عليه الطلب أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك. وجاء الخبر إلى رباح بأنه الليلة خارج فأحضر العبّاس بن عبد الله بن الحرث بن العبّاس ومحمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة وغيرهما، وقال لهم: أمير المؤمنين يطلب محمدا شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم. والله لئن خرج ليقتلنّكم أجمعين. وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاءوا في جمع كثير وأجلسهم بالباب. ثم أحضر نفرا من العلويّين فيهم جعفر بن محمد بن الحسين وحسين بن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش فيهم إسماعيل ابن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد، وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقيل قد خرج محمد فقال له: ابن مسلم بن عقبة أطعني واضرب أعناق هؤلاء فأبى، وأقبل من المداد [2] في مائة وخمسين رجلا وقصد السجن، فأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ وابن أخيه النّذير بن يزيد ومن كان معهم وجعل على الرجّالة خوّات بن جبير [3] وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل فدخلوا من باب المقصورة وقبضوا على رباح وأخيه عبّاس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم، ثم خرج إلى المسجد وخطب الناس وذكر المنصور بما نقمه عليه ووعد الناس واستنصر بهم واستعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطّلب بن عبد الله المخزومي، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوَرْديّ، وعلى الشرط أبا الغلمش [4] عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأرسل إلى محمد بن عبد العزيز يلومه على القعود عنه فوعده بالبصرة وسار
__________
[1] رياح: ابن الأثير ج 5 ص 529.
[2] المذار: ابن الأثير ج 5 ص 530
[3] خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير: المرجع السابق.
[4] ابا القلمّس: ابن الأثير ج 5 ص 531.(3/239)
الى مكة، ولم يتخلف عن محمد من وجوه الناس إلّا نفر قليل منهم: الضحّاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حرام [1] وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد وأبو سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. واستفتى أهل المدينة مالكا [2] في الخروج مع محمد وقالوا: في أعناقنا بيعة المنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين فتسارع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر يدعوه إلى بيعته، وكان شيخا كبيرا فقال: أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك؟ فرجع الناس عنه قليلا وأسرع بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى محمد فجاءت جمادة [3] أختهم إلى عمها إسماعيل وقالت: يا عم إنّ مقالتك ثبّطت الناس عن محمد وإخوتي معه، فأخشى أن يقتلوا فردّها، فيقال: إنها عدت عليه فقتلته، ثم حبس محمد بن خالد القسري بعد أن أطلقه واتهمه بالكتاب إلى المنصور فلم يزل في حبسه. ولما استوى أمر محمد ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر، وجاء إلى المنصور في تسع [4] فخبّره الخبر فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم. وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تتابع الخبر وأشفق المنصور من أمره واستشار أهل بيته ودولته. وبعث إلى عمّه عبد الله وهو محبوس يستشيره فأشار عليه بأن يقصد الكوفة فإنّهم شيعة لأهل البيت فيملك عليهم أمرهم ويحفّها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج، ويستدعي سالم بن قتيبة من الريّ فيتحشّد معه كافة أهل الشام ويبعثه وأن يبعث العطاء في الناس، فخرج المنصور إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع بن عبد الله بن عبد المدان. ولما قدم الكوفة أرسل إلى يزيد يحيي وكان السفّاح يشاوره فأشار عليه بأن يشحن الأهواز بالجنود وأشار عليه جعفر بن حنظلة الهرّاني [5] بأن يبعث الجند إلى البصرة. فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبيّن وجه إشارتهما. وقال المنصور لجعفر: كيف خفت البصرة؟ قال: لأنّ أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء الطالبيّين، ولم
__________
[1] ابن حزام: ابن الأثير ج 5 ص 532.
[2] اي مالك بن أنس بن مالك.
[3] حمّادة: ابن الأثير ج 5 ص 532.
[4] اي في تسعة أيام.
[5] جعفر بن حنظلة البهراني: ابن الأثير ج 5 ص 535.(3/240)
يبق إلا البصرة. ثم إنّ المنصور كتب إلى محمد المهدي كتاب أمان فأجابه عنه بالردّ والتعريض بأمور في الأنساب والأحوال، فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك وانتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري في كتاب الكامل فمن أراد الوقوف فليلتمسها في أماكنها [1] . ثم إنّ محمدا المهدي استعمل على مكة محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر وعلى اليمن القاسم بن إسحاق وعلى الشام موسى بن عبد الله. فسار محمد بن الحسن إلى مكة والقاسم معه ولقيهما السريّ بن عبد الله عامل مكة ببطن أذاخر فانهزم. وملك محمد مكّة حتى استنفره المهدي لقتال عيسى بن موسى فنفر هو والقاسم بن عبيد الله، وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد فلحق محمد بإبراهيم، فكان معه بالبصرة واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له الأمان امرأة عيسى، وهي بنت عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر. وأمّا موسى بن عبد الله فسار إلى الشام فلم يقبلوا منه فرجع إلى المدينة ثم لحق بالبصرة مختفيا وعثر عليه محمد بن سليمان بن عليّ وعلى ابنه عبد الله وبعث بهما إلى المنصور فضربهما وحبسهما. ثم بعث المنصور عيسى ابن موسى إلى المدينة لقتال محمد فسار في الجنود ومعه محمد بن أبي العبّاس بن السفّاح وكثيّر بن حصين العبديّ وحميد بن قحطبة وهوازمرّد [2] وغيرهم، فقال له: إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان وإن تغيب فخذ أهل المدينة فإنّهم يعرفون مذاهبه ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق فيمن تغيب، فقبض ماله. ويقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلك فقال: قبضه مهديّكم. ولما وصل عيسى إلى فئته كتب إلى نفر من أهل المدينة ليستدعيهم منهم: عبد العزيز بن المطّلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمعيّ وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فخرج إليه عبد الله هو وأخوه عمر وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل. واستشار المهدي أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها، فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وحفر الخندق الّذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب. ونزل عيسى الأعرض [3] ، وكان محمد قد منع الناس من الخروج
__________
[1] وهما مرويان أيضا في الكامل لابن الأثير ج 5 ص 536- 542.
[2] هزارمرد: ابن الأثير ج 5 ص 544.
[3] الأعرض: ابن الأثير ج 5 ص 545.(3/241)
فخيّرهم، فخرج كثير منهم بأهلهم إلى الجبال وبقي في شرذمة يسيرة. ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردّهم فأعجزوه ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة وبعث عسكرا إلى طريق مكة يعترضون محمدا إن انهزم إلى مكة، وأرسل إلى المهدي بالأمان والدعاء الى الكتاب والسنّة ويحذّره عاقبة البغي. فقال: إنما أنا رجل فررت من القتل. ثم نزل عيسى بالحرف لاثنتي عشرة من رمضان سنة خمس وأربعين، فقام يومين، ثم وقف على مسلم [1] ونادى بالأمان لأهل المدينة وأن تخلوا بينه وبين صاحبه، فشتموه فانصرف وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة وبرز محمد في أصحابه ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وشعارهم أحد أحد. وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله. ثم آخر فقتلوا [2] وقال أنا ابن الفاروق. وأبلى محمد المهدي يومئذ بلاء عظيما وقتل بيده سبعين رجلا. ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدّم في مائة من الرجال إلى حائط دون الخندق فهدمه، وأجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه، وصابرهم أصحاب محمد إلى العصر. ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخندق بالحقائب ونصبوا عليها الأبواب وجازت الخيل واقتتلوا وانصرف محمد فاغتسل وتحنّط. ثم رجع فقال [3] : أترك أهل المدينة والله لا أفعل أو أقتل وأنت مني في سعة فمشى قليلا معه، ثم رجع وافترق عنه جل أصحابه، وبقي في ثلاثمائة أو نحوها. فقال له بعض أصحابه: نحن اليوم في عدّة أهل بدر وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها، فيقول والله لا تبتلون بي مرّتين. ثم جمع بين الظهر والعصر ومضى فأحرق الديوان الّذي فيه أسماء من بايعهم [4] . وجاء إلى السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عبّاسا وابن مسلم بن عقبة وتوثق محمد بن القسريّ بالأبواب فلم يصلوا إليه. ورجع ابن حصين إلى محمد فقاتل معه وتقدّم محمد إلى بطن سلع ومعه بنو شجاع من الخمس. فعرقبوا دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرّتين أو ثلاثة. وصعد نفر من أصحاب عيسى الجبل وانحدروا منه إلى المدينة. ورفع بعض نسوة إلى العبّاس خمارا لها اسود على منارة المسجد. فلما رآه أصحاب محمد وهم
__________
[1] سلع: ابن الأثير ج 5 ص 546.
[2] الأصح فقتله.
[3] القول موجه إلى عبد الله بن جعفر.
[4] الأصح: أسماء من بايعه.(3/242)
يقاتلون هربوا، وفتح بنو غفّار طريقا لأصحاب عيسى فجاءوا من وراء أصحاب محمد ونادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى، ونادى ابن حصين بالأمان فلم يصغ إليه [1] ، وكثرت فيه الجراح ثم قتل وقاتل محمد على شلوه فهدّ الناس عنه هدا حتى ضرب فسقط لركبته وطعنه ابن قحطبة في صدره، ثم أخذ رأسه وأتى به عيسى فبعثه إلى المنصور مع محمد بن الكرام عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن، وأرسل معه رءوس بني شجاع، وكان قتل محمد منتصف رمضان. وأرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة للأمان وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة، واستأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع، وقطع المنصور الميرة في البحر عن المدينة، حتى أذن فيها المهديّ بعده، وكان مع المهدي سيف عليّ ذو الفقار فأعطاه يومئذ رجلا من التجار في دين كان له عليه. فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة أخذه منه وأعطاه من دينه ثم أخذه منه المهدي، وكان الرشيد يتقلده وكان فيه ثمان عشرة فقرة، وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن الحسين وحسين وعلي ابنا زيد بن علي، وكان المنصور يقول عجبا خرجا عليّ ونحن أخذنا بثأر أبيهما. وكان معه علي وزيد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن وأبوهما الحسن مع المنصور والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن جعفر وأبوه عليّ مع المنصور، ومن غير بني هاشم محمد بن عبد الله بن عمر بن سعيد بن العاص ومحمد ابن عجلان وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وأبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، أخذ أسيرا فضرب وحبس في سجن المدينة، فلم يزل محبوسا إلى أن نازل السودان بالمدينة على عبد الله بن الربيع الحارثي، وفرّ عنها إلى بطن نخل وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور. فخرج ابن أبي سبرة مقيّدا وأتى المسجد وبعث إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما، وبعثوا إلى السودان وردّوهم عما
__________
[1] المعنى هنا غير واضح تماما وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 548: ونادى محمد حميد بن قحطبة:
ابرز الي فأنا محمد بن عبد الله. فقال حميد: قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يديّ من هؤلاء الأغمار أحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك.
وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشحّ به على الموت، وابن خضير يحمل على الناس لا يصغي الى امانه ... » .(3/243)
كانوا فيه، فرجعوا ولم يصلّ الناس يومئذ جمعة. ووقف الأصبغ بن أبي سفيان بن عاصم بن عبد العزيز لصلاة العشاء ونادى أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين، وصلى ثم أصبح ابن أبي سبرة وردّ من العبيد ما نهبوه، ورجع ابن الربيع من بطن نخل وقطع رؤساء [1] العبيد وكان مع محمد بن عبد الله أيضا عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء ابن يعقوب مولى بني سباع وبنوه تسعة وعيسى وعثمان ابنا خضير وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير قتله المنصور من بعد ذلك لما أخذ بالبصرة وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وعليّ بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب [2] وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير وهشام بن عميرة بن الوليد بن [3] بن عبد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم.
شأن إبراهيم بن عبد الله وظهوره ومقتله
كان إبراهيم بن عبد الله أخو المهديّ محمد قد اشتدّ الطلب عليه وعلى أخيه منذ خمس سنين، وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان والجبل والحجاز واليمن والشام، وحضر مرّة مائدة المنصور بالموصل، وجاء أخرى إلى بغداد حين خطها المنصور مع النظّار على قنطرة الفرات حين شدّها وطلبه فغاض في الناس فلم يوجد ووضع عليه الرصد بكل مكان ودخل بيت سفيان بن حيّان العميّ [4] وكان معروفا بصحبته فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور وقال: أنا آتيك بإبراهيم فأحملني وغلامي على البريد وابعث معي الجند ففعل. وجاء بالجند إلى البيت وأركب معه إبراهيم في زيّ غلامه وذهب بالجند إلى البصرة ولم يزل يفرّقهم على البيوت ويدخلها موهما أنه يفتشه حتى بقي وحده فاختفى وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه، وكان قدم قبل ذلك الأهواز فطلبه محمد بن حصين واختفى منه عند
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 557: «ورجع ابن الربيع من بطن نخل فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.
[2] علي بن عبد المطلب بن عبد الله بن جنطب: ابن الأثير ج 5 ص 553.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 557: «هشام بن عمارة بن الوليد بن عدي ابن الخيار.
[4] سفيان بن حيان القمّيّ: ابن الأثير ج 5 ص 561.(3/244)
الحسن بن حبيب ولقي من ذلك غيّا. ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمس وأربعين بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حيّان النبطيّ وأنزله بداره في بني ليث فدعا الناس إلى بيعة أخيه وكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة العبسيّ وعبد الله بن سفيان وعبد الواحد بن زياد وعمر بن سلمة الهجيميّ وعبد الله بن حي بن حصين الرّقاشي وبثوا دعوته في الناس، واجتمع لهم كثير من الفقهاء وأهل العلم وأحصى ديوانه أربعة آلاف. واشتهر أمره ثم حوّلوه إلى وسط البصرة ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر ليقرب من الناس وولّاه سفيان أمير البصرة على أمره، وكتب إليه أخوه محمد يأمره بالظهور وكان المنصور بظاهر، وأرسل من القوّاد مددا لسفيان علي إبراهيم إن ظهر، ثم إنّ إبراهيم خرج أوّل رمضان من سنة خمس وأربعين وصلى الصبح في الجامع وجاء دار الإمارة بابن سفيان وحبسه وحبس القوّاد معه، وجاء جعفر ومحمد ابنا سليمان بن عليّ في ستمائة رجل وأرسل إبراهيم إليها المعين بن القاسم الحدروري [1] في خمسين رجلا فهزمهما إلى باب زينب بنت سليمان بن علي وإليها ينسب الزينبيّون من بني العبّاس فنادى بالأمان وأخذ من بيت المال ألفي ألف درهم، وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين. ثم أرسل المغيرة على الأهواز في مائة رجل فغلب عليها محمد بن الحصين وهو في أربعة آلاف. وأرسل عمر بن شدّاد إلى فارس وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي، فتحصّنا في دار بجرد وملك عمر نواحيها، فأرسل هارون بن شمس العجليّ في سبعة عشر ألفا إلى واسط فغلب عليها هارون بن حميد الإيادي وملكها. وأرسل المنصور لحربه عامر ابن إسماعيل في خمسة آلاف وقيل في عشرين فاقتتلوا أياما ثم تهادنوا يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم. ثم جاء نعي محمد إلى أخيه إبراهيم قبل الفطر فصلى يوم العيد وأخبرهم فازدادوا حنقا على المنصور. ونفر في حره وعسكر من الغد، واستخلف على البصرة غيلة وابنه حسنا معه. وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام وإرسال الجنود وأمدادهم واحدا بعد واحد، وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأنّ الناس في انتظارك ولو رأوك ما توانوا عنك، فسار وكتب المنصور إلى عيسى بن موسى بإسراع العود وإلى مسلم بن قتيبة بالريّ وإلى سالم بقصد إبراهيم وضم إليه غيرها من القوّاد.
وكتب إلى المهدي بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز وفارس والمدائن وواسط
__________
[1] المضاء بن القاسم الجزري: ابن الأثير ج 5 ص 564.(3/245)
والسواد وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف يتربصون به. ثم رمى كل ناحية بحجرها وأقام خمسين يوما على مصلاه ويجلس ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا ويلبس السواد إذا ظهر للناس، وينزعه إذا دخل بيته. وأهديت له من المدينة امرأتان فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما. وقال: ليست هذه أيام نساء حتى انظر رأس إبراهيم إليّ أو رأسي له. وقدم عليه عيسى بن موسى فبعثه لحرب إبراهيم في خمسة عشر ألفا وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وسار إبراهيم من البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخا من الكوفة، وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالف عيسى إلى المنصور فهو في حف من الجنون. ويكون أسهل عليك فعرض ذلك إبراهيم على أصحابه فقالوا: نحن هارون وأبو جعفر في أيدينا! فأسمع ذلك رسول سالم فرجع، ثم تصافوا للقتال وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس ليكون أثبت والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فأبى إبراهيم إلّا الصف صف أهل الإسلام، ووافقه بقية أصحابه. ثم اقتتلوا وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم معه الناس وعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فقال لهم حميد: لا طاعة في الهزيمة ولم يبق مع عيسى إلّا فلّ قليل فثبت واستمات وبينما هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن عليّ وجاء من وراء إبراهيم وأصحابه فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى ورجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم اعترضهم إمامهم، فلا يطيقون ومخافة ولا وثوبه، فانهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابه وحميد يقاتله. ثم أصابه سهم بنحره فأنزلوه واجتمعوا عليه. وقال حميد شدّوا على تلك الجماعة فاحصروهم عن إبراهيم وقطعوا رأسه وجاءوا به إلى عيسى فسجد وبعثه إلى المنصور، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة الحرام سنة خمس وأربعين، ولما وضع رأسه بين يدي المنصور بكى، وقال: والله إني كنت لهذا كارها ولكني ابتليت بك وابتليت بي. ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور حتى دخل جعفر بن حنظلة النهراني فسلّم ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك وغفر له ما فرّط فيه من حقّك، فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكنّاه بابي خالد واستدناه.(3/246)
بناء مدينة بغداد
وابتدأ المنصور سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية، ولأنه كان يكره أهل الكوفة ولا يأمن على نفسه منهم. فتجافى عن جوارهم وسار إلى مكان بغداد اليوم، وجمع من كان هنالك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحرّ والبرد والمطر والوحل والهوام، واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها وقالوا تجيئك الميرة في السفن من الشام والرقّة ومصر والمغرب إلى المصرات. ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة.
ومن أرمينية وما اتصل بها في تامرّا حتى يتصل بالزاب. وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطر والجسور وإذا قطعتها لم يكن لعدوّك مطمع وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البرّ والبحر والجبل. فشرع المنصور في عمارتها وكتب إلى الشام والجبل [1] والكوفة وواسط والبصرة في الصنّاع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفّة والأمانة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك، منهم:
الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة الفقيه وأمر بخطها بالرماد فشكلت أبوابها وفصلانها وطاقاتها ونواحيها، وجعل على الرماد حب القطن فأضرم نارا ثم نظر إليها وهي تشتعل فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم. ووكّل بها أربعة من القوّاد يتولى كل واحد منهم ناحية، ووكّل أبا حنيفة بعدّ الآجر واللبن. وكان أراده على القضاء والمظالم فأبى فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملا فكان هذا. وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين وجعل في البناء القصب والخشب ووضع بيده أوّل لبنة وقال: «بسم الله والحمد للَّه والأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ثم قال ابنوا على بركة الله، فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهديّ، فقطع البناء وسار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه ورجع من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد واستمرّ في بنائها، واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن والإيوان فقال: لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام [2] وفتوح العرب وفيه مصلى عليّ بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم وأمر
__________
[1] هي بلاد طبرستان فإنها تسمى بلاد الجبل وبلاد الديلم أهـ. (من خط الشيخ العطار) .
[2] قوله لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب ... هو في الحقيقة من بناء الاكاسرة وآثارهم بحسب الإنشاء، ومعنى كونه من آثار الإسلام انه دل على ان الإسلام أباد هذه الدولة التي بنت هذا البناء وملكوا ملكهم وأذلّوهم أهـ. (من خط الشيخ العطار) .(3/247)
بنقض القصر الأبيض فإذا الّذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه.
فقال خالد: لا أرى إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم، فأعرض عنه ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة، وجعل المدينة مدوّرة وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حدّ سواء. وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين والداخل أعلى من الخارج. ووضع الحجّاج ابن ارطاة قبلة المسجد، وكان وزن اللبنة التي يبنى بها مائة رطل وسبعة عشر رطلا وطولها ذراع في ذراع، وكانت بيوت جماعة من الكتاب والقوّاد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع، وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وجعل الطرق أربعين ذراعا وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفضلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم. وكان الأستاذ من البناءين يعمل يومه بقيراط، والروز كاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلّا بما بقي عنده وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد أن حبسه عليها.
العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى
كان السفّاح قد عهد إلى عيسى بن موسى بن علي وولّاه على الكوفة فلم يزل عليها، فلما كبر المهدي أراه المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى، وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهديّ عن يساره فكلّمه في التأخر عن المهديّ في العهد فقال: يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التي عليّ وعلى المسلمين وأبى من ذلك، فتغيّر له المنصور وباعده بعض الشيء. وصار يأذن للمهدي قبله ولعمّه عيسى بن عليّ وعبد الصمد. ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهدي واستمرّ المنصور على التنكّر له وعزله عن الكوفة لثلاث عشرة سنة من ولايته، وولّى مكانه محمد بن سليمان بن علي، ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى من بعده.
ويقال إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء.(3/248)
خروج استادسيس [1]
كان رجل ادّعى النبوّة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلاثمائة ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان وسار إليه الأخثم [2] عامل مروالرّوذ في العساكر فقاتل الأخثم وعامة أصحابه، وتتابع القوّاد في لقائه فهزمهم وبعث المنصور وهو بالبرادق [3] خازم بن خزيمة إلى المهديّ في اثني عشر ألفا فولاه المهديّ حربه فزحف إليه في عشرين ألفا وجعل على ميمنته الهيثم بن شعبة بن ظهير، وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي [4] وفي مقدمته بكّار بن مسلم العقيليّ، ودفع لواءه للزّبرقان. ثم راوغهم في المزاحفة وجاء إلى موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب، وأتى أصحاب أستادسيس بالفئوس والمواعيل ليطموا الخندق فبدءوا بالباب الّذي يلي بكّار بن مسلم فقاتلهم بكّار وأصحابه حتى ردّوهم عن بابهم فأقبلوا على باب خازم وتقدّم منهم الحريش من أهل سجستان فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكّار ويأتي العدوّ من خلفهم وكانوا متوقعين قدوم أبي عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتدّ قتاله معهم. وبدت أعلام الهيثم من ورائهم فكبّر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمرّ فيهم القتل فقتل سبعون ألفا وأسر أربعة عشر، وتحصّن أستادسيس على حكم أبي عون فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق الباقون، وكتب إلى المهدي بذلك فكتب المهديّ إلى المنصور ويقال إنّ أستادسيس أبو مراجل أمّ المأمون وابنه غالب خال المأمون الّذي قتل الفضل بن سهل.
ولاية هشام بن عمر الثعلبي على السند
كان على السّند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة ويلقب مرامي ألف رجل [5] ولما كان من أمر المهديّ ما قدّمناه بعث ابنه عبد الله
__________
[1] استاذسيس: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[2] الاجشم: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[3] الراذان: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[4] نهار بن حصين السعدي: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[5] هزارمرد (يعني ألف رجل) ابن الأثير ج 5 ص 595.(3/249)
الأشتر إلى البصرة ليدعو له، فسار من هنالك إلى عمر بن حفص وكان يتشيّع فأهدى له خيلا ليتمكن بها من لقائه. ثم دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده مختفيا ودعا القوّاد وأهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها، وهو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهدي فدخل على ابنه أشتر وعزّاه فقال له: الله في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السّند عظيم المملكة، كان يعظّم جهة النّبي صلى الله عليه وسلم، وكان معروفا بالوفاء، فأرسل إليه بعد أن عاهده عليه، واستقر عند ذلك الملك. وتسلّل إليه جماعة من الزيدية نحوا من أربعمائة، وبلغ ذلك المنصور فغاظه وكتب إلى عمر بن حفص بعزله وأقام يفكر فيمن يوليه السّند، وعرض له يوما هشام بن عمر الثعلبي [1] وهو راكب ثم اتبعه إلى بيته وعرض عليه أخته، فقال للربيع: لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت، فجزاك الله خيرا، وقد ولّيتك السّند فتجهّز لها وأمره أن يحارب ملك السّند ويسلّم إليه الأشتر ففعل، وأقام المنصور يستحثّه. ثم خرجت خارجة بالسّند فبعث هشام أخاه سفيحا لحسم الداء عنها، فمر بنواحي ذلك الملك فوجد الأشتر يتنزه في شاطئ همذان في عشرة من الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعا. وكتب هشام بذلك إلى المنصور فشكره وأمر بمحاربة ذلك الملك فظفر به وغلب على مملكته، وبعث بسراري عبد الله الأشتر ومعه ولد منه اسمه عبد الله بعث بهم المنصور إلى المدينة وأسلمه إلى أهله ولما ولّى هشام بن عمر على السّند وعزل عمر بن حفص عنها ثم حدثت فتق بإفريقية بعثه إلى سدّه كما سيأتي في أخبارها.
بناء الرصافة للمهدي
ولما رجع المهدي من خراسان قدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة فأجازهم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور. ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العبّاس بن عبيد الله بن العبّاس بأن يفرّق بينهم ويستكفيه في ذلك، وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله والعبّاس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر؟ فقال: مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت الله ومنها خليفة الله فغضب اليمن إذ لم يذكر لها
__________
[1] هشام بن عمر الثعلبي: ابن الأثير ج 5 ص 595.(3/250)
فضلا. ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر وقطعوا الّذي كبحها فتشاجر الحيّان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية للدولة وأصبحوا أربع فرق، وقال قثم للمنصور: اضرب كل واحدة بالأخرى وسيّر لابنك المهدي فلل أنير له [1] بجنده فيتناظرون أهل مدينتك فقبل رأيه وأمر صالحا صاحب المصلى ببناء الرّصافة للمهدي.
مقتل معن بن زائدة
كان المنصور قد ولّى على سجستان معن بن زائدة الشيبانيّ وأرسل إلى رتبيل في الضريبة التي عليه فبعث بها عروضا زائدة الثمن فغضب معن وسار إلى الرّخّج على مقدمته يزيد [2] ابن أخيه يزيد ففتحها وسبى أهلها وقتلهم ومضى رتبيل إلى عزمه وانصرف معن إلى بست فشتى بها ونكر قوم من الخوارج سيرته فهجموا عليه وفتكوا به في بيته وقام يزيد بأمر سجستان وقتل قاتليه واشتدّت على أهل البلاد وطأته فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسانه كتابا يتضجر من كتب المهدي إليه ويسأله أن يعفى من معاملته، فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهدي كتابه وعزله وحبسه ثم شفع فيه شخص إلى مدينة السلام فلم يزل مجفوا حتى بعث إلى يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد.
العمال على النواحي أيام السفاح والمنصور
كان السفاح قد ولّى عند بيعته على الكوفة عمّه داود بن علي وجعل على حجابته عبد الله بن بسّام وعلى شرطته موسى بن كعب وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وبعث عمه عبد الله لقتال مروان مع أبي عون بن يزيد بن قحطبة تقدمة، وبعث يحيى ابن جعفر ابن تمام بن العبّاس إلى المدائن، وكان أحمد بن قحطبة تقدمة وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمّار بن ياسر إلى الأهواز مددا لبسام بن إبراهيم،
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 604: وقال قثم للمنصور: قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف ان يحدث عليك حدثا فتضربه بالحزب الآخر. وقد بقي عليك في التدبير بقية، وهي ان تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا. فان فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء ... فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى الرّصافة وتولى صالح المصلّى ذلك.»
[2] مزيد ابن أخيه يزيد: ابن الأثير ج 5 ص 606.(3/251)
ودفع ولاية خراسان إلى أبي مسلم، فولّى أبو مسلم عليها إيادا وخالد بن إبراهيم وبعث عمّه عبد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحا ومعه أبو عون بن يزيد، فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون يزيد بمصر واستقل عبد الله بولاية الشام وولّى السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فولّى على أرمينية يزيد بن أسد وعلى أذربيجان محمد بن صول ونزل الجزيرة. وكان أبو مسلم ولّى على فارس محمد بن الأشعث حين قتل أبا مسلمة الخلّال، فبعث السفّاح عليها عيسى فمنعه محمد بن الأشعث واستخلفه على الولاية فبعث عليها عمه إسماعيل. وولّى على الكوفة ابن أخيه موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية المهلّبيّ وعلى السّند منصور بن جمهور ونقل عمه داود إلى ولاية الحجاز واليمن واليمامة. ثم ولّى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان وتوفي داود بن عليّ سنة ثلاث وثلاثين، فولّى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد ابن عبد الله بن عبد المدان الحارثي وهو عمّ محمد بن يزيد. وفيها بعث محمد بن الأشعث إلى إفريقية ففتحها وفي سنة أربع وثلاثين بعث صاحب الشرطة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور، وولّاه مكانه على السّند، فاستخلف مكانه على الشرطة المسيّب بن زهير. وتوفي عامل اليمن محمد بن يزيد، فولّى مكانه عليّ بن الربيع بن عبيد الله الحارثي. ولما استخلف المنصور وانتقض عبد الله بن علي وأبو مسلم ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عبد الله بن عليّ. ثم هلك خالد ابن إبراهيم سنة أربعين فولّى مكانه عبد الجبّار ابن عبد الرّحمن فانتقض لسنة من ولايته، فبعث المنصور ابنه المهدي على خراسان وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبّار. وتوفي سليمان عامل البصرة سنة أربعين فولّى مكانه سفيان بن معاوية، ومات موسى بن كعب بالسّند وولّى مكانه ابنه عيينة فانتقض، فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفرة وولّى مصر في هذه السنة حميد بن قحطبة. وولّى على الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العبّاس ابن محمد وكان بها يزيد بن أسيد وعزل عمه إسماعيل عن الموصل، وولّى مكانه مالك ابن الهيثم الخزاعيّ. وفي سنة ست وأربعين عزل الهيثم بن معاوية وولّى على مكة والطائف مكانه السريّ بن عبد الله بن الحرث بن العبّاس نقله إليها من اليمامة، وولّى مكانه من اليمن قثم بن العبّاس بن عبد الله بن العبّاس، وعزل حميد بن(3/252)
قحطبة عن مصر وولّى مكانه نوفل بن الفرات، ثم عزله وولّى مكانه يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة. وولى على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله، وولّى مكانه رباح بن عثمان المزنيّ ولما قتله أصحاب محمد المهدي ولّى مكانه عبد الله بن الربيع الحارثيّ. ولما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولّى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهليّ، وولّى على الموصل ابنه جعفرا مكان مالك بن الهيثم وبعث معه حرب بن عبد الله من أكابر قوّاده. ثم عزل سالم بن قتيبة عن البصرة سنة ست وأربعين، وولّى مكانه محمد بن سليمان، وعزل عبد الله بن الربيع عن المدينة، وولّى مكانه جعفر بن سليمان، وعزل السريّ بن عبد الله عن مكة وولّى مكانه عمه عبد الصمد بن عليّ.
وولى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكان عيسى بن موسى لما سخطه بسبب العهد. وولّى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفّاح فاستعفاه ورجع إلى بغداد فمات، واستخلف بها عقبة بن سالم فأقرّه. وولّى على المدينة جعفر بن سليمان، وولّى سنة ثمان وأربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكراد في نواحيها، وعزل سنة تسع وأربعين عمه عبد الصمد عن مكة، وولّى مكانه محمد بن إبراهيم. وفي سنة خمسين عزل جعفر بن سليمان عن المدينة، وولّى مكانه الحسن بن زيد بن الحسن. وفي سنة إحدى وخمسين عزل عمر بن حفص عن السّند وولّى مكانه هشام بن عمر والثعلبيّ، وولّى عمر بن حفص على إفريقية.
ثم بعث يزيد بن حاتم من مصر مددا له، وولّى مكانه بمصر محمد بن سعيد. وفي هذه السنة قتل معن بن زائدة بسجستان كما تقدّم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيد، فأقرّه المنصور ثم عزله وفي هذه السنة سار عقبة بن سالم من البصرة واستخلف نافع ابن عقبة فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدويّ واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم فعزله وولّى جابر بن مومة الكلابيّ، ثم عزله وولّى مكانه عبد الملك بن طيبان النهيري. ثم عزله وولّى الهيثم بن معاوية العكّيّ. وفيها ولّى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام، ثم عزله وولّى مكانه إبراهيم ابن أخيه يحيى بن محمد، وولّى على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسريّ. ومات أسيد بن عبد الله أمير خراسان فولّى مكانه حميد بن قحطبة وفي سنة ثلاث وخمسين توفي عبيد الله بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة فاستقضى شريك بن عبد الله النخعيّ وكان على اليمن(3/253)
يزيد بن منصور وفي سنة خمس وأربعين بل أربع وخمسين عزل عن الجزيرة أخاه العبّاس وأغرمه مالا، وولّى مكانه موسى بن كعب الخثعميّ، وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه، ولم يزل ساخطا على العبّاس حتى غضب على عمه إسماعيل، فشفع فيه إخوته عمومة المنصور فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين شفعوا في أخيهم وأنت ساخط على أخيك العبّاس منذ كذا! ولم يكلمك فيه أحد منهم فرضي عنه. وفي سنة خمس وخمسين عزل محمد بن سليمان عن الكوفة وولّى مكانه عمر بن زهير الضبّي أخا المسيّب صاحب الشرطة، وكان من أسباب عزله، أنه حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة، وكتب إليه أن يتبين أمره فقتله قبل وصول الكتاب، فغضب عليه المنصور وقال: لقد هممت أن أقيده به. وعزل عمه عيسى في أمره لأنه الّذي كان أشار بولايته. وفيها عزل الحسن بن زيد عن المدينة وولّى مكانه عمه عبد الصمد بن علي، وكان على الأهواز وفارس عمارة بن حمزة. وفي سنة سبع وخمسين ولّى على البحرين سعيد بن دعلج صاحب الشرطة بالبصرة، فأنفذ إليها ابنه تميما ومات سوار بن عبد الله قاضي البصرة فولّى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العيريّ. وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولّى مكانه مولاه مطرا وعزل هشام بن عمر عن السّند وولّى مكانه معبد بن الخليل. وفي سنة ثمان وخمسين عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهديّ أن يسير إلى الرقّة موريا بزيارة القدس ويكفل طريقة على الموصل فقبض عليه، وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجّله في إحضارها ثلاثا وإلا قتله، فبعث ابنه يحيى إلى عمارة بن حمزة ومبارك التركي وصالح صاحب المصلّى وغيرهم من القوّاد ليستقرض منهم، قال يحيى:
فكلهم بعث إلا أنّ منهم من منعني الدخول ومنهم من يجيبني بالردّ إلا عمارة بن حمزة فإنه أذن لي ووجهه إلى الحائط، ولم يقبل عليّ، وسلّمت فردّ خفيفا، وسأل كيف خالد فعرّفته واستقرضته فقال: إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه. ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلاثمائة ألف. وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة وانتشار الأكراد بها، وسخط موسى بن كعب فأشار عليه المسيّب بن زهير بخالد بن برمك فقال: كيف يصلح بعد ما فعلنا؟ فقال: أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه، وعقد له على الموصل، ولابنه يحيى على أذربيجان. وسارا مع المهدي(3/254)
فعزل موسى بن كعب وولاهما. قال يحيى: وبعثني خالد إلى عمارة بقرضه وكان مائة ألف، فقال لي: أكنت لأبيك صديقا؟ قم عني لا قمت. ولم يزل خالد على الموصل إلى وفاة المنصور. وفي هذه السنة عزل المنصور المسيّب بن زهير عن شرطته وحبسه مقيدا لأنه ضرب أبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله، وكان مع أخيه عمر بن زهير بالكوفة، وولّى المنصور على فارس نصر بن حرب بن عبد الله. ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخا عبد الجبّار، وعلى قضائها عبد الله بن محمد بن صفوان. ثم شفع المهدي في المسيّب وأعاده إلى شرطته.
الصوائف
كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن، فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية ونواحيها فنازل حصن بلخ [1] ، واستنجدوا أهل ملطية فأمدّوهم بثمانمائة مقاتل، فهزمهم الروم وحاصروا ملطية والجزيرة مفتوحة وعاملها موسى بن كعب بخراسان [2] فسلّموا البلد على الأمان لقسطنطين. ودخلوا إلى الجزيرة وخرّب الروم ملطية، ثم ساروا إلى قاليقلا ففتحوها.
وفي هذه السنة سار أبو داود وخالد بن إبراهيم إلى الجتن [3] فدخلها فلم تمتنع عليه، وتحصّن منه السبيل [4] ملكهم، وحاصره مدّة، ثم فرض الحصن ولحق بفرغانة.
ثم دخلوا بلاد الترك وانتهوا إلى بلد الصين، وفيها بعث صالح بن علي بن فلسطين سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدروب. وفي سنة خمس وثلاثين غزا عبد الرحمن بن حبيب عامل إفريقية جزيرة صقلّيّة فغنم وسبى وظفر بما لم يظفر به أحد قبله. ثم سفل [5] ولاة إفريقية بفتن البربر فأمّن أهل صقلّيّة وعمّر الحصون والمعاقل وجعلوا الأساطيل تطوف بصقلية للحراسة، وربما صادفوا تجّار المسلمين في البحر فأخذوهم وفي سنة ثمان وثلاثين خرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها وعفا عن أهلها. فغزا العبّاس بن محمد الصائفة ومعه عماه صالح وعيسى،
__________
[1] كمخ: ابن الأثير ج 5 ص 447.
[2] بحرّان: ابن الأثير ج 5 ص 447
[3] الختّل: ابن الأثير ج 5 ص 448
[4] حبيش بن الشبل: ابن الأثير ج 5 ص 449
[5] حسب مقتضى السياق: وشغل(3/255)
وبني ما خرّبه الروم من سور ملطية من سورة الروم، وردّ إليها أهلها وأنزل بها الجند ودخل دار الحرب من درب الحرث وتوغّل في أرضهم. ودخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية. وفي سنة تسع وثلاثين كان الفداء بين المسلمين والروم في أسرى قاليقلا وغيرهم. ثم غزا بالصائفة سنة أربعين عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام ومعه الحسن بن قحطبة، وسار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان وسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ورجع، ولم تكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين، لاشتغال المنصور بفتنة بني حسن. وفي سنة ست وأربعين خرج الترك والحدر بن باب الأبواب وانتهوا إلى أرمينية وقتلوا من أهلها جماعة ورجعوا. وفي سنة سبع وأربعين أغار أستر خان الخوارزمي في جمع من الترك على أرمينية فغنم وسبى ودخل تفليس فعاث فيها. وكان حرب بن عبد الله مقيما بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة، فأمره المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى، فانهزموا وقتل حرب في كثير من المسلمين. وفيها غزا بالصائفة مالك بن عبد الله الخثعميّ من أهل فلسطين، ويقال له ملك الصوائف فغنم غنائم كثيرة وقسّمها بدرب الحرث [1] وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة العبّاس بن محمد ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فدخلوا أرض الروم وعاثوا ورجعوا. ومات محمد بن الأشعث في طريقه في سنة إحدى وخمسين وقتل أخوه محمد ولم يدر. ثم غزا بالصائفة سنة أربع وخمسين زفر بن عاصم الهلالي. وفي سنة خمس بعدها طلب ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية، وغزا بالصائفة يزيد بن أسيد السلميّ وغزا بها سنة ست وخمسين وغزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب الحرثى ولقي العدوّ فاقتتلوا ثم تحاجزوا.
وفاة المنصور وبيعة المهدي
وفي سنة ثمان وخمسين توفي المنصور منصرفا من الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة وكان قد أوصى المهدي عند وداعه فقال: لم أدع شيئا إلا تقدّمت إليك فيه
__________
[1] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة ولكن في حوادث ستة وأربعين ومائة وليس سبعة وأربعين ج 5 ص 576 «وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعميّ، الّذي يقال له مالك الصوائف (وهو من أهل فلسطين) بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل، فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلا بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثا وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة. فسحبت تلك الرهوة، رهوة مالك.»(3/256)
وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل واحدة منها، وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدي: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به فإنّ فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلّا ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة. فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل. فانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذريّة ومصلحة البيوت. فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدّمهم وتوطئ الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإنّ عزّك عزّهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنّهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم، وأن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقيّة فإنك لا تتمّ بناءها وأظنك ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل. وقيل قال له: إني ولدت في ذي الحجة وولّيت في ذي الحجة وقد يحس في نفسي أن أموت في ذي الحجة في هذه السنة، وإنما حدّ لي الحج على ذلك. فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بني احفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمّته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود فإنّ فيها صلاحك في الآجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإنّ الله تعالى لو علم أنّ شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه. واعلم أنّ من شدّة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ادّخر له من العذاب الأليم فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَساداً 5: 33 الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه، وأوقع بالملحدين اقمع المارقين منه، وقابل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل(3/257)
ولا تشطط فإنّ ذلك أقطع للشعث وأحسم للعدوّ وأنجع في الدواء، واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعيّة واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبيل وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبديد فإنّ النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان. وأعدّ الأكراع والرجال والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع، وخذ في أحكام الأمور والنازلات في أوقاتها أوّلا أوّلا، واجتهد وشمّر فيها وأعدّ رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظنّ وأسئ الظنّ بعملك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ وتفقّد من يبيت على بابك وسهّل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير ساهية. ولا تنم فإنّ أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودّعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارنا، وساق الهدي وأشعره وقلّده لأيام خلت من ذي القعدة. ولما سار منازل عرض له وجعه الّذي مات به. ثم اشتدّ فجعل يقول للربيع وكان عديله بادر بي إلى حرم ربّي هاربا من ذنوبي فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه والربيع مولاه. فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا عيسى بن عليّ العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد، ثم الأكابر وذوي الأنساب، ثم عامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدي ثم بايع القوّاد وعامّة الناس. وسار العبّاس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة فبايعا الناس للمهدي بين الركن والمقام وجهزوه إلى قبره وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل إبراهيم ابن يحيى، ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته. وذكر علي بن محمد النوفليّ عن أبيه وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال: جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر، فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات. ثم أقبل الحسن بن زيد العلويّ والناس حتى ملئوا السرادق وسمعنا همس البكاء. ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه. ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله(3/258)
المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بني هاشم وشيعة من أهل خراسان وعامة المسلمين. ثم بكى وبكى الناس ثم قال: البكاء أمامكم فأنصتوا رحمكم الله: ثم قرأ: أمّا بعد فإنّي كتبت كتابي هذا وأنا حيّ في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعا ولا يذيق بعضكم بأس بعض. ثم أخذ في وصيتهم للمهدي وحثّهم على الوفاء بعهده. ثم تناول الحسن بن زيد وقال: قم فبايع، فبايع موسى بن المهدي لأبيه ثم بايع الناس الأوّل فالأوّل.
ثم دخل بنو هاشم وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام، فحملوه على ثلاثة أميال من مكّة فدفنوه. وكان عيسى بن موسى لما بايع الناس أبى من الشيعة فقال له علي بن عيسى بن ماهان: والله لتبايعنّ وإلّا ضربنا عنقك. ثم بعث موسى بن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم الخلافة إلى المهدي وخرجوا من مكة. ولما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة اجتمع إليه أهل بغداد وبايعوه، وكان أوّل ما فعله المهدي حين بويع أنه أطلق من كان في حبس المنصور إلّا من كان في دم أو مال أو ممن يسعى بالفساد، وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود وكان محبوسا مع الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن. فلما أطلق ساء ظن إبراهيم وبعث إلى من يثق به بحفر سرب يفضي إلى محبسه وبلغ ذلك يعقوب بن داود فجاء إلى ابن علاثة القاضي وأوصله إلى أبي عبيد الله الوزير ليوصله إلى المهدي فأوصله واستخلاه فلم يحدّثه حتى قام الوزير والقاضي وأخبره بتحقيق الحال، فأمره بتحويل الحسن، ثم هرب بعد ذلك ولم يظفر به. وشاور يعقوب بن داود في أمره فقال أعطه الأمان وأنا أحضره وأحضره. ثم طلب من المهدي أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له وكان يدخل كلما أراد ويرفع إليه النصائح في أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وترويح العذاب وفكاك الأسرى والمحبوسين، والقضاء عن الغارمين والصدقة على المتعفّفين فحظي بذلك وتقدّمت منزلته وسقطت منزلة أبي عبد الله، ووصله المهدي بمائة ألف وكتب له التوقيع بالإخاء في الله.
ظهور المقنّع ومهلكه
كان هذا المقنّع من أهل مرو ويسمى حكيما وهاشميّا، وكان يقول بالتناسخ وأنّ الله خلق آدم فتحوّل في صورته ثم في صورة نوح ثم إلى أبي مسلم ثم إلى هاشم وهو(3/259)
المقنع. فظهر بخراسان وادّعى الإلهيّة واتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه فسمّي المقنّع، وأنكر قتل يحيى بن زيد وزعم أنه يأخذ بثأره، وتبعه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له. وتحصّن بقلعة بسّام [1] من رساتيق كشّ وكان قد ظهر بخارى والصغد جماعة من المبيّضة فاجتمعوا معه على الخلاف، وأعانهم كفّار الأتراك وأغاروا على المسلمين من ناحيتهم، وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن سيّار، فقتلوا أخاه محمد بن نصر وحسّان ابن أخيه تميم. وأنفذ المهدي إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيّضة فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصون بخارى وملكوه عنوة، فقتل منهم سبعمائة ولحق فلّهم بالمقنّع وجبريل في اتباعهم. ثم بعث المهديّ أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله فبعث معاذ بن مسلم في جماعة القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحريشيّ، وأتاه عقبة بن مسلم من ذمّ فاجتمعوا بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنّع فهزموهم، ولحق فلّهم بالمقنع في بسّام فتحصنوا بها. وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشيّ، فكتب الحريشيّ إلى المهدي بالسعاية في معاذ ويضمن الكفاية إن أفرد بالحرب، فأجابه المهديّ إلى ذلك وانفرد بحرب المقنّع وأمدّه معاذ بابنه وجاءوا بآلات الحرب حتى طلب أصحاب المقنّع الأمان سرّا فأمّنهم، وخرج إليه ثلاثون ألفا وبقي معه زهاء ألفين، وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله فيقال سقاهم السمّ، ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار ودخلوا القلعة وبعث الحريشيّ برأس المقنّع إلى المهدي فوصل إليه بحلب سنة ثلاث وتسعين.
الولاة أيام المهدي
وعزل المهدي سنة تسع وخمسين عمه إسماعيل عن الكوفة وولّى عليها إسحاق بن الصفّاح الكندي ثم الأشعي، وقتل عيسى بن لقمان بن محمد بن صاحب الجمحيّ وعزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة، وولّى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن طيبان الفهيري. ثم جعل الأحداث إلى عمارة بن حمزة فولاها للسود بن عبد الله الباهليّ. وعزل قثم بن العبّاس عن اليمامة وولّى مكانه الفضل بن صالح، وعزل مطرا مولى المنصور عن مصر
__________
[1] قلعة بسنام: ابن الأثير ج 6 ص 39.(3/260)
وولّى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان. وعزل عبد الصمد بن علي عن المدينة وولّى مكانه محمد بن عبد الله الكثيريّ ثم عزله وولّى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان، ثم عزله وولّى مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وتوفي معبد بن الخليل عامل السّند فولّى مكانه روح بن حاتم بإشارة وزيره أبي عبد الله. وتوفي حميد بن قحطبة بخراسان فولّى عليها مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، ثم سخطه سنة ستين فعزله، وولّى معاذ بن مسلم. وولّى على سجستان حمزة بن يحيى وعلى سمرقند جبريل بن يحيى فبنى سورها وحصّنها وكان على اليمن رجاء بن روح وولّى على قضاء الكوفة شريك [1] وولّى على فارس والأهواز ودجلة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن ثم عزله وولّى مكانه محمد بن سليمان، وولى على السّند بسطام بن عمر وولّى على اليمامة بشر بن المنذر وفي سنة إحدى وتسعين [2] ولّى على السّند محمد بن الأشعث واستقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، وولّى مكانه عبد الصمد بن علي، وولّى عيسى بن لقمان على مصر ويزيد بن منصور على سواد الكوفة وحسّان السروري على الموصل وبسطام بن عمر والثعلبي على أذربيجان، وعزله عن السّند. وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة فولّى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتبا للرشيد، فصرفه وجعل مع الهادي، وجعل هو مع هارون يحيى ابن خالد وعزل محمد بن سليمان أبا ضمرة عن مصر وولّى مكانه سليمان بن رجاء، وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحاق بن منصور. وفي سنة ست وستين عزل علي بن سليمان عن اليمن وولّى مكانه عبد الله بن سليمان، وعزل مسلمة بن رجاء عن مصر وولّى مكانه عيسى بن لقمان ثم عزله لأشهر. وولّى مكانه مولاه واضحا، ثم عزله وولّى مكانه يحيى الحريشيّ، وكان على طبرستان عمر بن العلاء وسعيد بن دعلج وعلى جرجان مهليل بن صفوان ووضع ديوان الأرمة وولى عليها عمر بن يزيع مولاه.
العهد للهادي وخلع عيسى
كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 41: «وعلى احداث الكوفة إسحاق بن الصّباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك.
[2] حسب مقتضى السياق احدى وستين، راجع ابن الأثير ج 6 ص 55.(3/261)
العهد والبيعة لموسى الهادي بن المهدي، ونمي ذلك إلى المهدي فسرّ به واستقدم عيسى بن موسى من منزله بالرحبة من أعمال الكوفة فامتنع من القدوم. فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم وأوصاه بالإضرار فلم يجد سبيلا إلى ذلك. وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد. وبعث إليه المهدي يتهدّده فلم يجب، ثم بعث عمه العبّاس يستقدمه فلم يحضر، فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه، وقدم على عسكر المهدي وأقام أياما يختلف إليه ولا يكلّم بشيء. وحضر الدار يوما وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه فثاروا به وأغلق الباب الّذي كان خلفه فكسروه، وأظهر المهدي النكير عليهم فلم يرجعوا إلى أن كاشفه أكابر أهل بيته وأشدّهم محمد بن سليمان واعتذر بالإيمان التي عليه. فأحضر المهدي القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجيّ، فأفتوه بمخارج الإيمان وخلع نفسه وأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم [1] وضياعا بالزّاب وكسكر وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد. ثم جلس المهدي من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع.
فتح باربد من السند
وبعث المهدي سنة تسع وخمسين عبد الملك بن شهلب المسمعي في جمع كثير من الجند والمقطوعة إلى بلاد الهند فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض الهند، وفتحوا باربد فافتتحوها عنوة، ولجأ أهلها إلى البدّ فأحرقوه عليهم فاحترق بعض وقتل الباقون، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون وأقاموا بعض أيام إلى أن يطيب الريح فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم إبراهيم بن صبيح. ثم ركبوا البحر إلى فارس فلما انتهوا إلى ساحل حرّان عصفت بهم الريح فانكسرت عامّة مراكبهم وغرق الكثير منهم.
حج المهدي
وفي سنة ستين حج المهدي واستخلف على بغداد ابنه الهادي، وخاله يزيد بن منصور، واستصحب ابنه هارون وجماعة من أهل بيته، وكان معه الوزير يعقوب بن
__________
[1] عشرة آلاف ألف درهم: ابن الأثير ج 6 ص 45 وهو الأصح.(3/262)
داود، فجاء في مكة بالحسن بن إبراهيم الّذي ضمنه على الأمان فوصله المهدي وأقطعه. ولما وصل إلى مكّة اهتمّ بكسوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها. وكانت فيها كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وقسّم مالا عظيما هنالك في مصارف الخير فكان منه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائة ألف دينار ففرّق ذلك كله، وفرّق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسّع المسجد، ونقل خمسمائة من الأنصار إلى العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق. ولما رجع أمر ببناء القصور بطريق مكة أوسع من قصور المنصور من القادسية إلى زبالة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منها منهل، وبتحديد الأميال وحفر الآبار، وولى على ذلك بقطير بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتصغير المنابر إلى مقدار منبر النّبي صلى الله عليه وسلم. وأمر في سنة سبع وستين بالزيادة في الحرمين على يد بقطير فدخلت فيه دور كثيرة، ولم يزل البناء فيهما إلى وفاة المهدي.
نكبة الوزير أبي عبد الله
كان أبو عبد الله الأشعري قد اتصل بالمهديّ أيام أبيه المنصور فلطفت عنده منزلته واستوزره وسار معه إلى خراسان وعظمت به بطانة المهديّ فأكثروا فيه السعاية، وكان الربيع يدرأ عنه ويعرض كتبه على المنصور ويحسن القول فيه. فكتب المنصور إلى المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيه السعاية، ولما مات المنصور قام الربيع ببيعة المهدي، وقدموا إلى بغداد جاء الربيع إلى باب أبي عبد الله قبل المهدي وقبل أهله فعذله ابنه الفضل على ذلك، فقال: هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله، وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أو تمنن بذلك في نفسك. فلما وقف ببابه أمهله طويلا من المغرب إلى العشاء ثم أذن له فدخل عليه وهو متكئ فلم يجلس ولا أقبل عليه. وشرع الربيع يذكر أمر البيعة فكفه وقال: قد بلغنا أمركم.
فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب. فقال له:
ليس الصواب إلّا ما عملته، ولكن والله لأنفقنّ مالي وجاهي في مكروهة، وجدّ في السعاية فيه فلم يجد طريقا إليها لاحتياطه في أمر دينه وأعماله. فأتاه من قبل ابنه محمد ودسّ إلى المهدي بعرضه لحرمة وأنه زنديق، حتى لا استحكمت التهمة فيه أحضره(3/263)
المهدي في غيبة من أبيه، ثم قال له: اقرأ فلم يحسن فقال لأبيه: ألم تقل أنّ ابنك يقرأ القرآن؟ فقال: فارقني منذ سنين وقد نسي، فأمر به المهدي فقتل. واستوحش من أبي عبد الله وساءت منزلته إلى أن كان من أمره ما نذكره وعزله عن ديوان الرسائل وردّه إلى الربيع، وارتفعت منزلة يعقوب بن داود عند المهدي وعظم شأنه وأنفذ عهده إلى جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب، وكان لا ينفذ كتاب المهدي حتى يكتب يعقوب إلى يمينه بإنفاذ ذلك.
ظهور دعوة العباسية بالأندلس وانقطاعها
وفي سنة إحدى وستين أجاز عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ من إفريقية إلى الأندلس داعية لبني العباس، ونزل بساحل مرسية، وكاتب سليمان بن يقطن [1] عامل سرقسطة في طاعة المهدي فلم يجبه. وقصد بلاده فيمن معه من البربر فهزمه سليمان وعاد إلى تدبير [2] . وسار إليه عبد الرحمن صاحب الأندلس وأحرق السفن في البحر تضييقا على ابن حبيب في النجاة فاعتصم بجبل منيع بنواحي بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر وحمل رأسه إليه فأعطاه ألف دينار وذلك سنة اثنتين وستين. وهمّ عبد الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلس على العدوة الشمالية لأخذ ثأره فعصى عليه سليمان بن يقطن والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك.
غزو المهدي
تجهّز المهدي سنة ثلاث وستين لغزو الروم وجمع الأجناد من خراسان ومن الآفاق وتوفي عمه عيسى بن علي آخر جمادى الأخيرة بعسكره، وسار من الغد واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب هارون، ومرّ في طريقه بالجزيرة والموصل، فعزل عبد الصمد بن علي وحبسه ثم أطلقه سنة ست وستين. ولما جاز ببني مسلمة بن عبد الملك ذكّره عمه العباس بما فعله مسلمة مع جدّهم محمد بن عليّ، وكان أعطاه مرّة في اجتيازه عليه ألف دينار فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأعطاهم عشرين ألف دينار وأجرى عليهم الأرزاق، وعبر الفرات إلى حلب، فأقام بها وبعث ابنه
__________
[1] سليمان بن يقظان: ابن الأثير ج 6 ص 54.
[2] تدمير: ابن الأثير ج 6 ص 54.(3/264)
هارون للغزو وأجاز معه الدروب إلى جيحان مشيّعا، وبعث معه عيسى بن موسى وعبد الملك بن صالح والحسن بن قحطبة والربيع بن يونس ويحيى بن خالد بن برمك وكان إليه أمر العسكر والنفقات، وحاصروا حصن سمالوا أربعين يوما ثم فتحوه بالأمان وفتحوا بعده فتوحات كثيرة، وعادوا إلى المهدي وقد أثخن في الزنادقة وقتل من كان في تلك الناحية منهم. ثم قفل إلى بغداد ومرّ ببيت المقدس وصلّى في مسجده ورجع إلى بغداد.
العهد لهارون
وفي سنة ست وستين أخذ المهدي البيعة لابنه هارون بعد أخيه الهادي ولقبه الرشيد.
نكبة الوزير يعقوب بن داود
كان أبو داود بن طهمان كاتبا لنصر بن سيّار هو وإخوته وكان شيعيّا وعلى رأي الزيديّة ولما خرج يحيى بن زيد بخراسان كان يكاتبه بأخبار نصر فأقصاه نصر، فلما طلب أبو مسلم بدم يحيى جاءه داود فأمّنه في نفسه وأخذ ما اكتسبه من المال أيام نصر، وأقام بعد ذلك عاطلا. ونشأ له ولد أهل أدب وعلم وصحبوا أولاد الحسن. وكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله فورثوا ذلك عنه، ولما قتل إبراهيم طلبهم المنصور وحبس يعقوب وعليّا مع الحسن بن إبراهيم حتى توفي، وأطلقهما المهدي بعده مع من أطلق.
وداخله المهدي في أمر الحسن لما فرّ من الحبس فكان ذلك سببا لوصلته بالمهديّ حتى استوزره، فجمع الزيديّة وولّاهم شرقا وغربا وكثرت السعاية فيه من البطانة بذلك وبغيره وكان المهدي يقبل سعايتهم حتى يروا أنها قد تمكنت، فإذا غدا عليه تبسّم وسأله. وكان المهدي مشتهرا بالنساء فيخوض معه في ذلك وفيما يناسبه ويتغلّب برضاه وسامره في بعض الليالي وجاء ليركب دابّته وقد نام الغلام، فلما ركب نفرت الدابة من قعقعة ردائه فسقط ورمحته فانكسر فانقطع عن المهدي وتمكن أعداؤه من السعاية حتى سخطه وأمر به فحبس وحبس عمّاله وأصحابه. ويقال بل دفع إليه علويّا ليقتله فأطلقه، ونمي ذلك إلى المهدي فأرسل من أحضره، وقال ليعقوب أين العلويّ؟ فقال: قتلته فأخرجه إليه حتى رآه. ثم حبس في المطبق ودلّي في بئر فيه.
وبقي أيام المهدي والهادي ثم أخرج وقد عمي وسأل من الرشيد المقام بمكة فأذن له.
وقيل في سبب تغيّره أنه كان ينهى المهدي عن شرب أصحابه النبيذ عنده، ويكثر(3/265)
عليه في ذلك ويقول: أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ لا والله لا على هذا استوزرتني ولا عليه صحبتك!
مسير الهادي إلى جرجان
وفي سنة سبع وستين عصى وتداهر من شرو بن ملكا طبرستان [1] من الديلم فبعث المهدي ولي عهده موسى الهادي وجعل على جنده محمد بن حميد [2] وعلى حجابته نفيعا مولى المنصور وعلى حرسه عيسى بن ماهان وعلى رسائله أبان بن صدقة وتوفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد [3] . فسار المهدي وبعث الجنود في مقدمته وأمّر عليهم يزيد فحاصرهما حتى استقاما وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان وما كان إليه وولّى مكانه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه ثم بعث سنة ثمان وستين يحيى الحريشيّ في أربعين ألفا إلى طبرستان.
العمال بالنواحي
وفي سنة ثلاث وستين ولّى المهدي ابنه هارون على المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى وعلى الرسائل يحيى بن خالد بن برمك وعزل زفر بن عاصم عن الجزيرة وولّى مكانه عبد الله بن صالح، وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولّى مكانه المسيّب بن زهير الضبيّ، وعزل يحيى الحريشيّ عن أصبهان وولّى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان وولّى مكانه عمر بن العلاء، ومهلهل بن صفوان عن جرجان وولّاها هشام بن سعيد.
وكان على الحجاز واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى الكوفة إسحاق بن الصّباح، وعلى البحرين والبصرة وفارس والأهواز محمد بن سليمان، فعزله سنة أربع وستين وولّى مكانه صالح بن داود. وكان على السّند محمد بن الأشعث. وفي سنة خمس وستين عزل خلف بن عبد الله عن الريّ وولاها عيسى مولى جعفر، وولّى على البصرة روح بن حاتم وعلى البحرين وعمان والأهواز وفارس وكرمان النعمان مولى المهدي. وعزل محمد بن الفضل عن الموصل وولّى مكانه أحمد بن إسماعيل. وفي سنة ست وستين
__________
[1] ونّداد هرمز وشروين صاحبي طبرستان: ابن الأثير ج 6 ص 75.
[2] محمد بن حميل: المرجع السابق.
[3] ابا خالد الأحول: ابن الأثير ج 6 ص 76.(3/266)
عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة واستقضى مكانه خالد بن طليق ابن عمران بن حصين فاستعفى أهل البصرة منه. وولّى المهدي على قضائه أبا يوسف حين سار إلى جرجان. واضطربت في هذه السنة خراسان على المسيّب بن زهير فولّاها أبا العباس الفضل بن سليمان الطوسيّ، وأضاف إليه سجستان، فولّى هو على سجستان سعيد بن دعلج. وولّى على المدينة إبراهيم ابن عمه وعزل منصور بن يزيد عن اليمن وولّى مكانه عبد الله بن سليمان الربعيّ. وكان على مصر إبراهيم بن صالح وتوفي في هذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة وهي سنة سبع وستين. وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان والرويان وما كان إليه وولّاه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه. وحج بالناس إبراهيم ابن عمه يحيى وهو على المدينة ومات بعد قضاء الحج، فولّى مكانه إسحاق بن موسى بن علي وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثيّ وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري وعلى البصرة محمد بن سليمان وعلى قضائها عمر بن عثمان التميمي وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي. وقتل موسى بن كعب ووقع الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطرق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة.
الصوائف
وفي سنة تسع وخمسين أغزى المهدي عمه العبّاس بالصائفة وعلى مقدمته الحسن الوصيف فبلغوا أهرة [1] وفتحوا مدينة أوهرة ورجعوا سالمين ولم يصب من المسلمين أحد. وفي سنة إحدى وستين غزا بالصائفة يمامة بن الوليد [2] فنزل دابق وجاشت الروم مع ميخاييل في ثمانين ألفا ونزل عمق مرعش فقتل وسبى وغنم، وحاصر مرعش وقتل من المسلمين عددا، وانصرف إلى جيحان فكان عيسى بن عليّ مرابطا بحصن مرعش فعظم ذلك على المهديّ وتجهّز لغزو الروم. وخرجت الروم سنة اثنتين وستين إلى الحرث [3] فهدموا أسوارها وغزا بالصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة فبلغ جهة أدرركبه [4] وأكثر التحريق والتخريق ولم يفتح حصنا ولا لقي
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 41: أنقرة.
[2] ثمامة بن الوليد: ابن الأثير، ج 6 ص 55
[3] الحدث: ابن الأثير ج 6 ص 58.
[4] حمّة ازرولية: المرجع السابق.(3/267)
جمعا ورجع بالناس سالما. وغزا يزيد بن أسيد السلميّ من ناحية قاليقلا فغنم وسبى وفتح ثلاثة حصون. ثم غزا المهدي بنفسه سنة ثلاث وستين كما مرّ ثم غزا سنة أربع وستين عبد الكبير بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب من درب الحرث فخرج إليه ميخاييل وطارد الأرمني [1] البطريقان في تسعين الفا فحام عن لقائهم ورجع بالناس، فغضب عليه المهدي وهمّ بقتله فشفع فيه وحبسه. وفي سنة خمس وستين بعث المهدي ابنه هارون بالصائفة وبعث معه الربيع فتوغّل في بلاد الروم ولقيه عسكر نقيطا من القواميس فبارزه يزيد بن مزيد فهزمهم، وغلب على عسكرهم ولحقوا بالدمشق [2] صاحب المسالح، فحمل لهم مائتي ألف دينار واثنتين وعشرين ألف درهم، وسار الرشيد بعساكره وكانت نحوا من مائة ألف فبلغ خليج قسطنطينية وعلى الروم يومئذ غسطة [3] امرأة إليوك كافلة لابنها منه صغيرا، فجرى الصلح على الفدية وأن تقيم له الأدلّاء والأسواق في الطريق لأنّ مدخله كان ضيّقا مخوفا فأجابت لذلك، وكان مقدار الفدية سبعين ألف دينار كل سنة ومدّة الصلح ثلاث سنين وكان ما سباه المسلمون قبل الصلح خمسة آلاف رأس وستمائة رأس وقتل من الروم في وقائع هذه الغزوات أربعة وخمسون ألفا ومن الأسرى ألفان. ثم نقض الروم هذا الصلح سنة ثمان وستين ولم يستكملوا مدّته بقي منها أربعة أشهر وكان على الجزيرة وقنّسرين علي ابن سليمان فبعث يزيد بن البدر بن البطّال في عسكر فغنموا وسبوا وظفروا ورجعوا.
وفاة المهدي وبيعة الهادي
وفي سنة تسع وستين اعتزم المهدي على خلع ابنه موسى الهادي من العهد والبيعة للرشيد به، وتقديمه على الهادي وكان بجرجان فبعث إليه بذلك فاستقدمه فضرب الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي فلما بلغ ماسبدان توفي هنالك. يقال مسموما من بعض جواريه، ويقال سمّت إحداهما الأخرى في كثرى فغلط وأكلها ويقال حاز صيدا فدخل وراءه إلى خربة فدق الباب ظهره وكان موته في المحرّم وصلى عليه ابنه الرشيد وبويع ابنه موسى الهادي لما بلغه موت أبيه وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان. وكان الرشيد لما توفي المهدي والعسكر بماسبدان نادى في الناس بإعطاء
__________
[1] طاراذ الارمني: ابن الأثير ج 6 ص 63
[2] الدمستق: ابن الأثير ج 6 ص 66
[3] عطسة امرأة أليون: ابن الأثير ج 6 ص 66(3/268)
تسكينا وقسم فيهم مائتين مائتين، فلما استوفوها تنادوا بالرجوع إلى بغداد وتشايعوا إليها واستيقنوا موت المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه وطالبوا بالأرزاق ونقبوا السجون.
وقدم الرشيد بغداد في أثرهم فبعثت الخيزران إلى الربيع فامتنع يحيى خوفا من غيرة الهادي وأمرت الربيع بتسكين الجند فسكنوا وكتب الهادي إلى الربيع يتهدّده فاستشار يحيى في أمره وكان يثق بودّه فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه وتصحبه الهدايا والتحف ففعل ورضى الهادي عنه وأخذت البيعة ببغداد للهادي. وكتب الرشيد بذلك إلى الآفاق وبعث نصيرا الوصيف إلى الهادي بجرجان فركب اليزيد إلى بغداد فقدمها في عشرين يوما. فاستوزر الربيع وهلك لمدّة قليلة من وزارته. واشتدّ الهادي في طلب الزنادقة وقتلهم، وكان منهم عليّ بن يعطى ويعقوب بن الفضل من ولد ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، كان قد أقرّ بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان مقسما أن لا يقتل هاشميّا فحبسه وأوصى الهادي بقتله وبقتل ولد عمهم داود بن علي فقتلهما (وأمّا عماله) فكان على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلى مكّة والطائف عبد الله بن قثم وعلى اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة وعلى اليمامة والبحرين سويد القائد الخراساني وعلى عمان الحسن بن سليم الحواري وعلى الكوفة موسى بن عيسى بن موسى، وعلى البصرة ابن سليمان وعلى جرجان الحجّاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسّان وعلى طبرستان والرّويان صالح بن عمير مولى [1] وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد، وعزله الهادي لسوء سيرته وولّى مكانه عبد الملك وصالح بن علي (وأمّا الصائفة) فغزا بها في هذه السنة وهي سنة تسع وتسعين معيوب [2] بن يحيى وقد كان الروم خرجوا مع بطريق لهم إلى الحرث فهرب الوالي ودخلها الروم وعاثوا فيها فدخل معيوب وراءهم من درب الراهب وبلغ مدينة استة وغنم وسبى وعاد.
ظهور الحسين المقتول بفتح [3]
وهو الحسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط، كان الهادي
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 32: صالح بن عميرة الاسدي وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي.
[2] معيوف بن يحيى: ابن الأثير ج 6 ص 94، الطبري ج 10 ص 32
[3] المقتول بفخ: ابن الأثير ج 6 ص 90، الطبري ج 10 ص 24(3/269)
قد استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز كما مرّ فأخذ يوما الحسن بن المهدي بن محمد بن عبد الله بن الحسين الملقّب أبا الزفت، ومسلم بن جندب الهذليّ الشاعر، وعمر بن سلام مولى العمريين على شراب لهم، فضربهم وطيف بهم بالمدينة بالحبال في أعناقهم، وجاء الحسين إليه فشفع فيهم وقال: ليس عليهم حدّ فإنّ أهل العراق لا يرون به بأسا وليس من الحدّ أن نطيفهم فحبسهم. ثم جاء ثانية ومعه من عمومته يحيى بن عبد الله بن الحسن صاحب الديلم بعد ذلك فكفلاه وأطلقه من الحبس. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضا ويعرضون فغاب الحسن عن العرض يومين، فطلب به الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله كافليه وأغلظ لهما، فحلف يحيى أنه يأتي به من ليلته أو يدق عليه الباب يؤذنه به. وكان بين الطالبيين ميعاد للخروج في الموسم فأعجلهم ذلك عنه وخرجوا من ليلتهم. وضرب يحيى على العمري في باب داره بالسيف واقتحموا المسجد فصلوا الصبح وبايع الناس الحسين المرتضى من آل محمد على كتاب الله وسنّة رسوله. وجاء خالد اليزيدي في مائتين من الجند والعمري وابن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد في ناس كثيرين فقاتلوهم وهزموهم من المسجد، واجتمع يحيى وإدريس بن عبد الله بن حسن فقتلاه وانهزم الباقون وافترق الناس.
وأغلق أهل المدينة أبوابهم وانتهب القوم من بيت المال بضعة عشر ألف دينار وقيل سبعين ألفا، واجتمعت شيعة بني العبّاس من الغد وقاتلوهم إلى الظهر وفشت الجراحات وافترقوا. ثم قدم مبارك التركيّ من الغد حاجا فقاتل مع العبّاسية إلى منتصف النار وافترقوا، وواعدهم مبارك الرواح إلى القتال واستغفلهم وركب رواحله راجعا واقتتل الناس المغرب ثم افترقوا. ويقال إنّ مباركا دسّ إلى الحسين بذلك تجافيا عن أذية أهل البيت، وطلب أن يأخذ له عذرا في ذلك بالبيات فبيته الحسين واستطرد له راجعا. وأقام الحسين وأصحابه بالمدينة واحدا وعشرين يوما آخر ذي القعدة، ولما بلغها نادى في الناس بعتق من أتى إليه من العبيد فاجتمع إليه جماعة.
وكان قد حجّ تلك السنة رجال من بني العبّاس منهم سليمان بن المنصور ومحمد بن سليمان بن علي والعبّاس بن محمد بن علي وموسى وإسماعيل أبناء عيسى بن موسى. ولما بلغ خبر الحسين إلى الهادي كتب إلى محمد بن سليمان وولّاه على حربه وكان معه رجال وسلاح وقد أغذ بهم عن البصرة خوف الطريق، فاجتمعوا بذي طوى، وقدموا مكة فحلّوا من العمرة التي كانوا أحرموا بها. وانضمّ إليهم من حجّ من شيعتهم(3/270)
ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا يوم التروية، فانهزم الحسين وأصحابه وقتل كثير منهم، وانصرف محمد بن سليمان وأصحابه إلى مكة ولحقهم بذي طوى رجل من خراسان برأس الحسين ينادي من خلفهم بالبشارة، حتى ألقى الرأس بين أيديهم مضروبا على قفاه وجبهته، وجمعت رءوس القتلى فكانت مائة ونيفا وفيها رأس سليمان أخي المهدي ابن عبد الله، واختلط المنهزمون بالحاج. وجاء الحسن بن المهدي أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعبّاس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى وقتله وغضب محمد بن سليمان من ذلك وغضب الهادي لغضبه وقبض أمواله وغضب على مبارك التركي وجعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات الهادي. وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله أخو المهدي فأتى مصر وعلي يريدها، وأصبح مولى صالح بن المنصور وكان يتشيع لآل عليّ فحمله على البريد إلى المغرب ووقع بمدينة وليلة من أعمال طنجة واجتمع البريد على دعوته وقتل الهادي وأصحابه بذلك وصلبه [1] وكان لإدريس وابنه إدريس وأعقابهم حروب نذكرها بعده.
حديث الهادي في خلع الرشيد
كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره، وكان رأى في منامه أنه دفع إليهما قضيين فأورق قضيب الهادي من أعلاه وأورق قضيب الرشيد كله، وتأوّل ذلك بقصر مدّة الهادي وطول مدّة الرشيد وحسنها. فلما ولي الهادي أجمع خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر مكانه، وفاوض في ذلك قوّاده فأجابه يزيد بن مزيد وعلي بن عيسى وعبد الله بن مالك، وحرّضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه ويقولوا لا نرضى به، ونهى الهادي أن يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولّى أموره فاتهمه الهادي بمداخلته وبعث إليه وتهدّده فحضر عنده مستميتا وقال:
يا أمير المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي! فسكن غضبه وقال له في أمر الخلع فقال: يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت بعده كان ذلك أوثق للبيعة، فصدّقه وسكت عنه،
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 93: «وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ، فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور، وكان شيعيا لعليّ، فحمله على البريد الى ارض المغرب، فوقع بأرض طنجة، بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر. فضرب الهادي عنق واضح وصلبه» .(3/271)
وعاد أولئك الذين جفلوه من القوّاد والشيعة فأغروه بيحيى وأنه الّذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي فطلب الحضور للنصيحة، وقال له يا أمير المؤمنين أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو صبي ويرضون به لصلاتهم وحجّهم وغزوهم، وتأمن أن يسمو إليها عند ذلك أكابر أهل بيتك فتخرج من ولد أبيك، والله لو لم يعقده المهدي لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذرا من ذلك، وإني أرى أن تعقده لأخيك، فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له فقبل الهادي قوله وأطلقه. ولم يقنع القوّاد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك وضيّق عليه واستأذنه في الصيد فمضى إلى قصر مقاتل ونكره الهادي وأظهر خفاءه [1] وبسط الموالي والقوّاد فيه ألسنتهم.
وفاة الهادي وبيعة الرشيد
ثم خرج الهادي إلى حديقة الموصل فمرض واشتدّ مرضه هنالك واستقدم العمّال شرقا وغربا. ولما ثقل تآمر القوّاد الذين بايعوا جعفرا في قتل يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفا من الهادي. ثم توفي الهادي في شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة، وقيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل. ويقال إنّ أمّه الخيزران وصت بعض الجواري عليه فقتلته لأنها كانت أوّل خلافته تستبد عليه بالأمور فعكف الناس واختلفت المواكب، ووجد الهادي لذلك فكلمته يوما في حاجة فلم يجبها فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وشتمه وحلف لاقضيتها فقامت مغضبة، فقال:
مكانك وإلّا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لئن بلغني أنّ أحدا من قوّادي وخاصتي وقف ببابك لأضربنّ عنقه ولأقبضنّ ماله، ما للمواكب تغدو وتروح عليك؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟
إياك إياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمّي! فانصرفت وهي لا تعقل. ثم قال لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدّث الرجال بخبر أمّه، ويقال فعلت أمّ فلان وصنعت؟ فقالوا لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمّي فتتحدّثون معها؟
فيقال: إنه لما جدّ في خلع الرشيد خافت عليه منه، فلما ثقل مرضه وصت بعض الجواري فجلست على وجهه فمات، وصلى عليه الرشيد. وجاء هرثمة بن أعين إلى
__________
[1] لعلها جفاءه حسب مقتضى السياق.(3/272)
الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، وأحضر يحيى فاستوزره وكتب إلى الأطراف بالبيعة. وقيل: إنّ يحيى هو الّذي جاءه وأخرجه فصلى على الهادي ودفنه [1] إلى يحيى وأعطاه خاتمه. وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أمّ الرشيد. وعزل لأوّل خلافته عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة وولّى مكانه إسحاق بن سليمان، وتوفي يزيد بن حاتم عامل إفريقية، فولّى مكانه روح بن حاتم، ثم توفي فولّى مكانه ابنه الفضل، ثم قتل فولّى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار إفريقية. وأفرد الثغور كلها عن الجزيرة وقنّسرين وجعلها عمالة واحدة وسمّاها العواصم، وأمره بعمارة طرسوس ونزلها الناس. وحجّ لأوّل خلافته وقسّم في الحرمين مالا كثيرا. وأغزى بالصائفة سليمان بن عبد الله البكائي، وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البحرين والبصرة واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي، وعلى خراسان أبو الفضل العبّاس بن سليمان الطوسي ثم عزله وولّى مكانه جعفر بن محمد بن الأشعث. فسار إلى خراسان وبعث ابنه العبّاس إلى كابل فافتتحها وافتتح سابهار وغنم ما كان فيها. ثم استقدمه الرشيد فعزله وولّى مكانه ابنه العبّاس، وكان على الموصل عبد الملك بن صالح فعزله وولّى مكانه إسحاق بن محمد بن فروخ، فبعث إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلى بغداد وقتله، وولّى مكانه [2] وكان على أرمينية يزيد بن مزيد بن زائدة بن أخي معن فعزله وولىّ مكانه أخاه عبد الله بن المهدي. وولّى سنة إحدى وسبعين على صدقات بني ثعلب [3] روح بن صالح الهمدانيّ فوقع بينه وبين ثعلب خلاف وجمع لهم الجموع فبيتوه وقتلوه في جماعة من أصحابه. وتوفي سنة ثلاث وسبعين محمد بن سليمان والي البصرة وكان أخوه جعفر كثير السعاية فيه عند الرشيد وأنه يحدّث نفسه بالخلافة! وأنّ أمواله كلها فيء من أموال المسلمين
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 106: وقيل لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في فراشه فقال له: قم يا أمير المؤمنين! فقال: كم تروعني! إعجابا منك بخلافتي، فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا؟ فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه، فبينما هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشّره بمولود، فسمّاه عبد الله وهو المأمون، ولبس ثيابه وخرج، فصلّى على الهادي بعيساباذ.
[2] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 50: «وفيها قتل هارون ابا هريرة محمد بن فروخ وكان على الجزيرة، فوجه اليه هارون ابا حنيفة حرب بن قيس فقدم به عليه مدينة السلام فضرب عنقه في قصر الخلد» . ابن الأثير ج 6 ص 113- 114.
[3] بني تغلب: ابن الأثير ج 6 ص 113(3/273)
فاستصفاها الرشيد وبعث من قبضها، وكان لا يعبر عنها من المال والمتاع والدواب، واحضروا من العين فيها ستين ألف ألف دينار ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء. وتوفي سنة أربع وسبعين والي الرشيد إسحاق بن سليمان على السّند ومكران، واستقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه، وفي سنة خمس وسبعين عقد لابنه محمد بن زبيدة ولاية العهد ولقّبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين بسعاية خاله عيسى بن جعفر بن المنصور ووساطة الفضل بن يحيى، وفيها عزل الرشيد العبّاس بن جعفر عن خراسان وولّاها خاله الغطريف بن عطاء الكنديّ.
خبر يحيى بن عبد الله في الديلم
وفي سنة خمس وسبعين خرج يحيى بن عبد الله بن حسن أخو المهدي بالديلم واشتدّت شوكته وكثر جمعه وأتاه الناس من الأمصار فندب اليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفا وولاه جرجان وطبرستان والري وما إليها ووصل معه الأموال فسار ونزل بالطالقان وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله وكتب إلى صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهادة الفقهاء والقضاة واجلة بني هاشم ومشايخهم عن عبد الصمد منهم فكتب له الرشيد بذلك وبعثه مع الهدايا والتحف وقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأفاض عليه العطاء وعظمت منزلة الفضل عنده ثم أنّ الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في حبسه.
ولاية جعفر بن يحيى مصر
كان موسى بن عيسى قد ولاه الرشيد مصر فبلغه أنه عازم على الخلع فردّ أمرها إلى جعفر بن يحيى وأمره بإحضار عمر بن مهران وأن يولّيه عليها، وكان أحول مشوّه الخلق خامل البزّة يردف غلامه خلفه. فلما ذكرت له الولاية قال على شرطيّة أن يكون أمري بيدي إذا صلحت البلاد انصرفت فأجابه إلى ذلك. وسار إلى مصر وأتى مجلس موسى فجلس في أخريات الناس حتى إذا افترقوا رفع الكتاب إلى موسى فقرأه وقال: متى يقدم أبو حفص؟ فقال: أنا أبو حفص! فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: أليس لي ملك مصر ثم سلّم له العمل. فتقدّم عمر إلى كاتبه أن لا(3/274)
يقبل من الهدية إلا ما يدخل في الكيس، فبعث الناس بهداياهم وكانوا يمطلون بالخراج. فلما حضر النجم الأوّل والثاني وشكوا الضيق في الثالث أحضر الهدايا وحسبها لأربابها واستوفى خراج مصر ورجع إلى بغداد.
الفتنة بدمشق
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية ورأس المضريّة أبو الهيدام عامر بن عمارة من ولد خارجة بن سنان بن أبي حارثة المرّيّ، وكان أصل الفتنة بين القيس وبين اليمانية أنّ اليمانية قتلوا منهم رجلا فاجتمعوا لثأره، وكان على دمشق عبد الصّمد بن علي فجمع كبار العشائر ليصلحوا بينهم فأمهلتهم اليمانية وبيتوا المضريّة فقتلوا منهم ثلاثمائة أو ضعفها، فاستجاشوا بقبائل قضاعة وسليم فلم ينجدوهم وأنجدتهم قيس، وساروا معهم إلى البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة وطال الحرب بينهم. وعزل عبد الصّمد عن دمشق وولّى مكانه إبراهيم بن صالح بن عليّ. ثم اصطلحوا بعد سنين ووفد إبراهيم على الرشيد وكان هواه مع اليمانية فوقع في قيس عند الرشيد واعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر واستخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم. ثم وثبت غسّان برجل من ولد قيس بن العبسيّ فقتلوه، واستنجد أخوه بالدواقيل من حوران فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفرا. ثم وثبت اليمانية بكليب بن عمر بن الجنيد بن عبد الرحمن وعنده ضيف له فقتلوهم، فجاءت أمّ الغلام سابّة إلى أبي الهيدام، فقال انظريني حتى ترفع دماؤنا إلى الأمير، فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها. وبلغ ذلك إسحاق وحضر عنده أبو الهيدام فلم يأذن له ثم قتل بعض الدواقيل رجلا من اليمانية وقتلت اليمانية رجلا من سليم ونهبوا جيران محارب، وركب أبو الهيدام معهم إلى إسحاق فوعده بالنظر لهم، وبعث إلى اليمانية يغريهم به فاجتمعوا وأتوا إلى باب الجابية فخرج إليهم أبو الهيدام وهزمهم واستولى على دمشق وفتح السجون. ثم اجتمعت اليمانيّة واستنجدوا كلبا وغيرهم فاستمدّوهم، واستجاش أبو الهيدام المضريّة فجاءوه وهو يقاتل اليمانية عند باب توما فهزمهم أربع مرّات. ثم أمره إسحاق بالكفّ وبعث إلى اليمانيّة يخبرهم بغرّته، وجاء الخبر وركب وقاتلهم فهزمهم، ثم هزمهم أخرى على باب توما. ثم جمعت اليمانيّة أهل الأردنّ والجولان من كلب وغيرهم فأرسل من يأتيه بالخبر فأبطئوا ودخل المدينة فأرسل إسحاق من دلّهم على مكمنه وأمرهم بالعبور إلى(3/275)
المدينة، فبعث من أصحابه من يأتيهم من ورائهم فانهزموا. ولما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود عند قصر الحجّاج وجاء أصحاب الهيدام من أراد نهب القرى التي لهم بنواحي دمشق. ثم سألوا الأمان من أبي الهيدام فأمّنهم وسكن الناس.
وفرّق أبو الهيدام أصحابه وبقي في نفر يسير من أهل دمشق، فطمع فيه إسحاق وسلّط عليه العذافر السكسكيّ مع الجنود فقاتلهم فانهزم العذافر وبقي الجند يحاربونه ثلاثا.
ثم إنّ إسحاق قاتله في الثالثة والجند في اثني عشر ألفا ومعهم اليمانية، فخرج أبو الهيدام من المدينة وقاتلهم على باب الجابية حتى أزالهم عنه. ثم أغار جمع من أهل حمص على قرية لأبي الهيدام فقاتلهم أصحابه وهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأحرقوا قرى وديارا لليمانيّة في الغوطة، ثم توادعوا سبعين يوما أو نحوها وقدم السّندي في الجنود من قبل الرشيد وأغزته [1] اليمانية بأبي الهيدام فبعث هو إليه بالطاعة فأقبل السّندي إلى دمشق وإسحاق بدار الحجّاج، وبعث قائده في ثلاثة آلاف وأخرج إليهم أبو الهيدام ألفا وأحجم القائد عنهم ورجع إلى السّندي فصالح أبا الهيدام وأمّن أهل دمشق. وسار أبو الهيدام إلى حوران وأقام السّندي بدمشق ثلاثا وقدم موسى بن عيسى واليا عليها فبعث الجند يأتونه بأبي الهيدام فكبسوا داره وقاتلهم هو وابنه وعبده فانهزموا وجاء أصحابه من كل جهة وقصد بصرى. ثم بعث إليه موسى فسار إليه في رمضان سنة سبع وسبعين وقيل إنّ سبب الفتنة بدمشق أنّ عامل الرشيد بسجستان قتل أخا الهيدام فخرج هو بالشام وجمع الجموع. ثم بعث الرشيد أخا له ليأتيه به فتحيّل حتى قبض عليه وشدّه وثاقا وأتى به إلى الرشيد فمنّ عليه وأطلقه. وبعث جعفر ابن يحيى سنة ثمانين إلى الشام من أجل هذه الفتن والعصبيّة فسكن الثائرة وأمّن البلاد وعاد.
فتنة الموصل ومصر
وفي سنة سبع وثمانين تغلّب العطّاف بن سفيان الأزديّ على خراسان وأهل الموصل على العامل بها محمد بن العبّاس الهاشمي وقيل عبد الملك بن صالح فاجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج وبقي العامل معه مغلبا إلى أن سار الرشيد إلى الموصل وهدم سورها ولحق العطّاف بأرمينية ثم بالرقم فاتخذها وطنا. وفي سنة ثمان وسبعين
__________
[1] لعلها أغرته.(3/276)
ثارت الحوفيّة بمصر وهم من قيس وقضاعة على عاملها إسحاق بن سليمان وقاتلوه.
وكتب الرشيد إلى هرثمة بن أعين وكان بفلسطين فسار إليهم وأذعنوا بالطاعة، وولي على مصر ثم عزله لشهر وولىّ عبد الملك بن صالح عليها. وكان على خراسان أيام المهدي والهادي أبو الفضل العبّاس بن سليمان الطوسي فعزله الرشيد، وولّى على خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعيّ فأبوه من النقباء من أهل مصر ومقدم ابنه العبّاس سنة ثلاث وسبعين، ثم قدم فغزا طخارستان وبعث ابنه العبّاس إلى كابل في الجنود وافتتح سابهار ورجع إلى مرو. ثم سار إلى العراق سنة ثلاث في رمضان وكان الأمين في حجره قبل أن يجعله في حجر الفضل بن يحيى. ثم ولىّ الرشيد ابنه العبّاس بن جعفر ثم عزله عنها فولى خالدا الغطريف بن عطاء الكنديّ سنة خمس وسبعين على خراسان وسجستان وجرجان فقدم خليفة داود بن يزيد وبعث عامل سجستان، وخرج في أيامه حصين الخارجيّ من موالي قيس بن ثعلبة من أهل أوق وبعث عامل سجستان عثمان بن عمارة الجيوش إليه فهزمهم حصين وقتل منهم وسار إلى باذغيس وبوشنج وهراة فبعث إليه الغطريف اثني عشر ألفا من الجند فهزمهم حصين وقتل منهم خلقا، ولم يزل في نواحي خراسان إلى أن قتل سنة سبع وسبعين. وسار الفضل إلى خراسان سنة ثمان وسبعين وغزا ما وراء النهر سنة ثمانين ثم ولىّ الرشيد على خراسان علي بن عيسى بن ماهان وقدم إليه يحيى [1] فأقام بها عشرين سنة وخرج عليه في ولايته حمزة بن أترك وقصد بوشنج وكان على هراة عمرويه بن يزيد الأزدي فنهض إليه في ستة آلاف فارس فهزمهم حمزة وقتل جماعة منهم ومات عمرويه في الزحام، فبعث عليّ بن عيسى ابنه الحسن في عشرة آلاف ففضّ [2] حربه فعزله، وبعث ابنه الآخر عيسى فهزمه حمزة فأمدّه بالعساكر وردّه فهزم حمزة وقتل أصحابه، ونجا إلى قهستان في أربعين وأثخن عيسى في الخوارج بارق وجوين [3] وفيمن كان يعينهم من أهل القرى حتى قتل ثلاثين ألفا. وخلف عبد الله بن العبّاس النسيقي [4] بزرنج فجبى الأموال وسار بها ومعه الصفّة ولقيه حمزة
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 68: «وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدا الرقة على طريق الوصل، فلما نزل البروان ولّى عيسى بن جعفر خراسان وعزل عنها جعفر بن يحيى وكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة» راجع ابن الأثير ج 6 ص 150.
[2] حسب مقتضى السياق فرفض حربه.
[3] أوق وجوين: ابن الأثير ج 6 ص 151.
[4] النسفي: ابن الأثير ج 6 ص 151.(3/277)
فهزموه وقتلوا عامّة أصحابه. وسار حمزة في القرى فقتل وسبى وكان عليّ قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج فخرج إلى حمزة وقصد قرية [1] ففرّ الخوارج وهم الذين يرون التحكيم ولا يقاتلون والمحكّمة هم الذين يقاتلون وشعارهم لا حكم إلا للَّه فكتب العقد إلى حمزة بالكفّ وواعدهم، ثم انتقض وعاث في البلاد وكانت بينه وبين أصحاب عليّ حروب كثيرة. ثم ولى الرشيد سنة اثنتين وثمانين ابنه عبد الله العهد بعد الأمين ولقبه المأمون وولّاه على خراسان وما يتصل بها إلى همذان واستقدم عيسى ابن علي من خراسان وردّها إليه من قبل المأمون وخرج عليه بنسا أبو الخصيب وهب ابن عبد الله النّسائي وعاث في نواحي خراسان ثم طلبه الأمان فأمّنه. ثم بلغه أنّ حمزة الخارجيّ عاث بنواحي باذغيس فقصده وقتل من أصحابه نحوا من عشرة آلاف وبلغ كل من وراء غزنة. ثم غدر أبو الخصيب ثانية وغلب أبيورد ونسا وطوس ونيسابور، وحاصر مرو وانهزم عنها وعاد إلى سرخس، ثم نهض إليه ابن ماهان سنة ست وثمانين فقتله في نسا وسبى أهله. ثم نمي إلى الرشيد سنة تسع وثمانين أنّ عليّ بن عيسى مجمع على الخلاف وأنه قد أساء السيرة في خراسان وعنّفهم، وكتب إليه كبراء أهلها يشكون بذلك، فسار الرشيد إلى الريّ فأهدى له الهدايا والكثيرة والأموال ولجميع من معه من أهل بيته وولده وكتّابه وقوّاده وتبين للرشيد من مناصحته خلاف ما أنهى إليه فردّه إلى خراسان وولّى على الري وطبرستان ودنباوند وقومس وهمذان وبعث عليّ ابنه عيسى لحرب خاقان سنة ثمان وثماني فهزمه وأسر إخوته، وانتقض على عليّ بن عيسى رافع بن اللّيث بن نصر بن سيّار بسمرقند وطالت حروبه معه وهلك في بعضها ابنه عيسى. ثم إنّ الرشيد نقم على عليّ بن عيسى أمورا منها استخفافه بالناس وإهانته أعيانهم، ودخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر فأغلظ له في القول وأفحش في السبّ والتهديد وفعل مثل ذلك بهشام بن [2] فأمّا الحسين فلحق بالرشيد شاكيا ومستجيرا وأمّا هشام فلزم بيته وادّعى أنه بعلّة الفالج حتى عزل عليّ، وكان مما نقم عليه أيضا أنه لم قتل ابنه عيسى في حرب رافع بن الليث أخبر بعض جواريه أنه دفن في بستانه ببلخ ثلاثين ألف
__________
[1] فأتى قرية فيها قعد الخوارج: ابن الأثير ج 6 ص 151.
[2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير: «فمن ذلك انه دخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين وهشام بن فرخسرو ... » ج 6 ص 203.(3/278)
دينار [1] . وتحدّث الجواري بذلك فشاع في الناس، ودخلوا البستان ونهبوا المال، وكان يشكو إلى الرشيد بقلّة المال ويزعم أنه باع حليّ نسائه. فلما سمع الرشيد هذا المال استدعى هرثمة بن أعين وقال له: ولّيتك خراسان، وكتب له بخطّه وقال له: اكتم أمرك وامض كأنك مدد. وبعث معه رجاء الخادم. فسار إلى نيسابور وولّى أصحابه فيها ثم سار إلى مرو ولقيه عليّ بن عيسى فقبض عليه وعلى أهله وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف، وبعث إلى الرشيد من المتاع وقر خمسمائة بعير وبعث إليه بعليّ بن عيسى على بعير من غير غطاء ولا وطاء، وخرج هرثمة إلى ما وراء النهر وحاصر رافع بن الليث بسمرقند إلى ان استأمن فأمّنه، وأقام هرثمة بسمرقند وكان قدم مرو سنة ثلاث وتسعين.
إيداع كتاب العهد
وفي سنة ست وثمانين حجّ الرشيد وسار من الأنبار ومعه أولاده الثالثة محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم، وكان قد ولّى الأمين العهد وولّاه العراق والشام إلى آخر.
الغرب. وولّى المأمون العهد بعده وضم إليه من همذان إلى آخر المشرق، وبايع لابنه القاسم من بعد المأمون ولقبه المؤتمن وجعل خلعه وإثباته للمأمون. وجعل في حجر عبد الملك صالح وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم. ومرّ بالمدينة فأعطاه فيها ثلاثة أعطية عطاء منه ومن الأمين ومن المأمون فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. ثم سار إلى مكة فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقوّاد وكتب كتابا أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون وآخر على المأمون بالوفاء للأمين وعلّق الكتابين في الكعبة وجدّد عليها العهود هنالك. ولما شخص إلى طبرستان سنة تسع وثمانين وأقام بها أشهد من حضره أنّ جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع للمأمون وجدّد له البيعة عليهم وأرسل إلى بغداد فجدّد له البيعة على الأمين.
أخبار البرامكة ونكبتهم
قد تقدّم لنا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة وكان له قدم راسخ في الدولة وكان يلي الولايات العظام وولّاه المنصور على الموصل، وعلى أذربيجان، وولّى ابنه
__________
[1] ذكر ابن الأثير المبلغ ثلاثين ألف ألف: المرجع السابق. ولكنه لم يذكر أهي دراهم أم دنانير.(3/279)
يحيى على أرمينية ووكله المهدي بكفالة الرشيد فأحسن تربيته ودفع عنه أخاه الهادي أراده على الخلع وتولية العهد ابنه وحبسه الهادي لذلك. فلما ولي الرشيد استوزر يحيى وفوّض إليه أمور ملكه وكان أوّلا يصدر عن رأي الخيزران أمّ الرشيد، ثم استبدّ بالدولة. ولما ماتت وكان بيتهم مشهورا بالرجال من العمومة والقرابة، وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة واستولوا على حظّ من تقريب السلطان واستخلاصه. وكان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت أمّه الرشيد وأرضعته الخيزران وكان يخاطب يحيى يا أبت واستوزر الفضل وجعفرا وولّى جعفرا على مصر وعلى خراسان وبعثه إلى الشام عند ما وقعت الفتنة بين المضريّة واليمانيّة، فسكّن الأمور ورجع. وولّى الفضل أيضا على مصر وعلى خراسان وبعثه لاستنزال يحيى بن عبد الله العلويّ من الديلم ودفع المأمون لما ولّاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى فحسنت آثارهم في ذلك كله. ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولة وكثرت السعاية فيهم وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم، يقال بسبب أنه دفع إليه يحيى بن عبد الله لما استنزله أخوه الفضل من الديلم، وجعل حبسه عنده فأطلقه استبدادا على السلطان ودالة وأنهى الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فسأله فصدّقه الخبر فأظهر له التصويب وحقدها عليه، وكثرت السعاية فيهم فتنكّر لهم الرشيد. ودخل عليه يوما يحيى بن خالد بغير إذن فنكر ذلك منه، وخاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفا به من مواجهته وكان حاضرا فقال يحيى: هو عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها! فاستحيى هارون وقال: ما أردت ما يكره. وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذ دخل، فتقدّم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك زمانا. فلما حجّ الرشيد سنة سبعة وثمانين ورجع من حجّه ونزل الأنبار أرسل مسرورا الخادم في جماعة من الجند ليلا فأحضر جعفرا بباب الفسطاط وأعلم الرشيد فقال: ائتني برأسه فطفق جعفر يتذلّل ويسأله المراجعة في أمره حتى قذفه الرشيد بعصي كانت في يده وتهدّده فخرج وأتاه برأسه وحبس الفضل من ليلته وبعث من احتاط على منازل يحيى وولده وجميع موجودهم وحبسه في منزله وكتب من ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم، وبعث من الغد بشلو جعفر وأمر أن يقسم قطعتين.. وبنصبان على الجسر، وأعفى محمد بن خالد من النكبة ولم يضيّق على يحيى ولابنه الفضل ومحمد(3/280)
وموسى ثم تجرّدت عنه التهمة بعبد الملك بن صالح بن علي، وكانوا أصدقاء له، فسعى فيه ابنه عبد الرحمن بأنه يطلب الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع، ثم أحضره من الغداة وقرّعه ووبّخه فأنكر وحلف واعترف لحقوق الرشيد وسلفه عليه، فأحضر كاتبه شاهدا عليه فكذّبه عبد الملك، فأحضر ابنه عبد الرحمن فقال هو مأمور معذور أو عاق فاجر، فنهض الرشيد من مجلسه وهو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك، فقال عبد الملك: رضيت باللَّه حكما وبأمير المؤمنين حاكما فإنه لا يؤثر هواه على رضا ربه. ثم أحضره الرشيد يوما آخر فأرعد له وأبرق وجعل عبد الملك يعدّد وسائله ومقاماته في طاعته ومناصحته فقال له الرشيد: لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك وردّه إلى محبسه. وكلّمه عبد الله بن مالك فيه، وشهد له بنصحه فقال: أطلقه إذا، قال: أمّا في هذا القرب فلا ولكن سهّل حبسه ففعل. وأجرى عليه مؤنه حتى مات الرشيد وأطلقه الأمين. وعظم حقده على البرامكة بسبب ذلك، فضيّق عليهم وبعث إلى يحيى يلومه فيما ستر عنه من أمر عبد الملك. فقال: يا أمير المؤمنين كيف يطلعني عبد الملك على ذلك وأنا كنت صاحب الدولة، وهل إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك؟ أعيذك باللَّه أن تظنّ هذا الظنّ إلا أنه كان رجلا متجمّلا يسرني أن يكون في بيتك مثله، فوليته ولا خصصته. فعاد إليه الرسول يقول: إن لم تقر قتلت الفضل ابنك. فقال: أنت مسلّط علينا فافعل ما أردت. وجذب الرسول الفضل وأخرجه فودّع أباه وسأله في الرضا عنه فقال: رضي الله عنك، وفرّق بينهما ثلاثة أيام ولم يجد عندهما شيئا فجمعهما واحتفظ [1] إبراهيم بن عثمان بن نهيك لقتل جعفر فكان يبكيه ويبكي قومه حزنا عليهم. ثم انتهى به إلى طلب الثأر بهم فكان يشرب النبيذ مع جواريه ويأخذ سيفه وينادي وا جعفراه وا سيداه والله لأثأرنّ بك ولأقتلنّ قاتلك، فجاء ابنه وحفص كان مولاه إلى الرشيد فأطلعاه على أمره، فأحضر إبراهيم وأظهر له الندم على قتله جعفرا والأسف عليه، فبكى إبراهيم وقال: والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله فانتهره الرشيد وأقامه. ثم دخل عليه ابنه بعد ليال قلائل فقتله يقال بأمر الرشيد.
وكان يحيى بن خالد محبوسا بالكوفة ولم يزل بها كذلك إلى أن مات سنة تسعين ومائة ومات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث وتسعين. وكانت البرامكة من محاسن العالم ودولتهم من أعظم الدول وهم كانوا نكتة محاسن الملّة وعنوان دولتها.
__________
[1] بمعنى غضب.(3/281)
الصوائف وفتوحاتها
كان الرشيد على ما نقله الطبري وغيره يغزو عاما ويحجّ عاما، ويصلّي كل يوم مائة ركعة ويتصدّق بألف درهم، وإذا حجّ حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم، وإذا لم يحجّ أنفق على ثلاثمائة حاج نفقة شائعة. وكان يتحذى بآثار المنصور إلا في بذل المال فلم ير خليفة قبله أبذل منه للمال. وكان إذا لم يغز غزا بالصائفة كبار أهل بيته وقوّاده، فغزا بالصائفة سنة سبعين سليمان بن عبد الله البكائيّ، وقيل غزا بنفسه.
وغزا بالصائفة سنة اثنتين وسبعين إسحاق بن سليمان بن عليّ فأثخن في بلاد الروم وغنم وسبى. وغزا في سنة أربع وسبعين بالصائفة عبد الملك بن صالح وقيل أبوه عبد الملك فبلغ في نكاية الروم ما شاء، وأصابهم برد سديد سقطت منه أيدي الجند. ثم غزا بالصائفة سنة سبع وسبعين عبد الرزاق بن عبد الحميد الثعلبي. وفي سنة ثمان وسبعين زفر بن عاصم وغزا سنة إحدى وثمانين بنفسه فافتتح حصن الصفصاف وأغزى عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة. وكان الفداء بين المسلمين والروم وهو أوّل فداء في دولة بني العبّاس، وتولّاه القاسم بن الرشيد وأخرج له من طرسوس الخادم الوالي عليها، وهو أبو سليمان فرج فنزل المدامس [1] على اثني عشر فرسخا، وحضر العلماء والأعيان وخلق من أهل الثغور وثلاثون ألفا من الجند المرتزقة فحضروا هنالك وجاء الروم بالأسرى ففودي بهم من كان لهم من الأسرى، وكان أسرى المسلمين ثلاثة آلاف وسبعمائة. وغزا بالصائفة سنة اثنتين وثمانين عبد الرحمن ابن عبد الملك بن صالح دقشوسوس [2] مدينة أصحاب الكهف. وبلغهم أنّ الروم سلوا [3] ملكهم قسطنطين بن أليون وملكوا أمّه ربى [4] وتلقّب عطشة، فأثخنوا في البلاد ورجعوا. وفي سنة ثلاث وثمانين حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل ابن يحيى فماتت ببردعة، ورجع من كان معها فأخبروا أباها أنها قتلت غيلة، فتجهّز إلى بلاد الإسلام، وخرج من باب الأبواب وسبى أكثر من مائة ألف فارس وفعلوا ما لم يسمع بمثله. فولّى الرشيد يزيد بن مزيد أمر أرمينية مضافة إلى أذربيجان وأمره
__________
[1] اللامس: ابن الأثير ج 6 ص 159.
[2] أفسوس: ابن الأثير ج 6 ص 159.
[3] سملوا: ابن الأثير ج 6 ص 159.
[4] ريني: ابن الأثير ج 6 ص، وتلقب عطسة.(3/282)
بالنهوض إليهم وأنزل خزيمة بن خازم بنصيبين ردءا لهم. وقيل إنّ سبب خروجهم أنّ سعيد بن مسلم قتل الهجيم السلمي [1] فدخل ابنه إلى الخزر مستجيشا بهم على سعيد، ودخلوا أرمينية وهرب سعيد والخزر ورجعوا [2] . وفي سنة سبع وثمانين غزا بالصائفة القاسم بن الرشيد وجعله قربانا للَّه وولّاه العواصم، فأناخ على قرّة وضيّق عليها وبعث عليها ابن جعفر بن الأشعث فحاصر حصن سنان حتى جهد أهله وفادى الروم بثلاثمائة وعشرين أسيرا من المسلمين على أن يرحل عنهم، فأجابهم وتمّ بينهم الصلح ورحل عنهم، وكان ملك الروم يومئذ ابن زيني وقد تقدّم ذكره فخلعه الروم وملّكوا يقفور [3] وكان على ديوان خراجهم ومات [4] زيني بعد خمسة أشهر. ولما ملك يقفور كتب إلى الرشيد بما استفزّه فسار إلى بلاد الروم وغازيا، ونزل هرقّل وأثخن في بلادهم حتى سأل يقفور الصلح، ثم نقض العهد وكان البرد شديد الكلب وظنّ يقفور أنّ ذلك يمنعه من الرجوع، فلم يمنعه ورجع حتى أثخن في بلاده ثم خرج من أرضهم. وغزا بالصائفة سنة ثمان وثمانين إبراهيم بن جبريل ودخل من درب الصفصاف فخرج إليه يقفور ملك الروم وانهزم وقتل من عسكره نحوا من أربعين ألفا. وفي هذه السنة رابط القاسم بن الرشيد أبق [5] وفي سنة تسع وثمانين كتب الرشيد وهو بالري كتب الأمان لشروين أبي قارن، ونداهرمز [6] جدمازيار، مرزبان خستان صاحب الديلم [7] . وبعث بالكتب مع حسين الخادم إلى طبرستان فقدم خستان ونداهرمز فأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما وضمن ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان وذكرا كيف توجه الهادي لهما وحاصرهما. وفي سنة ست وثمانين كان فداء بين المسلمين حتى لم يبق بأرض الروم مسلم إلّا فودي. وفي سنة تسعين سار الرشيد إلى بلاد الروم بسبب ما قدمناه من غدر يقفور في مائة وخمسة وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوّعة ومن ليس له ذكر في الديوان، واستخلف المأمون
__________
[1] المنجّم السّلميّ: ابن الأثير ج 6 ص 163.
[2] المعنى غير واضح تماما وفي الكامل ج 6 ص 163: «فانهزم سعيد، وأقاموا نحو سبعين يوما، فوجّه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد، فأصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر وسدّا الثّلمة» .
[3] نقفور: ابن الأثير ج 6 ص 185.
[4] الأصح ماتت ريني وهي أم الملك قسطنطين كما مرّ معنا.
[5] أوق: مرّ ذكرها سابقا.
[6] لوندا هرمز: ابن الأثير ج 6 ص 191.
[7] وأمانا لمرزبان بن جستان صاحب الديلم: المرجع السابق.(3/283)
بالرقّة وفوّض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بذلك، فنزل على هرقل [1] فحاصرها ثلاثين يوما وافتتحها وسبى أهلها وغنم ما فيها. وبعث داود بن عيسى بن موسى في سبعين ألفا غازيا في أرضهم ففتح الله عليه وخرّب ونهب ما شاء. وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصّقالبة وديسة [2] وافتتح يزيد بن مخلد حصن الصّفصاف وقونية [3] ، وأناخ عبد الله بن مالك على حصن ذي الكلاع واستعمل الرشيد حميد بن معيوب [4] على الأساطيل ممن بسواحل الشام ومصر إلى قبرس، فهزم وحرّق وسبى من أهلها نحوا من سبعة عشر ألفا وجاء بهم إلى الواقعة [5] فبايعوا بها وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار. ثم سار الرشيد إلى حلوانة [6] فنزل بها وحاصرها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر وبعث يقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن ابنه دينارين وعن بطارقته كذلك، وبعث يقفور في جارية من بني هرقلة [7] وكان خطبها ابنه فبعث بها إليه. ونقض في هذه السنة قبرس فغزاهم معيوب بن يحيى فأثخن فيهم وسباهم ولما رجع الرشيد من غزاته خرجت الروم إلى عين زربة والكنيسة السوداء وأغاروا ورجعوا فاستنقذ أهل المصيصة ما حملوه من الغنائم. وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضايق فانهزم، وقتل في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس. واستعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يولّيه خراسان وضمّ إليه ثلاثين ألفا من أهل خراسان، وأخرجه إلى الصائفة وسار بالعساكر الإسلامية في أثره ورتّب بدرب الحرث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن مسلم بن قتيبة، وأغارت الروم عليه فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرّك من مكانه.
وبعث الرشيد محمد بن زيد بن مزيد إلى طرسوس وأقام هو بدرب الحرث وأمر قوّاده بهدم الكنائس في جميع الثغور وأخذ أهل الذمّة بمخالفة زيّ المسلمين في ملبوسهم
__________
[1] هرقلة: ابن الأثير ج 6 ص 195.
[2] دلسة: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[3] ملقونية: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[4] حميد بن معيوف: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[5] الرافقة: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[6] طوانة: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[7] الجارية هي من سبي هرقلة: المرجع السابق.(3/284)