المتأخّرين من الرّافضة الدّائنين أيضا بالحلول وإلهيّة الأئمّة مذهبا لم يعرف لأوّلهم فأشرب كلّ واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوّفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين.
يزعمون أنّه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتّى يقبضه الله. ثمّ يورّث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التّصوّف منها فقال: «جلّ جناب الحقّ أن يكون شرعة لكلّ وارد أو يطّلع عليه إلّا الواحد بعد الواحد» . وهذا كلام لا تقوم عليه حجّة عقليّة.
ولا دليل شرعيّ وإنّما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرّافضة ودانوا به. ثمّ قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشّيعة في النّقباء.
حتّى إنّهم لمّا أسندوا لباس خرقة التّصوّف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا. وإلّا فعليّ رضي الله عنه لم يختصّ من بين الصّحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكثرهم عبادة. ولم يختصّ أحد منهم في الدّين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصّحابة كلّهم أسوة في الدّين والزّهد والمجاهدة.
تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم، نعم إنّ الشيعة يخيّلون بما ينعلون من ذلك اختصاص عليّ (رضي الله عنه) بالفضائل دون من سواه من الصّحابة ذهابا مع عقائد التّشيّع المعروفة لهم. والّذي يظهر أنّ المتصوّفة بالعراق، لمّا ظهرت الإسماعيليّة من الشيعة، وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرّر في الشّرع. ثمّ جعلوا القطب لتعليم المعرفة باللَّه لأنّه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسمّوه قطبا لمدار المعرفة(1/620)
عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمّل ذلك.
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوّفة في أمر الفاطميّ وما شحنوا كتبهم في ذلك ممّا ليس لسلف المتصوّفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنّما هو مأخوذ من كلام الشّيعة والرّافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحقّ.
تذييل:
وقد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيّات كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهرويّ الّتي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرّح بها وهي قوله:
ما وحّد الواحد من واحد ... إذ كلّ من وحّده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... تثنية أبطلها الواحد
توحيده إيّاه توحيده ... ونعت من ينعته لأحد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: «استشكل النّاس إطلاق لفظ الجمود على كلّ من وحّد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفّوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أنّ معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأنّ الوجود كلّه حقيقة واحدة وانية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزّار من كبار القوم: الحقّ عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أنّ وقوع التعدّد في تلك الحقيقة وجود الاثنينيّة.
وهم باعتبار حضرات الحسّ بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأنّ كلّ ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: كان الله، ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان عندهم. ومعنى قول كبير الّذي صدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «ألا كلّ شيء، ما خلا الله باطل» . قالوا: فمن وحّد ونعت، فقد قال بموجد محدث، هو نفسه، وتوحيد محدث هو فعله، موجود قديم، هو معبود.(1/621)
وقد تقدّم معنى التّوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث، الآن ثابتة بل متعدّدة، والتوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معا في بيت واحد: ليس في البيت غيرك، فيقول الآخر بلسان حاله: لا يصحّ هذا إلّا لو عدمت أنت! وقد قال بعض المحقّقين في قولهم: «خلق الله الزمان» هذه ألفاظ تناقض أصولها لأنّ خلق الزمان متقدّم على الزمان وهو فعل لا بدّ من وقوعه في الزمان، وإنّما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللّغات عن تأدية الحقّ فيها وبها. فإذا تحقّق أنّ الموحّد هو الموحّد، وعدم ما سواه جملة، صحّ التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم «لا يعرف الله إلّا الله» ولا حرج على من وحّد الحقّ مع بقاء الرسوم والآثار، وإنّما هو من باب: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» . لأنّ ذلك لازم التقييد والعبوديّة والشفعيّة. ومن ترقّى إلى مقام الجمع كان في حقّه نقصا، مع علمه بمرتبته، وأنّه تلبيس تستلزمه العبوديّة ويرمعه الشهود ويطهّر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكلّ اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، وإنّما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعيّة ويحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. وعبارة:
فمن سلّم استراح ومن نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه وبصره. وإذا عرفت المعاني لا مشاحّة في الألفاظ. والّذي يفيده هذا كلّه تحقّق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتّعمّق في مثل هذا حجاب، وهو الّذي أوقع في المقالات المعروفة. انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيّات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الّذي ألّفه في المحبّة، وسمّاه التّعريف بالحبّ الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مرارا، إلّا أنّي رأيت رسوم الكتاب أوعى له، لطول عهدي به. والله الموفّق.
ثمّ إنّ كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرّدّ على هؤلاء المتأخّرين في هذه(1/622)
المقالات وأمثالها وشملوا بالنّكير سائر ما وقع لهم في الطّريقة. والحقّ أنّ كلامهم معهم فيه تفصيل فإنّ كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النّفس على الأعمال لتحصّل تلك الأذواق الّتي تصير مقاما ويترقّى منه إلى غيره كما قلناه، وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصّفات الرّبّانيّة والعرش والكرسيّ والملائكة والوحي والنّبوة والرّوح وحقائق كلّ موجود غائب أو شاهد وتركيب الألوان في صدورها عن موجودها وتكوّنها كما مرّ، وثالثها التّصرّفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، ورابعها ألفاظ موهمة الظّاهر صدرت من الكثير من أئمّة القوم يعبّرون عنها في اصطلاحهم بالشّطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأوّل. فأمّا الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النّفس على التّقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتّحقّق بها هو عين السّعادة. وأمّا الكلام في كرامات القوم وأخبارهم بالمغيّبات وتصرّفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحقّ. وما احتجّ به الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ من أئمّة الأشعريّة على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرّق المحقّقون من أهل السّنّة بينهما بالتّحدّي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثمّ إنّ وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأنّ دلالة المعجزة على الصّدق عقليّة فإنّ صفة نفسها التّصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدّلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أنّ الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة. وقد وقع للصّحابة وأكابر السّلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور. وأمّا الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويّات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنّه وجدانيّ عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللّغات لا تعطى له دلالة على مرادهم(1/623)
منه لأنّها لم توضع إلّا للمتعارف وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرّض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشّريعة فأكرم بها سعادة. وأمّا الألفاظ الموهمة الّتي يعبّرون عنها بالشّطحات ويؤاخذهم بها أهل الشّرع فاعلم أنّ الإنصاف في شأن القوم أنّهم أهل غيبة عن الحسّ والواردات تملكهم حتّى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور. فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله وأنّ العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطاميّ وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبيّن لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأمّا من تكلّم بمثلها وهو حاضر في حسّه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوّفة بقتل الحلّاج لأنّه تكلّم في حضور وهو مالك لحاله. والله أعلم. وسلف المتصوّفة من أهل الرّسالة أعلام الملّة الّذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النّوع من الإدراك إنّما همّهم الاتّباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يفرّون منه ويرون أنّه من العوائق والمحن وأنّه إدراك من إدراكات النّفس مخلوق حادث وأنّ الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء ممّا يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحسّ قبل الكشف من الاتّباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد والله الموفّق للصّواب
.(1/624)
الفصل الثامن عشر في علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشّرعيّة وهو حادث في الملّة عند ما صارت العلوم صنائع وكتب النّاس فيها. وأمّا الرّؤيا والتّعبير لها فقد كان موجودا في السّلف كما هو في الخلف. وربّما كان في الملوك [1] والأمم من قبل إلّا أنّه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبّرين من أهل الإسلام. وإلّا فالرّؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بدّ من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصّدّيق صلوات الله عليه يعبّر الرّؤيا كما وقع في القرآن. وكذلك ثبت عن الصّحيح عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن أبي بكر رضي الله عنه والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الرّؤيا الصّالحة جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوة» . وقال: «لم يبق من المبشّرات إلّا الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح أو ترى له» . وأوّل ما بدأ به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح.
وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا انفتل [2] من صلاة الغداة يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم اللّيلة رؤيا؟ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك ممّا فيه ظهور الدّين وإعزازه. وأمّا السّبب في كون الرّؤيا مدركا للغيب فهو أنّ الرّوح القلبيّ وهو البخار اللّطيف المنبعث من تجويف القلب اللّحميّ ينتشر في الشّريانات ومع الدّم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانيّة وإحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التّصرّف في الإحساس بالحواسّ الخمس وتصريف القوى الظّاهرة وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد اللّيل انحبس الرّوح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبيّ فيستجمّ بذلك لمعاودة فعله فتعطّلت الحواسّ الظّاهرة كلّها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: في الملل والأمم.
[2] وفي نسخة أخرى: انتقل.(1/625)
وذلك هو معنى النّوم كما تقدّم في أوّل الكتاب. ثمّ إنّ هذا الرّوح القلبيّ هو مطيّة للرّوح العاقل من الإنسان والرّوح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنّما يمنع من تعلّقه [1] للمدارك الغيبيّة ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسّه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرّد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كلّ مدرك. فإذا تجرّد عن بعضها خفّت شواغله فلا بدّ له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرّد له وهو في هذه الحالة قد خفّت شواغل الحسّ الظّاهر كلّها وهي الشّاغل الأعظم فاستعدّ لقبول ما لك من المدارك اللّائقة من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسمانيّ لا يمكنه التّصرّف إلّا بالمدارك الجسمانيّة. والمدارك الجسمانيّة للعلم إنّما هي الدّماغيّة والمتصرّف منها هو الخيال. فإنّه ينتزع من الصّور المحسوسة صورا خياليّة ثمّ يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النّظر والاستدلال. وكذلك تجرّد النّفس منها صورا أخرى نفسانيّة عقليّة فيترقّى التّجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما. ولذلك إذا أدركت النّفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوّره بالصّورة المناسبة له ويدفعه إلى الحسّ المشترك فيراه النّائم كأنّه محسوس فيتنزّل المدرك من الرّوح العقليّ إلى الحسّيّ. والخيال أيضا واسطة.
هذه حقيقة الرّؤيا. ومن هذا التّقرير يظهر لك الفرق بين الرّؤيا الصّالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنّها كلّها صور في الخيال حالة النّوم. ولكن إن كانت تلك الصّور متنزّلة من الرّوح العقليّ المدرك فهو رؤيا. وإن كانت مأخوذة من الصّور الّتي في الحافظة الّتي كان الخيال أودعها إيّاها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام.
واعلم أنّ للرّؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحّتها فيستشعر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تعقله.(1/626)
الرائي البشارة من الله ممّا ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عند ما يدرك الرّؤيا، كأنّه يعاجل الرجوع إلى الحسّ باليقظة ولو كان مستغرقا في نومه، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفرّ من تلك الحالة إلى حالة الحسّ الّتي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه، ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرّؤيا بتفاصيلها في حفظه، فلا يتخلّلها سهو ولا نسيان.
ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكير، بل تبقى متصوّرة في ذهنه إذا انتبه.
ولا يغرب عنه شيء منها، لأنّ الإدراك النفسانيّ ليس بزمانيّ ولا يلحقه ترتيب، بل يدركه دفعة في زمن فرد. وأضغاث الأحلام زمانيّة، لأنّها في القوى الدماغيّة يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحسّ المشترك كما قلناه. وأفعال البدن كلّها زمانيّة فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدّم والمتأخّر. ويعرض النسيان العارض للقوى الدّماغيّة. وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانيّة، ولا ترتيب فيها. وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. وقد تبقى الرّؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أيّاما من العمر، لا تشذّ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأوّل قويا، وإذا كان إنّما يتذكّر الرّؤيا بعد الانتباه من النّوم بإعمال الفكر والوجهة إليها، وينسى الكثير من تفاصيلها حتّى يتذكّرها فليست الرّؤيا بصادقة، وإنّما هي من أضغاث الأحلام. وهذه العلامات من خواصّ الوحي. قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم «لا تُحَرِّكْ به لِسانَكَ لِتَعْجَلَ به، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 75: 16- 19» والرّؤيا لها نسبة من النّبوّة والوحي كما في الصّحيح. قال صلّى الله عليه وسلّم «الرؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة» فلخواصّها أيضا نسبة إلى خواصّ النّبوّة، بذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحقّ.
والله الخالق لما يشاء.
وأمّا معنى التّعبير فاعلم أنّ الرّوح العقليّ إذا أدرك مدركة وألقاه إلى الخيال(1/627)
فصوّره فإنّما يصوّره في الصّور المناسبة لذلك المعنى بعض الشّيء كما يدرك معنى السّلطان الأعظم فيصوّره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصوّرها الخيال في صورة الحيّة. فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلّا أنّه رأى البحر أو الحيّة فينظر المعبّر بقوّة التّشبيه بعد أن يتيقّن أنّ البحر صورة محسوسة وأنّ المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعيّن له المدرك فيقول مثلا: هو السّلطان لأنّ البحر خلق عظيم يناسب أن يشبّه بها السّلطان وكذلك الحيّة يناسب أن تشبّه بالعدوّ لعظم ضررها وكذا الأواني تشبّه بالنّساء لأنّهنّ أوعيّة وأمثال ذلك. ومن المرئيّ ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب الشّبه [1] فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصّحيح الرؤيا ثلاث:
رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشّيطان. فالرّؤيا الّتي من الله هي الصّريحة الّتي لا تفتقر إلى تأويل والّتي من الملك هي الرّؤيا الصّادقة تفتقر إلى التّعبير [2] والرّؤيا الّتي من الشّيطان هي الأضغاث. واعلم أنّ الخيال إذا ألقى إليه الرّوح مدركة. فإنّما يصوّره في القوالب المعتادة للحسّ وما لم يكن الحسّ أدركه قطّ من القوالب فلا يصوّر فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصوّر له السّلطان بالبحر ولا العدوّ بالحيّة ولا النّساء بالأواني لأنّه لم يدرك شيئا من هذه وإنّما يصوّر له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه الّتي هي المسموعات والمشمومات. وليتحفّظ المعبّر من مثل هذا فربّما اختلط به التّعبير وفسد قانونه. ثمّ إنّ علم التّعبير علم بقوانين كلّيّة يبني عليها المعبّر عبارة ما يقصّ عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدلّ على السّلطان، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدلّ على الغيظ، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدلّ على الهمّ والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحيّة تدلّ على العدوّ، وفي موضع آخر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: النسبة.
[2] وفي النسخة الباريسية: إلى تأويل.(1/628)
يقولون: هي كاتم سرّ، وفي موضع آخر يقولون: تدلّ على الحياة وأمثال ذلك.
فيحفظ المعبّر هذه القوانين الكلّيّة، ويعبّر في كلّ موضع بما تقتضيه القرائن الّتي تعيّن من هذه القوانين ما هو أليق بالرّؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النّوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبّر بالخاصّيّة الّتي خلقت فيه وكلّ ميسّر لما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السّلف. وكان محمّد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها النّاس لهذا العهد. وألّف الكرمانيّ فيه من بعده. ثمّ ألّف المتكلّمون المتأخّرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيروانيّ من علماء القيروان مثل الممتّع وغيره وكتاب الإشارة للسّالميّ من أنفع الكتب فيه وأحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. وهو علم مضيء بنور النّبوة للمناسبة الّتي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصّحيح والله علّام الغيوب.
الفصل التاسع عشر في العلوم العقلية وأصنافها
وأمّا العلوم العقليّة الّتي هي طبيعيّة للإنسان من حيث إنّه ذو فكر فهي غير مختصّة بملّة بل بوجه النّظر [1] فيها إلى أهل الملل كلّهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النّوع الإنسانيّ منذ كان عمران الخليقة. وتسمّى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم: الأوّل علم المنطق وهو علم يعصم الذّهن عن الخطإ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطإ من الصّواب. فيما يلتمسه النّاظر في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يوجد النظر.(1/629)
(الموجودات وعوارضها) [1] ليقف على تحقيق الحقّ في الكائنات نفيا وثبوتا بمنتهى فكره. ثمّ النّظر بعد ذلك عندهم إمّا في المحسوسات من الأجسام العنصريّة والمكوّنة عنها من المعدن والنّبات والحيوان والأجسام الفلكيّة والحركات الطّبيعيّة. والنّفس الّتي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك. ويسمّى هذا الفنّ بالعلم الطّبيعيّ وهو العلم الثّاني منها. وإمّا أن يكون النّظر في الأمور الّتي وراء الطّبيعة من الرّوحانيّات ويسمّونه العلم الإلهيّ وهو الثّالث منها. والعلم الرّابع وهو النّاظر في المقادير ويشتمل على أربعة علوم وتسمّى التّعاليم. أوّلها:
علم الهندسة وهو النّظر في المقادير على الإطلاق. إمّا المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتّصلة وهي إمّا ذو بعد واحد وهو الخطّ أو ذو بعدين وهو السّطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التّعليميّ. ينظر في هذه المقادير وما يعرض لها إمّا من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. وثانيها علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكمّ المنفصل الّذي هو العدد ويؤخذ له من الخواصّ والعوارض اللّاحقة. وثالثها علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنّغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد وثمرته معرفة تلاحين الغناء. ورابعها علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعدّدها لكلّ كوكب من السّيّارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السّماويّة المشاهدة الموجودة لكلّ واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفيّة وهي سبعة: المنطق وهو المقدّم منها وبعده التّعاليم فالأرتماطيقي أوّلا ثمّ الهندسة ثمّ الهيئة ثمّ الموسيقى ثمّ الطّبيعيّات ثمّ الإلهيّات ولكلّ واحد منها فروع تتفرّع عنه. فمن فروع الطّبيعيّات الطّبّ ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحساب [2] حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك (ومن فروعها النّظر في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: في التصورات والتصديقات الذاتية والعرضية.
[2] وفي نسخة أخرى: حسبانات.(1/630)
النّجوم على الأحكام النّجوميّة) [1] ونحن نتكلّم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها.
واعلم أنّ أكثر من عني بها في الأجيال الّذين عرفنا أخبارهم الأمّتان العظيمتان في الدّولة قبل الإسلام وهما فارس والرّوم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدّولة والسّلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيّين ومن قبلهم من السّريانيّين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسّحر والنّجامة وما يتبعها من الطّلاسم [2] وأخذ ذلك عنهم الأمم من فارس ويونان فاختصّ بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلوّ من خبر هاروت وماروت وشأن السّحرة وما نقله أهل العلم من شأن البراريّ [3] بصعيد مصر. ثمّ تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلّا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصّنائع. والله أعلم بصحّتها. مع أنّ سيوف الشّرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. وأمّا الفرس فكان شأن هذه العلوم العقليّة عندهم عظيما ونطاقها متّسعا لما كانت عليه دولتهم من الضّخامة واتّصال الملك. ولقد يقال إنّ هذه العلوم إنّما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينيّة فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلّا أنّ المسلمين لمّا افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ممّا لا يأخذه الحصر ولمّا فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النّار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأمّا الرّوم فكانت الدّولة منهم ليونان أوّلا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية.
[2] وفي النسخة الباريسية: من التأثيرات والطلسمات.
[3] وفي نسخة أخرى: البرابي.(1/631)
أساطين الحكمة وغيرهم. واختصّ فيها المشّاءون منهم أصحاب الرّواق بطريقة حسنة في التّعليم كانوا يقرءون في رواق يظلّهم من الشّمس والبرد على ما زعموا.
واتّصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدّنّ، ثمّ إلى تلميذه أفلاطون ثمّ إلى تلميذه أرسطو ثمّ إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسيّ، وتامسطيون وغيرهم. وكان أرسطو معلّما للإسكندر ملكهم الّذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيه صيتا وشهرة. وكان يسمّى المعلّم الأوّل فطار له في العالم ذكر.
ولمّا انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النّصرانيّة هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشّرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلّدة باقية في خزائنهم ثمّ ملكوا الشّام وكتب هذه العلوم باقية فيهم. ثمّ جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظّهور الّذي لا كفاء له وابتزّوا الرّوم ملكهم فيما ابتزّوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسّذاجة والغفلة عن الصّنائع حتّى إذا تبحبح [1] من السّلطان والدّولة وأخذ الحضارة [2] بالحظّ الّذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفنّنوا في الصّنائع والعلوم. تشوّقوا إلى الاطّلاع على هذه العلوم الحكميّة بما سمعوا من الأساقفة والاقسّة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها.
فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الرّوم أنّ يبعث إليه بكتب التّعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطّبيعيّات. فقرأها المسلمون واطّلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظّفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرّسل على ملوك الرّوم في استخراج علوم اليونانيّين وانتساخها بالخطّ العربيّ وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النّظّار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيرا من آراء المعلّم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: انتجع.
[2] وفي نسخة أخرى: وأخذوا من الحضارة.(1/632)
الأوّل واختصّوه بالرّدّ والقبول لوقوف الشّهرة عنده. ودوّنوا في ذلك الدّواوين وأربوا على من تقدّمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملّة أبو نصر الفارابيّ وأبو عليّ بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصّائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختصّ هؤلاء بالشّهرة والذّكر واقتصر كثيرون على انتحال التّعاليم وما ينضاف إليها من علوم النّجامة والسّحر والطّلسمات. ووقفت الشّهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيّان من أهل المشرق ومسلمة بن أحمد المجريطيّ من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملّة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من النّاس بما جنحوا إليها وقلّدوا آراءها والذّنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء الله ما فعلوه. ثمّ إنّ المغرب والأندلس لمّا ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحلّ ذلك منهما إلّا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من النّاس وتحت رقبة من علماء السّنّة. ويبلغنا عن أهل المشرق أنّ بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النّهر وأنّهم على بحّ [1] من العلوم العقليّة لتوفّر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعدّدة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدّين التّفتازانيّ منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأنّ له ملكة راسخة في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدلّ على أنّ له اطّلاعا على العلوم الحكميّة وقدما عالية في سائر الفنون العقليّة والله يؤيّد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هناك متجدّدة ومجالس تعليمها متعدّدة ودواوينها جامعة متوفّرة وطلبتها متكثّرة [2] والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: على نهج. وفي نسخة أخرى: على ثبج.
[2] وفي نسخة أخرى: ودواوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون.(1/633)
الفصل العشرون في العلوم العددية
وأوّلها الأرتماطيقيّ وهو معرفة خواصّ الأعداد من حيث التّأليف إمّا على التّوالي أو بالتّضعيف مثل أنّ الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإنّ جمع الطّرفين منها مساو لجمع كلّ عددين بعدهما من الطّرفين بعد واحد ومثل ضعف الواسطة إن كانت عدّة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد [1] على تواليها والأزواج على تواليها ومثل أنّ الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أوّلها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها إلخ، أو يكون أوّلها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ، فإنّ ضرب الطّرفين أحدهما في الآخر كضرب كلّ عددين بعدهما من الطّرفين بعد واحد أحدهما في الآخر. ومثل مربّع الواسطة إن كانت العدّة فردا وذلك مثل أعداد زوج الزّوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستّة عشر ومثل ما يحدث من الخواصّ العدديّة في وضع المثلّثات العدديّة والمربّعات والمخمّسات والمسدّسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن يجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلّثة. وتتوالى المثلّثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثمّ تزيد على كلّ مثلّث ثلث الضّلع الّذي قبله فتكون مربّعة. وتزيد على كلّ مربّع مثلّث [2] الضّلع الّذي قبله فتكون مخمّسة وهلمّ جرّا. وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها ثمّ المثلّثات على تواليها ثمّ المربّعات ثمّ المخمّسات إلخ وفي طوله كلّ عدد وأشكاله بالغا ما بلغ وتحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولا وعرضا خواصّ غريبة استقريت منها وتقرّرت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزّوج والفرد وزوج الزّوج وزوج
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الاعداد.
[2] وفي النسخة الباريسية: مثل الضلع.(1/634)
الفرد وزوج الزّوج والفرد فإنّ لكل منها خواصّ مختصّة به تضمّنها هذا الفنّ وليست في غيره. وهذا الفنّ أوّل أجزاء التّعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدّمين والمتأخّرين فيه تآليف، وأكثرهم يدرجونه في التّعاليم ولا يفردونه بالتّآليف. فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشّفاء والنّجاة وغيره من المتقدّمين. وأمّا المتأخّرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول ومنفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابيّة كما فعله ابن البنّاء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن فروع علم العدد صناعة الحساب.
وهي صناعة علميّة في حساب الأعداد بالضمّ والتّفريق. فالضّمّ يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع.
وبالتّضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر وهذا هو الضّرب والتّفريق أيضا يكون في الأعداد إمّا بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطّرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدّتها محصّلة وهو القسمة. وسواء كان هذا الضّمّ والتّفريق في الصّحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد وتلك النّسبة تسمّى كسرا. وكذلك يكون بالضّمّ والتّفريق في الجذور ومعناها العدد الّذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربّع. فإنّ تلك الجذور أيضا يدخلها الضّمّ والتّفريق وهذه الصّناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات وألّف النّاس فيها كثيرا وتداولوها في الأمصار بالتّعليم للولدان. ومن أحسن التّعليم عندهم الابتداء بها لأنّها معارف متّضحة وبراهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصّواب. وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أوّل أمره إنّه يغلب عليه الصّدق لما في الحساب من صحّة المباني ومناقشة النّفس فيصير ذلك خلقا ويتعوّد الصّدق ويلازمه مذهبا. ومن أحسن التّآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصّغير. ولابن البناء المرّاكشيّ فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثمّ شرحه بكتاب سمّاه رفع الحجاب وهو مستغلق على(1/635)
المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظّمه وهو كتاب جدير بذلك. وساوق فيه المؤلّف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم والكامل للأحدب، ولخّص براهينها وغيّرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنويّة ظاهرة، هي سرّ الإشارة بالحروف وزبدتها. وهي كلّها مستغلقة، وإنّما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان [1] علوم التّعاليم لأنّ مسائلها وأعمالها واضحة كلّها. وإذا قصد شرحها فإنّما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمّله. والله يهدي بنوره من يشاء وهو القويّ المتين
. ومن فروعه الجبر والمقابلة.
وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التّضعيف بالضّرب. أوّلها العدد لأنّه به يتعيّن المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه وثانيها الشّيء لأنّ كلّ مجهول فهو من جهة إبهامه شيء وهو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثّانية وثالثها المال وهو أمر مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأسّ في المضروبين. ثمّ يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض ويجبرون ما فيها من الكسر حتّى يصير صحيحا. ويحطّون المراتب إلى أقلّ الأسوس إن أمكن حتّى يصير إلى الثّلاثة الّتي عليها مدار الجبر عندهم وهي العدد والشّيء والمال. فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعيّن فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعيّن.
والمال وإن عادل الجذور فيتعيّن بعدّتها. وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسيّ من طريق تفصيل الضّرب في الاثنين وهي مبهمة فيعيّنها ذلك الضّرب المفصّل. ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين. وأكثر ما انتهت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شأن.(1/636)
المعادلة بينهم إلى ستّ مسائل لأنّ المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركّبة تجيء ستّة. وأوّل من كتب في هذا الفنّ أبو عبد الله الخوارزميّ وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم، وجاء النّاس على أثره فيه. وكتابه في مسائله السّتّ من أحسن الكتب الموضوعة فيه. وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا ومن أحسن شروحاته كتاب القرشيّ. وقد بلغنا أنّ بعض أئمّة التّعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات [1] إلى أكثر من هذه السّتّة الأجناس، وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلّها أعمالا وأتبعه ببراهين هندسيّة. والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى
. ومن فروعه أيضا المعاملات.
وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزّكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات يصرّف في صناعتنا ذلك الحساب [2] في المجهول والمعلوم والكسر والصّحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدّربة بتكرار العمل حتّى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. ولأهل الصّناعة الحسابيّة من أهل الأندلس تآليف فيها متعدّدة من أشهرها معاملات الزّهراويّ وابن السّمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطيّ وأمثالهم
. ومن فروعه أيضا الفرائض.
وهي صناعة حسابيّة في تصحيح السّهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعدّدت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كلّه أو كان في الفريضة إقرار وإنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كلّه إلى عمل يعيّن به سهام الفريضة من كم تصحّ وسهام الورثة من كلّ بطن مصحّحا حتّى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسره وجذره [3] ومعلومه ومجهوله وترتّب على ترتيب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المعادلات.
[2] وفي نسخة أخرى: تصرف في ذلك صناعتا الحساب.
[3] وفي نسخة أخرى: كسوره وجذوره.(1/637)
أبواب الفرائض الفقهيّة ومسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصّناعة على جزء من الفقه وهو أحكام الوراثة [1] من الفروض والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتّدبير وغير ذلك من مسائلها وعلى جزء من الحساب وهو تصحيح السّهمان باعتبار الحكم الفقهيّ وهي من أجلّ العلوم. وقد يورد أهلها أحاديث نبويّة تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم وأنّها أوّل ما يرفع من العلوم وغير ذلك. وعندي أنّ ظواهر تلك الأحاديث كلّها إنّما هي في الفرائض العينيّة كما تقدّم لا فرائض الوراثات فإنّها أقلّ من أن تكون في كمّيّتها ثلث العلم. وأمّا الفرائض العينيّة فكثيرة وقد ألّف النّاس في هذا الفنّ قديما وحديثا وأوعبوا ومن أحسن التّآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ وكتاب ابن المنمّر والجعديّ والصّرديّ [2] وغيرهم. لكنّ الفضل للحوفيّ فكتابه مقدّم على جميعها. وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمّد بن سليمان الشّطّيّ كبير مشيخة فاس فأوضح وأوعب. ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشّافعيّ تشهد باتّساع باعه في العلوم، ورسوخ قدمه، وكذا للحنفيّة والحنابلة. ومقامات النّاس في العلوم مختلفة. والله يهدي من يشاء بمنّه وكرمه لا ربّ سواه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الوراثات.
[2] وفي النسخة الباريسية: والضودبي.(1/638)
الفصل الحادي والعشرون في العلوم الهندسية
هذا العلم هو النّظر في المقادير إمّا المتّصلة كالخطّ والسّطح والجسم وإمّا المنفصلة كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذّاتيّة. مثل أنّ كلّ مثلّث فزواياه مثل قائمتين. ومثل أنّ كلّ خطّين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية. ومثل أنّ كلّ خطّين متقاطعين فالزّاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. ومثل أنّ الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأوّل منها في الثّالث كضرب الثّاني في الرّابع وأمثال ذلك. والكتاب المترجم لليونانيّين في هذه الصّناعة كتاب أوقليدس ويسمّى كتاب الأصول وكتاب الأركان وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلّمين وأوّل ما ترجم من كتاب اليونانيّين في الملّة أيّام أبي جعفر المنصور ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرّة وليوسف بن الحجّاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة، أربع في السّطوح وواحدة في الأقدار المتناسبة وأخرى في نسب السّطوح بعضها إلى بعض وثلاث في العدد والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور وخمس في المجسّمات. وقد اختصره النّاس اختصارات [1] كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشّفاء. أفرد له جزءا منها اختصّه به. وكذلك ابن الصّلت في كتاب الاقتصار وغيرهم. وشرحه آخرون شروحا كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسيّة بإطلاق. واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع وقد زعموا أنّه كان مكتوبا على باب أفلاطون: «من لم يكن مهندسا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مختصرات.(1/639)
فلا يدخلنّ منزلنا» وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: «ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصّابون للثّوب الّذي يغسل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران» . وإنّما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه.
ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية والمخروطات.
أمّا الأشكال الكرويّة ففيها كتابان من كتب اليونانيّين لثاوذوسيوس وميلاوش في سطوحها وقطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدّم في التّعليم على كتاب ميلاوش لتوقّف كثير من براهينه عليه. ولا بدّ منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأنّ براهينها متوقّفة عليه.
فالكلام في الهيئة كلّه كلام في الكرات السّماويّة وما يعرض فيها من القطوع والدّوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقّف على معرفة أحكام الأشكال الكرويّة سطوحها وقطوعها. وأمّا المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا. وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسيّة متوقّفة على التّعليم الأوّل.
وفائدتها تظهر في الصّنائع العمليّة الّتي موادّها الأجسام مثل النّجارة والبناء وكيف تصنع التّماثيل الغريبة والهياكل النّادرة وكيف يتخيّل على جرّ الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والميخال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلّفين في هذا الفنّ كتابا في الحيل العلميّة يتضمّن من الصّناعات الغريبة والحيل المستظرفة كلّ عجيبة. وربّما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسيّة وهو موجود بأيدي النّاس ينسبونه إلى بني شاكر. والله تعالى أعلم
. ومن فروع الهندسة المساحة
وهو فنّ يحتاج إليه في مسح الأرض ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما ونسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك. ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشّركاء أو الورثة وأمثال ذلك. وللنّاس فيها موضوعات حسنة وكثيرة والله الموفّق للصّواب بمنّه وكرمه
. المناظرة من فروع الهندسة
وهو(1/640)
علم يتبيّن به أسباب الغلط في الإدراك البصريّ بمعرفة كيفيّة وقوعها بناء على أنّ إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرئيّ. ثمّ يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا والبعيد صغيرا. وكذا رؤية الأشباح الصّغيرة تحت الماء ووراء الأجسام الشّفّافة كبيرة ورؤية النّقطة النّازلة من المطر خطّا مستقيما والسّلقة [1] دائرة وأمثال ذلك. فيتبيّن في هذا العلم أسباب ذلك وكيفيّاته بالبراهين الهندسيّة ويتبيّن به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض [2] الّذي يبنى عليه معرفة رؤية الأهلّة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألّف في هذا الفنّ كثير من اليونانيّين. وأشهر من ألّف فيه من الإسلاميّين ابن الهيثم. ولغيره أيضا تآليف وهو من هذه الرّياضة وتفاريعها.
الفصل الثاني والعشرون في علم الهيئة
وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثّابتة والمحرّكة والمتحيرة. ويستدلّ بكيفيّات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسيّة. كما يبرهن على أنّ مركز الأرض مباين لمركز فلك الشّمس بوجود حركة الإقبال والإدبار وكما يستدلّ بالرّجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلال صغيرة حاملة لها متحرّكة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثّامن بحركة الكواكب الثّابتة وكما يبرهن على تعدّد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له وأمثال ذلك. وإدراك الموجود من الحركات وكيفيّاتها وأجناسها إنّما هو بالرّصد فإنّا إنّما علمنا حركة الإقبال
__________
[1] ورد في لسان العرب: «ابن شميل: السلق القاع المطمئن المستوي لا شجر فيه. ولم ترد في لسان العرب كلمة سلقة ولعلها محرفة عن السلق. وفي النسخة الباريسية: والشعلة.
[2] هي خطوط العرض بخلاف خطوط الطول.(1/641)
والإدبار به. وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرّجوع والاستقامة وأمثال ذلك. وكان اليونانيّون يعتنون بالرّصد كثيرا ويتّخذون له الآلات الّتي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعيّن. وكانت تسمّى عندهم ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي النّاس.
وأمّا في الإسلام فلم تقع به عناية إلّا في القليل. وكان في أيّام المأمون شيء منه وصنع هذه الآلة المعروفة للرّصد المسمّاة ذات الحلق. وشرع في ذلك فلم يتمّ.
ولمّا مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنيّة لاختلاف الحركات باتّصال الأحقاب. وأنّ مطابقة حركة الآلة للرّصد بحركة الأفلاك والكواكب إنّما هو بالتّقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور أنّها تعطي صورة السّماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنّما تعطي أنّ هذه الصّور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. وأنت تعلم أنّه لا يبعد أن يكون الشّيء الواحد لازما لمختلفين وإن قلنا إنّ الحركات لازمة فهو استدلال باللّازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنّه علم جليل وهو أحد أركان التّعاليم. ومن أحسن التّآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس. وليس من ملوك اليونان الّذين أسماؤهم بطليموس على ما حقّقه شرّاح الكتاب. وقد اختصره الأئمّة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشّفاء. ولخّصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السّمح وابن أبي الصّلت في كتاب الاقتصار. ولابن الفرغانيّ هيئة ملخّصة قرّبها وحذف براهينها الهندسيّة. والله علّمّ الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلّا هو ربّ العالمين.
ومن فروعه علم الأزياج [1] .
وهي صناعة حسابيّة على قوانين عدديّة فيما يخصّ كلّ كوكب من طريق حركته وما أدّى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حساب الأزياج. وفي نسخة أخرى حساب الزيج.(1/642)
الكواكب في أفلاكها لأيّ وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصّناعة قوانين كالمقدّمات والأصول لها في معرفة الشّهور والأيّام والتّواريخ الماضية وأصول متقرّرة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جدول مرتّبة تسهيلا على المتعلّمين وتسمّى الأزياج، ويسمّى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصّناعة تعديلا وتقويما. وللنّاس فيه تآليف كثيرة للمتقدّمين والمتأخّرين مثل البتّانيّ [1] وابن الكمّاد. وقد عوّل المتأخّرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجّمي تونس في أوّل المائة السّابعة. ويزعمون أنّ ابن إسحاق عوّل فيه على الرّصد. وأنّ يهوديّا كان بصقلّيّة ماهرا في الهيئة والتّعاليم وكان قد عني بالرّصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك [2] من أحوال الكواكب وحركاتها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. ولخّصه ابن البنّاء في آخر سمّاه المنهاج فولع به النّاس لما سهل من الأعمال فيه وإنّما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبتني عليها الأحكام النّجوميّة وهو معرفة الآثار الّتي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدّول والمواليد البشريّة والكوائن الحادثة كما نبيّنه بعد ونوضح فيه أدلّتهم إن شاء الله تعالى. والله الموفّق لما يحبّه ويرضاه لا معبود سواه.
__________
[1] قوله البتاني بفتح الموحدة وتشديد المثناة كما ضبطه ابن خلكان في ترجمته قبيل آخر المحمدين.
[2] وفي النسخة الباريسية: بما يصح له من ذلك..(1/643)
الفصل الثالث والعشرون في علم المنطق
وهو قوانين يعرف بها الصّحيح من الفاسد في الحدود المعرّفة [1] للماهيّات والحجج المفيدة للتّصديقات وذلك لأنّ الأصل في الإدراك إنّما هو المحسوسات بالحواسّ الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من النّاطق وغيره وإنّما يتميّز الإنسان عنها بإدراك الكلّيّات وهي مجرّدة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتّفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة وهي الكلّيّ. ثمّ ينظر الذّهن بين تلك الأشخاص المتّفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتّفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التّجريد إلى الكلّ الّذي لا يجد كلّيّا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرّد من أشخاص الإنسان صورة النّوع المنطبقة عليها. ثمّ ينظر بينه وبين الحيوان ويجرّد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثمّ ينظر بينهما وبين النّبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كلّيّا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التّجريد. ثمّ إنّ الإنسان لمّا خلق الله له الفكر الّذي به يدرك العلوم والصّنائع وكان العلم: إمّا تصوّرا للماهيّات ويعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه وإمّا تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إمّا بأن تجمع تلك الكلّيّات بعضها إلى بعض على جهة التّأليف فتحصل صورة في الذّهن كلّيّة منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصّورة الذّهنيّة مفيدة لمعرفة ماهيّة تلك الأشخاص وإمّا بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التّصوّر لأنّ فائدة ذلك إذا حصل إنّما هي معرفة حقائق
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المعروفة.(1/644)
الأشياء الّتي هي مقتضى العلم الحكميّ. وهذا السّعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطّريق الّذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلميّة ليتميّز الصّحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. وتكلّم فيه المتقدّمون أوّل ما تكلّموا به جملا جملا ومفترقا مفترقا. ولم تهذّب طرقه ولم تجمع مسائله حتّى ظهر في يونان أرسطو فهذّب مباحثه [1] ورتّب مسائله وفصوله وجعله أوّل العلوم الحكميّة وفاتحتها. ولذلك يسمّى بالمعلّم الأوّل وكتابه المخصوص بالمنطق يسمّى النّصّ وهو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة [2] في مادّته. وذلك أنّ المطالب التّصديقيّة على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه ومنها ما يكون المطلوب فيه الظّنّ وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الّذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدّماته بذلك الاعتبار ومن أيّ جنس يكون من العلم أو من الظّنّ. وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصّة. ويقال للنّظر الأوّل إنّه من حيث المادّة ونعني به المادّة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظنّ ويقال للنّظر الثّاني إنّه من حيث الصّورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانيّة:
الأوّل في الأجناس العالية الّتي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي الّتي ليس فوقها جنس ويسمّى كتاب المقولات. والثّاني في القضايا التّصديقيّة وأصنافها ويسمّى كتاب العبارة. والثّالث في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمّى كتاب القياس وهذا آخر النّظر من حيث الصّورة. ثمّ الرّابع كتاب البرهان وهو النّظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدّماته يقينيّة. ويختصّ بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتيّة وأوّليّة وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرّفات والحدود إذ المطلوب فيها إنّما هو اليقين لوجوب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مناحيه.
[2] وفي النسخة الباريسية: وخمسة.(1/645)
المطابقة بين الحدّ والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصّت عند المتقدّمين بهذا الكتاب. والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختصّ أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع الّتي يستنبط منها صاحب القياس قياسه وفيه عكوس القضايا. والسّادس: كتاب السّفسطة وهو القياس الّذي يفيد خلاف الحقّ ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنّما كتب ليعرف به القياس المغالطيّ فيحذر منه. والسّابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. والثّامن:
كتاب الشّعر وهو القياس الّذي يفيد التّمثيل والتّشبيه خاصّة للإقبال على الشّيء أو النّفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التّخيّليّة. هذه هي كتب المنطق الثّمانية عند المتقدّمين. ثمّ إنّ حكماء اليونانيّين بعد أن تهذّبت الصّناعة ورتّبت رأوا أنّه لا بدّ من الكلام في الكلّيّات الخمس المفيدة للتّصوّر المطابق للماهيّات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاصّ والعرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختصّ بها مقدّمة بين يدي الفنّ فصارت تسعا وترجمت كلّها في الملّة الإسلاميّة. وكتبها وتداولها [1] فلاسفة الإسلام بالشّرح والتّلخيص كما فعله الفارابيّ وابن سينا ثمّ ابن رشد من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشّفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السّبعة كلّها. ثمّ جاء المتأخّرون فغيّروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنّظر في الكلّيّات الخمس ثمرته وهي الكلام في الحدود والرّسوم نقلوها من كتاب البرهان. وحذفوا كتاب المقولات لأنّ نظر المنطقيّ فيه بالعرض لا بالذّات. وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس [2] . وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدّمين لكنّه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تناولها.
[2] فن الموضوعات المنطقية.(1/646)
توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثمّ تكلّموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادّة وحدّقوا النّظر فيه بحسب المادّة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشّعر والسّفسطة. وربّما يلمّ بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن هي المهمّ المعتمد في الفنّ. ثمّ تكلّموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا ونظروا فيه من حيث إنّه فنّ برأسه لا من حيث إنّه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتّسع. وأوّل من فعل ذلك الإمام فخر الدّين بن الخطيب ومن بعده أفضل الدّين الخونجيّ وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصّناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التّعليم ثمّ مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفنّ وأصوله فتداوله المتعلّمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدّمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه.
والله الهادي للصّواب.
اعلم أنّ هذا الفنّ قد اشتدّ النكير على انتحاله من متقدّمي السلف والمتكلّمين، وبالغوا في الطعن عليه والتّحذير منه، وحظّروا تعلّمه وتعليمه.
وجاء المتأخّرون من بعدهم من لدن الغزاليّ والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشّيء. وأكبّ النّاس على انتحاله من يومئذ إلّا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدّمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبيّن لك نكتة القبول والردّ في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أنّ المتكلّمين لمّا وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانيّة بالحجج العقليّة، كانت طريقتهم في ذلك بأدلّة خاصّة وذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأعراض وحدوثها، وامتناع خلوّ الأجسام عنها، وما لا يخلو عن الحوادث حادث.
وكإثبات التوحيد بدليل التمانع، وإثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد، وغير ذلك من أدلّتهم المذكورة في كتبهم. ثمّ مرّروا تلك(1/647)
الادلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدّمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الأجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقليّ للماهيّات. وأنّ العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود، لا موجودة ولا معدمة وغير ذلك من قواعدهم الّتي بنوا عليها أدلّتهم الخاصّة. ثمّ ذهب الشيخ أبو الحسن، والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق إلّا أنّ أدلّة العقائد منعكسة بمعنى أنّها إذا بطلت بطل مدلولها. ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنّها بمثابة العقائد والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأمّلت المنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقليّ، وإثبات الكلّي الطّبيعيّ في الخارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهنيّ المنقسم إلى الكلّيّات الخمس، الّتي هي الجنس والنّوع والفصل والخاصّة والعرض العامّ، وهذا باطل عند المتكلّمين. والكلّي والذاتي عندهم إنّما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه، أو حال عند من يقول بها فتبطل الكلّيّات الخمس والتّعريف المبنيّ عليها. والمقولات العشر، ويبطل العرض الذاتيّ، فتبطل ببطلانه القضايا الضروريّة الذاتيّة المشروطة في البرهان وتبطل المواضع الّتي هي لباب كتاب الجدل. وهي الّتي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطّرفين في القياس، ولا يبقى إلّا القياس الصّوريّ، ومن التعريفات المساوئ في الصادقيّة على أفراد المحمود، لا يكون أعمّ منها، فيدخل غيرها، ولا أخصّ فيخرج بعضها، وهو الّذي يعبّر عنه النحاة بالجمع والمنع والمتكلّمون بالطرد والعكس، وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدّمات المتكلّمين فيؤدّي إلى إبطال أدلّتهم على العقائد كما مرّ. فلهذا بالغ المتقدّمون من المتكلّمين في النكير على انتحال المنطق وعدّه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الّذي يبطل. والمتأخّرون من لدن الغزاليّ لما أنكروا انعكاس الأدلّة، ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، وصحّ عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقليّ ووجود الماهيات الطبيعيّة وكلّياتها(1/648)
في الخارج، قضوا بأنّ المنطق غير مناف للعقائد الإيمانيّة، وإن كان منافيا لبعض أدلّتها، بل قد يستدلّون على إبطال كثير من تلك المقدّمات الكلاميّة، كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها، ويستبدلون من أدلّة المتكلّمين على العقائد بأدلّة أخرى يصحّحونها بالنظر والقياس العقليّ. ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنيّة بوجه. وهذا رأي الإمام والغزاليّ وتابعهما لهذا العهد، فتأمّل ذلك واعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه. والله الهادي والموفّق للصواب.
الفصل الرابع والعشرون في الطبيعيات
وهو علم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسّكون فينظر في الأجسام السّماويّة والعنصريّة وما يتولّد عنها من حيوان وإنسان ونبات ومعدن وما يتكوّن في الأرض من العيون والزّلازل وفي الجوّ من السّحاب والبخار والرّعد والبرق والصّواعق وغير ذلك. وفي مبدإ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوّعها في الإنسان والحيوان والنّبات. وكتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي النّاس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيّام المأمون وألّف النّاس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح وأوعب من ألّف في ذلك ابن سينا في كتاب الشّفاء جمع فيه العلوم السّبعة للفلاسفة كما قدّمنا ثمّ لخّصه في كتاب النّجا وفي كتاب الإشارات وكأنّه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها ويقول برأيه فيها. وأمّا ابن رشد فلخّص كتب أرسطو وشرحها متّبعا له غير مخالف. وألّف النّاس في ذلك كثيرا لكنّ هذه هي المشهورة لهذا العهد والمعتبرة في الصّناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن وكذا الآمديّ وشرحه(1/649)
أيضا نصير الدّين الطّوسيّ المعروف بخواجه من أهل المشرق [1] وبحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره وبحوثه وفوق كلّ ذي علم عليم وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
الفصل الخامس والعشرون في علم الطب
ومن فروع الطّبيعيّات صناعة الطّبّ وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصحّ فيحاول صاحبها حفظ الصّحّة وبرء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبيّن المرض الّذي يخصّ كلّ عضو من أعضاء البدن وأسباب تلك الأمراض الّتي تنشأ عنها وما لكلّ مرض من الأدوية مستدلّين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها وعلى المرض بالعلامات المؤذن بنضجه وقبوله الدّواء أوّلا: في السّجيّة والفضلات والنّبض محاذين لذلك قوّة الطّبيعة فإنّها المدبّرة في حالتي الصّحّة والمرض. وإنّما الطّبيب يحاذيها ويعينها بعض الشّيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادّة والفصل والسّنّ ويسمّى العلم الجامع لهذا كلّه علم الطّبّ.
وربّما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علما خاصّا، كالعين وعللها وأكحالها. وكذلك ألحقوا بالفن من منافع الأعضاء ومعناها المنفعة الّتي لأجلها خلق كلّ عضو من أعضاء البدن الحيوانيّ. وإن لم يكن ذلك من موضوع علم الطّبّ إلّا أنّهم جعلوه من لواحقه وتوابعه. وإمام هذه الصّناعة الّتي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنّه كان معاصرا لعيسى عليه السّلام ويقال إنّه مات بصقلّيّة في سبيل تغلّب [2] ومطاوعة اغتراب. وتآليفه فيها هي الأمّهات الّتي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من أهل العراق. ومقتضى السياق: المعروف بين أهل العراق بخواجه والذكور ولد بطوس من اعمال إيران وتوفي في بغداد (كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي) جح
[2] وفي النسخة الباريسية: تقلب.(1/650)
اقتدى بها جميع الأطبّاء بعده. وكان في الإسلام في هذه الصّناعة أئمّة جاءوا من وراء الغاية مثل الرّازي والمجوسيّ وابن سينا ومن أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر. وهي لهذا العهد في المدن الإسلاميّة كأنّها نقصت لوقوف العمران وتناقصه وهي من الصّنائع الّتي لا تستدعيها إلّا الحضارة والتّرف كما نبيّنه بعد. وللبادية من أهل العمران طبّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحيّ وعجائزه، وربّما يصحّ منه البعض إلّا أنّه ليس على قانون طبيعيّ ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطّبّ كثير وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره.
والطّبّ المنقول في الشّرعيّات [1] من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء وإنّما هو أمر كان عاديّا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نوع ذكر أحواله الّتي هي عادة وجبلّة لا من جهة أنّ ذلك مشروع على ذلك النّحو من العمل.
فإنّه صلّى الله عليه وسلّم إنّما بعث ليعلّمنا الشّرائع ولم يبعث لتعريف الطّبّ ولا غيره من العاديّات. وقد وقع له في شأن تلقيح النّخل ما وقع فقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» . فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطّبّ الّذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنّه مشروع فليس هناك ما يدلّ عليه اللَّهمّ إلّا إذا استعمل على جهة التّبرّك وصدق العقد الإيمانيّ فيكون له أثر عظيم في النّفع. وليس ذلك في الطّبّ المزاجيّ وإنّما هو من آثار الكلمة الإيمانيّة كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه والله الهادي إلى الصّواب لا ربّ سواه.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: في النبوات.(1/651)
الفصل السادس والعشرون في الفلاحة
هذه الصّناعة من فروع الطّبيعيّات وهي النّظر في النّبات من حيث تنميته ونشؤه بالسّقي والعلاج وتعهّده بمثل ذلك [1] وكان للمتقدّمين بها عناية كثيرة وكان النّظر فيها عندهم عامّا في النّبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصّه وروحانيّته ومشاكلتها لروحانيّات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كلّه في باب السّحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. وترجم من كتب اليونانيّين كتاب الفلاحة النّبطيّة منسوبة لعلماء النّبط مشتملة من ذلك على علم كبير. ولمّا نظر أهل الملّة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السّحر مسدودا والنّظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النّبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك وحذفوا الكلام في الفنّ الآخر منه جملة. واختصر ابن العوّام كتاب الفلاحة النّبطيّة على هذا المنهاج وبقي الفنّ الآخر منه مغفلا، نقل منه مسلمة في كتبه السّحريّة أمّهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السّحر إن شاء الله تعالى. وكتب المتأخّرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدّون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النّبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كلّه وهي موجودة.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بالسقي والعلاج واستجادة النبت وصلاحية الفصل وتعاهده بما يصلحه ويتمه من ذلك كله.(1/652)
الفصل السابع والعشرون في علم الإلهيات
وهو علم ينظر في الوجود المطلق فأوّلا في الأمور العامّة للجسمانيّات والرّوحانيّات من الماهيّات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك ثمّ ينظر في مبادئ الموجودات وأنّها روحانيّات ثمّ في كيفيّة صدور الموجودات عنها ومراتبها [1] ثمّ في أحوال النّفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدإ. وهو عندهم علم شريف يزعمون أنّه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وأنّ ذلك عين السّعادة في زعمهم. وسيأتي الرّدّ عليهم بعد. وهو تال للطّبيعيّات في ترتيبهم ولذلك يسمّونه علم ما وراء الطّبيعة. وكتب المعلّم الأوّل فيه موجودة بين أيدي النّاس. ولخّصه [2] ابن سينا في كتاب الشّفاء والنّجاة وكذلك لخّصه [3] ابن رشد من حكماء الأندلس ولمّا وضع المتأخّرون في علوم القوم ودوّنوا فيها وردّ عليهم الغزاليّ ما ردّ منها ثمّ خلط المتأخّرون من المتكلّمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث، وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيّات ومسائله بمسائلها فصارت كأنّها فنّ واحد ثمّ غيّروا ترتيب الحكماء في مسائل الطّبيعيّات والإلهيّات وخلطوهما فنّا واحدا قدّموا الكلام في الأمور العامّة ثمّ أتبعوه بالجسمانيّات وتوابعها ثمّ بالرّوحانيّات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقيّة وجميع من بعده من علماء الكلام. وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوّة بها كأنّ الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد. والتبس ذلك على النّاس وهو صواب لأنّ مسائل علم الكلام إنّما هي عقائد متلقّاة من الشّريعة كما نقلها السّلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وترتيبها.
[2] وفي النسخة الباريسية: ولخصها (والضمير يعود إلى الكتب) .
[3] الضمير يعود إلى كتب المعلم الأول.(1/653)
تعويل عليه بمعنى أنّها لا تثبت إلّا به فإنّ العقل معزول عن الشّرع وأنظاره وما تحدّث فيه المتكلّمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحقّ فيها فالتّعليل [1] بالدّليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنّما هو التماس حجّة عقليّة تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السّلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الّذين زعموا أنّ مداركهم فيها عقليّة. وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلّة النّقليّة كما تلقّاها السّلف واعتقدوها وكثير ما بين المقامين. وذلك أنّ مدارك صاحب الشّريعة أوسع لاتّساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقليّة فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهيّة فلا تدخل تحت قانون النّظر الضّعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشّارع إلى مدرك فينبغي أن نقدّمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما ونسكت عمّا لم نفهم من ذلك ونفوّضه إلى الشّارع ونعزل العقل عنه.
والمتكلّمون إنّما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السّلفيّة بالبدع النّظريّة فاحتاجوا إلى الرّدّ عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النّظريّة ومحاذاة العقائد السّلفيّة بها وأمّا النّظر في مسائل الطّبيعيّات والإلهيّات بالتّصحيح والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلّمين. فاعلم ذلك لتميّز به بين الفنّين فإنّهما مختلطان عند المتأخّرين في الوضع والتّأليف والحقّ مغايرة كلّ منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل وإنّما جاء الالتباس من اتّحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنّه إنشاء لطلب الاعتداد بالدّليل وليس كذلك بل إنّما هو ردّ على الملحدين والمطلوب مفروض الصّدق معلومه. وكذا جاء المتأخّرون من غلاة المتصوّفة المتكلّمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنّين بفنّهم وجعلوا الكلام واحدا فيها كلّها مثل كلامهم في النّبوءات والاتّحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليعلم.(1/654)
الفنون الثّلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوّفة لأنّهم يدّعون فيها الوجدان ويفرّون عن الدّليل والوجدان بعيد عن المدارك العلميّة وأبحاثها [1] وتوابعها كما بيّنّاه ونبيّنه. والله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم والله أعلم بالصّواب.
الفصل الثامن والعشرون في علوم السحر والطلسمات
وهي علوم بكيفيّة استعدادات تقتدر النّفوس البشريّة بها على التّأثيرات في عالم العناصر إمّا بغير معين أو بمعين من الأمور السّماويّة والأوّل هو السّحر والثّاني هو الطّلسمات ولمّا كانت هذه العلوم مهجورة عند الشّرائع لما فيها من الضّرر ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقودة بين النّاس. إلّا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السّلام مثل النّبط والكلدانيّين فإنّ جميع من تقدّمه من الأنبياء لم يشرعوا الشّرائع ولا جاءوا بالأحكام إنّما كانت كتبهم مواعظ وتوحيدا للَّه وتذكيرا بالجنّة والنّار وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السّريانيّين والكلدانيّين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم. وكان لهم فيها التّآليف والآثار ولم يترجم لنا من كتبهم فيها إلّا القليل مثل الفلاحة النّبطيّة من أوضاع أهل بابل فأخذ النّاس منها هذا العلم وتفنّنوا فيه ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السّبعة وكتاب طمطم الهنديّ في صور الدّرج والكواكب وغيرها. ثمّ ظهر بالمشرق جابر بن حيّان كبير السّحرة في هذه الملّة فتصفّح كتب القوم واستخرج الصّناعة وغاص في زبدتها واستخرجها ووضع فيها غيرها من التّآليف وأكثر الكلام فيها وفي صناعة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأنحائها(1/655)
السّيمياء [1] لأنّها من توابعها لأنّ إحالة الأجسام النّوعيّة من صورة إلى أخرى إنّما يكون بالقوّة النّفسيّة لا بالصّناعة العمليّة فهو من قبيل السّحر كما نذكره في موضعه. ثمّ جاء مسلمة بن أحمد المجريطيّ إمام أهل الأندلس في التّعاليم والسّحريّات فلخّص جميع تلك الكتب وهذّبها وجمع طرقها في كتابه الّذي سمّاه غاية الحكيم ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده. ولتقدّم هنا مقدّمة يتبيّن بها حقيقة السّحر وذلك أنّ النّفوس البشريّة وإن كانت واحدة بالنّوع فهي مختلفة بالخواصّ وهي أصناف كلّ صنف مختصّ بخاصيّة واحدة بالنّوع لا توجد في الصّنف الآخر. وصارت تلك الخواصّ فطرة وجبلّة لصنفها فنفوس الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام لها خاصيّة تستعدّ بها للانسلاخ من الروحانيّة البشريّة إلى الروحانيّة الملكيّة حتّى يصير ملكا في تلك اللمحة الّتي انسلخت فيها، وهذا هو معنى الوحي كما مرّ في موضعه، وهي في تلك الحالة محصلة للمعرفة الرّبّانيّة ومخاطبة الملائكة عليهم السّلام عن الله سبحانه وتعالى كما مرّ. وما يتّسع [2] في ذلك من التّأثير في الأكوان ونفوس السّحرة لها خاصة التّأثير في الأكوان واستجلاب روحانيّة الكواكب للتّصرّف فيها والتّأثير بقوّة نفسانيّة أو شيطانيّة. فأمّا تأثير الأنبياء فمدد إلهيّ وخاصّيّة ربّانيّة ونفوس الكهنة لها خاصيّة الاطّلاع على المغيّبات بقوى شيطانيّة. وهكذا كلّ صنف مختصّ بخاصّيّة لا توجد في الآخر.
والنّفوس السّاحرة على مراتب ثلاث يأتي شرحها فأوّلها المؤثّرة بالهمّة فقط من غير آلة ولا معين وهذا هو الّذي تسمّيه الفلاسفة السّحر والثّاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد ويسمّونه الطّلسمات وهو أضعف رتبة من الأوّل والثّالث تأثير في القوى المتخيّلة. يعمد صاحب هذا التّأثير إلى القوى المتخيّلة فيتصرّف فيها بنوع من التّصرّف ويلقي فيها أنواعا من الخيالات
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الكيمياء.
[2] وفي نسخة أخرى: يتبع.(1/656)
والمحاكاة وضورا ممّا يقصده من ذلك ثمّ ينزلها إلى الحسّ من الرّائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه فينظر الرّاءون كأنّها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك، كما يحكى عن بعضهم أنّه يري البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك ويسمّى هذا عند الفلاسفة الشّعوذة أو الشّعبذة. هذا تفصيل مراتبه ثمّ هذه الخاصّيّة تكون في السّاحر بالقوّة شأن القوى البشريّة كلّها وإنّما تخرج إلى الفعل بالرّياضة ورياضة السّحر كلّها إنّما تكون بالتّوجّه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلويّة والشّياطين بأنواع التّعظيم والعبادة والخضوع والتّذلّل فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود له. والوجهة إلى غير الله كفر فلهذا كان السّحر كفرا والكفر من موادّه وأسبابه كما رأيت. ولهذا اختلف الفقهاء في قتل السّاحر هل هو لكفره السّابق على فعله أو لتصرّفه بالإفساد وما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان والكلّ حاصل منه. ولمّا كانت المرتبتان الأوليان من السّحر لها حقيقة في الخارج والمرتبة الأخيرة الثّالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السّحر هل هو حقيقة أو إنّما هو تخييل فالقائلون بأنّ له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين والقائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثّالثة الأخيرة. فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنّما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب والله أعلم. واعلم أنّ وجود السّحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التّأثير الّذي ذكرناه وقد نطق به القرآن. قال الله تعالى: «وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ من أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ به بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ به من أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله 2: 102» [1] . وسحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعله وجعل سحره في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ودفن في بئر ذروان فأنزل الله عزّ وجلّ عليه في المعوّذتين: «وَمن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في الْعُقَدِ 113: 4» [2] قالت عائشة رضي الله عنها: «كان
__________
[1] سورة البقرة من الآية 102
[2] سورة الفلق الآية الرابعة.(1/657)
لا يقرأ على عقدة من تلك العقد الّتي سحر فيها إلّا انحلّت. وأمّا وجود السّحر في أهل بابل وهم الكلدانيّون من النّبط والسّريانيّين فكثير ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار وكان للسّحر في بابل ومصر أزمان بعثة موسى عليه السّلام أسواق نافقة. ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدّعون ويتاناغون فيه وبقي من آثار ذلك في البراريّ [1] بصعيد مصر شواهد دالّة على ذلك ورأينا بالعيان من يصوّر صورة الشّخص المسحور بخواصّ أشياء مقابلة لما نواه وحاوله موجودة بالمسحور وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التّأليف والتّفريق. ثمّ يتكلّم على تلك الصّورة الّتي أقامها مقام الشّخص المسحور عينا أو معنى ثمّ ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السّوء ويعقد على ذلك المعنى في سبب أعدّه لذلك تفاؤلا بالعقد واللّزام وأخذ العهد على من أشرك به من الجنّ في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم. ولتلك البنية والأسماء السّيّئة روح خبيثة تخرج منه مع النّفخ متعلّقة بريقه الخارج من فيه بالنّفث فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله السّاحر. وشاهدنا أيضا من المنتحلين للسّحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد ويتكلّم عليه في سرّه فإذا هو مقطوع متخرّق. ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض. وسمعنا أنّ بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتّت [2] قلبه ويقع ميتا وينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه ويشير إلى الرّمانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء. وكذلك سمعنا أنّ بأرض السّودان وأرض التّرك من يسحر السّحاب فيمطر الأرض المخصوصة. وكذلك رأينا من عمل الطّلسمات عجائب في الأعداد المتحابّة وهي ر ك ر ف د أحد العددين مائتان وعشرون والآخر مائتان وأربعة وثمانون ومعنى المتحابّة أنّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: البرابي.
[2] وفي النسخة الباريسية: فينخب.(1/658)
أجزاء كلّ واحد الّتي فيه من نصف وثلث وربع وسدس وخمس وأمثالها إذا جمع كان متساويا للعدد الآخر صاحبه فتسمّى لأجل ذلك المتحابّة. ونقل أصحاب الطّلسمات أنّ لتلك الأعداد أثرا في الألفة بين المتحابّين واجتماعهما إذا وضع لهما مثالان [1] أحدهما بطالع الزّهرة وهي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودّة وقبول ويجعل طالع الثّاني سابع الأوّل ويضع على أحد التّمثالين أحد العددين والآخر على الآخر. ويقصد بالأكثر الّذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كميّة أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التّألّف العظيم بين المتحابّين ما لا يكاد ينفكّ أحدهما عن الآخر. قاله صاحب الغاية وغيره من أئمّة هذا الشّأن وشهدت له التّجربة. وكذا طابع الأسد ويسمّى أيضا طابع الحصى وهو أن يرسم في قالب (هند إصبع) صورة أسد شائلا ذنبه عاضّا على حصاة قد قسمها بنصفين وبين يديه صورة حيّة منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها فيه وعلى ظهره صورة عقرب تدبّ. ويتحيّن برسمه حلول الشّمس بالوجه الأوّل أو الثّالث من الأسد بشرط صلاح النّيّرين وسلامتهما من النّحوس.
فإذا وجد ذلك وعثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذّهب وغمس بعد في الزّعفران محلولا بماء الورد ورفع في خرقة حرير صفراء فإنّهم يزعمون أنّ لممسكه من العزّ على السّلاطين في مباشرتهم وخدمتهم وتسخيرهم له ما لا يعبّر عنه. وكذلك للسّلاطين فيه من القوّة والعزّ على من تحت أيديهم. ذكر ذلك أيضا أهل هذا الشّأن في الغاية وغيرها وشهدت له التّجربة. وكذلك وفق المسدّس المختصّ بالشّمس ذكروا أنّه يوضع عند حلول الشّمس في شرفها وسلامتها من النّحوس وسلامة القمر بطالع ملوكيّ يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطّالع نظر مودّة وقبول ويصلح فيه ما يكون من مواليد الملوك من الأدلّة الشّريفة ويرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطّيب. فزعموا أنّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تمثالان.(1/659)
له أثرا في صحابة الملوك وخدمتهم ومعاشرتهم. وأمثال ذلك كثير. وكتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطيّ هو مدوّنة هذه الصّناعة وفيه استيفاؤها وكمال مسائلها وذكر لنا أنّ الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتابا في ذلك وسمّاه بالسّرّ المكتوم وأنّه بالمشرق يتداوله أهله ونحن لم نقف عليه. والإمام لم يكن من أئمّة هذا الشّأن فيما نظنّ ولعلّ الأمر بخلاف ذلك. وبالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السّحريّة يعرفون بالبعّاجين وهم الّذين ذكرت أوّلا أنّهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرّق ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فتنبعج. ويسمّى أحدهم لهذا العهد باسم البعّاج لأنّ أكثر ما ينتحل من السّحر بعج الأنعام يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم مستترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكّام، لقيت منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك وأخبروني أنّ لهم وجهة ورياضة خاصّة بدعوات كفريّة وإشراك لرّوحانيّات الجنّ والكواكب، سطّرت فيها صحيفة عندهم تسمّى الخزيريّة [1] يتدارسونها وأنّهم بهذه الرّياضة والوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم وأنّ التّأثير الّذي لهم إنّما هو فيما سوى الإنسان الحرّ [2] من المتاع والحيوان والرّفيق ويعبّرون عن ذلك بقولهم إنّما نفعل فيما تمشي فيه الدّراهم أي ما يملك ويباع ويشترى من سائر المتملّكات هذا ما زعموه. وسألت بعضهم فأخبرني به وأمّا أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها وعاينتها من غير ريبة في ذلك. هذا شأن السّحر والطّلسمات وأثارهما في العالم فأمّا الفلاسفة ففرقوا بين السّحر والطّلسمات بعد أن أثبتوا أنّهما جميعا أثر للنّفس الإنسانيّة واستدلّوا على وجود الأثر للنّفس الإنسانيّة بأنّ لها آثارا في بدنها على غير المجرى الطّبيعيّ وأسبابه الجسمانيّة بل آثار عارضة من كيفيّات الأرواح تارة كالسّخونة الحادثة عن الفرح والسّرور ومن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الخنزيرية.
[2] وفي النسخة الباريسية: الإنسان والجن.(1/660)
جهة التّصوّرات النّفسانيّة أخرى كالّذي يقع من قبل التّوهّم. فإنّ الماشي على حرف حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهّم السّقوط سقط بلا شكّ. ولهذا تجد كثيرا من النّاس يعوّدون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتّى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب ولا يخافون السّقوط.
فثبت أنّ ذلك من آثار النّفس الإنسانيّة وتصوّرها للسّقوط من أجل الوهم. وإذا كان ذلك أثرا للنّفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانيّة الطّبيعيّة فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النّوع من التّأثير واحدة لأنّها غير حالّة في البدن ولا منطبعة فيه فثبت أنّها مؤثّرة في سائر الأجسام. وأمّا التّفرقة عندهم بين السّحر والطّلسمات فهو أنّ السّحر لا يحتاج السّاحر فيه إلى معين وصاحب الطّلسمات يستعين بروحانيّات الكواكب وأسرار الأعداد وخواصّ الموجودات وأوضاع الفلك المؤثّرة في عالم العناصر كما يقوله المنجّمون ويقولون: السّحر اتّحاد روح بروح والطّلسم اتّحاد روح بجسم ومعناه عندهم ربط الطّبائع العلويّة السّماويّة بالطّبائع السّفليّة، والطّبائع العلويّة هي روحانيّات الكواكب ولذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنّجامة. والسّاحر عندهم غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلّة المختصّة بذلك النّوع من التّأثير. والفرق عندهم بين المعجزة والسّحر أنّ المعجزة قوّة إلهيّة تبعث على النّفس ذلك التّأثير فهو مؤيّد بروح الله على فعله ذلك. والسّاحر إنّما يفعل ذلك من لدن نفسه وبقوّته النّفسانيّة وبإمداد الشّياطين في بعض الأحوال فبينهما الفرق في المعقوليّة والحقيقة والذّات في نفس الأمر وإنّما نستدلّ نحن على التّفرقة بالعلامات الظّاهرة وهي وجود المعجزة لصاحب الخير وفي مقاصد الخير وللنّفوس المتمحّصة [1] للخير والتّحدّي بها على دعوى النّبوة. والسّحر إنّما يوجد لصاحب الشّرّ وفي أفعال الشّرّ في الغالب من التّفريق بين الزّوجين وضرر الأعداء
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المتمحضة.(1/661)
وأمثال ذلك. وللنّفوس المتمحّصة للشّرّ. هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيّين: وقد يوجد لبعض المتصوّفة وأصحاب الكرامات تأثير أيضا في أحوال العالم وليس معدودا من جنس السّحر وإنّما هو بالإمداد الإلهي لأنّ طريقتهم ونحلتهم من آثار النّبوة وتوابعها ولهم في المدد الإلهيّ حفظ على قدر حالهم وإيمانهم وتمسّكهم بكلمة الله [1] وإذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشّرّ لا يأتيها لأنّه متقيّد فيما يأتيه يذره للأمر الإلهيّ. فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه ومن أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحقّ وربّما سلب حاله. ولمّا كانت المعجزة بإمداد روح الله والقوى الإلهيّة فلذلك لا يعارضها شيء من السّحر.
وانظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقّفت ما كانوا به يأفكون وذهب سحرهم واضمحلّ كأن لم يكن. وكذلك لمّا أنزل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المعوّذتين وَمن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في الْعُقَدِ. 113: 4 قالت عائشة رضي الله عنها: «فكان لا يقرأها على عقدة من العقد الّتي سحر فيها إلّا انحلّت» .
فالسّحر لا يثبت مع اسم الله وذكره بالهمّة الإيمانيّة وقد نقل المؤرّخون أنّ زركش [2] كاويان وهي راية كسرى كان فيها الوفق المئينيّ العدديّ منسوجا بالذّهب في أوضاع [3] فلكيّة رصدت لذلك الوفق. ووجدت الرّاية يوم قتل رستم بالقادسيّة واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس وشتاتهم. وهو فيما تزعم أهل الطّلسمات والأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب وأنّ الرّاية الّتي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلا. إلّا أنّ هذه عارضها المدد الإلهيّ من إيمان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتمسّكهم بكلمة الله فانحلّ معها كلّ عقد سحريّ ولم يثبت ويطل ما كانوا يعملون. وأمّا الشّريعة فلم تفرق بين السّحر والطّلسمات وجعلته كلّه بابا واحدا محظورا. لأنّ الأفعال إنّما أباح لنا الشّارع منها ما يهمّنا في ديننا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بكلمة التوحيد.
[2] وفي النسخة الباريسية: درفش
[3] وفي النسخة الباريسية: طوالع.(1/662)
الّذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الّذي فيه صلاح دنيانا وما لا يهمّنا في شيء منهما فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسّحر الحاصل ضرره بالوقوع ويلحق به الطّلسمات لأنّ أثرهما واحد وكالنّجامة الّتي فيها نوع ضرر باعتقاد التّأثير فتفسد العقيدة الإيمانيّة بردّ الأمور إلى غير الله فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضّرر. وإن لم يكن مهمّا علينا ولا فيه ضرر فلا أقلّ من تركه قربة إلى الله فإنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فجعلت الشّريعة باب السّحر والطّلسمات والشّعوذة بابا واحدا لما فيها من الضّرر وخصّته بالحظر والتّحريم.
وأمّا الفرق عندهم بين المعجزة والسّحر فالّذي ذكره المتكلّمون أنّه راجع إلى التّحدّي وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادّعاه. قالوا: والسّاحر مصروف عن مثل هذا التّحدّي فلا يقع منه. ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأنّ دلالة المعجزة على الصّدق عقليّة لأنّ صفة نفسها التّصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصّادق كاذبا وهو محال فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق. وأمّا الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير والشّرّ في نهاية الطّرفين. فالسّاحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل في أسباب الخير وصاحب المعجزة لا يصدر منه الشّرّ ولا يستعمل في أسباب الشّرّ وكأنّهما على طرفي النّقيض في أصل فطرتهما. والله يهدي من يشاء وهو القويّ العزيز لا ربّ سواه ومن قبيل هذه التّأثيرات النّفسيّة الإصابة بالعين وهو تأثير من نفس المعيان عند ما يستحسن بعينه مدركا من الذّوات أو الأحوال ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشّيء عمّن اتّصف به فيؤثّر فساده. وهو جبلّة فطريّة أعني هذه الإصابة بالعين. والفرق بينها وبين التّأثيرات النفسانيّة أنّ صدوره فطريّ جبلي لا يتخلّف ولا يرجع اختيار صاحبه ولا يكتسبه. وسائر التّأثيرات وإن كان منها ما لا يكتسب فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها والفطريّ منها قوّة صدورها ولهذا قالوا: القاتل بالسّحر أو بالكرامة(1/663)
يقتل والقاتل بالعين لا يقتل. وما ذلك إلّا أنّه ليس ممّا يريده ويقصده أو يتركه وإنّما هو مجبور في صدوره عنه. والله أعلم بما في الغيوب ومطّلع على ما في السّرائر.
الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف
وهو المسمّى لهذا العهد بالسيمياء. نقل وضعه من الطّلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرّف من المتصوّفة، فاستعمل استعمال العامّ في الخاصّ. وحدث هذا العلم في الملّة بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوّفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحسّ، وظهور الخوارق على أيديهم والتّصرّفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزّل الوجود عن الواحد وترتيبه.
وزعموا أنّ الكمال الأسمائيّ مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأنّ طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام.
والأكوان من لدن الإبداع الأوّل تتنقّل في أطواره وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعة ولا تحاط بالعدد مسائله. تعدّدت فيه تآليف البونيّ وابن العربيّ وغيرهما ممّن اتّبع آثارهما. وحاصله عندهم وثمرته تصرّف النّفوس الربّانيّة في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهيّة الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السّارية في الأكوان.
ثمّ اختلفوا في سرّ التصرّف الّذي في الحروف [1] بما هو: فمنهم من جعله
__________
[1] علق الهوريني على هذه العبارة بقوله: ترتيب طبائع الحروف عند المغاربة غير ترتيب المشارقة.
ومنهم الغزالي. كما أن الجمل عندهم مخالف في ستة أحرف. فان الصاد عندهم بستين والضاد بتسعين والسين المهملة بثلاثمائة والظاء بثمانمائة والغين بتسعمائة والشين بألف. 1 هـ-.(1/664)
للمزاج الّذي فيه، وقسّم الحروف بقسمة الطّبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر.
واختصّت كلّ طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرّف في طبيعتها فعلا وانفعالا بذلك الصنف: فتنوّعت الحروف بقانون صناعيّ يسمّونه التكسير إلى ناريّة وهوائيّة ومائيّة وترابيّة على حسب تنوّع العناصر، فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب. ثمّ ترجع كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تنفذ. فتعيّن لعنصر النار حروف سبعة: الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال، وتعيّن لعنصر الهواء سبعة أيضا: الباء والواو والياء والنون والضاد والتاء والظاء، وتعيّن لعنصر الماء أيضا سبعة: الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين، وتعيّن لعنصر التراب أيضا سبعة: الدال والحاء واللّام والعين والراء والخاء والشّين.
والحروف الناريّة لدفع الأمراض الباردة ولمضاعفة قوّة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها، إمّا حسّا أو حكما، كما في تضعيف قوى المرّيخ في الحروب والقتل والفتك. والمائيّة أيضا لدفع الأمراض الحارّة من حمّيات وغيرها، ولتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حسّا أو حكما، كتضعيف قوى القمر وأمثال ذلك.
ومنهم من جعل سرّ التصرّف الّذي في الحروف للنسبة العدديّة: فإنّ حروف أبجد دالّة على أعدادها المتعارفة وضعا وطبعا فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضا، كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كلّها على الاثنين كلّ في مرتبته، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد، والكاف على اثنين في مرتبة العشرات، والرّاء على اثنين في مرتبة المئين. وكالّذي بينها وبين الدال والميم والتاء لدلالتها على الأربعة، وبين الأربعة والاثنين نسبة الضّعف. وخرّج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختصّ كلّ صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الّذي يناسبه من حيث عدد الشّكل أو عدد الحروف، وامتزج التصرّف من السرّ الحرفيّ(1/665)
والسرّ العدديّ لأجل التناسب الّذي بينهما. فأمّا سرّ التناسب الّذي بين هذه الحروف وأمزجة الطبائع، أو بين الحروف والأعداد، فأمر عسير على الفهم، إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات، وإنّما مستندهم فيه الذّوق والكشف. قال البونيّ: ولا تظنّ أنّ سرّ الحروف ممّا يتوصّل إليه بالقياس العقليّ، وإنّما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهيّ. وأمّا التصرّف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركّبة فيها وتأثّر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا. وقد يظنّ أنّ تصرّف هؤلاء وتصرّف أصحاب الطّلسمات واحد، وليس كذلك، فإنّ حقيقة الطّلسم وتأثيره على ما حقّقه أهله أنّه قوى روحانيّة من جوهر القهر، تفعل فيما له ركّب فعل غلبة وقهر، بأسرار فلكيّة ونسب عدديّة وبخورات جالبات لروحانيّة ذلك الطّلسم، مشدودة فيه بالهمّة، فائدتها ربط الطبائع العلويّة بالطبائع السّفليّة، وهو عندهم كالخميرة المركّبة من هوائيّة وأرضيّة ومائيّة وناريّة حاصلة في جملتها، تخيّل وتصرّف ما حصلت فيه إلى ذاتها وتقلبه إلى صورتها. وكذلك الإكسير للأجسام المعدنيّة، كالخميرة تقلب المعدن الّذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة. ولذلك يقولون: موضوع الكيمياء جسد في جسد لأنّ الإكسير أجزاؤه كلّها جسدانيّة. ويقولون: موضوع الطّلسم روح في جسد لأنّه ربط الطبائع العلويّة بالطّبائع السّفليّة. والطبائع السّفليّة جسد والطبائع العلويّة روحانيّة. وتحقيق الفرق بين تصرّف أهل الطّلسمات وأهل الأسماء، بعد أن تعلم أنّ التصرّف في عالم الطبيعة كلّه إنّما هو للنفس الإنسانيّة والهمم البشريّة أنّ النفس الإنسانيّة محيطة بالطبيعة وحاكمة عليها بالذات، إلّا أنّ تصرّف أهل الطّلسمات إنّما هو في استنزال روحانيّة الأفلاك وربطها بالصّور أو بالنسب العدديّة، حتّى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة والقلب بطبيعته، فعل الخميرة فيما حصلت فيه. وتصرّف أصحاب الأسماء إنّما هو بما حصل لهم بالمجاهدة والكشف من النّور الإلهيّ والإمداد الربّانيّ، فيسخّر(1/666)
الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية، ولا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكيّة ولا غيرها، لأنّ مدده أعلى منها.
ويحتاج أهل الطّلسمات إلى قليل من الرّياضة تفيد النفس قوّة على استنزال روحانيّة الأفلاك. وأهون بها وجهة ورياضة. بخلاف أهل الأسماء فإنّ رياضتهم هي الرياضة الكبرى، وليست لقصد التصرّف في الأكوان إذ هو حجاب. وإنّما التصرّف حاصل لهم بالعرض، كرامة من كرامات الله لهم. فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله وحقائق الملكوت، الّذي هو نتيجة المشاهدة والكشف، واقتصر على مناسبات الأسماء وطبائع الحروف والكلمات، وتصرّف بها من هذه الحيثيّة وهؤلاء هم أهل السيمياء في المشهور- كأنّ إذا لا فرق بينه وبين صاحب الطّلسمات، بل صاحب الطّلسمات أوثق منه لأنّه يرجع إلى أصول طبيعيّة علميّة وقوانين مرتّبة. وأمّا صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الّذي يطّلع به على حقائق الكلمات وآثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة، وليس له في العلوم الاصطلاحيّة قانون برهانيّ يعوّل عليه يكون حاله أضعف رتبة. وقد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات والأسماء بقوى الكواكب، فيعيّن لذكر الأسماء الحسنى، أو ما يرسم من أوفاقها، بل ولسائر الأسماء، أوقاتا تكون من حظوظ الكواكب الّذي يناسب ذلك الاسم، كما فعله البونيّ في كتابه الّذي سمّاه الأنماط. وهذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائيّة. وهي برزخيّة الكمال الأسمائيّ، وإنّما تنزّل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة.
وإثبات هذه المناسبة عندهم إنّما هو بحكم المشاهدة. فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة، وتلقّى تلك المناسبة تقليدا، كأنّ عمله بمثابة عمل صاحب الطّلسم، بل هو أوثق منه كما قلناه. وكذلك قد يمزج أيضا صاحب الطّلسمات عمله وقوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلّفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات والكواكب، إلّا أنّ مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب(1/667)
الأسماء من الاطّلاع في حال المشاهدة، وإنّما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السّحريّة، من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكوّنات، من جواهر وأعراض وذوات ومعان، والحروف. والأسماء من جملة ما فيه.
فلكلّ واحد من الكواكب قسم منها يخصّه، ويبنون على ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سور القرآن وآيه على هذا النحو، كما فعله مسلمة المجريطيّ في الغاية. والظّاهر من حال البونيّ في أنماطه أنّه اعتبر طريقتهم. فإنّ تلك الأنماط إذا تصفّحتها، وتصفّحت الدّعوات الّتي تضمّنتها، وتقسيمها على ساعات الكواكب السّبعة، ثمّ وقفت على الغاية، وتصفّحت قيامات الكواكب الّتي فيها، وهي الدّعوات الّتي تختصّ بكلّ كوكب، ويسمّونها قيامات الكواكب، أي الدعوة الّتي يقام له بها، شهد له ذلك: إمّا بأنّه من مادّتها، أو بأنّ التناسب الّذي كان في أصل الإبداع وبرزخ العلم قضى بذلك كلّه. «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . وليس كلّ ما حرّمه الشّارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت أنّ السحر حقّ مع حظره. لكنّ حسبنا من العلم ما علمنا.
ومن فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة، بارتباطات ش بين الكلمات- حرفيّة، يوهمون أنّها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقباليّة، وإنّما هي شبه المعاياة والمسائل السّيالة. ولهم في ذلك كلام كثير من أدعيّة وأوراد. وأعجبه زايرجة العالم للسّبتيّ، وقد تقدّم ذكرها. ونبيّن هنا ما ذكروه في كيفيّة العمل بتلك الزايرجة بدائرتها وجدولها المكتوب حولها، ثمّ نكشف عن الحقّ فيها وأنّها ليست من الغيب، وإنّما هي مطابقة بين مسألة وجوابها في الإفادة فقط، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. وليس عندنا رواية يعوّل عليها في صحّة هذه القصيدة إلّا أنّنا تحرّينا أصحّ النّسخ منها في ظاهر الأمر. والله الموفّق بمنّه. وهي هذه:(1/668)
يقول سبيتيّ ويحمد ربّه ... مصلّ على هاد إلى النّاس أرسلا
محمّد المبعوث خاتم الأنبيا ... ويرضى عن الصّحب ومن لهم تلا
ألا هذه زايرجة العالم الّذي ... تراه بحيّكم وبالعقل قد حلا
فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه ... ويدرك أحكاما تدبّرها العلا
ومن أحكم الرّبط فيدرك قوّة ... ويدرك للتّقوى وللكلّ حصّلا
ومن أحكم التصريف يحكم سرّه ... ويعقل نفسه وصحّ له الولا
وفي عالم الأمر تراه محقّقا ... وهذا مقام من بالأذكار كملا
فهذي سرائر عليكم بكتمها ... أقمها دوائر وللحاء عدّلا
فطاء لها عرش وفيظ نقوشنا ... بنظم ونثر قد تراه مجدولا
ونسب دوائر كنسبة فلكها ... وارسم كواكبا لأدراجها العلا
وأخرج لأوتار وارسم حروفها ... وكوّر بمثله على حدّ من خلا
أقم شكل زيرهم وسوّ بيوته ... وحقّق بهامهم ونورهم جلا
وحصّل علوما للطّباع مهندسا ... وعلما لموسيقى والأرباع مثّلا
وسوّ لموسيقى وعلم حروفهم ... وعلم بآلات فحقّق وحصّلا
وسوّ دوائرها ونسب حروفها ... وعالمها أطلق والإقليم جدولا
أمير لنا فهو نهاية دولة ... زناتية آبت وحكم لها خلا
وقطر لأندلس فابن لهودهم ... وجاء بنو نصر وظفرهم تلا
ملوك وفرسان وأهل لحكمة ... فإن شئت نصّبهم وقطرهم حلا
ومهديّ توحيد بتونس حكمهم ... ملوك وبالشّرق بالأوفاق نزّلا
واقسم على القطر وكن متفقّدا ... فإن شئت للرّوم فبالحرّ شكّلا
ففنش وبرشنون الرّاء حرفهم ... وإفرنسهم دال وبالطّاء كمّلا
ملوك كناوة دلوا لقافهم ... وإعراب قومنا بترقيق أعملا
فهند حباشيّ وسند فهرمس ... وفرس ططاري وما بعدهم طلا(1/669)
فقيصرهم جاء ويزدجردهم ... لكاف وقبطيهم بلامه طوّلا
وعبّاس كلّهم شريف معظّم ... ولكنّ تركي بذا الفعل عطّلا
فإن شئت تدقيق الملوك وكلّهم ... فختّم بيوتا ثمّ نسب وجدولا
على حكم قانون الحروف وعلمها ... وعلم طبائعها وكلّه مثّلا
فمن علم العلوم تعلّم علمنا ... ويعلم أسرار الوجود وأكملا
فيرسخ علمه ويعرف ربّه ... وعلم ملاحيم بحاميم فصّلا
وحيث أتى اسم والعروض يشقّه ... فحكم الحكيم فيه قطعا ليقتلا
وتأتيك أحرف فسوّ لضربها ... وأحرف سيبويه تأتيك فيصلا
فمكّن بتنكير وقابل وعوّضن ... بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا
وفي العقد والمجزور يعرف غالبا ... وزد لمح وصفيه في العقل فعّلا
واختر لمطلع وسوّيه رتبة ... واعكس بجذريه وبالدور عدّلا؟
ويدركها المرء فيبلغ قصده ... وتعطي حروفها وفي نظمها انجلا
إذا كان سعد والكواكب أسعدت ... فحسبك في الملك ونيل اسمه العلا
وإيقاع دالهم بمرموز ثمّمة ... فنسب دنادينا تجد فيه منهلا
وأوتار زيرهم فللحاء بمّهم ... ومثناهم المثلّث بجيمه قد جلا
وأدخل بأفلاك وعدّل بجدول ... وأرسم أبا جاد وباقيه جملا
وجوّز شذوذ النو تجري ومثله ... أتى في عروض الشّعر عن جملة ملا
فأصل لديننا وأصل لفقهنا ... وعلم لنحونا فاحفظ وحصّلا
فادخل لفسطاط على الوفق جذره ... وسبّح باسمه وكبّر وهلّلا
فتخرج أبياتا وفي كلّ مطلب ... بنظم طبيعيّ وسرّ من العلا
وتفنى بحصرها كذا حكم عدّهم ... فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا
فتخرج أبياتا وعشرون ضعّفت ... من الألف طبعيا فيا صاح جدولا
تريك صنائعا من الضرب أكملت ... فصح لك المنى وصح لك العلا(1/670)
وسجّع بزيرهم وأثنى بنقرة ... أقمها دوائر الزير وحصّلا
أقمها بأوفاق وأصل لعدّها ... من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا
43 ك 1 ك وك ح وأ هـ عم له ر لا سع كط 1 ل م ن ح ع ف ول
الكلام على استخراج نسبة الأوزان وكيفياتها ومقادير المقابل منها وقوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلى موضع المعلق من امتزاج طبائع وعلم طب أو صناعة الكيميا
أيا طالبا للطبّ مع علم جابر ... وعالم مقدار المقادير بالولا
إذا شئت علم الطّبّ لا بدّ نسبة ... لأحكام ميزان تصادف منهلا
فيشفى عليلكم والإكسير محكم ... وأمزاج وضعكم بتصحيح انجلى
الطب الروحانيّ
وشئت إيلاوش 565 هـ ودهنه بحلا ... لبهرام برجيس وسبعة أكملا
لتحليل أوجاع البوارد صححوا ... كذلك والتركيب حيث تنقلا
كد منع مهم 355 وهح 6 صح لهاى ولمح 1 آ 1 وهح وى سكره لال ح مههت مههه ع ع مى مر ح ح 2242 ل ك عا عر.
مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك وبنيهم
وعلم مطاريح الشّعاعات مشكل ... وضلع قسيها بمنطقة جلا
ولكن في حج مقام إمامنا ... ويبدو إذا عرض الكواكب عدّلا
بدال مراكز بين طول وعرضها ... فمن أدرك المعنى علا ثمّ فوضلا
مواقع تربيع وسه مسقط ... لتسديسهم تثليث بيت الّتي تلا(1/671)
يزاد لتربيع وهذا قياسه ... يقينا وجذّره وبالعين أعملا
ومن نسبة الربعين ركب شعاعك ... بصاد وضعفه وتربيعه انجلى
اختص صح صح ع 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك والقانون مطرد عمله ولم ير أعجب منه.
مقامات الملوك المقام الأوّل 5 المقام الثاني ع ع والمقام الرابع للح المقام الخامس لاى المقام السادس بير المقام السابع عره خط الاتصال والانفصال خط الاتصال خط الانفصال الوتر للجميع وتابع الجرر التام الاتصال والانفصال الواجب التام في الاتصالات إقامة الأنوار الجزر المجيب في العمل إقامة السوال عن الملوك مقام الأولا نورعه ي مقام بها هـ حج لا
الانفعال الروحانيّ والانقياد الرباني
أيا طالب السرّ لتهليل ربه ... لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا
تطيعك أخيار الأنام بقلبهم ... كذلك ريسهم وفي الشمس أعملا(1/672)
ترى عامة النّاس إليك تقيّدوا ... وما قلته حقا وفي الغير أهملا
طريقك هذا السيل والسبل الّذي ... أقوله غيركم ونصركموا اجتلى
إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى ... ودينا متينا أو تكن متوصّلا
كذي النون والجنيد مع سرّ صنعة ... وفي سرّ بسطام أراك مسر بلا
وفي العالم العلويّ تكون محدّثا ... كذا قالت الهند وصوفيّة الملا
طريق رسول الله بالحقّ ساطع ... وما حكم صنع مثل جبريل أنزلا
فبطشك تهليل وقوسك مطلع ... ويوم الخميس البدء والأحد انجلى
وفي جمعة أيضا بالأسماء مثله ... وفي اثنين للحسنى تكون مكمّلا
وفي طائه سرّ في هائه إذا ... أراك بها مع نسبة الكلّ أعطلا
وساعة سعد شرطهم في نقوشها ... وعود ومصطكى بخور تحصّلا
وتتلو عليها آخر الحشر دعوة ... والإخلاص والسبع المثاني مرتّلا
(اتصال أنوار الكواكب) بلعاني لا هي ... ى لا ظ غ لدسع ق صح م ف وى
وفي يدك اليمنى حديد وخاتم ... وكل برأسك وفي دعوة فلا
وآية حشر فاجعل القلب وجهها ... واتلو إذا نام الأنام ورتّلا
هي السرّ في الأكوان لا شيء غيرها ... هي الآية العظمى فحقّق وحصّلا
تكون بها قطبا إذا جدت خدمة ... وتدرك أسرارا من العالم العلا
سري بها ناجي ومعروف قبله ... وباح بها الحلّاج جهرا فأعقلا؟
وكان بها الشّبليّ يدأب دائما ... إلى أن رقى فوق المريدين واعتلى
فصفّ من الأدناس قلبك جاهدا ... ولازم لاذكار وصم وتنقّلا
فما نال سرّ القوم إلّا محقّق ... عليم بأسرار العلوم محصّلا(1/673)
مقامات المحبة وميل النفوس والمجاهدة والطاعة والعبادة وحب وتعشق وفناء الفناء وتوجه ومراقبة وخلة وأئمة
الانفعال الطبيعيّ
لبرجيس في المحبّة الوفق صرّفوا ... بقزدير أو نحاس الخلط أكملا
وقيل بفضة صحيحا رأيته ... فجعلك طالعا خطوطه ما علا
توخّ به زيادة النور للقمر ... وجعلك للقبول شمسه أصلا
ويومه والبخور عود لهندهم ... ووقت لساعة ودعوته ألا
ودعوته بغاية فهي أعملت ... وعن طسيمان دعوة ولها جلا
وقيل بدعوة حروف لوضعها ... بحرّ هواء أو مطالب أهلا
فتنقش أحرفا بدال ولأمها ... وذلك وفق للمربّع حصلا
إذا لم يكن يهوى هواك دلالها ... فدال ليبدو واو زينب معطلا
فحسن لبائه وبائهم إذا ... هواك وباقيهم قليلة جملا
ونقش مشاكل بشرط لوضعهم ... وما زدت أنسبه لفعلك عدّلا
ومفتاح مريم ففعلهما سوا ... فبوري وبسطامي بسورتها تلا
وجعلك بالقصد وكن متفقّدا ... أدلّة وحشي لقبضة ميلا
فاعكس بيوتها بألف ونيّف ... فباطنها سرّ وفي سرّها انجلا
فصل في المقامات للنهاية
لك الغيب صورة من العالم العلا ... وتوجدها دار أو ملبسها الحلا
ويوسف في الحسن وهذا شبيهه ... بنثر وترتيل حقيقة أنزلا
وفي يده طول وفي الغيب ناطق ... فيحكي إلى عود يجاوب بلبلا
وقد جن بهلول بعشق جمالها ... وعند تجليها لبسطام أخذلا(1/674)
ومات أجليه وأشرب حبها ... جنيد وبصرى والجسم أهملا
فتطلب في التهليل غايته ومن ... بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا
ومن صاحب الحسنى له الفوز بالمنى ... ويسهم بالزلفى لدى جيرة العلا
وتخبر بالغيب إذا جدت خدمة ... تريك عجائبا بمن كان موئلا
فهذا هو الفوز وحسن تناله ... ومنها زيادات لتفسيرها تلا
الوصية والتختم والإيمان والإسلام والتحريم والاهلية
فهذا قصيدنا وتسعون عده ... وما زاد خطبة وختما وجدولا
عجبت لابيات وتسعون عدها ... تولد أبياتا وما حصرها انجلا
فمن فهم السرّ فيفهم نفسه ... ويفهم تفسيرا تشابه أشكلا
حرام وشرعيّ لإظهار سرّنا ... لناس وان خصوا وكان التأهّلا
فان شئت أهليه فغلّظ يمينهم ... وتفهم برحلة ودين تطوّلا
لعلك أن تنجو وسامع سرّهم ... من القطع والافشا فترأس بالعلا
فنجل لعباس لسره كاتم ... فنال سعادات وتابعه علا
وقام رسول الله في الناس خاطبا ... فمن يرأس عرشا فذلك أكملا
وقد ركب الأرواح أجساد مظهر ... فآلت لقتلهم بدق تطوّلا
إلى العالم العلويّ يفنى فناؤنا ... ويلبس أثواب الوجود على الولا
فقد تم نظمأ وصلى إلهنا ... على خاتم الرّسل صلاة بها العلا
وصلى إله العرش ذو المجد والعلا ... على سيّد ساد الأنام وكملا
محمد الهادي الشفيع إمامنا ... وأصحابه أهل المكارم والعلا
[؟] مرتبة ... عن الحله سرح أسع ح ح ... صحيح وتعديل الكواكب عند كل تاريخ مطلوب س ك ل وو هـ لو طرح الأوتاد الكلية 2 4 4 4 أل هـ ح الأول تم 48 س 4 5 4 ح [؟] ح كلمة الزايرجه(1/675)
كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم بحول الله منقولا عمن لقيناه من القائمين عليها
السّؤال له ثلاثمائة وستّون جوابا عدّة الدّرج، وتختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار، وتناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد.
(تنبيه) - تركيب حروف الأوتار والجدول على ثلاثة أصول: حروف عربيّة تنقل على هيئاتها، وحروف برسم الغبار. وهذه تتبدّل: فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة، فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثّانية من مرتبة العشرات، وكذلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبيّنه، ومنها حروف برسم الزّمام كذلك، غير أنّ رسم الزّمام يعطي نسبة ثانية، فهي بمنزلة واحد ألف وبمنزلة عشرة، ولها نسبة من خمسة بالعربيّ، فاستحقّ البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرّسم وحرفان في الرّسم، فاختصروا من الجدول بيوتا خالية. فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعة حسبت في العدد في طول الجدول، وإن لم تزد على أربعة لم يحسب إلّا العامر منها.
والعمل في السّؤال يفتقر إلى سبعة أصول: عدّة حروف الأوّل حساب أدوارها بعد طرحها، اثني عشر اثني عشر، وهي ثمانيّة أحرف في الكامل وستة في الناقص أبدا. ومعرفة درج الطّالع وسلطان البرج، والدور الأكبر الأصليّ، وهو واحد أبدا. وما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصليّ، وما يخرج من ضرب الطالع والدور في سلطان البرج. وإضافة سلطان البرج للطالع والعمل جميعه ينتج عن ثلاثة أدوار مضروبة في أربعة، تكون اثني عشر دورا. ونسبة هذه الثّلاثة(1/676)
الأدوار الّتي هي كلّ دور من أربعة نشأة ثلاثيّة، كلّ نشأة لها ابتداء. ثمّ إنّها تضرب أدوارا رباعيّة أيضا ثلاثيّة. ثمّ إنّها من ضرب ستّة في اثنين، فكان لها نشأة، يظهر ذلك في العمل. ويتبع هذه الأدوار الاثني عشر نتائج، وهي في الأدوار، إمّا أن تكون نتيجة أو أكثر إلى ستّة.
فأوّل ذلك نفرض سؤالا عن الزايرجة، هل هي علم قديم، أو محدث بطالع أوّل درجة من القوس أثناء حروف الأوتار؟ ثمّ حروف السّؤال. فوضعنا حروف وتر رأس القوس ونظيره من رأس الجوزاء. وثالثه وتر رأس الدّلو إلى حدّ المركز، وأضفنا إليه حروف السّؤال، ونظرنا عدّتها وأقلّ ما تكون ثمانيّة وثمانين، وأكثر ما تكون ستّة وتسعين، وهي جملة الدور الصّحيح، فكانت في سؤالنا ثلاثة وتسعين. ويختصر السّؤال إن زاد عن ستة وتسعين، بأن يسقط جميع أدواره الاثني عشريّة، ويحفظ ما خرج منها وما بقي، فكانت في سؤالنا سبعة أدوار، الباقي تسعة، أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة، فإن بلغها لم تثبت لها عدّة ولا دور.
ثمّ تثبت أعدادها أيضا إن زاد الطّالع عن أربعة وعشرين في الوجه الثالث، ثمّ تثبت الطالع وهو واحد، وسلطان الطّالع وهو أربعة، والدور الأكبر وهو واحد، واجمع ما بين الطّالع والدور وهو اثنان في هذا السّؤال، واضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانيّة، وأضف السّلطان للطّالع فيكون خمسة، فهذه سبعة أصول. فما خرج من ضرب الطّالع والدّور الأكبر في سلطان القوس، ممّا لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانيّة من أسفل الجدول صاعدا، وإن زاد على اثني عشر طرح أدوارا، وتدخل بالباقي في ضلع ثمانية، وتعلّم على منتهى العدد والخمسة المستخرجة من السّلطان والطالع، يكون الطّالع في ضلع السّطح المبسوط الأعلى من الجدول، وتعدّ متواليا خمسات أدوارا، وتحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة، وهي ألف أو باء أو جيم أو زاي. فوقع العدد في عملنا(1/677)
على حرف الألف وخلف ثلاثة أدوار، فضربنا ثلاثة في ثلاثة كانت تسعة، وهو عدد الدور الأوّل. فأثبته واجمع ما بين الضّلعين: القائم والمبسوط يكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول، وإن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها، فلا يعتبر وتستمرّ على أدوارك. وأدخل بعدد ما في الدور الأوّل، وذلك تسعة في صدر الجدول ممّا يلي البيت الّذي اجتمعا فيه، وهي ثمانية، مارّا إلى جهة اليسار، فوقع على حرف لام ألف ولا يخرج منها أبدا حرف مركّب. وإنّما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزّمام، فعلّم عليها بعد نقلها من بيت القصيد، واجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر، أدخل بها في حروف الأوتار، وأثبت ما وقع عليه العدد وعلّم عليه من بيت القصيد.
ومن هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعيّ، وذلك أن تجمع حروف الدور الأوّل وهو تسعة لسلطان البرج وهو أربعة تبلغ ثلاثة عشر، أضعفها بمثلها تكون ستّة وعشرين، أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السّؤال الباقي خمسة وعشرون.
فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول، ثمّ ثلاثة وعشرون مرّتين، ثمّ اثنان وعشرون مرّتين، على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم. ولا تقف على أربعة وعشرين لطرح ذلك الواحد أوّلا. ثمّ ضع الدور الثاني وأضف حروف الدور الأوّل إلى ثمانية، الخارجة من ضرب الطالع والدور في السّلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة. فاصعد في ضلع ثمانيّة بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأوّل وعلّم عليه، وأدخل في صدر الجدول بسبعة عشر، ثمّ بخمسة. ولا تعدّ الخالي، والدّور عشرون، فوجدنا حرف ثاء خمسمائة، وإنّما هو نون لأنّ دورنا في مرتبة العشرات، فكانت الخمسمائة بخمسين لأنّ دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين. فأثبت نونا ثمّ أدخل بخمسة أيضا من أوّله. وانظر ما حاذى ذلك من السّطح تجد واحدا، فقهقر العدد واحدا يقع على(1/678)
خمسة، أضف لها واحدا لسطح تكن ستّة. أثبت واوا وعلّم عليها من بيت القصيد أربعة، وأضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطّالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر، أضف لها الباقي من الدور الثاني وهو خمسة تبلغ سبعة عشر، وهو ما للدور الثاني. فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار، فوقع العدد على واحد. أثبت الألف وعلّم عليها من بيت القصيد وأسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدّة الخارج من الدور الثاني، وضع الدور الثالث وأضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر، الباقي واحد. انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد وأدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر، وخذ ما وقع عليه العدد وهو (ق) وعلّم عليه. وأدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار وأثبت ما خرج، وهو سين، وعلّم عليه من بيت القصيد، ثمّ أدخل ممّا يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر وهو واحد، فخذ ممّا يلي حرف سين من الأوتار فكان (ب) أثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد. وهذا يقال له: الدور المعطوف، وميزانه صحيح، وهو أن تضعّف ثلاثة عشر بمثلها، وتضيف إليها الواحد الباقي من الدور تبلغ سبعة وعشرين، وهو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد. وأدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر، وانظر ما قابله من السّطح وأضعفه بمثله، وزد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر، فكان حرف جيم، وكانت للجملة سبعة، فذلك حرف زاي فأثبتناه وعلّمنا عليه من بيت القصيد. وميزانه أن تضعّف السبعة بمثلها وزد عليها الواحد الباقي من ثلاثة عشر يكن خمسة عشر، وهو الخامس عشر من بيت القصيد وهذا آخر أدوار الثلاثيّات، وضع الدور الرابع وله من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السّابق، فاضرب الطالع مع الدور في السّلطان، وهذا الدور آخر العمل في البيت الأوّل من الرّباعيّات.
فاضرب على حرفين من الأوتار واصعد بتسعة في ضلع ثمانية وأدخل بتسعة من دور الحرف الّذي أخذته آخرا من بيت القصيد، فالتّاسع حرف راء، فأثبته(1/679)
وعلّم عليه. وأدخل في صدر الجدول بتسعة وانظر ما قابلها من السّطح يكون (ج) ، قهقر العدد واحدا يكون ألف وهو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته وعلّم عليه. وعدّ ممّا يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضا أثبته وعلّم عليه وأضرب على حرف من الأوتار، وأضعف تسعة بمثلها تبلغ ثمانية عشر، أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين. وأدخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على (س) أثبتها وعلّم عليها اثنين، وأضف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر. أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السّطح ألف أثبتها وعلّم عليها ستّة، وضع الدور الخامس وعدّته سبعة عشر الباقي خمسة. اصعد بخمسة في ضلع ثمانية واضرب على حرفين من الأوتار وأضعف خمسة بمثلها، وأضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة وعشرون، أدخل بها في حروف الأوتار تقع على (ب) أثبتها وعلّم عليها اثنين وثلاثين واطرح من سبعة عشر اثنين الّتي هي في أسّ اثنين وثلاثين الباقي خمسة عشر. أدخل في حروف الأوتار تقف على (ق) أثبتها وعلّم عليها ستة وعشرين، وأدخل في صدر الجدول بست وعشرين تقف على اثنين بالغبار، وذلك حرف (ب) أثبته وعلّم عليه أربعة وخمسين، وأضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السادس، وعدّته ثلاثة عشر، الباقي منه واحد، فتبين إذ ذاك أنّ دور النظم من خمسة وعشرين، فإنّ الأدوار خمسة وعشرون وسبعة عشر وخمسة وثلاثة عشر وواحد، فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة وعشرين، وهو الدور في نظم البيت، فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد. ولكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدّمناه، لأنّه دور ثان من نشأة تركيبيّة ثانية، بل أضفنا الأربعة الّتي من أربعة وخمسين الخارجة على حروف (ب) من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة، تضيف خمسة إلى ثلاثة عشر الّتي للدور تبلغ ثمانية عشر، أدخل بها في صدر الجدول وخذ ما قابلها من السّطح وهو ألف، أثبته وعلّم عليه من(1/680)
بيت القصيد اثني عشر واضرب على حرفين من الأوتار. ومن هذا الجدول تنظر أحرف السّؤال، فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره وعلّم عليه من حروف السؤال ليكون داخلا في العدد في بيت القصيد، وكذلك تفعل بكلّ حرف بعد ذلك مناسبا لحروف السؤال، فما خرج منها زده إلى بيت القصيد من آخره وعلّم عليه، ثمّ أضف إلى ثمانية عشر ما علّمته على حرف الألف من الآحاد، فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين. أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبته وعلّم عليه من بيت القصيد، ستة وتسعين وهو نهاية الدور في الحرف الوتري. فاضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السّابع، وهو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الاختراعين. ولهذا الدور من العدد تسعة، تضيف لها واحدا تكون عشرة للنّشأة الثانية، وهذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دورا، إذا كان من هذه النّسبة، أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر. فاصعد في ضلع ثمانية وتسعين وأدخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة، وإنّما هي خمسون، نون مضاعفة بمثلها، وتلك (ق) أثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد اثنين وخمسين، وأسقط من اثنين وخمسين اثنين، وأسقط تسعة الّتي للدور، الباقي واحد وأربعون، فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته. وكذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحدا، فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلّم عليه من بيت القصيد علامتين. علامة على الألف الأخير الميزانيّ، وأخرى على الألف الأولى فقط، والثانية أربعة وعشرون واضرب على حرفين من الأوتار، وضع الدور الثامن وعدّته سبعة عشر الباقي خمسة، أدخل في ضلع ثمانية وخمسين وأدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين، أثبتها وعلّم عليها. وأدخل في الجدول بخمسة، وخذ ما قابلها من السطح، وذلك واحد، أثبته وعلّم عليه من البيت ثمانية وأربعين، وأسقط واحدا من ثمانية وأربعين للأس الثاني وأضف إليها خمسة، الدور. الجملة اثنان وخمسون. أدخل بها في صدر الجدول تقف(1/681)
على حرف (ب) غباريّة وهي مرتّبة مئينيّة لتزايد العدد، فتكون مائتين وهي حرف راء، أثبتها وعلّم عليها من القصيد أربعة وعشرين، فانتقل الأمر من ستّة وتسعين إلى الابتداء وهو أربعة وعشرون، فأضف إلى أربعة وعشرين خمسة، الدور، وأسقط واحدا تكون الجملة ثمانية وعشرين. أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية، أثبت (2) وعلّم عليها وضع الدور التاسع، وعدده ثلاثة عشر الباقي واحد، اصعد في ضلع ثمانية بواحد. وليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد، ولأنّه من النشأة الثانية، ولأنّه أوّل الثلث الثالث من مربّعات البروج وآخر الستّة الرابعة من المثلّثات. فاضرب ثلاثة عشر الّتي للدور في أربعة الّتي هي مثلّثات البروج السّابقة، الجملة اثنان وخمسون، أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غباريّة، وإنّما هي مئينيّة لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد والعشرات، فأثبته مائتين راء، وعلّم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين، وأضف إلى ثلاثة عشر، الدور، واحد الأسّ، وأدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية، فعلّم عليها ثمانية وعشرين، واطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة اضرب على حرفين من الأوتار، وأدخل بسبعة تقف على حرف لام، أثبته وعلّم عليه من البيت. وضع الدور العاشر وعدده تسعة، وهذا ابتداء المثلّثة الرابعة، واصعد في ضلع ثمانية بتسعة، تكون خلاء، فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء. اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين، وإنّما كانت تضرب في اثنين، وأدخل في الجدول بستّة وثلاثين تقف على أربعة زماميّة وهي عشريّة، فأخذناها أحاديّة لقلّة الأدوار، فأثبت حرف دال، وإن أضفت إلى ستة وثلاثين واحد الأسّ كان حدّها من بيت القصيد، فعلّم عليها، ولو دخلت بالتّسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية، فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة وهو المقصود. ولو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر الّتي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زماميّ وهو عشريّ، فاطرح(1/682)
منه اثنين تكرار التسعة، الباقي ثمانية نصفها المطلوب. ولو دخلت في صدر الجدول بسبعة وعشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زماميّة، والعمل واحد. ثمّ أدخل بتسعة في بيت القصيد وأثبت ما خرج وهو ألف، ثمّ اضرب تسعة في ثلاثة الّتي هي مركّب تسعة الماضية وأسقط واحدا وأدخل في صدر الجدول بستة وعشرين، وأثبت ما خرج وهو مائتان بحرف راء وعلّم عليه من بيت القصيد ستة وتسعين. واضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور الحادي عشر وله سبعة عشر الباقي خمسة، اصعد في ضلع ثمانية بخمسة وتحسب ما تكرّر عليه المشي في الدور الأوّل، وأدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال، فخذ ما قابله من السّطح وهو واحد، فأدخل بواحد في بيت القصيد تكن سين، أثبته وعلّم عليه أربعة. ولو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة. وأضعف سبعة عشر بمثلها وأسقط واحدا وأضعفها بمثلها وزدها أربعة تبلغ سبعة وثلاثين، أدخل بها في الأوتار تقف على ستّة أثبتها وعلّم عليها، وأضعف خمسة بمثلها. وأدخل في البيت تقف على لام أثبتها وعلّم عليها عشرين، واضرب على حرفين من الأوتار. وضع الدور الثاني عشر وله ثلاثة عشر الباقي واحد، اصعد في ضلع ثمانية بواحد، وهذا الدور آخر الأدوار وآخر الاختراعين وآخر المربّعات الثلاثيّة وآخر المثلّثات الرباعيّة. والواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زماميّة، وإنّما هي آحاد ثمانية، وليس معنا من الأدوار إلّا واحد، فلو زاد عن أربعة من مربّعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلّثات اثني عشر لكانت (ح) ، وإنّما هي (د) ، فأثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد أربعة وسبعين، ثمّ انظر ما ناسبها من السّطح تكن خمسة، أضعفها بمثلها للأسّ تبلغ عشرة، أثبت (ى) وعلّم عليها، وانظر في أيّ المراتب وقعت: وجدناها في الرابعة، دخلنا بسبعة في حروف الأوتار، وهذا المدخل يسمّى التوليد الحرفيّ فكانت (ف) ، أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور، الجملة ثمانية. أدخل بها في الأوتار تبلغ (س)(1/683)
أثبتها وعلّم عليها ثمانية، واضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور، فإنّها آخر مربّعات الأدوار بالمثلّثات تبلغ أربعة وعشرين، أدخل بها في بيت القصيد وعلّم على ما يخرج منها وهو مائتان وعلامتها ستّة وتسعون، وهو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفيّة، واضرب على حرفين من الأوتار وضع النتيجة الأولى ولها تسعة. وهذا العدد يناسب أبدا الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدوارا وذلك تسعة، فاضرب تسعة في ثلاثة الّتي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار، وأضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية وعشرين، فأدخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفا، أثبته وعلّم عليه ستّة وتسعين. وإن ضربت سبعة الّتي هي أدوار الحروف التسعينيّة في أربعة وهي الثلاثة الزائدة على تسعين، والواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك، واصعد في ضلع ثمانية بتسعة وأدخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زماميّة. واضرب تسعة فيما ناسب من السّطح، وذلك ثلاثة، وأضف لذلك سبعة، عدد الأوتار الحرفيّة، واطرح واحدا الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة وثلاثين، أدخل بها في البيت تبلغ خمسة، فأثبتها وأضف تسعة بمثلها وأدخل في صدر الجدول بثمانية عشر، وخذ ما في السّطح وهو واحد، أدخل به في حروف الأوتار تبلغ (م) أثبته وعلّم عليه، واضرب على حرفين من الأوتار. وضع النتيجة الثانية ولها سبعة عشر الباقي خمسة، فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة واضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر، أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة، وأدخل بستّة عشر في بيت القصيد تبلغ (ت) أثبته وعلّم عليه أربعة وستّين، وأضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين، وزد واحدا الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة، أدخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زماميّة، وانظر ما في السّطح تجد واحدا أثبته وعلّم عليه من بيت القصيد وهو التاسع أيضا من البيت، وأدخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة وهي عشرات، فأثبت (لام) وعلّم(1/684)
عليه وضع النتيجة الثالثة وعددها ثلاثة عشر الباقي واحد. فانقل في ضلع ثمانية بواحد وأضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين، وواحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر، وواحد النتيجة تكن ثمانية عشر، أدخل بها في حروف الأوتار تكن لا ما أثبتها فهذا آخر العمل.
والمثال في هذا السّؤال السابق: أردنا أن نعلم أنّ هذه الزايرجة علم محدث أو قديم، بطالع أوّل درجة من القوس، أثبتنا حروف الأوتار، ثمّ حروف السّؤال، ثمّ الأصول، وهي عدّة الحروف ثلاثة وتسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة، الطالع واحد، سلطان القوس أربعة، الدور الأكبر واحد، درج الطالع مع الدور اثنان، ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية، إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد.
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجد مثلا
حروف الأوتار: ص ط هـ ر ث ك هـ م ص ص ون ب هـ س أن ل م ن ص ع ف ص ور س ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ت ث خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص ر وح ر وح ل ص ك ل م ن ص أب ج د هـ وز ح ط ى.
(حروف السؤال) أل ز أى ر ج ة ع ل م م ح د ث أم ق د ى م الدور الأوّل 9 الدور الثاني 17 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي 1 الدور الرابع 9 الدور الخامس 17 الباقي 5 الدور السادس 13 الباقي 1 الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي 1 الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي 1 النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي 1.(1/685)
ف وز أوس ر ر أأ س أب أر ق أع أر ص ح ر ح ل د أر س أل د ى وس ر أد م ن أل ل.(1/686)
دورها على خمسة وعشرين ثم على ثلاثة وعشرين مرّتين ثم على واحد وعشرين مرّتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت وتنقل الحروف جميعا والله أعلم ن ف ر وح ر وح أل ود س أد ر ر س ر هـ أل د ر ى س وأ ن س د ر وأ ب لا أم ر ب وأ أل ع ل ل.
هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة. وللقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة.
وعندهم أنّ السرّ في استخراج الجواب منظوما من الزايرجة، إنّما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب وهو: سؤال عظيم الخلق البيت، ولذلك يخرج الجواب على رويّة. وأمّا الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم. فمن طرائقهم في استخراج الأجوبة ما ننقله عن بعض المحقّقين منهم.
2- فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية
اعلم أرشدنا الله وإيّاك أنّ هذه الحروف أصل الأسئلة في كلّ قضيّة، وإنّما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكليّة، وهي ثلاثة وأربعون حرفا كما ترى والله علّام الغيوب أول أع ظ س أل م خ ى د ل ز ق ت أر ذ ص ف ن غ ش أك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج هـ د ن ل ث أ.
وقد نظّمها بعض الفضلاء في بيت جعل فيه كلّ حرف مشدّد من حرفين وسمّاه القطب فقال:
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شكّ ضبطه الجدّ مثلا
فإذا أردت استنتاج المسألة فاحذف ما تكرّر من حروفها وأثبت ما فضّل منه. ثمّ احذف من الأصل وهو القطب لكلّ حرف فضل من المسألة حرفا يماثله، وأثبت ما فضّل منه. ثمّ امزج الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأوّل من(1/687)
فضله، والثاني من فضل المسألة. وهكذا إلى أن يتمّ الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر، فتضع البقيّة على ترتيبها. فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقا لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح، فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدّل بها الموازين الموسيقيّة وتكمل الحروف ثمانية وأربعين حرفا، فتعمّر بها جدولا مربّعا يكون آخر ما في السّطر الأوّل أوّل ما في السّطر الثاني، وتنقل البقيّة على حالها، وهكذا إلى أن تتمّ عمارة الجدول. ويعود السطر الأوّل بعينه وتتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة، ثمّ تخرج وتر كلّ حرف بقسمة مربّعة على أعظم جزء يوجد له، وتضع الوتر مقابلا لحرفه، ثمّ تستخرج النسب العنصريّة للحروف الجدوليّة، وتعرف قوّتها الطبيعيّة وموازينها الرّوحانيّة وغرائزها النفسانيّة وأسوسها الأصليّة من الجدول الموضوع لذلك، وهذه صورته:(1/688)
ثمّ تأخذ وتر كلّ حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة، واحذر ما يلي الأوتاد وكذلك السّواقط لأنّ نسبتها مضطربة. وهذا الخارج هو أوّل رتب السّريان. ثمّ تأخذ مجموع العناصر وتحطّ منها أسوس المولدات، يبقى أسّ عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونيّة، فتحمل عليه بعض المجرّدات عن الموادّ وهي عناصر الأمداد، يخرج أفق النّفس الأوسط، وتطرح أوّل رتب السّريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسّط. وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركّبة. ثمّ تضرب عالم التوسّط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أوّل رتب السّريان، ثمّ تطرح من الرابع أوّل عناصر الأمداد الأصليّ يبقى ثالث رتبة السّريان، فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع مرتبة السّريان، يخرج أوّل عالم التفصيل، والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، والثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل، والرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل. فتجمع عوالم التفصيل وتحطّ من عالم الكلّ، تبقى العوالم المجرّدة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأوّل، ويقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني، وما انكسر فهو الثالث، ويتعيّن الرابع هذا في الرّباعيّ. وإن شئت أكثر من الرّباعي فتستكثر من عوالم التّفصيل ومن رتب السّريان ومن الأوفاق بعد الحروف. والله يرشدنا وإياك. وكذلك إذا قسّم عالم التجريد على أوّل رتب السّريان خرج الجزء الأوّل من عالم التركيب، وكذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون. فافهم وتدبّر والله المرشد المعين.
ومن طريقهم أيضا في استخراج الجواب، قال بعض المحقّقين منهم: اعلم أيّدنا الله وإيّاك بروح منه، أنّ علم الحروف جليل يتوصّل العالم به لما لا يتوصّل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم، وللعمل به شرائط تلتزم. وقد يستخرج العالم أسرار الخليقة وسرائر الطّبيعة، فيطّلع بذلك على نتيجتي(1/689)
الفلسفة، أعني السّيميا وأختها، ويرفع له حجاب المجهولات ويطّلع بذلك على مكنون خبايا القلوب. وقد شهدت جماعة بأرض المغرب، ممّن اتّصل بذلك، فأظهر الغرائب وخرق العوائد وتصرّف في الوجود بتأييد الله.
واعلم أنّ ملاك كلّ فضيلة الاجتهاد وحسن الملكة مع الصّبر، مفتاح كلّ خير، كما أنّ الخرق والعجلة رأس الحرمان، فأقول: إذا أردت أن تعلم قوّة كلّ حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد، وهذا أوّل مدخل من علم الحروف، فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد، فتلك الدرجة الّتي هي مناسبة للحرف هي قوّته في الجسمانيّات. ثمّ اضرب العدد في مثله تخرج لك قوّته في الرّوحانيّات وهي وتره. وهذا في الحروف المنقوطة لا يتمّ بل يتمّ لغير المنقوطة، لأنّ المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد.
واعلم أنّ لكلّ شكل من أشكال الحروف شكلا في العالم العلويّ أعني الكرسيّ، ومنها المتحرّك والسّاكن والعلويّ والسّفليّ كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج.
واعلم أنّ قوى الحروف ثلاثة أقسام: الأوّل وهو أقلّها قوّة تظهر بعد كتابتها، فتكون كتابته لعالم روحانيّ مخصوص بذلك الحرف المرسوم، فمتى خرج ذلك الحرف بقوّة نفسانيّة وجمع همّة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام. الثاني قوّتها في الهيئة الفكريّة وذلك ما يصدر عن تصريف الرّوحانيّات لها، فهي قوّة في الرّوحانيّات العلويّات، وقوّة شكليّة في عالم الجسمانيّات. الثالث وهو يجمع الباطن، أعني القوّة النفسانيّة على تكوينه، فتكون قبل النطق به صورة في النفس، بعد النطق به صورة في الحروف وقوّة في النطق.
وأمّا طبائعها فهي الطبيعيّات المنسوبة للمتولّدات في الحروف وهي الحرارة(1/690)
واليبوسة، والحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة والبرودة والرطوبة، فهذا سرّ العدد اليمانيّ، والحرارة جامعة للهواء والنار وهما: (أهـ ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ث ظ) ، والبرودة جامعة للهواء والماء (ب وى ن ص ت ض د ح ل ع ر خ غ) واليبوسة جامعة للنار والأرض (أهـ ط م ف ش ذ ب وى ن ص ت ض) [1] فهذه نسبة حروف الطبائع وتداخل أجزاء بعضها في بعض. وتداخل أجزاء العالم فيها علويّات وسفليّات بأسباب الأمّهات الأوّل، أعني الطبائع الأربع المنفردة، فمتى أردت استخراج مجهول من مسألة ما، فحقّق طالع السائل أو طالع مسألته وأستنطق حروف أوتارها الأربعة: الأوّل والرابع والسابع والعاشر مستوية مرتّبة، واستخرج أعداد القوى والأوتار كما سنبيّن، واحمل وانسب واستنتج الجواب يخرج لك المطلوب، إمّا بصريح اللّفظ أو بالمعنى. وكذلك في كلّ مسألة تقع لك. بيانه: إذا أردت أن تستخرج قوى حروف الطالع، مع اسم السّائل والحاجة، فاجمع أعدادها بالجمّل الكبير، فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي، وهو أقوى هذه الأوتاد، فأسقط من كلّ برج حرفي التعريف، وانظر ما يخصّ كلّ برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها، واحذف أجزاء الكسر في النسب الاستنطاقيّة كلّها وأثبت تحت كلّ حرف ما يخصّه من ذلك، ثمّ أعداد حروف العناصر الأربعة وما يخصّها كالأوّل. وارسم ذلك كلّه أحرفا ورتّب الأوتاد والقوى والقرائن سطرا ممتزجا. وكسّر واضرب ما يضرب لاستخراج الموازين، واجمع واستنتج الجواب يخرج لك الضمير وجوابه. مثاله افرض أنّ الطالع الحمل كما تقدّم، ترسم (ح م ل) : فللحاء من العدد ثمانيّة لها النصف والربع والثمن (د ب أ) الميم لها من العدد أربعون، لها النصف والربع والثمن والعشر ونصف العشر إذا أردت التدقيق (م ك ى هـ د ب) اللّام لها من العدد ثلاثون، لها النصف والثلثان والثلث والخمس والسدس والعشر
__________
[1] علق الهوريني هنا بقوله: لعل هذه عبارة بعض المشارقة. لأن هذا ترتيب المشارقة. لا ترتيب المغاربة.(1/691)
(ك ى وهـ ج) . وهكذا تفعل بسائر حروف المسألة والاسم من كلّ لفظ يقع لك. وأمّا استخراج الأوتار فهو أن تقسم مربّع كلّ حرف على أعظم جزء يوجد له. مثاله: حرف (د) له من الأعداد أربعة مربّعها ستّة عشر، اقسمها على أعظم جزء يوجد لها وهو اثنان يخرج وترا لدال ثمانية. ثمّ تضع كلّ وتر مقابلا لحرفه. ثمّ تستخرج النسب العنصريّة، كما تقدّم في شرح الاستنطاق، ولها قاعدة تطّرد في استخراجها من طبع الحروف وطبع البيت الّذي يحلّ فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح. والله أعلم.
فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية بالقوانين الحرفية
وذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علّته، وما الموافق لبرئه منه، فمر السّائل أن يسمّي ما شاء من الأشياء على اسم العلّة المجهولة، لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك. ثمّ أستنطق الاسم مع اسم الطالع والعناصر والسائل واليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسألة، وإلّا اقتصرت على الاسم الّذي سمّاه السّائل، وفعلت به كما نبيّن. فأقول مثلا: سمّى السائل فرسا فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة. بيانه: أنّ للفاء من العدد ثمانين ولها (م ك ي ح ب) ثمّ الرّاء لها من العدد مائتان (ق ن ك ى) ثمّ السّين لها من العدد ستّون ولها (م ل ك) فالواو عدد تام له (د ج ب) والسّين مثله ولها (م ل ك) . فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين، فاحكم لأكثرهما حروفا بالغلبة على الآخر، ثمّ احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب وحروفه دون بسط، وكذلك اسم الطالب واحكم للأكثر والأقوى بالغلبة.
وصفة قوى استخراج العناصر [1] فتكون الغلبة هنا للتراب وطبعه البرودة، واليبوسة طبع السوداء، فتحكم
__________
[1] بياض بالأصل مقدار ثلاثة أسطر.(1/692)
على المريض بالسّوداء. فإذا ألفت من حروف الاستنطاق كلاما على نسبة تقريبيّة خرج موضع الوجع في الحلق، ويوافقه من الأدوية حقنة، ومن الأشربة شراب اللّيمون. هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس وهو مثال تقريبيّ مختصر. وأمّا استخراج قوى العناصر من الأسماء العلميّة فهو أن تسمي مثلا محمّدا، فترسم أحرفه مقطّعة، ثمّ تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك، يخرج لك ما في كلّ عنصر من الحروف والعدد. ومثاله:
فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء، لأنّ عدد حروفه عشرون حرفا، فجعلت له الغلبة على بقيّة عناصر الاسم المذكور، وهكذا يفعل بجميع الأسماء. حينئذ تضاف إلى أوتارها، أو للوتر المنسوب للطّالع في الزايرجة، أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب، الّذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة وهو هذا:
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجدّ مثلا
وهو وتر مشهور لاستخراج المجهولات، وعليه كان يعتمد ابن الرقّام وأصحابه. وهو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعيّة. وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطّعا ممتزجا بألفاظ السّؤال على قانون صنعة التكسير.(1/693)
وعدّة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة وأربعون حرفا، لأنّ كلّ حرف مشدّد من حرفين.
ثمّ تحذف ما تكرّر عند المزج من الحروف ومن الأصل، لكلّ حرف فضل من المسألة حرف يماثله، وتثبّت الفضلين سطرا ممتزجا بعضه ببعض الحروف. الأوّل من فضلة القطب والثاني من فضلة السّؤال، حتّى يتمّ الفضلتان جميعا، فتكون ثلاثة وأربعين، فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية وأربعين، لتعدّل بها الموازين الموسيقيّة. ثمّ تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصليّ قبل الحذف فالعمل صحيح، ثمّ عمّر بما مزجت جدولا مربّعا يكون آخر ما في السّطر الأوّل أوّل ما في السّطر الثاني.
وعلى هذا النّسق حتى يعود السّطر الأوّل بعينه، وتتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة. ثمّ تخرج وتر كلّ حرف كما تقدّم تضعه مقابلا لحرفه، ثمّ تستخرج النّسب العنصريّة للحروف الجدوليّة، لتعرف قوّتها الطبيعيّة وموازينها الروحانيّة وغرائزها النفسانيّة وأسوسها الأصليّة من الجدول الموضوع لذلك.
وصفة استخراج النسب العنصريّة هو أن تنظر الحرف الأوّل من الجدول ما طبيعته وطبيعة البيت الّذي حلّ فيه، فإن اتفقت فحسن، وإلّا فاستخرج بين الحرفين نسبة. ويتّسع هذا القانون في جميع الحروف الجدوليّة. وتحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينه كما هو مقرّر في دوائرها الموسيقيّة. ثمّ تأخذ وتر كلّ حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدّم. واحذر ما يلي الأوتاد. وكذلك السواقط لأنّ نسبتها مضطربة. وهذا الّذي يخرج لك هو أوّل مراتب السريان. ثمّ تأخذ مجموع العناصر وتحطّ منها أسوس المولّدات يبقى أسّ عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونيّة. فتحمل عليه بعض المجرّدات عن الموادّ وهي عناصر الإمداد، يخرج أفق النفس الأوسط. وتطرح أوّل رتب السريان من(1/694)
مجموع العناصر يبقى عالم التّوسّط. وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركّبة. ثمّ تضرب عالم التوسّط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أوّل رتب السريان، ثمّ تطرح من الرابع أوّل عناصر الإمداد الأصليّ يبقى ثالث رتبة السريان. ثمّ تضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدأ في رابع رتب السريان يخرج أوّل عالم التفصيل، والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، وكذلك الثالث والرابع، فتجمع عوالم التفصيل وتحطّ من عالم الكلّ، تبقى العوالم المجرّدة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأوّل. ومن هنا يطّرد العمل في التّامة. وله مقامات في كتب ابن وحشيّة والبونيّ وغيرهما. وهذا التدبير يجري على القانون الطبيعيّ الحكميّ في هذا الفنّ وغيره من فنون الحكمة الإلهيّة، وعليه مدار وضع الزيارج الحرفيّة والصّنعة الإلهيّة والنيرجات الفلسفيّة.
والله الملهم وبه المستعان وعليه التكلان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الفصل الثلاثون في علم الكيمياء
وهو علم ينظر في المادّة الّتي يتمّ بها كون الذّهب والفضّة بالصّناعة ويشرح العمل الّذي يوصل إلى ذلك فيتصفّحون المكوّنات كلّها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلّهم يعثرون على المادّة المستعدّة لذلك حتّى من العضلات الحيوانيّة كالعظام والرّيش والبيض والعذرات فضلا عن المعادن. ثمّ يشرح الأعمال الّتي تخرج بها تلك المادّة من القوّة إلى الفعل مثل حلّ الأجسام إلى أجزائها الطّبيعيّة بالتّصعيد والتّقطير وجمد الذّائب منها بالتّكليس وإمهاء الصّلب بالقهر والصّلابة وأمثال ذلك. وفي زعمهم أنّه يخرج بهذه الصّناعات كلّها جسم طبيعيّ يسمّونه الإكسير.
وأنّه يلقى منه على الجسم المعدنيّ المستعدّ لقبول صورة الذّهب أو الفضّة(1/695)
بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرّصاص والقصدير والنّحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا. ويكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا في اصطلاحاتهم بالرّوح وعن الجسم الّذي يلقى عليه بالجسد. فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصّناعيّ الّذي يقلب هذه الأجساد المستعدّة إلى صورة الذّهب والفضّة هو علم الكيمياء. وما زال النّاس يؤلّفون فيها قديما وحديثا. وربّما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها. وإمام المدوّنين فيها جابر بن حيّان حتّى إنّهم يخصّونها به فيسمّونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلّها شبيهة بالألغاز.
وزعموا أنّه لا يفتح مقفلها إلّا من أحاط علما بجميع ما فيها. والطّغراءيّ من حكماء المشرق المتأخّرين له فيها دواوين ومناظرات مع أهلها وغيرهم من الحكماء. وكتب فيها مسلمة المجريطيّ من حكماء الأندلس كتابه الّذي سمّاه رتبة الحكيم وجعله قرينا لكتابه الآخر في السّحر والطّلسمات الّذي سمّاه غاية الحكيم. وزعم أنّ هاتين الصّناعتين هما نتيجتان للحكمة وثمرتان للعلوم ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع. وكلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذّر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك. ونحن نذكر سبب عدو لهم إلى هذه الرّموز والألغاز. ولابن المغيربيّ من أئمّة هذا الشّأن كلمات شعريّة على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشّعر ملغوزة كلّها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم. وقد ينسبون للغزاليّ رحمه الله بعض التّآليف فيها وليس بصحيح لأنّ الرّجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطإ ما يذهبون إليه حتّى ينتحله. وربّما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم ومن المعلوم البيّن أنّ خالدا من الجيل العربيّ والبداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم والصّنائع بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنيّة على معرفة طبائع المركّبات وأمزجتها وكتب النّاظرين في ذلك من الطّبيعيّات والطّبّ لم تظهر بعد ولم تترجم اللهمّ إلّا أن(1/696)
يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصّناعيّة تشبّه باسمه فممكن. وأنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السّمح في هذه الصّناعة وكلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدلّ من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقّه من التّأمّل قال ابن بشرون بعد صدر من الرّسالة خارج عن الغرض:
«والمقدّمات الّتي لهذه الصّناعة الكريمة قد ذكرها الأوّلون واقتصّ جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن وتخلّق الأحجار والجواهر وطباع البقاع والأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها ولكن أبيّن لك من هذه الصّنعة ما يحتاج إليه فتبدأ بمعرفته فقد قالوا: ينبغي لطلّاب هذا العلم أن يعلموا أوّلا ثلاث خصال: أوّلها هل تكون؟ والثانية من أيّ تكون؟ والثّالثة من أيّ كيف تكون؟
فإذا عرف هذه الثّلاثة وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه وبلغ نهايته من هذا العلم وأمّا البحث عن وجودها والاستدلال عن تكوّنها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير. وأمّا من أيّ شيء تكون فإنّما يريدون بذلك البحث عن الحجر الّذي يمكنه العمل وإن كان العمل موجودا من كلّ شيء بالقوّة لأنّها من الطّبائع الأربع منها تركّبت ابتداء وإليها ترجع انتهاء ولكنّ من الأشياء ما يكون فيه بالقوّة ولا يكون بالفعل وذلك أنّ منها ما يمكن تفصيلها تعالج وتدبّر وهي الّتي تخرج من القوّة إلى الفعل والّتي لا يمكن تفصيلها لا تعالج ولا تدبّر لأنّها فيها بالقوّة فقط وإنّما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض وفضل قوّة الكبير منها على الصّغير. فينبغي لك وفّقك الله أن تعرف أوفق الأحجار المنفضلة الّتي يمكن فيها العمل وجنسه وقوّته وعمله وما يدبّر من الحلّ والعقد والتنقية والتّكليس والتنشيف والتّقليب فإنّ من لم يعرف هذه الأصول الّتي هي عماد هذه الصّنعة لم ينجح ولم يظفر بخير أبدا. وينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أو يكتفى به وحده وهل هو واحد في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التّدبير واحدا فسمّي حجرا. وينبغي لك أن تعلم كيفيّة عمله وكميّة(1/697)
أوزانه وأزمانه وكيف تركيب الرّوح فيه وإدخال النّفس عليه؟ وهل تقدر النّار على تفصيلها منه بعد تركيبها؟ فإن لم تقدر فلأيّ علّة وما السّبب الموجب لذلك؟
فإنّ هذا هو المطلوب فافهم. واعلم أنّ الفلاسفة كلّها مدحت النّفس وزعمت أنّها المدبّرة للجسد والحاملة له والدّافعة عنه والفاعلة فيه. وذلك أنّ الجسد إذا خرجت النّفس منه مات وبرد فلم يقدر على الحركة والامتناع من غيره لأنّه لا حياة فيه ولا نور. وإنّما ذكرت الجسد والنّفس لأنّ هذه الصّفات شبيهة بجسد الإنسان الّذي تركيبه على الغذاء والعشاء وقوامه وتمامه بالنّفس الحيّة النّورانيّة الّتي بها يفعل العظائم والأشياء المتقابلة الّتي لا يقدر عليها غيرها بالقوّة الحيّة الّتي فيها. وإنّما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه ولو اتّفقت طبائعه لسلمت من الأعراض والتّضادّ ولم تقدر النّفس على الخروج من بدنه ولكان خالدا باقيا. فسبحان مدبّر الأشياء تعالى. واعلم أنّ الطّبائع الّتي يحدث عنها هذا العمل كيفيّة دافعة في الابتداء فيضيّة محتاجة إلى الانتهاء وليس لها إذا صارت في هذا الحدّ أن تستحيل إلى ما منه تركّبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأنّ طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضا وصارت شيئا واحدا شبيها بالنّفس في قوّتها وفعلها وبالجسد في تركيبه ومجسّته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها. فيا عجبا من أفاعيل الطّبائع إنّ القوّة للضّعيف الّذي يقوى على تفصيل الأشياء وتركيبها وتمامها فلذلك قلت قويّ وضعيف. وإنّما وقع التّعبير والفناء في التّركيب الأوّل للاختلاف وعدم ذلك في الثّاني للاتّفاق. وقد قال بعض الأوّلين التّفصيل والتّقطيع في هذا العمل حياة وبقاء والتّركيب موت وفناء. وهذا الكلام دقيق المعنى لأنّ الحكيم أراد بقوله حياة وبقاء خروجه من العدم إلى الوجود لأنّه ما دام على تركيبه الأوّل فهو فان لا محالة فإذا ركّب التّركيب الثّاني عدم الفناء.
والتّركيب الثّاني لا يكون إلّا بعد التّفصيل والتّقطيع فإذا التّفصيل والتّقطيع في هذا العمل خاصّة. فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصّورة لأنّه قد صار(1/698)
في الجسد بمنزلة النّفس الّتي لا صورة لها وذلك أنّه لا وزن له فيه وسترى ذلك إن شاء الله تعالى وقد ينبغي لك أن تعلم أنّ اختلاط اللّطيف باللّطيف أهون من اختلاط الغليظ وإنّما أريد بذلك التّشاكل في الأرواح والأجساد لأنّ الأشياء تتّصل بأشكالها. وذكرت لك ذلك لتعلم أنّ العمل أوفق وأيسر من الطّبائع اللّطائف الرّوحانيّة منها من الغليظة الجسمانيّة. وقد يتصوّر في العقل أنّ الأحجار أقوى وأصبر على النّار من الأرواح كما ترى أنّ الذّهب والحديد والنّحاس أصبر على النّار من الكبريت والزّئبق وغيرهما من الأرواح فأقول إنّ الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلمّا أصابها حرّ الكيان قلبها أجسادا لزجة غليظة فلم تقدر النّار على أكلها لإفراط غلظها وتلزّجها. فإذا أفرطت النّار عليها صيّرتها أرواحا كما كانت أوّل خلقها. وإنّ تلك الأرواح اللّطيفة إذا أصابتها النّار أبقت ولم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صيّر الأجساد في هذه الحالة وصيّر الأرواح في هذا الحال فهو أجلّ ما تعرفه. أقول إنّما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها ولطافتها. وإنّما اشتعلت لكثرة رطوبتها ولأنّ النّار إذا أحسّت بالرّطوبة تعلّقت بها لأنّها هوائيّة تشاكل النّار ولا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى. وكذلك الأجساد إذا أحسّت بوصول النّار إليها لقلّة تلزّجها وغلظها وإنّما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنّها مركّبة من أرض وماء صابر على النّار فلطيفه متّحد بكثيفه لطول الطّبخ اللّين المازج للأشياء. وذلك أنّ كلّ متلاش إنّما يتلاشى بالنّار لمفارقة لطيفه من كثيفه ودخول بعضه في بعض على غير التّحليل والموافقة فصار ذلك الانضمام والتّداخل مجاورة لا ممازجة فسهل بذلك افتراقهما كالماء والدّهن وما أشبههما. وإنّما وصفت ذلك لتستدلّ به على تركيب الطّبائع وتقابلها فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظّك منها. وينبغي لك أن تعلم أنّ الأخلاط الّتي هي طبائع هذه الصّناعة موافقة بعضها لبعض مفصّلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه ولا في الكلّ كما قال الفيلسوف: إنّك إذا(1/699)
أحكمت تدبير الطّبائع وتآليفها ولم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه وقوامه إذ الطّبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبا فقد زاغ عنها ووقع في الخطإ. واعلم أنّ هذه الطّبيعة إذا حلّ لها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحلّ حتّى يشاكلها في الرّقّة واللّطافة انبسطت فيه وجرت معه حيثما جرى لأنّ الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط ولا تتزاوج وحلّ الأجساد لا يكون بغير الأرواح فافهم هداك الله هذا القول. واعلم هداك الله أنّ هذا الحلّ في جسد الحيوان هو الحقّ الّذي لا يضمحلّ ولا ينقص وهو الّذي يقلب الطّبائع ويمسكها ويظهر لها ألوانا وأزهارا عجيبة. وليس كلّ جسد يحلّ خلاف هذا هو الحلّ التّامّ لأنّه مخالف للحياة، وإنّما حلّه بما يوافقه ويدفع عنه حرق النّار، حتّى يزول عن الغلظ، وتنقلب الطّبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللّطافة والغلظ. فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التّحليل والتّلطيف ظهرت لها لك قوّة تمسك وتغوص وتقلب وتنفذ وكلّ عمل لا يرى له مصداق في أوّله فلا خير فيه. واعلم أنّ البارد من الطّبائع هو ييبّس الأشياء ويعقد رطوبتها والحارّ منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها وإنّما أفردت الحرّ والبرد لأنّهما فاعلان والرّطوبة واليبس منفعلان وعلى انفعال كلّ واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكوّن وإن كان الحرّ أكثر فعلا في ذلك من البرد لأنّ البرد ليس له نقل الأشياء ولا تحرّكها والحرّ هو علّة الحركة. ومتى ضعفت علّة الكون وهو الحرارة لم يتمّ منها شيء أبدا كما أنّه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثمّ برد أحرقته وأهلكته. فمن أجل هذه العلّة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كلّ ضدّ على ضدّه ويدفع عنه حرّ النّار. ولم يحذر الفلاسفة أكبر شيء إلّا من النّيران المحرقة. وأمرت بتطهير الطّبائع والأنفاس وإخراج دنسها ورطوبتها ونفي آفاتها وأوساخها عنها على ذلك استقام رأيهم وتدبيرهم فإنّما عملهم إنّما هو مع النّار أوّلا وإليها يصير أخيرا فلذلك قالوا: إياكم والنّيران المحرقات. وإنّما(1/700)
أرادوا بذلك نفي الآفات الّتي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه.
وكذلك كلّ شيء إنّما يتلاشى ويفسد من ذاته لتضادّ طبائعه واختلافه فيتوسّط بين شيئين فلم يجد ما يقوّيه ويعينه إلّا قهرته الآفة وأهلكته. واعلم أنّ الحكماء كلّها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها وأقوى على قتال النّار إذا هي باشرتها عند الألفة أعني بذلك النّار العنصريّة فاعلمه. ولنقل الآن على الحجر الّذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه فمنهم من زعم أنّه في الحيوان ومنهم من زعم أنّه في النّبات ومنهم من زعم أنّه في المعادن ومنهم من زعم أنّه في الجميع. وهذه الدّعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها ومناظرة أهلها عليها لأنّ الكلام يطول جدّا وقد قلت فيما تقدّم إنّ العمل يكون في كلّ شيء بالقوّة لأنّ الطّبائع موجودة في كلّ شيء فهو كذلك فنريد أن تعلم من أيّ شيء يكون العمل بالقوّة والفعل فنقصد إلى ما قاله الحرّانيّ إنّ الصّبغ كلّه أحد صبغين: إمّا صبغ جسد كالزّعفران في الثّوب الأبيض حتّى يحول فيه وهو مضمحلّ منتقض التّركيب، والصّبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره ولونه كتقليب الشّجر بل التّراب إلى نفسه وقلب الحيوان والنّبات إلى نفسه حتّى يصير التّراب نباتا والنّبات حيوانا ولا يكون إلّا بالرّوح الحيّ والكيان الفاعل الّذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان. فإذا كان هذا هكذا فنقول إنّ العمل لا بدّ أن يكون إمّا في الحيوان وإمّا في النّبات وبرهان ذلك أنّهما مطبوعان على الغذاء وبه قوامهما وتمامهما. فأمّا النّبات فليس فيه ما في الحيوان من اللّطافة والقوّة ولذلك قلّ خوض الحكماء فيه. وأمّا الحيوان فهو آخر الاستحالات الثّلاث ونهايتها وذلك أنّ المعدن يستحيل نباتا والنّبات يستحيل حيوانا والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو الطف منه إلّا أن ينعكس راجعا إلى الغلظ وأنّه أيضا لا يوجد في العالم شيء تتعلّق فيه الرّوح الحيّة غيره والرّوح الطف ما في العالم ولم تتعلّق الرّوح بالحيوان إلّا بمشاكلته إيّاها. فأمّا الرّوح الّتي في النّبات فإنّها(1/701)
يسيرة فيها غلظ وكثافة وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها وغلظ جسد النّبات فلم يقدر على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والرّوح المتحرّكة ألطف من الرّوح الكامنة كثيرا وذلك أنّ المتحرّكة لها قبول الغذاء والتّنقّل والتّنفّس وليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالرّوح الحيّة إلّا كالأرض عند الماء. كذلك النّبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى وأرفع وأهون وأيسر. فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرّب ما كان سهلا ويترك ما يخشى فيه عسرا. واعلم أنّ الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساما من الأمّهات الّتي هي الطّبائع والحديثة الّتي هي المواليد وهذا معروف متيسّر الفهم فلذلك قسمت الحكماء العناصر والمواليد أقساما حيّة وأقساما ميتة فجعلوا كلّ متحرّك فاعلا حيّا وكلّ ساكن مفعولا ميتا. وقسموا ذلك في جميع الأشياء وفي الأجساد الذّائبة وفي العقاقير المعدنيّة فسمّوا كلّ شيء يذوب في النّار ويطير ويشتعل حيّا وما كان على خلاف ذلك سمّوه ميتا فأمّا الحيوان والنّبات فسمّوا كلّ ما انفصل منها طبائع أربعا حيّا وما لم ينفصل سمّوه ميتا ثمّ إنّهم طلبوا جميع الأقسام الحيّة. فلم يجدوا لوفق هذه الصّناعة ممّا ينفصل فصولا أربعة ظاهرة للعيان ولم يجدوا غير الحجر الّذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتّى عرفوه وأخذوه ودبّروه فتكيّف لهم منه الّذي أرادوا. وقد يتكيّف مثل هذا في المعادن والنّبات بعد جمع العقاقير وخلطها ثمّ تفصل بعد ذلك. فأمّا النّبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مثل الأشنان [1] وأمّا المعادن ففيها أجساد وأرواح وأنفاس إذا مزجت ودبّرت كان منها ما له تأثير. وقد دبّرنا كلّ ذلك فكان الحيوان منها أعلى وأرفع وتدبيره أسهل وأيسر. فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان وطريق وجوده. إنّا بيّنّا أنّ الحيوان أرفع المواليد وكذا ما تركّب منه فهو ألطف منه
__________
[1] الأشنان: ما تغسل به الأيدي من الحمض. والأشنة شيء نباتي يتكون على الشجر والصخور (القاموس) .(1/702)
كالنّبات من الأرض. وإنّما كان النّبات ألطف من الأرض لأنّه إنّما يكون من جوهره الصّافي وجسده اللّطيف فوجب له بذلك اللّطافة والرّقة. وكذا هذا الحجر الحيوانيّ بمنزلة النّبات في التّراب. وبالجملة فإنّه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعا غيره فافهم هذا القول فإنّه لا يكاد يخفى إلّا على جاهل بيّن الجهالة ومن لا عقل له. فقد أخبرتك ماهيّة هذا الحجر وأعلمتك جنسه وأنّا أبيّن لك وجوه تدابيره حتّى يكمل الّذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه» ..
(التدبير على بركة الله) خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة والإنبيق وفصّل طبائعه الأربع الّتي هي النّار والهواء والأرض والماء وهي الجسد والصّبغ فإذا عزلت الماء عن التّراب والهواء عن النّار فارفع كلّ واحد في إنائه على حدة وخذ الهابط أسفل الإناء وهو الثّفل [1] فاغسله بالنّار الحارّة حتّى تذهب النّار عنه سواده ويزول غلظه وجفاؤه وبيّضه تبييضا محكما وطيّر عنه فضول الرّطوبات المستجنّة فيه فإنّه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه ولا وسخ ولا تضادّ. ثمّ اعمد إلى تلك الطّبائع الأوّل الصّاعدة منه فطهّرها أيضا من السّواد والتّضادّ وكرّر عليها الغسل والتّصعيد حتّى تلطف وترقّ وتصفو. فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الّذي عليه مدار العمل. وذلك أنّ التّركيب لا يكون إلّا بالتّزويج والتّعفين فأمّا التّزويج فهو اختلاط اللّطيف بالغليظ وأمّا التّعفين فهو التّمشية والسّحق حتّى يختلط بعضه ببعض ويصير شيئا واحدا لا اختلاف فيه ولا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء. فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللّطيف وتقوى الرّوح على مقابلة النّار وتصبر عليها وتقوى النّفس على الغوص في الأجساد والدّبيب فيها. وإنّما وجد ذلك بعد التّركيب لأنّ الجسد المحلول لمّا ازدوج بالرّوح مازجه بجميع أجزائه ودخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئا واحدا
__________
[1] الثفل: ما يستقر في أسفل الشيء من كدرة (القاموس) .(1/703)
ووجب من ذلك أن يعرض للرّوح من الصّلاح والفساد والبقاء والثّبوت وما يعرض للجسد لموضع الامتزاج. وكذلك النّفس إذا امتزجت بهما ودخلت فيهما بخدمة التّدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الرّوح والجسد وصارت هي وهما شيئا واحدا لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلّيّ الّذي سلمت طبائعه واتّفقت أجزاؤه فإذا ألقى هذا المركّب الجسد المحلول وألحّ عليه النّار وأظهر ما فيه من الرّطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول. ومن شأن الرّطوبة الاشتعال وتعلّق النّار بها فإذا أرادت النّار التّعلّق بها منعها من الاتّحاد بالنّفس ممازجة الماء لها. فإنّ النّار لا تتّحد بالدّهن حتّى يكون خالصا.
وكذلك الماء من شأنه النّفور من النّار. فإذا ألحّت عليه النّار وأرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطّيران فكان الجسد علّة لإمساك الماء والماء علّة لبقاء الدّهن والدّهن علّة لثبات الصّبغ والصّبغ علّة لظهور الدّهن وإظهار الدّهنيّة في الأشياء المظلمة الّتي لا نور لها ولا حياة فيها. فهذا هو الجسد المستقيم وهكذا يكون العمل. وهذه التّصفية الّتي سألت عنها وهي الّتي سمّتها الحكماء بيضة وإيّاها يعنون لا بيضة الدّجاج واعلم أنّ الحكماء لم تسمّها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها. ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوما وليس عنده غيري فقلت له: أيّها الحكيم الفاضل أخبرني لأيّ شيء سمّت الحكماء مركّب الحيوان بيضة؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل لمعنى غامض فقلت أيّها الحكيم وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصّناعة حتّى شبهوها وسمّوها بيضة؟ فقال: لشبهها وقرابتها من المركّب ففكّر فيه فإنّه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكّرا لا أقدر على الوصول إلى معناه. فلمّا رأى ما بي من الفكر وأنّ نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي وهزّني هزّة خفيفة وقال لي: يا أبا بكر ذلك للنّسبة الّتي بينهما في كميّة الألوان عند امتزاج الطّبائع وتأليفها. فلمّا قال ذلك انجلت عنّي الظّلمة وأضاء لي نور قلبي(1/704)
وقوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي وأقمت على ذلك شكلا هندسيّا يبرهن به على صحّة ما قاله مسلمة. وأنا واضعه لك في هذا الكتاب.
مثال ذلك أنّ المركّب إذا تمّ وكمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركّب من طبيعة النّار إلى ما في البيضة من طبيعة النّار. وكذلك الطّبيعتان الأخريان: الأرض والماء فأقول: إنّ كلّ شيئين متناسبين على هذه الصّفة هما متشابهان. ومثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزوح فإذا أردنا ذلك فإنّا نأخذ أقلّ طبائع المركّب وهي طبيعة اليبوسة ونضيف إليها مثلها من طبيعة الرّطوبة وندبّرهما حتّى تنشّف طبيعة اليبوسة طبيعة الرّطوبة وتقبل قوّتها. وكأنّ في هذا الكلام رمزا ولكنّه لا يخفى عليك. ثمّ تحمّل عليهما جميعا مثليهما من الرّوح وهو الماء فيكون الجميع ستّة أمثال. ثمّ تحمل على الجميع بعد التّدبير مثلا من طبيعة الهواء الّتي هي النّفس وذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوّة. وتجعل تحت كلّ ضلعين من المركّب الّذي طبيعته محيطة بسطح المركّب طبيعتين فتجعل أوّلا الضّلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء وطبيعة الهواء وهما ضلعا (أح د) وسطح (ابجد) وكذلك الضّلعان المحيطان بسطح البيضة اللّذان هما الماء والهواء ضلعا (هزوح) فأقول إنّ سطح (ابجد) يشبه سطح (هزوح) طبيعة الهواء الّتي تسمّى نفسا وكذلك (بج) من سطح المركّب. والحكماء لم تسمّ شيئا باسم شيء إلّا لشبهة به.
والكلمات الّتي سألت عن شرحها الأرض المقدّسة وهي المنعقدة من الطّبائع العلويّة والسّفليّة. والنّحاس هو الّذي أخرج سواده وقطّع حتّى صار هباء ثمّ حمّر بالزّاج حتّى صار نحاسيّا والمغنيسيا حجرهم الّذي تجمد فيه الأرواح وتخرجه الطّبيعة العلويّة الّتي تستجنّ فيها الأرواح لتقابل عليها النّار والفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان. والرّصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشّخوص ولكنّها متشاكلة ومتجانسة. فالواحدة روحانيّة نيّرة صافية وهي الفاعلة والثّانية نفسانيّة(1/705)
وهي متحرّكة حسّاسة غير أنّها أغلظ من الأولى ومركزها دون مركز الأولى والثّالثة قوّة أرضيّة حاسّة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها وهي الماسكة الرّوحانيّة والنّفسانيّة جميعا والمحيطة بهما. وأمّا سائر الباقية فمبتدعة ومخترعة، إلباسا على الجاهل، ومن عرف المقدّمات استغنى عن غيرها. فهذا جميع ما سألتني عنه وقد بعثت به إليك مفسّرا ونرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك والسّلام. انتهى كلام ابن بشرون وهو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطيّ شيخ الأندلس في علوم الكيمياء والسّيمياء والسّحر في القرن الثّالث وما بعده. وأنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلّها في الصّناعة إلى الرّمز والألغاز الّتي لا تكاد تبين ولا تعرف وذلك دليل على أنّها ليست بصناعة طبيعيّة. والّذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء وهو الحقّ الّذي يعضده الواقع أنّها من جنس آثار النّفوس الرّوحانيّة وتصرّفها في عالم الطّبيعة: إمّا من نوع الكرامة إن كانت النّفوس خيّرة أو من نوع السّحر إن كانت النّفوس شرّيرة فاجرة. فأمّا الكرامة فظاهرة وأمّا السّحر فلأنّ السّاحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان الماديّة بقوّته السّحريّة. ولا بدّ له مع ذلك عندهم من مادّة يقع فعله السّحريّ فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادّة التّراب أو الشّجر والنّبات وبالجملة من غير مادّتها المخصوصة بها، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال والعصيّ وكما ينقل عن سحرة السّودان والهنود في قاصية الجنوب والتّرك في قاصية الشّمال أنّهم يسحرون الجوّ للأمطار وغير ذلك. ولمّا كانت هذه تخليقا للذّهب في غير مادّته الخاصّة به كان من قبيل السّحر والمتكلّمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر ومسلمة. ومن كان قبلهم من حكماء الأمم إنّما نحوا هذا المنحى ولهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشّرائع على السّحر وأنواعه لا أنّ ذلك يرجع إلى الضّنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التّحقيق في ذلك. وانظر كيف سمّى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم وسمّى كتابه في السّحر والطّلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية وخصوص موضوع هذه(1/706)
لأنّ الغاية أعلى من الرّتبة فكأنّ مسائل الرّتبة بعض من مسائل الغاية وتشاركها في الموضوعات. ومن كلامه في الفنّين يتبيّن ما قلناه ونحن نبيّن فيما بعد غلط من يزعم أنّ مدارك هذا الأمر بالصّناعة الطّبيعيّة. والله العليم الخبير.
الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها
هذا الفصل وما بعده مهمّ لأنّ هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن.
وضررها في الدّين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحقّ فيها. وذلك أنّ قوما من عقلاء النّوع الإنسانيّ زعموا أنّ الوجود كلّه الحسّيّ منه وما وراء الحسّيّ تدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكريّة والأقيسة العقليّة وأنّ تصحيح العقائد الإيمانيّة من قبل النّظر لا من جهة السّمع فإنّها بعض من مدارك العقل. وهؤلاء يسمّون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللّسان اليونانيّ محبّ الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمّروا له وحوّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التّمييز بين الحقّ والباطل وسمّوه بالمنطق.
ومحصّل ذلك أنّ النّظر الّذي يفيد تمييز الحقّ من الباطل إنّما هو للذّهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشّخصيّة فيجرّد منها أوّلا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطّابع على جميع النّقوش الّتي ترسمها في طين أو شمع. وهذه مجرّدة من المحسوسات تسمّى المعقولات الأوائل. ثمّ تجرّد من تلك المعاني الكلّيّة إذا كانت مشتركة مع معان أخرى وقد تميّزت عنها في الذّهن فتجرّد منها معان أخرى وهي الّتي اشتركت بها. ثمّ تجرّد ثانيا إن شاركها غيرها وثالثا إلى أن ينتهي التّجريد إلى المعاني البسيطة الكلّيّة المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية. وهذه(1/707)
المجرّدات كلّها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمّى المعقولات الثّواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجرّدة وطلب تصوّر الوجود. كما هو فلا بدّ للذّهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقليّ اليقينيّ ليحصل تصوّر الوجود تصوّرا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مرّ. وصنف التّصديق الّذي هو تلك الاضافة والحكم متقدّم عندهم على صنف التّصوّر في النّهاية والتّصوّر متقدّم عليه في البداءة والتّعليم لأنّ التّصوّر التّامّ عندهم هو غاية الطّلب الإدراكيّ وإنّما التّصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيّين من تقدّم التّصوّر وتوقّف التّصديق عليه فبمعنى الشّعور لا بمعنى العلم التّامّ وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثمّ يزعمون أنّ السّعادة في إدراك الموجودات كلّها ما في الحسّ وما وراء الحسّ بهذا النّظر وتلك البراهين. وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الّذي فرّعوا عليه قضايا أنظارهم أنّهم عثروا أوّلا على الجسم السّفليّ بحكم الشّهود والحسّ ثمّ ترقّى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النّفس من قبل الحركة والحسّ في الحيوانات ثمّ أحسّوا من قوى النّفس بسلطان العقل. ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السّماويّ بنحو من القضاء على أمر الذّات الإنسانيّة. ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان ثمّ أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر، تسع مفصّلة ذواتها جمل وواحد أوّل مفرد وهو العاشر. ويزعمون أنّ السّعادة في إدراك الوجود على هذا النّحو من القضاء مع تهذيب النّفس وتخلّقها بالفضائل وأنّ ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرّذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته وأنّ ذلك إذا حصل للنّفس حصلت لها البهجة واللّذّة وأنّ الجهل بذلك هو الشّقاء السّرمديّ وهذا عندهم هو معنى النّعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم. وإمام هذه المذاهب(1/708)
الّذي حصّل مسائلها ودوّن علمها وسطّر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدونيّ من أهل مقدونية من بلاد الرّوم من تلاميذ أفلاطون وهو معلّم الإسكندر ويسمّونه المعلّم الأوّل على الإطلاق يعنون معلّم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذّبة وهو أوّل من رتّب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفّل له بقصدهم في الإلهيّات ثمّ كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتّبع فيها رأيه حذو النّعل بالنّعل إلّا في القليل. وذلك أنّ كتب أولئك المتقدّمين لمّا ترجمها الخلفاء من بني العبّاس من اللّسان اليونانيّ إلى اللّسان العربيّ تصفّحها كثير من أهل الملّة وأخذ من مذاهبهم من أضلّه الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابيّ في المائة الرّابعة لعهد سيف الدّولة وأبو عليّ بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما. واعلم أنّ هذا الرّأي الّذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه. فأمّا إسنادهم الموجودات كلّها إلى العقل الأوّل واكتفاؤهم به في التّرقّي إلى الواجب فهو قصور عمّا وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 16: 8» وكأنّهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عمّا وراءه بمثابة الطّبيعيّين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصّة المعرضين عن النّقل والعقل المعتقدين أنّه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء. وأمّا البراهين الّتي يزعمونها على مدّعياتهم في الموجودات ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض. أمّا ما كان منها في الموجودات الجسمانيّة ويسمّونه العلم الطّبيعيّ فوجه قصوره أنّ المطابقة بين تلك النّتائج الذّهنيّة الّتي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقينيّ لأنّ تلك أحكام ذهنيّة كلّيّة عامّة والموجودات الخارجيّة متشخّصة بموادّها. ولعلّ في الموادّ ما يمنع مطابقة الذّهنيّ الكلّيّ للخارجيّ الشّخصيّ اللَّهمّ إلّا ما لا يشهد له الحسّ(1/709)
من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الّذي يجدونه فيها؟ وربّما يكون تصرّف الذّهن أيضا في المعقولات الأوّل المطابقة للشّخصيّات بالصّور الخياليّة لا في المعقولات الثّواني الّتي تجريدها في الرّتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيّا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال. الانطباق فيها فنسلّم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك. إلّا أنّه ينبغي لنا الإعراض عن النّظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإنّ مسائل الطّبيعيّات لا تهمّنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها. وأمّا ما كان منها في الموجودات الّتي وراء الحسّ وهي الرّوحانيات ويسمّونه العلم الإلهيّ وعلم ما بعد الطّبيعة فإنّ ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التّوصّل إليها ولا البرهان عليها لأنّ تجريد المعقولات من الموجودات الخارجيّة الشّخصيّة إنّما هو ممكن فيما هو مدرك لنا.
ونحن لا ندرك الذّوات الرّوحانيّة حتّى نجرّد منها ماهيّات أخرى بحجاب الحسّ بيننا وبينها فلا يتأتّى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلّا ما نجده بين جنبينا من أمر النّفس الإنسانيّة وأحوال مداركها وخصوصا في الرّؤيا الّتي هي وجدانيّة لكلّ أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. وقد صرّح بذلك محقّقوهم حيث ذهبوا إلى أنّ مالا مادّة له لا يمكن البرهان عليه لأنّ مقدّمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتيّة. وقال كبيرهم أفلاطون: إنّ الإلهيّات لا يوصل فيها إلى أينين [1] وإنّما يقال فيها بالأخلق [2] والأولى يعني الظّنّ: وإذا كنّا إنّما نحصل بعد التّعب والنّصب على الظّنّ فقط فيكفينا الظّنّ الّذي كان أوّلا فأيّ فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنّما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسّ من الموجودات وهذه هي غاية الأفكار الإنسانيّة عندهم. وأمّا قولهم إنّ السّعادة في إدراك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يقين.
[2] وفي نسخة أخرى: بالأحق.(1/710)
الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيّف مردود وتفسيره أنّ الإنسان مركّب من جزءين أحدهما جسمانيّ والآخر روحانيّ ممتزج به ولكلّ واحد من الجزءين مدارك مختصّة به والمدرك فيهما واحد وهو الجزء الرّوحانيّ يدرك تارة مدارك روحانيّة وتارة مدارك جسمانيّة إلّا أنّ المدارك الرّوحانيّة يدركها بذاته بغير واسطة والمدارك الجسمانيّة بواسطة آلات الجسم من الدّماغ والحواسّ. وكلّ مدرك فله ابتهاج بما يدركه. واعتبره بحال الصّبيّ في أوّل مداركه الجسمانيّة الّتي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضّوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شكّ أنّ الابتهاج بالإدراك الّذي للنّفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشدّ وألذّ. فالنّفس الرّوحانيّة إذا شعرت بإدراكها الّذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذّة لا يعبّر عنهما وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم وإنّما يحصل بكشف حجاب الحسّ ونسيان المدارك الجسمانيّة بالجملة. والمتصوّفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنّفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرّياضة إماتة القوى الجسمانيّة ومداركها حتّى الفكر من الدّماغ وليحصل للنّفس إدراكها الّذي لها من ذاتها عند زوال الشّواغب والموانع الجسمانيّة يحصل لهم بهجة ولذّة لا يعبّر عنهما. وهذا الّذي زعموه بتقدير صحّته مسلّم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم. فأمّا قولهم إنّ البراهين والأدلّة العقليّة محصّلة لهذا النّوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلّة من جملة المدارك الجسمانيّة لأنّها بالقوى الدّماغيّة من الخيال والفكر والذّكر. ونحن نقول إنّ أوّل شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدّماغيّة كلّها لأنّها منازعة له قادحة فيه وتجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء والإشارات والنّجاء وتلاخيص ابن رشد للقصّ من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثّق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السّعادة فيها ولا يعلم أنّه يستكثر بذلك من الموانع عنها. ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو(1/711)
والفارابيّ وابن سينا أنّ من حصل له إدراك العقل الفعّال واتّصل به في حياته فقد حصّل حظّه من هذه السّعادة. والعقل الفعّال عندهم عبارة عن أوّل رتبة ينكشف عنها الحسّ من رتب الرّوحانيّات ويحملون الاتّصال بالعقل الفعّال على الإدراك العلميّ وقد رأيت فساده وإنّما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتّصال والإدراك إدراك النّفس الّذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلّا بكشف حجاب الحسّ. وأمّا قولهم إنّ البهجة النّاشئة عن هذا الإدراك هي عين السّعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنّا إنّما تبيّن لنا بما قرّروه أنّ وراء الحسّ مدركا آخر للنّفس من غير واسطة وأنّها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعيّن لنا أنّه عين السّعادة الأخرويّة ولا بدّ بل هي من جملة الملاذّ الّتي لتلك السّعادة. وأمّا قولهم إنّ السّعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبنيّ على ما كنّا قدّمناه في أصل التّوحيد من الأوهام والأغلاط في أنّ الوجود عند كلّ مدرك منحصر في مداركه وبيّنّا فساد ذلك وإنّ الوجود أوسع من إن يحاط به أو يستوفي إدراكه بجملته روحانيّا أو جسمانيّا. والّذي يحصل من جميع ما قرّرناه من مذاهبهم أنّ الجزء الرّوحانيّ إذا فارق القوى الجسمانيّة أدرك إدراكا ذاتيا له مختصّا بصنف من المدارك وهي الموجودات الّتي أحاط بها علمنا وليس بعامّ الإدراك في الموجودات كلّها إذ لم تنحصر وأنّه يبتهج بذلك النّحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصّبيّ بمداركه الحسيّة في أوّل نشوءه ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السّعادة الّتي وعدنا بها الشّارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. وأمّا قولهم إنّ الإنسان مستقلّ بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبنيّ على أنّ ابتهاج للنّفس بإدراكها الّذي لها من ذاتها هو عين السّعادة الموعود بها لأنّ الرّذائل عائقة للنّفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانيّة وألوانها. وقد بيّنّا أنّ أثر السّعادة والشّقاوة ومن وراء الإدراكات(1/712)
الجسمانيّة والرّوحانيّة فهذا التّهذيب الّذي توصّلوا إلى معرفته إنّما نفعه في البهجة النّاشئة عن الإدراك الرّوحانيّ فقط الّذي هو على مقاييس وقوانين. وأمّا ما وراء ذلك من السّعادة الّتي وعدنا بها الشّارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين. وقد تنبّه لذلك زعيمهم أبو عليّ ابن سينا فقال في كتاب المبدإ والمعاد ما معناه: إنّ المعاد الرّوحانيّ وأحواله هو ممّا يتوصّل إليه بالبراهين العقليّة والمقاييس لأنّه على نسبة طبيعيّة محفوظة ووتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة. وأمّا المعاد الجسمانيّ وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنّه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشّريعة الحقّة المحمّديّة فلينظر فيها وليرجع في أحواله إليها. فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم الّتي حوّموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشّرائع وظواهرها. وليس له فيما علمنا إلّا ثمرة واحدة وهي شحذ الذّهن في ترتيب الأدلّة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصّواب في البراهين. وذلك أنّ نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطيقيّة وقولهم بذلك في علومهم الطّبيعيّة وهم كثيرا ما يستعملونها في علومهم الحكميّة من الطّبيعيّات والتّعاليم وما بعدها فيستولي النّاظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصّواب في الحجج والاستدلالات لأنّها وإن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصحّ ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه ثمرة هذه الصّناعة مع الاطّلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارّها ما علمت. فليكن النّاظر فيها متحرّزا جهده معاطبها وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشّرعيّات والاطّلاع على التّفسير والفقه ولا يكبّنّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقلّ أن يسلم لذلك من معاطبها. والله الموفّق للصّواب وللحقّ والهادي إليه. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43
.(1/713)
الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها
هذه الصّناعة يزعم أصحابها أنّهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولّدات العنصرية مفردة ومجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالّة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلّيّة والشّخصيّة. فالمتقدّمون منهم يرون أنّ معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتّجربة وهو أمر تقصّر الأعمار كلّها لو اجتمعت عن تحصيله إذ التّجربة إنّما تحصل في المرّات المتعدّدة بالتّكرار ليحصل عنها العلم أو الظّنّ.
وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزّمن فيحتاج تكرّره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم. وربّما ذهب ضعفاء منهم إلى أنّ معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي وهو رأي فائل وقد كفونا مؤنة إبطاله. ومن أوضح الأدلّة فيه أن تعلم أنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام أبعد النّاس عن الصّنائع وأنّهم لا يتعرّضون للإخبار عن الغيب إلّا أن يكون عن الله فكيف يدّعون استنباطه بالصّناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. وأمّا بطليمس ومن تبعه من المتأخّرين فيرون أنّ دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعيّة من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصريّة قال لأنّ فعل النّيّرين وأثرهما في العنصريّات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشّمس في تبدّل الفصول وأمزجتها ونضج الثّمار والزّرع وغير ذلك وفعل القمر في الرّطوبات والماء وإنضاج الموادّ المتعفّنة وفواكه القناء [1] وسائر أفعاله. ثمّ قال: ولنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التّقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمّة الصّناعة إلّا أنّه غير مقنع للنّفس والثّانية الحدس والتّجربة بقياس كلّ واحد منها إلى النّيّر
__________
[1] فواكه القناء: فواكه الأشجار المغروسة في الحفر.(1/714)
الأعظم الّذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوّته ومزاجه فتعرف موافقته له في الطّبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادّته. ثمّ إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركّبة وذلك عند تناظرها بأشكال التّثليث والتّربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النّيّر الأعظم. وإذا عرفنا قوى الكواكب كلّها فهي مؤثرة في الهواء وذلك ظاهر.
والمزاج الّذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولّدات وتتخلّق به النّطف والبزر فتصير حالا للبدن المتكوّن عنها وللنّفس المتعلّقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه ولما يتبع النّفس والبدن من الأحوال لأنّ كيفيّات البزرة والنّطفة كيفيّات لما يتولّد عنهما وينشأ منهما. قال: وهو مع ذلك ظنّي وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضا من القضاء الإلهيّ يعني القدر إنّما هو من جملة الأسباب الطّبيعيّة للكائن والقضاء الإلهيّ سابق على كلّ شيء. هذا محصّل كلام بطليمس وأصحابه وهو منصوص في كتابه الأربع وغيره. ومنه يتبيّن ضعف مدرك هذه الصّناعة وذلك أنّ العلم الكائن أو الظّنّ به إنّما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل والقابل والصّورة والغاية على ما يتبيّن في موضعه. والقوى النّجوميّة على ما قرّروه إنّما هي فاعلة فقط والجزء العنصريّ هو القابل ثمّ إنّ القوى النّجوميّة ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادّيّ مثل قوّة التّوليد للأب والنّوع الّتي في النّطفة وقوى الخاصّة الّتي تميّز بها صنف من النّوع وغير ذلك. فالقوى النّجوميّة إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنّما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن. ثمّ إنّه يشترط مع العلم بقوى النّجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظّنّ بوقوع الكائن. والحدس والتّخمين قوى للنّاظر في فكره وليس من علل الكائن ولا من أصول الصّناعة فإذا فقد هذا الحدس والتّخمين رجعت أدراجها عن الظّنّ إلى الشّكّ. هذا إذا حصل العلم بالقوى النجوميّة على سداده ولم تعترضه آفة وهذا معوز(1/715)
لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرّف به أوضاعها ولما أنّ اختصاص كلّ كوكب بقوّة لا دليل عليه. ومدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشّمس مدرك ضعيف لأنّ قوّة الشّمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها فقلّ أن يشعر بالزّيادة فيها أو النّقصان منها عند المقارنة كما قال وهذه كلّها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصّناعة. ثمّ إنّ تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبيّن في باب التّوحيد أنّ لا فاعل إلّا الله بطريق استدلاليّ كما رأيته واحتجّ له أهل علم الكلام بما هو غنيّ عن البيان من أنّ إسناد الأسباب إلى المسبّبات مجهول الكيفيّة والعقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرّأي من التّأثير فلعلّ استنادها على غير صورة التّأثير المتعارف. والقدرة الإلهيّة رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علوّا وسفلا سيّما والشّرع يردّ الحوادث كلّها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ ممّا سوى ذلك. والنّبوءات أيضا منكرة لشأن النّجوم وتأثيراتها. واستقراء الشّرعيّات شاهد بذلك في مثل قوله: إنّ الشّمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته وفي قوله أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي. فأمّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأمّا من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصّحيح. فقد بان لك بطلان هذه الصّناعة من طريق الشّرع وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضارّ في العمران الإنسانيّ بما تبعث من عقائد العوامّ من الفساد إذا اتّفق الصّدق من أحكامها في بعض الأحايين اتّفاقا لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظنّ اطراد الصّدق في سائر أحكامها وليس كذلك. فيقع في ردّ الأشياء إلى غير خالقها. ثمّ ما ينشأ عنها كثيرا في الدّول من توقّع القواطع وما يبعث عليه ذلك التّوقّع من تطاول الأعداء والمتربّصين بالدّولة إلى الفتك والثّورة. وقد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصّناعة على جميع أهل(1/716)
العمران لما ينشأ عنها من المضارّ في الدّين والدّول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيّا للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم. فالخير والشّرّ طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما وإنّما يتعلّق التّكليف بأسباب حصولهما فيتعيّن السّعي في اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشّرّ والمضارّ. هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضارّه. وليعلم من ذلك أنّها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملّة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر وظنّ الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر. فإنّ الشّريعة لمّا حظرت النّظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتّحليق لتعليمها وصار المولع بها من النّاس وهم الأقلّ وأقلّ من الأقلّ إنّما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متستّرا عن النّاس وتحت ربقة الجمهور مع تشعّب الصّناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل؟ ونحن نجد الفقه الّذي عمّ نفعه دينا ودنيا وسهلت مآخذه من الكتاب والسّنّة وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه ثمّ بعد التّحقيق والتّجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعدّدها إنّما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال. فكيف يعلم مهجور للشّريعة مضروب دونه سدّ الخطر والتّحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لاصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين يكتنفان به من النّاظر فأين التّحصيل والحذق فيه مع هذه كلّها. ومدّعى ذلك من النّاس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفنّ بين أهل الملّة وقلّة حملته فاعتبر ذلك يتبيّن لك صحّة ما ذهبنا إليه. والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. وممّا وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عند ما غلب العرب عساكر السّلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء وقال في ذلك أبو القاسم الرّوحيّ من شعراء أهل تونس:(1/717)
أستغفر الله كلّ حين ... قد ذهب العيش والهناء
أصبح في تونس وأمسى ... والصّبح للَّه والمساء
الخوف والجوع والمنايا ... يحدثها الهرج والوباء
والنّاس في مرية وحرب ... وما عسى ينفع المراء
فأحمديّ يرى عليّا ... حلّ به الهلك والتّواء
وآخر قال سوف يأتي ... به إليكم صبا رخاء
والله من فوق ذا وهذا ... يقضي لعبديه ما يشاء
يا راصد الخنّس الجواري ... ما فعلت هذه السّماء
مطلتمونا وقد زعمتم ... أنّكم اليوم أملياء
مرّ خميس على خميس ... وجاء سبت وأربعاء
ونصف شهر وعشر ثان ... وثالث ضمّه القضاء
ولا نرى غير زور قول ... أذاك جهل أم ازدراء
إنّا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء
رضيت باللَّه لي إلها ... حسبكم البدر أو ذكاء
ما هذه الأنجم السّواري ... إلّا عباديد أو إماء
يقضى عليها وليس تقضي ... وما لها في الورى اقتضاء
ضلّت عقول ترى قديما ... ما شأنه الجرم والفناء
وحكمت في الوجود طبعا ... يحدثه الماء والهواء
لم تر حلوا إزاء مرّ ... تغذوهم تربة وماء
الله ربّي ولست أدري ... ما الجوهر الفرد والخلاء
ولا الهيولى الّتي تنادي ... ما لي عن صورة عراء
ولا وجود ولا، انعدام ... ولا ثبوت ولا انتفاء
والكسب لم أدر فيه إلّا ... ما جلب البيع والشّراء(1/718)
وإنّما مذهبي وديني ... ما كان للنّاس أولياء
إذ لا فصول ولا أصول ... ولا جدال ولا رياء
ما تبع الصّدر واقتفينا ... يا حبّذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلمون منهم ... ولم يكن ذلك الهذاء
يا أشعريّ الزّمان إنّي ... أشعرني الصّيف والشّتاء
لم أجز بالشّرّ غير شرّ ... والخير عن مثله جزاء
وإنّني إن أكن مطيعا ... فلست أعصى ولي رجاء
وإنّني تحت حكم بار ... أطاعه العرش والثّراء
ليس انتصار بكم ولكن ... أتاحه الحكم والقضاء
لو حدّث الأشعريّ عمّن ... له إلى رأيه انتماء
لقال أخبرهم بأنّي ... ممّا يقولونه براء
الفصل الثالث والثلاثون في انكار ثمرة الكيميا واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها
اعلم أنّ كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصّنائع ويرون أنّها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأنّ اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاقّ ومعاناة الصّعاب وعسف الحكّام وخسارة الأموال في النّفقات زيادة على النّيل من غرضه والعطب آخرا إذا ظهر على خيبة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. وإنّما أطمعهم في ذلك رؤية أنّ المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض للمادّة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضّة ذهبا والنّحاس والقصدير فضّة ويحسبون أنّها من ممكنات عالم(1/719)
الطّبيعة ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التّدبير وصورته وفي المادّة الموضوعة عندهم للعلاج المسمّاة عندهم بالحجر المكرّم هل هي العذرة أو الدّم أو الشّعر أو البيض أو كذا أو كذا ممّا سوى ذلك. وجملة التّدبير عندهم بعد تعيّن المادّة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء وبعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها ويؤثّر في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثمّ تجفّف بالشّمس من بعد السّقي أو تطبخ بالنّار أو تصعّد أو تكلّس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي بذلك كلّه من علاجها وتمّ تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كلّه تراب أو مائع يسمّونه الإكسير ويزعمون أنّه إذا ألقي على الفضّة المحماة بالنّار عادت ذهبا أو النّحاس المحمي بالنّار عاد فضّة على ما قصد به في عمله. ويزعم المحقّقون منهم أنّ ذلك الإكسير مادّة مركّبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاصّ والتّدبير مزاج ذو قوى طبيعيّة تصرف ما حصلت فيه إليها وتقلبه إلى صورتها ومزاجها وتبثّ فيه ما حصل فيها من الكيفيّات والقوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعا إلى الغذاء. وكذا إكسير الذّهب والفضّة فيما يحصل فيه من المعادن يصرفه إليهما ويقلبه إلى صورتهما. هذا محصّل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرّزق والمعاش فيه ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لأئمّة الصّناعة من قبلهم يتداولونها بينهم ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمّى. كتآليف جابر بن حيّان في رسائله السّبعين ومسلمة المجريطيّ في كتابه رتبة الحكيم والطّغرائيّ والمغيربيّ في قصائده العريقة في إجادة النّظم وأمثالها ولا يحلون من بعد هذا كلّه بطائل منها. ففاوضت يوما شيخنا أبا البركات التّلفيقيّ [1] كبير مشيخة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التلفيقي.(1/720)
الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التّآليف فيها فتصفّحه طويلا ثمّ ردّه إليّ وقال لي وأنا الضّامن له أن لا يعود إلى بيته إلّا بالخيبة. ثمّ منهم من يقتصر في ذلك على الدّلسة فقط. إمّا الظّاهرة كتمويه الفضّة بالذّهب أو النّحاس بالفضّة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفيّة كإلقاء الشّبه بين المعادن بالصّناعة مثل تبييض النّحاس وتلبيسه بالزّوق المصعّد فيجيء جسما معدنيّا شبيها بالفضّة ويخفى إلّا على النّقّاد المهرة فيقدّر أصحاب هذه الدّلس مع دلستهم [1] هذه سكّة يسربونها في النّاس ويطبعونها بطابع السّلطان تمويها على الجمهور بالخلاص. وهؤلاء أخسّ النّاس حرفة وأسوأهم عاقبة لتلبّسهم بسرقة أموال النّاس فإنّ صاحب هذه الدّلسة إنّما هو يدفع نحاسا في الفضّة وفضّة في الذّهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شرّ من السّارق. ومعظم هذا الصّنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية ويموّهون على الأغنياء منهم بأنّ بأيديهم صناعة الذّهب والفضّة والنّفوس مولعة بحبّهما والاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش. ثمّ يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرّقبة إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة فيفرّون إلى موضع آخر ويستجدّون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدّنيا بأطماعهم فيما لديهم. ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم وهذا الصّنف لا كلام معهم لأنّهم بلغوا الغاية في الجهل والرّداءة والاحتراف بالسّرقة ولا حاسم لعلّتهم إلّا اشتداد الحكّام عليهم وتناولهم من حيث كانوا وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأنّ فيه إفسادا للسّكّة الّتي تعمّ بها البلوى وهي متموّل النّاس كافّة. والسّلطان مكلّف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها. وأمّا من انتحل هذه الصّناعة ولم يرض بحال الدّلسة بل استنكف عنها ونزّه نفسه عن إفساد سكّة المسلمين ونقودهم وإنّما يطلب إحالة الفضّة للذّهب والرّصاص والنّحاس والقصدير إلى
__________
[1] الدلس: (بفتح الدال وسكون اللام) الخديعة والدلسة بضم الدال الظلمة (لسان العرب) .(1/721)
الفضّة بذلك النّحو من العلاج وبالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلّم وبحث في مداركهم لذلك. مع أنّا لا نعلم أنّ أحدا من أهل العالم تمّ له هذا الغرض أو حصل منه على بغية إنّما تذهب أعمارهم في التّدبير والفهر [1] والصّلابة والتّصعيد والتّكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها. ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم ممّن تمّ له الغرض منها أو وقف على الوصول يقنعون باستماعها والمفاوضات فيها ولا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلّفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه وقالوا إنّما سمعنا ولم نر. هكذا شأنهم في كلّ عصر وجيل واعلم أنّ انتحال هذه الصّنعة قديم في العالم وقد تكلّم النّاس فيها من المتقدّمين والمتأخّرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثمّ نتلوه بما يظهر فيها من التّحقيق الّذي عليه الأمر في نفسه فنقول إنّ مبنى الكلام في هذه الصّناعة عند الحكماء على حال المعادن السّبعة المتطرّقة وهي الذّهب والفضّة والرّصاص والقصدير والنّحاس والحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول وكلّها أنواع قائمة بأنفسها أو إنّها مختلفة بخواصّ من الكيفيّات وهي كلّها أصناف لنوع واحد؟ فالّذي ذهب إليه أبو النّصر الفارابيّ وتابعه عليه حكماء الأندلس أنّها نوع واحد وأنّ اختلافها إنّما هو بالكيفيّات من الرّطوبة واليبوسة واللّين والصّلابة والألوان من الصّفرة والبياض والسّواد وهي كلّها أصناف لذلك النّوع الواحد والّذي ذهب إليه ابن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنّها مختلفة بالفصول وأنّها أنواع متباينة كلّ واحد منها قائم بنفسه متحقّق بحقيقته له فصل وجنس شان سائر الأنواع. وبنى أبو نصر الفارابيّ على مذهبه في اتّفاقها بالنّوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدّل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصّنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء
__________
[1] الفهر: الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه. وقيل هو حجر يملأ الكف (لسان العرب) وهنا تعني الدق.(1/722)
عنده ممكنة سهلة المأخذ. وبنى أبو عليّ بن سينا على مذهبه في اختلافها بالنّوع إنكار هذه الصّنعة واستحالة وجودها بناء على أنّ الفصل لا سبيل بالصّناعة إليه وإنّما يخلقه خالق الأشياء ومقدّرها وهو الله عزّ وجلّ. والفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتّصوّر فكيف يحاول انقلابها بالصّنعة. وغلّطه الطّغرائيّ من أكابر أهل هذه الصّناعة في هذا القول. وردّ عليه بأنّ التّدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنّما هو في إعداد المادّة لقبوله خاصّة. والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه كما يفيض النّور على الأجسام بالصّقل والإمهاء. ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوّره ومعرفته قال: «وإذا كنّا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التّراب والنّتن ومثل الحيّات المتكوّنة من الشّعر ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النّحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. وتكوين القصب من قرون ذوات الظّلف وتصييره سكّرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذّهب والفضّة. فتتّخذ مادّة تضيفها للتّدبير بعد أن يكون فيها استعداد أوّل لقبول صورة الذّهب والفضّة. ثمّ تحاولها بالعلاج إلى أن يتمّ فيها الاستعداد لقبول فصلها» . انتهى كلام الطّغرائيّ بمعناه. وهو الّذي ذكره في الرّدّ على ابن سينا صحيح. لكنّ لنا في الرّدّ على أهل هذه الصّناعة مأخذا آخر يتبيّن منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين لا الطّغرائيّ ولا ابن سينا. وذلك أنّ حاصل علاجهم أنّهم بعد الوقوف على المادّة المستعدّة بالاستعداد الأوّل يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطّبيعة في الجسم المعدنيّ حتّى أحالته ذهبا أو فضّة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتمّ في زمان أقصر. لأنّه تبيّن في موضوعة أنّ مضاعفة قوّة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبيّن أنّ الذّهب إنّما يتمّ كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السّنين دورة الشّمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيّات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على(1/723)
ما قلناه أو يتحرّون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجيّة لتلك المادّة تصيّرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته وذلك هو الإكسير على ما تقدّم. واعلم أنّ كلّ متكوّن من المولّدات العنصريّة فلا بدّ فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النّسبة لما تمّ امتزاجها فلا بدّ من الجزء الغالب على الكلّ. ولا بدّ في كلّ ممتزج من المولّدات من حرارة غريزيّة هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته. ثمّ كلّ متكوّن في زمان فلا بدّ من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التّكوين من طور إلى طور حتّى ينتهي إلى غايته. وانظر شأن الإنسان في طور النّطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة ثمّ التّصوير ثمّ الجنين ثمّ المولود ثمّ الرّضيع ثمّ إلى نهايته. ونسب الأجزاء في كلّ طور تختلف في مقاديرها وكيفيّاتها وإلّا لكان الطّور الأوّل بعينه هو الآخر وكذا الحرارة الغريزيّة في كلّ طور مخالفة لها في الطّور الآخر. فانظر إلى الذّهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطّبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتمّ. ومن شرط الصّناعة أبدا تصوّر ما يقصد إليه بالصّنعة فمن الأمثال السّائرة للحكماء أوّل العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أوّل العمل. فلا بدّ من تصوّر هذه الحالات للذّهب في أحواله المتعدّدة ونسبها المتفاوتة في كلّ طور واختلاف الحارّ الغريزيّ عند اختلافها ومقدار الزّمان في كلّ طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه حتّى يحاذي بذلك كلّه فعل الطّبيعة في المعدن أو تعدّ لبعض الموادّ صورة مزاجيّة كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادّة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلّها إنّما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشريّة قاصرة عن ذلك وإنّما حال من يدّعي حصوله على الذّهب بهذه الصّنعة بمثابة من يدّعي بالصّنعة تخليق إنسان من المنيّ. ونحن إذا سلّمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفيّة تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما(1/724)
محصّلا بتفاصيله حتّى لا يشذّ منه شيء عن علمه سلّمنا له تحليق هذا الإنسان وأنّى له ذلك. ولنقرّب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول: حاصل صناعة الكيمياء وما يدّعونه بهذا التّدبير أنّه مساوقة الطّبيعية المعدنيّة بالفعل الصّناعيّ ومحاذاتها به إلى أن يتمّ كون الجسم المعدنيّ أو تخليق مادّة بقوى وأفعال وصورة مزاجيّة تفعل في الجسم فعلا طبيعيّا فتصيّره وتقلّبه إلى صورتها.
والفعل الصّناعيّ مسبوق بتصوّرات أحوال الطّبيعة المعدنيّة الّتي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادّة ذات القوى فيها تصوّرا مفصّلا واحدة بعد أخرى. وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشريّ عاجز عن الإحاطة بما دونها وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات. هذا محصّل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطّبيعة إنّما هو من تعذّر الإحاطة وقصور البشر عنها. وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. وذلك أنّ حكمة الله في الحجرين وندورهما أنّهما قيم لمكاسب النّاس ومتموّلاتهم. فلو حصل عليهما بالصّنعة لبطلت حكمة الله في ذلك وكثر وجودهما حتّى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. وله وجه آخر من الاستحالة أيضا وهو أنّ الطّبيعة لا تترك أقرب الطّرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطّريق الصّناعيّ الّذي يزعمون أنّه صحيح وأنّه أقرب من طريق الطّبيعة في معدنها أو أقلّ زمانا لما تركته الطّبيعة إلى طريقها الّذي سلكته في كون الفضّة والذّهب وتخلّقهما وأمّا تشبيه الطّغراءي هذا التّدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطّبيعة كالعقرب والنّحل والحيّة وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدّى إليه العثور كما زعم. وأمّا الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العالم أنّه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها عشواء إلى هلمّ جرّا ولا يظفرون إلّا بالحكايات الكاذبة. ولو صحّ ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه(1/725)
صحّة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا وإلى غيرنا. وأمّا قولهم إنّ الإكسير بمثابة الخميرة. وإنّه مركّب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك فاعلم أنّ الخميرة إنّما تقلب العجين وتعدّه للهضم وهو فساد والفساد في الموادّ سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطّبائع. والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين وصلاح والتّكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة. وتحقيق الأمر في ذلك أنّ الكيمياء إن صحّ وجودها كما تزعم الحكماء المتكلّمون فيها مثل جابر بن حيّان ومسلمة بن أحمد المجريطيّ وأمثالهم فليست من باب الصّنائع الطّبيعيّة ولا تتمّ بأمر صناعيّ. وليس كلامهم فيها من منحى الطّبيعيّات إنّما هو من منحى كلامهم في الأمور السّحريّة وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلّاج وغيره وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك. وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى وهذا كلام جابر في رسائله ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه وبالجملة فأمرها عندهم من كلّيّات الموادّ الخارجة عن حكم الصّنائع فكما لا يتدبّر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبّر ذهب من مادّة الذّهب في يوم ولا شهر ولا يتغيّر طريق عادته إلّا بإرفاد ما وراء عالم الطّبائع وعمل الصّنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيّا ضيّع ماله وعمله ويقال لهذا التّدبير الصّناعيّ التّدبير العقيم لأنّ نيله إن كان صحيحا فهو واقع ممّا وراء الطّبائع والصّنائع كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنّفوذ في كشائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطّير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: «وَإِذْ تَخْلُقُ من الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي 5: 110» [1] وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربّما أوتيها الصّالح ويؤتيها غيره فتكون عنده
__________
[1] سورة المائدة من الآية 110.(1/726)
معارة. وربّما أوتيها الصّالح ولا يملك إيتاءها فلا تتمّ في يد غيره. ومن هذا الباب يكون عملها سحريّا فقد تبيّن أنّها إنّما تقع بتأثيرات النّفوس وخوارق العادة إمّا معجزة أو كرامة أو سحرا. ولهذا كان كلام الحكماء كلّهم فيها إلغازا لا يظفر بحقيقته إلّا من خاض لجة من علم السّحر واطّلع على تصرّفات النّفس في عالم الطّبيعة. وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها. والله بما يعملون محيط. وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصّناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطّرق الطّبيعيّة للمعاش وابتغاؤه من غير وجوهه الطّبيعيّة كالفلاحة والتّجارة والصّناعة فيستصعب العاجز ابتغاءه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعيّة من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران حتّى في الحكماء المتكلّمين في إنكارها واستحالتها. فإنّ ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء فكان من أهل الغنى والثّروة والفارابيّ القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الّذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النّفوس المولعة بطرقها وانتحالها. والله الرّازق ذو القوّة المتين لا ربّ سواه.
الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل
اعلم أنّه ممّا أضرّ بالنّاس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التّآليف واختلاف الاصطلاحات في التّعاليم وتعدّد طرقها ثمّ مطالبة المتعلّم والتّلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلّم له منصب التّحصيل فيحتاج المتعلّم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها فيقع القصور ولا بدّ دون رتبة التّحصيل. ويمثّل ذلك من شأن الفقه في(1/727)
المذهب المالكيّ بالكتب المدوّنة مثلا وما كتب عليها من الشّروحات الفقهيّة مثل كتاب ابن يونس واللّخميّ وابن بشير والتّنبيهات والمقدّمات والبيان والتّحصيل على العتبيّة وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثمّ إنّه يحتاج إلى تمييز الطّريقة القيروانيّة من القرطبيّة والبغداديّة والمصريّة وطرق المتأخّرين عنهم والإحاطة بذلك كلّه وحينئذ يسلّم له منصب الفتيا وهي كلّها متكرّرة والمعنى واحد. والمتعلّم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها. ولو اقتصر المعلّمون بالمتعلّمين على المسائل المذهبيّة فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التّعليم سهلا ومأخذه قريبا ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة الّتي لا يمكن نقلها ولا تحويلها ويمثّل أيضا علم العربيّة من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريّين والكوفيّين والبغداديّين والأندلسيّين من بعدهم وطرق المتقدّمين والمتأخّرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلّم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلّا في القليل النّادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربيّة من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنّه استولى على غاية من ملكة تلك الصّناعة لم تحصل إلّا لسيبويه وابن جنّي وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفنّ وتفاريعه وحسن تصرّفه فيه. ودلّ على أنّ الفضل ليس منحصرا في المتقدّمين سيّما مع ما قدّمناه من كثرة الشّواغب بتعدّد المذاهب والطّرق والتّآليف ولكنّ فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود وإلّا فالظّاهر أنّ المتعلّم ولو قطع عمره في هذا كلّه فلا يفي له بتحصيل علم العربيّة مثلا الّذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الّذي هو الثّمرة؟ ولكنّ الله يهدي من يشاء
.(1/728)
الفصل الخامس والثلاثون في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف والغاء ما سواها
اعلم أنّ العلوم البشريّة خزانتها النفس الإنسانيّة بما جعل الله فيها من الإدراك الّذي يفيدها ذلك الفكر المحصّل لها ذلك بالتّصوّر للحقائق أوّلا، ثمّ بإثبات العوارض الذاتيّة لها أو نفيها عنها ثانيا، إمّا بغير وسط أو بوسط، حتّى يستنتج الفكر بذلك مطالبه الّتي يعنى بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرّت من ذلك صورة علميّة في الضمير فلا بدّ من بيانها لآخر، إمّا على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنّما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركّب من الألفاظ النطقيّة الّتي خلقها الله في عضو اللّسان مركّبة من الحروف، وهي كيفيّات الأصوات المقطّعة بعضلة اللهاة واللّسان ليتبيّن بها ضمائر المتكلّمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عمّا في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكلّ ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد، أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدلّ أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقيّة حروفا بحروف وكلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقيّ، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا، فسمّي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخّر، وهؤلاء هم المؤلّفون. والتآليف بين العوالم البشريّة والأمم الإنسانيّة كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأخبار عن الأمم والدول.(1/729)
وأمّا العلوم الفلسفيّة، فلا اختلاف فيها، لأنّها إنّما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكريّة، في تصوّر الموجودات على ما هي عليه، جسمانيّها وروحانيّها وفلكيّها وعنصريّها ومجرّدها ومادّتها. فإنّ هذه العلوم لا تختلف، وإنّما يقع الاختلاف في العلوم الشرعيّة لاختلاف الملل، أو التاريخيّة لاختلاف خارج الخبر. ثمّ الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمّى ذلك قلما وخطّا. فمنها الخطّ الحميريّ، ويسمّى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخّرين من مضر، كما يخالف لغتهم. وإنّ الكلّ عربيّا. إلّا أنّ ملكة هؤلاء في اللّسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكلّ منهما قوانين كلّيّة مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربّما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. ومنها الخطّ السّريانيّ، وهو كتابة النّبط والكلدانيّين. وربّما يزعم بعض أهل الجهل أنّه الخطّ الطبيعيّ لقدمه فإنّهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامّي. لأنّ الأفعال الاختياريّة كلّها ليس شيء منها بالطبع، وإنّما هو يستمرّ بالقدم والمران حتّى يصير ملكة راسخة، فيظنّها المشاهد طبيعيّة كما هو رأي كثير من البلداء في اللّغة العربيّة، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم. ومنها الخطّ العبرانيّ الّذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم. ومنها الخطّ اللطينيّ، خطّ اللطينيّين من الروم، ولهم أيضا لسان مختصّ بهم. ولكلّ أمّة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختصّ بها.
مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنّما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى.
أمّا السّريانيّ فلقدمه كما ذكرنا، وأمّا العربيّ والعبريّ فلتنزّل القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطّان بيانا لمتلوّهما، فوقعت العناية بمنظومهما أوّلا وانبسطت قوانين لاطّراد العبارة في تلك اللّغة على أسلوبها لتفهم الشّرائع التكليفيّة من ذلك الكلام الربّانيّ. وأمّا اللطينيّ فكان الروم، وهم أهل ذلك(1/730)
اللّسان، لما أخذوا بدين النّصرانيّة، وهو كلّه من التوراة، كما سبق في أوّل الكتاب، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليّين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها.
وأمّا الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنّما هي لكلّ أمّة بحسب اصطلاحها. ثمّ إنّ الناس حصروا مقاصد التأليف الّتي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدّوها سبعة:
أوّلها: استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبّع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقّق ويحرص على إيصاله بغيره، لتعمّ المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعلّ المتأخّر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلّم الشافعيّ أوّلا في الأدلّة الشرعيّة اللفظيّة ولخصها، ثمّ جاء الحنفيّة فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.
وثانيها: أن يقف على كلام الأوّلين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممّن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقّها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف.
وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطإ في كلام المتقدّمين ممّن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الّذي لا مدخل للشكّ فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذّر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلّف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.
ورابعها: أن يكون الفنّ الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب(1/731)
انقسام موضوعة فيقصد المطّلع على ذلك أن يتمّم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفنّ بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتّبة في أبوابها ولا منتظمة، فيقصد المطّلع على ذلك أن يرتّبها ويهذّبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدوّنة من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي العتبيّة من رواية العتبيّ عن أصحاب مالك، فإنّ مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذّب ابن أبي زيد المدوّنة وبقيت العتبيّة غير مهذّبة.
فنجد في كلّ باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدوّنة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعيّ من بعده.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرّقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبّه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفنّ وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فنّ ينظّمه في جملة العلوم الّتي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان.
فإنّ عبد القاهر الجرجانيّ وأبا يوسف السّكاكيّ وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تنبّه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولا لفنّ البيان، ولقّنها المتأخّرون فأربوا فيها على كلّ متقدّم.
وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف الّتي هي أمّهات للفنون مطوّلا مسهبا فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرّر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروريّ لئلّا يخلّ بمقصد المؤلّف الأوّل.
فهذه جماع المقاصد الّتي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادّة الّتي يتعيّن سلوكها في نظر العقلاء،(1/732)
مثل انتحال ما تقدّم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخّر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفنّ أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدّل الصواب بالخطإ، أو يأتي بما لا فائدة فيه.
فهذا شأن الجهل والقحّة. ولذا قال أرسطو، لمّا عدّد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحّة. نعوذ باللَّه من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للّتي هي أقوم.
الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخّرين إلى اختصار الطّرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدوّنون منها برنامجا مختصرا في كلّ علم يشتمل على حصر مسائله وأدلّتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفنّ. وصار ذلك مخلّا بالبلاغة وعسرا على الفهم. وربّما عمدوا إلى الكتب الأمّهات المطوّلة في الفنون للتّفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وابن مالك في العربيّة والخونجيّ في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التّعليم وفيه إخلال بالتّحصيل وذلك لأنّ فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعدّ لقبولها بعد وهو من سوء التّعليم كما سيأتي. ثمّ فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلّم بتتبّع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأنّ ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثمّ بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التّعليم في تلك المختصرات إذا تمّ على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات الّتي تحصل من الموضوعات البسيطة المطوّلة لكثرة ما يقع(1/733)
في تلك من التّكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التّامّة. وإذا اقتصر على التّكرار قصّرت الملكة لقلّته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلّمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النّافعة وتمكّنها. «ومن يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» . والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب. ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد [1] عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله. ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشّرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ فتجود ملكته. ثمّ يرجع به وقد شدّ فلا يترك عويصا ولا مهمّا ولا مغلقا إلّا وضّحه وفتح له مقفله فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته هذا وجه التّعليم المفيد وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات.
وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسّر عليه وقد شاهدنا كثيرا من المعلّمين لهذا العهد الّذي أدركنا يجهلون طرق التّعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلّم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يورد.(1/734)
ذهنه في حلّها ويحسبون ذلك مرانا على التّعليم وصوابا فيه ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات [1] الفنون في مبادئها وقبل أن يستعدّ لفهمها فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلّا في الأقلّ وعلى سبيل التّقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة. ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه والانتقال فيها من التّقريب إلى الاستيعاب الّذي فوقه، حتّى تتمّ الملكة في الاستعداد ثمّ في التّحصيل ويحيط هو بمسائل الفنّ وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنّما أتى ذلك من سوء التّعليم. ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الّذي أكبّ على التّعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتّعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتّى يعيه من أوّله إلى آخره ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعدّ بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنّهوض إلى ما فوق حتّى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التّحصيل وهجر العلم والتّعليم. والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنّه ذريعة إلى النّسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنّسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة النّاشئة عنه. والله علّمكم ما لم تكونوا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: غرائب.(1/735)
تعلمون. ومن المذاهب الجميلة والطّرق الواجبة في التّعليم أن لا يخلط على المتعلّم علمان معا فإنّه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كلّ واحد منهما إلى تفهّم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرّغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربّما كان ذلك أجدر لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفّق للصّواب. واعلم أيّها المتعلّم أنّي أتحفك بفائدة في تعلّمك فإن تلقّيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصّناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقدّم لك مقدّمة تعينك في فهمها وذلك أنّ الفكر الإنسانيّ طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو (وجدان حركة للنّفس) [1] في البطن الأوسط من الدّماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانيّة على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجّه إلى المطلوب. وقد يصوّر طرفيه [2] يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الّذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعدّدا ويصير إلى الظّفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطّبيعة الفكريّة الّتي تميّز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثمّ الصّناعة المنطقيّة هي كيفيّة فعل هذه الطّبيعة الفكريّة النّظريّة تصفه لتعلم سداده من خطئه وأنّها وإن كان الصّواب لها ذاتيّا إلّا أنّه قد يعرض لها الخطأ في الأقلّ من تصوّر الطّرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنّتاج فتعين المنطق للتّخلّص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعيّ مساوق للطّبيعة الفكريّة ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمرا صناعيّا استغني عنه في الأكثر.
ولذلك تجد كثيرا من فحول النّظّار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق ولا سيّما مع صدق النّيّة والتّعرّض لرحمة الله تعالى فإنّ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فعل حركة في النفس وقوة.
[2] وفي النسخة الباريسية: طريقيه.(1/736)
ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطّبيعة الفكريّة على سدادها فيفضي بالطّبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثمّ من دون هذا الأمر الصّناعيّ الّذي هو المنطق مقدّمة أخرى من التّعلّم وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذّهنيّة تردها [1] من مشافهة الرّسوم بالكتاب ومشافهة اللّسان بالخطاب. فلا بدّ أيّها المتعلّم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأوّلا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفّها [2] ثمّ دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثمّ القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثمّ تلك المعاني مجرّدة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطّبيعة الفكريّة بالتّعرّض لرحمة الله ومواهبه. وليس كلّ أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التّعليم بسهولة، بل ربّما وقف الذّهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلّة بشغب الجدال والشّبهات وقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلّص من تلك الغمرة إلّا قليلا ممّن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك [3] في فهمك أو تشغيب بالشّبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشّبهات واترك الأمر الصّناعيّ جملة وأخلص إلى فضاء الفكر الطّبيعيّ الّذي فطرت عليه. وسرّح نظرك فيه وفرّغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النّظّار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظّفر بمطلوبك وحصل الإمام الوسط الّذي جعله الله من مقتضيات [4] هذا الفكر ونظره عليه كما قلناه وحينئذ فارجع
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تؤديها.
[2] وفي النسخة الباريسية: احفظها.
[3] وفي النسخة الباريسية: ارتياب.
[4] وفي النسخة الباريسية: من مفيضات.(1/737)
به إلى قوالب الأدلّة وصورها فأفرغه فيها ووفّه حقّه من القانون الصّناعيّ ثمّ اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.
وأمّا إن وقفت عند المناقشة والشّبهة في الأدلّة الصّناعيّة وتمحيص صوابها من خطئها وهذه أمور صناعيّة وضعيّة تستوي جهاتها المتعدّدة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميّز جهة الحقّ منها إذ جهة الحقّ إنّما تستبين [1] إذا كانت بالطّبع فيستمرّ ما حصل من الشّكّ والارتياب وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالنّاظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثرين من النّظّار والمتأخّرين سيّما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه ومن حصل له شغب بالقانون المنطقيّ تعصّب له فاعتقد أنّه الذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلّة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها. والذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع إنّما هو الفكر الطّبيعيّ كما قلناه إذا جرّد عن جميع الأوهام وتعرّض النّاظر فيه إلى رحمة الله تعالى وأمّا المنطق فإنّما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصّواب. والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلّا من عند الله.
الفصل الثامن والثلاثون في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل
اعلم أنّ العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذّات كالشّرعيّات من التّفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطّبيعيّات والإلهيّات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آليّة [2] لهذه العلوم كالعربيّة والحساب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تتميز.
[2] وفي النسخة الباريسية: آلة ووسيلة.(1/738)
وغيرهما للشّرعيّات كالمنطق للفلسفة. وربّما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخّرين فأمّا العلوم الّتي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلّة والأنظار فإنّ ذلك يزيد طالبها تمكّنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة. وأمّا العلوم الّتي هي آلة لغيرها مثل العربيّة والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلّا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرّع المسائل لأنّ ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلّما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربّما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذّات لطول وسائلها مع أنّ شأنها أهمّ والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصّورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآليّة تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني. وهذا كما فعل المتأخّرون في صناعة النّحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التّفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد [1] وربّما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللّغو وهي أيضا مضرّة بالمتعلّمين على الإطلاق لأنّ المتعلّمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها [2] فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟ فلهذا يجب على المعلّمين لهذه العلوم الآليّة أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبّهوا المتعلّم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همّته بعد ذلك إلى شيء من التّوغّل ورأى من نفسه قياما بذلك وكفاية به فليرقّ [3] له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا وكلّ ميسّر لما خلق له.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وصيرها مقصودة بذاتها.
[2] وفي نسخة أخرى: بهذه الآلات والوسائل.
[3] وفي نسخة أخرى: فليختر لنفسه.(1/739)
الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أخذ به أهل الملّة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات. وسبب ذلك أنّ التّعليم في الصّغر أشدّ رسوخا وهو أصل لما بعده لأنّ السّابق الأوّل للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من يبنى عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التّعليم من الملكات. فأمّا أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرّسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى [1] البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حدّ البلوغ إلى الشّبيبة. وكذا في الكبير إذا رجّع [2] مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأمّا أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الّذي يراعونه في التّعليم. إلّا أنّه لمّا كان القرآن أصل ذلك وأسّه ومنبع الدّين والعلوم جعلوه أصلا في التّعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشّعر في الغالب والتّرسل وأخذهم بقوانين
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من قراء البربر.
[2] وفي نسخة أخرى: راجع.(1/740)
العربيّة وحفظها وتجويد الخطّ والكتاب. ولا تختصّ عنايتهم في التّعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخطّ أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشّبيبة وقد شدا [1] بعض الشّيء في العربيّة والشّعر والبصر بهما وبرّز في الخطّ والكتاب وتعلّق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم.
لكنّهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التّعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلّا ما حصل من ذلك التّعليم الأوّل. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلّم. وأمّا أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلّا أنّ عنايتهم بالقرآن واستنظار [2] الولدان إيّاه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر ممّا سواه وعنايتهم بالخطّ تبع لذلك. وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأنّ سند طريقتهم في ذلك متّصل بمشيخة الأندلس الّذين أجازوا عند تغلّب النصارى على شرق الأندلس، واستقرّوا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. وأمّا أهل المشرق فيخلطون في التّعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها. والّذي ينقل لنا أنّ عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشّبيبة ولا يخلطون بتعليم الخطّ بل لتعليم الخطّ عندهم قانون ومعلّمون له على انفراده كما تتعلّم سائر الصّنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصّبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخطّ قاصر عن الإجادة ومن أراد تعلّم الخطّ فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمّة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته. فأمّا أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أنّ القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أنّ البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير
__________
[1] شد من المعلم: أخذ.. (قاموس) .
[2] وفي نسخة أخرى: استظهار.(1/741)
أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللّسان العربيّ وحظّه الجمود في العبارات وقلّة التّصرّف في الكلام. وربّما كان أهل إفريقية في ذلك أخفّ من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التّصرّف ومحاذاة المثل بالمثل إلّا أنّ ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. وأمّا أهل الأندلس فأفادهم التّفنّن في التّعليم وكثرة رواية الشّعر والتّرسّل ومدارسة العربيّة من أوّل العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللّسان العربيّ. وقصّروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الّذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل حظّ وأدب بارع أو مقصّر، على حسب ما يكون التّعليم الثّاني من بعد تعليم الصّبيّ [1] . ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربيّ في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التّعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدّم تعليم العربيّة والشّعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: «لأنّ الشّعر ديوان العرب ويدعو على تقديمه وتعليم [2] العربيّة في التّعليم ضرورة فساد اللّغة ثمّ ينتقل منه إلى الحساب فيتمرّن فيه حتّى يرى القوانين ثمّ ينتقل إلى درس القرآن فإنّه يتيسّر عليك بهذه المقدّمة» . ثمّ قال:
«ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصّبيّ بكتاب الله في أوامره [3] يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهمّ ما عليه منه» . ثمّ قال: «ينظر في أصول الدّين ثمّ أصول الفقه ثمّ الجدل ثمّ الحديث وعلومه» ونهى مع ذلك أن يخلط في التّعليم علمان إلّا أن يكون المتعلّم قابلا لذلك بجودة الفهم والنّشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلّا أنّ العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصّت به العوائد من تقدّم دراسة القرآن إيثارا للتّبرّك والثّواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصّبيّ من الآفات والقواطع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الصبا.
[2] وفي نسخة أخرى: تقديم.
[3] وفي نسخة أخرى: أول عمره.(1/742)
عن العلم فيفوته القرآن، لأنّه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحلّ من ربقة القهر فربّما عصفت به رياح الشّبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن لئلّا يذهب خلوا منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التّعليم لكان هذا المذهب الّذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق. ولكنّ الله يحكم ما يشاء لا معقّب لحكمه.
الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أنّ إرهاف الحدّ بالتّعليم مضرّ بالمتعلّم سيّما في أصاغر الولد لأنّه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانيّة الّتي له من حيث الاجتماع والتّمرّن [1] وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين. وهكذا وقع لكلّ أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كلّ من يملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء وأنظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السّوء حتّى إنّهم يوصفون في كلّ أفق. وعصر بالحرج [2] ومعناه في الاصطلاح
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التمدن.
[2] وفي نسخة أخرى: بالخرج.(1/743)
المشهور التّخابث والكيد وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلّم في متعلّمه والوالد في ولده أن لا يستبدّا [1] عليهما في التّأديب. وقد قال محمّد بن أبي زيد في كتابه الّذي ألّفه في حكم المعلّمين والمتعلّمين: «لا ينبغي لمؤدّب الصّبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا» . ومن كلام عمر رضي الله عنه:
«من لم يؤدّبه الشّرع لا أدّبه الله» . حرصا على صون النّفوس عن مذلّة التّأديب وعلما بأنّ المقدار الّذي عيّنه الشّرع لذلك أملك له فإنّه أعلم بمصلحته. ومن أحسن مذاهب التّعليم ما تقدّم به الرّشيد لمعلّم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمّد الأمين فقال: «يا أحمر إنّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصيّر يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروّه الأشعار وعلّمه السّنن وبصّره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضّحك إلّا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القوّاد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرّنّ بك ساعة إلّا وأنت مغتنم فائدة تفيده إيّاها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه.
ولا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ ويألفه. وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشّدّة والغلظة» . انتهى.
الفصل الحادي والأربعون في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
والسّبب في ذلك أنّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل: تارة علما وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة.
إلّا أنّ حصول الملكات عن المباشرة والتّلقين أشدّ استحكاما وأقوى رسوخا. فعلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يشدوا عليهم وفي نسخة أخرى: يستبدوا.(1/744)
قدر كثرة الشّيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلّطة على المتعلّم حتّى لقد يظنّ كثير منهم أنّها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلّا مباشرته لاختلاف الطّرق فيها من المعلّمين. فلقاء أهل العلوم وتعدّد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرّد العلم عنها ويعلم أنّها أنحاء تعليم وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرّسوخ والاستحكام في المكان [1] وتصحّح معارفه وتميّزها [2] عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتّلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعدّدهم وتنوّعهم. وهذا لمن يسّر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرّحلة لا بدّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرّجال. وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
الفصل الثاني والأربعون في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها
والسّبب في ذلك أنّهم معتادون النّظر الفكريّ والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن، أمورا كلّيّة عامّة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادّة ولا شخص ولا جيل ولا أمّة ولا صنف من النّاس. ويطبّقون من بعد ذلك الكلّيّ على الخارجيّات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهيّ. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن ولا تصير إلى المطابقة إلّا بعد الفراغ من البحث والنّظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة وإنّما يتفرّع ما في الخارج عمّا في الذّهن من ذلك كالأحكام الشّرعيّة فإنّها فروع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: في الملكات.
[2] وفي النسخة الباريسية: وتصحيح معارفها وتمييزها عن سواها.(1/745)
عمّا في المحفوظ من أدلّة الكتاب والسّنّة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار [1] في العلوم العقليّة الّتي تطلب في صحّتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعوّدون في سائر أنظارهم الأمور الذّهنيّة والأنظار الفكريّة لا يعرفون سواها.
والسّياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنّها خفيّة. ولعلّ أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلّيّ الّذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلّهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السّياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم.
ويلحق بهم أهل الذّكاء والكيس من أهل العمران لأنّهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط. والعاميّ السّليم الطّبع المتوسّط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إيّاه يقتصر لكلّ مادّة على حكمها وفي كلّ صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختصّ به ولا يعدّي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره الموادّ المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسّابح لا يفارق البرّ عند الموج. قال الشّاعر:
فلا توغلنّ إذا ما سبحت ... فإنّ السّلامة في السّاحل
فيكون مأمونا من النّظر في سياسته مستقيم النّظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضارّه باستقامة نظره. وفوق كلّ ذي علم عليم.
ومن هنا يتبيّن [2] أنّ صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنّها تنظر في المعقولات الثّواني. ولعلّ الموادّ فيها
__________
[1] الأصح أن يقول كلمة النظر لأنه لا وجود لكلمة انظار في (لسان العرب) .
[2] وفي النسخة الباريسية: تعلم.(1/746)
ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التّطبيق اليقينيّ. وأمّا النّظر في المعقولات الأول وهي الّتي تجريدها قريب فليس كذلك لأنّها خياليّة وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملّة الإسلاميّة أكثرهم العجم لا من العلوم الشّرعيّة ولا من العلوم العقليّة إلّا في القليل النّادر. وإن كان منهم العربيّ في نسبته فهو أعجميّ في لغته ومرباه ومشيخته مع أنّ الملّة عربيّة وصاحب شريعتها عربيّ. والسّبب في ذلك أنّ الملّة في أوّلها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السّذاجة والبداوة وإنّما أحكام الشّريعة الّتي هي أوامر الله ونواهيه كان الرّجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسّنّة بما تلقّوه من صاحب الشّرع وأصحابه. والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التّعليم والتّأليف والتّدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر على ذلك زمن الصّحابة والتّابعين وكانوا يسمّون المختصّين بحمل ذلك. ونقله إلى القرّاء أي الّذين يقرءون الكتاب وليسوا أمّيّين لأنّ الأمّيّة يومئذ صفة عامّة في الصّحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قرّاء إشارة إلى هذا. فهم قرّاء لكتاب الله والسّنّة المأثورة عن الله لأنّهم لم يعرفوا الأحكام الشّرعيّة إلّا منه ومن الحديث الّذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح. قال صلّى الله عليه وسلّم: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّتي» . فلمّا بعد النّقل من لدن دولة الرّشيد فما بعد احتيج إلى وضع التّفاسير القرآنيّة وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثمّ(1/747)
احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل النّاقلين [1] للتّمييز بين الصّحيح من الأسانيد وما دونه ثمّ كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسّنّة وفسد مع ذلك اللّسان فاحتيج إلى وضع القوانين النّحويّة وصارت العلوم الشّرعيّة كلّها ملكات في الاستنباطات والاستخراج والتّنظير والقياس واحتاجت [2] إلى علوم أخرى وهي الوسائل لها من معرفة قوانين العربيّة وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذّبّ عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلّها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التّعليم فاندرجت في جملة الصّنائع. وقد كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع من منتحل الحضر وأنّ العرب أبعد النّاس عنها فصارت العلوم لذلك حضريّة وبعد عنها العرب وعن سوقها. والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الّذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصّنائع والحرف لأنّهم أقوم على ذلك للحضارة الرّاسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النّحو سيبويه والفارسيّ من بعده والزّجّاج من بعدهما وكلّهم عجم في أنسابهم. وإنّما ربّوا في اللّسان العربيّ فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيّروه قوانين وفنّا لمن بعدهم. وكذا حملة الحديث الّذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللّغة والمربى لاتّساع الفنّ بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلّهم عجما كما يعرف وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسّرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلّا الأعاجم. وظهر مصداق قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلّق العلم بأكناف السّماء لناله قوم من أهل فارس» . وأمّا العرب الّذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرّئاسة في الدّولة العبّاسيّة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر فيه، فإنّهم كانوا أهل الدّولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الرواة.
[2] وفي النسخة الباريسية: واحتيج.(1/748)
الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصّنائع. والرّؤساء أبدا يستنكفون عن الصّنائع والمهن وما يجرّ إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولّدين. وما زالوا يرون لهم حقّ القيام به فإنّه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كلّ الاحتقار. حتّى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشّرعيّة غريبة النّسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وأمتهن حملتها بما يرون أنّهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم [1] في الملك والسّياسة كما ذكرناه في نقل [2] المراتب الدّينيّة. فهذا الّذي قرّرناه هو السّبب في أنّ حملة الشّريعة أو عامّتهم من العجم. وأمّا العلوم العقليّة أيضا فلم تظهر في الملّة إلّا بعد أن تميّز حملة العلم ومؤلّفوه. واستقرّ العلم كلّه صناعة فاختصّت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلّا المعرّبون من العجم شأن الصّنائع كما قلناه أوّلا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلاميّة ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النّهر. فلمّا خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة الّتي هي سرّ الله في حصول العلم والصّنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة واختصّ العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أمّ العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصّنائع. وبقي بعض الحضارة في ما وراء النّهر لما هناك من الحضارة بالدّولة الّتي فيها فلهم بذلك حصّة من العلوم والصّنائع لا تنكر. وقد دلّنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد الدّين التّفتازانيّ. وأمّا غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدّين الطّوسيّ كلاما يعوّل على نهايته في الإصابة.
فاعتبر ذلك وتأمّله تر عجبا في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا شريك له
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عليهم.
[2] وفي نسخة أخرى: فصل.(1/749)
له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد للَّه.
الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربيّ
والسّرّ في ذلك أنّ مباحث العلوم كلّها إنّما هي في المعاني الذهنيّة والخياليّة، من بين العلوم الشرعيّة، الّتي هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادّها من الأحكام المتلقّاة من الكتاب والسّنّة ولغاتها المؤدّية لها، وهي كلّها في الخيال، وبين العلوم العقليّة، وهي في الذهن. واللّغات إنّما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤدّيها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتّعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك. والألفاظ واللّغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بدّ في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللّغويّة عليها، وجودة الملكة لناظر فيها، وإلّا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنيّة من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهيّ والجبلّي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خفّ، ولم يبق إلّا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كلّه إذا كان التّعليم تلقينا وبالخطاب والعبارة. وأمّا إن احتاج المتعلّم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطيّة من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخطّ ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقوّلة في الخيال. لأنّ رسوم الكتابة لها دلالة خاصّة على(1/750)
الألفاظ المقوّلة. وما لم تعرف تلك الدلالة تعذّرت معرفة العبارة، وإن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلّم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبة، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأوّل. وإذا كانت ملكته في الدّلالة اللّفظيّة والخطيّة مستحكمة ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار إنّما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخطّ بالنسبة إلى كلّ لغة. والمتعلّمون لذلك في الصّغر أشدّ استحكاما لملكاتهم. ثمّ إنّ الملّة الإسلاميّة لمّا اتّسع ملكها واندرجت الأمم في طيّها ودرست علوم الأوّلين بنبوّتها وكتابها، وكانت أميّة النزعة والشّعار، فأخذ الملك والعزّة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب، وصيّروا علومهم الشرعيّة صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات، وكثرت الدواوين والتآليف، وتشوّفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالتّرجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجرّدوها من تلك اللّغات الأعجميّة إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر الّتي بلغتهم الأعجميّة نسيا منسيا وطللا مهجورا وهباء منثورا. وأصبحت العلوم كلّها بلغة العرب، ودواوينها المسطّرة بخطّهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللّفظيّة والخطيّة في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدّم لنا أنّ اللّغة ملكة في اللّسان، وكذا الخطّ صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدّمت في اللّسان ملكة العجمة، صار مقصّرا في اللّغة العربيّة، لما قدّمناه من أنّ الملكة إذا تقدّمت في صناعة بمحلّ، فقلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصّرا في اللّغة العربيّة ودلالاتها اللّفظيّة والخطيّة اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مرّ. إلّا أن تكون ملكة العجمة السّابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربيّة، كأصاغر أبناء العجم الّذين يربّون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللّغة العربيّة كأنّها السابقة لهم، ولا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربيّة. وكذا(1/751)
أيضا شأن من سبق له تعلّم الخطّ الأعجميّ قبل العربيّ. ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخفّفون بذلك عن أنفسهم مئونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب الملكة في العبارة والخطّ مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، وإنّه صار له فهم الأقوال من الخطّ، والمعاني من الأقوال، كالجبلّة الراسخة، وارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وربّما يكون الدّؤوب على التعليم والمران على اللّغة، وممارسة الخطّ يفيضان لصاحبهما إلى تمكّن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلّا أنّه في النادر. وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربيّ أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة الّتي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدّم بأنّ علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأنّ المراد بالعجم هنالك عجم النّسب لتداول الحضارة فيهم الّتي قرّرنا أنّها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأمّا عجمة اللّغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضا ممّا كان لليونانيّين في علومهم من رسوخ القدم فإنّهم إنّما تعلّموها من لغتهم السابقة لهم وخطّهم المتعارف بينهم. والأعجميّ المتعلّم للعلم في الملّة الإسلاميّة يأخذ العلم بغير لسانه الّذي سبق إليه، ومن غير خطّه الّذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. وهذا عامّ في جميع أصناف أهل اللّسان الأعجميّ من الفرس والروم والتّرك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللّسان العربيّ. وفي ذلك آيات للمتوسمين.(1/752)
الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربيّ
أركانه أربعة وهي اللّغة والنّحو والبيان والأدب ومعرفتها ضروريّة على أهل الشّريعة إذ مأخذ الأحكام الشّرعيّة كلّها من الكتاب والسّنّة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصّحابة والتّابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغاتهم فلا بدّ من معرفة العلوم المتعلّقة بهذا اللّسان لمن أراد علم الشّريعة. وتتفاوت في التّأكيد بتفاوت مراتبها في التّوفية بمقصود الكلام حسبما يتبيّن في الكلام عليها فنّا فنّا والّذي يتحصّل أنّ الأهمّ المقدّم منها هو النّحو إذ به تتبيّن أصول المقاصد بالدّلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حقّ علم اللّغة التّقدّم لولا أنّ أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغيّر بخلاف الإعراب الدّالّ على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنّه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النّحو أهمّ من اللّغة إذ في جهله الإخلال بالتّفاهم جملة وليست كذلك اللّغة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
علم النحو
اعلم أنّ اللّغة في المتعارف هي عبارة المتكلّم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لسانيّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بدّ أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها وهو اللّسان وهو في كلّ أمّة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات الّتي تعيّن الفاعل أي المفعول من المجرور أعني المضاف ومثلي الحروف الّتي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذّوات من غير تكلّف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلّا في لغة(1/753)
العرب. وأمّا غيرها من اللّغات فكلّ معنى أو حال لا بدّ له من ألفاظ تخصّه بالدّلالة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول ممّا تقدّره بكلام العرب.
وهذا هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . فصار للحروف في لغتهم. والحركات والهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدّلالة على المقصود غير متكلّفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأوّل كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.
فلمّا جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الّذي كان في أيدي الأمم والدّول وخالطوا العجم تغيّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السّمع من المخالفات الّتي للمستعربين [1] . والسّمع أبو الملكات اللّسانيّة ففسدت بما ألقي إليها ممّا يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السّمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطّردة شبه الكلّيّات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع. ثمّ رأوا تغيّر الدّلالة بتغيّر حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التّغيّر عاملا وأمثال ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصّة بهم فقيّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة.
واصطلحوا على تسميتها بعلم النّحو. وأوّل من كتب فيها أبو الأسود الدّؤليّ من بني كنانة، ويقال بإشارة عليّ رضي الله عنه لأنّه رأى تغيّر الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثمّ كتب فيها النّاس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيديّ أيّام الرّشيد وكان النّاس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذّب الصّناعة وكمّل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه فكمّل تفاريعها واستكثر من أدلّتها وشواهدها ووضع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: للمتعربين من العجم.(1/754)
فيها كتابه المشهور الّذي صار إماما لكلّ ما كتب فيها من بعده. ثمّ وضع أبو عليّ الفارسيّ وأبو القاسم الزّجّاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثمّ طال الكلام في هذه الصّناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلّة والحجاج بينهم وتباينت الطّرق في التّعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلّمين. وجاء المتأخّرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطّول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التّسهيل وأمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلّمين، كما فعله الزّمخشريّ في المفصّل وابن الحاجب في المقدّمة له. وربّما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصّغرى وابن معطي في الأرجوزة الألفيّة. وبالجملة فالتّآليف في هذا الفنّ أكثر من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التّعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدّمين مغايرة لطريقة المتأخّرين. والكوفيّون والبصريّون والبغداديّون والأندلسيّون مختلفة طرقهم كذلك. وقد كادت هذه الصّناعة تؤذن بالذّهاب لما رأينا من النّقص في سائر العلوم والصّنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدّين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصّلة. وتكلّم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصّناعة من المتكرّر في أكثر أبوابها وسمّاه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلّها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظم سائرها فوقفنا منه على علم جمّ يشهد بعلوّ قدره في هذه الصّناعة ووفور بضاعته منها وكأنّه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الّذين اقتفوا أثر ابن جنّيّ واتّبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دالّ على قوّة ملكته واطّلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء
.(1/755)
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللّغويّة وذلك أنّه لمّا فسدت ملكة اللّسان العربيّ في الحركات المسمّاة عند أهل النّحو بالإعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثمّ استمرّ ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتّى تأدّى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعة عندهم ميلا مع هجنة [1] المستعربين [2] في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربيّة فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللّغويّة بالكتاب والتّدوين خشية الدّروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمّر كثير من أئمّة اللّسان لذلك وأملوا فيه الدّواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيديّ. ألّف فيها كتاب العين فحصر فيه مركّبات حروف المعجم كلّها من الثّنائيّ والثّلاثيّ والرّباعيّ والخماسيّ وهو غاية ما ينتهي إليه التّركيب في اللّسان العربيّ. وتأتّى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة وذلك أنّ جملة الكلمات الثّنائيّة تخرج من جميع الأعداد على التّوالي من واحد إلى سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأنّ الحرف الواحد منها يؤخذ مع كلّ واحد من السّبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائيّة. ثمّ يؤخذ الثّاني مع السّتّة والعشرين كذلك.
ثمّ الثّالث والرّابع. ثمّ يؤخذ السّابع والعشرون مع الثّامن والعشرين فيكون واحدا فتكون كلّها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأوّل مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدّة. ثمّ تضاعف لأجل قلب الثّنائيّ لأنّ التّقديم والتّأخير بين الحروف معتبر في التّركيب فيكون الخارج جملة الثّنائيّات. وتخرج الثّلاثيّات من ضرب عدد الثّنائيّات فيما يجمع من واحد إلى ستّة وعشرين على
__________
[1] الهجنة في الكلام: العيب والقبح (قاموس) .
[2] وفي نسخة أخرى: المتعربين.(1/756)
توالي العدد لأنّ كلّ ثنائيّة يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثيّة. فتكون الثّنائيّة بمنزلة الحرف الواحد مع كلّ واحد من الحروف الباقية وهي ستّة وعشرون حرفا بعد الثّنائيّة فتجمع من واحد إلى ستّة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثّنائيّات. ثمّ تضرب الخارج في ستّة، جملة مقلوبات الكلمة الثّلاثيّة فيخرج مجموع تراكيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرّباعيّ والخماسيّ. فانحصرت له التّراكيب بهذا الوجه ورتّب أبوابه على حروف المعجم بالتّرتيب المتعارف.
واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثمّ بعده من حروف الحنك ثمّ الأضراس ثمّ الشّفة وجعل حروف العلّة آخرا وهي الحروف الهوائيّة. وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنّه الأقصر [1] منها فلذلك سمّي كتابه بالعين لأنّ المتقدّمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو تسميته بأوّل ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثمّ بيّن المهمل منها من المستعمل وكان المهمل في الرّباعيّ والخماسيّ أكثر لقلّة استعمال العرب له لثقله ولحق به الثنائيّ لقلّة دورانه وكان الاستعمال في الثّلاثيّ أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه.
وضمّن الخليل ذلك كلّه في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوعاه [2] .
وجاء أبو بكر الزّبيديّ وكتب لهشام المؤيّد بالأندلس في المائة الرّابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كلّه وكثيرا من شواهد المستعمل ولخّصه للحفظ أحسن تلخيص. وألّف الجوهريّ من المشارقة كتاب الصّحاح على التّرتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل التّرجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار النّاس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثمّ يأتي بالحروف أوّل الكلمة على ترتيب حروف المعجم أيضا ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللّغة اقتداء بحصر الخليل. ثمّ ألّف
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الأقصى.
[2] وفي نسخة أخرى: وأوفاه.(1/757)
فيها من الأندلسيّين ابن سيده من أهل دانية في دولة عليّ بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التّعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدّواوين. ولخّصه محمّد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدّولة الحفصيّة بتونس.
وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصّحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التّراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوّة ولكراع من أئمّة اللّغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباريّ كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللّغة فيما علمناه.
وهناك مختصرات أخرى مختصّة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلّها. إلّا أنّ وجه الحصر فيها خفيّ ووجه الحصر في تلك جليّ من قبل التّراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضا في اللّغة كتاب الزّمخشريّ في المجاز سمّاه أساس البلاغة بيّن فيه كلّ ما تجوّزت به العرب من الألفاظ وفيما تجوّزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة. ثمّ لمّا كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور الخاصّة ألفاظا أخرى خاصّة بها فوق ذلك عندنا، وبيّن الوضع والاستعمال واحتاج إلى فقه في اللّغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العامّ لكلّ ما فيه بياض ثمّ اختصّ ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتّى صار استعمال الأبيض في هذه كلّها لحنا وخروجا عن لسان العرب. واختصّ بالتّأليف في هذا المنحى الثّعالبيّ وأفرده في كتاب له سمّاه فقه اللّغة وهو من أكد ما يأخذ به اللّغويّ نفسه أن يحرّف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأوّل بكاف في التّرتيب حتّى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فنّي نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللّغويّة في مفرداتها وتراكيبها وهو أشدّ [1] من اللّحن في الإعراب وأفحش. وكذلك ألّف بعض المتأخّرين في الألفاظ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أشرّ.(1/758)
المشتركة وتكفّل بحصرها وإن لم تبلغ إلى النّهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر.
وأمّا المختصرات الموجودة في هذا الفنّ المخصوصة بالمتداول من اللّغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطّالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السّكّيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقلّ لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهمّ على الطّالب للحفظ. والله الخلّاق العليم لا ربّ سواه.
فصل: واعلم أنّ النقل الّذي تثبت به اللّغة، إنّما هو النقل عن العرب أنّهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنّهم وضعوها لأنّه متعذّر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللّغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأنّ شهادة الاعتبار في باب القياس إنّما يدركها الشّرع الدالّ على صحّة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللّغة إلّا بالعقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمّة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريح وغيرهم. لكنّ القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمنّ أنّ إثبات اللغة في باب الحدود اللّفظيّة، لأنّ الحدّ راجع إلى المعاني، ببيان أنّ مدلول اللفظ المجهول الخفيّ هو مدلول الواضح المشهور، واللّغة إثبات أنّ اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية الظهور.
علم البيان
هذا العلم حادث في الملّة بعد علم العربيّة واللّغة، وهو من العلوم اللّسانيّة لأنّه متعلّق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدّلالة عليه من المعاني وذلك أنّ الأمور الّتي يقصد المتكلّم بها إفادة السّامع من كلامه هي: إمّا تصوّر مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض، والدّالّة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف وإمّا تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدلّ عليها بتغيّر الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلّها هي صناعة(1/759)
النّحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدّلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدّلالة عليه لأنّه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلّم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإنّ كلامهم واسع ولكلّ مقام عندهم مقال يختصّ به بعد كمال الإعراب والإبانة. ألا ترى أنّ قولهم (زيد جاءني) مغاير لقولهم (جاءني زيد) من قبل أنّ المتقدّم منهما هو الأهمّ عند المتكلّم فمن قال: جاءني زيد أفاد أنّ اهتمامه بالمجيء قبل الشّخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني أفاد أنّ اهتمامه بالشّخص قبل المجيء المسند.
وكذا التّعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة.
وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ زيدا لقائم متغايرة كلّها في الدّلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإنّ الأوّل العاري عن التّأكيد إنّما يفيد الخالي الذّهن والثّاني المؤكّد بأنّ يفيد المتردّد والثّالث يفيد المنكر فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرّجل ثمّ تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التّنكير تعظيمه وأنّه رجل لا يعادله أحد من الرّجال. ثمّ الجملة الإسناديّة تكون خبريّة وهي الّتي لها خارج تطابقه أولا، وإنشائيّة وهي الّتي لا خارج لها. كالطّلب وأنواعه. ثمّ قد يتعيّن ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثّانية محلّ من الإعراب: فيشرك [1] بذلك منزلة التّابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعيّن العطف إذا لم يكن للثّانية محلّ من الإعراب:
ثمّ يقتضي المحلّ الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثمّ قد يدلّ باللّفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنّما تريد شجاعته اللّازمة وتسندها إلى زيد وتسمّى هذه استعارة. وقد تريد باللّفظ المركّب الدّلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ينزل.(1/760)
الرّماد [1] وتريد ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضّيف لأنّ كثرة الرّماد ناشئة عنهما فهي دالّة عليهما. وهذه كلّها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركّب وإنّما هي هيئات وأحوال الواقعات جعلت للدّلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كلّ بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمّى بالبيان على البحث عن هذه الدّلالة الّتي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف: الصّنف الأوّل يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال الّتي تطابق باللّفظ جميع مقتضيات الحال ويسمّى علم البلاغة، والصّنف الثّاني يبحث فيه عن الدّلالة على اللّازم اللّفظيّ وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمّى علم البيان. وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النّظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التّنميق إمّا بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام [2] معنى أخفى منه لاشتراك اللّفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمّى عندهم علم البديع. وأطلق على الأصناف الثّلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصّنف الثّاني لأنّ الأقدمين أوّل من تكلّموا فيه، ثمّ تلاحقت مسائل الفنّ واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثمّ لم تزل مسائل الفنّ تكمل شيئا فشيئا إلى أن محّص [3] السّكاكيّ زبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من التّرتيب وألّف كتابه المسمّى بالمفتاح في النّحو والتّصريف والبيان فجعل هذا الفنّ من بعض أجزائه. وأخذه المتأخّرون من كتابه ولخّصوا منه أمّهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السّكاكيّ في كتاب التّبيان [4] وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدّين القزوينيّ في كتاب الإيضاح والتّلخيص وهو أصغر حجما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رماد القدور.
[2] وفي نسخة أخرى: بإبهام.
[3] وفي نسخة أخرى: مخض.
[4] وفي النسخة الباريسية: البيان.(1/761)
من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشّرح والتّعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفنّ أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنّه كماليّ في العلوم اللّسانيّة والصّنائع الكماليّة توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق كتفسير الزّمخشريّ، وهو كلّه مبنيّ على هذا الفنّ، وهو أصله. وإنّما اختصّ بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصّة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشّعريّة، وفرّعوا له ألقابا وعدّدوا أبوابا ونوّعوا أنواعا. وزعموا أنّهم أحصوها من لسان العرب وإنّما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأنّ علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقّة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممّن ألّف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أنّ ثمرة هذا الفنّ إنّما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأنّ إعجازه في وفاء الدّلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختصّ بالألفاظ في انتفائها وجودة رصفها [1] وتركيبها وهذا هو الإعجاز الّذي تقصّر الأفهام عن إدراكه. وإنّما يدرك بعض الشّيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللّسان العربيّ وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الّذين سمعوه من مبلّغه أعلى مقاما في ذلك لأنّهم فرسان الكلام وجها بذته والذّوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحّه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفنّ المفسّرون وأكثر تفاسير المتقدّمين غفل عنه حتّى ظهر جار الله الزّمخشريّ ووضع كتابه في التّفسير وتتبّع آي القرآن بأحكام هذا الفنّ بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التّفاسير لولا أنّه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وضعها.(1/762)
السّنّة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السّنّة وشارك في هذا الفنّ بعض المشاركة حتّى يقتدر على الرّدّ عليه من جنس كلامه أو يعلم أنّه بدعة فيعرض عنها ولا تضرّ في معتقده فإنّه يتعيّن عليه النّظر في هذا الكتاب للظّفر بشيء من الإعجاز مع السّلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السّبيل.
علم الأدب
هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنّما المقصود منه عند أهل اللّسان ثمرته، وهي الإجادة في فنّي المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطّبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللّغة والنّحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرّقة، يستقري منها النّاظر في الغالب معظم قوانين العربيّة، مع ذكر بعض من أيّام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهمّ من الأنساب الشّهيرة والأخبار العامّة. والمقصود بذلك كلّه أن لا يخفى على النّاظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفّحه لأنّه لا تحصل الملكة من حفظه إلّا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقّف عليه فهمه. ثمّ إنّهم إذا أرادوا حدّ هذا الفنّ قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كلّ علم بطرف يريدون من علوم اللّسان أو العلوم الشّرعيّة من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلّا ما ذهب إليه المتأخّرون عند كلفهم بصناعة البديع من التّورية في أشعارهم وترسّلهم بالاصطلاحات العلميّة فاحتاج صاحب هذا الفنّ حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التّعليم أنّ أصول هذا الفنّ وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكتّاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرّد وكتاب البيان والتّبيين للجاحظ وكتاب النّوادر لأبي عليّ(1/763)
القالي البغداديّ. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة. وكان الغناء في الصّدر الأوّل من أجزاء هذا الفنّ لما هو تابع للشّعر إذ الغناء إنّما هو تلحينه. وكان الكتّاب والفضلاء من الخواصّ في الدّولة العباسيّة يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشّعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة. وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهانيّ كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيّامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا الّتي اختارها المغنّون للرّشيد فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن الّتي سلفت لهم في كلّ فن من فنون الشّعر والتّأريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية الّتي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنّى له بها. ونحن الآن نرجع بالتّحقيق على الإجمال فيما تكلّمنا عليه من علوم اللّسان.
والله الهادي للصّواب.
الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية
اعلم أنّ اللّغات كلّها ملكات شبيهة بالصّناعة إذ هي ملكات في اللّسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنّظر إلى المفردات وإنّما هو بالنّظر إلى التّراكيب. فإذا حصلت الملكة التّامّة في تركيب الألفاظ المفردة للتّعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التّأليف الّذي يطبّق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلّم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسّامع وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلّا بتكرار الأفعال لأنّ الفعل يقع أوّلا وتعود منه للذّات صفة ثمّ تتكرّر فتكون حالا. ومعنى الحال(1/764)
أنّها صفة غير راسخة ثمّ يزيد التّكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته [1] اللّغة العربيّة موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصّبيّ استعمال المفردات في معانيها فيلقّنها أوّلا ثمّ يسمع التّراكيب بعدها فيلقّنها كذلك. ثمّ لا يزال سماعهم لذلك يتجدّد في كلّ لحظة ومن كلّ متكلّم واستعماله يتكرّر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت الألسن واللّغات من جيل إلى جيل وتعلّمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقوله العامّة من أنّ اللّغة للعرب بالطّبع أي بالملكة الأولى الّتي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم. ثمّ إنّه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أنّ النّاشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيّات أخرى غير الكيفيّات الّتي كانت للعرب فيعبّر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيّات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللّسان العربيّ. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللّغات العربيّة وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثمّ من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأمّا من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسّان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والرّوم والحبشة فلم تكن لغتهم تامّة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصّحّة والفساد عند أهل الصّناعة العربيّة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
__________
[1] الضمير يعود إلى اللغة. وفي النسخة الباريسية ملكة اللغة.(1/765)
الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير
وذلك أنّا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدّلالة على سنن اللّسان المضريّ ولم يفقد منها إلّا دلالة الحركات على تعيّن الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتّقديم والتّأخير وبقرائن تدلّ على خصوصيّات المقاصد. إلّا أنّ البيان والبلاغة في اللّسان المضريّ أكثر وأعرق، لأنّ الألفاظ بأعيانها دالّة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمّى بساط الحال محتاجا إلى ما يدلّ عليه. وكلّ معنى لا بدّ وأن تكتنفه أحوال تخصّه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنّها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدلّ عليها بألفاظ تخصّها بالوضع. وأمّا في اللّسان العربيّ فإنّما يدلّ عليها بأحوال وكيفيّات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. وقد يدلّ عليها بالحروف غير المستقلّة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللّسان العربيّ بحسب تفاوت الدّلالة على تلك الكيفيّات كما قدّمناه فكان الكلام العربيّ لذلك أوجز وأقلّ ألفاظا وعبارة من جميع الألسن. وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النّحاة: «إنّي أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ زيدا لقائم والمعنى واحد» .
فقال له: إنّ معانيها مختلفة، فالأوّل: لإفادة الخالي الذّهن من قيام زيد، والثّاني: لمن سمعه فتردّد فيه، والثّالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدّلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النّحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التّحقيق حيث يزعمون أنّ البلاغة لهذا العهد ذهبت وأنّ(1/766)
اللّسان العربيّ فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الّذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسّها التّشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلّا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتّعبير عن المقاصد والتّعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد وأساليب اللّسان وفنونه من النّظم والنّثر موجودة في مخاطباتهم وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشّاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذّوق الصّحيح والطّبع السّليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللّسان المدوّن إلّا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الّذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا وهو الإعراب. وهو بعض من أحكام اللّسان. وإنّما وقعت العناية بلسان مضر لمّا فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشّام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصّورة الّتي كانت أوّلا فانقلب لغة أخرى. وكان القرآن منزّلا به والحديث النّبويّ منقولا بلغته وهما أصلا الدّين والملّة فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللّسان الّذي نزّلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدّمات ومسائل سمّاه أهله بعلم النّحو وصناعة العربيّة فأصبح فنّا محفوظا وعلما مكتوبا وسلّما إلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وافيا [1] . ولعلّنا لو اعتنينا بهذا اللّسان العربيّ لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابيّة في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصّها. ولعلّها تكون في أواخره على غير المنهاج الأوّل في لغة مضر فليست اللّغات وملكاتها مجّانا. ولقد كان اللّسان المضريّ مع اللّسان الحميريّ بهذه المثابة وتغيّر عند مضر كثير من موضوعات اللّسان الحميريّ وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنّها لغة واحدة ويلتمس إجراء اللّغة الحميريّة على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: راقيا.(1/767)
مقاييس اللّغة المضريّة وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللّسان الحميريّ أنّه من القول وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلّا أنّ العناية بلسان مضر من أجل الشّريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه. وممّا وقع في لغة هذا الجيل العربيّ لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النّطق بالقاف فإنّهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربيّة أنّه من أقصى اللّسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسّطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتّى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال مختصّا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم.
حتّى إنّ من يريد التّقرّب [1] والانتساب إلى الجيل والدّخول فيه يحاكيهم في النّطق بها. وعندهم أنّه إنّما يتميّز العربيّ الصّريح من الدّخيل في العروبيّة والحضريّ بالنّطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنّها لغة مضر بعينها فإنّ هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل معهم من بني كهلان في النّطق بهذه القاف أسوة. وهذه اللّغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنّها لغة مضر الأوّلين ولعلّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينها قد ادّعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أنّ من قرأ في أمّ القرآن «اهدنا إلى الصراط
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التعرب.(1/768)
المستقيم» بغير القاف الّتي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته ولم أدر من أين جاء هذا؟ فإنّ لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها وإنّما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلّا أنّهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجّح فيما يوجد من اللّغة لديهم أنّه من لغة سلفهم. هذا مع اتّفاق أهل الجيل كلّهم شرقا وغربا في النّطق بها وأنّها الخاصيّة الّتي يتميّز بها العربيّ من الهجين والحضريّ. والظّاهر أنّ هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الجيل العربيّ البدويّ هو من مخرج القاف عند أوّلهم من أهل اللّغة، وأنّ مخرج القاف متّسع، فأوّله من أعلى الحنك وآخره ممّا يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها ممّا يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدويّ. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أمّ القرآن، فإنّ فقهاء الأمصار كلّهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إنّ الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدويّ لأنّ تواترها فيهم كما قدّمناه، شاهد بأنّها لغة الجيل الأوّل من سلفهم، وأنّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ويرجّح ذلك أيضا إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثمّ إنّ أهل العربيّة قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وهي الّتي ينطق بها أهل الجيل البدويّ من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسّطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنّها حرف مستقلّ، وهو بعيد. والظاهر أنّها من آخر مخرج القاف لاتّساعه كما قلناه. ثمّ إنّهم يصرّحون باستهجانه واستقباحه كأنّهم لم يصحّ عندهم أنّها لغة الجيل الأوّل. وفيما ذكرناه من اتّصال نطقهم بها، لأنّهم إنّما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، وأنّها شعارهم الخاصّ بهم، دليل على أنّها لغة ذلك الجيل الأوّل، ولغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما تقدّم ذلك كلّه. وقد يزعم زاعم أنّ(1/769)
هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنّها إنّما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنّهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. ولكنّ الأقيس كما قدّمناه من أنّهما حرف واحد متّسع المخرج. فتفهّم ذلك. والله الهادي المبين.
الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر
اعلم أنّ عرف التّخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربيّ الّذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد. فأمّا إنّها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التّغاير الّذي يعدّ عند صناعة أهل النّحو لحنا.
وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشّيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكلّ منهم متوصّل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عمّا في نفسه. وهذا معنى اللّسان واللّغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد. وأمّا إنّها أبعد عن اللّسان الأوّل من لغة هذا الجيل فلأنّ البعد عن اللّسان إنّما هو بمخالطة العجمة [1] . فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللّسان الأصليّ أبعد لأنّ الملكة إنّما تحصل بالتّعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى الّتي كانت للعرب ومن الملكة الثّانية الّتي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق. أمّا إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لمخالطة العجم.(1/770)
العجم بوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل فغلبت العجمة فيها على اللّسان العربيّ الّذي كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللّسان الأوّل أبعد. وكذا المشرق لمّا غلب العرب على أممه من فارس والتّرك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلّاحين والسّبي الّذين اتّخذوهم خولا ودايات وأظآرا ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتّى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلّهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره وكأنّه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدّر.
الفصل التاسع والأربعون في تعليم اللسان المضري
اعلم أنّ ملكة اللّسان المضريّ لهذا العهد قد ذهبت وفسدت ولغة أهل الجيل كلّهم مغايرة للغة مضر الّتي نزّل بها القرآن وإنّما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدّمناه. إلّا أنّ اللّغات لمّا كانت ملكات كما مرّ كان تعلّمها ممكنا شأن سائر الملكات. ووجه التّعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السّلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولّدين أيضا في سائر فنونهم حتّى يتنزّل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقّن العبارة عن المقاصد منهم. ثمّ يتصرّف بعد ذلك في التّعبير عمّا في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من(1/771)
أساليبهم وترتيب ألفاظهم فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوّة ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطّبع والتّفهّم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التّراكيب ومراعاة التّطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال.
والذّوق يشهد بذلك وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطّبع السّليم فيهما كما نذكر. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا. ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر وهو النّاقد البصير بالبلاغة فيها وهكذا ينبغي أن يكون تعلّمها. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه.
الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم
والسّبب في ذلك أنّ صناعة العربيّة إنّما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصّة. فهو علم بكيفيّة لا نفس كيفيّة. فليست نفس الملكة وإنّما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصّنائع علما ولا يحكمها عملا. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التّعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثمّ يغرزها في لفقي الثّوب مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثمّ يردّها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدّام منفذها الأوّل بمطرح ما بين الثّقبين الأوّلين ثمّ يتمادى على ذلك إلى آخر العمل ويعطي صورة الحبك والتّثبيت [1] والتّفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا. وكذا لو سئل عالم بالنّجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التنبيت.(1/772)
قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرّسة المحدّدة تقطع ما مرّت عليه ذاهبة وجائية إلى أن ينتهي إلى آخر [1] الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإنّ العلم بقوانين الإعراب إنّما هو علم بكيفيّة العمل وليس هو نفس العمل ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النّحاة والمهرة في صناعة العربيّة المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودّته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصّواب وأكثر من اللّحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللّسان العربيّ. وكذا نجد كثيرا ممّن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنّين من المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ولا المرفوع من المجرور ولا شيئا من قوانين صناعة العربيّة.
فمن هذا تعلم أنّ تلك الملكة هي غير صناعة العربيّة وأنّها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة وهو قليل واتّفاقيّ وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنّه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه والمحصّل له قد حصل على حظّ [2] من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبّه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التّفطّن لهذا فيحصل على علم اللّسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأمّا المخالطون لكتب المتأخّرين العارية عن ذلك إلّا من القوانين النحويّة مجرّدة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلّ ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنّهم قد
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أسفل.
[2] وفي نسخة أخرى: على خط.(1/773)
حصلوا على رتبة في لسان العرب وهم أبعد النّاس عنه. وأهل صناعة العربيّة بالأندلس ومعلّموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم والتّفقّه في الكثير من التّراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التّعليم فتنقطع [1] النّفس لها وتستعدّ إلى تحصيلها وقبولها. وأمّا من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربيّة مجرى العلوم بحثا وقطعوا النّظر عن التّفقّه في تراكيب كلام العرب إلّا إن أعربوا شاهدا أو رجّحوا مذهبا [2] من جهة الاقتضاء الذّهنيّ لا من جهة محامل اللّسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربيّة كأنّها من جملة قوانين المنطق العقليّة أو الجدل وبعدت عن مناحي اللّسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكليّة، وكأنّهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلّا لعدولهم عن البحث في شواهد اللّسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلّم فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللّسان. وتلك القوانين إنّما هي وسائل للتّعليم لكنّهم أجروها على غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ممّا قرّرناه في هذا الباب أنّ حصول ملكة اللّسان العربيّ إنّما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتّى يرتسم في خياله المنوال الّذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزّل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتّى حصلت له الملكة المستقرّة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدّر الأمور كلّها والله أعلم بالغيب.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فتنطبع.
[2] وفي النسخة الباريسية: معنى.(1/774)
الفصل الواحد والخمسون في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم
اعلم أنّ لفظة الذّوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للّسان. وقد مرّ تفسير البلاغة وأنّها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواصّ تقع للتّراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلّم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرّى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتّصلت مقاماته [1] بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التّركيب حتّى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة الّتي للعرب وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجّه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلّا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإنّ الملكات إذا استقرّت ورسخت في محالّها ظهرت كأنّها طبيعة وجبلّة لذلك المحلّ. ولذلك يظنّ كثير من المغفّلين ممّن لم يعرف شأن الملكات أنّ الصّواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعيّ. ويقول كانت العرب تنطق بالطّبع وليس كذلك وإنّما هي ملكة لسانيّة في نظم الكلام تمكّنت ورسخت فظهرت في بادئ الرّأي أنّها جبلّة وطبع. وهذه الملكة كما تقدّم إنّما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرّره على السّمع والتّفطّن لخواصّ تراكيبه وليست تحصل بمعرفة القوانين العلميّة في ذلك الّتي استنبطها أهل صناعة اللّسان فإنّ هذه القوانين إنّما تفيد علما بذلك اللّسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلّها وقد مرّ ذلك. وإذا تقرّر ذلك فملكة البلاغة في اللّسان تهدي البليغ إلى وجود النّظم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: معاناته لذلك.(1/775)
وحسن التّركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السّبل المعيّنة والتّراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنّه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الرّاسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجّه وعلم أنّه ليس من كلام العرب الّذين مارس كلامهم. وربّما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النّحويّة والبيانيّة فإنّ ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجدانيّ حاصل بممارسة كلام العرب حتّى يصير كواحد منهم. ومثاله: لو فرضنا صبيّا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنّه يتعلّم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها حتّى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانونيّ في شيء وإنّما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث يحصّل الملكة ويصير كواحد ممّن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم [1] . والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة عند ما ترسخ وتستقرّ اسم الذّوق الّذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق وإنّما هو موضوع لإدراك الطّعوم. لكن لمّا كان محلّ هذه الملكة في اللّسان من حيث النّطق بالكلام كما هو محلّ لإدراك الطّعوم استعير لها اسمه. وأيضا فهو وجدانيّ اللّسان كما أنّ الطّعوم محسوسة له فقيل له ذوق. وإذا تبيّن لك ذلك علمت منه أنّ الأعاجم الدّاخلين في اللّسان العربيّ الطّارئين عليه المضطرّين إلى النّطق به لمخالطة أهله كالفرس والرّوم والتّرك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنّه لا يحصل لهم هذا الذّوق لقصور حظّهم في هذه الملكة الّتي قرّرنا أمرها لأنّ قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللّسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركّب لما يضطرّون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها كما تقدّم. وإنّما لهم في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أحيائهم.(1/776)
ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللّسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطّرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنّما حصّل أحكامها كما عرفت. وإنّما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتّكرّر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه من أنّ سيبويه والفارسيّ والزّمخشريّ وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أنّ أولئك القوم الّذين تسمع عنهم إنّما كانوا عجما في نسبهم فقط. وأمّا المربى والنّشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلّمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها وكأنّهم في أوّل نشأتهم من العرب الّذين نشئوا في أجيالهم حتّى أدركوا كنه اللّغة وصاروا من أهلها فهم وإن كانوا عجما في النّسب فليسوا بأعجام في اللّغة والكلام لأنّهم أدركوا الملّة في عنفوانها واللّغة في شبابها ولم تذهب آثار الملكة ولا من أهل الأمصار ثمّ عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتّى استولوا على غايته. واليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللّسان العربيّ بالأمصار فأوّل ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللّسان العربيّ ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصّة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللّسان العربيّ. ثمّ إذا فرضنا أنّه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ يستفيد تحصيلها فقلّ أن يحصل له ما قدّمناه من أنّ الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحلّ فلا تحصل إلّا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا أعجميّا في النّسب سلم من مخالطة اللّسان العجميّ بالكلّيّة وذهب إلى تعلّم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة فربّما يحصل له ذلك لكنّه من النّدور بحيث لا يخفى عليك بما تقرّر. وربّما يدّعي كثير ممّن ينظر في هذه القوانين البيانيّة حصول هذا الذّوق له بها وهو غلط أو مغالطة وإنّما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانيّة وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.(1/777)
الفصل الثاني والخمسون في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربيّ كان حصولها له أصعب وأعسر
والسّبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلّم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللّسان الحضريّ الّذي أفادته العجمة حتّى نزل بها اللّسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد. ولهذا نجد المعلّمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللّسان للولدان. وتعتقد النحاة أنّ هذه المسابقة بصناعتهم وليس كذلك وإنّما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللّسان وكلام العرب. نعم صناعة النّحو أقرب إلى مخالطة ذلك وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصّر بصاحبه عن تعلّم اللّغة المضريّة وحصول ملكتها لتمكّن المنافاة [1] حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار.
فأهل إفريقية والمغرب لمّا كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللّسان الأوّل كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتّعليم. ولقد نقل ابن الرّفيق أنّ بعض كتّاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنّك كنت ذكرت أنّك تكون مع الّذين تأتي وعاقنا اليوم فلم يتهيّأ لنا الخروج. وأمّا أهل المنزل الكلاب [2] من أمر الشّين فقد كذّبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في اللّسان المضريّ شبيه بما ذكرنا. وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطّبقة ولم تزل كذلك لهذا العهد ولهذا ما كان بإفريقيّة من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المكافأة.
[2] كالب الرجل كلابا: أي عاداه جهارا (قاموس) .(1/778)
مشاهير الشّعراء إلّا ابن رشيق وابن شرف. وأكثر ما يكون فيها الشّعراء طارئين عليها ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتّى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللّغويّة نظما ونثرا. وكان فيهم ابن حيّان المؤرّخ إمام أهل الصّناعة في هذه الملكة ورافع الرّاية لهم فيها وابن عبد ربّه والقسطليّ وأمثالهم من شعراء ملوك الطّوائف لما زخرت فيها بحار اللّسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السّنين حتّى كان الانفضاض والجلاء أيّام تغلّب النّصرانيّة. وشغلوا عن تعلّم ذلك وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصّنائع كلّها فقصّرت الملكة فيهم عن شأنها حتّى بلغت الحضيض. وكان من آخرهم صالح بن شريف ومالك بن مرحّل من تلاميذ الطّبقة الإشبيليّين بسبتة وكتّاب دولة بني الأحمر في أوّلها. وألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيليّة إلى سبتة ومن شرقيّ الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصّناعة لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربريّة وهي منافية لما قلناه. ثمّ عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت ونجم بها ابن بشرين [1] وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم. ثمّ إبراهيم السّاحليّ الطّريحيّ [2] وطبقته وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه. وكان له في اللّسان ملكة لا تدرك واتّبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر وتعليمها أيسر وأسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدّمناه من معاناة علوم اللّسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأنّ أهل اللّسان العجميّ الّذين تفسد ملكتهم إنّما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلا للغة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن سيرين.
[2] وفي نسخة أخرى: الطويجن.(1/779)
أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة وهم أهلها ولسانهم لسانها إلّا في الأمصار فقط. وهم منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربريّة فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللّسانيّة بالتّعليم بخلاف أهل الأندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدّولة الأمويّة والعبّاسيّة فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلّا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم وكان فحول الشّعراء والكتّاب أوفر لتوفّر العرب وأبنائهم بالمشرق. وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم فإنّ ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه لغتهم وأخبارهم وأيّامهم وملّتهم العربيّة وسيرتهم [1] وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدّولتين وربّما كانت فيهم أبلغ ممّن سواهم ممّن كان في الجاهليّة كما نذكره بعد. حتّى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلّب لهم. وذلك في دولة الدّيلم والسلجوقيّة. وخالطوا أهل الأمصار وكثّروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتّى بعدوا عن اللّسان العربيّ وملكته وصار متعلّمها منهم مقصّرا عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فنّي المنظوم والمنثور وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار والله سبحانه وتعالى اعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وسير نبيهم صلّى الله عليه وسلم(1/780)
الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر
اعلم أنّ لسان العرب وكلامهم على فنّين في الشّعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفّى ومعناه الّذي تكون أوزانه كلّها على رويّ واحد وهو القافية. وفي النّثر وهو الكلام غير الموزون وكلّ واحد من الفنّين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأمّا الشّعر فمنه المدح والهجاء والرّثاء وأمّا النّثر فمنه السّجع الّذي يؤتى به قطعا ويلتزم في كلّ كلمتين منه قافية واحدة يسمّى سجعا ومنه المرسل وهو الّذي يطلق فيه الكلام إطلاقا ولا يقطّع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدّعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم.
وأمّا القرآن وإن كان من المنثور إلّا أنّه خارج عن الوصفين وليس يسمّى مرسلا مطلقا ولا مسجّعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذّوق بانتهاء الكلام عندها. ثمّ يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويثنّى من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية وهو معنى قوله تعالى: «الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ 39: 23» . وقال: «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ 6: 97» . ويسمّى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السّجع ولا هي أيضا قواف. وأطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلّها على العموم لما ذكرناه واختصّت بأمّ القرآن للغلبة فيها كالنّجم للثّريّا ولهذا سمّيت السّبع المثاني. وانظر هذا مع ما قاله المفسّرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحقّ برجحان ما قلناه. واعلم أنّ لكلّ واحد من هذه الفنون أساليب تختصّ به عند أهله ولا تصلح للفنّ الآخر ولا تستعمل فيه مثل النّسيب المختصّ بالشّعر والحمد والدّعاء المختصّ بالخطب والدّعاء المختصّ بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخّرون أساليب الشّعر وموازينه في المنثور من كثرة(1/781)
الأسجاع والتزام التّقفية وتقديم النّسب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأمّلته من باب الشّعر وفنّه ولم يفترقا إلّا في الوزن. واستمرّ المتأخّرون من الكتّاب على هذه الطّريقة واستعملوها في المخاطبات السّلطانيّة وقصروا الاستعمال في المنثور كلّه على هذا الفنّ الّذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصا أهل المشرق. وصارت المخاطبات السّلطانيّة لهذا العهد عند الكتّاب الغفّل جارية على هذا الأسلوب الّذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب. وهذا الفنّ المنثور المقفّى أدخل المتأخّرون فيه أساليب الشّعر فوجب أن تنزّه المخاطبات السّلطانيّة عنه إذ أساليب الشّعر تنافيها اللّوذعيّة وخلط الجدّ بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التّشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. والتزام التّقفية أيضا من اللّوذعة والتّزيين وجلال الملك والسّلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالتّرغيب والتّرهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السّلطانيّة التّرسّل وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلّا في الأقل النّادر. وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلّف له ثمّ إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فإنّ المقامات مختلفة ولكلّ مقام أسلوب يخصّه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية واستعارة. وأمّا إجراء المخاطبات السّلطانيّة على هذا النّحو الّذي هو على أساليب الشّعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلّا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه [1] . وولعوا بهذا المسجّع يلفّقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: خطوته.(1/782)
والألقاب البديعة [1] ويغفلون عمّا سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفنّ وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتّاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد حتّى إنّهم ليخلّون بالإعراب في الكلمات والتّصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجّحون ذلك الصّنف من التّجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التّجنيس. فتأمّل ذلك بما قدّمناه لك تقف على صحّة ما ذكرناه. والله الموفّق للصّواب بمنّه وكرمه والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع والخمسون في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور معا إلا للأقل
والسّبب في ذلك أنّه كما بيّنّاه ملكة في اللّسان فإذا تسبّقت [2] إلى محلّه ملكة أخرى قصّرت بالمحلّ عن تمام الملكة اللّاحقة. لأنّ تمام [3] الملكات وحصولها للطّبائع الّتي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدّمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادّة [4] القابلة وعائقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة وتعذّر التّمام في الملكة وهذا موجود به في الملكات الصّناعيّة كلّها على الإطلاق. وقد برهنّا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللّغات فإنّها ملكات اللّسان وهي بمنزلة الصّناعة. وانظر من تقدّم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللّسان العربيّ أبدا. فالأعجميّ الّذي سبقت له اللّغة الفارسيّة لا يستولي على ملكة اللّسان العربيّ ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلّمه وعلّمه. وكذا البربريّ والرّوميّ. والإفرنجيّ قلّ أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللّسان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: البديعية.
[2] وفي نسخة أخرى: سبقت.
[3] وفي نسخة أخرى: قبول.
[4] وفي نسخة أخرى: في المدة.(1/783)
العربيّ. وما ذلك إلّا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللّسان الآخر حتّى إنّ طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللّسان العربيّ جاء مقصّرا في معارفه عن الغاية والتّحصيل وما أوتي إلّا من قبل اللّسان. وقد تقدّم لك من قبل أنّ الألسن واللّغات شبيهة بالصّنائع. وقد تقدّم لك أنّ الصّنائع وملكاتها لا تزدحم.
وأنّ من سبقت له إجادة في صناعة فقلّ أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 37: 96.
الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه
هذا الفنّ من فنون كلام العرب وهو المسمّى بالشّعر عندهم ويوجد في سائر اللّغات إلّا أنّنا الآن إنّما نتكلّم في الشّعر الّذي للعرب. فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلّا فلكلّ لسان أحكام في البلاغة تخصّه.
وهو في لسان العرب غريب النّزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصّل قطعا قطعا متساوية في الوزن متّحدة في الحرف الأخير من كلّ قطعة وتسمّى كلّ قطعة من هذه القطعات عندهم بيتا ويسمّى الحرف الأخير الّذي تتّفق فيه رويّا وقافية ويسمّى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة. وينفرد كلّ بيت منه بإفادته في تراكيبه حتّى كأنّه كلام وحده مستقلّ عمّا قبله وما بعده. وإذا أفرد كان تامّا في بابه في مدح أو تشبيب [1] أو رثاء فيحرص الشّاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقلّ في إفادته. ثمّ يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك ويستطرد للخروج من فنّ إلى فنّ ومن مقصود إلى مقصود بأن يوطّئ المقصود الأوّل ومعانيه إلى أن يناسب المقصود الثّاني ويبعد الكلام عن التّنافر. كما يستطرد من التّشبيب [1] إلى المدح ومن وصف البيداء والطّلول إلى وصف الرّكاب أو الخيل أو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نسيب.(1/784)
الطّيف ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ومن التّفجّع والعزاء في الرّثاء إلى التّأثّر [1] وأمثال ذلك. ويراعي فيه اتّفاق القصيدة كلّها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطّبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من النّاس ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمّنها علم العروض. وليس كلّ وزن يتّفق في الطّبع استعملته العرب في هذا الفنّ وإنّما هي أوزان مخصوصة تسمّيها أهل تلك الصّناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنّهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطّبيعيّة نظما. واعلم أنّ فنّ الشّعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب. ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلّها. والملكات اللّسانيّة كلّها إنّما تكتسب بالصّناعة والارتياض في كلامهم حتّى يحصل شبه في تلك الملكة. والشّعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصّناعة من المتأخّرين لاستقلال كلّ بيت منه بأنّه كلام تامّ في مقصوده ويصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطّف في تلك الملكة حتّى يفرغ الكلام الشّعريّ في قوالبه الّتي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب ويبرزه مستقلّا بنفسه. ثمّ يأتي ببيت آخر كذلك ثمّ ببيت آخر ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثمّ يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون الّتي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنّه كان محكّا للقرائح في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربيّ على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطّف ومحاولة في رعاية الأساليب الّتي اختصّته العرب بها واستعمالها فيه. لنذكر هنا سلوك [2]
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التأبين.
[2] وفي نسخة أخرى: مدلول لفظة.(1/785)
الأسلوب عند أهل هذه الصّناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنّها عبارة عندهم عن المنوال الّذي ينسج فيه التّراكيب أو القالب الّذي يفرغ به. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل [1] المعنى الّذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته كمال [2] المعنى من خواصّ التّراكيب الّذي هو وظيفة البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الّذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثّلاثة خارجة عن هذه الصّناعة الشّعريّة وإنّما يرجع إلى صورة ذهنيّة للتّراكيب المنتظمة كلّيّة باعتبار انطباقها على تركيب خاصّ. وتلك الصّورة ينتزعها الذّهن من أعيان التّراكيب وأشخاصها ويصيّرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثمّ ينتقي التّراكيب الصّحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصّها فيه رصّا كما يفعله البنّاء في القالب أو النّسّاج في المنوال حتّى يتّسع القالب بحصول التّراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصّورة الصّحيحة باعتبار ملكة اللّسان العربيّ فيه فإنّ لكلّ فنّ من الكلام أساليب تختصّ به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطّلول في الشّعر يكون بخطاب الطّلول كقوله: «يا دار ميّة بالعلياء فالسّند» ويكون باستدعاء الصّحب للوقوف والسّؤال كقوله: «قفا نسأل الدّار الّتي خفّ أهلها» . أو باستبكاء الصّحب على الطلل كقوله: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» . أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معيّن كقوله: «ألم تسأل فتخبرك الرّسوم» . ومثل تحيّة الطّلول بالأمر لمخاطب غير معيّن بتحيّتها كقوله: «حيّ الدّيار بجانب الغزل» [3] . أو بالدّعاء لها بالسّقيا كقوله:
أسقى طلولهم أجشّ هزيم ... وغدت عليهم نضرة [4] ونعيم
أو سؤاله السّقيا لها من البرق كقوله:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كمال.
[2] وفي نسخة أخرى: أصل.
[3] وفي النسخة الباريسية: حي الدار بجانب العزل.
[4] وفي النسخة الباريسية: روضة.(1/786)
يا برق طالع منزلا بالأبرق ... واحد السّحاب لها حداء الأينق [1]
أو مثل التّفجع في الجزع [2] باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله: «أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي» . أو بالتّسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لا حام ولا راع ... مضى الرّدى بطويل الرّمح والباع
أو بالإنكار على من لم يتفجّع له من الجمادات كقول الخارجيّة:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهنئة فريقه [3] بالرّاحة من ثقل وطأته كقوله:
ألقى الرّماح ربيعة بن نزار ... أودى الرّدى بفريقك [4] المغوار
وأمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التّراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائيّة وخبريّة، اسميّة وفعليّة، متّفقة، مفصولة وموصولة، على ما هو شأن التّراكيب في الكلام العربيّ في مكان كلّ كلمة من الأخرى. يعرّفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلّيّ المجرّد في الذّهن من التّراكيب المعيّنة الّتي ينطبق ذلك القالب على جميعها.
فإنّ مؤلّف الكلام هو كالبنّاء أو النّسّاج والصّورة الذّهنيّة المنطبقة كالقالب الّذي يبنى فيه أو المنوال الّذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الأنيق.
[2] وفي نسخة أخرى: الرثاء.
[3] وفي نسخة أخرى: قريعة.
[4] وفي نسخة أخرى: بقريعك.(1/787)
المنوال في نسجه كان فاسدا. ولا تقولنّ إنّ معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنّا نقول قوانين البلاغة إنّما هي قواعد علميّة قياسيّة تفيد جواز استعمال التّراكيب على هيئتها الخاصّة بالقياس. وهو قياس علميّ صحيح مطّرد كما هو قياس القوانين الإعرابيّة. وهذه الأساليب الّتي نحن نقرّرها ليست من القياس في شيء إنّما هي هيئة ترسخ في النّفس من تتبّع التّراكيب في شعر العرب لجريانها على اللّسان حتّى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كلّ تركيب من الشّعر كما قدّمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإنّ القوانين العلميّة من العربيّة والبيان لا يفيد تعليمه بوجه. وليس كلّ ما يصحّ في قياس كلام العرب وقوانينه العلميّة استعملوه. وإنّما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطّلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسيّة. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النّحو وبهذه الأساليب الذّهنيّة الّتي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إنّ المحصّل لهذه القوالب في الذّهن إنّما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإنّ العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنّين وجاءوا به مفصّلا في النّوعين. ففي الشّعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيّدة واستقلال الكلام في كلّ قطعة وفي المنثور يعتبرون الموازنة والتّشابه بين القطع غالبا وقد يقيّدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه وكلّ واحدة من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الّذي يبني مؤلّف الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلّا من حفظ كلامهم حتّى يتجرّد في ذهنه من القوالب المعيّنة الشّخصيّة قالب كلّيّ مطلق يحذو حذوه في التّأليف كما يحذو البنّاء على القالب والنّسّاج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النّحويّ والبيانيّ والعروضيّ. نعم إنّ مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتمّ بدونها فإذا تحصّلت هذه الصّفات كلّها في الكلام اختصّ بنوع من النّظر لطيف في هذه(1/788)
القوالب الّتي يسمّونها أساليب. ولا يفيده إلّا حفظ كلام العرب نظما ونثرا. وإذا تقرّر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدّا أو رسما للشّعر به تفهم [1] حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنّا لم نقف عليه لأحد من المتقدّمين فيما رأيناه. وقول العروضيّين في حدّه إنّه الكلام الموزون المقفّى ليس بحدّ لهذا الشّعر الّذي نحن بصدده ولا رسم له. وصناعتهم إنّما تنظر في الشّعر من حيث اتّفاق أبياته في عدد المتحرّكات والسواكن على التّوالي، ومماثلة عروض أبيات الشّعر لضربها. وذلك نظر في وزن مجدّد عن الألفاظ ودلالتها. فناسب أن يكون حدّا عندهم، ونحن هنا ننظر في الشّعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصّة. فلا جرم إنّ حدّهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بدّ من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثيّة فنقول: الشّعر هو الكلام البليغ المبنيّ على الاستعارة والأوصاف، المفصّل بأجزاء متّفقة في الوزن والرّويّ مستقلّ كلّ جزء منها في غرضه ومقصده عمّا قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس وقولنا المبنيّ على الاستعارة والأوصاف فصل له عمّا يخلو من هذه فإنّه في الغالب ليس بشعر وقولنا المفصّل بأجزاء متفقة الوزن والرّويّ فصل له عن الكلام المنثور الّذي ليس بشعر عند الكلّ وقولنا مستقلّ كلّ جزء منها في غرضه ومقصده عمّا قبله وبعده بيان للحقيقة لأنّ الشّعر لا تكون أبياته إلّا كذلك ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عمّا لم يجر منه على أساليب العرب [2] المعروفة فإنّه حينئذ لا يكون شعرا إنّما هو كلام منظوم لأنّ الشّعر له أساليب تخصّه لا تكون للمنثور. وكذا أساليب المنثور لا تكون للشّعر فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممّن لقيناه من شيوخنا في هذه الصّناعة الأدبيّة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يفهمنا.
[2] وفي نسخة أخرى: الشعر.(1/789)
يرون أنّ نظم المتنبّي والمعرّي ليس هو من الشّعر في شيء لأنّهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحدّ الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عند ما يرى أنّ الشّعر يوجد للعرب وغيرهم. ومن يرى أنّه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشّعر فلنرجع إلى الكلام في كيفيّة عمله فنقول: اعلم أنّ لعمل الشّعر وإحكام صناعته شروطا أوّلها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتّى تنشأ في النّفس ملكة ينسج على منوالها ويتخيّر المحفوظ من الحرّ النّقيّ الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقلّ ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميّين مثل ابن ربيعة وكثيّر وذي الرّمّة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتريّ والرّضيّ وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنّه جمع شعر أهل الطّبقة الإسلاميّة كلّه والمختار من شعر الجاهليّة. ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرّونق والحلاوة إلّا كثرة المحفوظ. فمن قلّ حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنّما هو نظم ساقط. واجتناب الشّعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثمّ بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنّسج على المنوال يقبل على النّظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربّما يقال إنّ من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفيّة الظّاهرة إذ هي صادرة [1] عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها وقد تكيّفت النّفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنّه منوال يؤخذ بالنّسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة.
ثمّ لا بدّ له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذّ السّرور. ثمّ مع هذا كلّه فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الّذي في حفظه. قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند
__________
[1] وفي نسخة أخرى: صادة.(1/790)
الهبوب من النّوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هؤلاء [1] الجمام. وربّما قالوا إنّ من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة وهو الكتاب الّذي انفرد بهذه الصّناعة وإعطاء حقّها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.
قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كلّه فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أوّل صوغه ونسجه بعضها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنّه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلّها. فربّما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الّذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإنّ كلّ بيت مستقلّ بنفسه ولم تبق إلّا المناسبة فليتخيّر فيها كما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتّنقيح والنّقد ولا يضنّ به على التّرك إذا لم يبلغ الإجادة. فإنّ الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلّا الأفصح من التّراكيب. والخالص من الضّرورات اللّسانيّة فليهجرها فإنّها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وقد حظر أئمّة اللّسان المولّد من ارتكاب الضّرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطّريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضا المعقّد من التّراكيب جهده. وإنّما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإنّ فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنّما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل [2] الذّهن بالغوص عليها فمنع الذّوق عن استيفاء مدركة من البلاغة. ولا يكون الشّعر سهلا إلّا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذّهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر [3] بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبّي والمعرّي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: هواء.
[2] وفي نسخة أخرى: اشتغل.
[3] قوله أبي بكر وفي نسخة أبي إسحاق إلخ.(1/791)
بعدم النّسج على الأساليب العربيّة كما مرّ فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشّعر والحاكم بذلك هو الذّوق. وليجتنب الشّاعر أيضا الحوشيّ من الألفاظ والمقصّر [1] وكذلك السّوقيّ المبتذل بالتّداول بالاستعمال فإنّه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإنّ الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النّار حارّة والسّماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. ولهذا كان الشّعر في الرّبّانيّات والنّبويّات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلّا الفحول وفي القليل على العشر [2] لأنّ معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذّر الشّعر بعد هذا كلّه فليراوضه ويعاوده فإنّ القريحة مثل الضّرع يدرّ بالامتراء ويجفّ [3] بالتّرك والإهمال. وبالجملة فهذه الصّناعة وتعلّمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. وهذه نبذة كافية والله المعين. وقد نظم النّاس في أمر هذه الصّناعة الشّعريّة ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنّه لابن رشيق:
لعن الله صنعة الشّعر ماذا ... من صنوف الجهّال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلا للسّامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا ... وخسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصّواب منه ولا يدرون ... للجهل أنّهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامون ... وفي الحقّ عندنا يعذرونا
إنّما الشّعر ما يناسب في النّظم ... وإن كان في الصّفات فنونا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المقعر.
[2] وفي نسخة أخرى: العسر.
[3] وفي نسخة أخرى: يغرر.(1/792)
فأتى بعضه يشاكل بعضا ... وأقامت له الصّدور المتونا
كلّ معنى أتاك منه على ما ... تتمنّى ولم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسنا يبين للنّاظرينا
فكأنّ الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركّبن فيها عيونا
إنّما في المرام حسب الأماني ... يتحلّى بحسنة المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشّعر حرّا ... رمت فيه مذاهب المشتهينا [1]
فجعلت النّسيب سهلا قريبا ... وجعلت المديح صدقا مبينا
وتنكّبت ما يهجّن في السّمع ... وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما عرضته [2] بهجاء ... عبت فيه مذاهب المرقبينا [3]
فجعلت التّصريح منه دواء ... وجعلت التّعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على ... الغادين يوما للبين والظّاعنينا
حلت دون الأسى وذلّلت ما كان ... من الدّمع في العيون مصونا
ثمّ إن كنت عاتبا جئت بالوعد ... وعيدا وبالصّعوبة بينا [4]
فتركت الّذي عتبت عليه ... حذرا آمنا عزيزا مهينا
وأصحّ القريض ما قارب النّظم ... وإن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع النّاس طرّا ... وإذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضا قول بعضهم وهو الناشي:
الشّعر ما قوّمت ربع صدوره ... وشددت بالتّهذيب أسّ متونه
ورأيت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز عور عيونه
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المسهبينا.
[2] وفي نسخة أخرى: قرضته.
[3] وفي النسخة الباريسية: المرفتينا.
[4] وفي نسخة أخرى: لينا.(1/793)
وجمعت بين قريبه وبعيده ... وجمعت بين مجمّه ومعينة
وإذا مدحت به جوادا ماجدا ... وقضيته بالشّكر حقّ ديونه
أصفيته (بتفتّش ورضيته) [1] ... وخصصته بخطيره وثمينه
فيكون جزلا في مساق صنوفه ... ويكون سهلا في اتّفاق فنونه
وإذا بكيت به الدّيار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شئونه [2]
وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... بثبوته [3] وظنونه بيقينه
وإذا عتبت على أخ في زلّة ... أدمجت شدّته له في لينه
فتركته مستأنسا بدماثة ... مستأمنا لوعوثه وحزونه.
وإذا نبذت إلى الّذي علقتها ... إذ صارمتك بفاتنات شئونه
تيّمتها بلطيفه ورفيقه ... وشغفتها بخبيّه وكمنه
وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها ... وأشكت بين مخيله ومبينه
فيحول ذنبك عند من يعتدّه ... عتبا عليه مطالبا بيمينه
الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
اعلم أنّ صناعة الكلام نظما ونثرا إنّما هي في الألفاظ لا في المعاني وإنّما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصّانع الّذي يحاول ملكة الكلام في النّظم والنّثر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنفيسة ورصينه.
[2] مجاري الدمع.
[3] وفي نسخة أخرى: بثنائه.(1/794)
إنّما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتّى تستقرّ له الملكة في لسان مضر ويتخلّص من العجمة الّتي ربّي عليها في جيله ويفرض نفسه مثل وليد نشأ في جيل العرب ويلقّن لغتهم كما يلقّنها الصّبيّ حتّى يصير كأنّه واحد منهم في لسانهم. وذلك أنّا قدّمنا أنّ للّسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللّسان حتّى تحصل شأن الملكات والّذي في اللّسان والنّطق إنّما هو الألفاظ وأمّا المعاني فهي في الضّمائر.
وأيضا فالمعاني موجودة عند كلّ واحد وفي طوع كلّ فكر منها ما يشاء ويرضى فلا يحتاج إلى تكلّف صناعة في تأليفها وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصّناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعانيّ. فكما أنّ الأواني الّتي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذّهب والفضّة والصّدف والزّجاج والخزف والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللّغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها وإنّما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللّسان إذا حاول العبارة عن مقصوده ولم يحسن بمثابة المقعد الّذي يروم النّهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه. والله يعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون.(1/795)
الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ
قد قدّمنا أنّه لا بدّ من كثرة الحفظ لمن يروم تعلّم اللّسان العربيّ وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلّته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميّين شعر حبيب أو العتابيّ أو ابن المعتزّ أو ابن هانئ أو الشّريف الرّضيّ أو رسائل ابن المقفّع أو سهل ابن هارون أو ابن الزّيّات أو البديع أو الصّابيء تكون ملكته أجود وأعلى مقاما ورتبة في البلاغة ممّن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخّرين أو ابن النّبيه أو ترسّل البيسانيّ أو العماد الأصبهانيّ لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير النّاقد صاحب الذّوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثمّ إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأنّ الطّبع إنّما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أنّ النّفس وإن كانت في جبلّتها واحدة بالنّوع فهي تختلف في البشر بالقوّة والضعف في الإدراكات. واختلافها إنّما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان الّتي تكيّفها من خارج. فبهذه يتمّ وجودها وتخرج من القوّة إلى الفعل صورتها والملكات الّتي تحصل لها إنّما تحصل على التّدريج كما قدّمناه. فالملكة الشّعريّة تنشأ بحفظ الشّعر وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والتّرسيل، والعلميّة بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهيّة بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتّصوّفيّة الرّبّانيّة بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواسّ الظّاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع حتّى تحصل له ملكة الرّجوع إلى حسّه الباطن وروحه وينقلب ربّانيّا وكذا سائرها. وللنّفس في كلّ واحد منها لون تتكيّف به(1/796)
وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطّبقة في جنسها إنّما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلّهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلّا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلئ به من القوانين العلميّة والعبارات الفقهيّة الخارجة عن أسلوب البلاغة والنّازلة عن الطّبقة لأنّ العبارات عن القوانين والعلوم لا حظّ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلوّنت به النّفس جاءت الملكة النّاشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنّحاة والمتكلّمين والنّظّار وغيرهم ممّن لم يمتلئ من حفظ النّقيّ الحرّ من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدّولة المرينيّة قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العبّاس بن شعيب كاتب السّلطان أبي الحسن وكان المقدّم في البصر باللّسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النّحويّ ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك، فقال:
من قوله ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: للَّه أبوك إنّه ابن النّحويّ. وأمّا الكتّاب والشعراء فليسوا كذلك لتخيّرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في التّرسّل وانتقائهم لهم الجيّد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصّدر المقدّم في الشّعر والكتابة فقلت له: أجد استصعابا عليّ في نظم الشّعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيّد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلا. وإنّما أتيت والله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلميّة والقوانين التّألفيّة. فإنّي حفظت قصيدتي الشاطبيّ الكبرى والصّغرى في(1/797)
القراءات في الرسم واستظهرتهما وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجيّ في المنطق وبعض كتاب التّسهيل وكثيرا من قوانين التّعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة الّتي استعددت [1] لها بالمحفوظ الجيّد من القرآن والحديث وكلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها.
فنظر إليّ ساعة معجبا [2] ثمّ قال: للَّه أنت وهل يقول هذا إلّا مثلك؟ ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرّر فيه سرّ آخر وهو إعطاء السّبب في أنّ كلام الإسلاميّين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليّة في منثورهم ومنظومهم.
فإنّا نجد شعر حسّان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيّب وغيلان ذي الرّمّة والأحوص وبشّار ثمّ كلام السّلف من العرب في الدّولة الأمويّة وصدرا من الدّولة العبّاسيّة في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النّابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهليّة في منثورهم ومحاوراتهم والطّبع السّليم والذّوق الصّحيح شاهدان بذلك للنّاقد البصير بالبلاغة. والسّبب في ذلك أنّ هؤلاء الّذين أدركوا الإسلام سمعوا الطّبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللّذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهليّة ممّن لم يسمع هذه الطّبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطّبقة. وتأمّل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذّوق والبصر بالبلاغة. ولقد سألت يوما شيخنا الشّريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا وكان شيخ هذه الصّناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: استدعيت.
[2] وفي نسخة أخرى: متعجبا.(1/798)
تلاميذ الشّلوبين واستبحر في علم اللّسان وجاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميّين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليّين؟ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثمّ قال لي: والله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعلّه السّبب فيه. وذكرت له هذا الّذي كتبت فسكت معجبا ثمّ قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقّه أن يكتب بالذّهب. وكان من بعدها يؤثر محلّي ويصيخ في مجالس التّعليم إلى قولي ويشهد لي بالنّباهة في العلوم، والله خلق الإنسان وعلّمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوره
اعلم أنّ الكلام الّذي هو العبارة والخطاب، إنّما سرّه وروحه في إفادة المعنى. وأمّا إذا كان مهملا فهو كالموات الّذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدّها عند أهل البيان لأنّهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشّروط والأحكام الّتي بها تطابق التراكيب اللّفظيّة مقتضى الحال، هو فنّ البلاغة. وتلك الشّروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام هي جلّ قوانين العربيّة. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفنّ، يسمّونه علم المعاني من فنون(1/799)
البلاغة. فتندرج قوانين العربيّة لذلك في قوانين علم المعاني لأنّ إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصّر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الّذي هو في عداد الموات.
ثمّ يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأنّ التركيب يدلّ بالوضع على معنى، ثمّ ينتقل الذّهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إمّا باستعارة أو كناية كما هو مقرّر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذّة كما تحصل في الإفادة وأشدّ. لأنّ في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظّفر من أسباب اللّذّة كما علمت. ثمّ لهذه الانتقالات أيضا شروط وأحكام كالقوانين صيّروها صناعة، وسمّوها بالبيان.
وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنّها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. واللّفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصّر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربيا، لأنّ العربيّ هو الّذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربيّ وسجيّته وروحه وطبيعته.
ثمّ اعلم أنّهم إذا قالوا: «الكلام المطبوع» فإنّهم يعنون به الكلام الّذي كملت طبيعته وسجيّته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنّه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلّم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامّة، ويدلّ به عليه دلالة وثيقة. ثمّ يتبع تراكيب الكلام في هذه السجيّة الّتي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنّها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه(1/800)
بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللّفظ المشترك عن الخفيّ من معانيه، والمطابقة بين المتضادّات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، فيحصل للكلام رونق ولذّة في الأسماع وحلاوة وجمال كلّها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعدّدة مثل: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى 92: 1- 2» ، ومثل: «فَأَمَّا من أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 92: 5- 6» ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: «فَأَمَّا من طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا 79: 37- 38» إلى آخر الآية. وكذا: «هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 18: 104» . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهليّة منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمّد. ويقال إنّه وقع في شعر زهير.
وأمّا الإسلاميّون فوقع لهم عفوا وقصدا، وأتوا منه بالعجائب. وأوّل من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتريّ ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولّعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل انّ أوّل من ذهب إلى معاناتها بشّار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يستشهد بشعره في اللّسان العربيّ. ثمّ اتّبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميريّ ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثارهم حبيب والبحتريّ. ثمّ ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصّناعة أجمع. ولنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصّناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلّني ... أحدّث عنك النّفس في السرّ خاليا
وقول كثيّر:
وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت عما بيننا وتخلّت
لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّها ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت(1/801)
فتأمّل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.
وأمّا المصنوع فكثير من لدن بشّار، ثمّ حبيب وطبقتهما، ثمّ ابن المعتزّ خاتم الصنعة الّذي جرى المتأخّرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم.
وقد تعدّدت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها.
وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنّها غير داخلة في الإفادة، وأنّها هي تعطي التحسين والرّونق. وأمّا المتقدّمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبيّة الّتي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا، منها أن تقع من غير تكلّف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأمّا العفو فلا كلام فيه لأنّها إذا برئت من التكلّف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأنّ تكلّفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصليّة للكلام، فتخلّ بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأسا. ولا يبقى في الكلام إلّا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدّون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقيّ، وكان من أهل البصر في اللّسان والقريحة في ذوقه يقول: إنّ من أشهى ما تقترحه عليّ نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشدّ العقوبة، ونودي عليه، يحذّر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلّفون بها، ويتناسون البلاغة. ثمّ من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السّبتيّ منفق اللّسان العربيّ بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعيّة إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنّها من(1/802)
محسّنات الكلام ومزيّناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهليّة والإسلام. كان أوّلا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتّى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتّقفية وأتى بذلك بالعجب.
وعاب النّاس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانيّة. وإنّما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثمّ انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخّرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيّات والإخوانيّات والعربيّات بالسوقيّات. واختلط المرعيّ بالهمل. وهذا كلّه يدلّك على أنّ الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلّة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذّوق. والله خلقكم وعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر
اعلم أنّ الشّعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب منافسين [1] فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كلّ واحد منهم ديباجته على فحول الشّأن وأهل البصر لتمييز حوله. حتّى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجّهم وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر والنّابغة الذّبيانيّ وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شدّاد وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلّقات السّبع [2] . فإنّه إنّما كان يتوصّل إلى تعليق الشّعر بها من كان له قدرة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متنافسين.
[2] وفي النسخة الباريسية: التسع.(1/803)
على ذلك بقومه وعصبيّته ومكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلّقات. ثمّ انصرف العرب عن ذلك أوّل الإسلام بما شغلهم من أمر الدّين والنّبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النّظم والنّثر زمانا. ثمّ استقرّ ذلك وأونس الرّشد من الملّة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشّعر وحظره وسمعه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عبّاس فيقف لاستماعه معجبا به. ثمّ جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدّولة العزيزة وتقرّب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم ويحرصون على استهداء أشعارهم يطّلعون منها على الآثار والأخبار واللّغة وشرف اللّسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل هذا الشّأن أيّام بني أميّة وصدرا من دولة بني العبّاس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرّشيد للأصمعيّ في باب الشّعر والشّعراء تجد ما كان عليه الرّشيد من المعرفة بذلك والرّسوخ فيه والعناية بانتحاله والتّبصّر بجيّد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثمّ جاء خلق من بعدهم لم يكن اللّسان لسانهم من أجل العجمة وتقصيرها باللّسان وإنّما تعلّموه صناعة ثمّ مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الّذين ليس اللّسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب والبحتريّ والمتنبّي وابن هانئ ومن بعدهم وهلمّ جرّا. فصار غرض الشّعر في الغالب إنّما هو الكذب [1] والاستجداء لذهاب المنافع الّتي كانت فيه للأوّلين كما ذكرناه آنفا. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخّرين وتغيّر الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرّئاسة ومذمّة لأهل المناصب الكبيرة. والله مقلّب اللّيل والنّهار.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: للكدية.(1/804)
الفصل الستون في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أنّ الشّعر لا يختصّ باللّسان العربيّ فقط بل هو موجود في كلّ لغة سواء كانت عربيّة أو عجميّة وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أو ميروس الشّاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضا شعراء متقدّمون. ولمّا فسد لسان مضر ولغتهم الّتي دوّنت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللّغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت تحيل [1] العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللّغويّة وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتّصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشّرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره. ثمّ لمّا كان الشّعر موجودا بالطّبع في أهل كلّ لسان لأنّ الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحرّكات والسّواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشّعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الّذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كلّ جيل وأهل كلّ لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأمّا العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشّعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطوّلات مشتملة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لجيل.(1/805)
على مذاهب الشّعر وأغراضه من النّسيب والمدح والرّثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فنّ إلى فنّ في الكلام. وربّما هجموا على المقصود لأوّل كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشّاعر ثمّ بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمّون هذه القصائد بالأصمعيّات نسبة إلى الأصمعيّ راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمّون هذا النّوع من الشّعر بالبدويّ والحورانيّ والقيسيّ. وربّما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصّناعة الموسيقيّة. ثمّ يغنّون به ويسمّون الغناء به باسم الحورانيّ نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشّام وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد.
ولهم فنّ آخر كثير التّداول في نظمهم يجيئون به معصّبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثّلاثة في رويّه ويلتزمون القافية الرّابعة في كلّ بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربّع والمخمّس الّذي أحدثه المتأخّرون من المولّدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشّعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخّرون والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد وخصوصا علم اللّسان يستنكر صاحبها هذه الفنون الّتي لهم إذا سمعها ويمجّ نظمهم إذا أنشد ويعتقد أنّ ذوقه إنّما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذا إنّما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره وإلّا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنّما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرّفع دالّا على الفاعل والنّصب دالّا على المفعول أو بالعكس وإنّما يدلّ على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدّلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحّة الدّلالة وإذا طابقت تلك الدّلالة المقصود ومقتضى الحال صحّت البلاغة ولا عبرة بقوانين النّحاة في ذلك. وأساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر. ويتميّز(1/806)
عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب.
فمن أشعارهم على لسان الشّريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان، ويذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب:
قال الشريف ابن هاشم علي ... ترى كبدي حرّى شكت من زفيرها
يغزّ للإعلام أين ما رأت خاطري ... يردّ غلام البدو يلوي عصيرها
وماذا شكاة الروح مما طرا لها ... عداة وزائغ تلف الله خبيرها
يحسّ إن قطاع عامر ضميرها ... طوى وهند جافي ذكيرها
وعادت كما خوارة في يد غاسل ... على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين والنزع بينهم ... على شوك لعه والبقايا جريرها
وباتت دموع العين ذارفات لشأنها ... شبيه دوّار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذرا وزادها ... مرون يجي متراكبا من صبيرها
يصبّ من القيعان من جانب الصّفا ... عيون ولجاز البرق في غزيرها
هذا الغنى حتى تسابيت غزوة ... ناضت من بغداد حتى فقيرها
ونادى المنادي بالرحيل وشدّوا ... وعرج عاريها على مستعيرها
وشدّ لها الأدهم دياب بن غانم ... على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
وقال لهم حسن بن سرحان غرّبوا ... وسوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
ويركض وبيده شهامه بالتسامح ... وباليمين لا يجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس ... وما كان يرضى زين حمير وميرها
غدرني وهو زعما صديقي وصاحبي ... وأناليه ما من درقتي ما يديرها
ورجع يقول لهم بلال بن هاشم ... بحر البلاد العطشى ما بخيرها
حرام علي باب بغداد وأرضها ... داخل ولا عائد ركيزه من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم ... على الشمس أو حول الغظامن هجيرها(1/807)
وباتت نيران العذارى قوادح ... بلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بإفريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكّم:
تقول فتاة الحيّ [1] سعدى وهاضها ... لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة ... خذ النعت مني لا تكون هبيل
تراه يعالي وادي ران وفوقه ... من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا ... به الواد شرقا واليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفة ... قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم ... جراحة كأفواه المزاد تسيل
أيا جائزا مات الزناتي خليفة ... لا ترحل إلا أن يريد رحيل
ألا واش رحّلنا ثلاثين مرة ... وعشرا وستا في النهار قليل
ومن قولهم على لسان الشّريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه وبين ماضي بن مقرب:
تبدّى ماضي الجبار وقال لي ... أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ودّ بيننا ... ورانا عريب عربا لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا ... كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ... ليحدو ومن عمر بلاده عاش
ان كان نبت الشوك يلقح بأرضكم ... هنا العرب ما زدنا لهن صياش
ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه:
وأيّ جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم ... وأي رجال ضاع قبلي جميلها
__________
[1] كذا. وفي ب: نقاة الخلد:(1/808)
لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا ... عناني بحجة ما غباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة ... من الخمر فهو ما قدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها ... غريبا وهي مدوّخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوّحت ... وهي بين عربا غافلا عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى ... شاكي بكبد باديتها زعيلها
وأمرت قومي بالرحيل وبكّروا ... وقوّوا وشدّاد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا ... والبدو ما ترفع عمود يقيلها
نظلّ على حداب الثنايا نوازي ... يظل الجرى فوق النضا ونصيلها
ومن شعر سلطان بن مظفّر بن يحيى من الزواودة [1] أحد بطون رياح وأهل الرئاسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهديّة في سجن الأمير أبي زكريّا بن أبي حفص أوّل ملوك إفريقية من الموحّدين:
يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد والأسى ... وروح هيامي طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية ... عداوية ولها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات ومشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها
ومر باها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخور الخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري عمامها
وماذا بكت بالما وماذا تناحطت ... عيون غرار المزن عذبا حمامها
كأنّ عروس البكر لاحت ثيابها ... عليها ومن نور الأقاحي خزامها
فلاة ودهنا واتساع ومنة ... ومرعى سوى ما في مراعي نعامها
ومشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
__________
[1] كذا. وفي نسخة: الدواودة.(1/809)
تفانت عن الأبواب والموقف الّذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... وبلا ويحيى ما بلي من رمامها
فكافأتها بالودّ مني وليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجا وبيدي لجامها
وكم من رداح أسهرتني ولم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرّزة الأجفان باهي وشامها
وصفقت من وجدي عليها طريجة ... بكفي ولم ينسى جداها ذمامها
ونار بخطب الوجد توهج في الحشا ... وتوهج لا يطفأ من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها
ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها
بنود ورايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للّوى ... مقيم بها ما لذ عندي مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يزيل الصدا والغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقا ومغربا ... إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حمامهم تحية ... مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى ... فذي الدنيا ما دامت لأحد دوامها
ومن أشعار المتأخّرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، من أولاد أبي اللّيل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
يقول وذا قول المصاب الّذي نشا ... قوارع قيعان يعاني صعابها(1/810)
يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من إنشاد القوافي عذابها محيرة مختارة من نشادها تحدّى بها تام الوشا ملتهابها مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دأبي ودأبها وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل وهذي جوابها اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها فخرت ولم تقصر ولا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها لقولك في أمّ المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى وغلاق دأبها شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها سواها طفاها أضرمت بعد طفيه وأثنى طفاها جاسرا لا يهابها وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها وبان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار وهي عن كبر الاسنة تهابها كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الّذي يتقى بها
ومنها في العتاب:
وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني ... غنيت بمعلاق الثنا واغتصابها
عليّ ونا ندفع بها كل مبضع ... بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرائس ... علينا بأطراف القنا اختضابها
ولا بعدها الارهاف وذبل ... وزرق كالسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه ... تسير السبايا والمطايا ركابها
وهي عالما بأنّ المنايا تنيلها ... بلا شك والدنيا سريع انقلابها
ومنها في وصف الظعائن:
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا ... فتوق بحوبات مخوف جنابها(1/811)
ترى العين فيها قل لشبل عرائف ... وكلّ مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غبّ الصباح ان يفلها ... بكل حلوب الجوف ما سدّ بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ... ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
ومن قولهم في الأمثال الحكميّة
وطلبك في الممنوع منك سفاهة ... وصدّك عمن صدّ عنك صواب
إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ... ظهور المطايا يفتح الله باب
ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
لشيب وشبان من أولاد برجم ... جميع البرايا تشتكي من ضهادها
ومن قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحّدين أبي محمّد بن تافراكين المستبدّ بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا:
يقول بلا جهل فتى الجود خالد ... مقالة قوّال وقال صواب
مقالة حبر ذات ذهن ولم يكن ... هريجا ولا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة ... ولا هرج ينقاد منه معاب
وكنت بها كبدي وهي نعم صابة ... حزينة فكر والحزين يصاب
تفوّهت بادي شرحها عن مآرب ... جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدّمنا ... بني عمّ منهم شائب وشباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم ... مصافاة ودّ واتّساع جناب
وبعضهم ملنا له عن خصيمه ... كما يعلموا قولي يقينه صواب
وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا ... جزاعا وفي جوّ الضمير كتاب
وبعضهمو جانا جريحا تسمحت ... خواطر منها للنزيل وهاب(1/812)
وبعضهمو نظار فينا بسوّة ... نقهناه حتى ما عنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهنا قبيحه ... مرارا وفي بعض المرار يهاب
وبعضهمو شاكي من أوغاد قادر ... غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه واقتضي منه مورد ... على كره مولى البالقي ودياب
ونحن على دافي المدى نطلب العلا ... لهم ما حططنا للفجور نقاب
وحزنا حمى وطن بترشيش بعد ما ... نفقنا عليها سبقا ورقاب
ومهد من الأملاك ما كان خارجا ... على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا ... بني كعب لاواها الغريم. وطاب
جرينا بهم عن كل تأليف في العدا ... وقمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ... ربيها وخيراته عليه نصاب
وركبوا السّبايا المثمنات من أهلها ... ولبسوا من أنواع الحرير ثياب
وساقوا المطايا يا لشرا لا نسوا له ... جماهير ما يغلو بها بجلاب
وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر ... ضخام لحزات الزمان تصاب
وعادوا نظير البرمكيين قبل ذا ... وإلا هلالا في زمان دياب
وكانوا لنا درعا لكل مهمة ... إلى أن بان من نار العدوّ شهاب
وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقوا ... ملامه ولا دار الكرام عتاب
كسوا الحي جلباب البهيم لستره ... وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حانس ما دار النبا ... ذهل حلمي ان كان عقله غاب
يظنّ ظنونا ليس نحن بأهلها ... تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو ومن واتاه في سوء ظنه ... بالاثبات من ظنّ القبائح عاب
فوا عزوتي ان الفتى بو محمد ... وهوب لآلاف بغير حساب
وبرحت الأوغاد منه ويحسبوا ... بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع ... لقوا كل ما يستاملوه سراب(1/813)
وهو لو عطى ما كان للرأي عارف ... ولا كان في قلة عطاه صواب
وان نحن ما نستاملوا عنه راحة ... وانه باسهام التلاف مصاب
وان ما وطا ترشيش يضياق وسعها ... عليه ويمشي بالفزوع لزاب
وانه منها عن قريب مفاصل ... خنوج عناز هوالها وقباب
وعن فاتنات الطرف بيض غوانج ... ربوا خلف استار وخلف حجاب
يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا ... بحسن قوانين وصوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين وربّما ... يطارح حتى ما كأنّه شاب
بهم حازله زمّه وطوع أوامر ... ولذة مأكول وطيب شراب
حرام على ابن تافركين ما مضى ... من الودّ إلّا ما بدل بحراب
وان كان له عقل رجيح وفطنة ... يلجج في اليم الغريق غراب
وأما البدا لا بدّها من فياعل ... كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
ويحمي بها سوق علينا سلاعه ... ويحمار موصوف القنا وجعاب
ويمسي غلام طالب ريح ملكنا ... ندوما ولا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه ... غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
ومن شعر عليّ بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمّه المتطاولين إلى رياسته:
محبرة كالدرّ في يد صانع ... إذا كان في سلك الحرير نظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى ... وشاء تبارك والضعون تسام
غدامنه لام الحيّ حيين وانشطت ... عصاها ولا صبنا عليه حكام
ولكن ضميري يوم بان بهم إلينا ... تبرّم على شوك القتاد برام
وإلا كأبراص التهامي قوادح ... وبين عواج الكانفات ضرام
والا لكان القلب في يد قابض ... أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني ... إذا كان ينادي بالفراق وخام(1/814)
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر ... بيحيى وحله والقطين لمام
وغيد تداني للخطأ في ملاعب ... دجى الليل فيهم ساهر ونيام
ونعم يشوف الناظرين التحامها ... لنا ما بدا من مهرق وكظام
وعرود باسمها ليدعو لسربها ... واطلاق من شرب المها ونعام
واليوم ما فيها سوى البوم حولها ... ينوح على اطلال لها وخيام
وقفنا بها طورا طويلا نسألها ... بعين سخينا والدموع سجام
ولا صحّ لي منها سوى وحش خاطري ... وسقمي من أسباب إن عرفت أوهام
ومن بعد ذاتدّى لمنصور بو علي ... سلام ومن بعد السلام سلام
وقولوا له يا بو ألوفا كلح رأيكم ... دخلتم بحور غامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود إنما ... لها سيلات على الفضا وإكام
ولا قستمو فيها قياسا يدلكم ... وليس البحور الطاميات تعام
وعانوا على هلكاتكم في ورودها ... من الناس عدمان العقول لئام
أيا غزوة ركبوا الضلالة ولا لهم ... قرار ولا دنيا لهن دوام
الا غناهمو لو ترى كيف زايهم ... مثل سراب فلاة ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا ... مواضع ما هيا لهم بمقام
وحق النبي والبيت وأركانه العلى ... ومن زارها في كل دهر وعام
لبرّ الليالي فيه ان طالت الحيا ... يذوقون من خمط الكساع مدام
ولا برها تبقى البوادي عواكف ... بكل رديني مطرب وحسام
وكل مسافة كالسد إياه عابر ... عليها من أولاد الكرام غلام
وكل كميت يكتعص عض نابه ... يظل يصارع في العنان لجام
وتحمل بنا الأرض العقيمة مدة ... وتولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال والقود الهجان وبالقنا ... لها وقت وجنات البدور زحام
أتجحدني وأنا عقيد نقودها ... وفي سن رمحي للحروب علام(1/815)
ونحن كأضراس الموافي بنجعكم ... حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يا مير أبو علي ... يلقى سعايا صائرين قدّام
كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته ... وخلى الجياد العاليات تسام
وخلّ رجالا لا يرى الضيم جارهم ... ولا يجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها وعقد بؤسهم ... وهم عذر عنه دائما ودوام
وكم ثار طعنها على البدو سابق ... ما بين صحاصيح وما بين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على ... لنا أرض ترك الظاعنين زمام
وكم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة ... حليف الثنا قشاع كل غيام
وإن جاء خافوه الملوك ووسعوا ... غدا طبعه يجدي عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ... ما غنت الورقا وناح حمام
ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول:
تقول فتاة الحيّ أمّ سلامه ... بعين أراع الله من لا رثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى ... موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها وبو عيالها ... بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم ... ونمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرّني ... ويبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حين تسريح الذوائب واللحى ... وبيض العذارى ما حميتو جمالها(1/816)
(الموشحات والأزجال للأندلس)
وأمّا أهل الأندلس فلمّا كثر الشّعر في قطرهم وتهذّبت مناحيه وفنونه وبلغ التّنميق فيه الغاية استحدث المتأخّرون منهم فنّا منه سمّوه بالموشّح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضها المختلفة. ويسمّون المتعدّد منها بيتا واحدا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كلّ بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه النّاس جملة الخاصّة والكافّة لسهولة تناوله وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافر الفريريّ [1] من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المروانيّ. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخّرين ذكر وكسدت موشّحاتهما. فكان أوّل من برع في هذا الشّأن عبادة القزّاز شاعر المعتصم ابن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسيّ أنّه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كلّ الوشّاحين عيال على عبّادة القزّاز فيما اتّفق له من قوله: [2]
بدر تمّ. شمس ضحا ... غصن نقا. مسك شمّ
ما أتمّ. ما أوضحا ... ما أورقا ما أنمّ
لا جرم. من لمحا ... قد عشقا. قد حرم
وزعموا أنّه لم يسبقه وشّاح من معاصريه الّذين كانوا في زمن الطّوائف.
وذكر غير واحد من المشايخ أنّ أهل هذا الشّأن بالأندلس يذكرون أنّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: القبريري.
[2] الضمير يعود إلى عبادة.(1/817)
جماعة من الوشّاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيليّة وكان كلّ واحد منهم اصطنع موشّحة وتأنّق فيها فتقدّم الأعمى الطّليطليّ للإنشاد فلمّا افتتح موشّحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان. سافر عن درّ [1] ... ضاق عنه الزّمان. وحواه صدري
صرف [2] ابن بقيّ موشّحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسيّ أنّه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قطّ وشّاحا على قول إلّا ابن بقيّ حين وقع له:
أما ترى أحمد. في مجده العالي لا يلحق ... أطلعه الغرب. فأرنا مثله يا مشرق
وكان في عصرهما من الموشّحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التّلاحين المعروفة ومن الحكايات المشهورة أنّه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشّحته الّتي أوّلها:
جرّر الذّيل أيما جرّ ... وصل الشّكر منك بالشّكر
فطرب الممدوح لذلك لمّا ختمها بقوله:
عقد الله راية النّصر ... لأمير العلا أبي بكر
فلمّا طرق ذلك التّلحين سمع ابن تيفلويت صاح: وا طرباه: وشقّ ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وختمت وحلف بالأيمان المغلّظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلّا على الذّهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطّاب بن زهر أنّه جرى في مجلس أبي بكر بن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشّاح المتقدّم الذّكر فغصّ منه بعض الحاضرين فقال كيف تغصّ ممّن يقول:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بدر.
[2] وفي نسخة أخرى: حرق.(1/818)
ما لذّ لي شراب راح «على رياض الأقاح ... لولا هضيم الوشاح» إذا أسا [1] في الصّباح
أو في الأصيل «أضحى يقول: ... ما للشمول» لطمت خدّي؟
وللشّمال «هبّت فمال ... غصن اعتدال» ضمّه بردي
ممّا أباد القلوبا «يمشي لنا مستريبا ... يا لحظه ردّ نوبا» ويا لماه الشّنيبا
برّد غليل «صبّ عليل ... لا يستحيل» فيه عن عهدي
ولا يزال «في كلّ حال ... يرجو الوصال» وهو في الصّدّ
واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحّدين محمّد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدرا ... راح ونديم
وابن بهرودس الّذي له:
يا ليلة الوصل والسعود ... باللَّه عودي
وابن مؤهّل الّذي له:
ما العيد في حلّة وطاق. وشمّ وطيب. ... وإنّما العيد في التّلاقي. مع الحبيب.
وأبو إسحاق الرّوينيّ [2] قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنّه دخل على ابن زهير [3] وقد أسنّ وعليه زيّ البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة [4] فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فأنشد لنفسه موشّحة وقع فيها:
كحل الدّجى يجري «من مقلة ... الفجر» على الصّباح
ومعصم النّهر «في حلل ... خضر» من البطاح
__________
[1] وفي نسخة أخرى: إذ أتى.. وفي نسخة ثانية إذا انثنى.
[2] وفي نسخة أخرى: الرديني.
[3] وفي نسخة أخرى: ابن زهر.
[4] وفي نسخة أخرى: حصن أستبه.(1/819)
فتحرّك ابن زهير وقال أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟
فعرّفه، فقال: ارتفع فو الله ما عرفتك، قال ابن سعيد وسابق الحلبة الّذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير وقد شرّقت موشّحاته وغرّبت، قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التّوشيح قال كنت أقول:
ما للمولّه من سكره لا يفيق. يا له سكران. من غير خمر. ما للكئيب المشوق.
يندب الأوطان.
هل تستعاد. أيامنا ... بالخليج. وليالينا
أو نستفاد. من النسيم ... الأريج. مسك دارينا
أو هل يكاد. حسن المكان ... البهيج. أن يحيّينا؟
روض أظلّه. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. والماء يجري. وعائم وغريق.
من جنى الرّيحان.
واشتهر بعده ابن حيّون الّذي له من الزّجل المشهور قوله:
يفوّق سهمه كلّ حين ... بما شئت من يد وعين
وينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي ... فليس تخلّ ساع من قتال
وتعمل بذي العينين متاعي ... ما تعمل يديّ بالنبال
واشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، ولمّا سمع ابن زهر قوله:
للَّه ما كان من يوم بهيج ... بنهر حمص على تلك المروج
ثمّ انعطفنا على فمّ الخليج ... نفضّ في حانه مسك الختام(1/820)
عن عسجد زانه صافي المدام ورداء الأصيل ضمّه كف الظلام
قال ابن زهر: أين كنّا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرّف. أخبر ابن سعيد عن والده أنّ مطرّفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال:
لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب ... فقل كيف تبقى بلا وجد
وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أنّ يحيى الخزرجيّ دخل عليه في مجلسه فأنشده موشّحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشّح بموشّح حتّى يكون عاريا عن التّكلّف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال ... منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل
وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إنّ سيل الصباح في الشرق ... عاد بحرا في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق ... فبكت سحرة على الورق
واشتهر بأشبيليّة لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشّاحين الفضل بقولك:
وا حسرتا لزمان مضى ... عشيّة بأنّ الهوى وانقضى
وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبتّ على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطّلول ... وألثم بالوهم تلك الرّسوم(1/821)
قال وسمعت أبا بكر بن الصابونيّ ينشد الأستاذ أبا الحسن الدّباج موشّحاته غير ما مرّة، فما سمعته يقول له للَّه درّك، إلّا في قوله:
قسما بالهوى لذي حجر ... ما للّيل المشوّق من فجر
جمد الصّبح ليس يطرد ما للّيليّ فيما أظنّ غد اصح يا ليل إنّك الأبد
أو قفصت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري
ومن محاسن موشّحات ابن الصابوني قوله:
ما حال صبّ ذي ضنى واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ... ثمّ اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنني ... لم أبكه الا لفقد الخيال
وذا الوصال اليوم قد غرّني ... منه كما شاء وشاء الوصال
فلست باللائم من صدّني ... بصورة الحقّ ولا بالمحال
واشتهر ببرّ أهل العدوة ابن خلف الجزائريّ صاحب الموشّحة المشهورة:
الإصباح قدحت زناد ... الأنوار في مجامز الزهر
وابن خرز البجائيّ وله من موشّحة:
ثغر الزمان موافق ... حباك منه بابتسام
ومن محاسن الموشّحات للمتأخّرين موشّحة ابن سهل شاعر إشبيليّة وسبتة من بعدها فمنها قوله:
هل دري ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبّ حلّه عن مكنس
فهو في نار وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصّبا بالقبس
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد مرّ ذكره فقال:(1/822)
جادك الغيث إذا الغيث همي ... يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلّا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدّهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى وثنا ... مثل ما يدعو الوفود [1] الموسم
والحيا قد جلّل الرّوض سنى ... فثغور الزّهر [2] فيه تبسم
وروى النّعمان عن ماء السّما ... كيف يروي مالك عن أنس؟
فكساه الحسن ثوبا معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سرّ الهوى ... بالدّجى لولا شموس الغرر [3]
مال نجم الكأس فيها وهوى ... مستقيم السّير سعد الأثر
وطر ما فيه من عيب سوى ... أنّه مرّ كلمح البصر
حين لذّ النّوم منّا [4] أو كما ... هجم الصّبح هجوم [4] الحرس
غارت الشّهب بنا أو ربّما ... أثّرت فينا عيون النّرجس
أيّ شيء لامرئ قد خلصا ... فيكون الرّوض قد مكّن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتّقيه
فإذا الماء يناجي والحصا ... وخلا كلّ خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي
وترى الآس لبيبا فهما ... يسرق الدّمع بأذني فرس
يا أهيل الحيّ من وادي الغضا ... وبقلبي مسكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحجيج.
[2] وفي نسخة أخرى: الأزهار.
[3] وفي نسخة أخرى: القدر.
[4] وفي نسخة أخرى: شيئا. نجوم.(1/823)
فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تنقذوا عانيكم من كربه [1]
واتّقوا الله وأحيوا مغرما ... يتلاشى نفسا في نفس
حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون خراب الحبس [2]
وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد
قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغري به وهو سعيد
قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد
ساحر [3] المقلة معسول اللّمى ... جال في النّفس مجال النّفس
سدّد السّهم فأصمى إذ رمى ... بفؤادي نبلة المفترس [4]
إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصّبّ بالشّوق يذوب
فهو للنّفس حبيب أوّل ... ليس في الحبّ لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب
حكم اللّحظ بها فاحتكما ... لم يراقب [5] في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممّن ظلما ... ويجازي البرّ منها والمسي
ما لقلبي كلّما هبّت صبا ... عاده عيد من الشّوق جديد؟
كان في اللّوح له مكتتبا ... قوله إنّ عذابي لشديد
جلب الهمّ له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي إلّا الدّما [6] ... كبقاء الصّبح بعد الغلس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تنقذوا عائذكم.. إلخ وفي النسخة الباريسية: تعتقوا عانيكم من كربه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أفترضون عفاء الحبس.
[3] وفي نسخة أخرى: احور المقلة.
[4] وفي نسخة أخرى:
سدد السهم وسمى ورمى ... ففؤادي نهبة المفترس
[5] لم يراقب: أي لم يحاذر الله.
[6] وفي نسخة أخرى: ذما والذماء: بقية الروح(1/824)
سلّمي يا نفس في حكم القضا ... واعبري الوقت برجعى ومتاب
واتركي [1] ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبى قد تقضّت وعتاب
واصرفي القول إلى المولى الرّضى ... ملهم التّوفيق في أمّ الكتاب
الكريم المنتهى والمنتمي ... أسد السّرج وبدر المجلس
ينزل النّصر عليه مثلما ... ينزل الوحي بروح القدس
وأمّا المشارقة فالتّكلّف ظاهر على ما عانوه من الموشّحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشّحة ابن سناء الملك الّتي اشتهرت شرقا وغربا وأوّلها:
حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار
تنظر المسك على كافور ... في جلنار
كلّلي يا سحب تيجان الربى ... بالحلى واجعلي
سوارها منعطف الجدول
ولمّا شاع فنّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله، ونظّموا في طريقته بلغتهم الحضريّة من غير أن يلتزموا فيها إعرابا. واستحدثوا فنّا سمّوه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتّسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.
وأوّل من أبدع في هذه الطّريقة. الزجليّة أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلّا في زمانه. وكان لعهد الملّثمين، وهو إمام الزجّالين على الإطلاق.
قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مرويّة ببغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب.
قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الإشبيليّ، إمام الزجّالين في عصرنا يقول:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ودعي.(1/825)
ما وقع لأحد من أئمّة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصبّ الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرّجة فقال:
وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق
وفتح فمه بحال إنسان ... بيه الفراق
وانطلق من ثم على الصفاح ... وألقى الصياح
وكان ابن قزمان، مع أنّه قرطبيّ الدار، كثيرا ما يتردّد إلى إشبيليّة ونيتاب نهرها، فاتّفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النّهر للنزهة، ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال، وبدأ منهم عيسى البليديّ فقال:
يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو ... وقد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو ... يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو ... وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثمّ قال أبو عمرو بن الزاهر الإشبيليّ:
نشب والهوى من لج فيه ينشب ... ترى ايش دعاه يشقى ويتعذب
مع العشق قام في بألوان يلعب ... وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثمّ قال أبو الحسن المقرّيّ الدانيّ:
نهار مليح يعجبن أوصافو ... شراب وملاح من حولي قد طافوا
والمقلين يقول من فوق صفصافو ... والبوري أخرى فقلاتو(1/826)
ثمّ قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد ... في الواد النزيه والبوري والصياد
لسنا حيتان ذيك الّذي يصطاد ... قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثمّ قال أبو بكر بن قزمان:
إذا شمر كمامو يرميها ... ترى البوري يرشق لذاك الجيها
وليس مرادو أن يقع فيها ... إلا أن يقبل بدياتو
وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، وله محاسن من الزّجل منها قوله:
قد كنت منشوب واختشيت النشب ... وردّني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخدّ الشريق البهي ... تنتهي في الخمر ألما تنتهي
يا طالب الكيميا في عينيّ هي ... تنظر بها الفضة وترجع ذهب
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
ورذاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب
وتريد تجي إلينا ... ثم تستحي وتهرب
ومن محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا والنجوم حيارى ... فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا ... أحلى هي عندي من العسل
يا من يلمني كما تقلد ... قلدك الله بما تقول(1/827)
يقول بان الذنوب تولد ... وأنّه يفسد العقول
لارض الحجاز موريكن لك أرشد ... ايش ما ساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج والزيارا ... ودعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره ولا استطاع ... النية أبلغ من العمل
وظهر بعد هؤلاء بأشبيليّة ابن جحدر الّذي فضل على الزّجالين في فتح ميورقة بالزّجل الّذي أوّله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيته ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزّجل المشهور الّذي أوّله:
يا ليتني ان رأيت حبيبي ... أفتل اذنو بالرسيلا
ليش أخذ عنق الغزيل ... وسرق فم الحجيلا
ثمّ جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثمّ من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملّة الإسلاميّة غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس واملالي تجدّد ... ما خلق المال إلا أن يبدّد
ومن قوله على طريقة الصوفيّة وينحو منحى الشّشتريّ منهم:
بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول
ومضى من لم يكن ... وبقي من لم يزول
ومن محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يا بني أعظم مصائبي ... وحين حصل لي قربك سببت قاربي(1/828)
وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمّد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، وكان إماما في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا ... مذحلت الشمس في الحمل
تجدّدوا كل يوم خلاعا ... لا تجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل ... على خضورة ذاك النبات
وحل بغداد واجتياز النيل ... أحسن عندي من ذيك الجهات
وطاقتها أصلح من أربعين ميل ... ان مرت الريح عليه وجات
لم تلتق الغبار امارا ... ولا بمقدار ما يكتحل
وكيف ولاش فيه موضع رقاعا ... إلا ونسرّح فيه النحل
وهذه الطريقة الزجليّة لهذا العهد هي فنّ العامّة بالأندلس من الشّعر، وفيها نظمهم حتّى أنّهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العاميّة ويسمّونه الشّعر الزجليّ مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك وسنين ... وأنت لا شفقة ولا قلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ... صنعة السكة بين الحدادين
الدموع ترشرش والنار تلتهب ... والمطارق من شمال ومن يمين
خلق الله النصارى للغزو ... وأنت تغزو قلوب العاشقين
وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأوّل هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللّوشيّ وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يا نديمي نشربو ... ونضحكو من بعد ما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق ... في ميلق الليل فقم قلبو(1/829)
ترى عيارها خالص أبيض نقي ... فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر ... نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش ... عيش الغني فيه باللَّه ما أطيبوا
والليل أيضا للقبل والعناق ... على سرير الوصل يتقلبو
جاد الزمان من بعد ما كان بخيل ... ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى ... يشرب بيننو ويأكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا أيش ذا ... في الشرب والعشق ترى ننجبو
وتعجبوا عذالي من ذا الخبر ... فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح الا رقيق الطباع ... علاش تكفروا باللَّه أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ... يفض بكرا ويدع ثيبو
أما الكاس فحرام نعم هو حرام ... على الّذي ما يدري كيف يشربو
ويد الّذي يحسن حسابه ولم ... يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا
وأهل العقل والفكر والمجون ... يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر ... وقلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود ... وبالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ... ويفرحوا من بعد ما يندبوا
فميم كالخاتم وثغر نقي ... خطيب الأمّة للقبل يخطبو
جوهر ومرجان أي عقد يا فلان ... قد صففه الناظم ولم يثقبو
وشارب أخضر يريد لاش يريد ... من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ... ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ... ما قط راعي للغنم يحلبوا
وزوج هندات ما علمت قبلها ... ديك الصلا يا ريت ما أصلبوا
تحت العكاكن منها خصر رقيق ... من رقتو يخفي إذا تطلبوا(1/830)
أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبوا أي دين بقا لي معاك وأي عقل من يتبعك من ذا وذا تسلبوا تحمل ارداف ثقال كالرقيب حين ينظر العاشق وحين يرقبو ان لم ينفس غدر أو ينقشع في طرف ديسا والبشر تطلبوا يصير إليك المكان حين تجي وحين تغيب ترجع في عيني تبو محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الّذي يحسبو عماد الأمصار وفصيح العرب من فصاحة لفظه يتقرّبو بحمل العلم انفرد والعمل ومع بديع الشعر ما أكتبوا ففي الصدور بالرمح ما أطعنه وفي الرقاب بالسيف ما أضربوا من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعدّ قلبي أو يحسبو الشمس نورو والقمر همتو الغيث جودو والنجوم منصبو يركب جواد الجود ويطلق عنان الاغنيا والجند حين يركبوا من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد ووارد قط ما خيبوا قد أظهر الحق وكان في حجاب لاش يقدر الباطل بعد ما يحجبو وقد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو يلقى الحروب ضاحكا وهي عابسة غلاب هو لا شيء في الدنيا يغلبو إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو وهو سميّ المصطفى والإله للسلطنة اختار واستنخبو تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو ويزين موكبو لذي الإمارة تخضع الرءوس نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا ببيته بقي بدور الزمان يطلعوا في المجد ولا يغربوا(1/831)
وفي المعالي والشرف يبعدوا وفي التواضع والحيا يقربوا والله يبقيهم ما دار الفلك وأشرقت شمسه ولاح كوكبو وما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر ما لها مغربو
ثمّ استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشّعر، في أعاريض مزدوجة كالموشّح، نظموا فيه بلغتهم الحضريّة أيضا وسمّوه عروض البلد، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشّح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلّا قليلا مطلعها:
أبكاني بشاطئ النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح
وكف السحر يمحو مداد الظلام ... وماء الندى يجري بثغر الاقاح
باكرت الرياض والطل فيها افتراق ... كثير الجواهر في نحور الجوار
ودمع النواعير ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
لووا بالغصون خلخال على كل ساق ... ودار الجميع بالروض دور السوار
وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ... ويحمل نسيم المسك عنها رياح
وعاج الصبا يطلى بمسك الغمام ... وجرّ النسيم ذيلو عليها وفاح
رأيت الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت ارياشو بقطر الندى
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد التف من توبو الجديد في ردا
ولكن بما أحمر وساقو خضيب ... ينظم سلوك جوهر ويتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام ... جناحا توسد والتوى في جناح
وصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام ... منها ضمّ منقاره لصدره وصاح
قلت يا حمام أحرمت عيني الهجوع ... أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقي طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا والحزن من عهد نوح
كذا هو ألوفا وكذا هو الزمام ... انظر جفون صارت بحال الجراح(1/832)
وأنتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول عناني ذا البكا والنواح
قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى ... كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون
ولو كان بقلبك ما بقلبي أنا ... ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جمله تراني العيون
ومما كسا جسمي النحول والسقام ... أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لو جتنى المنايا كان يموت في المقام ... ومن مات بعد يا قوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لا وراق الرياض ... من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد
وتخضبت من دمعي وذاك البياض ... طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أمّا طرف منقاري حديثو استفاض ... بأطراف البلد والجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الّذي ليس من شأنهم، وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوّعوه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهو من أهل تازا:
المال زينة الدنيا وعز النفوس ... يبهي وجوها ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام والرتبة العاليا
يكبر من كثر ما لو ولو كان صغير ... ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير ... وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير ... لمن لا أصل عند وو لا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ... ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الاذناب أمام الرءوس ... وصار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ... ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان ... ولو رأيت كيف يردّ الجواب(1/833)
عشنا والسلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جدّا ضعاف الاسوس ... هم ناحيا والمجد في ناحيا
يرو أنهم والناس يروهم تيوس ... وجوه البلد والعمدة الراسيا
ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع ذا الزمان ... أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد الا وخان ... قليل من عليه تحبس ويحبس عليك
يهبوا على العشاق ويتمنعوا ... ويستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
وان واصلوا من حينهم يقطعوا ... وان عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو ... وصيرت من خدّي لقدمو نعال
ومهدت لو من وسط قلبي مكان ... وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك
وهوّن عليك ما يعتريك من هوان ... فلا بدّ من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي وارتضيت بو أمير ... فلو كان يرى حالي إذا يبصرو
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير ... مرديه ويتعطس بحال انحرو
وتعلمت من ساعا بسبق الضمير ... ويفهم مرادو قبل أن يذكرو
ويحتل في مطلو لو أن كان ... عصر في الربيع أو في الليالي يريك
ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان ... وايش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتّى أتى على آخرها.
وكان منهم عليّ بن المؤذّن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفنّ. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزّيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيّبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة(1/834)
يقول في مفتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمّى براعة الاستهلال:
سبحان مالك خواطر الأمرا ... ونواصيها في كل حين وزمان
ان طعناه أعظم لنا نصرا ... وان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلّص:
كن مرعى قل ولا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسئول
واستفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام والرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين والاتباع ... واذكر بعدهم إذا تحب وقول
أحجاجا تخللوا الصحرا ... ودّوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرّا ... وين سارت بو عزايم السلطان
أحجاج بالنبيّ الّذي زرتم ... وقطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم ... المتلوف في افريقيا السودا
ومن كان بالعطايا يزوّدكم ... ويدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا ... ويعجز شوط بعد ما يخفان
ويزف كر دوم تهب في الغبرا ... أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا ... وبلاد الغرب سدّ السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور وما شرا ... لو تقرأ كل يوم على الديوان
لجرت بالدم وانصدع حجرا ... وهوت الخراب وخافت الغزلان
أدر لي بعقلك الفحاص ... وتفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام ولا رقاص ... عن السلطان شهر وقبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص ... وعلامات تنشر على الصمعا(1/835)
الا قوم عاريين فلا سترا ... مجهولين لا مكان ولا إمكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا ... وكيف دخلوا مدينة القيروان
أمولاي أبو الحسن خطينا الباب ... قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد والزاب ... واش لك في أعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب ... الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام والحجاز وتاج كسرى ... وفتح من افريقيا وكان
ردّ ولدت لو كرّه ذكرى ... ونقل فيها تفرّق الاخوان
هذا الفاروق مردي الأعوان ... صرح في افريقيا بذا التصريح
وبقت حمى إلى زمن عثمان ... وفتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان ... مات عثمان وانقلب علينا الريح
وافترق الناس على ثلاثة أمرا ... وبقي ما هو للسكوت عنوان
إذا كان ذا في مدّة البرارا ... اش نعمل في أواخر الأزمان
وأصحاب الحضر في مكناساتا ... وفي تاريخ كأنا وكيوانا
تذكر في صحتها أبياتا ... شق وسطيح وابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا ... لجدّا وتونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت وأنا بذا أدري ... لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
ويقول لك ما دهى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى ... سلطان تونس وصاحب الأبواب
ثمّ أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكلّ غريبة من الإبداع. وأمّا أهل تونس فاستحدثوا فنّ الملعبة أيضا على لغتهم الحضريّة، إلّا أنّ أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته
.(1/836)
الموشحات والأزجال في المشرق
وكان لعامّة بغداد أيضا فنّ من الشعر يسمّونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمّون منها القوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمّونه دو بيت على الاختلاف المعتبرة عندهم في كلّ واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبحّروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضريّة، فجاءوا بالعجائب، ورأيت في ديوان الصفيّ الحلّي من كلامه «أنّ المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف، ويسمّى صوتا وبيتين. وأنّه من مخترعات أهل واسط، وأنّ كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأوّل من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلّا مردفة بحرف العلّة وأنّه من مخترعات البغداديّين. وأنشد فيه لنا:
بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأمّ الأخرس تعرف بلغة الخرسان» . انتهى كلام الصفيّ. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم:
هذي جراحي طريا ... والدما تنضح
وقاتلي يا أخيا ... في الفلا يمرح
قالوا ونأخذ بثأرك ... قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني ... يكون أصلح
ولغيره:
طرقت باب الخبا قالت من الطارق ... فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولغيره:(1/837)
عهدي بها وهي لا تأمن علي البين ... وان شكوت الهوى قالت فدتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ... ذكرتها العهد قالت لك على دين
ولغيره في وصف الحشيش:
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي ... تغني عن الخمر والخمار والساقي
قحبا ومن قحبها تعمل على احراقي ... خبيتها في الحشى طلت من احداقي
ولغيره:
يا من وصالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوّه أح
أودعت قلبي حوحو والتصبر بح ... كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
ولغيره:
ناديتها ومسيبي قد طواني طيّ ... جودي عليّ بقبلة في الهوى يا مي
قالت وقد كوت داخل فؤادي كيّ ... ما ظن ذا القطن يغشى فمّ من هو حيّ
ولغيره:
رآني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ... ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه ... رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
ولغيره:
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
وصيح في حيهم يا من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
ولغيره:
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ... ترعى النجوم وبالتسهيد اقتاتت
وأسهم البين صابتني ولا فاتت ... وسلوتي عظم الله أجركم ماتت(1/838)
ولغيره:
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر ... غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر ... وان تهلل فما للبدر عند وذكر
ومن الّذي يسمّونه دو بيت:
قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ... ليلا فعساه يهتدي بالنار
واعلم أنّ الأذواق كلّها في معرفة البلاغة إنّما تحصل لمن خالط تلك اللّغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتّى يحصّل ملكتها كما قلناه في اللّغة العربيّة. فلا يشعر الأندلسيّ بالبلاغة الّتي في شعر أهل المغرب ولا المغربيّ بالبلاغة الّتي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرقيّ بالبلاغة الّتي في شعر الأندلس والمغرب. لأنّ اللّسان الحضريّ وتراكيبه مختلفة فيهم. وكلّ واحد منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق لمحاسن الشّعر من أهل جلدته وفي خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين وقد كدنا نخرج عن الغرض.(1/839)
وجاء مصلّيا خلفه منهم ابن رافع، رأس [1] شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشّحته الّتي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنّم بأبدع تلحين ... وسقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يقول:
تخطّر ولا [2] تسلم عساك المأمون ... مروّع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثمّ جاءت الحلبة الّتي كانت في دولة الملثّمين، فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطليّ [3] ، ثمّ يحيى بن بقيّ، وللطليطليّ من الموشوحات المهذّبة قوله:
كيف السبيل إلى ... صبري وفي العالم أشجان
والركب وسط الفلا ... بالخرّد النواعم قد بان
خاتمة
ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأوّل الّذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية له.
ولعلّ من يأتي بعدنا ممّن يؤيّده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثر ممّا كتبنا فليس على مستنبط الفنّ إحصاء مسائله وإنّما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلّم فيه والمتأخّرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل. وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216.
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم الا من عند الله العزيز الحكيم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: منهم ابن ارفع رأسه شاعر المأمون.
[2] وفي النسخة الباريسية: وليست.
[3] وفي النسخة الباريسية: التطيلي.(1/840)
[المجلد الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب الثاني ويشتمل: أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة الى هذا العهد
وفيه ذكر معاصريهم من الأمم المشاهير، مثل السريانيين والنبط والكلدانيين والفرس والقبط وبني إسرائيل وبني يونان والروم، والإمام بأخبار دولهم. ويتقدّم الكلام في ذلك مقدمتان:
إحداهما في أمم العالم وأنسابهم على الجملة.
الثانية في كيفية أوضاع الأنساب في هذا الكتاب.
المقدّمة الاولى في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم
اعلم أن الله سبحانه وتعالى اعتمر هذا العالم بخلقه وكرّم بني آدم باستخلافهم في أرضه، وبثهم في نواحيها لتمام حكمته، وخالف بين أممهم وأجيالهم إظهارا لآياته، فيتعارفون الأنساب، ويختلفون باللغات والألوان، ويتمايزون بالسير والمذاهب والأخلاق، ويفترقون بالنحل والأديان والأقاليم والجهات. فمنهم العرب والفرس والروم وبنو إسرائيل والبربر، ومنهم الصقالبة والحبش والزنج، ومنهم أهل الهند وأهل بابل وأهل الصين وأهل اليمن وأهل مصر وأهل المغرب. ومنهم المسلمون والنصارى(2/3)
واليهود والصابئة والمجوس، ومنهم أهل الوبر وهم أصحاب الخيام والحلل وأهل المدر وهم أصحاب المجاشر والقرى والأطم، ومنهم البدو الظواهر والحضر الأهلون. ومنهم العرب أهل البيان والفصاحة والعجم وأهل الرطانة بالعبرانية والفارسية والإغريقية واللطينية والبربرية. خالف أجناسهم وأحوالهم وألسنتهم وألوانهم ليتم أمر الله في اعتمار أرضه بما يتوزعونه من وظائف الرزق وحاجات المعاش بحسب خصوصياتهم ونحلهم فتظهر آثار القدرة وعجائب الصنعة وآيات الوحدانية إنّ في ذلك لآيات للعالمين.
واعلم أنّ الامتياز بالنسب أضعف المميزات لهذه الأجيال والأمم لخفائه واندراسه بدروس الزمان وذهابه. ولهذا كان الاختلاف كثيرا ما يقع في نسب الجيل الواحد أو الأمّة الواحدة إذا اتصلت مع الأيام وتشعّبت بطونها على الأحقاب كما وقع في نسب كثير من أهل العالم مثل اليونانيين والفرس والبربر وقحطان من العرب.
اختلفت الأنساب واختلفت فيها المذاهب وتباينت الدعاوي استظهر كل ناسب على صحّة ما ادّعاه بشواهد الأحوال والمتعارف من المقارنات في الزمان والمكان وما يرجع الى ذلك من خصائص القبائل وسمات الشعوب والفرق التي تكون فيهم منتقلة متعاقبة في بنيهم.
وسئل مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبه الى آدم فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك؟ فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك وقال من يخبره به؟ وعلى هذا درج كثير من علماء السلف وكره أيضا أن يرفع في أنساب الأنبياء مثل أن يقال إبراهيم بن فلان بن فلان وقال من يخبره به. وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى: «وَالَّذِينَ من بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا الله 14: 9» قال: كذب النسابون. واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنّه صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم الى عدنان قال من هاهنا كذب النسابون. واحتجوا أيضا بما ثبت فيه أنه علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ إلى غير ذلك من الاستدلالات.
وذهب كثير من أئمة المحدّثين والفقهاء مثل ابن إسحاق والطبري والبخاري الى جواز الرفع في الأنساب ولم يكرهوه، محتجين بعمل السلف فقد كان أبو بكر رضي الله عنه أنسب قريش لقريش ومضر بل ولسائر العرب وكذا ابن عباس وجبير بن مطعم وعقيل بن أبي طالب وكان من بعدهم ابن شهاب والزهري وابن سيرين وكثير من(2/4)
التابعين. قالوا وتدعو الحاجة اليه في كثير من المسائل الشرعية مثل تعصيب الوراثة وولاية النكاح والعاقلة في الديات والعلم بنسب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنه القرشيّ الهاشمي الّذي كان بمكة وهاجر الى المدينة فانّ هذا من فروض الايمان ولا يعذر الجاهل به. وكذا الخلافة عند من يشترط النسب فيها. وكذا من يفرّق في الحرّيّة والاسترقاق بين العرب والعجم. فهذا كله يدعو الى معرفة الأنساب ويؤكد فضل هذا العلم وشرفه فلا ينبغي أن يكون ممنوعا.
وأمّا حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الى عدنان قال من هاهنا كذب النسّابون يعني من عدنان. فقد أنكر السهيليّ روايته من طريق ابن عبّاس مرفوعا وقال الأصح انه موقوف على ابن مسعود. وخرّج السهيليّ عن أمّ سلمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: معدّ بن عدنان بن أدد بن زيد بن البرّي بن أعراق الثري. قال وفسرت أم سلمة زيدا بأنه الهميسع والبرّي بأنه نبت أو نابت واعراق الثري بأنه إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم وإبراهيم لم تأكله النار كما لا تأكل الثرى. وردّ السهيليّ تفسير أمّ سلمة وهو الصحيح، وقال إنما معناه معنى قوله صلى الله عليه وسلم كلكم بنو آدم وآدم من تراب لا يريد أنّ الهميسع ومن دونه ابن لإسماعيل لصلبه وعضد ذلك باتفاق الأخبار على بعد المدّة بين عدنان وإسماعيل التي تستحيل في العادة أن يكون فيها بينهما أربعة آباء أو سبعة أو عشرة أو عشرون لأن المدّة أطول من هذا كله كما نذكره في نسب عدنان فلم يبق في الحديث متمسّك لأحد من الفريقين. وأما ما رووه من أنّ النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ فقد ضعّف الأئمة رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل الجرجاني وأبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البرّ. وألحق في الباب أنّ كل واحد من المذهبين ليس على إطلاقه فانّ الأنساب القريبة التي يمكن التوصّل إلى معرفتها لا يضرّ الاشتغال بها لدعوى الحاجة اليها في الأمور الشرعية من التعصيب والولاية والعاقلة وفرض الايمان بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسب الخلافة والتفرقة بين العرب والعجم في الحريّة والاسترقاق عند من يشترط ذلك كما مرّ كله وفي الأمور العادية أيضا تثبت به اللّحمة الطبيعية التي تكون بها المدافعة والمطالبة. ومنفعة ذلك في اقامة الملك والدين ظاهرة. وقد كان صلى(2/5)
الله عليه وسلم وأصحابه ينسبون الى مضر ويتساءلون عن ذلك. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم. وهذا كله ظاهر في النسب القريب، وأمّا الأنساب البعيدة العسرة المدرك التي لا يوقف عليها إلا بالشواهد والمقارنات لبعد الزمان وطول الأحقاب أو لا يوقف عليها رأسا لدروس الأجيال فهذا قد ينبغي أن يكون له وجه في الكراهة كما ذهب اليه من ذهب من أهل العلم مثل مالك وغيره لأنه شغل الإنسان بما لا يعنيه. وهذا وجه قوله صلى الله عليه وسلم فيما بعد عدنان من هاهنا كذب النسّابون لأنها أحقاب متطاولة ومعالم دارسة لا تثلج الصدور باليقين في شيء منها مع أنّ علمها لا ينفع وجهلها لا يضرّ كما نقل والله الهادي الى الصواب.
ولنأخذ الآن في الكلام في أنساب العالم على الجملة ونترك تفصيل كل واحد منها الى مكانه فنقول: إنّ النسّابين كلّهم اتفقوا على أنّ الأب الأوّل للخليقة هو آدم عليه السلام كما وقع في التنزيل إلا ما يذكره ضعفاء الأخباريين من أن الجنّ والطمّ أمّتان كانتا فيما زعموا من قبل آدم، وهو ضعيف متروك وليس لدينا من أخبار آدم وذرّيته إلّا ما وقع في المصحف الكريم وهو معروف بين الأئمّة. واتفقوا على أنّ الأرض عمرت بنسله أحقابا وأجيالا بعد أجيال إلى عصر نوح عليه السلام وأنه كان فيهم أنبياء مثل شيث وإدريس وملوك في تلك الأجيال معدودون وطوائف مشهورون بالنحل مثل الكلدانيين ومعناه الموحّدون، ومثل السريانيين وهم المشركون. وزعموا أنّ أمم الصابئة منهم وأنهم من ولد صابئ بن لمك بن أخنوخ، وكان نحلتهم في الكواكب والقيام لها كلها واستنزال روحانيّتها وأنّ من حزبهم الكلدانيين أي الموحّدين. وقد ألّف أبو إسحاق الصابي الكاتب مقالة في أنسابهم ونحلتهم. وذكر أخبارهم أيضا داهر مؤرّخ السريانيين والبابا الصابي الحرّاني وذكروا استيلاءهم على العالم وجملا من نواميسهم. وقد اندرسوا وانقطع أثرهم. وقد يقال أنّ السريانيين من أهل تلك الأجيال، وكذلك النمروذ والازدهاق وهو المسمى بالضّحاك من ملوك الفرس وليس ذلك بصحيح عند المحقّقين.
واتفقوا على أنّ الطوفان الّذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع بما كان من خراب المعمور ومهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا فصار(2/6)
أهل الأرض كلّهم من نسله وعاد أبا ثانيا للخليقة وهو نوح بن لامك ويقال لمك بن متوشلخ بفتح اللام وسكونها ابن خنوخ، ويقال أخنوخ، ويقال أشنخ، ويقال أخنخ وهو إدريس النبيّ فيما قاله ابن إسحاق ابن بيرد ويقال بيرد بن مهلائيل ويقال ماهلايل بن قاين ويقال قينن بن أنوش ويقال يانش بن شيث بن آدم، ومعنى شيث عطيّة الله هكذا نسبه ابن إسحاق وغيره من الأئمة وكذا وقع في التوراة نسبه وليس فيه اختلاف بين الأئمة. ونقل ابن إسحاق أنّ خنوخ الواقع اسمه في هذا النسب هو إدريس النبيّ صلوات الله عليه وهو خلاف ما عليه الأكثر من النسّابين فإنّ إدريس عندهم ليس بجدّ لنوح ولا في عمود نسبه وقد زعم الحكماء الأقدمون أيضا أنّ إدريس هو هرمس المشهور بالإمامة في الحكمة عندهم. وكذلك يقال: أنّ الصابئة من ولد صابئ بن لامك وهو أخو نوح عليه السلام. وقيل أنّ صابئ متوشلخ جدّه.
واعلم أنّ الخلاف الّذي في ضبط هذه الأسماء إنّما عرض في مخارج الحروف فإنّ هذه الأسماء إنّما أخذها العرب من أهل التوراة ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب، فإذا وقع الحرف متواسطا بين حرفين من لغة العرب، فتردّه العرب تارة الى هذا وتارة الى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن هاهنا اختلف الضبط في هذه الأسماء.
واعلم أنّ الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان ببابل فقط.
واعلم أنّ آدم هو كيومرث وهو نهاية نسبهم فيما يزعمون، وأنّ أفريدون الملك في آبائهم هو نوح، وأنّه بعث لازدهاق وهو الضحّاك فلبسه الملك وقبله كما يذكر بعد في أخبارهم. وقد تترجّح صحة هذه الأنساب من التوراة وكذلك قصص الأنبياء الأقدمين إذ أخذت عن مسلمي يهودا ومن نسخ صحيحة من التوراة يغلب على الظن صحتها وقد وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام وإسرائيل وشعوب الأسباط ونسب ما بينهم وبين آدم صلوات الله عليه. والنسب والقصص أمر لا يدخله النسخ فلم يبق إلا تحرّي النسخ الصحيحة والنقل المعتبر. وأمّا ما يقال من أن علماءهم بدّلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم. فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه: انّ ذلك بعيد، وقال معاذ الله ان تعمد أمّة الأمم الى كتابها المنزل على نبيّها فتبدّله أو ما في معناه، وقال وإنّما بدّلوه(2/7)
وحرّفوه بالتأويل ويشهد لذلك قوله تعالى: «وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ الله 5: 43» ولو بدّلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنّما المعنيّ به التأويل اللَّهمّ إلّا أن يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة وعدم الضبط. وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة لا سيما وملكهم قد ذهب، وجماعتهم انتشرت في الآفاق واستوى الضابط منهم وغير الضابط، والعالم والجاهل، ولم يكن وازع يحفظ لهم ذلك لذهاب القدرة بذهاب الملك فتطرّق من أجل ذلك الى صحف التوراة في الغالب تبديل وتحريف غير متعمد من علمائهم وأحبارهم. ويمكن مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذ تحرّى القاصد لذلك بالبحث عنه.
ثم اتفق النسابون ونقلت المفسرين على أنّ ولد نوح الذين تفرّعت الأمم منهم ثلاثة:
سام وحام ويافث وقد وقع ذكرهم في التوراة، وأنّ يافث أكبرهم وحام الأصغر وسام الأوسط، وخرّج الطبري في الباب أحاديث مرفوعة بمثل ذلك وأنّ سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش والزنج وفي بعضها السودان. وفي بعضها سام أبو العرب وفارس والروم، ويافث أبو التّرك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وحام أبو القبط والسودان والبربر، ومثله عن ابن المسيّب ووهب بن منبّه. وهذه الأحاديث وإن صحّت فإنّما الأنساب فيها مجملة ولا بدّ من نقل ما ذكره المحققون في تفريع أنساب الأمم من هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وكذلك نقل الطبريّ إنه كان لنوح ولد اسمه كنعان وهو الّذي هلك في الطوفان، قال وتسميه العرب يام، وآخر مات قبل الطوفان اسمه عابر. وقال هشام كان له ولد اسمه بوناطر والعقب إنّما هو من الثلاثة على ما أجمع عليه الناس وصحت به الأخبار، فأمّا سام فمن ولده العرب على اختلافهم وإبراهيم وبنوه صلوات الله عليهم باتفاق النسابين.
والخلاف بينهم إنّما هو في تفاريع ذلك أو في نسب غير العرب الى سام.
فالذي نقله ابن إسحاق: أنّ سام بن نوح كان له من الولد خمسة وهم: أرفخشذ ولاوذ وإرم وأشوذ وغليم. وكذا وقع ذكر هذه الخمسة في التوراة وأنّ بني أشوذ هم أهل الموصل، وبني غليم أهل خوزستان ومنها الأهواز. ولم يذكر في التوراة ولد لاوذ. وقال ابن إسحاق: وكان للاوذ أربعة من الولد: وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس قال: ومن العماليق أمّة جاسم فمنهم بنو لفّ وبنو هزّان وبنو مطر(2/8)
وبنو الأزرق ومنهم بديل وراحل وظفّار، ومنهم الكنعانيّون وبرابرة الشام وفراعنة مصر. وعن غير ابن إسحاق أنّ عبد بن ضخم وأميم من ولد لاوذ. قال ابن إسحاق: وكانت طسم والعماليق وأميم وجاسم يتكلّمون بالعربية وفارس يجاورونهم إلى المشرق ويتكلّمون بالفارسية.
قال وولد إرم: عوص وكاثر وعبيل ومن ولد عوص عاد ومنزلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت. ومن ولد كاثر ثمود وجديس ومنزل ثمود بالحجر بين الشام والحجاز.
وقال هشام بن الكلبي: عبيل بن عوص أخو عاد. وقال ابن حزم عن قدماء النسّابين: انّ لاوذ هو ابن إرم بن سام أخو عوص وكاثر. قال: فعلى هذا يكون جديس وثمود أخوين، وطسم وعملاق أخوين أبناء عمّ لحام وكلهم بنو عم عاد.
قال: ويذكرون أنّ عبد بن ضخم بن إرم وأنّ أميم بن لاوذ بن إرم. قال الطبري: وفهّم الله لسان العربيّة عادا وثمود وعبيل وطسم وجديس وأميم وعمليق وهم العرب العاربة. وربما يقال: إنّ من العرب العاربة يقطن أيضا، ويسمون أيضا العرب البائدة ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد. قال: وكان يقال عاد إرم فلمّا هلكوا قيل ثمود إرم ثمّ هلكوا فقيل لسائر ولد إرم أرمان وهو النبط. وقال هشام بن محمد الكلبيّ: إنّ النبط بنو نبيط بن ماش بن إرم والسريان بنو سريان بن نبط.
وذكر أيضا أنّ فارس من ولد أشوذ بن سام وقال فيه فارس بن طبراش بن أشوذ، وقيل أنهم من أميم بن لاوذ وقيل ابن غليم وفي التوراة: ذكر ملك الأهواز واسمه كردلا عمرو من بني غليم والأهواز متصلة ببلاد فارس. فلعل هذا القائل ظنّ أنّ أهل أهواز هم فارس والصحيح أنهم من ولد يافث كما يذكر. وقال أيضا إنّ البربر من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم بنو تميلة من مأرب بن قاران بن عمر بن عمليق والصحيح أنهم من كنعان بن حام كما يذكر. وذكر في التوراة ولد إرم أربعة عوص وكاثر وماش ويقال مشح والرابع حول. ولم يقع عند بني إسرائيل في تفسير هذا شيء إلّا أنّ الجرامقة من ولد كاثر. وقد قيل إنّ الكرد والدّيلم من العرب. وهو قول مرغوب عنه.
وقال ابن سعيد كان لأشوذ أربعة من الولد إيران ونبيط وجرموق وباسل فمن إيران الفرس والكرد والخزر، ومن نبيط النبط والسريان، ومن جرموق الجرامقة وأهل الموصل، ومن باسل الديلم وأهل الجبل. قال الطبري: ومن ولد أرفخشذ العبرانيون(2/9)
وبنو عابر بن شالخ بن أرفخشذ وهكذا نسبه في التوراة. وفي غيره أن شالخ بن قينن بن أرفخشذ وإنما لم يذكر قينن في التوراة لأنه كان ساحرا وادّعى الألوهية.
وعند بعضهم أنّ النمروذ من ولد ارفخشذ وهو ضعيف وفي التوراة أن عابر ولد اثنين من الولد هما فالغ ويقطن، وعند المحققين من النسّابة أن يقطن هو قحطان عربته العرب هكذا. ومن فالغ إبراهيم عليه السلام وشعوبه ويأتي ذكرهم. ومن يقطن شعوب كثيرة ففي التوراة ذكر ثلاثة من الولد له وهم: المرذاذ ومعربه ومضاض وهم جرهم وإرم وهم حضور وسالف وهم أهل السلفات وسبا وهم أهل اليمن من حمير والتبابعة وكهلان وهدرماوت وهم حضرموت. وهؤلاء خمسة، وثمانية أخرى ننقل أسماءهم وهي عبرانية ولم نقف على تفسير شيء منها ولا يعلم من أي البطون هم، وهم: بباراح وأوزال ودفلا وعوثال وأفيمايل وأيوفير وحويلا ويوفاف، وعند النسابين أن جرهم من ولد يقطن فلا أدري من أيهم، وقال هشام بن الكلبيّ: إن الهند والسند من نوفير بن يقطن والله أعلم.
وأما يافث فمن ولده الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج باتفاق من النسابين. وفي آخرين خلاف كما يذكر. وكان له من الولد على ما وقع في التوراة سبعة. وهم كومر وياوان وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش وعدّهم ابن إسحاق هكذا وحذف ماذاي ولم يذكر كومر وتوغرما وأشبان وريغاث هكذا في نص التوراة. ووقع في الإسرائيليات أن توغرما هم الخزر، وأن أشبان هم الصقالبة، وأن ريغاث هم الإفرنج ويقال لهم برنسوس، والخزر هم التركمان وشعوب الترك كلهم من بني كومر ولم يذكروا من أي الثلاثة هم. والظاهر أنهم من توغرما ونسبهم ابن سعيد الى الترك ابن عامور بن سويل بن يافث، والظاهر أنه غلط وأن عامور هو كومر صحف عليه.
وهم أجناس كثيرة منهم الطغرغر وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طغماج والخزلقية والغز الذين كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين كان منهم الخلج، ويقال للهياطلة الصغد أيضا. ومن أجناس الترك الغور والخزر والقفجاق، ويقال الخفشاخ، ومنهم يمك والعلّان، ويقال الأز، ومنهم الشركس وأزكش. ومن ماغوغ عند الإسرائيليين يأجوج ومأجوج، وقال ابن إسحاق: إنّهم من كومر ومن ماذاي الديلم ويسمون في اللسان العبراني ماهان. ومنهم أيضا همذان وجعلهم بعض الإسرائيليين من بني همذان بن يافث وعد همذان ثامناً للسبعة المذكورين من ولده.(2/11)
وأمّا ياوان واسمه يونان فعند الإسرائيليين أنّه كان له من الولد أربعة وهم: داود بن واليشا وكيتم وترشيش، وأن كيتم من هؤلاء الأربعة هو أبو الروم والباقي يونان، وأن ترشيش أهل طرسوس.
وأما قطوبال فهم أهل الصين من المشرق والليمان من المغرب. ويقال أنّ أهل افريقية قبل البربر منهم وأن الإفرنج أيضا منهم. ويقال أيضا أنّ أهل الأندلس قديما منهم.
وأما ماشخ فكان ولده عند الإسرائيليين بخراسان وقد انقرضوا لهذا العهد فيما يظهر وعند بعض النسابين أنّ الأشبان منهم.
وأما طيراش فهم الفرس عند الإسرائيليين وربما قال غيرهم إنهم من كومر وأن الخزر والترك من طيراش وأن الصقالبة وبرجان والأشبان من ياوران وأن يأجوج ومأجوج من كومر وهي كلها مزاعم بعيدة عن الصواب. وقال اهروشيوش مؤرّخ الروم أن القوط واللطين من ماغوغ. وهذا آخر الكلام في أنساب يافث.
وأمّا حام فمن ولده: السودان والهند والسند والقبط وكنعان باتفاق. وفي آخرين خلاف نذكره وكان له على ما وقع في التوراة أربعة من الولد وهم مصر ويقول بعضهم مصرايم وكنعان وكوش وقوط. فمن ولد مصر عند الإسرائيليين فتروسيم وكسلوحيم ووقع في التوراة فلشنين منهما معا. ولم يتعيّن من أحدهما وبنو فلشنين الذين كان منهم جالوت. ومن ولد مصر عندهم كفتورع ويقولون هم أهل دمياط ووقع الانقلوس ابن أخت قيطش الّذي خرب القدس في الجلوة الكبرى على اليهود. قال إن كفتورع هو قبطقاي ويظهر من هذه الصيغة أنهم القبط لما بين الاسمين من الشبه. ومن ولد مصر عناميم وكان لهم نواحي إسكندرية وهم أيضا بفتوحيم ولوديم ولهابيم. ولم يقع إلينا تفسير هذه الأسماء. وأما كنعان بن حام فذكر من ولده في التوراة أحد عشر منهم صيدون ولهم ناحية صيدا وإيموري وكرساش، وكانوا بالشام وانتقلوا عند ما غلبهم عليه يوشع إلى إفريقية فأقاموا بها. ومن كنعان أيضا يبوسا وكانوا ببيت المقدس وهربوا أمام داود عليه السلام حين غلبهم عليه إلى إفريقية والمغرب وأقاموا بها. والظاهر أنّ البربر من هؤلاء المنتقلين أوّلا وآخرا إلا أنّ المحققين من نسابتهم على أنهم من ولد مازيغ بن كنعان فلعل مازيغ ينتسب إلى هؤلاء. ومن كنعان أيضا حيث الذين كان ملكهم عوج بن عناق. ومنهم عرفان وأروادى وخوي ولهم نابلس وسبا ولهم طرابلس وضمارى ولهم حمص وحما ولهم أنطاكية وكانت تسمى حما باسمهم وأما كوش بن حام(2/12)
فذكر له في التوراة خمسة من الولد وهم سفنا وسبا وجويلا ورعما وسفخا ومن ولد رعما شاو وهم السند ودادان وهم الهند. وفيها أن النمروذ من ولد كوش ولم يعينه وفي تفاسيرها أن جويلا زويلة وهم أهل برقة. وأما أهل اليمن من ولد سبا. وأما قوط فعند أكثر الإسرائيليين أن القبط منهم. ونقل الطبري عن ابن إسحاق أن الهند والسند والحبشة من بني السودان من ولد كوش. وأن النوبة وفزان وزغاوة والزنج منهم من كنعان. وقال ابن سعيد أجناس السودان كلهم من ولد حام ونسب ثلاثة منهم الى ثلاثة سماهم من ولده غير هؤلاء الحبشة الى حبش، والنوبة الى نوابة أو نوى، والزنج الى زنج، ولم يسم أحدا من آباء الأجناس الباقية وهؤلاء الثلاثة الذين ذكروا لم يعرفوا من ولد حام فلعلّهم من أعقابهم، أو لعلها أسماء أجناس. وقال هشام بن محمد الكلبي إن النمروذ هو ابن كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش مؤرخ الروم: إن سبا وأهل افريقية يعني البربر من جويلا بن كوش ويسمى يضول وهذا والله أعلم غلط لأنه مرّ أن يضول في التوراة من ولد يافث ولذلك ذكر أن حبشة المغرب من دادان ابن رعما من ولد مصر بن حام بنو قبط بن لأب بن مصرا هـ الكلام في بني حام.
وهذا آخر الكلام في أنساب أمم العالم على الجملة والخلاف الّذي في تفاصيلها يذكر في أماكنه والله وليّ العون والتوفيق
.(2/14)
المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم
اعلم أن الأنساب تتشعب دائما وذلك أن الرجل قد يكون له من الولد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويكون لكل واحد منهم كذلك، وكل واحد منهم فرع ناشئ عن أصل أو فرع أو عن فرع فرع فصارت بمثابة الأغصان للشجرة تكون قائمة على ساق واحدة هي أصلها والفروع عن جانبها، ولكل واحد من الفروع فروع أخرى الى أن تنتهي إلى الغاية. فلذلك اخترنا بعد الكلام على الأنساب للأمّة وشعوبها أن نضع ذلك على شكل شجرة نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب ومن له التقدم عليهم فيجعل عمود نسبه أصلا لها وتفرع الشعوب الأخرى عن جانبه من كل جهة، كأنها فروع لتلك الشجرة حتى تتصل تلك الأنساب عمودا وفروعا بأصلها الجامع لها ظاهرة للعيان في صفحة واحدة، فترسم في الخيال دفعة ويكون ذلك أعون على تصوّر الأنساب وتشعبها. فإن الصور الحسيّة أقرب إلى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة. ثم لما كانت هذه الأمم كلها لها دول وسلطان، اعتمدنا بالقصد الأوّل ذكر الملوك منهم في تلك الشجرات متصلة أنسابهم الى الجد الّذي يجمعهم، بعد أن نرسم على كل واحد منهم رتبته في تعاقبهم واحدا بعد واحد بحروف أب ج د فالألف للأوّل والباء للثاني والجيم للثالث والدال للرابع والهاء للخامس وهلم جرّا.
ونهاية الأجداد لأهل تلك الدولة في الآخر منهم، ويكون للأول غصون وفروع في كل جهة عنه فإذا نظرت في الشجرة علمت أنساب الملوك في كل دولة وترتبهم بتلك الحروف واحدا بعد واحد والله أعلم بالصواب.
القول في أجيال العرب وأوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها
(1) اعلم أن العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها. يتنازلون حللا متفرقة،(2/16)
ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص، ويختطف الناس من السبل، ويتقلبون دائما في المجالات فرارا من حمارّة القيظ تارة، وصبارة البرد أخرى، وانتجاعا لمراعي غنمهم، وارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم، وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم، فاختصوا لذلك بسكنى الإقليم الثالث ما بين البحر المحيط من المغرب الى أقصى اليمن وحدود الهند من المشرق. فعمروا اليمن والحجاز ونجدا وتهامة وما وراء ذلك مما دخلوا إليه في المائة الخامسة كما ذكروه من مصر وصحاري برقة وتلولها وقسنطينة وإفريقية وزاغا والمغرب الأقصى والسوس، لاختصاص هذه البلاد بالرمال والقفار المحيطة بالأرياف والتلول والأرياف الآهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع وزخرف الأرض لرعي الكلإ والعشب في منابتها، والتنقل في نواحيها الى فصل الصيف لمدّة الأقوات في سنتهم من حبوبها. وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم بإفساد السابلة، ورعي الزرع مخضرّا، وانتهابه قائما وحصيدا إلا ما حاطته الدولة، وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها. ثم ينحدرون في فصل الخريف الى القفار لرعي شجرها، ونتاج إبلهم في رمالها، وما أحاط به عملهم من مصالحها، وفرارا بأنفسهم وظعائنهم من أذى البرد الى دفء مشاتيها. فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف والصحراء ما بين الإقليم الثالث والرابع صاعدين ومنحدرين على ممر الأيام، شعارهم لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجانا على رءوسهم يرسلون من أطرافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق، وقوم يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم عرب المغرب حاكوا بها عمائم زناتة من أمم البربر قبلهم. وكذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية، وهجروا تنكب القسي. وكان المعروف لأولهم ومن بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين.
ثم إنّ العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان ولذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الابانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الثيب تعرب عن نفسها» . والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا. وانظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر أن يوفد عليه من كبرائهم وخطبائهم من رضي لذلك، فاختار منهم وفد أوفده عليه وكان من خبره واستغراب ما جاءوا به من البيان ما هو معروف(2/17)
فهذه كلها شعائرهم وسماتهم وأغلبها عليهم اتخاذ الإبل والقيام على نتاجها وطلب الانتجاع بها الارتياد مراعيها ومفاحص توليدها بما كان معاشهم منها. فالعرب أهل هذه الشعار من أجيال الآدميين. كما أن الشاوية أهل القيام على الشاة والبقر لما كان معاشهم فيها فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه الا بالعرض ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولا عند الأكثر وفي بعضهم خفيّا على الجمهور. وربما تكون هذه السمات والشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب إلا أنهم في الغالب يكونون أقرب الى الأولين من غيرهم. وهذا الانتقال لا يكون إلّا في أزمنة متطاولة وأحقاب متداولة.
ولذلك يعرض في الأنساب ما يعرض من الجهل والخفاء.
واعلم أنّ جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح عليه السلام كان في عاد الأولى وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت ومن ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح. ثم لما انقرضت تلك العصور وذهب أولئك الأمم وأبادهم الله بما شاء من قدرته وصار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حمير وكهلان وأعقابهم من التبابعة ومن إليهم من العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. ثم لما تطاولت تلك العصور وتعاقبت وكان بنو فالغ بن عابر أعالم من بين ولده واختص الله بالنّبوّة منهم إبراهيم بن تارخ [1] وهو آزر بن ناحور بن ساروخ بن أرغو بن فالغ وكان من شأنه مع نمروذ ما قصّه القرآن. ثم كان من هجرته الى الحجاز ما هو مذكور، وتخلف ابنه إسماعيل مع أمه هاجر بالحجر قربانا للَّه، ومرّت بها رفقة من جرهم في تلك المفازة فخالطوها ونشأ إسماعيل بينهم، وربّي في أحيائهم، وتعلم لغتهم العربية بعد أن كان أبوه أعجميا. ثم كان بناء البيت كما قصه القرآن، ثم بعثه الله الى جرهم والعمالقة الذين كانوا بالحجاز فآمن كثير منهم واتبعوه.
ثم عظم نسله وكثر وصار بالجيل آخر من ربيعة ومضر ومن إليهم من إياد وعك وشعوب نزار وعدنان وسائر ولد إسماعيل وهم العرب التابعة للعرب. ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة وانقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة وبقي خلفهم أحياء بادين في القفار والرمال والخلاء من الأرض تارة والعمران تارة. وقبائل بالمشرق والمغرب والحجاز واليمن وبلاد الصعيد والنوبة والحبشة وبلاد الشام والعراق
__________
[1] تارخ أو تارح كما في التوراة.(2/18)
والبحرين وبلاد فارس والسند وكرمان وخراسان، أمم لا يأخذها الحصر والضبط، قد كاثروا أمم الأرض لهذا العهد شرقا وغربا، واعتزوا عليهم فهم اليوم أكثر أهل العالم وأملك لأمرهم من جميع الأمم. ولما كانت لغتهم مستعجمة على اللسان المضري الّذي نزل به القرآن، وهو لسان سلفهم، سميناهم لذلك العرب المستعجمة فهذه أجيال العرب منذ مبدإ الخليفة ولهذا العهد في أربع طبقات متعاقبة، كان لكل طبقة منها عصور وأجيال ودول وأحياء وقعت العناية بها دون من سواهم من الأمم لكثرة أجيالهم واتساع النطاق من ملكهم. فلنذكر لكل طبقة أحوال جيلها وبعض أيامهم ودولهم، ومن كان عهدهم من ملوك الأمم ودولهم، ليتبين لك بذلك مراتب الأجيال في الخليقة كيف تعاقبت والله سبحانه وتعالى وليّ العون.
برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع على ترتيبها والدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها
فنبدأ أوّلًا بذكر الطبقة الأولى وهم العرب العاربة ونذكر أنسابهم ومواطنهم وما كان لهم من الملك والدولة. ثم الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة من بني حمير بن سبا ونذكر أنسابهم وما كان لهم من الملك باليمن في التبابعة وأعقابهم. ثم نرجع إلى ذكر معاصرهم من العجم وهم ملوك بابل من السريانيّين ثم ملوك الموصل ونينوى من الجرامقة ثم القبط وملوكهم بمصر، ثم بني إسرائيل ودولهم ببيت المقدس قبل تخريب بخت نصّر وبعده وبالصابئة، ثم الفرس ودولهم الأولى والثانية، ثم يونان ودولهم الإسكندر وقومه، ثم الروم ودولهم في القياصرة وغيرهم.
ثم نرجع إلى ذكر الطبقة الثالثة وهم العرب التابعة للعرب من قضاعة وقحطان وعدنان وشعبيها العظيمين ربيعة ومضر. فنبدأ بقضاعة وأنسابهم وما كان لهم من الملك البدوي في آل النعمان بالحيرة والعراق ومن زاحمهم فيها من ملوك كندة بني حجر آكل المرار. ثم ما كان لهم أيضا من الملك البدوي بالشام في بني جفنة بالبلقاء والأوس والخزرج بالمدينة النبويّة. ثم عدنان وأنسابهم وما كان لهم من الملك بمكة في قريش ثم ما شرفهم الله به وجيل الآدميين أجمع من النبوّة، وذكر الهجرة والسير النبويّة، ثم نذكر ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك فنترجم للخلفاء الأربعة وما كان على عصرهم من الردّة والفتوحات والفتن. ثم نذكر خلفاء الإسلام من بني أمية(2/19)
وما كان لعهدهم من أمر الخوارج. ثم نذكر خلفاء الشيعة وما كان لهم من الدول في الإسلام. فالأولى الدولة العظيمة لبني العبّاس التي انتشرت في أكثر ممالك الإسلام، ثم دولة العلوية المزاحمين لها بعد صدر منها وهي دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، ثم دولة العبيدية من الإسماعيلية بالقيروان ومصر، ثم القرامطة بالبحرين، ثم دعاة طبرستان والديلم ثم ما كان من هؤلاء العلوية بالحجاز ثم نذكر بني أمية المنازعين لبني العبّاس بالأندلس وما كان لهم من الدولة هنالك والطوائف من بعدهم، ثم نرجع الى ذكر المستبدين بالدعوة العباسية بالمغرب والنواحي وهم بنو الأغلب بإفريقية وبنو حمدان بالشام وبنو المقلد بالموصل وبنو صالح بن كلاب بحلب وبنو مروان بديار بكر وبنو أسد بالحلة وبنو زياد باليمن وبنو هود بالأندلس.
ثم نرجع إلى القائمين بالدعوة العبيدية بالنواحي وهم الصليحيون [1] باليمن وبنو أبي الحسن الكلبي بصقيلة وصنهاجة بالمغرب. ثم نرجع الى المستبدين بالدعوة العباسية من العجم في النواحي وهم بنو طولون بمصر، ومن بعدهم بنو طغج وبنو الصفار بفارس وسجستان، وبنو سامان فيما وراء النهر، وبنو سبكتكين في غزنة وخراسان، وغورية في غزنة والهند، وبنو حسنويه من الكرد في خراسان. ثم نرجع إلى ذكر المستبدين على الخلفاء ببغداد من العجم وهم أهل الدولتين العظيمتين القائمتين بملك الإسلام من بعد العرب وهم بنو بويه من الديلم والسلجوقية من الترك. ثم نرجع إلى ملوك السلجوقية المستبدين بالنواحي وهم بنو طغتكين بالشام، وبنو قطلمش ببلاد الروم، وبنو خوارزم شاه ببلاد العجم وما وراء النهر، وبنو سقمان بخلاط وأرمينية، وبنو أرتق بماردين، وبنو زنكي بالشام، وبنو أيوب بمصر والشام. ثم الترك الذين ورثوا ملكهم هنالك، وبنو رسول باليمن ثم نرجع الى ذكر التتر من الترك القائمين على دولة الإسلام والماحين للخلافة العبّاسية ثم ما كان من دخولهم في دين الإسلام وقيامهم بالملك بالنواحي وهم بنو هولاكو بالعراق، وبنو دوشي خان بالشمال، وبنو أربنا ببلاد الروم، ومن بعد بني هولاكو بنو الشيخ حسن ببغداد وتوريز، وبنو المظفر بأصبهان وشيراز وكرمان، وبعد بني أرتنا ملوك بني عثمان من التركمان ببلاد الروم وما وراءها.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الصلحيون.(2/20)
ثم نرجع إلى الطبقة الرابعة من المغرب وهم المستعجمة ومن له ملك بدوي منهم بالمغرب والمشرق. ثم نخرج بعد ذكر ذلك الى ذكر البربر ودولهم بالمغرب لأنهم كانوا من شرط كتابنا. وهنالك نذكر برنامج دولهم والله سبحانه أعلم.
الطبقة الاولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإمام بملكهم ودولهم على الجملة
هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرة، وأشدّهم قوة وآثارا في الأرض، وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه. لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم، يمتنع اطلاعنا عليها التطاول الأحقاب ودروسها إلا ما يقصه علينا الكتاب ويؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم، وما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمنقطع الاسناد. ولذلك كان المعتمد عند الإثبات في أخبارهم، ما تنطق به آية القرآن في قصص الأنبياء الأقدمين، أو ما ينقله زعماء المفسرين في تفسيرها من أخبارهم وذكر دولهم وحروبهم ينقلون ذلك عن السلف من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة أو سمعوه ممن هاجر إلى الإسلام من أحبار اليهود وعلمائهم أهل التوراة أقدم الصحف المنزلة فيما علمناه، وما سوى ذلك من حطام المفسرين وأساطير القصص وكتب بدء الخليقة فلا نعوّل على شيء منه. وإن وجد لمشاهير العلماء تأليف مثل كتاب الياقوتية للطبريّ، والبدء للكسائي، فإنما نحوا فيها منحى القصاص، وجروا على أساليبهم، ولم يلتزموا فيها الصحة، ولا ضمنوا لنا الوثوق بها فلا ينبغي التعويل عليها، وتترك وشأنها. وأخبار هذا الجيل من العرب وان لم يقع لها ذكر في التوراة، إلا أن بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصرا، وأوعى لأخبارهم، فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل، ثم إن هذه الأمم على ما نقل كان لهم ملوك ودول.
فملوك جزيرة العرب وهي الأرض التي أحاط بها بحر الهند من جنوبها، وخليج الحبشة من غربها، وخليج فارس من شرقها، وفيها اليمن والحجاز والشحر وحضرموت، وامتد ملكهم فيها الى الشام ومصر في شعوب منهم على ما يذكر. ويقال: انهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام، فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره، إلى أن(2/21)
غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان. وهؤلاء العرب العاربة شعوب كثيرة. وهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وعبد ضخم وجرهم وحضرموت وحضورا والسلفات.
وسمي أهل هذا الجيل العرب العاربة، إما بمعنى الرساخة في العروبية كما يقال: ليل أليل، وصوم صائم. أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها بما كانت أول أجيالها وقد تسمى البائدة أيضا بمعنى الهالكة، لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم.
فأما عاد وهم بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان الى حضرموت والشحر. وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب، وطال عمره وكثر ولده، وفي التواريخ ولد له أربعة آلاف ولد ذكر لصلبه، وتزوج ألف امرأة وعاش ألف سنة ومائتي سنة. وقال البيهقي: إنه عاش ثلاثمائة سنة، وملك بعده بنوه الثلاثة شديد وبعده شداد وبعده إرم. وذكر المسعودي: إن الّذي ملك من بعد عاد وشدّاد منهم هو الّذي سار في المالك واستولى على كثير من بلاد الشام والهند والعراق. وقال الزمخشريّ: إن شدّاد هو الّذي بنى مدينة إرم في صحارى عدن، وشيدها بصخور الذهب وأساطين الياقوت والزبرجد، يحاكي بها الجنة لما سمع وصفها طغيانا منه وعتوّا. ويقال: إن باني إرم هذه هو إرم بن عاد.
وذكر ابن سعيد عن البيهقيّ: أن باني ارم هو ارم بن شداد بن عاد الأكبر، والصحيح أنه ليس هناك مدينة اسمها إرم وإنما هذا من خرافات القصاص وإنما ينقله ضعفاء المفسرين. وإرم المذكورة في قوله تعالى: «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 89: 7» القبيلة لا البلد.
وذكر المسعودي أنّ ملك عوص كان ثلاثمائة وأن الّذي ملك من بعده ابنه عاد بن عوص، وان جيرون بن سعد بن عاد كان من ملوكهم، وأنه الّذي اختط مدينة دمشق ومصرها، وجمع عمد الرخام والمرمر إليها وسماها إرم. ومن أبواب مدينة دمشق الى هذا العهد باب جيرون، وذكره الشعراء في معاهدها قال الشاعر:
النخل فالقصر فالحماء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
وهذا البيت في الصوت الأوّل من كتاب الأغاني. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق جيرون ويزيد أخوان هما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وبهما عرف باب جيرون ونهر يزيد. والصحيح أن باب جيرون إنما سمي باسم مولى من موالي سليمان عليه السلام في دولة بني إسرائيل، جيرون كان ظاهرا في دولتهم.
وذكر ابن سعيد في أخبار القبط: أن شدّاد بن بداد بن هداد بن شدّاد بن عاد(2/22)
حارب بعضا من القبط، وغلب على أسافل مصر ونزل الإسكندرية وبنى بها حينئذ مدينة مذكورة في التوراة يقال لها أون، ثم هلك في حروبهم، وجمع القبط إخوتهم من البربر والسودان وأخرجوا العرب من ملك مصر.
ثم لما اتصل ملك عاد وعظم طغيانهم وعتوّهم انتحلوا عبادة الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب ويقال: انّ ذلك لانتحالهم دين الصابئة، فبعث الله إليهم أخاهم هودا، وهو فيما ذكر المسعودي والطبريّ هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، وفي كتاب البدء لابن حبيب رباح بن حرب بن عاد، وبعضهم يقول هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ. فوعظهم وكان ملوكهم لعهده: الخلجان، ولقمان بن عاد بن عاديا بن صدا بن عادفا، آمن به لقمان وقومه، وكفر الخلجان، وامتنع هود بعشيرته من عاد. وحبس الله عنهم المطر ثلاث سنين وبعثوا الوفود من قومهم إلى مكة يستسقون لهم، كان في الوفد على ما قاله الطبري نعيم بن هزال بن هزيل بن عبيل بن صدا بن عاد. وقيل ابن عنز منهم، وحلقمة بن الخسري، ومرثد بن سعد بن عنز.
وكان ممن آمن يهود واتبعه وكان بمكة من عاد هؤلاء: معاوية بن بكر وقومه، وكانت هزيلة أخت معاوية عند نعيم بن هزال وولدت له عبيدا وعمرا وعامرا، فلما وصل الوفد الى مكة مرّوا بمعاوية بن بكر وابنه بكر ونزل الوفد عليه. ثم تبعهم لقمان بن عاد، وأقاموا عند معاوية وقومه شهرا لما بينهم من الخئولة، ومكثوا يشربون وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر وابنه بكر. ثم غنتاهم شعرا تذكرهم بأمرهم فانبعثوا ومضوا إلى الاستسقاء، وتخلف عنهم لقمان بن عاد ومرثد بن سعد، فدعوا في استسقائهم وتضرعوا وأنشأ الله السحب ونودي بهم ان اختاروا فاختاروا سوداء من السحب، وأنذروا بعذابها فمضت إلى قومهم وهلكوا كما قصّه القرآن.
وفي خبر الطبري أن الوفد لما رجعوا إلى معاوية بن بكر، لقيهم خبر مهلك قومهم هنالك، وأن هودا بساحل البحر، وأن الخلجان ملكهم قد هلك بالريح فيمن هلك، وأن الريح كانت تدخل تحت الرجل فتحمله حتى تقطعوا في الجبال وتقلع الشجر وترفع البيوت، حتى هلكوا أجمعون انتهى كلام الطبري.
ثم ملك لقمان ورهطه من قوم عاد واتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو يزيد وانتقل ملكه الى ولده لقمان، وذكر البخاري في تاريخه أن الّذي كان يأخذ كل سفينة غصبا هو هدد بن بدد بن الخلجان بن عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر، وأن المدينة(2/23)
بساحل برقة انتهى ولم يزل ملكهم متصلا إلى أن غلبهم عليه يعرب بن قحطان، واعتصموا بجبال حضرموت إلى أن انقرضوا. وقال صاحب زجار أن ملكهم عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر هو الّذي حارب يعرب بن قحطان، وكان كافرا يعبد القمر، وأنه كان على عهد نوح، وهذا بعيد لأن بعثة هود كانت عند استفحال دولتهم أو عند مبتدئها، وغلب يعرب كان عند انقراضها، وكذلك هدد الّذي ذكر البخاري أنه ملك برقة إنما هو حافر الخلجان الّذي اعتصم آخرهم بجبل حضرموت، وخبر البخاري مقدم.
وقال علي بن العزيز الجرجاني: وكان من ملوك عاد يعمر بن شداد، وعبد أبهر بن معديكرب بن شمد بن شداد بن عاد، وحناد بن مياد بن شمد بن شداد، وملوك آخرون أبادهم الله والبقاء للَّه وحده. فأما عبيل وهم إخوان عاد بن عوص فيما قاله الكلبي، وإخوان عوص بن إرم فيما قاله الطبريّ، وكانت ديارهم بالجحفة بين مكة والمدينة وأهلكهم السيل. وكان الّذي اختط يثرب منهم هكذا قال المسعودي، وقال هو يثرب بن ابائلة بن مهلهل بن عبيل. وقال السهيليّ إن الّذي اختط يثرب من العماليق، وهو يثرب بن ابائلة بن مهلهل بن عبيل. وقال السهيليّ إن الّذي اختط يثرب من العماليق، وهو يثرب بن مهلايل بن عوص بن عمليق. وأما عبد ضخم بن إرم فقال الطبري كانوا يسكنون الطائف وهلكوا فيمن هلك من ذلك الجيل. وقال غيره إنهم أوّل من كتب بالخط العربيّ.
وأمّا ثمود وهم بنو ثمود بن كاثر بن إرم فكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى فيما بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال، ويقال لأنّ أعمارهم كان تطول فيأتي البلاء والخراب على بيوتهم، فنحتوها لذلك في الصخر، وهي لهذا العهد، وقد مرّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ونهى عن دخولها كما في الصحيح، وفيه إشارة إلى أنّها بيوت ثمود أهل ذلك الجيل. ويشهد ذلك ببطلان ما يذهب إليه القصّاص، ووقع مثله للمسعوديّ من أنّ أهل تلك الأجيال كانت أجسامهم مفرطة في الطول والعظم، وهذه البيوت المشاهدة المنسوبة إليهم بكلام الصادق صلوات الله عليه، يشهد بأنّهم في طولهم وعظم حجراتهم مثلنا سواء فلا أقدم من عاد وأهل أجيالهم فيما بلغنا.
ويقال إنّ أوّل ملوكهم كان عابر بن إرم بن ثمود ملك عليهم مائتي سنة. ثم كان من بعده جندع بن عمرو بن الدبيل بن إرم بن ثمود. ويقال ملك نحوا من ثلاثمائة سنة،(2/24)
وفي أيامه كانت بعثة صالح عليه السلام، وهو صالح بن عبيل بن أسف بن شالخ بن عبيل بن كاثر بن ثمود، وكانوا أهل كفر وبغي وعبادة أوثان، فدعاهم صالح إلى الدين والتوحيد. قال الطبريّ: فلمّا جاءهم بذلك كفروا وطلبوا الآيات، فخرج بهم إلى هضبة من الأرض، فتمخّضت عن الناقة ونهاهم أن يتعرضوا لها بعقر أو هلكة، وأخبرهم مع ذلك أنهم عاقروها ولا بدّ، ورأس عليهم قدار بن سالف، وكان صالح وصف لهم عاقر الناقة بصفة قدار هذا. ولما طال النذير عليهم من صالح سئموه وهمّوا بقتله، وكان يأوي إلى مسجد خارج ملئهم، فكمن له رهط منهم تحت صخرة في طريقه ليقتلوه فانطبقت عليهم وهلكوا. وحنقوا ومضوا الى الناقة ورماها قدار بسهم في ضرعها وقتلها، ولجأ فصيلها إلى الجبل فلم يدركوه، وأقبل صالح وقد تخوف عليهم العذاب، فلمّا رآه الفصيل أقبل إليه ورغا ثلاث رغاءات، فأنذرهم صالح ثلاثا، وفي صبح الرابعة صعقوا بصيحة من السماء تقطّعت بها قلوبهم فأصبحوا جاثمين، وهلك جميعهم حيث كانوا من الأرض، إلّا رجلا كان في الحرم منعه الله من العذاب. قيل من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال. ويقال إنّ صالحا أقام عشرين سنة ينذرهم وتوفي ابن ثمان وخمسين سنة. وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ في غزوة تبوك بقرى ثمود فنهى عن استعمال مياههم وقال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم باكون أن يصيبكم ما أصابهم. أهـ كلام الطبري.
وقال الجرجاني: كان من ملوكهم دوبان بن يمنع ملك الإسكندرية، وموهب بن مرّة بن رحيب وكان عظيم الملك وأخوه هوبيل بن مرّة كذلك. وفيما ذكره المفسرون أنّهم أوّل من نحت الجبال والصخور، وأنّهم بنو ألفا وسبعمائة مدينة وفي هذا ما فيه. ثم ذهبوا بما كسبوا ودرجوا في الغابرين وهلكوا. ويقال إنّ من بقاياهم أهل الرسّ الذين كان نبيّهم حنظلة بن صفوان، وليس ذلك بصحيح. وأهل الرسّ هم حضور ويأتي ذكرهم في بني فالغ بن عابر، وكذلك يزعم بعض النسّابة أن ثقيفا من بقايا ثمود هؤلاء وهو مردود. وكان الحجّاج بن يوسف إذا سمع ذلك يقول كذبوا. وقال والله جلّ من قائل يقول وثمود فما ابقى أي أهلكهم فما أبقى أحدا منهم. وأهل التوراة لا يعرفون شيئا من أخبار عاد ولا ثمود لأنهم لم يقع لهم ذكر في التوراة، ولا لهود ولا لصالح عليهما السلام، بل ولا لأحد من العرب العاربة، لان(2/26)
سياق الأخبار في التوراة عن أولئك الأمم انما هو لمن كان في عمود النسب ما بين موسى وآدم صلوات الله عليهم، وليس لأحد من آباء هؤلاء الأجيال ذكر في عمود ذلك النسب فلم يذكروا فيها.
وأما جديس وطسم فعند ابن الكلبي أنّ جديسا لإرم بن سام وديارهم اليمامة وهم أخوان لثمود بن كاثر، ولذلك ذكرهم بعدهم وان طسما للاوذ بن سام وديارهم بالبحرين. وعند الطبريّ أنهما معا للاوذ وديارهم باليمامة. ولهذين الاثنين خبر مشهور ينبغي سياقه عند ذكرهم. قال الطبريّ عن هشام بن محمد الكلبي بسنده إلى ابن إسحاق وغيره من علماء العرب: أنّ طسما وجديسا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها، وأكثرها خيرا وثمارا وحدائق وقصورا، وكان ملك طسم غشوما لا ينهاه شيء عن هواه، ويقال له: عملوق وكان مضرّا لجديس مستذلا لهم، حتى كانت البكر من جديس لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. وكان السبب في ذلك أنّ امرأة منهم كان اسمها هزيلة طلّقها زوجها وأخذ ولده منها، فأمر عملوق ببيعها وأخذ زوجها الخمس من ثمنها، فقالت شعرا تتظلّم منه، فامر ان لا تزوّج منهم امرأة حتى يفترعها فقالوا كذلك حتى تزوّجت الشموس، وهي عفيرة ابنة غفّار بن جديس أخت الأسود، فافتضّها عملوق، فقال الأسود بن غفّار لرؤساء جديس: قد ترون ما نحن فيه من الذل والعار الّذي ينبغي للكلاب أن تعافه فأطيعوني أدعوكم إلى عزّ الدهر، فقالوا وما ذاك، قال:
أصنع للملك وقومه دعوة فإذا جاءوا، يعني طسما، نهضنا إليهم بأسيافنا فنقتلهم.
فأجمعوا على ذلك ودفنوا سيوفهم في الرمل، ودعوا عملوقا وقومه فلما حضروا قتلوهم، فأفنوهم، وقتل الأسود عملوقا، وأفلت رباح بن مرّة بن طسم فأتى حسان بن تبّع مستغيثا، فنهض حسّان في حمير لإغاثته حتى كان من اليمامة على ثلاث مراحل. قال لهم رباح إنّ لي أختا مزوّجة في جديس اسمها اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها وانها لتبصر الراكب على ثلاث مراحل، وأخاف أن تنظر القوم. فأمر كل رجل أن يقلع شجرة فيجعلها في يديه ويسير كأنه خلفها، ففعلوا وبصرت بهم اليمامة فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير وإني أرى رجلا من وراء شجرة بيده كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها، فاستبعدوا ذلك ولم يحفلوا به. وصبحهم حسّان وجنوده من حمير فأبادهم وخرّب حصونهم وبلادهم(2/27)
وهرب الأسود بن غفّار الى جبلي طيِّئ، فأقام بهما، ودعا تبّع باليمامة أخت رباح التي أبصرتهم فقلع عينها. ويقال إنه وجد بها عروقا سودا زعمت أنّ ذلك من اكتحالها بالإثمد، وكانت تلك البلد تسمى جو فسمّيت باليمامة اسم تلك المرأة.
قال أبو الفرج الأصبهاني: وكانت طيِّئ تسكن الجرف من أرض اليمن وهي اليوم محلة مراد وهمدان، وسيدهم يومئذ سامة بن لؤيّ بن الغوث بن طيِّئ، وكان الوادي مسبعة وهم قليل عددهم، وكان يجتاز بهم بعير في زمن الخريف ويذهب ثم يجيئ من قابل ولا يعرفون مقرّه، وكانت الأزد قد خرجت أيام سيل العرم واستوحشت طيِّئ فظعنوا على أثرهم، وقالوا لسامة هذا البعير إنما يأتي من الريف والخصب لان في بعرة النوى، فلما جاءهم زمن الخريف اتّبعوه يسيرون لسيرة حتى هبط عن الجبلين، وهجموا على النخل في الشعاب وعلى المواشي وإذا هم بالأسود بن غفّار، في بعض تلك الشعاب فهالهم خلقه وتخوّفوه، ونزلوا ناحية ونفضوا الطريق فلم يروا أحدا، فأمر سامة ابنه الغوث بقتل الأسود، فجاء إليه فعجب من صغر خلقه، وقال: من أين أقبلتم؟ قال: من اليمن وأخبره خبر البعير ثم رماه فقتله وأقامت طيِّئ بالجبلين بعده.
وذكر الطبريّ عن غير ابن إسحاق أنّ تبّع الّذي أوقع بجديس هو والد حسّان هذا، وهو ثبات أسعد أبو كرب بن ملكي كرب ويأتي ذكره في ملوك اليمن إن شاء الله تعالى انتهى كلام الطبريّ.
وقال غيره إنّ حسّان بن تبّع لما سار بحمير الى طسم بعث على مقدمته إليهم عبد كلال بن منوب بن حجر بن ذي رعين من أقيال حمير فسلك بهم رباح بن مرّة الرمل وكانت الزرقاء أخت رباح ناكحاً في طسم وتسمّى عنزة واليمامة، وكانت تبصر على البعد فأنذرتهم فلم يقبلوا وصبح عبد بن كلال جديسا إلى آخر القصّة، وبقيت اليمامة بعد طسم يبابا لا يأكل ثمرها إلا عوافي الطير والسباع حتى نزلها بنو حنيفة، وكانوا بعثوا رائدهم عبيد بن ثعلبة الحنفي يرتاد لهم في البلاد، فلما أكل من ذلك الثمر قال إنّ هذا الطعام! وحجر بعصاه على موضع قصبة اليمامة، فسميت حجرا واستوطنها بنو حنيفة وبها صبحهم الإسلام كما يأتي في أخبارهم إنّ شاء الله تعالى.
وأما العمالقة فهم بنو عمليق بن لاوذ وبهم يضرب المثل في الطول والجثمان. قال(2/28)
الطبريّ: عمليق أبو العمالقة كلهم أمم تفرّقت في البلاد، فكان أهل المشرق وأهل عمان والبحرين وأهل الحجاز منهم، وكانت الفراعنة بمصر منهم، وكانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيّون منهم. وكان الذين بالبحرين وعمان والمدينة يسمّون جاسم، وكان بالمدينة من جاسم هؤلاء بنو لفّ وبنو سعد بن هزال وبنو مطر وبنو الأزرق، وكان بالمدينة من جاسم هؤلاء بنو لفّ وبنو سعد بن هزال وبنو مطر وبنو الأزرق، وكان بنجد منهم بديل وراحل وغفّار وبالحجاز منهم إلى تيماء بنو الأرقم ويسكنون مع ذلك نجدا وكان ملكهم يسمّى الأرقم، قال: وكان بالطائف بنو عبد ضخم بن عاد الأول انتهى.
وقال ابن سعيد فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع عليها في خزانة الكتب بدار الخلافة من بغداد قال: كانت مواطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حام، ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء إسماعيل صلوات الله عليه وآمن به من آمن منهم. وتطرّد لهم الملك إلى أن كان منهم السميدع بن لاوذ بن عمليق وفي أيامه خرجت العمالقة من الحرم، أخرجتهم جرهم من قبائل قحطان فتفرقوا ونزل بمكان المدينة منهم بنو عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق فعرفت به، ونزل أرض أيلة ابن هومر بن عمليق، واتصل ملكها في ولده وكان السميدع سمة لمن ملك منهم إلى أن كان آخرهم السميدع بن هومر الّذي قتله يوشع لما زحف بنو إسرائيل إلى الشام بعد موسى صلوات الله عليه، فكان معظم حروبهم مع هؤلاء العمالقة هنالك، فغلبه يوشع وأسره وملك أريحا قاعدة الشام وهي قرب بيت المقدس ومكانها معروف لهذا العهد. ثمّ بعث من بني إسرائيل بعثا إلى الحجاز فملكوه وانتزعوه من أيدي العمالقة ملوكه ونزعوا يثرب وبلادها وخيبر. ومن بقاياهم يهود قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وسائر يهود الحجاز على ما نذكره. ثمّ كان لهم ملك بعد ذلك في دولة الروم وملّكوا أذينة بن السميدع على مشارف الشام والجزيرة من ثغورهم وأنزلوهم في التخوم ما بينهم وبين فارس، وهذا الملك أذينة ابن السميدع هو الّذي ذكره الشاعر في قوله:
أزال أذينة عن ملكه ... وأخرج عن أهله ذا يزن
وكان من بعده حسّان بن أذينة، ومن بعده طرف بن حسّان بن يدياه نسبة إلى امه، وبعده عمرو بن طرف، وكان بينه وبين جذيمة الأبرش حروب، وقتله جذيمة واستولى على ملكهم وكان آخرا من العمالقة كما نذكر ذلك في موضعه.(2/30)
ومن هؤلاء العمالقة فيما يزعمون عمالقة مصر وأنّ بعض ملوك القبط استنصر بملك العمالقة بالشام لعهده واسمه الوليد بن دومغ، ويقال ثوران بن أراشة بن فادان بن عمرو بن عملاق فجاء معه ملك مصر واستعبد القبط. قال الجرجاني ومن ثم ملك العماليق مصر ويقال أنّ منهم فرعون إبراهيم وهو سنان بن الأشل بن عبيد بن عولج بن عمليق، وفرعون يوسف أيضا منهم وهو الريّان بن الوليد بن فوران، وفرعون موسى كذلك وهو الوليد بن مصعب بن أبي أهون بن الهلوان، ويقال أنّه قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران، وكان الّذي ملك مصر بعد الريان بن الوليد طاشم بن معدان أهـ كلام الجرجانيّ وقال غيره: الريان فرعون يوسف وهو الّذي تسميه القبط نقراوش وأنّ وزيره كان أطفير وهو العزيز وأنّه آمن بيوسف، وأنّ أرض الفيّوم كانت مغايض للماء فدبّرها يوسف بالوحي والحكمة حتى صارت أعزّ الدّيار المصرية وملك بعده ابنه دارم بن الريان، وبعده ابنه معدانوس فاستبعد بني إسرائيل. قال الكلبي: ويذكر القبط أنّه فرعون موسى، وذكر أهل الأثر أنّه الوليد بن مصعب وأنه كان نجارا من غير بيت الملك فاستولى إلى أن ولي جرس السلطان ثم غلب عليه ثم استبدّ بعده وعليه انقرض أمر العمالقة. ولما غرق في اتباع موسى صلوات الله عليه رجع الملك إلى القبط فولّوا من بيت ملكهم دلوكة العجوز كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى، وأما بنو إسرائيل فليس عندهم ذكر لعمالقة الحجاز وعندهم أنّ عمالقة الشام من ولد عملاق بن أليفاز- بتفخيم الفاء- ابن عيصو أو عيصاب أو العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وفراعنة مصر منهم على الرأيين وأمّا الكنعانيون الذين ذكر الطبري أنّهم من العمالقة، فهم عند الإسرائيليين من كنعان ابن حام، وكانوا قد انتشروا ببلاد الشام وملكوها، وكان معهم فيها بنو عيصوا المذكورون ويقال لهم بنو يدوم، ومن أيديهم جميعا ابتزها بنو إسرائيل عند المجيء أيام يوشع بن نون، ولذلك تزعم زناتة المغرب أنّهم من هؤلاء العمالقة وليس بصحيح. وأمّا أميم فهم إخوان عملاق بن لاوذ قال السهيليّ:
يقال بفتح الهمزة وكسر الميم. وبضم الهمزة وفتح الميم وهو أكثر ووجدت بخط بعض المشاهير أمّيم بتشديد الميم. ويذكر أنّهم أوّل من بنى البنيان، واتخذ البيوت والآطام من الحجارة، وسقفوا بالخشب وكان ديارهم فيما يقال أرض فارس، ولذلك زعم بعض نسّابة الفرس أنّهم من أميم، وأنّ كيومرث الذين ينسبون إليه هو ابن أميم بن(2/31)
لاوذ وليس بصحيح وكان من شعوبهم وبار بن أميم نزلوا رمل عالج بين اليمامة والشحر وسالت عليهم الريح فهلكوا.
وأما العرب البائدة من بني أرفخشذ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ فهم جرهم وحضورا وحضرموت والسلف. فأما حضورا فكانت ديارهم بالرسّ، وكانوا أهل كفر وعبادة أوثان، وبعث إليهم نبيّ منهم اسمه شعيب بن ذي مهرع فكذبوه وهلكوا كما هلك غيرهم من الأمم وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية، وقال البيهقي: إنّ يعرب بن قحطان لما غلب عادا على اليمن وملكه من أيديهم ولى إخوته على الأقاليم، وولّى جرهم على الحجاز، وولى بلاد عاد الأولى وهي الشحر، عاد بن قحطان، فعرفت به، وولى عمان يقطن بن قحطان انتهى كلام البيهقي، وقيل إنما نزلت جرهم الحجاز، ثم بنى قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن، فلم يزالوا بمكة إلى أن كان شأن إسماعيل عليه السلام ونبوّته فآمنوا به وقاموا بأمره وورثوا ولاية البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة، ورجعوا إلى ديارهم باليمن إلى أن هلكوا.
وأما حضرموت فمعدودون في العرب العاربة لقرب أزمانهم وليسوا من العرب البائدة لأنهم باقون في الأجيال المتأخرة، إلّا أن يقال ان جمهورهم قد ذهب من بعد عصورهم الأولى واندرجوا في كندة، وصاروا من عدادهم، فهم بهذا الاعتبار قد هلكوا وبادوا والله أعلم. وقال عليّ بن عبد العزيز إنه كان فيهم ملوك التبابعة في علو الصيت ونهاية الذكر. قال وذكر جماعة من العلماء أن أول من انبسط ملكه منهم، وارتفع ذكره عمرو الأشنب بن ربيعة بن يرام بن حضرموت ثم خلفه ابنه نمر الأزج، فملك مائة سنة وقاتل العمالقة، ثم ملك كريب ذو كراب، ثم نمر الأزج مائة وثلاثا وثلاثين سنة، وهلك إخوته في ملكه. ثم ملك مرثد ذو مروان بن كريب مائة وأربعين سنة وكان يسكن مأرب ثم تحوّل إلى حضرموت، ثم ملك علقمة ذو قيعان ابن مرثد ذي مروان بحضرموت ثلاثين سنة، ثم ملك ذو عيل بن ذي قيعان عشر سنين وسكن صنعاء وغزا الصين فقتل ملكها وأخذ سيفه ذا النور، ثم ملك ذو عيل بن ذي عيل بحضرموت عشر سنين، ولما شخص سنان ذو ألم لغزو الصين تحوّل ذو عيل الى صنعاء واشتدت وطأته، وكان أوّل من غزا الروم من ملوك اليمن، وأوّل من أدخل الحرير والديباج الى اليمن. ثم ملك بدعات بن ذي عيل بحضرموت أربع(2/32)
سنين، ثم ملك بدعيل بن بدعات وبني حصونا وخلّف آثارا، ثم ملك بديع ذو عيل، ثم ملك حماد بن بدعيل بحضرموت فأنشأ حصنه المعقرب وغزا فارس في عهد سابور ذي الأكتاف وخرّب وسبى ودام ملكه ثمانين سنة وكان أوّل من اتخذ الحجاب من ملوكهم. ثم ملك يشرح ذو الملك بن ودب بن ذي حمّاد بن عاد من بلاد حضرموت مائة سنة وكان أول من رتب الرواتب وأقام الحرس والروابط. ثم ملك منعم بن ذي الملك دثّار بن جذيمة بن منعم، ثم يشرح بن جذيمة بن منعم، ثم نمر بن بشرح، ثم ساجن المسمى ابن نمر وفي أيامه تغلبت الحبشة على اليمن.
هذه قبائل هذا الجيل من العرب العاربة وما كانوا عليه من الكثرة والملك إلى أن انقرضوا وأزال الله من أمرهم بالقحطانيّة كما نحن ذاكروه. ولم نغفل منهم إلّا من لم يصلنا ذكره من خيره والله وارث الأرض ومن عليها.
وأما جرهم فقال ابن سعيد: إنهم أمّتان أمّة على عهد عاد وأمّة من ولد جرهم بن قحطان، ولما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز. ثم ملك من بعده ابنه عبد يا ليل، ثم بعده ابنه عبد المدان بن جرهم، ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن نفيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه الحرس. ثم ملك من بعده جرهم بن عبد ياليل، ثم بعده ابنه عمرو بن الحرث، ثم أخوه بشير بن الحرث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض. قال وهذه الأمّة الثانية هم الذين بعث إليهم إسماعيل عليه السلام وتزوج فيهم، انتهى.(2/34)
وأما بنو سبا بن يقطن فلم يبيدوا، وكان لهم بعد تلك الأجيال البائدة أجيال باليمن منهم حمير وكهلان وملوك التبابعة وهم أهل الطبقة الثانية. وفي مسند الإمام أحمد:
أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل هو فروة بن مسيك المرادي عن سبا أرجل هو أو امرأة أم أرض؟ فقال بل رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة والشام أربعة. فأمّا اليمانيّون فمذ حج وكندة والأزد والأشعر وأنمار وحمير. وأما الشاميّون فلخم وجذام وعاملة وغسّان. وثبت أن أباهم قحطان كان يتكلم بالعربية ولقنها عن الأجيال قبله فكانت لغة بنيه ولذلك سمّوا العرب المستعربة ولم يكن في آباء قحطان من لدى نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية، وكذلك كان أخوه فالغ، وبنوه إنما يتكلمون بالعجمية، إلى أن جاء إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة بنيه وهم أهل الطبقة الثالثة المسمّون بالعرب التابعة للعرب. فلنذكر هذا النسب لينتظم أجياله مع الأجيال السابقة واللاحقة ونستوفي أنساب الأمم منها.
الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم
ولنذكر الآن أهل هذا النسب ما بين إسماعيل ونوح عليهما السلام ومن كان منهم، أو من إخوانهم أو أبنائهم من الأنبياء والشعوب والملوك وما كان لإسماعيل صلوات الله عليه من الولد. ونختم هذه الطبقة الأولى بذكرهم، وإن كانوا عجما في لغاتهم، إلّا أنهم أصون الخليقة في أنسابهم، وكل البشر على بعض الآراء من أعقابهم، وهم مع ذلك معاصرون لهذه الطبقة، فيتسق الكلام فيهم على شرط كتابنا، ويتميز بذكر أخبارهم أحوال الطبقات التي بعدهم على الوفاء والكمال.
فنبدأ أولا بذكر عمود هذا النسب على التوالي، ثم نرجع إلى أخبارهم. وإسماعيل صلوات الله عليه هو ابن إبراهيم بن آزر وهو تارح وآزر اسم لصنمه لقّب به ابن ناحور بن ساروخ بالخاء أو بالغين ابن عابر أو عنبر بن شالح أو شليخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهذه الأسماء الأعجميّة كلها منقولة من التوراة، ولغتها عبرانية، ومخارج حروفها في الغالب مغايرة لمخارج الحروف العربية. وقد يجيء الحرف منها بين(2/36)
حرفين من العربيّة، فترده العرب الى أحد ذينك الحرفين وفي مخرجه، فيتغير عن أصله، ولذلك تكون فيها إمالة متسوطة أو محضة، فيصير الى حرف العلّة الّذي بعده من ياء أو واو، فلذلك تنقل الكلمة منها على اختلاف، وإلا فشأن الأعلام أن لا تختلف. وقال الطبريّ: إن بين شالخ وأرفخشذ أبا آخر اسمه قينن، وسقط ذكره من التوراة لأنه كان ساحرا وادّعى الألوهية. وقال ابن حزم: في كتب النصارى أنّ بين فالغ وعابر أبا آخر اسمه ملكيصدق وهو أبو فالغ.
واعلم أن نوحا صلوات الله عليه بلغ عمره يوم الطوفان ستمائة سنة، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فكانت جملة ذلك تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين وهذا نص المصحف الكريم، وكذا وقع في التوراة بعينه. ومن الغريب الواقع في التوراة أنّ عمر إبراهيم كان يوم وفاة نوح ثلاثا وخمسين سنة، لأنه قال إنّ أرفخشذ ولد لسام بعد سنتين من الطوفان، ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة ولد له ابنه شالخ، وبعد ثلاثين سنة ولد ابنه عابر، وبلغ عابر أربعا وثلاثين سنة فولد ابنه فالغ، وبلغ فالغ ثلاثين سنة فولد له أرغو، وبلغ أرغو اثنتين وثلاثين سنة فولد شاروغ، وبلغ شاروغ ثلاثين سنة فولد ناحور، وبلغ ناحور تسعا وعشرين سنة فولد تارح، وبلغ تارح خمسا وسبعين سنة فولد إبراهيم، وجملة هذه السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مائتان وسبع وتسعون سنة، وعمر نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسون سنة، فيكون إبراهيم بعد وفاة نوح ابن ثلاث وخمسين سنة، فيكون لقي نوحا صلوات الله عليهما وخالطه وأخذ عنه، وهو على رأي بعضهم أب لجميع الشعوب من بعده، فلذلك كان الأب الثالث للخليقة من بعد آدم ونوح صلوات الله عليهم أجمعين أهـ.
وفي كتاب البدء ونقله ابن سعيد: أنّ أوّل من ملك الأرض من ولد نوح، كنعان بن كوش بن حام، فسار من أرض كنعان بالشام الى أرض بابل، فبنى مدينة بابل اثني عشر فرسخا في مثلها، وورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان، وعظم سلطانه في الأرض، وطال عمره، وغلب على أكثر المعمور، وأخذ بدين الصابئة، وخالفه الكلدانيون منهم في التوحيد وأسمائه، ومال معهم بنو سام، وكان سام قد نزل بشرقيّ الدجلة، وكان وصيّ أبيه في الدين والتوحيد، وورث ذلك ابنه أرفخشذ، ومعنى أرفخشذ مصباح مضيء، فاشتغل بالعبادة ودعاه الكلدانيون الى القيام بالتوحيد(2/37)
فامتنع. ثم قام من بعده ابنه شالخ وعاش طويلا وقام من بعده بأمره ابنه عابر كذلك وخرج مع الكلدانيين على النمروذ منكرا لعبادة الهياكل، فغلبه نمروذ وأخرجه من كوثا، فلحق هو ومن معه من الحلفاء بالجزيرة وهي مدينة المجدل بين الفرات ودجلة. وعابر هذا هو أبو العبرانيّين الذين تكلموا بالعبرانية، واستفحل ملكه بالمجدل. قال ابن سعيد وورث من بعده ابنه فالغ وهو الّذي قسّم الأرض بين ولد نوح، وفي زمانه بنى النمرود الصرح ببابل [1] وكان من أمره ما نصّه القرآن، وقام بأمر فالغ من بعده ابنه ملكان فيما زعموا وغلبه الجرامقة والنبط على ملكه، وقام بالمجدل في ملكهم إلى أن هلك وخلف ابنه أتيا ويقال له الخضر. وأما أرغو بن فالغ فعبر الى كلواذا ودخل في دين النبط، وهي بدعة الصابئة وولد له منهم ابنه شاروخ، ثم بعده ناحور بن شاروخ، ثم بعد تارح بن ناحور الّذي سمّي آزر، واستخلص النمروذ آزر وقدمه على بيت الأصنام، والنمروذ من ملوك الجرامقة واسمه هاصد بن كوش، انتهى كلام ابن سعيد.
وولد لتارخ وهو آزر على ما وقع في التوراة ثلاثة من الولد إبراهيم وناحور وهاران، ومات هاران في حياة أبيه تارح، وترك ابنه لوطا فهو ابن أخي إبراهيم. قال الطبريّ: ولد إبراهيم الخليل قيل بناحية كوثا من السواد وهو قول ابن إسحاق، وقيل بحران، وقيل ببابل. وعامة السلف انه ولد على عهد نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام. وكان الكهان يتحدّثون بولادة رجل يخالف الدين، ويكسر الأصنام والأوثان، فأمر بذبح الولدان، فولدته أمه وتركته بمغارة في فلاة من الأرض حتى كبر وشب، ورأى في الكواكب ما رآه، وكملت نبوّته، فأحضرته إلى أبيه ودعاه إلى التوحيد، فامتنع وكسر إبراهيم الأصنام، وأحضر عند نمروذ وقذفه في النار، فصارت بردا وسلاما، وخرج منها ولم تعد عليه كما نصّ ذلك القرآن. ثم تدبر النمروذ في أمره، وطلب من إبراهيم أن يقرّب قربانا يفتدي مما دعاه إليه، فقال له إبراهيم:
لن يقبل منك إلا الإيمان، فقال: لا أستطيع، وترك إبراهيم وشأنه.
ثم أمر الله إبراهيم بالخروج من أرض الكلدانيين ببابل فخرج به أبوه تارح ومعهما على ما في التوراة ابنه ناحور بن تارح، وزوجته ملكا بنت أخيه هاران، وحافده لوط بن
__________
[1] يقال ان الصرح سبعة الاف درجة ويقال ثلاثة الاف وشيء وجعل يرمي في السماء فيرجع نبله اليه مختضبا ... (البدء والتاريخ ج 3 ص 56) .(2/38)
هاران، قال في التوراة وكنته سارة يعني زوج إبراهيم، فقيل انها أخت ملكا بنت هاران بن تارح، وقيل بنت ملك حران، طعنت على قومها في الدين، فتزوجها إبراهيم على أن لا يضرها. ويردّ هذا ما في التوراة انها خرجت معهم من أرض الكلدانيين إلى حرّان، فتزوجها، وقيل انها بنت هاران بن ناحور وهاران عم إبراهيم، قاله السهيليّ، فأقاموا بحرّان ومات بها أبوه تارح وعمره مائتا سنة وخمس سنين، ثم أمر بالخروج إلى أرض الكنعانيين، ووعده الله بأن تكون أثرا لبنيه، وأنهم يكثرون مثل حصى الأرض. فنزل بمكان بيت المقدس وهو ابن خمس وسبعين سنة، ثم أصاب بلد الكنعانيين مجاعة، فخرج إبراهيم في أهل بيته وقدم مصر، ووصف لفرعون ملك القبط جمال امرأته سارة فأحضرها عنده، ولما همّ بها يبست يده على صدره، فطلب منها الإقالة فدعت له الله فانطلقت يده. ويقال عاود ذلك ثلاثا يصاب في كلها وتدعو له فردّها إلى إبراهيم، واستخدمها هاجر. [1] قال الطبريّ والملك الّذي أراد سارة هو سنان بن علوان وهو أخو الضحاك، والظاهر أنه من ملوك القبط.
ثم ساروا إلى أرض كنعان بالشام، ويقال أنّ هاجر أهداها ملك الأردن لسارة، وكان اسمه فيما قال الضبيّ صلاوق، وأنه انتزع سارة من إبراهيم، ولما همّ بها صرع مكانه وسألها في الدعاء، فدعت له فأفاق فردّها إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر أمة كانت لبعض ملوك القبط. ولما عاد إبراهيم إلى أرض كنعان، نزل جيرون وهو مدفنه المسمى بالخليل، وكانت معظمة تعظمها الصابئة، وتسكب عليها الزيت للقربان، وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة، فسمّاها العبرانيون إيليا ومعناه بيت الله.
ثم أنّ لوطا فارق إبراهيم عليه السلام لكثرة مواشيهما وتابعهما وضيق المرعى، فنزل المؤتفكة بناحية فلسطين وهي بلاد العدور المعروف بعدور صقر، وكانت هناك على ما
__________
[1] ويروي الطبري هذه الحادثة في ج 1 ص 135: (وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال فكانت لا تعصي إبراهيم شيئا وبذلك أكرمها الله عزّ وجل فلما وصف لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل الى إبراهيم فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي وتخوف إبراهيم ان قال هي امرأتي أن يقتله عنها. فقال لإبراهيم: زينها ثم أرسلها اليّ حتى انظر اليها، فرجع إبراهيم الى سارة وأمرها فتهيأت ثم أرسلها اليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت اليه تناولها بيده فيبست الى صدره. فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها وقال: ادعي الله ان يطلق عني فو الله لا أريك مكروها ولأحسنن إليك. فقالت:
اللَّهمّ إن كان صادقا فأطلق يده، فردها الى إبراهيم ووهب لها هاجر جارية كانت له قبطية) . وفي كتاب البدء والتاريخ ج 3- ص 52 ما شابه ذلك.(2/39)
نقله المحقّقون خمس قرى سدوم. ووجدهم على ارتكاب الفواحش، فدعاهم الى الدين، ونهاهم عن المخالفة، فكذّبوه وعتوا، وأقام فيهم داعيا إلى الله إلى أن هلكوا كما قصّة القرآن. وخرج لوط مع عساكر كنعان وفلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام، وكانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام واسمه كرزلّا عامر، وملك بابل واسمه في التوراة شنعا واسمه أمّراقيل ويقال هو نمروذ، وملك الأستار وما أدري معنى هذه اللفظة واسمه أريوح، وملك كوتم ومعناه ملك أمم أو جماعة واسمه تزعال. وكان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة، وذلك أن ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة، ثم عصوا فزحف إليهم واستجاش بالملوك المذكورين معه، فأصابوا من أهل جبال يسعين إلى فاران التي في البرية وكان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضا. وخرج ملك سدوم وأصحابه لمدافعتهم فانهزم هو والملوك الذين معه من أهل سدوم، وسباهم ملك الأهواز ومن معه من الملوك، وأسروا لوطا وسبوا أهله وغنموا ماشيته. وبلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاتّبعهم في ولده ومواليه نحوا من ثلاثمائة وثمانية عشر، ولحقهم بظاهر دمشق فدهمهم، فانفضوا وخلص لوطا في تلك الواقعة، وجاء بأهله ومواشيه وتلقاهم ملك سدوم واستعظم فعلتهم.
ثم أوحى الله إلى إبراهيم أنّ هذه الأرض أرض الكنعانيّين التي أنت بها، ملّكتها لك ولذرّيتك وأكثرهم مثل حصى الأرض، وأن ذريتك يسكنون في أرض ليست لهم أربعمائة سنة ويرجع الحقب الرابع الى هنا.
ثم إن سارة وهبت مملوكتها هاجر القبطية لإبراهيم عليه السلام لعشر سنين من مجيئهم من مصر، وقالت لعل الله يرزقك منها ولدا. وكان إبراهيم قد سأل الله أن يهب له ولدا فوعده به. وكانت سارة قد كبرت وعقمت عن الولد، فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام لست وثمانين من عمره، وأوحى الله إليه أني قد باركت عليه وكثرته ويولد له اثنا عشر ولدا، ويكون رئيسا لشعب عظيم. وأدركت سارة الغيرة من هاجر وطلبت منه إخراجها، وأمره الله أن يطيع سارة في أمرها، فهاجر بها إلى مكة ووضعها وابنها بمكان زمزم عند دوحة هنالك وانطلق. فقالت له هاجر: آللَّه أمرك؟ قال: نعم. فقالت: إذا لا يضيعنا. وانطلق إبراهيم وعطش إسماعيل بعد ذلك عطشا شديدا، وأقامت هاجر تتردّد بين الصفا والمروة، إلى أن صعدت عليها(2/40)
سبع مرات لعلها تجد شيئا، ثم أتته وهو يفحص برجليه فنبعت زمزم.
وعن السدّي، أنه تركه في مكان الحجر، واتخذ فيه عريشا، وأن جبريل هو الّذي همز له الماء بعقبه، وأخبر هاجر أنها عين يشرب بها ضيفان الله، وأنّ أبا هذا الغلام سيجيء ويبنيان بيتا للَّه هذا مكانه. ثم مرّت رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم أقبلوا من كداء، ونزلوا أسفل مكة، فرأوا الطير حائمة، فقالوا: لا نعلم بهذا الوادي ماء، ثم أشرفوا فرأوا المرأة ونزلوا معها هنالك.
وعن ابن عبّاس: كانت أحياؤها قريبا من ذلك المكان، فلما رأوا الطير تحوم عليه، أقبلوا اليه فوجدوهما، فنزلوا معهما حتى كان بها أهل أبيات منهم، وشبّ إسماعيل بينهم، وتعلم اللغة العربية منهم، وأعجبهم وزوّجوه امرأة منهم، وماتت أمه هاجر فدفنها في الحجر. ولما رجع إبراهيم وأقام في أهله بالشام، وبالغ أهل المؤتفكة في العصيان والفاحشة، ودعاهم لوط فكذّبوه وأقام على ذلك. قال الطبريّ: فأرسل الله رسولا من الملائكة لا هلاكهم، ومرّوا بإبراهيم فأضافهم وخدمهم، وكان من ضحك سارة وبشارة الملائكة لها بإسحاق وابنه يعقوب ما قصّه القرآن، وكانت البشارة بإسحاق وإبراهيم ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين. وفي التوراة إنه أمر أن يحرّر ولده إسماعيل لثلاث عشرة سنة من عمره، وكل من في بيته من الأحرار فكان ذلك لتسع وتسعين من عمر إبراهيم، وقال له ذلك عهد بيني وبينك وذريتك. ثم أهلك الله المؤتفكة ونجى لوطا إلى أرض الشام، فكان بها مع عمه إبراهيم صلوات الله عليهما. وولدت سارة إسحاق، وأمر الله إبراهيم بعد ولادة إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يعبد فيه ويذكر، ولم يعرف مكانه فجعل له علامة تسير معه حتى وقفت به على الموضع، يقال انها ريح لينة لها رأسان تسير معه حتى تكون بالموضع، ويقال بل بعث معه جبرئيل لذلك حتى أراه الموضع. وكان إبراهيم يعتاد إسماعيل لزيارته، ويقال انه كان يستأذن سارة في ذلك، وأنها شرطت عليه أن لا يقيم عندهم، وأنّ إبراهيم وجد امرأة لإسماعيل في غيبة منه وكانت من العماليق، وهي عمارة بنت سعيد بن أسامة بن أكيل، فرآها فظة غليظة فأوصاها لإسماعيل بان يحوّل عتبة بابه، فلما قصت عليه الخبر والوصيّة قال ذلك أبي يأمرني أن أطلقك فطلقها. وتزوّج بعدها السيدة بنت مضّاق بن عمرو الجرهميّ، وخالفه إبراهيم إلى بيته فتسهلت له بالإذن وأحسنت التحية وقرّبت الوضوء والطعام، فأوصاها لإسماعيل بأني قد رضيت(2/41)
عتبة بابك، ولما قصّت عليه الوصية قال ذلك أبي يأمرني بإمساكك فأمسكها. ثم جاء إبراهيم مرة ثالثة وقد أمره الله ببناء البيت وأمر إسماعيل بإعانته، فرفعوها من القواعد وتمّ بناؤها، وأذن في الناس بالحج.
ثم زوّج لوط ابنته من مدين بن إبراهيم عليهما السلام، وجعل الله في نسلها البركة، فكان منه أهل مدين الأمّة المعروفة.
ثم ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه في رؤيا رآها وهي وحي، وكانت الفدية ونجّى الله ذلك الولد كما قصّ في القرآن. واختلف في ذلك الذبيح من ولديه فقيل إسماعيل وقيل إسحاق، وذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة والتابعين، فالقول بإسماعيل لابن عبّاس وابن عمر والشعبي ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب القرظي وقد يحتجون له بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن الذبيحين» ، ولا تقوى الحجة به لأنّ عمّ الرجل قد يجعل أباه يضرب من التجوز لا سيما في مثل هذا الفخر. ويحتجّون أيضا بقوله تعالى: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمن وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ 11: 71» ، ولو كان ذبيحا في زمن الصبا، لم تصح البشارة بابن يكون له لأنّ الذبح في الصبا ينافي وجود الولد، ولا تقوم من ذلك حجة، لأنّ البشارة انما وقعت على وفق العلم بأنه لا يذبح وإنّما كان ابتلاء لإبراهيم، والقول بإسحاق للعبّاس وعمرو وعليّ وابن مسعود وكعب الأحبار وزيد بن أسلم ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطا والزهري ومكحول والسدّي وقتادة.
وقال الطبريّ: والراجح أنه إسحاق لأن نصّ القرآن يقتضي أن الذبيح هو المبشّر به، ولم يبشّر إبراهيم بولد إلا من زوجته سارة، مع أنّ البشارة وقعت إجابة لدعائه عند مهاجره من أرض بابل. وقوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 37: 99، ثم قال عقبة: رَبِّ هَبْ لِي من الصَّالِحِينَ 37: 100، ثم قال عقبة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 37: 101. وذلك كله كان قبل هاجر، لأن هاجر إنما ملكتها سارة بمضر، وملّكتها لإبراهيم بعد ذلك بعشر سنين، فالمبشّر به قبل ذلك كله إنّما هو ابن سارة، فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة. وبشارة الملائكة لسارة بعد ذلك حين كانوا ضيوفا عند إبراهيم في مسيرهم لإهلاك سدوم، إنّما كان تجديدا لبشارة المتقدّمة انتهى.(2/42)
ثم توفيت سارة لمائة وسبع وعشرين من عمرها، وذلك في قرية جيرون [1] من بلاد بني حبيب الكنعانيين، فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها، فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته، فامتنع من قبولها إلا بالثمن، فأجاب إلى ذلك، وأعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة ودفن فيها سارة. وتزوّج إبراهيم من بعدها قطورا بنت يقطان من الكنعانيين. وقال السهيليّ قنطورا بزيادة نون بين القاف والطاء، وهذا الاسم أعجمي وطاؤه قريبة من التاء، فولدت له كما هو مذكور في التوراة ستة من الولد وهم: زمران يقشان مدان مدين أشبق شوخ. ثم وقع في التوراة ذكر أولادهم فولد يقشان سبا ودذّان، وولد دذّان أشوثم ولطوسيح ولاميم. وولد مدين عيفا وعيفين وحنوخ وأفيداع وألزاعا هذا آخر ولده من قنطورا في التوراة. وقال السهيليّ: كان لإبراهيم عليه السلام أولاد آخرون خمسة من امرأة اسمها حجين أو حجّون بنت أهيب، وهم كبسان وفرّوخ وأميم ولوطان ونافس. ولما ذكر الطبري بني قنطورا الستة وسمّى منهم يقشان، قال بعده: وسائرهم من الأخرى وهي رعوة. ثم قال: ومن يقشان جيل البربر أهـ. فولد إبراهيم على هذا ثلاثة عشر: فإسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، وستة من قنطورا كما ذكر في التوراة، والخمسة بنو حجين عند السهيليّ، أو رعوة عند الطبريّ.
وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه إسحاق أن لا يتزوّج في الكنعانيين، وأكّد العهد والوصيّة بذلك لمولاه القائم على أموره، ثم بعثه إلى حرّان مهاجرهم الأول، فخطب من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا فزوّجها أبوها واحتملها ومن معها من الجواري وجاء بها إلى إسحاق في حياة أبيه وعمره يومئذ أربعون سنة فتزوّجها، وولدت له يعقوب وعيصو توأمين وسنذكر خبرهما. ثم قبض الله نبيّه إبراهيم صلوات الله عليه بمكان هجرته من أرض كنعان وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، ودفن مع سارة في مغارة عفرون الحبيبى، وعرف بالخليل لهذا العهد، ثم جعل الله في ذريته النبوّة والكتاب آخر الدهر.
__________
[1] جيرون: بالفتح، قال ابن الفقيه: ومن بنائهم جيرون عند باب دمشق من بناء سليمان بن داود عليه السلام. ويقال إنّ الشياطين بنته، وهي سقيفة مستطيلة على عمد وسقائف وحولها مدينة تطيف بها، قال: واسم الشيطان الّذي بناه جيرون فسمّي به ... (معجم البلدان) وربما المقصود جبرون كما في التوراة.(2/43)
فإسماعيل سكن مع جرهم بمكة وتزوّج فيهم وتعلم لغتهم وتكلم بها وصار أبا لمن بعده من أجيال العرب، وبعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بمكة، وإلى أهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض. ثم قبضه الله إليه وخلّف ولده بين جرهم، وكانوا على ما ذكر في التوراة اثنتي عشر أكبرهم بنايوت وهو الّذي تقوله العرب نابت ونبت، ثم قيذار وأدبيل وبسام ومشمع وذوما ومسار وحرّاه وقيما وبطور ونافس وقدما. قال ابن إسحاق: وعاش فيما ذكر مائة وثلاثين سنة، ودفن في الحجر مع أمه هاجر، ويقال آجر. وفي التوراة أنّه قبض ابن مائة وسبع وثلاثين سنة، وأنّ شيعته سكنوا من حويلا إلى شور قبالة مصر من مدخل أثور، وسكنوا على حذر شيع اخوته. وحويلا عند أهل التوراة هي جنوب برقة والواو منها قريبة من الياء، وشور هي أرض الحجاز، وأثور بلاد الموصل والجزيرة. ثم ولي أمر البيت من بعد إسماعيل ابنه نابت، وأقام ولده بمكة مع أخوالهم جرهم حتى تشعبوا وكثر نسلهم وتعدّدت بطونهم من عدنان في عداد معدّ، ثم بطون معدّ في ربيعة ومضر وإياد وأنمار بني نزار بن معد، فضاقت بهم مكة، على ما نذكره عند ذكر قريش وأخبار ملكهم بمكة، فكانت بطون عدنان هذه كلها من ولد إسماعيل لابنه نابت، وقيل لقيذار، ولم يذكر النسّابون نسلا من ولده الآخرين، وتشعبت من إسماعيل أيضا عند جماعة من أهل العلم بالنسب بطون قحطان كلها فيكون على هذا أبا لجميع العرب بعده.
وأمّا إسحاق فأقام بمكانه من فلسطين، وعمّر وعمي بعد الكثير من عمره وبارك على ولده يعقوب فغضب بذلك أخوه عيصو، وهمّ بقتله فأشارت عليه رفقا بنت بتويل بالسير الى حرّان عند خاله لا بان بن بتويل، فأقام عنده وزوّجه بنتيه، فزوجه أولا الكبرى واسمها ليّا وأخدمها جاريتها زلفة، ثم من بعدها أختها الصغير واسمها راحيل وأخدمها جاريتها بلها. وأوّل من ولد منهنّ ليّا ولدت له روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا. وكانت راحيل لا تحبل فوهبت جاريتها بلها ليعقوب لتلد منه، فولدت له دان ثم نفتالي. ولما فعلت ذلك راحيل وهبت أختها ليا ليعقوب عليه السلام جاريتها زلفة فولدت له كادو وآشر، ثم ولدت ليّا من بعد ذلك يساخر، ثم زبولون، فكمل له بذلك عشرة من الولد. ثم دعت راحيل الله عزّ وجل أن يهب لها ولدا من يعقوب فولدت يوسف، وقد كملت له بحرّان عشرون سنة، ثم أمر بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها. فارتحل وخرج لابان في اتباعه وعزم له في المقام(2/44)
عنده، فأبى فودّعه وانصرف إلى حران وسار يعقوب لوجهه حتى إذا قرب من بلد عيصو، وهو جبل يسعين بأرض الكرك والشوبك لهذا العهد، اعترضه عيصوا لتلقّيه وكرامته، فأهدى إليه يعقوب من ماشيته هديّة احتلف فيها وتودّد إليه بالخضوع والتضرّع، فذهب ما كان عند عيصو وأوحى الله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل، ومرّ على أورشاليم وهي بيت المقدس فاشترى لك مزرعة ضرب فيها فسطاطه وأمر ببناء مرجح سماه إيل في مكان الصخرة. ثم حملت راحيل هنالك فولدت له بنيامين، وماتت من نفاسة ودفنها في بيت لحم. ثم جاء إلى أبيه إسحاق بقرية جيرون من أرض كنعان فأقام عنده.
ومات إسحاق عليه السلام لمائة وثمانين سنة من عمره ودفن مع أبيه في المغارة، وأقام يعقوب بمكانه وولده عنده، وشب يوسف عليه السلام على غير حالهم من كرامة الله به، وقصّ عليهم رؤياه التي بشّر الله فيها بأمره فغصوا به وخرجوا معه الى الصيد، فألقوه في الجبّ واستخرجه السيّارة الذين مرّوا به بعد ذلك وباعوه للعرب بعشرين مثقالا، ويقال إنّ الّذي تولّى بيعه هو مالك بن دعر بن واين بن عيفا بن مدين.
واشتراه من العرب عزيز مصر وهو وزيرها أو صاحب شرطتها. قال ابن إسحاق واسمه أطفير بن رجيب وقيل قوطفير. وكان ملكها يومئذ من العماليق، والريّان بن الوليد بن دومغ، وربي يوسف عليه السلام في بيت العزيز فكان من شأنه مع امرأته زليخا، ومكثه في السجن، وتعبيره الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك ما هو مذكور في الكتاب الكريم. ثم استعمله ملك مصر عند ما خشي السّنة [1] والغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته يقدر جمعها وتصريف الأرزاق منها وأطلق يده بذلك في جميع أعماله، وألبسه خاتمه وحمله على مركبه، ويوسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة.
فقيل عزل أطفير العزيز وولاه، وقيل بل مات أطفير فتزوّج زليخا وتولّى عمله وكان ذلك سببا لانتظام شمله بأبيه واخوته لما أصابتهم السنة بأرض كنعان وجاء بعضهم للميرة، وكال لهم يوسف عليه السلام، وردّ عليهم بضاعتهم وطالبهم بحضور أخيهم فكان ذلك كله سببا لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أن كبر وعمي.
قال ابن إسحاق: كان ذلك لعشرين سنة من مغيبه، ولما وصل يعقوب إلى بلبيس قريبا من مصر، خرج يوسف ليلقاه، ويقال خرج فرعون معه، وأطلق لهم أرض
__________
[1] سنت الأرض: صارت سنينا أي اكل نباتها (قاموس) .(2/45)
بلبيس يسكنون بها وينتفعون. وكان وصول يعقوب صلوات الله عليه في سبعين راكبا من بينه، ومعه أيوب [1] النبيّ من بني عيصو، وهو أيوب من برحما بن زبرج بن رعويل بن عيصو، واستقرّوا جميعا بمصر ثم قبض يعقوب صلوات الله عليه لسبع عشرة سنة من مقدمه ولمائة وأربعين من عمره، وحمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض فلسطين، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون. واعترضهم بعض الكنعانيّين في طريقهم، فأوقعوا بهم، وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحاق عليهما السلام فدفنوه في المغارة عندهما، وانتقلوا الى مصر، وأقام يوسف صلوات الله عليه بعد موت أبيه ومعه إخوته إلى أن أدركته الوفاة فقبض لمائة وعشرين سنة من عمره، وأدرج في تابوت وختم عليه، ودفن في بعض مجاري النيل. وكان يوسف أوصى أن يجمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض اليفاع، فيدفن هنالك ولم تزل وصيته محفوظة عندهم إلى أن حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني إسرائيل من مصر.
ولما قبض يوسف صلوات الله عليه، وبقي من بقي من الأسباط اخوته وبنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر، تشعّب نسلهم، وتعدّدوا إلى أن كاثروا أهل الدولة وارتابوا بهم فاستعبدوهم. قال المسعودي: دخل يعقوب إلى مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف في سبعين راكبا، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى صلوات الله عليه نحوا من مائتين وعشر سنين، فتداولهم ملوك القبط والعمالقة بمصر، ثم أحصاهم موسى في التيه، وعدّ من يطيق حمل السلاح من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف ويزيدون. وقد ذكرنا ما في هذا العدد من الوهم والغلوّ في مقدّمة الكتاب، فلا نطوّل به. ووقوعه في نصّ التوراة لا يقضي بتحقيق هذا العدد لأنّ المقام للمبالغة، فلا تكون اعداده نصوصا. وكان ليوسف صلوات الله عليه من الولد كثير، إلّا أنّ المعروف منهم اثنان أفراثيم ومنشى [2] وهما معدودان في الأسباط، لأنّ يعقوب صلوات الله عليه أدركهما وبارك عليهما وجعلهما من جملة ولده، وقد يزعم بعض من لا تحقيق عنده أنّ يوسف صلوات الله عليه استقلّ آخر بملك مصر. وينسب لبعض ضعفة المفسّرين ومعتمدهم في ذلك قول
__________
[1] هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص، كذا في كتب التفسير، قاله نصر.
[2] ورد ذكره في التوراة: منس.(2/46)
يوسف عليه السلام في دعائه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي من الْمُلْكِ 12: 101. ولا دليل لهم في ذلك لأنّ كل من ملك شيئا ولو في خاصة نفسه فاستيلاؤه يسمى ملكا حتى البيت والفرس والخادم، فكيف من ملك التصرّف ولو كان في شعب واحد منها فهو ملك وقد كان العرب يسمّون أهل القرى والمدائن ملوكا، مثل هجر ومعان ودومة الجندل، فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد وفي تلك الدولة، وقد كان في الخلافة العباسيّة تسمّى ولاة الأطراف وعمالها ملوكا، فلا استدلال لهم في هذه الصيغة. وأخرى أيضا فيما يستدلون به من قوله تعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الْأَرْضِ 12: 56» أن لا يكون لهم فيه مستند لأنّ التمكين يكون بغير الملك. ونص القرآن إنّما هو بولايته على أمور الزرع في جمعه وتفريقه كما قال تعالى: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ 12: 55» . ومساق القصة كلها أنه مرءوس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها لا ما يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه، فلا نعدل عن النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف.
وأيضا فالقصّة في التوراة قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا ولا صار اليه ملك.
وأيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة والقطامة له يدفع أن يكون حصل له ملك، لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أن يأتي إليه إخوته منفردا لا يملك إلا نفسه ولا يتأتى الملك في هذا الحال وقد تقدّم ذلك في مقدمة الكتاب والله أعلم.
وأما عيصو بن إسحاق فسكن جبال بني يسعين من بني جوي، إحدى شعوب كنعان، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك، وكان من شعوبهم هناك على ما في التوراة بنو لوطان وبنو شوبال وبنو صمقون وبنو عنا وبنو ديشوق وبنو يصد وبنو ديسان سبعة شعوب. ومن بني ديشون الأشبان، فسكن عيصو بينهم بتلك البلاد، وتزوّج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى، وهي أهليقاما، وتزوّج أيضا من بنات حي من الكنعانيين عاذا بنت أيلول، وباسمت بنت إسماعيل عليه السلام. وكان له من الولد خمسة مذكورون في التوراة وأكبرهم أليفاز، بالفاء المفخمة وإشباع حركتها وزاي معجمة من بعدها، من عاذا بنت أيلول، ثم رعويل من باسمت بنت إسماعيل، ثم يعوض ويعلام وقورح من أهليقاما بنت عنا.
وولد أليفاز ستة من الولد ثيمال وأومار وصفو وكعتام وقتال وعمالق السادس، لسرّية اسمها تمتاع وهي شقيقة لوطان بن يسعين. وولد رعويل بن عيصو أربعة من الولد، ناحة وزيدم وشتما ومرّا. هكذا وقع ذكر ولد العيص وولدهم في التوراة، وفيها أنّ(2/47)
العيص اسمه أروم [1] ، فلذلك قيل لهم بنو أروم، ولبعض الإسرائيليين أنّ أروم اسم لذلك الجبل ومعناه بالعبرانية الجبل الأحمر الّذي لا نبات به. وقد يقع لبعض المؤرّخين أن القياصرة ملوك الروم من ولد عيصو، وقال الطبريّ: أنّ الروم وفارس من ولد رعويل ابن باسمت. وليس ذلك كله بصحيح ورأيته في كتاب يوسف بن كرمون مؤرخ العمارة الثانية ببيت المقدس قبيل الجلوة الكبرى، وكان من كهنونية اليهود وهو قريب من الغلط.
قال ابن حزم في كتاب الجمهرة: وكأن لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب اسمه عيصاب أو عيصو، كان بنوه يسكنون جبال الشراة بين الشام والحجاز، وقد بادوا جملة، إلا أنّ قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهذا خطأ. وإنما وقع لهم هذا الغلط لأن موضعهم كان يقال له أروم فظنوا أنّ الروم من ذلك الموضع، وليس كذلك لأنّ الروم إنما نسبوا الى رومس باني رومة، فإن ظنّ ظان أنّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للحرّ بن قيس هل لك في بلاد بني الأصفر العام، وذلك في غزوة تبوك، يدل على أنّ الروم من بني الأصفر وهو عيصاب المذكور فليس كما ظنّ. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حق، وإنما عنى عليه السلام بني عيصاب على الحقيقة لا الروم، لأن مغزاه عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة كان إلى ناحية الشراة مسكن القوم المذكورين أهـ كلام ابن حزم.
وزعم أهروشيوش مؤرّخ الروم أنّ أم الفينان وهاءوا وعالوم وقدوح الأربعة من بنات كاتيم بن ياوان ابن يافث، والأوّل أصح لأنه نص التوراة. ثم كثر نسل بني عيصو بأرض يسعين وغلبوا الجويّين على تلك البلاد وغلبوا بني مدين أيضا على بلادهم إلى أيلة. وتداول فيهم ملوك وعظماء كان منهم فالغ بن ساعور، وبعده يودب بن زيدح، ثم كان منهم هداد بن مدّاد الّذي أخرج بني مدين عن مواطنهم، ثم كان فيهم بعده ملوك إلى أن زحف يوشع الى الشام وفتح أريحاء وما بعدها وانتزع الملك من جميع الأمم الذين كانوا هنالك، ثم استلحمهم بخت نصّر عند ما ملك أرض القدس، ولحق بعضهم بأرض يونان، وبعضهم بإفريقية. وأما عمالق بن أليفاز فمن عقبه عند الإسرائيليين عمالقة الشام، وفي قول فراعنة مصر من القبط ونسّاب العرب، يأبون
__________
[1] وفي نسخة اخرى: أدوم.(2/48)
من ذلك ونسبوهم إلى عملاق بن لاوذ كما مرّ. ثم بنو يروم وكنعان ولم يبق منهم عين تطرف والله الباقي بعد فناء خلقه.
وأمّا مدين بن إبراهيم فتزوّج بابنة لوط وجعل الله في نسلها البركة، وكان له من الولد خمسة عيّفا وعيفين وخنوخ وأنيداغ وألزاعا. وقد تقدّم ذكرهم في ولد إبراهيم من قنطورا، فكان منهم مدين أمّة كبيرة ذات بطون وشعوب، وكانوا من أكبر قبائل الشام وأكثرهم عددا، وكانت مواطنهم تجاور أرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط، وكان لهم تغلب بتلك الأرض، فعتوا وبغوا وعبدوا الآلهة، وكانوا يقطعون السبل ويبخسون في المكيال. وبعث الله فيهم شعيبا نبيا منهم، وهو ابن نويل بن رعويل بن عيا بن مدين. قال المسعوديّ: مدين هؤلاء من ولد المحضر بن جندل بن يعصب بن مدين، وأنّ شعيبا أخوهم في النسب، وكانوا ملوكا عدة يسمون بكلمات أبجد إلى آخرها وفيه نظر. وقال ابن حبيب في كتاب البدء: هو شعيب بن نويب بن أحزم بن مدين. وقال السهيليّ: شعيب بن عيفا، ويقال ابن صيفون، وشعيب هذا هو شعيب موسى الّذي هاجر إليه من مصر أيام القبط واستأجره على إنكاح ابنته إياه على أنّ يخدمه ثماني سنين، وأخذ عنه آداب الكتاب والنبوّة حسبما يأتي عند ذكر موسى صلوات الله عليهما وأخبار بني إسرائيل.
وقال الصيمري الّذي استأجر موسى وزوّجه: هو بثر بن رعويل، ووقع في التوراة أنّ اسمه يبثر وأنّ رعويل أباه أو عمّه هو الّذي تولى عقد النكاح. وكان لمدين هؤلاء مع بني إسرائيل حروب بالشام، ثم تغلب عليهم بنو إسرائيل وانقرضوا جميعا.
وأما لوط بن هاران أخي إبراهيم عليهما السلام فقد تقدّم من خبره مع قومه ما ذكرناه هنالك، ولما نجا بعد هلاكهم لحق بأرض فلسطين، فكان بها مع إبراهيم إلى أن قبضة الله، وكان له من الولد على ما ذكر في التوراة عمّون بتشديد الميم واشباع حركتها بالضمّ ونون بعدها، وموآيي بإشباع ضمة الميم واشباع فتحة الهمزة بعدها وياء تحتية وبعدها ياء ساكنة هوائية، وجعل الله في نسلهما البركة، حتى كانوا من أكثر قبائل الشام، وكانت مساكنهم بأرض البقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما، وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب نذكرها في أخبارهم، وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي، وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه وأنّ دعاءه صرف إلى(2/49)
الكنعانيّين، مذكورة في التوراة ونوردها في موضعها.
وأمّا ناحور أخو إبراهيم عليه السلام فقد تقدّم ذكره أنه هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل الى حرّان، ثم إلى الأرض المقدّسة، فكان معه هنالك، وكانت زوجته ملكا بنت أخيه هاران، وملكا هذه هي أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام وأم إسحاق، وكان لناحور من ملكا على ما وقع في نص التوراة ثمانية من الولد عوص وبوص وقمويل وهو أبو الأرمن، وكاس ومنه الكلدانيّون الذين كان منه بخت نصّر وملوك بابل، وحذو وبلداس وبلداف ويثويل. وكان له من سرّيّة اسمها أدوما أربعة من الولد وهم طالج وكاحم وتاخش وماعخا. هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم كلهم مذكورون في التوراة وهم اثنا عشر ولدا، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا، ولم يبق منهم إلّا الأرمن من قمويل بن ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر وهم لهذا العهد على دين النصرانية ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطنيّة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من العرب ومن عاصرهم من الأمم، ولنرجع إلى أهل الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة، والله سبحانه وتعالى الكفيل بالإعانة.(2/50)
الطبقة الثانية من العرب وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم
وإنّما سمّي أهل هذه الطبقة بهذا الاسم لأنّ السمات والشعائر العربية لما انتقلت إليهم ممن قبلهم، اعتبرت فيها الصيرورة، بمعنى أنهم صاروا إلى حال لم يكن عليها أهل نسبهم، وهي اللغة العربية التي تكلموا بها، فهو من استفعل بمعنى الصيرورة من قولهم: استنوق الجمل، واستحجر الطين. وأهل الطبقة الأولى لما كانوا أقدم الأمم فيما يعلم جيلا، كانت اللغة العربية لهم بالأصالة وقيل العاربة.
واعلم أنّ أهل هذا الجيل من العرب يعرفون باليمنية والسبائيّة، وقد تقدم أنّ نسّابة بني إسرائيل يزعمون أنّ أباهم سبا من ولد كوش بن كنعان، ونسّابة العرب يأبون ذلك ويدفعونه، والصحيح الّذي عليه كافتهم أنهم من قحطان، وأنّ سبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقال ابن إسحاق يعرب بن يشجب فقدم وأخر. وقال ابن ماكولا على ما نقل عنه السهيليّ اسم قحطان مهزم. وبين النسّابة خلاف في نسب قحطان فقيل هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام أخو فالغ، ويقطن ولم يقع له ذكر في التوراة، وإنّما ذكر فالغ ويقطن. وقيل هو معرّب يقطن لأنّه اسم أعجمي والعرب تتصرّف في الأسماء الأعجمية بتبديل حروفها وتغييرها وتقديم بعضها على بعض. وقيل إنّ قحطان بن يمن بن قيدار، وقيل إنّ قحطان من ولد إسماعيل.
وأصح ما قيل في هذا إنّه قحطان بن يمن بن قيدر، ويقال الهميسع بن يمن بن قيدار، وأنّ يمن هذا سميت به اليمن. وقال ابن هشام أن يعرب ابن قحطان كان يسمى يمنا وبه سميت اليمن. فعلى القول بأن قحطان من ولد إسماعيل تكون العرب كلهم من ولده لأن عدنان وقحطان يستوعبان شعوب العرب كلها.
وقد احتج لذلك من ذهب إليه بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرماة الأنصار:
«ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا» . والأنصار من ولد سبا وهو ابن قحطان، وقيل إنّما قال ذلك لقوم من أسلم من أقصى إخوة خزاعة بن حارثة بناء على أنّ نسبهم في سبا. وقال السهيليّ ولا حجة في شيء منهما لأنه إذا كانت العرب كلها من ولد(2/52)
إسماعيل، فهذا من السهيليّ جنوح إلى القول بمفهوم اللقب وهو ضعيف. ثم قال:
والصحيح أنّ هذا القول إنّما كان منه صلى الله عليه وسلم لأسلم كما قدّمناه وإنّما أراد أنّ خزاعة من معدّ بن إلياس بن مضر وليسوا من سبا، ولا من قحطان كما هو الصحيح في نسبهم على ما يأتي. واحتجوا أيضا لذلك بأنّ قحطان لم يقع له ذكر في التوراة كما تقدم، فدلّ على أنه ليس من ولد عابر فترجّح القول بأنّه من إسماعيل، وهذا مردود بما تقدم أنّ قحطان معرب يقطن وهو الصحيح، وليس بين الناس خلاف في أنّ قحطان أبو اليمن كلهم. ويقال إنه أوّل من تلكم بالعربية ومعناه من أهل هذا الجيل الذين هم العرب المستعربة من اليمنية، وإلّا فقد كان للعرب جيل آخر وهم العرب العاربة، ومنهم تعلم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة ولا يمكن أن يتكلم بها من ذات نفسه. وكان بنو قحطان هؤلاء معاصرين لإخوانهم من العرب العاربة ومظاهرين لهم على أمورهم، ولم يزالوا مجتمعين في مجالات البادية مبعدين عن رتبة الملك وترفه الّذي كان لأولئك فأصبحوا بمنجاة من الهرم الّذي يسوق إليه الترف والنضارة، فتشعبت في أرض الفضا فصائلهم، وتعدّد في جوّ القفر أفخاذهم وعشائرهم ونما عددهم، وكثر إخوانهم من العمالقة في آخر ذلك الجيل، وزاحموهم بمناكبهم، واستجدوا خلق الدولة بما استأنفوه من عزهم.
وكانت الدولة لبني قحطان متصلة فيهم، وكان يعرب بن قحطان من أعاظم ملوك العرب. يقال إنه أول من حيّاه قومه بتحية الملك. قال ابن سعيد: وهو الّذي ملك بلاد اليمن وغلب عليها قوم عاد، وغلب العمالقة على الحجاز، وولى إخوته على جميع أعمالهم، فولّى جرهما على الحجاز، وعاد بن قحطان على الشحر، وحضرموت بن قحطان على جبال الشحر، وعمان بن قحطان على بلاد عمان هكذا ذكر البيهقي.
وقال ابن حزم: وعدّ لقحطان عشرة من الولد وأنه لم يعقب منهم أحد، ثم ذكر ابنين منهم دخلوا في حمير، ثم ذكر الحرث بن قحطان، وقال فولد فيما يقال له لا سور، وهم رهط حنظلة بن صفوان نبي الرسّ، والرسّ ما بين نجران إلى اليمن ومن حضرموت إلى اليمامة، ثم ذكر يعرب بن قحطان وقال فيهم الحميريّة والعدّاد انتهى. قال ابن سعيد وملك بعد يعرب ابنه يشجب وقيل اسمه يمن واستبدّ أعمامه بما في أيديهم من الممالك، وملك بعده ابنه عبد شمس وقيل عابر ويسمى سبا لأنه قيل إنه أوّل من سنّ السبي، وبنى مدينة سبا وسد مأرب. وقال صاحب التيجان إنه غزا(2/53)
الأقطار وبنى مدينة عين شمس باقليم مصر وولّى عليها ابنه بابليون. وكان لسبإ من الولد كثير وأشهرهم حمير وكهلان اللذان منهما الامتان العظيمتان من اليمنيّة أهل الكثرة والملك والعزّ وملك حمير منهم أعظمه. وكان منهم التبابعة كما يذكر في أخبارهم، وعدّ ابن حزم في ولده زيدان وابنه نجران بن زيدان وبه سميت البلد.
ولما هلك سبا قام بالملك بعده ابنه حمير ويعرف بالعرنجج، وقيل هو أول من تتوج بالذهب ويقال إنه ملك خمسين سنة، وكان له من الولد ستة فيما قال السهيليّ:
واثل ومالك وزيد وعامر وعوف وسعد. وقال أبو محمد بن حزم الهميسع: ومالك وزيد وواثل ومشروح ومعديكرب وأوس ومرّة. وعاش فيما قال السهيليّ ثلاثمائة سنة، وملك بعده ابنه واثل وتغلب أخوه مالك بن حمير على عمان، فكانت بينهما حروب. وقال ابن سعيد: إنّ الّذي ملك بعد حمير أخوه كهلان، ومن بعده واثل بن حمير، ثم من بعد واثل السكسك بن واثل، وكان مالك بن حمير قد هلك وغلب على عمان بعده ابنه قضاعة فحاربه السكسك وأخرجه عنها، وملك بعده ابنه يعفر بن السكسك، وخرجت عليه الخوارج، وحاربه مالك بن الحاف بن قضاعة، وطالت الفتنة بينهما، وهلك يعفر وخلف ابنه النعمان حملا ويعرف بالمعافر، واستبد عليه من بني حمير ماران بن عوف بن حمير ويعرف بذي رياش وكان صاحب البحرين، فنزل نجران واشتغل بحرب مالك بن الحاف بن قضاعة.
ولما كبر النعمان حبس ذا رياش واستبدّ بأمره وطال عمره وملك بعده ابنه أسجم بن المعافر، فاضطربت أحوال حمير، وصار ملكهم طوائف إلى أن استقر في الرائش وبنيه التبابعة كما نذكره.
ويقال انّ بني كهلان تداولوا الملك مع حمير هؤلاء، وملك منهم جبّار بن غالب بن كهلان، وملك أيضا من شعوب قحطان نجران بن زيد بن يعرب بن قحطان، وملك من حمير هؤلاء ثم من بني الهميسع بن حمير أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع، واليه نسب عرب أبين من بلاد اليمن، وملك منهم أيضا عبد شمس بن واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير، ثم ملك من أعقابه شداد بن الملطاط بن عمرو بن ذي هرم بن الصوّان بن عبد شمس، وبعده أخوه لقمان، ثم أخوهما ذو شدد وهدّاد ومداثر، وبعده ابنه الصعب ويقال انه ذو القرنين، وبعده أخوه الحرث بن ذي شدد، وهو الرائش جدّ(2/54)
الملوك التبابعة. وملك في حمير أيضا من بني الهميسع من بني عبد شمس هؤلاء حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس.
قال أبو المنذر هشام بن الكلبي في كتاب الأنساب ونقلته من أصل عتيق بخط القاضي المحدّث أبي القاسم بن عبد الرحمن بن حبيش قال: ذكر الكلبي عن رجل من حمير من ذي الكلاع قال: أقبل قيس يحرق موضعا باليمن، فأبدى عن أزج، فدخل فيه، فوجد سريرا عليه رجل ميت وعليه جباب وشي مذهّبة، في رأسه تاج، وبين يديه مجحن من ذهب، وفي رأسه ياقوتة حمراء، وإذا لوح مكتوب فيه: بسم الله ربّ حمير أنا حسان بن عمرو القيل مات في زمان هيد وماهيد هلك فيها اثنا عشر ألف قبيل فكنت آخرهم قبيلا فابتنيت ذا شعبين ليجرني من الموت فاخفرني أهـ كلامه. وقال الطبريّ: وقيل أن أوّل من ملك اليمن من حمير شمر بن الأملوك كان لعهد موسى عليه السلام وبني طفّار وأخرج منها العمالقة، ويقال كان من عمال الفرس على اليمن. انتهى الكلام في أخبار حمير الأوّل والله سبحانه وتعالى وليّ العون.(2/55)
الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم
هؤلاء الملوك من ولد عبد شمس بن واثل بن الغوث باتفاق من النسّابين، وقد مرّ نسبه إلى حمير، وكانت مدائن ملكهم صنعاء، ومأرب على ثلاث مراحل منها، وكان بها السدّ، ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم سدّا ما بين جبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الّذي يسمى العرم والسكر وهو جمع لا واحد له من لفظه قال الجعديّ:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
أي السدّ ويقال انّ الّذي بنى السدّ هو حمير أبو القبائل اليمنية كلها قال الأعشى:
ففي ذلك للمؤتسى اسوة ... مأرب غطى عليه العرم
رخام بناه لهم حمير ... إذا جاءه من رامه لم يرم
وقيل بناه لقمان الأكبر ابن عاد كما قاله المسعودي، وقال: جعله فرسخا في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعبا. وقيل وهو الأليق والأصوب أنه من بناء سبا بن يشجب، وأنّه ساق إليه سبعين واديا، ومات قبل إتمامه، فأتمّه ملوك حمير من بعده. وإنّما رجّحناه لأنّ المباني العظيمة، والهياكل الشامخة، لا يستقل بها الواحد كما قدّمنا في الكتاب الأوّل، فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن.
ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت، وأترف وأبذخ وأعلى يدا وأظهر، فلمّا طغوا وأعرضوا سلّط الله عليهم الخلد، وهو الجرذ فنقبه من أسفله فأجحفهم السيل، وأغرق جناتهم، وخربت أرضهم، وتمزّق ملكهم، وصاروا أحاديث.
وكان هؤلاء التبابعة ملوكا عدّة في عصور متعاقبة، وأحقاب متطاولة، لم يضبطهم الحصر، ولا تقيدت منهم الشوارد. وربّما كانوا يتجاوزون ملك اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق والهند والمغرب تارة، ويقتصرون على يمنهم أخرى، فاختلفت أحوالهم واتفقت أسماء كثيرة من ملوكهم، ووقع اللبس في نقل أيامهم ودولهم، فلنأت بما صحّ منها متحرّيا جهد الإستطاعة عن طموس من الفكر، واقتفاء التقاييد المرجوع(2/57)
اليها والأصول المعتمد على نقلها، وعدم الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحد والله المستعان.
قال السهيليّ: معنى تبّع الملك المتبع. وقال صاحب المحكم: التبابعة ملوك اليمن وأحدهم تبّع لأنّهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته، وزادوا الباء في التبابعة لارادة النسب. قال الزمخشريّ: قيل لملوك اليمن التبابعة لأنّهم يتبعون، كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون. قال المسعودي: ولم يكونوا يسمون الملك منهم تبّعا حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس، ومن لم يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكا ولا يقال له تبّع.
وأول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرّخين، الحرث الرائش، وإنّما سمّي الرائش لأنه راش الناس بالعطاء أو اختلف الناس في نسبه بعد اتفاقهم على أنه من ولد واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير فقال ابن إسحاق وأبو المنذر بن الكلبي: انّ قيسا بن معاوية بن جشم. فابن إسحاق يقول في نسبه إلى سبا الحرث بن عديّ بن صيفي، وابن الكلبيّ يقول الحرث بن قيس بن صيفي. وقال السهيليّ هو الحرث بن همال بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن واثل وجشم جدّ سبا هو بن عبد شمس، هذا عند المسعودي. وعند بعضهم أنه أخوه وأنهما معا ابنا واثل. وذكر المسعودي عن عبيد بن شرية الجرهميّ، وقد سأله معاوية عن ملوك اليمن في خبر طويل ونسب الحرث منهم، فقال: هو الحرث بن شدد بن الملطاط بن عمرو بن أمّا الطبري فاختلف نسبه في نسب الحرث، فمرّة قال: وبيت ملك التبابعة في سبا الأصغر ونسبه كما مرّ.
وقال في موضع آخر والحرث بن ذي شدد هو الرائش جدّ الملوك التبابعة، فجعله إلى شدد ولم ينسبه إلى قيس ولا عديّ من ولد سبا. وكذلك اضطرب أبو محمد بن حزم في نسبه في الجمهرة مرّة إلى الملطاط ومرّة إلى سبا الأصغر، والظاهر أنه تبع في ذلك الطبريّ والله أعلم.
وملك الحرث الرائش فيما قالوا مائة وخمسا وعشرين سنة، وكان يسمّى تبعا، وكان مؤمنا فيما قال السهيليّ. ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار مائة وثمانين سنة. قال المسعوديّ، وقال ابن هشام: أبرهة ذو المنار هو ابن الصعب بن ذي مداثر بن الملطاط، وسمّي ذا المنار لأنه رفع المنار ليهتدي به. ثم ملك من بعده أفريقش بن(2/58)
أبرهة مائة وستين سنة. وقال ابن حزم هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحرث الرائش، وهو الّذي ذهب بقبائل العرب إلى افريقية، وبه سميت. وساق البربر إليها من أرض كنعان، مرّ بها عند ما غلبهم يوشع وقتلهم، فاحتمل الفل منهم، وساقهم إلى إفريقية، فأنزلهم بها، وقتل ملكها جرجير. ويقال إنّه الّذي سمّى البرابرة بهذا الاسم لأنه لما افتتح المغرب، وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم فسموا البرابرة.
والبربرة في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة، ومنه بربرة الأسد. ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى الآن بها، وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعوديّ وابن الكلبي والسهيليّ وجميع النسّابين.
ثم ملك من بعد أفريقش أخوه العبد بن أبرهة، وهو ذو الأذعار عند المسعودي قال: سمّي بذلك لكثرة ذعر الناس من جوره. وملك خمسا وعشرين سنة، وكان على عهد سليمان بن داود وقبله بقليل، وغزا ديار المغرب، وسار إليه كيقاوس بن كنعان ملك فارس فبارزه وانهزم كيقاوس وأسره ذو الأذعار، حتى استنقذه بعد حين من يده وزيره رستم زحف إليه بجموع فارس إلى اليمن وحارب ذا الأذعار فغلبه واستخلص كيقاوس من أسره كما نذكره في أخبار ملوك فارس. وقال الطبري إنّ ذا الأذعار اسمه عمرو بن ابرهة ذي المنار بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر انتهى. وكان مهلك ذي الأذعار فيما ذكر ابن هشام مسموما على يد الملكة بلقيس.
وملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار وهو ذو الصرح، وملك ستا أو عشرا فيما قال المسعودي. وملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين. وقال الطبري: إنّ اسم بلقيس يلقمة بنت اليشرح بن الحرث بن قيس انتهى. ثم غلبهم سليمان عليه السلام على اليمن كما وقع في القرآن فيقال تزوجها، ويقال بل عزلها في التأيم، فتزوجت سدد بن زرعة بن سبا، وأقاموا في ملك سليمان وابنه أربعا وعشرين سنة. ثم قام بملكهم ناشر بن عمرو ذي الأذعار، ويعرف بناشر النعم، لفظين مركبين جعلا اسما واحدا كذا ضبطه الجرجاني. وقال السهيليّ ناشر بن عمرو، ثم قال ويقال ناشر النعم. وفي كتاب المسعودي نافس بن عمرو، ولعله تصحيف ونسبه إلى عمرو ذي الأذعار وليس يتحقق في هذه الأنساب كلها أنها للصلب فإنّ(2/59)
الآماد، طويلة والأحقاب بعيدة، وقد يكون بين اثنين منهما عدد من الآباء، وقد يكون ملصقا به. وقال هشام بن الكلبي انّ ملك اليمن صار بعد بلقيس إلى ناشر بن عمرو بن يعفر الّذي يقال له ياسر أنعم، لانعامه عليهم بما جمع من أمرهم وقوي من ملكهم. وزعم أهل اليمن أنه سار غازيا إلى المغرب، فبلغ وادي الرمل ولم يبلغه أحد ولم يجد فيه مجازا لكثرة الرمل، وعبر بعض أصحابه، فلم يرجعوا فأمر بصنم من نحاس نصب على شفير الوادي، وكتب في صدره بالخط المسند هذا الصنم لياسر أنعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب انتهى.
ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش، سمي بذلك لارتعاش كان به. ويقال انه وطئ أرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخرّب مدينة الصغد وراء جيحون، فقالت العجم «شمر كنداي» شمر خرّب. وبنى مدينة هنالك فسميت باسمه هذا، وعربته العرب فصار سمرقند. ويقال انه الّذي قاتل قباذ ملك الفرس وأسره، وأنه الّذي حير الحيرة. وكان ملكة مائة وستين سنة، وذكر بعض الأخباريّين أنه ملك بلاد الروم، وأنه الّذي استعمل عليهم ماهان قيصر فهلك، وملك بعده ابنه دقيوس. وقال السهيليّ في شمر مرعش الّذي سميت به سمرقند انه شمر بن مالك ومالك هو الأملوك الّذي قيل فيه:
فنقب عن الأملوك واهتف بذكره ... وعش دار عز لا يغالبه الدهر
وهذا غلط من السهيليّ فإنّهم مجمعون على أنّ الأملوك كان لعهد موسى صلوات الله عليه وشمر من أعقاب ذي الأذعار الّذي كان على عهد سليمان، فلا يصح ذلك إلا أن يكون شمر ابرهة، ويكون أوّل دولة التبابعة.
ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش تبّع الأقرن واسمه زيد. (قال السهيليّ) وهو ابن شمر مرعش وقال الطبريّ انه ابن عمرو ذي الأذعار. وقال السهيليّ إنما سمّي الأقرن لشامة كانت في قرنه، وملك ثلاثا وخمسين سنة. وقال المسعودي ثلاثا وستين. ثم ملك من بعده ابنه ملكيكرب وكان مضعّفا ولم يغزقط إلى أن مات. وملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب، ويقال هو تبّع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وعند الطبريّ أنّ الّذي بعد ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار تبع الأقرن أخوه، ثم بعد تبع الأقرن شمر مرعش بن ياسر ينعم، ثم من بعده تبع الأصغر وهو تبان أسعد أبو كرب هذا هو تبع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وقال الطبريّ: ويقال له الرائد(2/60)
وكان على عهد يستاسب وحافده أردشير يمن ابن ابنه أسفنديار من ملوك الفرس وأنه شخص من اليمن غازيا ومرّ بالحيرة فتحيّر عسكره هنالك فسمّيت الحيرة. وخلف قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة فأقاموا هنالك وبنو الإطام، واجتمع إليهم ناس من طيرة وكلب والسكون وأياد والحرث بن كعب. ثم توجه إلى الأنبار ثم الموصل ثم أذربيجان، ولقي الترك فهزمهم وقتل وسبى، ثم رجع إلى اليمن، وهابته الملوك وهادنه ملوك الهند. ثم رجع لغزو الترك، وبعث ابنه حسّان إلى الصغد، وابنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه شمر ذي الجناح إلى الفرس. وان شمر لقي كيقباذ ملك الفرس فهزمه، وملك سمرقند وقتله، وجاز إلى الصين فوجد أخاه حسّان قد سبقه إليها، فأثخنا في القتل والسبي، وانصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما. وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينيّة فتلقوه بالجزية، والإتاوة فسار إلى رومة، وحصرها ووقع الطاعون في عسكره، فاستضعفهم الروم ووثبوا عليهم فقتلوهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم رجع إلى اليمن، ويقال أنه ترك ببلاد الصين قوما من حمير وأنهم بها لهذا العهد، وأنه ترك ضعفاء الناس بظاهر الكوفة فتحيروا لك وأقاموا معهم من كل قبائل العرب.
وقال ابن إسحاق إنّ الّذي سار إلى المشرق من التبابعة تبّع الآخر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو ذي الأذعار، وتبان أسعد هو حسّان تبّع وهو فيما يقال أوّل من كسا الكعبة، وذكر ابن إسحاق الملأ والوصائل، وأوصى ولاته من جرهم بتطهيرها وجعل لها بابا ومفتاحا، وذكر ابن إسحاق أنه أخذ بدين اليهودية، وذكر في سبب تهوّده أنه لما غزا إلى المشرق مرّ بالمدينة يثرب فملكها، وخلف ابنه فيهم، فعدوا عليه وقتلوه غيلة ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلّة من بني النجّار. فلما أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة مجمعا على خرابها فجمع هذا الحيّ من أبناء قيلة لقتاله فقاتلهم، وبينما هم على ذلك جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة، وقالا له: لا تفعل فإنك لن تقدر وأنّها مهاجر نبيّ قرشي يخرج آخر الزمان فتكون قرارا له. وانه أعجب بهما واتبعهما على دينهما، ثم مضى لوجهه.
ولقيه دون مكة نفر من هذيل، وأغروه بمال الكعبة وما فيها من الجواهر والكنوز، فنهاه الحبران عن ذلك وقالا له إنما أراد هؤلاء هلاكك. فقتل النفر من الهذليّين وقدم مكة فأمره الحبران بالطواف بها والخضوع، ثم كساها كما تقدّم، وأمر ولاتها من(2/61)
جرهم بتطهيرها من الدماء والحيض وسائر النجاسات، وجعل لها بابا ومفتاحا، ثم سار إلى اليمن. وقد ذكر قومه ما أخذ به من دين اليهودية، وكانوا يعبدون الأوثان، فتعرضوا لمنعه ثم حاكموه إلى النار التي كانوا يحاكمون إليها، فتأكل الظالم وتدع المظلوم، وجاءوا بأوثانهم. وخرج الحبران متقلدان المصاحف، ودخل الحميريّون فأكلتهم وأوثانهم، وخرج الحبران منها ترشح وجوههم وجباههم عرقا، فآمنت حمير عند ذلك، وأجمعوا على اتباع اليهودية. ونقل السهيليّ عن ابن قتيبة في هذه الحكاية انّ غزاة تبع هذه، إنما هي استصراخة أبناء قيلة على اليهود، فإنهم كانوا نزلوا مع اليهود حين أخرجوهم من اليمن على شروط، فنقضت عليهم اليهود فاستغاثوا بتبّع فعند ذلك قدمها وقد قيل: ان الّذي استصرخه أبناء قيلة على اليهود إنما هو أبو جبلة من ملوك غسان بالشام، جاء به مالك بن عجلان، فقتل اليهود بالمدينة، وكان من الخزرج كما نذكر بعد. ويعضد هذا أنّ مالك بن عجلان بعيد عن عهد تبع بكثير، يقال إنه كان قبل الإسلام بسبعمائة سنة ذكره ابن قتيبة. وحكى المسعودي في أخبار تبع هذا أنّ أسعد أبا كرب سار في الأرض، ووطأ الممالك وذلّلها ووطئ أرض العراق في ملك الطوائف، وعميد الطوائف يومئذ خرّداد بن سابور، فلقي ملكا من ملوك الطوائف اسمه قبّاذ، وليس قبّاذ بن فيروز، فانهزم قباذ وملك أبو كرب العراق والشام والحجاز وفي ذلك يقول تبّع أبو كرب:
إذ حسينا جيادنا من دماء ... ثم سرنا بها مسيرا بعيدا
واستبحنا بالخيل خيل قبّاذ ... وابن إقليد جاءنا مصفودا
وكسونا البيت الّذي حرّم ... الله ملاء منضدا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لبابة اقليدا
(وقال أيضا)
لست بالتبع اليماني ان لم ... تركض الخيل في سواد العراق
أو تؤدّي ربيعة الخرج قسرا ... لم يعقها عوائق العوّاق
وقد كانت لكندة معه وقائع وحروب، حتى غلبهم حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة من ملوك كهلان، فدانوا له ورجع أبو كرب إلى اليمن، فقتله حمير وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة.(2/62)
ثم ملك من بعد أبي كرب هذا فيما قال ابن إسحاق ربيعة بن نصر بن الحرث بن نمارة بن لخم ولخم أخو جذام. وقال ابن هشام ويقال ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر. كان أبو حارثة تخلف باليمن بعد خروج أبيه، وأقام ربيعة بن نصر ملكا على اليمن بعد هؤلاء التبابعة الذين تقدّم ذكرهم، ووقع له شأن الرؤيا المشهورة. قال الطبريّ عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أنّ ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته وفظع بها، وبعث في أهل مملكته في الكهنة والسحرة والمنجّمين وأهل العيافة، فأشاروا عليه باستحضار الكاهنين المشهورين لذلك العهد في إياد وغسّان، وهما شقّ وسطيح. قال الطبريّ شقّ هو أبو صعب شكر بن وهب بن أمول بن يزيد بن قيّس عبقر بن أنمار، وسطيح هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذيب بن عديّ بن مازن بن غسّان، ولوقوع اسم ذيب في نسبه كان يعرف بالذيبيّ.
فأحضرهما وقص عليهما رؤياه وأخبراه بتأويلها، أنّ الحبشة يملكون بلاد اليمن من بعد ربيعة وقحطان بسبعين سنة، ثم يخرج عليهم ابن ذي يزن من عدن فيخرجهم، ويملك عليهم اليمن، ثم تكون النبوّة في قريش في بني غالب بن فهر. ووقع في نفس ربيعة أنّ الّذي حدّثه الكاهنان من أمر الحبشة كائن، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرّداذ فأسكنهم الحيرة.
ومن بيت ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن عمرو بن عديّ بن ربيعة بن نصر. قال ابن إسحاق ولما هلك ربيعة بن نصر اجتمع ملك اليمن لحسّان بن تبان أسعد أبي كرب. قال السهيليّ وهو الّذي استباح طسما كما ذكرناه، وبعث على المقدّمة عبد كهلان بن يثرب بن ذي حرب بن حارث بن ملك بن عبدان بن حجر بن ذي رعين. واسم ذي رعين يريم وهو ابن زيد الجمهور، وقد مرّ نسبه إلى سبا الأصغر. وقال السهيليّ في أيام حسّان تبّع كان خروج عمرو بن مزيقياء من اليمن بالأزد، وهو غلط من السهيليّ لأنّ أبا كرب أباه إنما غزا المدينة فيما قال هو صريخا للأوس والخزرج على اليهود وهو من غسّان ونسبه إلى مزيقياء، فعلى هذا يكون الّذي استصرخه الأوس والخزرج على اليهود إنما هو من ملوك غسّان كما يأتي في أخبارهم. قال ابن إسحاق: ولما ملك حسّان بن تبّع بن تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل، فكرهت حمير(2/63)
وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجوع إلى بلادهم، فكلموا أخا له كان معهم في العسكر يقال له عمرو، وقالوا له اقتل أخاك نملكك وترجع بنا إلى بلادنا. فتابعهم على ذلك وخالفه ذو رعين في ذلك ونهى عمرا عن ذلك، فلم يقبل وكتب في صحيفة وأودعها عنده:
ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فأمّا حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ثم قتل عمرو أخاه بعرصة لخم، وهي رحبة مالك بن طوق، ورجع حمير إلى اليمن فمنع النوم عليه السهر، وأجهده ذلك فشكى إلى الأطباء عدم نومه والكهّان والعرّافين، فقالوا ما قتل رجل أخاه إلا سلّط عليه السهر. فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه ولم يغنه ذلك شيئا، وهمّ بذي رعين فذكره شعره فكانت فيه معذرته ونجاته. وكان عمرو هذا يسمّى موثبان، قال الطبريّ: لوثوبه على أخيه، وقال ابن قتيبة لقلّة غزوة ولزومه الوثب على الفراش. وهلك عمرو هذا لثلاث وستين سنة من ملكه.
قال الجرجاني والطبريّ: ثم مرج أمر [1] حمير من بعده وتفرقوا، وكان ولد حسّان تبّع صغارا لا يصلحون للملك وكان أكبرهم قد استهوته الجنّ، فوثب على ملك التبابعة عبد كلال موثبا فملك عليهم أربعا وتسعين سنة، وكان يدين بالنصرانية، ثم رجع ابن حسّان تبّع من استهواء الجن فملك على التبابعة. قال الجرجاني ملك ثلاثا وسبعين سنة وهو تبع الأصغر ذو المغازي والآثار البعيدة. قال الطبريّ: وكان أبوه حسان تبع قد زوج بنته من عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية من ملوك كندة، فولدت له ابنه الحرث بن عمرو، فكان ابن تبع بن حسّان هذا، فبعثه على بلاد معدّ، وملك على العرب بالحيرة مكان آل نصر بن ربيعة. قال وانعقد الصلح بينه وبين كيقباد ملك فارس على أن يكون الفرات حدّا بينهم، ثم أغارت العرب بشرقي الفرات، فعاتبه على ذلك، فقال لا أقدر على ضبط العرب الا بالمال والجند، فأقطعه بلادا من السواد، وكتب الحرث إلى تبع يغريه بملك الفرس، وتضعيف أمر كيقباد، فغزاهم. وقيل إنّ الّذي فعل ذلك هو عمرو بن حجر أبوه الّذي ولاه تبع أبو كرب، وأنه أغراه بالفرس واستقدمه إلى الحيرة، فبعث عساكره مع ولده الثلاثة إلى الصغد والصين والروم، وقد تقدّم ذكر ذلك.
__________
[1] مرج الأمر: ضيّعه ولم يحكمه.(2/64)
قال الجرجاني: ثم ملك بعد تبع بن حسّان تبّع أخوه لأمه وهو مدّثر بن عبد كلال، فملك احدى وأربعين سنة. ثم ملك من بعده ابنه وليعة بن مدّثر وثلاثين سنة.
ثم ملك من بعده أبرهة بن الصبّاح بن لهيعة بن شيبة بن مدّثر قيلف بن يعلق بن معديكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح الحرث بن مالك، أخو ذي رعين، وكعب أبو سبا الأصغر. قال الجرجاني: وبعض الناس يزعم أنّ أبرهة بن الصبّاح إنما ملك تهامة فقط. قال: ثم ملك من بعده حسان بن عمرو بن تبع بن ملكيكرب سبعا وخمسين سنة، ثم ملك لخيتعة [2] ولم يكن من أهل بيت المملكة. قال ابن إسحاق ولما ملك لخيتعة غلب عليهم، وقتل خيارهم، وعبث برجالات بيوت المملكة منهم، قيل إنه كان ينكح ولدان حمير، يريد بذلك أن لا يملكوا عليهم، وكانوا لا يملكون عليهم من نكح، نقله ابن إسحاق. وقال أقام عليهم مملكا سبعا وعشرين سنة، ثم وثب عليه ذو نواس زرعة تبع بن تبان أسعد أبي كرب، وهو حسّان أبي ذي معاهر فيما قال ابن إسحاق، وكان صبيا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا ذا هيئة وفضل ووضاءة ففتك بالختيعة [1] في خلوة اراده فيها على مثل فعلاته القبيحة، وعلمت به حمير وقبائل اليمن فملكوه واجتمعوا عليه، وجدّد ملك التبابعة، وتسمّى يوسف وتعصب لدين اليهودية، وكانت مدّته فيما قال ابن إسحاق ثمانية وستين سنة، الى هنا أهـ ترتيب ابى الحسن الجرجاني. ثم قال: وقال آخرون ملك بعد أفريقش بن أبرهة قيس بن صيفي، وبعده الحرث بن قيس بن مياس، ثم ماء السماء بن ممروه ثم شرحبيل وهو يصحب بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن علي بن الهمّال، ثم ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر، ثم زهير بن عبد شمس أحد بني صيفي بن سبا الأصغر وكان فاسقا مجرما يفتض أبكار حمير حتى نشأت بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي فقتلته غيلة، ثم ملكت. ولما أخذها سليمان ملك لمك بن شرحبيل، ثم ملك ذو وداغ فقتله ملكيكرب بن تبع بن الأقرن وهو أبو ملك، ثم هلك. فملك أسعد بن
__________
[2] قوله لخيتعه وقيل اسمه لخيعة بن ينوف وهو هكذا في القاموس قاله نصر. وقد ذكره ابن الأثير في كتاب الكامل باسم لختيعه.
[1] في نسخة اخرى وفي مكان آخر: لخيتعة.(2/65)
قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا، وهو أبو كرب، ثم ملك حسّان ابنه فقتله عمرو أخوه ووقع الاختلاف في حمير، ووثب على عمرو الختيعة ينوف ذو الشناتر وملك. ثم قتله ذو نواس بن تبع وملك. أهـ كلام الجرجاني.
وزعم ابن سعيد ونقله من كتب مؤرخي المشرق أنّ الحرث الرائش هو ابن ذي شدد ويعرف بذي مداثر، وأنّ الّذي ملك بعده ابنه الصعب وهو ذو القرنين، ثم ابنه أبرهة بن الصعب وهو ذو المنار، ثم العبد ذو الأشفار ابن أبرهة بن عمرو ذي الأذعار ابن أبرهة، ثم قتلته بلقيس. قال في التيجان: إنّ حمير خلعوه، وملكوا شرحبيل ابن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل وكان بمأرب، فجاز به ذو الأذعار وحارب ابنه الهدهاد بن شرحبيل من بعده، وابنته بلقيس بنت الهدهاد الملكة من بعده، فصالحته على التزويج وقتلته، وغلبها سليمان عليه السلام على اليمن إلى أن هلك وابنه رحبعم من بعده. واجتمعت حمير من بعده على مالك بن عمرو ابن يعفر بن عمرو بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير، وملك بعده ابنه شمر يرعش وهو الّذي خرّب سمرقند، وملك بعده ابنه صيفي بن شمر على اليمن، وسار أخوه أفريقش بن شمر إلى إفريقية بالبربر وكنعان فملكها. ثم انتقل الملك إلى كهلان وقام به عمران بن عامر ماء السماء بن حارثة امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكان كاهنا، ولما احتضر عهد إلى أخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا وأعلمه بخراب سد مأرب وهلاك اليمن بالسيل، فخرج من اليمن بقومه وأصحاب اليمن سيل العرم فلم ينتظم لبني قحطان بيعته، واستولى على قصر مأرب من بعده ربيعة بن نصر. ثم رأى رؤيا ونذر بملك الحبشة وبعث ولده إلى العراق وكتب إلى سابور الأشعاني فأسكنهم الحيرة وكثرت الخوارج باليمن. فاجتمعت حمير على أن تكون لأبي كرب أسعد بن عدي بن صيفي فخرج من ظفّار وغلب ملوك الطوائف باليمن، ودوّخ جزيرة العرب، وحاصر الأوس والخزرج بالمدينة، وحمل حمير على اليهودية، وطالت مدّته وقتلته حمير. وملك بعده ابنه حسّان الّذي أباد طسما، ثم قتله أخوه عمرو بمداخلة حمير، وهلك عمرو. فملك بعده أخوه لأبيه عبد كلال بن منوب، وفي أيامه خلع سابور أكتاف العرب. وملك بعده تبع بن حسّان وهو الّذي بعث ابن أخيه الحرث بن عمرو(2/66)
الكندي إلى أرض بني معدّ بن عدنان بالحجاز فملك عليهم. وملك بعده مرثد بن عبد كلال. ثم ابنه وليعة وكثرت الخوارج عليه، وغلب أبرهة بن الصبّاح على تهامة اليمن، وكان في ظفّار دار التبابعة حسّان بن عمرو بن أبي كرب، ثم وثب بعده على ظفّار ذو شناتر، وقتله ذو نواس كما مرّ، هذا ترتيب ابن سعيد في ملوكهم.
وعند المسعودي: أنّه لما هلك كليكرب بن تبّع المعروف بالأقرن، قال وهو الّذي سار قومه نحو خراسان والصغد والصين، وولي بعده حسان بن تبّع، فاستقام له الأمر خمسا وعشرين سنة، ثم قتله أخوه عمرو بن تبع، وملك أربعا وستين سنة، ثم تبع أبو كرب وهو الّذي غزا يثرب وكسا الكعبة بعد أن أراد هدمها، ومنعه الحبران من اليهود، وتهوّد وملك مائة سنة. ثم بعده عمرو بن تبّع أبي كرب، وخلع وملكوا مرثد بن عبد كلال، واتصلت الفتن باليمن أربعين سنة. ومن بعده وليعة بن مرثد تسعا وثلاثين سنة. ومن بعده أبرهة بن الصبّاح بن وليعة بن مرثد، ويدعى شيبة الحمد ثلاثا وتسعين سنة، وكانت له سير وقصص. ومن بعده عمرو ذو قيفان تسع عشرة سنة. ومن بعده لخيتعة ذو شناتر ومن بعده ذو نواس.
وأمّا ابن الكلبيّ والطبريّ وابن حزم فعندهم أن تبّع أسعد أبي كرب هو ابن كليكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو بن ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر. وقال السهيليّ انه أسقط أسماء كثيرة وملوكا. وقال ابن الكلبيّ وابن حزم: ومن ملوك التبابعة أفريقش بن صيفي، ومنهم شمر يرعش ابن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، ومنهم بلقيس ابنه اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي. ثم قال ابن حزم بعد ذكر هؤلاء من التبابعة: وفي أنسابهم اختلاف وتخليط وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة، ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلّا طرف يسير لاختلاف رواتهم وبعد العهد أهـ.
وقال الطبريّ لم يكن لملوك اليمن نظام وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكا على مخلافه لا يتجاوزه، وان تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أن يرث ذلك الملك عن آبائه ولا يرثه أبناؤه عنه إنما هو شأن شدّاد المتلصّصة يغيرون على النواحي باستغفال أهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات، وكذلك كان أمر ملوك اليمن يخرج أحدهم من مخلافه بعض الأحيان ويبعد في الغزو والإغارة فيصيب ما يمر به، ثم يتشمّر عند خوف الطلب زاحفا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه(2/67)
بالطاعة أو يؤدّي إليه خراجا أهـ.
وأمّا الخبر عن ذي نواس وما بعده فاتفق أهل الأخبار كلهم أنّ ذا نواس هو ابن تبان أسعد واسمه زرعة، وأنه لما تغلب على ملك آبائه التبابعة، تسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية، وحمل عليه قبائل اليمن، وأراد أهل نجران عليها، وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية ولهم فضل في الدين واستقامة. وكان رئيسهم في ذلك يسمّى عبد الله بن الثامر، وكان هذا الدين وقع اليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك التبعيّة يقال له ميمون نزل فيهم، وكان مجتهدا في العبادة، مجاب الدعوة، وظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى، وكان يطلب الخفاء عن الناس جهده، وتبعه على دينه رجل من أهل الشام اسمه صالح، وخرجا فارّين بأنفسهما، فلما وطئا بلاد العرب اختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران، وهم يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم، ويعلقون عليها في الأعياد من حليهم وثيابهم، ويعكفون عليها أياما. وافترقا في الدير على رجلين من أهل نجران، وأعجب سيد ميمون صلاته ودينه وسأله عن شأنه، فدعاه إلى الدين وعبادة الله، وأنّ عبادة النخلة باطل، وأنه لو دعا معبوده عليها هلكت. فقال له سيده إن فعلت دخلنا في دينك. فدعا ميمون فأرسل الله ريحا فجعفت النخلة من أصلها، وأطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى صلوات الله عليه. ومن رواية ابن إسحاق أنّ ميمون نزل بقرية من قرى نجران، وكان يمرّ به غلمان أهل نجران، يتعلمون من ساحر كان بتلك القرية، وفي أولئك الغلمان عبد الله بن الثامر، فكان يجلس إلى ميمون، ويسمع منه فآمن به واتبعه، وحصل على معرفة اسم الله الأعظم، فكان مجاب الدعوة لذلك، واتبعه الناس على دينه، وأنكر عليه ملك نجران وهمّ بقتله. فقال له: لن تطيق حتى تؤمن وتوحد فآمن ثم قتله، فهلك ذلك الملك مكانه [1] . واجتمع أهل نجران
__________
[1] العبارة هنا غير واضحة تماما وهي أوضح عند الطبري في كتابه تاريخ الملوك والأمم الجزء 2 ص 105:
« ... لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثّلن بك، قال: لا تقدر على ذلك.
فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض ليس به بأس فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك ان فعلت ذلك سلطت عليّ فقتلتني، فوحد الله ذلك الملك وشهد بشهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه ... »(2/68)
على دين عبد الله بن الثامر، وأقام أهل نجران على دين عيسى صلوات الله عليه، حتى دخلت عليهم في دينهم الأحداث. ودعاهم ذو نواس إلى دين اليهودية، فأبوا.
فسار إليهم في أهل اليمن وعرض عليهم القتل فلم يزدهم إلّا جماحا، فخدّد لهم الأخاديد، وقتل وحرق حتى أهلك منهم فيما قال ابن إسحاق عشرين ألفا أو يزيدون، وأفلت منهم رجل من سبا يقال له دوس ذو ثعلبان فسلك الرمل على فرسه وأعجزهم.
ملك الحبشة اليمن
قال هشام بن محمد الكلبيّ في سبب غزو ذي نواس أهل نجران أنّ يهوديا كان بنجران فعدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلما، فرفع أمره إلى ذي نواس، وتوسل له باليهودية واستنصره على أهل نجران وهم نصارى، فحمي له ولدينه وغزاهم. ولما أفلت دوس ذو ثعلبان فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على ذي نواس، وأعلمه بما ركب منهم وأراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار، فكتب له إلى النجاشيّ يأمره بنصره، وطلب بثأره، وبعث معه النجاشيّ سبعين ألفا من الحبشة. وقيل إنّ صريخ دوس كان أولا للنجاشيّ، وإنه اعتذر اليه بقلّة السفن لركوب البحر، وكتب إلى قيصر وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة، وأمّر عليهم أرباطا رجلا منهم، وعهد إليه بقتلهم وسبيهم وخراب بلادهم فخرج أرباط لذلك ومعه أبرهة الأشرم فركبوا البحر، ونزلوا ساحل اليمن.
وجمع ذو نواس حمير ومن أطاعه من أهل اليمن على افتراق واختلاف في الأهواء، فلم يكن كبير حرب وانهزموا. فلمّا رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه بفرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه وخاض ضحضاح البحر، ثم أفضى به إلى غمرة فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به، ووطئ أرباط اليمن بالحبشة، وبعث إلى النجاشيّ بثلث السبي كما عهد له، ثم أقام بها فضبطها وأذل رجالات حمير، وهدم حصون الملك بها مثل سلجيق وسون وغمدان، وقال ذو يزن يرثي حمير وقصور الملك باليمن:
هوّنك ليس يردّ الدّمع ما فاتا ... لا تهلكن أسفا في إثر من ماتا
أبعد سون فلا عين ولا أثر ... وبعد سلجيق يبني الناس أبياتا(2/69)
وفي رواية هشام بن محمد الكلبيّ أنّ السفن قدمت على النجاشيّ من قيصر، فحمل فيها الحبش ونزلوا بساحل اليمن، واستجاش ذو نواس بأقيال حمير فامتنعوا من صريخه وقالوا: كل أحد يقاتل عن ناحيته. فألقى ذو نواس باليد ولم يكن قتال.
وأنه سار بهم إلى صنعاء، وبعث عماله في النواحي لقبض الأموال، وعهد بقتلهم في كل ناحية، فقتلوا. وبلغ ذلك النجاشيّ فجهز إلى اليمن سبعين ألفا، وعليهم أبرهة فبلغوا صنعاء، وهرب ذو نواس واعترض البحر فكان آخر العهد به. وملك أبرهة اليمن ولم يبعث إلى النجاشيّ بشيء وذكر له أنه خلع طاعته فوجه جيشا من أصحابه عليهم أرباط. ولما حلّ بساحته دعاه إلى النصفة والنزال فتبارزا وخدعه أبرهة، وأكمن عبدا له في موضع المبارزة، فلما التقيا ضربه أرباط فشرم أنفه، وسمّي الأشرم وخالفه العبد من الكمين فضرب أرباطا فأنفذه، وبلغ النجاشيّ خبر أرباط فحلف ليريقنّ دمه [1] . ثم كتب إليه أبرهة واسترضاه فرضي عليه وأقره على عمله.
وقال ابن إسحاق إنّ أرباط هو الّذي قدم اليمن أوّلا وملكه وانتقض عليه أبرهة من بعد ذلك، فكان ما ذكرنا من الحرب بينهما وقتل أرباط، وغضب النجاشي لذلك ثم أرضاه واستبدّ أبرهة بملك اليمن.
ويقال إنّ الحبشة لمّا ملكوا اليمن أمّر أبرهة بن الصبّاح، وأقاموا في خدمته. قاله ابن سلام: وقيل إنّ ملك حمير لما انقرض أمر التبابعة صار متفرقا في الأذواء من ولد زيد الجمهور. وقام بملك اليمن منهم ذو يزن من ولد مالك بن زيد. قال ابن حزم:
واسمه علس بن زيد بن الحرث بن زيد الجمهور. وقال ابن الكلبيّ وأبو الفرج الأصبهاني: هو علس بن الحرث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد الجمهور. قالوا كلهم: ولما ملك ذو يزن بعد مهلك ذي نواس واستبدّ أمر الحبشة على أهل اليمن، طالبوهم بدم النصارى الذين في أهل نجران، فساروا إليه وعليهم أرباط، ولقيهم فيمن معه فانهزم واعترض البحر، فأقحم فرسه وغرق فهلك بعد ذي نواس، وولي ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه، وهو الّذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد وكان من عقب ذي يزن أيضا، من هؤلاء الأذواء علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن، وملك مدينة الهون فقتله أهلها من همدان أهـ. ولما استقرّ أبرهة في ملك اليمن أساء السير في حمير، ورؤسائهم وبعث في ريحانة بنت علقمة بن
__________
[1] الضمير يعود إلى أبرهة.(2/70)
مالك بن زيد بن كهلان فانتزعها من زوجها أبي مرّة بن ذي يزن، وقد كانت ولدت منه ابنه معديكرب، وهرب أبو مرّة، ولحق بأطراف اليمن واصطفى أبرهة ريحانة فولدت له مسروق بن أبرهة وأخته بسباسة. وكان لأبرهة غلام يسمّى عمددة، وكان قد ولّاه الكثير من أمره، فكان يفعل الأفاعيل حتى عدا عليه رجل من حمير أو خثعم فقتله وكان حليما فأهدر دمه.
غزو الحبشة الكعبة
ثم إنّ أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمّى القليس لم ير مثلها وكتب إلى النجاشيّ بذلك، وإلى قيصر في الصنّاع والرخام والفسيفساء، وقال لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. وتحدّث العرب بذلك فغضب رجل من السادة، أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، وخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، ولحق بأرضه. وبلغ أبرهة وقيل له الرجل من البيت الّذي يحج إليه العرب، فحلف ليسيرنّ إليه يهدمه. ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس، فضرب الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل وأجمع أبرهة على غزو البيت وهدمه، فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل. فلقيه ذو نفر الحميريّ وقاتله فهزمه وأسره، واستبقاه دليلا في أرض العرب. قال ابن إسحاق: ولما مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فأتوه بالطاعة وبعثوا معه أبا رغال دليلا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة فهلك هنالك ورجمت العرب قبره من بعد ذلك قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال
ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة، فانتهوا إلى مكة، واستاقوا أموال أهلها، وفيها مائتا بعير لعبد المطلب وهو يومئذ سيد قريش، فهمّوا بقتاله ثم علموا أنّ لا طاقة لهم به فاقصروا. وبعث أبرهة حناطة الحميريّ إلى مكة يعلمهم بمقصده من هدم البيت، ويؤذنهم بالحرب إن اعترضوا دون ذلك، وأخبر عبد المطلب بذلك عن أبرهة، فقال له:
والله ما نريد حربه، وهذا بيت الله فان يمنعه فهو بيته وان يخلي عنه فما لنا نحن من دافع. ثم انطلق به إلى أبرهة، ومرّ بذي نفر وهو أسير، فبعث معه إلى سائس الفيل، وكان صديقا لذي نفر، فاستأذن له على أبرهة، فلما رآه جلّه ونزل عن سريره، فجلس معه على بساطه. وسأله عبد المطلب في الإبل. فقال له أبرهة هلا(2/71)
سألت في البيت الّذي هو دينك ودين آبائك وتركت البعير. فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل وللبيت ربّ سيمنعه. فردّ عليه إبله. قال الطبريّ: وكان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن لعابة بن عدي بن الرمل سيّد كنانة، وخويلد بن واثلة سيّد هذيل، وعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ويرجع عن هدم البيت، فأبى عليهم، فانصرفوا. وجاء عبد المطلب وأمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب للتحرّز فيها، ثم قام عند الكعبة ممسكا بحلقة الباب ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه، وعبد المطلب ينشد ويقول:
لا همّ إنّ العبد ... يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
في أبيات معروفة.
ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر، ترميهم بالحجارة فلا تصيب أحدا منهم إلّا هلك مكانه، وأصابه في موضع الحجر من جسده كالجدري والحصبة فهلك، وأصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك، وسقطت أعضاؤه عضوا عضوا، وبعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض ولم يتحرك فنجا. وأقدم فيل آخر فحصب [1] وبعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم، وألقاهم في البحر. ورجع أبرهة إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فانصدع صدره عن قلبه ومات.
ولمّا هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم وبه كان يكنى واستفحل ملكه وأذل حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة، فقتلوا رجالهم ونكحوا نساءهم واستخدموا أبناءهم.
ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق، وساءت سيرته وكثر عسف الحبشة باليمن، فخرج ابن ذي يزن واستجاش عليهم بكسرى، وقدم اليمن بعساكر الفرس، وقتل مسروقا وذهب أمر الحبشة بعد أن توارث ملك اليمن منهم أربعة في اثنتين وسبعين سنة أوّلهم أرباط، ثم أبرهة، ثم ابنه يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة.
__________
[1] أي ضرب بالحصباء.(2/72)
قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن
ولما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن، خرج سيف بن ذي يزن الحميريّ من الأذواء بقية ذلك السلف، وعقب أولئك الملوك، وديال الدولة المفوض للخمود.
وقد كان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة بعد أن ولدت منه ابنه معديكرب كما مرّ.
ونسبه فيما قال الكلبيّ سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور، هكذا نسبه ابن الكلبيّ، ومالك بن زيد هو أبو الأذواء. فخرج سيف وقدم على قيصر ملك الروم وشكى إليه أمر الحبشة، وطلب أن يخرجهم ويبعث على اليمن من شاء من الروم، فلم يسعفه عن الحبشة، وقال الحبشة على دين النصارى. فرجع إلى كسرى وقدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض العرب، فشكى إليه، واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى، وأوفد معه وسأله النصر على الحبشة وأن يكون ملك اليمن له.
فقال: بعدت أرضك عن أرضنا، أو هي قليلة الخير إنما هي شاء وبعير ولا حاجة لنا بذلك. ثم كساه وأجازه، فنثر دنانير الاجازة ونهبها الناس يوهم الغنى عنها بما في أرضه. فأنكر عليه كسرى ذلك. فقال: جبال أرضي ذهب وفضة، وإنما جئت لتمنعني من الظلم. فرغب كسرى في ذلك، وأمهله للنظر في أمره، وشاور أهل دولته، فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه فإن هلكوا كان الّذي أردت بهم، وإن ملكوا كان ملكا ازددته إلى ملكك. وأحصوا ثمانمائة وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتا وأكبرهم نسبا وكان وهزر الديلميّ.
وعند المسعودي وهشام بن محمد والسهيليّ أنّ كسرى وعده بالنصر ولم ينصره وشغل بحرب الروم، وهلك سيف بن ذي يزن عنده، وكبر ابنه ابن ريحانة وهو معديكرب وعرّفته أمّه بأبيه، فخرج ووفد على كسرى يستنجزه في النصرة التي وعد بها أباه، وقال له: أنا ابن الشيخ اليمني الّذي وعدته. فوهبه الدنانير ونثرها إلى آخر القصة.
وقيل إنّ الّذي وفد على كسرى وأباد الحبشة هو النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن. قالوا ولما كتبت الفرس مع وهزر وكانوا ثمانمائة، وقال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف وخمسمائة، وقال ابن حزم كان وهزر من عقب جاماسب عمّ أنوشروان، فأمّره على أصحابه وركبوا البحر ثمان سفائن فغرقت منها سفينتان وخلصت ست إلى(2/73)
ساحل عدن. فلما نزلوا بأرض اليمن، قال وهزر لسيف: ما عندك؟ قال: ما شئت من قوس عربي ورجلي مع رجلك حتى نظفر أو نموت. قال أنصفت. وجمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه، وسار إليه مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن، فتواقفوا للحرب، وأمر وهزر ابنه أن يناوشهم القتال فقتلوه، وأحفظه ذلك. وقال: أروني ملكهم. فأروه إياه على الفيل عليه تاجه وبين عينيه ياقوتة حمراء ثم نزل عن الفيل إلى الفرس، ثم إلى البغلة. فقال وهزر، ركب بنت الحمار، ذلّ وذلّ ملكه. ثم رماه بسهم فصكّ الياقوتة بين عينيه، وتغلغل في دماغه، وتنكّس عن دابته وداروا به، فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجه، وأقبل وهزر إلى صنعاء، ولما أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكوسة. فهدم الباب، ودخل ناصبا رايته فملك اليمن ونفى عنها الحبشة وكتب بذلك إلى كسرى وبعث إليه بالأموال. فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن على فريضة يؤدّيها كل عام ففعل، وانصرف وهزر إلى كسرى.
وملك سيف اليمن وكان أبوه من ملوكها وخلف وهزر نائبا على اليمن في جماعة من الفرس ضمهم إليه وجعله لنظر ابن ذي يزن وأنزله بصنعاء. وانفرد ابن ذي يزن بسلطانه، ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان، يقال إنّ الضحّاك بناه على اسم الزهرة وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب وروحانيتها، خرب في خلافة عثمان قاله المسعودي.
وقال السهيليّ: كانت صنعاء تسمى أوال، وصنعاء اسم بانيها صنعاء بن أوال بن عمير بن عابر بن شالخ. ولمّا استقل ابن ذي يزن بملك اليمن وفدت العرب عليه يهنوه [1] بالملك، ولما رجع من سلطان قومه وأباد من عدوّهم، وكان فيمن وفد عليه مشيخة قريش وعظماء العرب لعهدهم من أبناء إسماعيل وأهل بيتهم المنصوب لحجهم، فوفدوا في عشرة من رؤسائهم فيهم عبد المطلب، فأعظمهم سيف وأجلهم وأوجب لهم حقهم ووفر من ذلك قسم عبد المطلب من بينهم. وسأله عن بنيه حتى ذكر له شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وكفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه عاشر ولد عبد المطلب، فأوصاه به وحضه على الإبلاغ في القيام عليه، والتحفظ به.
__________
[1] الصحيح ان يقول: «وفدت العرب عليه يهنونه أو «تهنيه» لان الفعل من الأفعال الخمسة ولم يتقدم عليه ما يوجب حذف النون.»(2/74)
من اليهود وغيرهم، وأسرّ إليه البشرى بنبوّته وظهور قريش قومهم على جميع العرب.
وأسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة وعظمها لبعد غايتها في الهمة، وعلو نظرها في كرامة الوفد، وبقاء آثار الترف في الصبابة شاهد لشرافة الحال في الأوّل.
ذكر صاحب الأعلام وغيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشرة وصائف وعشرة أرطال من الورق والذهب وكرش مليء من العنبر وأضعاف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب.
قال ابن إسحاق: ولما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة وجعل يقتل ويبقر بطون النساء، حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب، وعظم خوفهم منه. فخرج يوما وهم يسعون بين يديه، فلما توسطهم وقد انفردوا به عن الناس، رموه بالحراب فقتلوه، ووثب رجل منهم على الملك. وقيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة، واستلحم الحبشة وبلغ ذلك كسرى، فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس وأمره بقتل كل أسود أو منتسب إلى أسود ولو جعدا قططا ففعل، وقتل الحبشة حيث كانوا، وكتب بذلك إلى كسرى، فأمّره على اليمن فكان بجبيه له حتى هلك. واستضافت حشّابة ملك الحميريّين بعد مهلك ابن ذي يزن وأهل بيته إلى الفرس، وورثوا ملك العرب وسلطان حمير باليمن بعد أن كانوا يزاحمونهم بالمناكب في عراقهم، ويجسونهم بالغزو خلال ديارهم. ولم يبق للعرب في الملك رسم ولا طلل إلا أقيالا من حمير وقحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو لا تعرف لهم طاعة، ولا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر، إلا ما كان لكهلان إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة والعراق بتولية فارس، وملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في أخبارهم.
وقال الطبريّ: لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائدا من قواده، ركب إليها البحر في جند كثيف، فقتل ملكها واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة وجواهر. وكان وهزر يبعث العير إلى كسرى بالأموال والطيوب، فتمرّ على طريق البحرين تارة وعلى أرض الحجاز أخرى. وعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالانتقام منهم، فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى. وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرّت بهم، وكان في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجّار بين قيس وكنانة(2/75)
بسبب ذلك وشهدها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النبل.
قال الطبريّ: ولما هلك وهزر أمّر كسرى من بعده على اليمن ابنه المرزبان، ثم هلك فأمّر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان، ثم سخط عليه وحمل إليه مقيدا، ثم أجاره ابن كسرى وخلّى سبيله، فعزله كسرى وولى باذان فلم يزل إلى أن كانت البعثة وأسلم باذان وفشا الإسلام باليمن كما نذكره عند ذكر الهجرة وأخبار الإسلام باليمن.
هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن ومن ملك بعدهم من الفرس، وكان عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة وثلاثين ملكا في مدّة ثلاثة آلاف ومائتي سنة إلّا عشرا، وقيل أقل من ذلك. فكانوا ينزلون مدينة ظفّار. قال السهيليّ زمار وظفّار اسمان لمدينة واحدة، يقال بناها مالك بن أبرهة وهو الأملوك ويسمى مالك وهو ابن ذي المنار، وكان على بابها مكتوب بالقلم الأوّل في حجر أسود:
يوم شيدت ظفار فقيل لمن ... أنت فقالت لخير الأخيار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي احابش الأشرار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لفارس الأحرار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لقريش النجّار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لخير سنجار
وقليلا ما يلبث القوم فيها ... غير تشييدها لحامي البوار
من أسود يلقيهم البحر فيها ... تشعل النار في أعالي الجدار
ولم تزل مدينة ظفّار هذه منزلا للملوك، وكذلك في الإسلام صدر الدولتين، وكانت اليمن من أرفع الولايات عندهم، بما كانت منازل العرب العاربة، ودارا لملوك العظماء من التبابعة والأقيال والعباهلة. ولما انقضى الكلام في أخبار حمير وملوكهم باليمن من العرب، استدعى الكلام ذكر معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليقة، ونميّز حال هذا الجيل العربيّ من جميع جهاته، والأمم المشاهير من العجم الذين كانت لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى والثانية من العرب وهم النبط والسريانيّون أهل بابل، ثم الجرامقة أهل الموصل، ثم القبط، ثم بنو إسرائيل والفرس ويونان والروم، فلنأت الآن بما كان لهم من الملك والدولة وبعض أخبارهم على اختصار، والله ولي العون والتوفيق، لا رب غير ولا مأمول إلّا خيره
.(2/76)
الخبر عن ملوك بابل من النبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة
قد تقدم لنا أنّ ملك الأرض من بعد نوح عليه السلام كان لكنعان بن كوش بن حام، ثم لابنه النمروذ من بعده، وانه كان على بدعة الصابئة، وأنّ بني سام كانوا حنفاء ينتحلون التوحيد الّذي عليه الكلدانيون من قبلهم. قال ابن سعيد: ومعنى الكلدانيين الموحدين. ووقع ذكر النمروذ في التوراة منسوبا إلى كوش بن حام، ولم يقع فيها ذكر لكنعان بن كوش، فاللَّه أعلم بذلك. وقال ابن سعيد أيضا: وخرج عابر بن شالخ بن أرفخشذ فغلبه، وسار من كوثا إلى أرض الجزيرة والموصل فبنى مدينة مجدل لك، وأقام بها إلى أن هلك، وورث أمره ابنه فالغ من بعده، وأصاب النمروذ وقومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في الصرح وكانت البلبلة وهي المشهورة. وقد وقع ذكرها في التوراة ولا أدري معناها. والقول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة فباتوا عليها، ثم أصبحوا وقد افترقت لغاتهم، قول بعيد في العادة، إلّا أن يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذ ولم ينقلوه كذلك. والّذي يظهر أنه اشارة إلى التقدير الإلهي في خرق العادة وافتراقها وكونها من آياته كما وقع في القرآن الكريم، ولا يعقل في أمر البلبلة غير ذلك.
وقال ابن سعيد سوريان بن نبيط ولاه فالغ على بابل، فانتقض عليه وحاربه، ولما هلك فالغ قام بأمره بعده ابنه ملكان، فغلبه سوريان على الجزيرة، وملكها هؤلاء الجرامقة إخوانه في النسب بنو جرموق بن أشوذ بن سام، وكانت مواطنهم بالجزيرة وكان ابن أخت سوريان منهم الموصل بن جرموق، فولّاه سوريان على الجزيرة وأخرج بني عابر منها، ولحق ملكان منها بالجبال فأقام هناك، ويقال إن الخضر من عقبه، واستبد الموصل على خاله سوريان بن نبيط ملك بابل، وامتازت مملكة الجرامقة من مملكة النبط. وملك بعد الموصل ابنه راتق وكانت له حروب مع النبط، وملك من بعده ابنه أثور وبقي ملكها في عقبه وهو مذكور في التوراة، وملك بعده ابنه نينوى وبنى المدينة المقابلة للموصل من عدوة دجلة المعروفة باسمه، ثم كان من عقبه سنجاريف بن أثور بن نينوى بن أثور وهو الّذي بنى مدينة سنجار وغزا بني إسرائيل فصلبوه على بيت المقدس.(2/78)
وقال البيهقيّ: إنّ الجزيرة ملكها بعد مقتل سنجاريف أخوه ساطرون، وهو الّذي بنى مدينة الخضر في برية سنجار على نهر الترتار لتولعه بصيد الأسود في غيضاتها.
وملك من بعده ابنه زان وكان يدين بالصابئة، ويقال إن يونس بن متى بعث إليه ويونس من الجرامقة من سبط بنيامين بن إسرائيل من ابنه، فآمن به زان بن ساطرون بعد الّذي قصّه القرآن من شأنه معهم، ثم انّ بخت نصّر لما غلب على بابل زحف إليه ودعاه إلى دين الصابئة، وشرط له أن يبقيه في ملكه فأجاب. ولم يزل على الجزيرة حتى زحف إليه جيوش الفرس مع أرتاق، فضمن القيام بالمجوسية على أن يبقوه في ملكه، وكتب بذلك أرتاق إلى بهمن فيضمن له، فأجابه بأن هذا رجل متلاعب بالأديان فأقتله، فقتله أرتاق وانقرض ملكه بعد ألف وثلاثمائة سنة فيما قال البيهقي. وفي أربعين ملكا منهم، وصارت الجزيرة لملوك الفرس، والّذي عند الإسرائيليين سنجاريف من ملوك نينوى وهم أولاد موصل بن أشوذ بن سام. وأنه كان قبله بالموصل ملوك منهم وهم فول وتلفات وبلناص، وأنهم ملكوا بلد الأسباط العشرة، وهي شمورون المعروفة بالسامرة، وأنه غرّب الأسباط الذين كانوا فيها إلى نواحي أصبهان وخراسان، وأسكن أهل كومة وهي الكوفة في شمورون هذه، فسلط الله عليهم السباع يفترسونهم في كلّ ناحية. فشكوا ذلك إلى سنجاريف وسألوه أن يخبرهم عن بلد شمورون في قسمة أي كوكب هي كي يتوجهوا إليه، ويستنزلوا روحانيته على طريق الصابئة، فأعرض عن ذلك وبعث كاهنان إليهم من اليهود فعلموهم دين اليهودية، وأخذوا به. وهؤلاء عند اليهود هم الشمرة نسبة الى شمرة وهي شمورون، وليس الشمرة عندهم من بني إسرائيل، ولان دينهم صحيح في اليهودية.
وزحف سنجاريف عندهم إلى بيت المقدس بعد استيلائه على شمورون فحاصرها، وداخله العجب بكثرة عساكره، فقال لبني إسرائيل من الّذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم إلهكم، وفزع ملك بني إسرائيل إلى نبيّهم مدليلا، وسأله الدعاء فدعا له وأمنه من شرّ سنجاريف، ونزلت بعسكره في بعض لياليهم آفة سماوية، فأصبحوا كلهم قتلى. يقال أحصى قتلاهم فكانوا مائة وخمسة وثمانين ألفا، ورجع سنجاريف إلى نينوى، ثم قتله أولاده في سجوده لمعبوده من الكواكب، وولي ابنه أيسر حدّون، ثم استولى عليهم بعد ذلك بخت نصّر كما سنذكره في خبره.(2/79)
وأما ملوك بابل فهم النبط بنو نبيط بن أشوذ بن سام. وقال المسعودي: نبيط بن ماش بن إرم، وكانوا موطنين بأرض بابل وملك منهم سوريان بن نبيط، وقال المسعوديّ: هو أحد نبيط بن ماش ملك أرض بابل بولاية من فالغ، فلما مات فالغ أظهر بدعة الصابئة، وانتحلها بعده ابنه كنعان ويلقب بالنمروذ. وملك بعده ابنه كوش وهو نمروذ إبراهيم عليه السلام، وهو الّذي قدم أباه آزر فاصطفاه هاجر على بيت الأصنام لأن أرغو بن فالغ لما هلك أبوه فالغ وكان على دين التوحيد الّذي دعاه إليه أبوه عابر، رجع حينئذ أرغو إلى كوثا، ودخل مع النماردة في دين الصابئة، وتوارثها بنوه إلى آزر بن ناحور، فاصطفاه هاجر بن كوش وقدّمه على بيت الأصنام، وولد له إبراهيم عليه السلام، وكان من أمره ما ذكرنا فيما نصه التنزيل ونقله الثقات.
ثم توالت ملوك النماردة ببابل وكان منهم بخت نصّر على ما ذهب إليه بعضهم، ويقال إنّ الجرامقة وهم أهل نينوى غلبوا على بابل وملكها سنجاريف منهم واستعمل فيها بخت نصّر من ملوكها، ثم انتقض عليه بالجزاء والطاعة، وغزا بني إسرائيل ببيت المقدس، فاقتحمها عليهم بعد الحصار، وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وقتل ملكهم وخرب مسجدهم وتجاوزهم إلى مصر فملكها. ولما هلك بخت نصّر ملك من بعده فيما ذكروه ابنه نشبت نصّر، ثم من بعده بنيصّر وغزاه أرتاق مرزبان كسرى من ملوك الكينية فقتله وملك بابل وأعمالها وصار النبط والجرامقة رعية للفرس، وانقرضت دولة النماردة ببابل، هكذا ذكر ابن سعيد ونقله عن داهر مؤرخ دولة الفرس، وجعل السريانيين والنبط أمة واحدة، وهما دولة واحدة. وأما المسعودي فجعلهما دولتين.
وأما السريانيون فقال هم أول ملوك الأرض بعد الطوفان، وسمّى من ملوكهم تسعة متعاقبين في مائة سنة أو فوقها بأسماء أعجمية لا فائدة في نقلها لقلة الوثوق بالأصول التي بأيدينا من كتبه وكثرة التغيير في الأسماء الأعجمية. نعم ذكر أن شوشان بشينين معجمتين، وأنه أول من وضع التاج على رأسه. والرابع منهم انه الّذي كوّر الكور ومدّن المدن وأنّ ملك الهند لعهده كان اسمه رتبيل وأنه على ملكه واستولى على السريانيين، وأن بعض ملوك المغرب ظاهرهم عليه وانتزع لهم ملكهم منه ورده عليهم. وسمّى الثامن منهم ماروت وأشار في آخر كلامه إلى أنهم كانوا مستولين على بابل وعلى الموصل، وأن ملوك اليمن ربما غلبوهم على أمرهم بعض الأحيان. وذكر في التاسع أنه كان غير مستقل بأمره، وانّ أخاه كان مقاسمة في سلطانه، وأنّ أوّل من(2/80)
اتخذ الخمر فلان وأوّل من ملك فلان، وأوّل من لعب بالصقور والشطرنج فلان، مزاعم كلها بعيدة من الصحة. إنما وجهه أن السريانيين لما كانوا أقدم في الخليقة نسب اليهم كل قديم من الأشياء، أو طبيعي كالخط واللغة والسحر والله أعلم.
وأمّا النبط فعند المسعودي أنهم من أهل بابل لقوله في ترجمتهم ذكر ملوك بابل والنبط وغيرهم المعروفين بالكلدانيين، وذكر أنّ أولهم نمروذ الجبار ونسبه الى ماش بن إرم بن سام، وذكر أنه الّذي بنى الصرح ببابل، واحتفر نهر الكوفة. ونسب النمروذ في موضع آخر الى كوش بن حام لا أدري هو أو غيره. ثم عدّ ملوكهم بعد النمروذ ستا وأربعين أو نحوها في ألف وأربعمائة من السنين بأسماء أعجمية متعذر ضبطها فتركت نقلها. إلّا أنه ذكر في الموفى منهم عدد العشرين وبعد التسعمائة من سنيهم انه الّذي غزت فارس لعهدة مدينة بابل. وذكر في الموفى عدد ثلاثة وثلاثين منهم عند الألف والأربعمائة من سنيهم انه سنجاريف الّذي حارب بني إسرائيل حاصرهم ببيت المقدس حتى أخذ الجزية منهم. وأن آخر ملوكهم دارينوش، وهو دار الّذي قتله الإسكندر لما ملك بابل. هذا ما ذكره المسعودي ولم يذكر منهم نمروذ الخليل عليه السلام. وذكر ان مدينتهم بابل وأن الّذي اختطها اسمه نير واسم امرأته شمرام ملوك السريانيين اسمان أعجميان لا وثوق لنا بضبطهما. وقال الطبري نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام صاحب إبراهيم الخليل عليه السلام. وكان يقال عاد إرم، فلما هلكوا قيل ثمود إرم، فلما هلكوا قيل نمروذ إرم، فلما هلك قيل لسائر ولد إرم أرمان فهم النبط، وكانوا على الإسلام ببابل حتى ملكهم نمروذ فدعاهم إلى عبادة الأوثان فعبدوها انتهى كلام الطبري.
وقال هروشيوش مؤرخ الروم: إنه نمروذ الجسيم، وإن بابل كانت مربعة الشكل، وكان سورها في دور ثمانين ميلا، وارتفاعه مائتا ذراع وعرضه خمسون ذراعا، وهو كله مبني بالآجرّ والرصاص، وفيه مائة باب من النحاس، وفي أعلاه مساكن الحرّاس والمقاتلة تبيت على الجانبين في سائر دورة الطريق بينهما. وحول هذا السور خندق بعيد المهوى، أجري فيه الماء، وأن الفرس هدموه، ولما تغلبوا على ملك بابل تولى ذلك منهم جيرش وهو كسرى الأوّل انتهى كلام هروشيوش.
ويظهر من كلام هؤلاء ان اسم النمروذ سمت لكل من ملك بابل لوقوعه في أهل أنساب مختلفة مرّة إلى سام ومرة إلى حام. وزعم بعض المؤرّخين أنّ نمروذ الخليل(2/81)
عليه السلام هو النمروذ بن كنعان بن سنجاريف بن النمروذ الأكبر، وأنّ بخت نصّر من عقبه وهو ابن برزاد بن سنجاريف بن النمرود [1] ، وأنّ الفرس الكينية غلبوا بخت نصّر على بابل، ثم أبقوه واستعملوه عليها، وأنّ كسرى الأوّل من بني ساسان خرب مدينة بابل. وعند الإسرائيليين وينقلونه عن كتاب دانيال وأرميا من أنبيائهم وضبط هذا الاسم يرميا انّ بخت نصّر من عقب كاسد بن حاور وهو أخو إبراهيم الخليل، وبنو كاسد هؤلاء من ملوك بابل ويعرفون بالكسدانييّن نسبة إليه، وانّ بخت نصّر منهم ملك أكثر المعمور، وغلب على بني إسرائيل، وأزال دولتهم، وخرّب بيت المقدس، وانتهى ملكه إلى مصر وما وراءها، وكان ملكه خمسا وأربعين. وملك بعده ابنه أويل مرود ثلاثا وعشرين سنة، وبعده ابنه بلينصر ثلاث سنين ثم زحف إليه دارا من ملوك الفرس وصهره كورش فحاصروه بمدينة بابل، وقال بعض الإسرائيليين ان بخت نصّر وملوك بابل من كسديم، وكسديم من عيلام بن سام وهو أخو أشوذ، ومن أشوذ ملوك الموصل انتهى الكلام في ملوك الموصل وملوك بابل.
وهذا غاية ما أدى اليه البحث من أخبارهم وأنسابهم، وكان من هؤلاء والكلدانيين دين الصابئة وهو عبادة الكواكب واستجلاب روحانيتها. ويذكر أنهم كانوا لذلك أهل عناية بأرصاد الكواكب، ومعرفة طبائها، وخلاص المولدات، وما يشابه ذلك من علوم النجوم والطلسمات والسحر، وأنهم نهجوا ذلك لأهل الربع الغربي من الأرض. وقد يشهد لذلك قراءة من قرأ: وما أنزل على الملكين بكسر اللام، مشيرا إلى أن هاروت وماروت من ملوك السريانيين، وهم أول ملوك بابل، وعلى القراءة المشهور وأنهما من الملائكة، فيكون اختصاص هذه الفتنة، والابتلاء ببابل من بين أقطار الأرض، دليلا على وفور قسطهما من صناعة السحر الّذي وقع الابتلاء به، ومما يشهد لانتحالهم السحر وفنونه من النجوم وغيرها، أنّ هذه العلوم وجدناها من منتحل أهل مصر المجاورين لهم، وكان لملوكها عناية شديدة بذلك، حتى كان من مباهاتهم موسى بذلك وحشر السحرة له ما كان، وبقايا الآثار السحريّة في برابي اخميم من صعيد مصر ما يشهد لذلك أيضا والله أعلم.
__________
[1] ورد هذا الاسم بالدال وهو الأصح وفي أماكن اخرى كثيرة بالذال.(2/82)
الخبر عن القبط وأوّلية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم
هذه الأمّة أقدم أمم العالم وأطولهم أمدا في الملك، واختصوا بملك مصر وما اليها، ملوكها من لدن الخليقة إلى أن صبحهم الإسلام بها، فانتزعها المسلمون من أيديهم. ولعهدهم كان الفتح، وربما غلب عليهم جميع من عاصرهم من الأمم حين يستفحل أمرهم مثل العمالقة والفرس والروم واليونان، فيستولون على مصر من أيديهم، ثم يتقلّص ظلهم، فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أن انقرضوا في مملكة الإسلام.
وكانوا يسمون الفراعنة سمة لملوك مصر في اللغة القديمة، ثم تغيرت اللغة وبقي هذا الاسم مجهول المعنى، كما تغيرت الحميريّة الى المضريّة، والسريانيّة إلى الروميّة.
ونسبهم في المشهور إلى حام بن نوح، وعند المسعودي إلى بنصر بن حام، وليس في التوراة ذكر لبنصر بن حام وإنما ذكر مصرايم وكوش وكنعان وقوط. وقال السهيليّ إنهم من ولد كنعان بن حام لأنه لما نسب مصر، قال فيه: مصر بن النبيط أو ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش: إنّ القبط من ولد قبط ابن لايق بن مصر. وعند الإسرائيليين أنهم من قوط بن حام.
وعند بعضهم أنهم من كفتوريم قبطقايين ومعناه القبط.
وقال المسعودي اختص بنصر بن حام أيام النمروذ ابن أخيه كنعان بولاية أرض مصر، واستبدّ بها وأوصى بالملك لابنه مصر، فاستفحل ملكه ما بين أسوان واليمن والعريش وأيلية وفرسيسة [1] ، فسميت كلها أرض مصر نسبة إليه، وفي قبليها النوبة وفي شرقيها الشام وفي شمالها بحر الزقاق وفي غربها برقة والنيل من دونها. وطال عمر مصر وكبر ولده وأوصى بالملك لأكبرهم وهو قبط بن مصر أبو الأقباط، فطال أمد ملكه وكان له بنون أربع: قبط بن مصر وأنّ مصر هو الّذي قسّم الأرض وعهد إلى أكبرهم بالملك وهو قبط، فغلب عليهم فأضيفوا إليه لمكان الملك والسنّ، وملك بعد قبط بن مصر أشمون بن مصر، ثمّ من بعده صا ثمّ أخوهما أتريب، ثم عدّ ملوكا بأسماء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فرسية.(2/84)
أعجمية بعيدة عن الضبط لعجمتها وفساد الأصول التي بين أيدينا من كتبته، ثم لما ذكر ستة منهم بعد أتريب قال: فكثر ولد بنصر بن حام وتشاغبوا وملك عليهم النساء، فسار إليهم ملك الشام من العمالقة الوليد بن دومع فملكهم وانقادوا إليه.
وأما ابن سعيد فيما نقل من كتب المشارقة فقال: ملك مصر ابنه قبط، ثم من بعده أخوه أتريب. قال: وفي أيام قبط زحف شدّاد بن مدّاد بن شدّاد بن عاد إلى مصر، وغلب على أسافلها، ومات قبط في حروبه، ثم جمع أتريب قومه واستظهر بالبربر والسودان على العرب حتى أخرجهم إلى الشام، واستبدّ اتريب بملك مصر وبنى المدينة المنسوبة إليه، ومدينة عين شمس. وملك بعده ابن أخيه البودشير بن قبط وهو الّذي بعث هرمسا المصري إلى جبل القمر حتى ركب جرية النيل من لك، وعدل البطيحة الكبرى التي تنصب إليها عيون النيل، وعمر بلاد الواحات وحول إليها جمعا من أهل بيته. ثم ملك من بعده عديم بن البودشير، ثم ابنه شدّات بن عديم، ثم ابنه منذوش بن شدّات وجدّد مدينة عين شمس. وكان لهم في السحر آثار عجيبة.
ثم ملك بعده ابنه مقلاوش بن مقناوش وعبد البقر وصوّرها من الذهب، ثم هلك وخلف ابنه مرقيش فغلب عليه عمه أشمون بن قبط، وبنى مدينة الأشمون. وملك بعده ابنه أشاد بن أشمون، ثم من بعده عمه صا بن قبط وبنى مدينة باسمه، وملك بعده ابنه ندراس وكان حكيما وهو الّذي بنى هيكل الزهرة الّذي هدمه بخت نصّر. وملك بعده ابنه ماليق بن ندراس فرفض الصابئة ودان بالتوحيد، ودوّخ بلاد البربر والأندلس، وحارب الإفرنج. وملك بعده ابنه حربيا بن ماليق فرجع عن التوحيد إلى الصابئة، وغزا بلاد الهند والسودان والشام. وملك بعده ابنه كلكي بن حربيا، وهو الّذي تسميه القبط حكيم الملوك، واتخذ هيكل زحل وعهد إلى أخيه ماليا بن حربيا، واشتغل باللهو فقتله ابنه خرطيش وكان سفّاكا للدماء، والقبط تزعم أنه فرعون الخليل عليه السلام، وأنه أول الفراعنة. ولما تعدّى بالقتل إلى أقاربه سمّته ابنته حوريّا، وملكت القبط من بعده فنازعها أبراحس من ولد عمها أتريب، وحاربته فكان لها الغلب، وانهزم أبراحس إلى الشام، فاستظهر بالكنعانيين وبعث ملكهم قائده جيرون فلما قرب مصر استقبلته حوريا وأطمعته في زواجها على أن يقتل أبراحس ويبني مدينة الاسكندرية ففعل، ثم قتلته آخرا مسموما واستقام لها الأمر، وبنت منارة الاسكندرية، وعهدت بأمرها لدليقية ابنة عمها باقوم، فخرج عليها(2/85)
أيمين من نسل أتريب طالبا بثأر قريبه ابراحس، ولحق بملك العمالقة يومئذ وهو الوليد ابن دومع الّذي ذكرناه عند ذكر العمالقة فاستنصر به وجاء معه وملك ديار مصر.
واستبدّ بالقبط نقراوس فاشتغل باللذّات، واستكفى من بنيه أطفير وهو العزيز فكفاه، وقام بأمره ودبّر له يوسف الفيوم بالوحي والهندسة، وكانت أرضها مغايض للماء فأخرجه وعمّر القرى مكانه على عدد أيام السنة، فجعله على خزائنه. وملك بعده دارم بن الريّان وسمّته القبط ويموص. وكان يوسف مدبّر أمره بوصية أبيه، ومات لعهده فأساء السيرة وهلك غريقا في النيل. وملك بعده ابنه معد انوس بن دارم فترهّب واستخلف ابنه كاشم فاستعبد بني إسرائيل للقبط، وقتله حاجبه ونصب بعده ابنه لاطش، فاشتغل باللهو فخلعه، ونصب آخر من نسل ندراس اسمه لهوب فتجبّر، وتذكر القبط انه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يقولون: إنّه الوليد بن مصعب وأنه نجارا تقلب حاله الى عرافة الحرس، ثم تطور إلى الوزارة، ثم إلى الاستبداد. وهذا بعيد لما قدّمناه في الكتاب الأوّل. وقال المسعودي: بل كان فرعون موسى من الأقباط.
ثم هلك فرعون موسى، وخشي القبط من ملوك الشام، فملّكوا عليهم دلوكة من بيت الملك وهي التي بنت الحائط على أرض مصر، ويعرف بحائط العجوز لأنها طال عمرها حتى كبرت واتخذت البرابي ومقاييس النيل. ثم سمّى المسعودي من بعد دلوكة ثمانية من ملوكهم على ذلك النحو من عجمة الأسماء، وقال في الثامن إنه فرعون الأعرج الّذي اعتصم به بنو إسرائيل من بخت نصّر، فدخل عليه مصر وقتله وهدم هياكل الصابئة ووضع بيوت النيران له ولولده. وذكر في تواريخهم قال: قال ابن عبد الحكم: وهذه العجوز دلوكة هي التي جدّدت البرابي بمصر، أرسلت إلى امرأة ساحرة كانت لعهدها اسمها ترورة، وكانت السحرة تعظّمها، فعملت بربي من حجارة وسط مدينة منف، وصوّرت فيها صور الحيوانات من ناطق وأعجم، فلا يقع شيء بتلك الصورة إلّا وقع بمثالها في الخارج. وكان لهم بذلك امتناع ممن يقصدهم من الأمم لأنهم كانوا أعلم الناس بالسحر، وأقامت عليهم عشرين سنة حتى بلغ صبي من أبنائهم اسمه دركون بطلوس فملكوه، وأقامت معه على ذلك أربعمائة سنة [1] ، ثم مات فولوا ابنه يرديس بن دركون، ومن بعده أخاه نقاس بن نقراس، ومن بعده
__________
[1] لعل المدة أربعين سنة وربما يكون الخطأ حصل في النسخ.(2/86)
مرينا بن مرينوس، ثم ابنه استمارس بن مرينا فطغى عليهم وخلعوه وقتلوه، وولوا عليهم من أشرافهم بلوطيس بن مناكيل أربعين سنة، ثم استخلف مالوس بن بلوطيس ومات، فاستخلف أخاه مناكيل بن بلوطيس ثم توفي، فاستخلف ابنه بركة ابن مناكيل فملكهم مائة وعشرين سنة، وهو فرعون الأعرج الّذي سبى أهل بيت المقدس، ويقال أنه خلع.
وقال ابن عبد الحكم: وولي من بعده ابنه مرينوس بن بركة، فاستخلف ابنه فرقون بن مرينوس فملكهم ستين سنة ثم هلك، واستخلف أخاه نقاس بن مرينوس.
وكانت البرابي كلها إذا فسد منها شيء لا يصلحه إلّا رجل من ذرية تلك العجوز الساحرة التي وضعتها، ثم انقطعت ذريتها ففسدت البرابي أيام نقاس هذا، وتجاسر الناس على طلب الملك الّذي في أيديهم، وهلك نقاس، واستخلف ابنه قومس بن نقاس، فملكهم دهرا ثم ملك بخت نصّر بيت المقدس، واستلحم بني إسرائيل وفرّقهم وقتل وخرّب ولحقوا بمصر، فأجارهم قومس ملكها وبعث فيهم بخت نصّر فمنعهم وزحف إليه وغلب عليه وقتله وخرب مدينة منف. وبقيت مصر أربعين سنة خرابا.
وسكنها أرمياء مدّة ثم بعث إليه بخت نصّر فلحق به ثم ردّ أهل مصر إلى موضعهم، وأقاموا كذلك ما شاء الله إلى أن غلب الفرس والروم على سائر الأمم، وقاتل الروم أهل مصر إلى أن وضعوا عليهم الجزى، ثم تقاسمها فارس والروم، ثم تداولوا ملكها فتوالت عليها نواب الفرس. ثم ملكها الإسكندر اليوناني وجدّد الإسكندرية، والآثار التي خارجها مثل عمود السواري ورواق الحكمة.
ثم غلب الروم على مصر والشام وأبقوا القبط في ملكها وصرفوهم في الولاية بمصر إلى أن جاء الله بالإسلام، وصاحب القبط بمصر والإسكندرية المقوقس، واسمه جريج بن مينا فيما نقله السهيليّ. فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، وجبرا مولى أبي رهم الغفاريّ، فقارب الإسلام وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته المعروفة ذكرها أهل السيركان، فيها البغلة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يركبها وتسمى دلدل، والحمار الّذي يسمّى يعفور، ومارية القبطيّة أم ولده إبراهيم وأمّها وأختها سيرين وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن، وقدح من قوارير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، وعسل استظرفه له من بنها احدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب.(2/87)
ويقال إنّ هرقل لما بلغه شأن هذه الهدية اتهمه بالميل الى الإسلام فعزله عن رياسة القبط.
وخرّج مسلم في صحيحه من رواية أبي ذرّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا افتتحتم مصر أو إنكم مستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإنّ لهم ذمّة ورحما أو صهرا.» ورواه ابن إسحاق عن الزهريّ وقال: قلت للزهري ما الرحم التي ذكر؟ قال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم. ولبعض رواة الحديث في تفسير الصهر أنّ مارية أم إبراهيم منهم، أهداها له المقوقس، وكانت من كورة حفن من عمل أنصنا. وقال الطبريّ إنّ عمرو بن العاص لما ملك مصر أخبرهم بوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم، فقال: هذا نسب لا يحفظ حقه إلّا نبيّ لأنه نسب بعيد وذكروا له أنّ هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا ووقعت بيننا وبين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها دولة فقتلوا الملك وسبوها، ومن لك تسيرت الى أبيكم إبراهيم.
ولما كمل فتح مصر والإسكندرية وارتحل الروم الى القسطنطنية، أقام المقوقس والقبط على الصلح الّذي عقده لهم عمرو بن العاص وعلى الجزى، وأبقوه على رياسة قومه، وكانوا يشاورونه فيما ينزل من المهمات إلى أن هلك، وكان ينزل الإسكندرية وفي بعض الأوقات ينزل منف من أعمال مصر. واختط عمرو بن العاص الفسطاط بموضع خيامه التي كان يحاصر مصر منها، فنزل بها المسلمون وهجروا المدينة التي كان بها المقوقس، الى أن خربت. وكان في خرابها ومهلك المقوقس انقراض أمرهم. وبقي أعقابهم الى هذا الزمان يستعملهم أهل الدول الإسلامية في حسابات الخراج، وجبايات الأموال لقيامهم عليها، وغنائهم فيها، وكفايتهم في ضبطها وتنميتها. وقد يهاجر بعضهم إلى الإسلام فترفع رتبتهم عند السلطان في الوظائف المالية التي أعلاها في الديار المصرية رتبة الوزارة، فيقلدونهم إياها ليحصل لهم بذلك قرب من السلطان وحظ عظيم في الدولة وبسطة يد في الجاه، تعدّدت منهم في ذلك رجال، وتعينت لهم بيوت قصر السلطان نظره على الاختيار منها لهذا العهد. وعامتهم يقيم على دين النصرانية الذين كانوا عليها لهذا العهد، وأكثرهم بنواحي الصعيد وسائر الأعمال متحرّفون بالفلح وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
وأمّا إقليم مصر فكان في أيام القبط والفراعنة جسورا كله بتقدير وتدبير يحبسونه(2/88)
ويرسلونه كيف شاءوا، والجنات حفاف النيل من أعلاه إلى أسفله ما بين أسوان ورشيد، وكانت مدينة منف وعين شمس، يجري الماء تحت منازلها وأفنيتها بتقدير معلوم، ذكر ذلك كله عبد الرحمن بن شماسة، وهو من خيار التابعين، يرويه عن أشياخ مصر قالوا: ومدينة عين شمس كانت هيكل الشمس، وكان فيها من الأبنية والأعمدة والملاعب ما ليس في بلد. قلت: وفي مكانها لهذا العهد ضيعة متصلة بالقاهرة يسكنها نصارى من القبط وتسمى المطريّة. قالوا: ومدينة منف مدينة الملوك قبل الفراعنة وبعدهم إلى أن خرّبها بخت نصّر كما تقدّم في دولة قومس بن نقاس، وكان فرعون ينزل مدينة منف، وكان لها سبعون بابا وبنى حيطانها بالحديد والصفر [1] ، وكانت أربعة أنهار تجري تحت سريره ذكره أبو القاسم بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك قال: وكان طولها اثني عشر ميلا، وكانت جباية مصر تسعين ألف ألف دينار مكرّرة مرتين بالدينار الفرعونيّ وهو ثلاثة مثاقيل. وانما سميت مصر بمصر بن بيصر بن حام، ويقال انه كان مع نوح في السفينة فدعا له فأسكنه الله هذه الأرض الطيبة، وجعل البركة في ولده. وحدّها طولا من برقة إلى أيلة، وعرضا من أسوان إلى رشيد. وكان أهلها صابئة، ثم حملهم الروم لما ملكوها بعد قسطنطين على النصرانية، عند ما حملوا على الأمم المجاورة لهم من الجلالقة والصقالبة وبرجان والروس والقبط والحبشة والنوبة، فدانوا كلهم بذلك ورجعوا عن دين الصابئة في تعظيم الهياكل وعبادة الأوثان، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] ربما يعنى النحاس الأصفر أو الذهب.(2/89)
الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال
قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحاق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط، وفي التوراة أنّ الله سماه إسرائيل. وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان المعجم، فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف. ثم قبض الله نبيّه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره، وأوصى أن يدفن عند أبيه، فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك، فأذن له. وأمر أهل دولته بالانطلاق معه، فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه، وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين. ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره، ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد، وهي الأرض المقدّسة.
وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم، وفي التوراة أنّ ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه، فاسترقّ بني إسرائيل واستعبدهم. ثم تحدّث الكهّان من أهل دولتهم بأنّ نبوة تظهر في بني إسرائيل، وأنّ ملكك كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك، فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدّة من الزمان حتى ولد موسى. وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب.
وأمّه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره، وموسى لثمانين، فجعلته أمّه في تابوت وألقته في ضحضاح [1] اليمّ، وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون الى البحر مع جواريها فرأته
__________
[1] في التوراة: أخذت له سفطا من البردي، وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به.(2/92)
واستخرجته من التابوت فرحمته. وقالت: هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر [1] ترضعه.
فقالت لها أخته أنا آتيكم بها. وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون، إلى أن فصل.
فأتت به إلى ابنة فرعون وسمّته موسى وأسلمته لها. ونشأ عندها ثم شب، وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع فهم لذلك أخواله، فرأى عبرانيا يضربه مصريّ فقتل المصري الّذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره، فقال له ومن جعل لك هذا؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس. ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه، وهرب موسى إلى أرض مدين [2] عند عقبة أيلة.
وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك وكان ذلك لأربعين سنة من عمره، فلقى عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما، وجاءتا به الى أبيهما فزوّجه بإحداهما، كما وقع في القرآن الكريم، وأكثر المفسّرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ:
الّذي استأجر موسى وزوّجه بنته رعويل [3] وهو بيتر حبر مدين، أي عالمهم، وأن رعويل هو الّذي زوّجه البنت وأنّ اسمه يبتر. وعن الحسن البصريّ انه شعيب رئيس بني مدين. وقيل انه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه. فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربّه، إلى أن جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة، وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط، وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فخرجا إليه وبلّغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون وبلّغاه أمر الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا، فكان من تكذيبه وامتناعه واحضار السحرة لما رأى موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصّه القرآن العظيم.
ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته، واشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم
__________
[1] الظئر: ج أظؤر وأظآر: المرضعة لولد غيرها (قاموس)
[2] وفي التوراة: مديان.
[3] وفي التوراة: رعوئيل(2/93)
واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها، ويتضرع الى موسى في الدعاء بانجلائها، إلى أن أوحى الله الى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر. ففي التوراة انهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم ان كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم ان كان أكثر، وان ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة، وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه، ومعناه لا يكسرون منه عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده، وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه [1] بالنار، وشرع هذا عيدا لهم ولا عقابهم ويسمّى عيد الفصح.
وفي التوراة أيضا انه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل. وأنّهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون. وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الّذي كان به بإلهام من الله تعالى، وساروا لوجههم حتى انتهوا الى ساحل البحر بجانب الطور. وأدركهم فرعون وجنوده، وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، فضربه فانفلق طرقا. وسار فيها بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه، فهلكوا، ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور، وسبّحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهو: نسبّح الرب البهي، الّذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود الى آخره. قالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتّل لهنّ التسبيح سبحان الرب القهّار الّذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو معنى الأوّل.
ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتابعة، ونزول الألواح، ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة وهي: كلمة التوحيد، والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه، وبرّ الوالدين ليطول العمر، والنهي
__________
[1] الأصح ان يقول يحرقونه.(2/94)
عن القتل، والزنا، والسرقة، وشهادة الزور، ولا تمتدّ عين إلى بيت صاحبه، أو امرأته، أو لشيء من متاعه. هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح.
وكان سبب نزول الألواح أن بني إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سينا صعد موسى إلى الجبل، فكلمه ربّه وأمره أن يذكّر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام، ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد، ففعلوا وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا، وقاموا في سفح الجبل دهشين، ثم غشي الجبل دخان في وسطه عمود نور وتزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة، واشتدّ صوت الرعد الّذي كانوا يسمعونه، وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرّب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف، قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيد ففعل، وجاءهم بالألواح.
ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة، فكلمه ربه وسأله الرؤية، فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل، وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم. وكان حين سار الى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، واستبطئوا موسى، وكان هارون قد أخبرهم بأنّ الحلي الّذي أخذوه للقبط محرّم عليهم، فأرادوا حرقة وأوقدوا عليه النار. وجاء السامريّ في شيعة له من بني إسرائيل، وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول، فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا، وعبده بنو إسرائيل، وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم. وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته، فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح، ويقال كسرها، وأبدل غيرها من الحجارة، وعند بني إسرائيل انهما اثنان، وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين، ثم أخذ برأس أخيه ووبّخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل، وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر.
وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل الى الطور بلغ خبره الى بيثر [1] صهره من بني مدين، فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوّجها به أبوها رعويل كما تقدّم، ومعها ابناها من موسى وهما جرشون وعازر، فتلقّاها موسى صلوات الله عليه بالبرّ والكرامة وعظمه بنو إسرائيل، ورأى كثرة الخصومات
__________
[1] وفي التوراة: يثرون.(2/95)
على موسى، فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كلّ مائة أو خمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس، وتفصل أنت فيما أهم وأشكل، ففعل ذلك.
ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد، ويقال هو السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام، وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضّة على أركانها صوّر منها صور الملائكة الكروبيّين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله، ولها عشر سرادقات مقدّرة الطول والعرض، وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ، وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة، وفي كلّ زاوية بابان وأبواب وستور من حرير، وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة. وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفّحا بالذهب الخالص من داخل وخارج، وله أربع حلق في أربع زوايا، وعلى حافته كروبيّان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة ويكونان متقابلين، وان يصنع ذلك كله فلان شخص معروف من بني إسرائيل. وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب، وإكليل ذهب، بحافة مرتفعة باكليل ذهب، وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرّمانة من خشب ملبّس ذهبا، وصحافا ومصافي وقصاعا على المائدة كلها من ذهب. وان يعمل منارة من ذهب، بست قصبات من كلّ جانب ثلاث وعلى كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربعة قناديل، ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب. وأن يعمل مذبحا للقربان، ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف.
ونصبت هذه القبّة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال هذه القبّة كثيرا وفيها: أنّ قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل، وأنها كانت كالكعبة يصلّون إليها وفيها، ويتقرّبون عندها، وأنّ أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك، وأنّ موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجّدا للَّه عز وجل، ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الّذي هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيّين. فإذا فصل(2/96)
الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء، يجيء إلى قبّة القربان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة.
ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر، وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أنّ تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم بمسيرهم إليها، وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وضرب عليهم الغزو ورتب المصاف والميمنة والميسرة، وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب، وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم، وأسقط عنهم القتال لخدمة القبّة، وسار على التعبية سالكا على برية فاران، وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين.
كان منهم كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب، ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، فاستطابوا البلاد واستعظمو العدوّ من الكنعانيين والعمالقة، ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر وخذلوهم، إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. وخامر بنو إسرائيل عن اللقاء، وأبوا من السير الى عدوّهم، والأرض التي ملكهم الله، إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم.
فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدّسة أحد من ذلك الجيل إلا كالبا ويوشع. وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الّذي بعدهم، فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران، يتردّدون حوالي جبال الشراة، وأرض ساعير، وأرض بلاد الكرك والشوبك، وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه، وشكوا الجوع، فبعث الله لهم المنّ حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة، فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم. ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر، وهو طير السماني، فيأكلون منه، ويدّخرون ثم طلبوا الماء، فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن(2/97)
يصهر بن قاهث، وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث، فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى، واعتمدوا مناصبته فاصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحوا عبرة للمعتبرين. واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدوّ، ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم، فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم، وحال دون ذلك.
ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره، ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر، وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم، وقام بأمره الّذي كان يقوم به ابنه العيزار [1] ، ثم زحف بنو إسرائيل الى بعض ملوك كنعان، فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم، وبعثوا الى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية، فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده الى حدّ بني عمّون، ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عوق، وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه، وورثوا أرضهم الى الأردن بناحية أريحا. وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل، واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم، ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمّون وبني مؤاب، وكان مجاب الدعوة معبّرا للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه، وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء، وألحّ عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة، وأراه معسكر بني إسرائيل منها، فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وانهم يملكون الى الموصل. ثم تخرج أمّة من أرض الروم فيغلبون عليهم، فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده.
وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان، فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا. ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل، فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل. ثم أمر الله موسى وألعازر بن هارون بإحصاء بني
__________
[1] وفي التوراة اسمه: اليعازر.(2/98)
إسرائيل بعد فناء الجيل الّذي أحصاهم موسى وهارون ببرية سينا، وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض، وان يبعث بعثا من بني إسرائيل الى مدين الذين أعانوا بني مؤاب، فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن العيزر بن العزر بن هارون، فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم، وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه للَّه، وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا. ثم قسّم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمّون وبني مؤاب، ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطئ الأردن، وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم. ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمّون وعن أرضهم. وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام، وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره، بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ليسكنوها، ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها، ودفن بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد.
وقال الطبريّ: مدّة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة، منها في أيام أفريدون عشرون، ومنها في أيام منوجهر مائة. قال: ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا، فهزم الجبارين ودخلها عليهم. وقال السدّي: إنّ يوشع تنبّأ بعد موسى، وسار إلى أريحا فهزم الجبّارين، ودخلها عليهم، وأن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع، فلم يستجب له، وصرف دعاؤه على الجبّارين. وكان بلعام من قرى البلقاء، وكان عنده الاسم الأعظم، فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع، وألحّوا عليه فأجاب، ودعا فصرف دعاؤه، وكان قيامه للدّعاء على جبل حسّان مطلا على عسكر بني إسرائيل، هذا خبر السدّي في أنّ دعاء بلعام كان لعهد يوشع. والّذي في التوراة أنّه كان لعهد موسى، وأنّ بلعام قتل لعهد موسى كما مرّ في خبر الطبريّ.
وقال السدّي: إنّ يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر، فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وقاتل الكنعانيين فهزمهم، وأنّ الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس [1] حتى تمت عليهم
__________
[1] وفي الطبري ج 1 ص 228: فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى أمسوا وغربت الشمس ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: انك في طاعة الله وانا في طاعة الله اللَّهمّ اردد عليّ الشمس فردّت عليه الشمس.(2/99)
الهزيمة، ثم نازل أريحاء ستة أشهر [1] ، وفي السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها. وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله. هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا.
وفي كتب الأخباريين أن العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك. وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهميّ:
ألم تر أنّ العلقميّ بن هوبر ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزّعا
ترامت عليه من يهود جحافل ... ثمانون ألفا حاسرين ودرعا
ذكره المسعودي وقد تقدّم لنا خلاف النسّابة في هؤلاء العمالقة وأنهم لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني، لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب. وأما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد، فأكثرهم لبني كنعان. وقد تقدّمت شعوبهم، وبنو أروم أبناء عمّون، وبنو مؤاب أبناء لوط، وثلاثتهم أهل يستعير [2] وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقاء، ثم بنو فلسطين من بني حام ويسمى ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم، ثم بنو مدين ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا، وأما غيرها فلم يكن لهم فيها إلّا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها.
وفي كتب الأخباريين أنّ بني إسرائيل بعد ملكهم الشام، بعثوا بعوثهم إلى الحجاز، ولك يومئذ أمّة من العمالقة يسمّون جاسم، وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم، وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم. فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا
__________
[1] يتفق ابن خلدون مع الطبري وابن الأثير حول المدة التي حاصر يوشع مدينة أريحا ففي الطبري ج 1 ص 228 «فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة» وفي الكامل ج 1 ص 202 وقيل بل حصرها ستة أشهر فلما كان السابع تقدموا الى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور» .
اما ابو الفداء فيذكر ان مدة حصار أريحا كانت ستة أيام ويوافق ذلك ما ذكر في التوراة، الاصحاح السادس من سفر يوشع: «ان الحصار كان ستة أيام وفي اليوم السابع سقط السور» .
[2] وفي نسخة اخرى: يسعير.(2/100)
الأرقم، استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته. ولما رجعوا من بعد الفتح، وبّخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام وأرجعوهم إلى الحجاز، وما تملكوا من أرض يثرب، فنزلوها واستتم لهم فتح في نواحيها، ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير.
قال ابن إسحاق قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج. وقال ابن الصريح: ابن التومان بن السبط بن أليسع بن سعد ابن لاوى بن النّمام بن يتحوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام، واليهود لا يعرفون هذه القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم.
الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع الى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت
ولما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح، وتمهيد الأمر، ضيّع بنو إسرائيل الشريعة، وما أوصاهم به وحذرهم من خلافه، فاستطالت عليهم الأمم الذين كانوا بالشام، وطمعوا فيهم من كل ناحية. وكان أمرهم شورى فيختارون للحكم في عامتهم من شاءوا، ويدفعون للحرب من يقوم بها من أسباطهم، ولهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئا من أمرهم، وتارة يكون نبيا يدبرهم بالوحي، وأقاموا على ذلك نحوا من ثلاثمائة سنة لم يكن لهم فيها ملك مستفحل، والملوك تناوشهم من كل جهة، إلى أن طلبوا من نبيهم شمويل أن يبعث عليهم ملكا، فكان طالوت، ومن بعده داود، فاستفحل ملكهم يومئذ وقهروا أعداءهم، على ما يأتي ذكره بعد. وتسمّى هذه المدة بين يوشع وطالوت مدّة الحكّام ومدّة الشيوخ.
وأنا الآن أذكر من كان فيها من الحكّام على التتابع معتمدا على الصحيح منه، على ما وقع في كتاب الطبريّ والمسعودي، ومقابلا به ما نقله صاحب حماة [1] من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام والملوك من الإسرائيليات، وما نقله أيضا هروشيوش مؤرّخ الروم في كتابه الّذي ترجمه للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى وترجمانهم بقرطبة وقاسم بن أصبغ. قالوا كلهم: لما فتح يوشع مدينة أريحاء سار إلى نابلس فملكها ودفن هنالك شلو [2] يوسف عليه السلام، وكانوا حملوه معهم
__________
[1] يعني أبي الفداء
[2] يعني وفاة يوسف عليه السلام.(2/101)
عند خروجهم من مصر. وقد ذكرنا انه كان أوصى بذلك عند موته. وقال الطبريّ: إنّه بعد فتح أريحاء نهض الى بلد عاي من ملوك كنعان، فقتل الملك وأحرق المدينة، وتلقاه خيقون ملك عمّان، وبارق ملك أورشليم بالجزي واستذمّوا [3] بأمانه فأمنهم. وزحف إلى خيقون ملك الأرمانيّين من نواحي دمشق فاستنجد بيوشع، فهزم يوشع ملك الأرمن إلى حوران واستلحمهم وصلب ملوكهم، وتتبع سائر الملوك بالشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا. وملك قيساريّة، وقسم الأرض التي ملكها بين بني إسرائيل، وأعطى جبل المقدس لكالب ابن يوفنّا فسكن مدينة أورشليم، وأقام مع بني يهودا، ووضع القبّة التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس. وأما بنو أفرايم فكانوا يأخذون الجزية من الكنعانيين، ثم قبض يوشع وفي سفر الحكّام أنه قبض لثمان وعشرين سنة من ملكه، وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقال الطبريّ: ابن مائة وستة وعشرين سنة. والأول أصح. قال: وكان تدبير يوشع لبني إسرائيل في زمن منوشهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين. وقال أيضا: إنّ ملك اليمن شمر بن الأملوك من حمير كان لعهد موسى وبني ظفّار وأخرج منها العمالقة. ويقال أيضا: كان من عمّال الفرس على اليمن. وزعم هشام بن محمد الكلبي أن الفلّ من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن صيفي من سواحل الشام، في غزاته الى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك، وأنه أنزلهم بإفريقية، فمنهم البربر وترك معهم صنهاجة وكتامة من قبائل حمير انتهى.
وقام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن يهودا وقد مرّ نسبه، وكان فنحاص بن العيزر بن هارون كوهنا، يتولى أمر صلاتهم وقربانهم، ثم تنبأ وتنبّأ أبوه العيزر وكان كالب مضعفا فأقاما كذلك سبع عشرة سنة. وقال الطبريّ كان مع كالف في تدبيرهم حزقيل بن يودي، ويقال له ولد العجوز لأنه ولد بعد أن كبرت أمّه وعقمت. وحدث عن وهب بن منبّه أنّ حزقيل هذا دبّرهم بعد كالب ولم يقع لهذا ذكر في سفر الحكّام. ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون لحرب الكنعانيين، فغلبوهم وقتلوهم، وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها، ثم فتحوا غزّة وعسقلان وملكوا الجبل كله، ولم يقتلوا الغور. وأما سبط بنيامين فكان في قسمهم
__________
[3] اي دخلوا في ذمته.(2/102)
بلد اليونانيين في أرضهم، وأخذوا منهم الخراج واختلطوا بهم، وعبدوا آلهتهم فسلّط الله عليهم ملك الجزيرة واسمه كوشان شقنائم، ومعناه أظلم الظالمين. ويقال إنه ملك الأرمن في الجزيرة ودمشق وملك حوران وصيدا وحرّان ويقال والبحرين ويقال انه من أدوم.
وقال الطبريّ: من نسل لوط فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب بن يوفنّا، ثم ولي الحكم فيهم عثينئال ابن أخيه قنّاز ابن يوفنّا فحاربهم كوشان هذا، وأزال ملكته عن بني إسرائيل، ثم حاربه فقتله وكان له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب وبني عمّون أسباط لوط ومع العماليق إلى أن هلك لأربعين سنة من دولته. ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان من بعده فسلّط الله عليهم ملك بني مؤاب واسمه عفلون، بعين مهملة ومعجمة ساكنة ولام مضمومة تجلب واوا ساكنة ونون بعدها، فاستعبدهم ثماني عشرة سنة. ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم، وقال ابن حزم: من بنيامين، وضبطه بهمزة ممالة تجلب ياء ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم ذال معجمة فأنقذهم من يد بني مؤاب وقتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك.
وهو أنه جاءه رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا وتحف منهم حتى إذا خلا به طعنه فأنفذه ولحق بمكانه من جبل أفرايم، ثم اجتمعوا ونزلوا فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة آلاف، وغلب ببني إسرائيل بني مؤاب واستلحمهم وهلك لثمانين سنة من دولته.
وقام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد، وضبطه بفتح الشين المثلثة بعدها ميم ساكنة وكاف تقرب من مخرج الجيم ويجلب فتحها الفا وبعدها راء مهملة، ومات لسنة من ولايته وبنو إسرائيل على حيالهم من المخالفة، فسلّط الله عليهم ملك كنعان واسمه يافين، بفاء شفوية تقرب من الباء، فسرّح إليهم قائده سميرا فملك عليهم أمرهم واستعبدهم عشرين سنة. وكانت فيهم كوهنة امرأة متنبّئة اسمها دافورا بفاء هوائية تقرب من الباء، وهي من سبط نفطالي، وقيل من سبط أفرايم، وقيل كان زوجها بارق ابن أبي نوعم من سبط نفطالي واسمه البيدوق، فدعته إلى حرب سميرا فأبى إلّا أن تكون معه فخرجت ببني إسرائيل، وهزموا الكنعانيين، وقتل قائدهم سميرا وقامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق بن أبي نوعم. قال هروشيوش: وعلى عهدها كان أول ملوك الروم الطينيين بأنطاكيّة بنقش بن شطونش(2/103)
وهو أبو القياصرة. ثم توفيت دافورا وبقي بنو إسرائيل فوضى وعادوا إلى كفرهم فسلّط الله عليهم أهل مدين والعمالقة.
قال الطبريّ: وبنو لوط الذين بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين، ثم تنبأ فيهم من سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش، وضبطه بفتح الكاف القريبة من الجيم وسكون الدال المهملة بعدها وعين مهملة مضمومة تجلب واوا وبعدها نون، فقام بتدبيرهم. وقد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح والآخر صلمناع، فبعث إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديب وزديف، وأهمّ بني إسرائيل شأنهم، فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين، وغنموا منهم أموالا جمة، ومكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم، وغلب لأعدائهم أربعين سنة، وكان له من الولد سبعون ولدا، وعلى عهده بنيت مدينة طرسوس. وقال جرجيس بن العميد:
وملطية أيضا. ولما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ، وكانت أمّه من بني شخام [1] ابن منشى بن يوسف من أهل نابلس، فانجدوه بالمال وقتل بني أبيب كلهم ثم نازعوه بنو شخام أخواله الأمر، وطالت حروبه معهم، وهلك محاصرا لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه. فقال لصاحب سلاحه أجهز عليّ لئلا يقال قتلته امرأة. وذلك لثلاث سنين من ولايته.
ثم دبّر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود من سبط يساخر، وضبطه بطاء قريبة من التاء تجلب ضمتها واوا ثم لام ألف ثم عين. وقال الطبريّ هو ابن خال أبي مليخ وابن عمه. (قلت) : والظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا غير سبط ذاك. وقال ابن العميد: هو من سبط يساخر إلا أنه كان نازلا في سائر من جبل أفراييم. فمن هنا والله أعلم وقع اللبس في نسبه، ودبّرهم ثلاثا وعشرين سنة. قال هروشيوش: وعلى عهده كان بمدينة طرونيّة من ملوك الروم اللطينيين برمامش بن بنقش. وملك ثلاثين سنة وقد مضى ذكره. ولما هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف وضبطه بياء مثناة تحتية مفتوحة وألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى ثم راء مهملة، وقام في تدبيرهم اثنتين وعشرين سنة، ونصب أولاده كلهم حكّاما في بني إسرائيل وكانوا نحوا من ثلاثين، فلما هلك طغوا وعبدوا الأصنام،
__________
[1] وفي نسخة اخرى: سخام.
(1) وفي التوراة نفتالي.(2/104)
فسلّط الله عليهم بني فلسطين وبني عمّون فقهروهم ثماني عشرة سنة.
وقام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى، وضبطه بياء مثنّاة تحتانية وفاء ساكنة وتاء مثناة من فوق بفتحة تجلب ألفا ثم حاء مهملة، فلما قام بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمّون فامتنعوا من إعطائها وكانوا ملوكا منذ ثلاثمائة سنة، فقاتلهم وغلبهم عليها وعلى اثنتين وعشرين قرية معها، ثم حارب سبط أفراييم وكانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل، فارادهم على اتفاق الكلمة والدخول في الجماعة حتى استقاموا على ذلك، وأقام في تدبيرهم ست سنين. وعلى عهده أصابت بلاد يونان المجاعة العظيمة التي هلك فيها أكثرهم.
ولما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم، وضبطه بهمزة مفتوحة وباء موحدة ساكنة وصاد مهملة بفتحة تجلب ألفا وبعدها نون، ويقال أنه جدّ داود عليه السلام، بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناذاب بن رمّ بن حصرون بن بارص بن يهودا. وحصرون هذا هو جدّ كالب بن يوفنّا الّذي دبرهم بعد يوشع. ونحشون كان سيّد بني يهود العهد خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام، وهلك في التيه.
ودخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع ونزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس.
قال هروشيوش: في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين، وخروج القوط وحروبهم مع النبط.
وأقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين ثم ملك. فقام بتدبيرهم إيلون من سبط زبولون وضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب واوا ثم نون، فدبّرهم عشر سنين ثم هلك. فدبّرهم عبدون بن هلال من سبط أفراييم ثمان سنين. وقال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان وكان له أربعون ابنا وثلاثون حافدا. قال هروشيوش: وفي أيامه خربت مدينة طرونة قاعدة الروم اللطينيين خربها الروم الغريقيون [1] في فتنة بينهم. ولما هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة واختلف بنو إسرائيل بعده وعبدوا الأصنام وسلّط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة، ثم تخلصهم [2] من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان، ويعرف بشمشون القوي لفضل قوّة كانت في يده ويعرف أيضا بالجبّار
__________
[1] يعني الروم الاغريقيين.
[2] الأصح أن يقول «خلّصهم» .(2/105)
وكان عظيم سبطه، ودبّر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة، وكثرت حروبه مع بني فلسطين، وأثخن فيهم وأتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه. واستدعاه ملكهم بعض الأيام الى بيت آلهتهم ليكلمه فامسك عمود البيت، وهزه بيده فسقط البيت على من فيه وماتوا جميعا.
ولما هلك اضطربت بنو إسرائيل وافترقت كلمتهم وانفرد كل سبط بحاكم يولونه منهم، والكهنونية فيهم جميعا في عقب العيزار بن هارون من لدن وفاة هارون عليه السلام بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي، ومعنى الكهنونية إقامة القرابين من الذبح والبخور على شروطها وأحكامها الشرعية عندهم. وقال ابن العميد: إنه ولي تدبيرهم بعد شمشون حاكم آخر اسمه ميخائيل بن راعيل، دبرهم ثمان سنين، ولم تكن طاعته فيهم مستحكمة، وأنّ الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم.
ثم سكنت الفتنة وكان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطات بن حاصاب بن إليان بن فنحاص بن العيزار بن هارون، وقيل من ولد ايتامار بن هارون، وضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية. فلما سكنت الفتنة كانوا يجرعون إليه في أحكامهم وحروبهم. وكان له ابنان عاصيان، فدفعهما إلى ذلك، وكثر لعهده قتال بني فلسطين، وفشا المنكر من ولديه، وأمر بدفعهم عن ذلك فلم يزدادوا إلّا عتوا وطغيانا، وأنذر الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده، ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم وأصابوا منهم، فتذامر بنو إسرائيل، واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد، ولقيهم بنو فلسطين، فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا ابنا عالي كوهن كما أنذر به أبو هما وشمويل. وبلغ أبا هما الكوهن خبر مقتلهما فمات أسفا لأربعين سنة من دولته، وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه، واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزّة، وضربوا الجزية على بني إسرائيل، ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبريّ، وضعوه عند آلهتهم فقلاها مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية، فأصيبوا فتبادروا بإخراجه وحملوه على بقرتين لهما تبيعان ووضعتاه عند أرض بني إسرائيل، ورجعتا إلى ولديهما وأقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنوا منه أحد إلا مات حتى أذن شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما وهي أرملة فكان لك حتى ملك طالوت أهـ. وكان ردّهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه، وكان عالي الكوهن(2/106)
قد كفل ابن عمه شمويل بن الكنا بن يوام بن إلياهد بن ياو بن سوف. وسوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص.
وقيل إن شمويل من عقب فورح وهو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوى. ونسبه إليه شمويل بن الفنا بن يروحام بن اليهوذ بن يوحا بن صوب بن ألقافا بن يويل بن عزير ابن صنعينا بن ثاحت بن أسر بن القانا بن النشاسات بن قارون. وكانت أمه نذرت أن تجعله خادما في المسجد، وألقته لك فكفله عالي وأوصى له بالكهونية، ثم أكرمه الله بالنّبوّة، وولاه بنو إسرائيل أحكامهم فدبرهم عشر سنين. وقال جرجيس بن العميد: عشرين سنة ونهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا وحاربوا أهل فلسطين واستردّوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى والبلاد، واستقام أمرهم ثم دفع الأمر الى ابنيه يؤال وأبيا، وكانت سيرتهما سيئة. فاجتمع بنو إسرائيل الى شمويل، وطلبوه أن يسأل الله في ولاية ملك عليهم، فجاء الوحي بولاية طالوت. فولاه وصار أمر بني إسرائيل ملكا بعد أن كان مشيخة، والله معقب الأمر بحكمته لا رب غيره.(2/107)
الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا وبنيامين بالقدس الى انقراضها
لما نقم بنو إسرائيل على يؤال وأبيا ابني شمويل ما نقموا من أمورهم، واجتمعوا إلى شمويل، وسألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم، فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت ويدهنه بدهن القدس، فأبوا بعد أن أمر شمويل بأن يستهموا عليه، فاستهموا على بني آبائهم، فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه، واسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل، بالفاء الهوائية القريبة من الباء، ابن صاروا بن نحورت بن أفياح، فقام بملكهم، واستوزر أفنين ابن عمه نير بن أفيل. وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات وأنبياداف. وقام طالوت بملك بني إسرائيل، وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين فغلب جميعهم، ونصر بنو إسرائيل نصرا لا كفاء له. وأوّل من زحف إليهم ملك بني عمّون ونازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت، وهو في ثلاثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم، ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل الى فلسطين فنال منهم، واجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا واستلحمهم بنو إسرائيل، وأمر شمويل أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل، واستبقى ملكهم أعّاع مع بعض الأنام، فجاء الوحي الى شمويل بأنّ الله قد سخطه وسلبه الملك فخبره بذلك، وهجره شمويل فلم يره بعد.
وأمر شمويل أن يقدس داود، وبعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم، وجاء به أبوه أيشا فمسحه شمويل، وسلب طالوت روح الجسد، وحزن لذلك ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين الى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا، وكان صغيرا يرعى الغنم لأبيه، وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطىء. قال الطبريّ: وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت، وأعطاه علامة قاتلة، فاعترض بني إسرائيل حتى رأى(2/109)
العلامة فيه فسلمه وأقام في المصاف. وقد احتمل الحجارة في مخلاته، فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكّه في رأسه ومات، وانهزم بنو فلسطين، وحصل النصر.
فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوّجه ابنته، وجعله صاحب سلاحه، ثم ولاه على الحروب فاستكفى به. وكان عمره حينئذ فيما قال الطبريّ ثلاثين سنة. وأحبه بنو إسرائيل، واشتملوا عليه، وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه، وهمّ بقتله ونفذ لذلك مرارا، ثم حمل ابنه يهونتان على قتله، فلم يفعل لخلة ومصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه، فلحق بفلسطين وأقام فيهم أياما، ثم إلى بني مؤاب كذلك، ثم رجع الى سبطه يهوذا بنواحي بيت المقدس، فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم، حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه اليه، فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم، ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه، واتبعوه وأولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع وبنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه. وذلك فيما قال الطبريّ لأربعين سنة من ملكه.
ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم، وهو داود بن إيشا بن عوفذ، بالفاء الهوائية، ابن بوغر واسمه أفصان بالفاء، الهوائية والصاد المشمة. وقد قدّمنا ذكره في حكّام بني إسرائيل بن سلمون الّذي نزل بيت لحم لأوّل الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن عميناذاب بن إرم بن حصرون بن بارص بن يهوذا، هكذا نسبه في كتاب اليهود والنصارى، وأنكره ابن حزم قال: لأن نحشون مات بالتيه وإنما دخل القدس ابنه سلمون، وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائة سنة باتفاق منهم، والّذي بين داود ونحشون أربعة آباء، فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد.
ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية، وهي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد، واجتمع الأسباق كلهم إلى يشوشات بن طالوت، فملكه في أورشليم وقام بأمره وزير أبيه أفيند وقد مرّ نسبه.
وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات أنّ رجلا جاء الداود بعد وفاة طالوت، فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين، وأمر هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه، فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود، وانتسب الى العمالقة، فقتله(2/110)
داود بقتله، وبكى على طالوت، وذهب الى سبط يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء، وهي قرية الخليل لهذا العهد، وأقام شيوشيات [1] بن طالوت في أورشليم، والأسباط كلهم مجتمعون عليه، وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين، ثم وقع الصلح بينهم والمهادنة، وأذعن الأسباط الى داود وتركوه، ثم اغتاله بعض قواده وجاء برأسه الى داود فقتله به. وأظهر عليه الحزن والأسف وكفل أخواته وبنيه أحسن كفالة.
واستبدّ داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان فغلبهم، ثم طالت حروبه مع بني فلسطين، واستولى على كثير من بلادهم، ورتب عليهم الخراج. ثم حارب أهل مؤاب وعمّون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب عليهم الجزية، ثم خرّب بلادهم بعد ذلك، وضرب الجزية على الأرمن بدمشق وحلب، وبعث العمّال لقبضها. وصانعه ملك انطاكية بالهدايا والتحف، واختط مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها. فأوحى الله الى دانيال نبيّ على عهده أنّ داود لا يبني وانما يبنيه ابنه ويدوم ملكه فسرّ داود بذلك. ثم انتقض عليه ابنه ابشلوم، وقتل أخاه أمون غيرة منه على شقيقه بأمان وهرب. ثم استماله داود ورده، وأهدر دم أخيه وصيّر له الحكم بين الناس. ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط، ولحق داود بأطراف الشام وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز، ثم تراجع للحرب فهزمه داود وأدركه يؤاب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله، وقتل في الهزيمة عشرون ألف من بني إسرائيل، وسيق رأس قشلوط لوليّ أبيه داود فبكى عليه وحزن طويلا، واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه. ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف، وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف. وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير اذن، وأخبره بذلك بعض الأنبياء لعهده.
وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه والوحي يتتابع عليه، وسور الزبور تنزل. وكان يسبح بالأوتار والمزامير، وأكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح وشأنه. وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبح بالمزامير قدّام تابوت العهد اثني عشر كوهنا لكلّ
__________
[1] وهكذا بالأصل. وفي مكان آخر يشوشات وفي الشجرة: أشوشان.(2/111)
ساعة. ثم عهد عند تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما، ومسحه مابان النبي وصادوق الخبر مسحة التقديس، وأوصى ببناء بيت المقدس.
ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم، وكان لعهده من الأنبياء نامان وكاد وآصاف. وكان الكهنون الأعظم افيثار بن أحيلج من عقب عالي الكوهن الّذي ذكرناه في الحكام، وكان من بعده صادوق.
ثم قام بالملك من بعده من بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فاستفحل ملكه وغالب الأمم، وضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن، وأصهر إليه لملوك من كل ناحية ببناتهم، وكان ممن تزوّج بنت فرعون مصر. وكان وزيره يؤاب بن نيثرا وهو ابن أخت داود اسمها صوريا، وكان وزيرا لداود فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك، واستوزر يشوع بن شيداح [1] ، ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك، فلم يزل إلى آخر دولته بعد ان هدم مدينة انطاكية وبنى مدينة تدمر في البرية وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان، وأجرى على الفعلة فيه في كل عام عشرين ألف كرّ [2] من الطعام ومثلها من الزيت ومثلها من الخمر. وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفا ولنحت الحجارة ثمانين ألفا وخدمة المناولة سبعون ألفا، وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل.
ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين. وجعل بدائرة كله أروقة وفوقها مناظر، وجعل بدائر البيت ابريدا من خارج، ونمقه وجعل الظهر مقوّرا ليودع فيه تابوت العهد. وصفّح البيت من داخله وسقفه بالذهب، وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب وهما تمثالان للملائكة الكروبيين، وجعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر، ونقش عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن وغشاها كلها بالذهب. وأتمّ بناء الهيكل في سبع سنين، وجعل لها بابا من ذهب، ثم بنى بيتا لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة عشر عمودا، ووضع فيه مائتي
__________
[1] وفي التوراة: يشوع بن شيراخ.
[2] الكرّ: مكيال قيل انه أربعون اردبا (قاموس) .(2/112)
ترس من الذهب، في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر والزمرد، وثلاثمائة درقة من الذهب، في كل درقة ثلاثمائة من حجر الياقوت، وسمى هذا البيت غيضة لبنان.
وصنع منبرا لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب. ثم بنى من فوق هذا البناء بيتا لابنة فرعون التي تزوج بها، وصنع بها أوعية النحاس لسائر ما يحتاج إليه بالبيت، واسترضى الصناع لذلك من مدينة صور. وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب، ومائدة الخبز الوجوه من الذهب، وخمس منابر عن بمين الهيكل، وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب، ومجامر من الذهب.
وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت، وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الّذي بناه له، فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية على كواهلهم حتى وضعوه تحت أجنحة التمثالين للكروبيين بالمسجد. وكان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذين صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة، وحملوا مع تابوت العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد.
وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود، اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنتين وعشرين ألفا من البقر، ثم كان يقرّب ثلاث مرات من السنة قرابين وذبائح كاملة، ويبخر البخور وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب. وكانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستون قنطارا من الذهب، غير الهدايا والقربان إلى بيت المقدس.
وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود والطواويس، وكانت له خيل كثيرة مرتبة تجلب من مصر وغيرها تبلغ الفا وستمائة فرس معدة كلها للحرب. وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وسرية منها ثلاثمائة سرية. وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى الحرم واقام به ما شاء الله، وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه فوافى صنعاء من يومه، وطلب الهدهد لالتماس الوضوء، وكانت قناقنه أي ملتمس الوضوء له في الأرض فافتقده، ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن. ودافعته بالهدية فلم يقبلها، فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته، وملكته أمرها ووافته بملك اليمن، وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال لا بدّ في الدين من ذلك. فقالت زوّجني ذا تبّع ملك همدان فزوّجها إياه وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام. وقيل تزوّجها وأمر الجنّ فبنوا لها سليمين(2/113)
وغمدان. وكان يزورها في الشهر مرّة يقيم عندها ثلاثا، وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن، وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبإ، وانها وفدت عليه في أورشليم، وأهدت إليه مائة وعشرين قنطارا من الذهب، ولؤلؤا وجوهرا وأصنافا من الطيب والمسك والعنبر فأجازها وأحسن إليها. وانصرفت، هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم.
ثم انتقض على سليمان آخر أيامه هدرور ملك الأرمن بدمشق، وهداد ملك أدوم، وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس وجميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم، واستكفى به في ذلك، وكان جبارا فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته فأراد قتله، وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر، فأنكحه فرعون ابنته وولدت له ابنه ناباط وأقام بمصر.
وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه، وقيل اثنتين وخمسين، ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما. وافترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى.(2/114)
الخبر عن افتراق بنى إسرائيل منهم ببيت المقدس على سبط يهوذا وبنيامين الى انقراضه
لما قبض سليمان صلوات الله عليه وسلامه، ولي ابنه رحبعم [1] ، وضبطه براء مهملة وحاء مهملة مضمومتين وباء موّحدة ساكنة وعين مهملة مضمومة وميم، فقام بأمره وزاد في عمارة بيت لحم وغزّة وصور وأيلة، واشتدّ على بني إسرائيل وطلبوا منه تخفيف الضرائب، فامتنع وطالبهم بالوظائف، وأخذ فيهم برأي الغواة من بطانته، فنقموا عليه ذلك وانتقضوا. وجاءهم يربعم بن نباط من مصر، فبايعوه وولّوه عليهم، واجتمع عليه سائر الأسباط العشرة من بني إسرائيل، ما عدا سبط يهوذا وبنيامين، وتزاحفوا للحرب. ثم دعاهم بعض أنبيائهم للصلح فتواضعوا واصطلحوا.
وفي السنة الخامسة من ملك رحبعم زحف شيشاق ملك مصر إلى بيت المقدس، فهرب رحبعم، واستباحها شيشاق ورجع وضرب عليهم الجزية، ثم دفعوه ومنعوه. فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا وبنيامين ببيت المقدس وعسقلان وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما إلى ذلك من أرض الحجاز، وملك الأسباط العشرة بنواحي نابلس وفلسطين، ثم نزلوا مدينة شومرون وهي شمرة وسامرة في الناحية الشرقية الشمالية من الشام مما يلي الفرات والجزيرة، واتخذوها كرسيّا لملكهم ذلك، وأقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض أمرهم، ووقعوا في الجلاء الّذي كتب الله عليهم كما نذكره.
ثم هلك رحبعم لسبع عشرة سنة من دولته، وولي بعده على سبط يهوذا وبنيامين بأرض القدس ابنه أفيا [2] ، وضبطه بهمزة مفتوحة ومتوسطة بين الفاء والذال من لغتهم وياء مثناة من تحت مشدّدة وألف، وكان على مثل سيرة أبيه. وكان عابدا صوّاما، وكانت أيامه كلها حربا مع يربعم بن نباط وبني إسرائيل، وهلك لثلاث سنين. وولى بعده ابنه أسا [3] ، بضم الهمزة وفتح السين المهملة وألف
__________
[1] وفي التوراة: ورد اسمه رحبعام.
[2] وفي نسخة اخرى: أبيّا.
[3] وفي نسخة أخرى: آسا.(2/116)
بعدها، ابن أفيا. وطال أمد ملكه، وكان رجلا صالحا، وكان على مثل سيرة جدّه داود صلوات الله عليه، وتعدّدت الأنبياء في بني إسرائيل على عهده، ومات يربعم بن نباط لسنتين من ملكه، وملك بعده ابنه ناداب وقتله يعشا بن أحيا كما نذكر في أخبارهم. ثم وقعت بينه وبين أسا حروب، واستمد اسا بملك دمشق فزحف معه، وكان يعشا ملك السامرة في ناحية يثرب لبنائها، فهرب وترك آلات البناء، فنقلها أسا ملك القدس وبنى بها الحصون. ثم خرج عليهم زادح ملك الكوش في ألف ألف مقاتل، ولقيهم أسا فهزمهم وأثخن فيهم. ولم تزل الحرب قائمة بين أسا وبين الأسباط بالسامرة سائر أيامه، وعلى عهده اختطت السامرة كما نذكر بعد.
ثم هلك أسا بن أفيا لإحدى وأربعين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه يهوشاظ [1] ، بياء مفتوحة مثناة تحتانية وهاء مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة بعدها ألف ثم ظاء بين الذال والظاء المعجمتين، فكان على مثل سيرة أبيه، وكانت أيامه مع أهل السامرة وملوكهم سلما. واجتمع ملوك العمالقة، ويقال أروم [2] ، وخرج لحربهم فهزمهم وغنم أموالهم. وكان لعهده من الأنبياء إلياس بن شوياق، واليسع بن شوبوات.
وقال ابن العميد: إيليا ومنحيا وعبوديا. وكانت له سفن في البحر يجلب له فيها بضائع الهند فأصابها قاصف الريح فتكسرت وغرقت. ثم هلك لخمسة وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه يهورام [3] ، بفتح المثناة التحتية ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم راء مفتوحة تجلب ألفا وبعدها ميم، وانتقض عليه أروم، وولوا عليهم ملكا منهم، فزحف إليهم [4] ووقع بهم في سفيرا أوسط بلادهم، وأثخن فيهم بالسبي والقتل. ثم رجع عنهم، وأقاموا في عصيانهم. وعلى عهده زحف ملك الموصل إلى الأسباط بالسامرة، فكانت بينه وبينهم حروب كما نذكر.
وقال ابن العميد: كانت على بني مؤاب جزية مضروبة لبني يهوذا، مائتان من الغنم كل سنة، فمنعوها، واجتمع ملوك القدس والسامرة لحربهم وحاصروهم سبعة أيام، وفقدوا الماء فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي. فخرج أهل مؤاب فظنوه ماء،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يهوشافاط.
[2] وفي نسخة اخرى: أدوم.
[3] وفي التوراة: يورام.
[4] وفي نسخة أخرى: زحف فيهم.(2/117)
فقتلهم بنو إسرائيل وأثخنوا فيهم. وفي أيام يهورام رفع إيليا النبي وانتقل سره الى اليسع، وكان على عهده من الأنبياء أيضا عبوديا.
ثم هلك يورام لثمان سنين من ملكه، ودفن عند جدّ داود، وولي بعده ابنه أحزياهو [1] ، بهمزة مفتوحة وحاء مهملة مضمومة وزاي معجمة ساكنة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، وأمّه غثليا بنت عمري أخت أجاب [2] وسار سيرة خاله، وملك سنة واحدة، وقيل سنتين، وخرج لقتال ملك الجزيرة والموصل واستنفر معه صاحب السامرة يورام ابن خاله أجاب، فاقتتلوا معه ثم انصرفوا وابن خاله جريح. وجاءه أحزياهو في بعض الأيام يعوده وكان [3] ابن يهوشافاض بن منشي من سبط منشا بن يوسف يترصد قتل يورام بن أجاب ملك السامرة، فأصاب فرصة في ذلك الوقت فقتلهما جميعا. وقال ابن العميد انّ يورام بن أجاب ملك السامرة خرج لحرب أروم، في رواية كلعاد وخرج معه أحزياهو فقتلا في تلك الحرب. قال: وقيل ان ياهوعشّا رمى بسهم فأصاب يورام بن أجاب. وكان لعصره من الأنبياء اليسع وعامور وفنحاء.
ثم ملك بعد أحزيا أمه عثليا بنت عمري كذا وقع اسمها في كتاب الطبري، وفي كتاب الإسرائيليات اسمها أضالية. ويقال كانت من جواري سليمان، ثم استفحل ملكها بالقدس وقتلت بني داود كلهم، وأغفلت ابنا رضيعا من ولد أبيها أحزياهو اسمه يؤاش، بضم الياء المثناة التحتية ثم همزة مفتوحة تجلب ألفا ثم شين معجمة، أخفته عمته يهوشيع بنت يهورام في بعض زوايا القدس، وعلم بمكانه زوجها يهود يادع [4] وهو يومئذ الكوهن الأعظم. حتى إذا كملت له سبع سنين، ونقم بنو يهوذا سيرة عثليا، اجتمعوا إلى يهود يادع الكوهن فاخرج لهم يؤاش بن أحزياهو من مكانه، واستحلفهم فبايعوا له وقتلوا جدّته عثليا ومن معها لسبع سنين من ملكها.
__________
[1] وفي التوراة: أحزيا.
[2] وفي نسخة أخرى أخاب.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 1 ص 254 ثم ملك بعد آسا ابنه سافاط وفي شرحه: هو يهوشافاط ولم يذكر شيئا عن ابن يهوشافاط، اوسافاط، أو يهوشافاض هذا. والّذي في التوراة: يهورام بن يهوشافاط- الاصحاح الثامن من سفر الملوك الثاني.
[4] وفي نسخة أخرى: يهوياداع وكذلك في التوراة.(2/118)
وقام يؤاش بملكه في تدبير يهوديادع الكوهن، ثم أراد عبادة الأصنام، فمنعه زكريا النبيّ فقتله. وكان لعهده من الأنبياء اليسع وعوفريا وزكريا بن يهوديادع. وهلك يهوديادع لثلاث وعشرين سنة من ملك يؤاش بعد أن جدّد يؤاش بيت المقدس، ولثمان وثلاثين من ملكه قبض اليسع النبي صلوات الله عليه، وعلى عهده زحف شريال ملك الكلدانيين ببابل إلى بيت المقدس، ويقال ملك نينوى والموصل. وقال ابن العميد: ملك الشام فأعطاهم جميع ما في خزائن الملك وبيت المقدس من الأموال، ودخل في طاعتهم إلى أن قتله وزراؤه وأهل دولته لأربعين سنة من ملكه.
وولّوا مكانه ابنه أمصيا هو، بفتح الهمزة والميم وسكون الصاد المشمة بالزاي بعدها ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، واستبدّوا عليه ثم ثار عليهم بأمه وقتلهم أجمعين. وسار إلى أروم فظفر بهم، وقتل منهم نحوا من عشرين ألفا، ثم زحف إليه ملك الأسباط بالسامرة [1] ولقيه فهزمه وحصل في أسره. وسار الى بيت المقدس فحاصرها، وهدم من سورها نحوا من أربعمائة ذراع، واقتحمها فغنم ما في خزائن بيت السلطان، وبيت الهيكل من الأموال والأواني والذخائر ورجع إلى السامرة، فأطلق أمصيا هو ملك القدس، فرجع إلى قومه ورمّ ما تثلّم من سورها. ولم يزل مملكا حتى نقموا عليه أفعاله فقتلوه لسبع وعشرين سنة من ملكه. وكان لعهده من الأنبياء يونان وناحوم، وتنبأ لعصره عاموص.
ولما قتلوا أمصيا هو ولّوا ابنه عزيا هو [2] ، بعين مهملة مضمومة وزاي معجمة مكسورة مشدّدة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفا وهاء تجلب واوا، وطالت مدّته ثلاثا وخمسين سنة، واختلفت فيها أحواله. قال ابن العميد: ولخمس من ملكه كان ابتداء وضع سنيّ الكبس [3] التي هي سنة بعد أربع تزيد يوما على الماضية بحساب ربع يوم في كل سنة الّذي اقتضاه حساب مسير الشمس عندهم. قال: ولست من ملكه انقرض ملك الأرمانيين من الموصل وصارت إلى بابل، لاثنتين وعشرين من ملكه غزا ملك بابل واسمه فول مدينة السامرة فاقتحمها، وأعطاه ملكها بدرة من المال فرجع عنه.
قال: ولعهده ملك على بابل رينوس ويلقب قطب الملك، ولعهده ملك على
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي التوراة يوآش بن يوآحاز بن ياهو.
[2] وفي التوراة: عزريا هو.
[3] وهي السنة الكبيسة اي 2/ 365 يوما.(2/119)
اليونانيين ملكهم الأول من مدينة أنقياس لثلاث وعشرين سنة من تملك عزيا هو.
قال: ولإحدى وخمسين من ملكه ملك ببابل بخت نصّر الأول. قال: ولعهده أيضا كان الملك الأوّل من الروم المقدويس ويسمى فروس. ولعهده كان من الأنبياء يوشع وغوزيا وأموص وأشعيا ويونس بن متى. قال ابن العميد وانتهت عساكر عزيا هو إلى ثلاثمائة ألف، وأصابه البرص بدعاء الكوهن لما أراد أن يخالف التوراة في استعمال البخور وهو محرم على سبط لاوى، فبرص ولزم بيته سنة وصار ابنه يؤام ينظر في أمر الملك إلى أن تغلب على أبيه. قال هروشيوش: وعلى عهده أيضا قتل شرديال آخر ملوك بابل من الكلدانيّين على يد قائده أرباط بن المادس، واستبدّ بملك بابل وأصاره إلى قومه بعد حروب طويلة، ثم زحف إلى القوط والعرب من قضاعة فحاربهم طويلا وانصرف عنهم.
ثم هلك عزيا هو لثلاث وخمسين سنة من ملكه، وملك بعده ابنه يؤاب وكان صالحا تقيا، وكان لعهده من الأنبياء هوشيع [1] وأشعيا ويويل [2] وعوفد. وفي أيامه ابتدأ غلب ملك الجزيرة على اليهود وكانوا يعرفون بالسوريانيين. ثم هلك يوآب لست عشرة من ملكه، وملك ابنه أحاز، بهمزة مفتوحة ممالة وحاء مهملة تجلب ألفا وزاي معجمة، فخالف سنة آبائه، وعبد بنو إسرائيل الأوثان في أيامه، وحارب الأرمن واستجاش عليهم بملك الموصل، فزحف معه وحاصر دمشق وملكها منهم واستباحها، ورجع إلى بلاده. ثم خرج أحاز لحربهم فهزموه وقتلوا من اليهود مائة وعشرين ألفا ونحوها، وارجعوا أحاز الى دمشق أسيرا. قال هروشيوش: وعلى عهد أحاز كان انقراض ملك الماريس على يد كيرش ملك الفرس، ورجعت أعمالهم إليه.
ويقال: انّ آخر ملوكهم هو اشتانيش، وكان جد كيرش لامّه، وكفله صغيرا فلما شب وملك حارب جدّه فقتله وانتزع ملكه. وقال ابن العميد عن المسبحي: ولذلك العهد ملك على الروم الفرنجة غير اليونان، الاخوان روملس ورومانس، واختط مدينة رومة. وقال هروشيوش: ولعهده ملك على الروم اللطينيين بأرض أنطاكية روملس، ثم مركة وبنى مدينة رومة.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: هو سيع.
[2] وفي نسخة اخرى: يوئيل كما في التوراة.(2/120)
ثم هلك أحاز لست عشرة من ملكه، وولى ابنه حزقيا هو، بحاء مهملة مكسورة وزاي معجمة ساكنة وقاف مكسورة وياء مثناة تحتانية مشددة تجلب ألفا وهاء مضمومة تجلب واوا، فقطع عبادة الأوثان وسار سيرة جدّه داود، ولم يكن في ملوك بني يهوذا مثله. وعصى على ملك الموصل وبابل وكوريش [1] وهزم فلسطين وخرّب قراهم. وفي أيامه وأيام أبيه سار شليشار ملك الجزيرة والموصل إلى الأسباط بالسامرة، فضرب عليهم الجزية. ثم سار في أيامه فأزال ملكهم. ولأربع من ملكه زحف إليه رضين ملك دمشق ورجع عنه من غير قتال. ولا ربع عشرة من ملكه زحف إليه سنجاريف [2] ملك الموصل بعد فتح السامرة، فافتتح أكثر مدائن يهوذا وحاصرهم ببيت المقدس. وصانعه حزقيا هو بثلاثمائة قنطار من الفضة وثلاثين من الذهب أخرج فيها ما كان في الهيكل، وبيت الملك من المال ونثر الذهب من أبواب المسجد، دفع ذلك له ورجع عنه. ثم فسد ما بينهما وزحف إليه سنجاريف ثانيا وحاصره وامتنع من قبول مصانعته، وقال: من ذا الّذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم أنتم إلهكم. فخافوا منه وفزعوا إلى النبي شعيا في الدعاء فأمنهم منه ودعا عليه فوقع الطاعون في عسكره، ثم تواقعوا في بعض الليالي، فبلغ قتلاهم مائة وعشرين ألفا ورجع سنجاريف إلى نينوى والموصل، فقتله أبناؤه وهربوا إلى بيت المقدس وملك ابنه السرمعون.
وقال الطبري إنّ ملك بني إسرائيل أسر سنجاريف وأوحى الله الى شعيا أن يطلقه فأطلقه. قال: وقيل إنّ الّذي سار إليه سنجاريف من ملوك بني إسرائيل كان أعرج، وأنّ سنجاريف لعهد ملك أذربيجان، وكان يدعى سليمان الأعسر، فلما نزل بيت المقدس صار بينهما أحقاد كامنة، فتواقعوا وهلك عامّة عسكرهما، وصار ما معهما غنيمة لبني إسرائيل، وبعث ملك بابل إلى حزقيا ملك الفرس بالهدايا والتحف، فأعظم موصلها، وبالغ في كرامة الوفد وفخر عليهم بخزانته وطوفهم عليها، فنكر ذلك عليه شعيا النبي وأنذره بان ملوك بابل يغنمون جميع هذه الخزائن، ويكون من أبنائك خصيان في قصرهم.
ثم هلك حزقيا هو لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه منشا، بميم مكسورة ونون
__________
[1] وفي نسخة اخرى توريش.
[2] وفي التوراة: سنحاريب.(2/121)
مفتوحة وشين معجمة مشدّدة وألف، وكان عاصيا قبيح السيرة، وكانت آثاره في الدين شنيعة، وأنكر عليه شعيا النبي أفعاله، فقتله نشرا بالمناشير من رأسه إلى مغرق ساقيه، وقتل جماعة من الصالحين معه. وفي التاسعة والثلاثين من ملكه، ملك سنجاريف الصغير مملكة الموصل قاله ابن العميد وفي الثانية والخمسين بنيت بوزنطية بناها بورس الملك، وهي التي جددها قسطنطين وسمّاها باسمه. وفي أيامه ملك برومة قنوقرسوس الملك، وفي الحادية والخمسين من ملكه زحف سنجاريف ملك الموصل إلى القدس فحاصرها ثلاث سنين، وافتتحها في الرابعة والخمسين من ملكه. وولي بعده ابنه أمون، بهمزة قريبة من العين والميم مضمومة تجلب واوا ثم نون، وكانت حاله مثل حال أبيه فملك سنتين، وقيل اثنتي عشرة، ثم اغتاله عبيده فقتلوه، واجتمع بنو يهوذا فقتلوا أولئك العبيد، وأقاموا ابنه يوشيا مكانه، وضبطه بياء مثناة تحتية مضمومة تجلب واوا بعدها شين معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا. فلما ملك أحسن السيرة وهدم الأوثان وكان صالح الطريقة مستقيم الدين، وقتل كهنة الأصنام وهدم البيوت والمذابح التي بناها يربعام بن نباط بالبرابرة. وكان في أيامه من الأنبياء صفونا [1] وكلدي امرأة شالوم وناحوم. وتنبأ لعهده أرمياء بن ألحيا [2] من نسل هارون، وأخبرهم بالجلاء إلى بابل سبعين سنة، فأخذ يوشيا قبة القربان وتابوت العهد وأطبق عليهما في مغارة فلم يعرف مكانهما من بعد ذلك. وفي أيامه ملك المجوس بابل. ولإحدى وثلاثين من دولته ملك فرعون الأعرج مصر وزحف لقتال مسيح بالفرات، فخرج يوشيا لحربه وانهزم يوشيا فهلك بسهم أصابه لاثنتين وثلاثين من دولته.
وولى بعده ابنه يوآش، ويقال اسمه يهوياحاز فعطل أحكام التوراة، وأساء السيرة، فزحف إليه فرعون الأعرج، وأخذه ورجع به إلى مصر فمات لك. وضرب على أرضهم الخراج مائة قنطار فضة وعشرة ذهبا، وكانت ولايته ثلاثة أشهر. وولّوا مكانه أخاه ألياقيم بن يوشيا، بهمزة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتانية يجلب فتحها ألفا وقاف مكسورة تجلب ياء ثم ميم، وكان عاصيا كافرا، وكان يأخذ الخراج لفرعون من بني يهوذا على قدر أحوالهم. ثم زحف إليه بخت نصّر ملك بابل لسبع من ولاية ألياقيم،
__________
[1] وفي التوراة: صفنيا بن كوشي- نبوّة صفنيا- الفصل الاولى.
[2] وفي التوراة: إرميا بن خلقيا- نبوّة ارميا، الفصل الأول.(2/122)
فملك الجزيرة وسار إلى بيت المقدس فضرب عليهم الجزية أولا، ودخل ألياقيم في طاعته ثلاث سنين، وسلط الله عليه أروم وعمون ومؤاب والكلدانيين، ثم انتقض عليه فسرح الجيوش اليه، فقبضوا عليه واحتملوه الى بابل، فهلك في طريقه لإحدى عشرة سنة من ملكه. وولى بخت نصّر مكانه ابنه يخنيو، بفتح الياء المثناة التحتانية بعدها خاء معجمة مضمومة ثم نون ساكنة وبعدها ياء تحتانية تجلب ضمتها واوا، فأقام ثلاثة أشهر، ثم زحف إليه وحاصره، وأخرج إليه أمّه وأشراف مملكته فأشخصهم الى بلده. وجمع أهله ورجال دولته وسائر بني إسرائيل نحوا من عشرة آلاف، واحتملهم أسارى إلى بابل، وغنم جميع ما كان في الهيكل والخزائن من الأموال وجميع الأواني التي صنعها سليمان للمسجد، ولم يترك بمدينة القدس إلا الفقراء والضعفاء وبقي يخنيو ملك بني إسرائيل محبوسا سبعا وثلاثين سنة.
وقال ابن العميد: إنّ بخت نصّر سار إلى القدس في الثالثة من مملكة ألياقيم، وسبى طائفة منها، وانتهب جميع ما في بيت الهيكل. وكان في سنة دانيال وخانيا وعزاريا وميصائل. وانّ في السنة الخامسة من ملكه قاتل بخت نصّر فرعون الأعرج ملك مصر، وفي الثانية من ملك الياقيم غزا بخت نصّر القدس ووضع عليهم الخراج وأبقى الياقيم في ملكه وهلك لثلاث سنين بعد ذلك وملك ابنه يخنيو. وكان لعهده من الأنبياء ارميا وأوريا بن شعيا وموري والد حزقيا. وفي أيامه تنبأ دانيال، ثم سار بخت نصّر ليخنيو فأشخصه الى بابل كما مرّ.
وقال الطبري ووافقه نقل هروشيوش: إنّ بخت نصّر ولّى مكان يخنيو بن الياقيم عمه متنيا، بميم مفتوحة وتاء مثناة فوقانية مفتوحة مشدّدة ونون ساكنة وياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا، ويسمّى صدقيا هو، وكان عاصيا قبيح السيرة، ولتسع سنين من ولايته انتقض على بخت نصّر، فزحف إليه في العساكر وحاصر بيت المقدس وبنى عليها المدر للحصار، وأقام ثلاث سنين واشتدّ الحصار بهم، فخرجوا هاربين منها إلى الصحراء واتبعهم العساكر من الكلدانيين وأدركوهم في أريحا، فقبض على ملكهم صدقيا هو وأتى به أسيرا فسمل عينيه. وقال الطبري: وذبح ولده بمرأى منه، ثم اعتقله ببابل إلى أن مات. ولحق بعض من بني إسرائيل بالحجاز فأقاموا مع العرب، وكان لعهده من الأنبياء ارميا وحبقون وباروح. وبعث بخت نصّر قائده نبو زراذون، بنون مفتوحة وباء موحدة مضمومة تجلب واوا بعدها زاي وراء مفتوحة تجلب ألفا(2/123)
وذال مضمومة تجلب واوا بعدها نون، بعثه إلى مدينة القدس، وكانوا يدعونها مدينة يروشالم [1] ، فخرّبها وخرّب الهيكل وكسر عمد الصفر التي نصبها سليمان في المسجد طول كل عمود منها ثمانية عشر ذراعا وطول رءوسها ثلاثة أذرع، وكسر صرح الزجاج وسائر ما كان بها من آثار الدين والملك، واحتمل بقية الأواني وما كان وجده من المتاع، وسبى الكوهن سارية والحبر منشا وخدمة الهيكل إلى بابل. قال هروشيوش: وأبقى صدقيا هو محبوسا ببابل إلى أن أطلقه بزداق قائد بهمن ملك الفرس حين غلبوا على بابل فأطلقه ووصله وأقطعه.
وقال مؤرخ حماة [2] ووافقه المسعودي: انّ بخت نصّر بعد تخريب القدس هرب منه بعض ملوك بني إسرائيل إلى مصر وبها فرعون الأعرج، وطلبه بخت نصّر فأجاره فرعون وسار إليه بخت نصّر فقتله وملك مصر. وافتتح من المغرب مدائن وبث فيها دعاته، وكان إرمياء نبي بني إسرائيل من سبط لاوى، ويقال اسمه إرمياء بن خلقيا، وكان على عهده صدقيا هو ووجده بخت نصّر في محبسهم فأطلقه واحتمله معه في السبي الى بابل، وقيل انه مات في محبسه ولم يدركه بخت نصّر. وكذلك احتمل معهم دانيال بن حزقيل من أنبيائهم.
وقال ابن العميد: وولي جدليا بن أحان على من بقي من ضعفاء اليهود بالقدس، ولسبعة أشهر من ولايته قام إسماعيل بن متنيا بن إسماعيل من بيت الملك فقتل جدليا واليهود والكلدانيين الذين معهم، ثم هرب إلى مصر وهرب معه ارميا، وهرب حبقون إلى الحجاز فمات وكان قيما ولحقهم بمصر. وتنبأ ارمياء في مصر وبابل وأورشليم وصور وصيدا وعمون ثمانية وثلاثين سنة، ورجمه أهل الحجاز فمات. وكان فيما أخبرهم به مسير بخت نصّر الى مصر وتخريبه هياكلها وقتله أهلها. ولما دخل بخت نصّر مصر نقل جسده الى الإسكندرية ودفنه بها، وقيل دفن بالقدس لوصيته. وأمّا حزقيا هو فقتله اليهود في السبي.
قال الطبري: وافترقت جالية بني إسرائيل في نواحي العراق الى ان ردّهم ملوك الفرس الى القدس فعمروه وبنوا مسجده. وكان لهم فيه ملك في دولتين متصلتين الى أن وقع بهم الخراب الثاني والجلوة الكبرى على يد طيطش من ملوك القياصرة كما نذكر بعد.
__________
[1] أو أورشليم.
[2] يعني أبي الفداء.(2/124)
ولنذكر هنا ما وقع من الخلاف في نسب بخت نصّر هذا، والى من يرجع من الأمم:
فقد ذهب قوم الى أنه من عقب سنجاريف ملك الموصل الّذي كان يقاتل بني إسرائيل والسامرة بالقدس. قال هشام بن محمد الكلبي فيما نقل الطبري: هو بخت نصّر بن نبوزراذون بن سنجاريف، ثم نسب سنجاريف إلى نمروذ بن كوش بن حام الّذي وقع ذكره في التوراة في ولدكوش وعدّ بين سنجاريف والنمروذ ستة عشر أبا أو نحوها أوّلهم داريوش بن فالغ وعصا [1] بن نمروذ، أسماء غير مضبوطة يغلب على الظنّ تصحيفها لعدم دراية الأصول وقلّة الوثوق بضبطها. وقيل إنّ بخت نصّر من نسل أشوذ [2] بن سام، ولم يقع إلينا رفع هذا النسب ولعله أصح من الأوّل لأنه قد تقدّم نسب سنجاريف في الجرامقة ثم في الموصل منهم وهم من ولد أشوذ باتفاق من أهل فارس، نقله أيضا الطبري عن ابن الكلبي، وان اسمه بختمرسه فسمي بخت نصّر، وكان يملك ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة أيام هراسب ويستاسب وبهمن من ملوك الفرس، وانه افتتح ما يليه من بلاد بابل والشام ثم سار الى القدس فافتتحها كما تقدّم، وقيل ان بهمن بعث رسله إلى القدس في طلب الطاعة منهم فقتلوه، فبعث بهمن أصبهبذا للناحية القريبة من مملكته، وبعث معه داريوش [3] من ملوك مارى بن نابت، وكيرش بن كيكوس من ملوك بنى غليم بن سام، وأحشوارش بن كيرش بن جاماهن من قرابته. وسار معهم بخت نصّر بن نبوزراذون بن سنجاريف صاحب الموصل الّذي لقومه البراءات في أهل المقدس فكان ما وقع من الفتح. وقيل كان بخت نصّر صاحب الموصل في مقدّمتهم وكان الفتح على يده.
وأما بنو إسرائيل فيزعمون أنّ بخت نصّر من الكلدانيين، وهم ولد ناحور بن آزر أبي إبراهيم عليه السلام، وكان لهم الملك ببابل وكان بخت نصّر هذا من أعقابهم، وكان مدّة دولته خمسا وأربعين سنة، وكان فتحه المقدس لثمانية عشر من دولته. وملك بعده أويل مروماخ ثلاثا وعشرين سنة، ثم بعده ابنه فيلسنصر بن أويل ثلاث سنين، ثم غلب عليهم كورش وأزال ملكهم وهو الّذي ردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس فعمروه وجدّدوا به ملكا كما نذكره.
__________
[1] وفي التوراة: عوص.
[2] وفي التوراة: اشور.
[3] وفي نسخة اخرى: داريوس.(2/125)
وفد اختلف في كيرش الّذي ردّ بني إسرائيل الى القدس من هو بعد اتفاقهم على أنه من الفرس، فقيل هو يستاسب ولم يكن ملكا وإنما كان مملكا على خوزستان وأعمالها من قبل كيقوس وبنجسون بن سياوش ولهراسب من بعدهما، وكان عظيم الشأن ولم يكن ملكا. وقيل إنّ كيرش هو ابن احشوارش بن جاماسب بن لهراسب، وأبوه أحشوارش هذا الّذي بعثه بهمن. ولما رجع من ذلك الفتح بعثه الى ناحية الهند والسند وانصرف الى حصن الأبر فولاه بابل وتزوج من سبي بني إسرائيل ابنة أبي حاويل الرّحا وأخت مردخاي من الرضاع، وهو من أنبياء بني إسرائيل. فتزعم النصارى انها ولدت عند حيرا حوارس إلى بابل ابنه كيرش هذا فحضنه مردخاي ولقنه دين اليهودية، ولزم سائر أنبيائهم مثل متنيا وعازريا وميثائل وعزيز. وولي دانيال احكام دولته، وجعل إليه أمره وأذن له أن يخرج ما في الخزائن من السبي والذخائر والآنية ويردّه إلى مكانه ويقوم في بناء القدس فعمره. وراجعه بنو إسرائيل وسأله هؤلاء الأنبياء أن يرجعوا إلى بيت المقدس فمنعهم اغتباطا بمكانهم.
وقيل إنّ كيرش هو كيرش بن كيكو بن غليم بن سام، وهو الّذي كنا قدمنا أن بهمن بعثه مع قائده بخت نصّر الى فتح بيت المقدس، وأنّ بختمرس ملكه بهمن على بابل، وكان يسمى بختمرسي كما ذكرنا، فملكها وملك ابنه من بعده ثلاثا وعشرين سنة، ثم ابنه بلتنصر سنة واحدة، ثم بلغ بهمن سوء سيرته فعزله وولّى على بابل داريوش ألماذة بن ماداي، ثم عزله وولى كيرش بن كيكو، وكتب إليه بهمن بان يرفق ببني إسرائيل ويحسن ملكتهم وأن يردهم إلى أرضهم ويولي عليهم من يختارونه، ففعل، فاختاروا دانيال من أنبيائهم فولّاه. وقيل وهو لعلماء بني إسرائيل انّ بلتنصر حافد بخت نصّر وهو ملك بابل والكلدانيين، وأنّ دارا ويسمى داريوش ملك ماري، وكورش وهو كيرش ملك فارس، كان في طاعته فانتقضا عليه، وخرج إليهم في العساكر فانهزم أوّلا، ثم بعث عساكره وقواده إليهم فهزمهم ثم قتله خادمه على فراشه. ولحق بداريوش وكورش وزحفا إلى بابل فغلبا الكلدانيين عليها، واختص دارا وقومه مادي وأظنهم الديلم ببابل ونواحيها. واختص كورش وقومه فارس بسائر الأعمال والكور، وكان كورش نذر ببناء بيت المقدس واطلاق الجالية ورد الآنية، ثم هلك دارا وانفرد كورش بالملك على فارس ومادي ووفى بنذره هذا محصل الخلاف في بخت نصّر وكيرش والله أعلم.(2/126)
الواقع ان الأسماء محرّفة ومحوّرة عن الأصل حتى في الصفحة الواحدة يرد الاسم مختلفا، وهذا ما جعلنا نعود الى التوراة وبعض المراجع القديمة ومقابلتها لضبط هذه الأسماء قدر الإمكان.(2/127)
الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم الى حين انقراض أمرهم
قد تقدّم لنا في دولة سليمان عليه السلام انّ يربعام بن نباط من سبط افرائيم كان واليا لسليمان على جميع نواحي يورشليم [1] وهي بيت المقدس، وقيل إنّما كان واليا على عمل بني يوسف بنابلس وما إليها، وكان جبارا وان سليمان عوتب على ولايته من الله وانتقض ولحق بمصر، فلما قبض سليمان وولي ابنه رحبعم واختلف عليه بنو إسرائيل بما بلوا من سوء ملكته والزيادة في الضرائب عليهم، واجتمع الأسباط العشرة ما عدا يهوذا وبنيامين فاستقدموا يربعام بن نباط من مصر فبايعوا له وولوه الملك عليهم وحاربوا رحبعم ومن في طاعته وهم سبط يهوذا وبنيامين، فامتنعوا عليهم بمدينة يروشليم، ثم انحازوا إلى جهة فلسطين في عمل بني يوسف. ونزل يربعم مدينة نابلس بملك الأسباط العشرة ومنعهم من الدخول إلى بيت المقدس والقربان فيه، وكان عاصيا مسخوط السيرة.
ولم يزل الحرب بينه وبين رحبعم بن سليمان وابنه أبيا من بعده واثنين من ملك أسا بن أبيا، وكان أبيّا ظاهرا عليه في حروبه، ثم هلك يربعام بن نباط لسنتين من ملك أبيّا ولثلاث وعشرين من ملكه، فولي مكانه على الأسباط يوناذاب وكان على مثل سيرة أبيه من الجور وعبادة الأصنام، فسلط الله عليه بعشا بن أحيا فقتله وجميع أهل بيته لسنتين من ملكه. وقام بملك الأسباط فلم يزل يحارب أسا بن أبيّا وأهل القدس سائر أيامه. وكان أسا يستمدّ عليه بملك دمشق من الأرمن. وسار معه إليه مرّة، وكان أعشا بن أحيا نبي يثرب، فأجفل أمامهم وترك الآلات فأخذها أسا وبنى بها الحصون وهلك أعشا بن أحيا لأربع وعشرين سنة من ملكه ودفن في برصا مدينة ملكهم بعد أن أنذره بالهلاك نبيهم فاهو. ولما هلك ولي بعده ابنه إيليا، ويقال إيلهوا في السادسة والعشرين من ملك أسا فأقام سنين ثم بعث عساكر بني إسرائيل إلى محاصرة بعض المدن بفلسطين، فوثب عليه سبط من الأسباط من عقب كان يعرف زمري صاحب المراكب، ويقال ابن اليافا، فقتله وجميع أهل بيته وقام
__________
[1] هي أورشليم.(2/128)
بالملك ومكث أياما يسيرة خلال ما بلغ الخبر لبني إسرائيل بمكانهم من حصار فلسطين، فلم يرضوه وملكوا عليهم صيّ بن كسّات من سبطه ورجعوا الى زمري المتوثب على الملك فحاصروه، فلما أحيط به دخل مجلس الملك وأوقد نارا لتحرقه فاحترق فيه لسبعة أيام من فورتهم.
وكان عمري بن ناداب من سبط أفراييم ويلقب صاحب الحربة يرادف صيّ في الملك فقتله واستبدّ، وذلك في الحادية والثلاثين من ملك أسا. ثم اختلف عليه بنو إسرائيل ونصف بعضهم بنيامين فنال من سبط يساخر، وحاربهم عمري فغلبهم. وكان ينزل مدينة برصا، ولست سنين من ملكه اختط مدينة السامرية ابتاع لها جبل شمران [1] من رجل اسمه سامر بقنطار فضة، وبنى فيه قصوره وسميت سبسطية، ثم غلبت عليها النسبة إلى البائع. ويقال إنّ الاسم كان شومرون فعرب سامرة وأهملت شينها المثلثة، وكانت هذه المدينة مدينة ملكهم الى انقراض أمرهم.
ثم هلك عمري لاثنتي عشرة سنة من ولايته ودفن في نابلس، وقام بملك الأسباط من بعده ابنه أحاب [2] ، وكان على مذهبه ومذهب سلفه منهم من الكفر والعصيان، وتزوّج بنت ملك صيدا، وبنى هيكلا بسامرة وجعل فيه صنما يسجد له وأفحش في قتل الأنبياء، وبنى قرية أريحاء ودعا عليه إيليا النبيّ فقحطوا ثلاث سنين خرج فيها إيليا الى البرية فسكنها، ثم رجع فدعا وأنزل الله المطر وذبح الذين حملوا أحاب على عبادة الأصنام هكذا قال ابن العميد.
والّذي قاله الطبري إنّ هذا النبي الّذي دعا عليهم هو الياس بن سين، وقيل ابن ياسين من نسل فنحاص بن العازار. وكان بعث الى أهل بعلبكّ والى أحاب وقومه.
وقال الطبريّ: فكذبوه فأصابهم القحط ثلاثا، ففزعوا إليه في الدعاء وبأهلهم في أصنامهم فلم تغن شيئا، فدعا لهم فمطروا، ثم انهم أقاموا على ما كانوا عليه من الكفر والعصيان. وكان أحاب شديدا عليه ودعا عليه الياس ثم طلب من الله أن يتوفاه بعد أن أنذر الناس بهلاكه وهلاك قومه بل عقبه. وتنبأ بعده اليسع بن أخطوب من سبط أفرائيم، وقيل ابن عم الياس. وقال ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم
__________
[1] وفي التوراة «واشترى جبل السامرة من شامر بوزنتين من الفضة.
[2] وفي التوراة: اخآب.(2/129)
بن افرائيم. قال الطبريّ: كان مستخفيا مع الياس بجبل قاسيون من ملك بعلبكّ، ثم خلفه في قريته انتهى كلام الطبري.
وقال ابن العميد: في أيام أحاب أوحى الله إلى إيليا أن يبارك على إلياس بن بغسا ففعل ذلك، وان يبارك على أدوم بدمشق، وعلى يا هو ملكا على بني إسرائيل ففعل ذلك. وهو أيضا على عهد أحاب فجاء سنداب ملك سورية فحاصر أحاب بن عمري والأسباط العشرة في السامرة، وخرجوا إليه فهزموه واستلحموا عامة عسكره، ثم رجع إليهم من العام القابل فخرجوا إليه وهزموه ثانيا وقتلوا من عسكره نحوا من مائة ألف، ومروا في اتباعهم، وامتنع سنداب في بعض حصونه وأحاطوا به فخرج إليهم ملقيا بنفسه على ملكهم أحاب، فعفا عنه ورده الى ملكه، وسخط ذلك النبيّ من فعله وأنذره بعذاب يصيب ولده عقوبة من الله تعالى على إبقائه عليهم. ثم خرج أحاب من ملك الأسباط مع يهوشافاظ ملك يهوذا المقدس لمحاربة ملك سورية، فأصابه سهم هلك فيه ودفن بسامرة لاثنتين وعشرين سنة من ملكه.
قال ابن العميد: وقيل لثمان عشرة. وقال إنّما خرج لحرب كلعاد ملك أدوم فانهزم وقتل.
ولما هلك ملك من بعده ابنه أحزيّا ويقال أمشيا وكان عاصيا سيء السيرة قتل عاموص النبيّ وعبد بعلا الصنم وهلك لسنتين، فملك أخوه يوآم وقيل انه لتسع عشرة من ملك يهوشافاظ ملك الفرس، فملك يوآم على الأسباط اثنتي عشرة سنة زحف فيها أوّلا إلى مؤاب لما منعوه الجزية التي كانت عليهم للأسباط مائتين من الغنم في كلّ سنة، واستنجد ملك يهوذا لحربهم فحاصرهم سبعة أيام وفقدوا الماء، فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي وخرج أهل مؤاب يظنونه دما، فقتلهم بنو إسرائيل. وجمع هدّاد ملك أدوم لحصار سامرة ونازلها ثلاث سنين، ثم دعا عليهم اليسع فاجفلوا ورجعوا إلى بلادهم. وفي الثانية عشر من ملك يؤام ملك الأسباط ثار عليه يهوشافاظ بن يشا من سبط منشا بن يوسف، وذلك عند منصرفه من محاربة ملوك الجزيرة وأروم مع أحزيّا بن يهورام ملك القدس، وكان جريحا فعاده أحزيا وكان هذا الفتى يا هو يترصد قتل يؤام فأمكنته الفرصة فيه تلك الساعة فقتله وقتل معه أحزيا ملك القدس وبني يهوذا وملك على الأسباط.(2/130)
وقال ابن العميد: خرج يؤام بن أحاب ملك الأسباط لحرب أدوم ومعه أحزيّا ملك القدس فقتلا جميعا في تلك الحرب. وقيل إنّ ياهو بن منشا رمى بسهم فأصاب يؤام بن أحاب فمات.
ولما ملك يا هو على الأسباط قتل بني أحاب كلهم كما أمره اليسع، وهلك لخمس وثلاثين من ملكه وولي ابنه يوآص، وقيل يهوذا، ولثمان وعشرين من دولة يوآص بن أحزيّا ملك يهوذا القدس وكان قبيح السيرة عبّادا للأصنام وعمل مذبحا بسامرة وهلك لسبع عشرة من ملكه، وولي بعده ابنه يوآش لسبع وثلاثين من دولة يوآص بالقدس وزحف إلى القدس فملكها من يد أمصيّا ملك يهوذا، وهدم من سورها أربعمائة ذراع، وسبى أهل المقدس وسبى بني عزريّا الكوهن، وأخذ جميع ما في المسجد ورجع إلى سامرة. ومرض اليسع فعاده يوآش فوعده بأنه يهلك أدوم ويظفر بهم.
ثلاث مرات، فكان كذلك، وهلك لثلاث عشرة سنة من ملكه. وولي من بعده ابنه يربعام وكان سيّئ السيرة وزحف إلى أمصيا ملك يهوذا، وقيل إنّ الّذي زحف إلى أمصيّا إنّما هو يؤاش أبوه، فهزمه وأخذه أسيرا وسار به إلى القدس فاقتحمها عنوة وغنم جميع ما في خزانتها وسبى بني عزريّا الكوهن، ورجع إلى السامرة فأطلق أمصيّا. ثم لإحدى وأربعين سنة من ملكه، ولسبع وعشرين من ملك عزيّا هو بن أمصيّا ملك القدس.
قال ابن العميد: وبقي بنو إسرائيل بالسامرة فوضى أحدى عشرة سنة، ثم ملكوا ابنه زكريّا في الثامنة والثامنة والثلاثين من ملك عزيّا هو فملك ستة أشهر، وقال ابن العميد شهرا، ثم وثب به مناخيم بن كاد من سبط زبلون من أهل برصا فقتله، وملك مكانه اثنتي عشرة سنة. وقال ابن العميد عشر سنين. قال وفي التاسعة والثلاثين من ملك عزيّا هو خرج إلى مدينة برصا ففتحها عنوة واستباحها، وزحف إليه فول ملك الموصل فصانعه بألف قنطار من الفضّة ورجع عنه، وكانت سيرته رديئة، ولما هلك مناخيم ملك ابنه بقحيّا لأربعين من دولة عزيّا ملك القدس فأقام فيهم اثنتي عشرة سنة، وقال ابن العميد سنتين، ثم ثار عليه من عماله باقح بن رصليّا [1] وكان على طريقة من تقدّمه في الضلال فأقام ملكا على الأسباط بالسامرة عشر سنين، وهلك لدولته عزيّا بن أمصيّا ملك يهوذا بالقدس، وأقام باقح بن رصليّا على سوء السيرة
__________
[1] وفي نسخة اخرى: رسليا.(2/131)
وعبادة الأصنام إلى أن قتله هويشيع بن إيليا من سبط كاد في الثالثة من ملك يؤاب ملك القدس وبقي الأسباط بعده فوضى عشر سنين، ثم ملكوا قاتله هويشيع بن إيليا المذكور، فأقام مملكا عليهم سبع سنين وفي أيامه زحف إليه ملك أثور [1] والموصل فصير الأسباط في دولته وأدّوا إليه الخراج، ثم ان هويشيع راسل ملك مصر في الاستعانة به والرجوع إلى طاعته، فلما بلغ ذلك إلى ملك الموصل زحف إليه وحاصره في مدينة السامرة ثلاث سنين واقتحمها في الرابعة. وتقبّض على هويشيع لتسع سنين من ملكه ونقله مع الأسباط كلهم إلى الموصل، ثم بعثهم إلى قرى أصبهان وأنزلهم بها، وقطع ملك بني إسرائيل من السامرة وبقي ملك يهوذا وبنيامين بالقدس، وكان ذلك لعهد احزيّا بن آخاز من ملوكهم لسنة من دولته.
وتعاقبت ملوكهم بعد ذلك بالقدس إلى أن انقرضوا. وجمع ملك الموصل من كورة غارا وحماة وصفرارام، ويقال ومركتا وأسكنهم بالسامرة. وقال ابن العميد وتفسيرها حفيظة ويوآطر. قالوا وسلّط الله عليهم السباع يفترسونهم فبعثوا إلى ملك الموصل أن يعرفهم بصاحب قسمة السامريّة من الكواكب ليتوجهوا إليه بما يناسبه على طريقة الصابئة، فقيل إنّ العشرية التي رسخت فيها وهي دين اليهودية تمنع من ذلك ومن ظهور أثره. فبعث إليهم كوهنين من عامّة اليهود يعلمانهم اليهودية فتلقوها عنهما، فهذا أصل السامرة في فرق اليهود وليسوا منهم عند أهل ملّتهم لا في نسبهم ولا في دينهم، والله مالك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه سبحانه وتعالى.
__________
[1] وفي التوراة: اشور.(2/132)
الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى
هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الّذي كان لهم في العمارة بعد جلاء بخت نصّر وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة، لم يكتب فيها أحد من الأئمة ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها واتساعها على ما يلمّ بشيء من ذلك.
ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بخت نصّر الأوّل وخراب طيطش [1] الثاني الّذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه أخبار تلك المدّة بزعمه ومؤلف الكتاب يسمّى يوسف بن كريّون وزعم أنه كان من عظماء اليهود وقوّادهم عند زحف الروم إليهم، وأنه كان على صولة [2] ، فحاصره أسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة، وفرّ يوسف إلى بعض الشعاب وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك، واستبقاه ومن عليه وبقي في جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عند ما أجلى بني إسرائيل عن البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف.
وأمّا الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدّة وأخبار الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه، والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدّم عليها. وكما قال صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب. فقد قال ولا تكذبوهم. مع أنّ ذلك إنّما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله، لقوله بعد ذلك: «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ 29: 46» . وأمّا الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحس فخبر الواحد كاف فيه إذا غلب على الظنّ صحته، فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدّم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: طيطس.
[2] قوله على صولة: بلد قريب من المقدس كما في التوراة ولعلها المسماة اليوم بصفد (بخط العطار) .(2/134)
من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أوّل أمرهم إلى آخره والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان.
قال الطبريّ وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال أرميا بن خلقيّا من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوى، وكان لعهد صدقيّا هو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس، ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بخت نصّر وسأله عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي، وكان فيما يقوله أرميا إنّهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة يملك فيها بخت نصّر وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة الكلدانيّين بعد السبعين يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان شعيا بن أمصيّا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس، ولم يكن وجد لذلك العهد، فلما استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها، ونادى في الناس أنّ الله أوصاني أن أبني بيتا فمن كان للَّه وسعيه للَّه فليمض إلى بنائه. فمضى بنو إسرائيل في اثنين وأربعين ألفا وعليهم زيريافيل، بالفاء الهوائية، بن شالتهيل بن يوخنيّا آخر ملوكهم بالقدس الّذي حبسه بخت نصّر وقد مرّ ذكره. وقد مضى معهم عزير النبي من عقب أشيوع بن فنحاص ابن العازر بن هارون وبينه وبين أشيوع ستة آباء، لم أثق بنقلها لغلبة الظنّ بأنها مصحّفة، وردّ عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهبا وفضة. فمضوا إلى بيت المقدس وشرعوا في العمارة وشرع كورش وسعى عليهم في إبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة، ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأنّ الخراب كان لثمان عشرة من ملك بخت نصّر وكانت دولته خمسة وأربعين ومدّة ابنه وابن ابنه خمس وعشرون، فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفدت من ملك بخت نصّر قبل الخراب، فمنعوا من العمارة بسعاية السامريّة إلى أن انقضت الثمان عشرة.
وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة وعاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا، فأخبره أهل دولته أنّ كورش أذن لهم في ذلك فخلّى سبيلهم وعمّروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأوّل، وهو أرفخشد والكوهن يومئذ عزيز، وجدّد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت. ثم هلك زيريافيل(2/135)
وخلفه فيهم بهشمياس، وقبض العزير وخلفه شمعون الصفا من بني هارون أيضا.
وقال يوسف بن كريون: إنّ بخت نصّر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بلتنصّر ثلاث سنين، وانتقض عليه داريوش ملك ماذي، وأظنهم الديلم وكيرش ملك فارس، وهزمتهم عساكره كما مرّ، فعمل في بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع، وسقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جدّه من الهيكل، فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كأنّ يدا خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني والكلمات عبرانية، وهي أحصى وزن نفذ، فارتاع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في تفسيرها. قال وهب بن منيّه وهو من أعقاب حزقيل الأصغر وكان خلفا من دانيال الأكبر، فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك ومعناها أنّ الله أحصى مدّة ملكك، ووزن أعمالك، ونفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك وعن قومك. وقتل في تلك الليلة بلتنصّر، وكان ما قدّمناه من استقلال كورش وقومه فارس بالملك ورد الجالية إلى بيت المقدس، وأطلق لهم المال لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين ومضى بنو إسرائيل ومعهم عزرا الكاهن ونجميّا ومردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على حدودها وقرّبوا القرابين.
وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم والخمر ما يحتاجون اليه في خدمة البيت ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى ملوك الفرس بعده على سنة في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش [1] منهم، كان وزيره هامان وكان من العمالقة، وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله، فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمله على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوّج أخته من الرضاع لأخشويروش، فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس بمهلك دارا، واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس.
وملك الإسكندر بن فيلفوس [2] ودوّخ الأرض، وفتح سواحل الشام، وسار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا، وخاف الكهنة من وصوله إليهم، ورأى في بعض
__________
[1] وفي التوراة سفر استير الفصل السادس: احشوروش وفي كتب التاريخ احشويروش.
[2] هو الإسكندر المقدوني ابن فيلبس.(2/136)
تمثال [1] رجلا فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك. ونهاه عن أذية المقدس، وأوصاه بامتثال اشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن، فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل، وبارك عليه، ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب اليذكر به، فقال: هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم لك، وأن يسمي كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر، فرضي الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن، وسأله أن يستخير الله في حرب دارا، فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال وقص عليه الإسكندر رؤيا رآها فأوّلها له بأنه يظفر بدارا.
ثم انصرف الإسكندر وسار في نواحي بيت المقدس، ومرّ بنابلس ولقيه سنبلاط السامريّ وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم، فأضافه وأهدى له أموالا وأمتعة واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له، فبناه وأقام صهره منشا كوهنا فيه، وزعم أنه المراد بقوله في التوراة اجعل البركة على جيل كريدم. فقصده اليهود في الأعياد، وحملوا اليه القرابين وعظم أمره، وغص بشأنه أهل بيت المقدس، إلى أنّ خربه هرمايوس بن شمعون أوّل ملوك بني حشمناى كما يأتي ذكره.
ثم هلك الإسكندر ببابل بعد استيفاء مدّته لاثنتين وثلاثين من ملكه وقد كان قسم ملكه بين عظماء دولته، فكان سلياقوس بعد الإسكندر وكان عظيم أصحابه، فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالا وذخائر نفيسة ورغبوه في ذلك، فبعث عظيما من قوّاده اسمه أبردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت، وأنكر الكاهن حنّيان [2] أن يكون بالبيت إلّا بقية الصدقات من فارس ويونان وما أعطاهم سلياقوس آنفا، فلم يقبل، ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء. وجاء أدروس ليقبض المال فصدع في طريقه، وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون الاقالة والدعاء لأردوس، فدعوا له وعوفي وارتحل.
وازداد الملك سلياقوس إعظاما للبيت وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفا.
__________
[1] العبارة هنا مشوشة ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا على ما يصحح هذه العبارة. ومقتضى السياق:
ورأى امام تمثال رجلا فقال ...
[2] ورد اسمه في التوراة حناني (سفر تحميا- الفصل الأول) .(2/137)
قال ابن كريّون: ثم ترجمت التوراة لليونانيين وكان من خبرها أنّ تلماي [1] ملك مصر من اليونانيين بعد الإسكندر، وكان من أهل مقدونية، وكان محبا للعلوم ومشغوفا بالحكمة والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفرا فتاقت نفسه للوقوف عليها، وكتب إلى كهنون القدس في ذلك وأهدى له، فاختار سبعين من أحبار اليهود وعلمائهم وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر، وبعثهم إليه ومعهم الأسفار فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول ورتب مع كل واحد كاتبا يملي عليه ما يترجم له، حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية، وصحّحها وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من مائة ألف، وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر والنيل ورصعها بالجواهر والفصوص وبعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل.
ثم ملك تلماي صاحب مصر، واستولى بعده أنطيخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر، وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق، واستفحل ملكه وعظم طغيانه، وأمر الأمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناما على صورته، فامتنع اليهود من قبولها وسعى بهم عنده بعض شرارهم، وكانوا أهل نجدة وشوكة، فسار انطيخوس إليهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي، وفروا إلى الجبال والبراري، فرجع واستخلف على بيت المقدس قائدة فليلقوس، وأمره أن يحملهم على السجود لأصنامه وعلى أكل الخنزير وترك السبت والختان، ويقتل من يخالفه. ففعل ذلك أشدّ ما يكون، وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين، وقتل العازر الكوهن الّذي ترجم لهم التوراة لمّا امتنع من السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيّا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام، وكان رجلا صالحا خيّرا شجاعا، وأقام بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد انطيخوس الرحلة عن القدس، بعث متيتيّا إلى اليهود يعرفهم بمكانه، وينمعض لهم ويحرّضهم على الثورة على اليونانيين، فأجابوه وتراسلوا في ذلك، وبلغ الخبر فليلقوس قائد أنطيخوس، فسار في عسكره إلى البريّة طالبا متيتيا وأصحابه، فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره.
__________
[1] هو بطليموس مؤسس دوله البطالسة في مصر.(2/138)
وقوي اليهود على الخلاف، وهلك متيتيّا خلال ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية. وشغل أنطيخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية، واستخلف عليهم ابنه أفظر، وضمّ إليه عظيما من قومه اسمه ليشاوش، وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود، فبعثوا ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس، وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا فسارت العساكر، واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب، وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيّا مقدّم اليهود للقائم بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به، ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه، واثخنوا فيه بالقتل، وغنموا ما معهم، ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس وصردوس ثانيا فهزموهما كذلك، وقبضوا على فليلقوس القائد الأوّل لأنطيخوس فأحرقوه بالنار، ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها وخبّر ليشاوش وأفظر ابن الملك بالهزيمة، فجزعوا لها. ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس، ثم وصل إلى مقدونية واشتدّ غيظه على اليهود، وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده، ودفن في طريقه. وملك أفظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه.
ورجع يهوذا بن متيتيّا إلى القدس، فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح، وأزال ما نصبه من الأصنام، وطهّر المسجد، وبنى مذبحا جديدا للقربان، فوضع فيه الحطب ودعا الله أن يريهم آية في اشتغاله من غير نار، فاشتعل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة، واتخذوا ذلك اليوم عيدا سمّوه عيد العساكر.
ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيّا في عسكر اليهود وثبت عسكر ليشاوش فانهزموا، ولجأ إلى بعض الحصون وطلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم، فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد وكان ذلك. وتم الصلح وعاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم، وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه.
قال ابن كريّون: وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم، وكانوا برومية وكان أمرهم شورى بين ثلاثمائة وعشرين رئيسا، ورئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبّر أمرهم، ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته منهم أو من سواهم. هكذا كان شأنهم لذلك العهد، وكانوا قد غلبوا اليونانيين واستولوا على ملكهم، وأجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم، فأجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر وابن(2/139)
عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكيّة، وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس واليونانيين فأجابوهم إلى ذلك، وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثمة راسلهم في الصلح وأن يقيموا على عهدهم معه وتحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال، وأن يقتل من عنده من شرار اليهود الساعين عليهم، فتم العهد بينهم على ذلك وقتل شملاوش من الساعين على اليهود، ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس [1] بن سلياقوس إلى أنطاكية، ولقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن عمه ليشاوش، وملك الروم أنطاكية. ونزلها قائدهم دمترياس وكان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس، فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في اليهود ورغبه في ملك القدس والاستيلاء على أمواله، فبعث قائده نيقانور لذلك وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته، وقدم بين يديه الهدايا والتحف، فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود وحسن رأيه وأكد بينه وبينهم العهد. ورجع وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود، وزاد في إغرائه فبعث إلى قائده ينكر عليه ويستحثه لإنفاذ أمره، وأن يحمل يهوذا مقيّدا. وبلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية، واتبعه نيقانور في العساكر فكرّ عليه يهوذا وهزمه وقتل أكثر عساكر الروم الذين معه. ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس، واتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا وهو ثالث عشر آذار.
ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل قائده الآخر يعتروس في ثلاثين ألفا من الروم لمحاربة اليهود، وخرجت عساكرهم من المقدس، وفرّوا عن ملكهم يهوذا وافترقوا في الشعاب، وأقام معه منهم فلّ قليل، واتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا وأكمن له فانهزم اليهود، وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيّا. ولحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود، بنواحي الأردن وتحصنوا ببئر سبع، فحاصرهم يعتروس هنالك أياما، ثم بيتوه فهزموه وخرج يوناثال واليهود في اتباعه فتقبضوا عليه، ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال إثر ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون، فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره، وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم، وزحف
__________
[1] هو القائد الروماني الشهير ميتريدات.(2/140)
إليه دمترياس قائد الروم بأنطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره.
ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي زوج أخته فقتله وتقبض على بنيه وامرأته، وهرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها، وكان اسمه يوحان وكان شجاعا قتل في بعض الحروب شجاعا اسمه هرقانوس فسمّاه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود وملكوه وسار إلى بيت المقدس، وفرّ تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون، فامتنع به وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه، وأشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهدّده بقتلهما، فكف عن الحرب، وانصرف لحضور عيد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته وأمّه وفرّ من الحصن.
قال ابن كريّون: ثم زحف دمترياس بن سلياقوس قائد الروم إلى القدس وحاصر اليهود فامتنعوا، وثلم السور، وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم، ففعل على أن يكون له نصيب في القربان. ووقعت في نفسه صاغية اليهم، وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم، وراسلوه في الصلح على المسالمة والمظاهرة لبعض فأجاب. وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه ثلاثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور بني داود. ورحل عنهم الروم، وشغل هرقانوس في رمّ ما ثلم [1] من السور، وحدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس والروم فسار إليهم دمترياس في جموع الروم، وبينما أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأنّ الفرس هزموا دمترياس، فنهز الفرصة وزحف إلى أعدائه من أهل الشام وفتح نابلس وحصون أروم التي بجبل الشراة، وقتل منهم خلقا ووضع عليهم الجزية وأخذهم بالختان والتزام أحكام التوراة، وخرب الهيكل الّذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الإسكندر، وقهر جميع الأمم المجاورين لهم، ثم بعث وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبّرين برومة يسأل تجديد العهد، وأن يردّوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم، فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك وخاطبوه بملك اليهود. وإنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك، وجمع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك، وكان أوّل ملوك بني حشمناي. ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخرّبها وقتل أهلها.
__________
[1] أي ترميم ما تهدّم.(2/141)
قال ابن كريّون: وكان اليهود في دينهم يومئذ ثلاث فرق. فرقة الفقهاء وأهل القياس [1] ويسمّونهم الفروشيم وهم الربّانيّون، وفرقة الظاهريّة المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم ويسمونهم الصدوقيّة وهم القرّاءون، وفرقة العبّاد المنقطعين إلى العبادة والتسبيح والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس وآباؤه من الربانيين، ففارق مذهبهم إلى القراءين لأنه جمع اليهود يوما عند ما تمهّد أمره، وأخذ بمذاهب الملك، وألقى به في صنيع احتفل فيه وألان لهم جانبه وخضع في قوله وقال:، أريد منكم النصيحة. فطمع بعض الربانيين فيه وقال: إنّ النصيحة أن تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الملك وقد فاتك شرطها لأنّ أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس. فغضب لذلك وقال للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنكر لهم من أجل ذلك، وفارق مذهبهم إلى مذهب القراءين، وقتل من الربانيين خلقا كثيرا، ونشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود، واتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد.
وهلك هرقانوس لإحدى وثلاثين سنة من دولته، وملك بعده ابنه أرستبلوس وكان كبيرهم، وكان له ولدان آخران وهم أنطقنوس ويحبّ الملك له ويبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل، فلما ملك أرستبلوس أخذ من اخوته بمذهب أبيهم وقبض على الإسكندر وأمه واستخلص أنطقنوس وقدّمه على العساكر، واكتفى به في الحروب، وترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردّهم إلى الطاعة، وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به، فلما قدم أنطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال، وكان أخوه ملتزما بيته لمرض طرقه، فعدل أنطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك، فأوهموا الملك أنّه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنونية والعامة وأنّه يروم قتل أخيه، وعلامة ذلك أنّه جاء بسلاحه، فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصه إن جاء متسلحا أن يقتلوه.
وكان ذلك وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه وعلم أرستبلوس أن قد خدع في أخيه، فندم واغتمّ ولطم صدره حتى قذف الدم من فيه، وأقام عليلا بعده حولا كاملا ثم هلك. فأفرجوا على أخيه الإسكندر من محبسه، وبايعوا له بالملك واستقام له الأمر، ثم انتقض عليه أهل عكّا وأهل صيدا وأهل غزة بعثوا إلى قبرص، وسار
__________
[1] وفي نسخة اخرى: أهل القيافة.(2/142)
الإسكندر إلى عكّا فحاصرها وكانت كلوبطرة ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو وأجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها، فبعث أهل عكّا أنّهم يملكونه وأجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل، حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم ومنعوا ألظيرو، وامن الدخول إليهم، فسار في بلاد الإسكندر ونزل على جبل الخليل فقتل منه خلقا، ونزل على الأردن. وفي خلال ذلك زحف الإسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة واستباحها، وعاد إلى القدس وقد أطاعته البلاد وحسم داء المنتقضين عليه.
ثم تجدّدت الفتنة بين اليهود بالقدس وذلك أنّهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد، وحضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشوم ومأكول، وأصاب الإسكندر رمية من الربّانيين فغضب لها، وشاتمهم القراءون بما كانوا من شيعته، فشتموا الإسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه فلم يغن عنهم، وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع، وعهد الإسكندر ان يستدّ المذبح والكهنة بحائط عن الناس، ونفذ أمره بذلك، واتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفا، والإسكندر يعين القراءين عليهم، وبعثوا إلى دمتريوس المسمّى أنطيخوس، وبذلوا له المال فسار معهم إلى نابلس ولقي الإسكندر فهزمه وقتل عامّة أصحابه ورجع. فخرج الإسكندر إلى الربّانيين وأثخن فيهم وظفر منهم بجماعة تزيد على ثلاثمائة فقتلهم صبرا وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير من بلاده، وخرج فظفر به الإسكندر وقتله.
وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربّانيين ودمتريوس، فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين، وخرج بعدها لحصار بعض الحصون وانتقضوا عليه فمات هنالك، وأوصى امرأته الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه [1] إلى القدس فتدفنه فيه، وتصانع الربّانيين على ولدها فتملكه، لأن العامّة إليهم أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافرا من الربّانيين، وجمعتهم وقدّمتهم للشورى، واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الإسكندر بن هرقانوس، اسم الأكبر منهما هرقانوس، والآخر أرستبلوس، وكانا صغيرين عند موت أبيهما فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدّمت أرستبلوس على
__________
[1] ج أشلاء وهنا تعني جثته أو رفاته.(2/143)
العساكر والحروب، وضمّت إليه الربّانيين، وأخذت الرهن من جميع الأمم وسألها الربّانيون في الأخذ بثأرهم من القرّاءين خلقا كثيرا. وجاء القراءون إلى ابنها الكهنون ينكرون ذلك وأنّه إذا فعل بهم ذلك، وقد كانوا شيعا لأبيه الإسكندر، فقد تحدث النفرة من سائر الناس. وسألوه أن يلتمس لهم اذنها في الخروج عن القدس والبعد عن الربانيين، فأذنت لهم رغبة في انقطاع الفتنة، وخرج معهم وجوه العسكر. ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها، ويقال إنّ ظهور عيسى صلوات الله عليه كان في أيامها. وكان ابنها أرستبلوس قائد العسكر لما شعر بموتها خرج إلى القراءين يستدعيهم إلى نصرته فأجازوه، وتقبضت هي على ابنيه وامرأته، واجتمعت عليه العساكر من النواحي وضرب البوق وزحف لحرب أخيه هرقانوس والربانيين، وحاصرهم أرستبلوس ببيت المقدس، وعزم على هدم الحصن فخرج إليه أعيان اليهود والكهنونية ساعين في الصلح بينهما، وأجاب على أن يكون ملكا ويبقى هرقانوس على الكهنونيّة، فتم ذلك واستقر عليه أمره.
ابتداء أمر انظفتر [1] أبو هيردوس
ثم سعى في الفتنة بينهما انظفتر أبو هيردوس، وكان من عظماء بني إسرائيل من الذين جمعوا مع العزير من بابل، وكان ذا شجاعة وبأس، وله يسار وقنية من الضياع والمواشي. وكان الإسكندر قد ولّاه على بلاد أروم [2] وهي جبال الشراة، فأقام في ولايتها سنين، وكثر ماله وأنكحوه منهم، فكان له منها أربعة من الأبناء وهم فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف، وبنت اسمها سلومث. وقيل أنّ أنظفتر لم يكن من بني إسرائيل، وإنّما كان من أروم وربي في جملة بني خشمناي وبيوتهم. فلما مات الإسكندر وملكت زوجته الاسكندرة عزلته عن جبال الشراة، فأقام بالقدس. حتى إذا استبد بالأمر أرستبلوس، وكان بين هرقانوس وأنظفتر مودّة وصحبة، فغصّ أرستبلوس بمكانه من أخيه لما يعلم من مكر أنظفتر وهمّ بقتله، فانفض عنه وأخذ في التدبير على أرستبلوس. وفشا في الناس تبغضه إليهم وينكر تغلبه، ويذكر لهم أن هرقانوس أحق بالملك منه، ثم حذر هرقانوس من أخيه وخيّل إليه أنه يريد قتله،
__________
[1] وهو معروف في التاريخ باسم انتيباتر.
[2] وفي نسخة ثانية أدوم.(2/144)
وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من ذلك حتى تمكن منه الخوف، ثم أشار عليه بالخروج الى ملك العرب هرثمة، وكان يحب هرقانوس، فعقد معه عهدا على ذلك، ولحق هرقانوس بهرثمة ومعه أنظفتر، ثم دعوا هرثمة الى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة، وتزاحفوا ونزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس، فرجع هاربا الى القدس، ونازلهم هرقانوس وهرثمة واتصلت الحرب وطال الحصار.
وحضر عيد الفطير وافتقد اليهود القرابين فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس فيها، فاشتطوا في الثمن، ثم أخذوه ولم يعطوهم شيئا، وقتلوا بعض النساك طلبوه في الدعاء على أرستبلوس وأصحابه، وامتنع فقتلوه، ووقع فيهم الوباء فمات منهم أمم.
قال ابن كريون: وكان الأرمن ببلاد دمشق وحمص وحلب، وكانوا في طاعة الروم، فانتقضوا عليهم في هذه المدّة وحدثت عندهم صاغية إلى الفرس، فبعث الروم قائدهم فمقيوس [1] فخرج لذلك من رومية، وقدم بين يديه قائده سكانوس فطوّع الأرمن ولحق دمشق، ثم لحقه فمقيوس ونزل بها. وتوجهت إليه وجوه اليهود في أثرهم، وبعث إليه أرستبلوس من القدس وهرقانوس من مكان حصاره، كل واحد منهما يستنجده على أخيه، وبعثوا إليه بالأموال والهدايا فأعرض عنها، وبعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما فرحل عن القدس، ورحل معه هرقانوس وأنظفتر، وأعاد أرستبلوس رسله وهداياه من بيت المقدس، وألحّ في الطلب وجاء أنظفتر الى فمقيوس بغير مال ولا هدية، فنكث عنه فمقيوس، فرجع إلى رغبته ومسح أعطافه وضمن له طاعة هرقانوس الّذي هو الكهنوت الأعظم. ويحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أن يتحيّل له في الباطن ويكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر، وعلى أن يحملوا الخراج عند حصول أمرهم، فضمن أنظفتر ذلك.
وحضر هرقانوس وأرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه، فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس.
وبعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاءوا شاكين من أرستبلوس، فأمره فمقيوس من إنصافهم فغضب لذلك واستوحش وهرب من معسكر فمقيوس وتحصن في القدس، وسار فمقيوس في أثره فنزل أريحا ثم القدس وخرج أرستبلوس واستقال، فأقاله وبذل له الأموال على أن يعينه على أخيه ويحمل له ما في الهيكل من الأموال والجواهر،
__________
[1] هو القائد الروماني المعروف بمبيوس.(2/145)
وبعث معه قائدة لذلك، فمنعهم الكهنونية وثارت بهم العامّة وقتلوا بعض أصحاب القائد وأخرجوه. فغضب فمقيوس وتقبض لحينه على أرستبلوس، وركب ليقتحم البلد فامتنعت عليه، وقتل جماعة من أصحابه فرجع، وأقام عليهم. ووقعت الحرب بالمدينة بين شيع أرستبلوس وهرقانوس، وفتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد وملك القصر وامتنع الهيكل عليه، فأقام يحاصره أياما، وصنع آلة الحصار فهدم بعض أبراجه واقتحمه عنوة، ووجد الكهنونية على عبادتهم وقربانهم مع تلك الحرب، ووقف على الهيكل فاستعظمه ولم يمد يده إلى شيء من ذخائره، وملك عليهم هرقانوس، وضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة. ورفع يد اليهود عن جميع الأمم الذين كانوا في طاعتهم، ورد عليهم البلدان التي ملكها بنو حشمناي، ورجع الى رومة.
واستخلف هرقانوس وأنظفتر على المقدس وأنزل معهما قائده سكانوس الّذي قدّمه لفتح دمشق وبلاد الأرمن عند ما خرج من روميّة، وحمل أرستبلوس وابنيه مقيدين معه، وهرب الثالث من بنيه وكان يسمّى الإسكندر ولحقه فلم يظفر به. ولما بعد فمقيوس عن الشام ذاهبا إلى مكانه خرج هرقانوس وأنظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم، فخالفهم الإسكندر بن أرستبلوس إلى المقدس وكان متغيبا بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح، فدخل إلى المقدس وملّكه اليهود عليهم وبنى ما هدمه فمقيوس من سور الهيكل، واجتمع إليه خلق كثير. ورجع هرقانوس وأنظفتر فسار إليهم الإسكندر وهزمهم وأثخن في عساكرهم. وكان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى بلاد الأرمن من بعد فمقيوس، فلحق به واستنصره على الإسكندر فسار معه إلى القدس، وخرج إليهم الإسكندر فهزموه، ومضى إلى حصن له يسمى الإسكندرونة واعتصم به.
وسار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه، وسار كينانوس قائد الروم إلى الإسكندر فحاصره بحصنه واستأمن اليه فقبله وعفا عنه وأحسن إليه. وفي أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه بروميّة، وابنه أنطقنوس واجتمع إليه، فحاربه كينانوس وهزمه وحصل في أسره فرده إلى محبسه بروميّة، ولم يزل هنالك إلى أن تغلب قيصر على روميّة، واستحدث الملك في الروم.
وخرج فمقيوس من روميّة إلى نواحي عمله وجمع العساكر لمحاربة قيصر، فأطلق(2/146)
ارستبلوس من محبسه، وأطلق معه قائدين في اثني عشر ألف مقاتل، وسرّحهم إلى الأرمن واليهود ليردوهم عن طاعة فمقيوس، وكتب فمقيوس إلى أنظفتر ببيت المقدس أن يكفيه أمر أرستبلوس، فبعث قوما من اليهود لقوة في بلاد الأرمن ودسّوا له سما في بعض شرابه كان فيه حتفه. وقد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب روميّة في إطلاق من بقي من ولد أرستبلوس فأطلقهم.
قال ابن كريون: وكان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا على ملكهم تلماي وطردوه وامتنعوا من حمل الخراج إلى الروم، فسار إليهم واستنفر معه أنظفتر فغلبهم وقتلهم، وردّ تلماي إلى ملكه واستقام أمر مصر. ورجع كينانوس إلى بيت المقدس فجدّد الملك لهرقانوس، وقدّم أنظفتر مدبّر المملكة وسار إلى روميّة.
قال ابن كريون: ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائدا منهم يسمى عرنبوس، وبعثوه لحربهم، فمرّ بالقدس ودخل إلى الهيكل وطالب الكهنون بما فيه من المال، وكان يسمّى ألعازر من صلحاء اليهود وفضلائهم، فقال له: إن كينانوس وفمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك. فاشتدّ عليه. فقال: أعطيك ثلاثمائة من الذهب وتتجافى عن الهيكل. ودفع إليه سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل الّذي تجدّد، وكان وزنها ثلاثمائة فأخذها ونقض القول وتعدّ على الهيكل، وأخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا والغنائم وقربانات الملوك والأمم وجميع آلات القدس، وسار إلى لقاء الفرس فحاربوه وهزموه وأخذوا جميع ما كان معه وقتل. واستولت الفرس على بلاد الأرمن من دمشق وحمص وحلب وما إليها، وبلغ الخبر الى الروم فجهزوا قائدا عظيما في عساكر جمة اسمه كسنا و، فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها. وساروا إلى القدس فوجد اليهود يحاربون هرقانوس وأنظفتر فأعانهما حتى استقام ملك هرقانوس ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم وحملهم على طاعة الروم، ورد الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة، وكانوا اثنين وعشرين ملكا من الفرس كان فمقيوس قائد الروم هزمهم، فلما سار عنهم انتقضوا.
قال ابن كريون: ثم ابتدأ أمر القياصرة وملك على الروم يولياس ولقبه قيصر لأنّ أمّه ماتت حاملا به عند مخاضها فشق بطنها عنه فلذلك سمّي قيصر، ومعناه بلغتهم القاطع. ويسمّى أيضا يولياس باسم الشهر الّذي ولد فيه وهو يوليه خامس(2/147)
شهورهم [1] ومعنى هذه اللفظة عندهم الخامس، وكان الثلاثمائة والعشرون المدبّرون أمر الروم والشيخ الّذي عليهم قد أحكموا أمرهم مع جماعة الروم على أن لا يقدّموا عليهم ملكا، وأنهم يعينون للحروب في الجهات قائدا بعد آخر. هذا ما اتفقوا عليه النقلة في الحكاية عن أمر الروم وابتداء ملك القياصرة. قالوا ولما رأى قيصر هذا الشيخ الّذي كان لذلك العهد كبر وشب على غاية من الشجاعة والاقدام، فكانوا يبعثونه قائدا على العساكر إلى النواحي، فأخرجوه مرّة إلى المغرب فدوّخ البلاد، ورجع فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له وأخبروه أنّ هذا سنّة آبائهم منذ أحقاب، وحدّثوه بالسبب الّذي فعلوا ذلك لأجله، وهو أمر كيوس وأنه عهد لأوّلهم لا ينقض، وقد دوّخ فمقيوس الشرق، وطوّع اليهود ولم يطمع في هذا فوثب عليهم قيصر وقتلهم واستولى على ملك الروم منفردا به وسمّى قيصر، وسار الى فمقيوس بمصر فظفر به وقتله، ورجع فوجد بتلك الجهات قواد فمقيوس فسار إليهم يولياس قيصر ومرّ ببلاد الأرمن فأطاعوه، وكان عليهم ملك اسمه مترداث فبعثه قيصر إلى حربهم.
فسار في الأرمن ولقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان ونفر معه إلى مصر هو وأنظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس، وساروا جميعا إلى مضر ولقيتهم عساكرها واشتدّ الحرب فحصر بلادهم، وكادت الأرمن أن ينهزموا، فثبت أنظفتر وعساكر اليهود وكان لهم الظفر واستولوا على مصر، وبلغ الخبر الى قيصر فشكر لأنظفتر حسن بلائه واستدعاه فسار إليه مع ملك الأرمن مترداث فقبله وأحسن وعده. وكان أنطقنوس بن أرستبلوس قد اتصل بقيصر وشكى بأنّ هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس، وفتحيّل عليه هرقانوس وأنظفتر وقتلاه مسموما، فأحسن أنظفتر العذر لقيصر بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم، وإنما كنت ناصحا لقائدهم فمقيوس بالأمس، وأنا اليوم أيها الملك لك أنصح وأحب، فحسن موقع كلامه من قيصر ورفع منزلته وقدّمه على عساكره لحرب الفرس، فسار اليه أنظفتر وأبلى في تلك الحروب ومناصحة قيصر، فلما انقلبوا من بلاد الفرس أعادهم قيصر الى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه.
واستقام الملك لهرقانوس وكان خيرا، إلّا أنه كان ضعيفا عن لقاء الحروب فتغلّب
__________
[1] يوليه: هو شهر تموز وهو الشهر السابع كما في تقويمنا الحالي، ولكن السنة عندهم كانت تبدأ بشهر آذار أو «مارت» فيكون شهر يوليه هو الخامس كما ذكر.(2/148)
عليه أنظفتر، واستبد على الدولة، وقدّم ابنه فسيّلو ناظرا في بيت المقدس، وابنه هيردوس عاملا على جبل الخليل، وكان كما بلغ الحلم واحتازوا الملك من أطرافه وامتلأ أهل الدولة منهم حسدا وكثرت السعاية فيهم، وكان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمّى حزقيّا وكان شجاعا صعلوكا واجتمع إليه أمثاله فكانوا يغيرون على الأرمن وينالون منهم. وعظمت نكايتهم فيهم فشكى عامل بلاد الأرمن وهو سفيوس ابن عمّ قيصر الى هيردوس وهو بجبل الخليل ما فعله حزقيّا وأصحابه في بلادهم، فبعث هيردوس إليه سريّة فكبسوهم، وقتل حزقيّا وغيره منهم، وكتب بذلك إلى سفيوس فشكره وأهدى إليه اليهود.
ونكر اليهود ذلك من فعل هيردوس وتظلموا منه عند هرقانوس وطلبوه في القصاص منه، فأحضروه في مجلس الأحكام وأحضر السبعين شيخا من اليهود، وجاء هيردوس متسلحا ودافع عن نفسه، وعلم هرقانوس بغرض الأشياخ، ففصلوا المجلس فنكروا ذلك على هرقانوس، ولحق هيردوس ببلاد الأرمن فقدّمه سفيوس على عمله.
ثم أرسل هرقانوس إلى قيصر يسأل تجديد عهود الروم لهم، فكتب له بذلك، وأمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا وغزّة، ويحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألف وسق من القمح، وأن يرد على اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات واللاذقية وأعمالها وما كان بنو حشمناي فتحوه عنوة من عدوات الفرات، لأن فمقيوس كان يتعدّى عليهم في ذلك، وكتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم ويونان، وعلقت في أسوار صور وصيدا واستقام أمر هرقانوس.
قال ابن كريّون: ثم قتل قيصر ملك الروم. وأنظفتر وزير هرقانوس المستبد عليه. أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله، وملك وجمع العساكر وعبر البحر إلى بلاد أشيّت ففتحها، ثم سار إلى القدس وطالبهم بسبعين بدرة من الذهب، فجمع له أنظفتر وبنوه من اليهود، ثم رجع كيساوس إلى مقدونية فأقام بها. وأما أنظفتر فإن اليهود داخلوا القائد ملكيّا الّذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس، فأجابهم الى ذلك، فدسّوا إلى ساقيه سمّا فقتله، وجاء ابنه هيردوس إلى القدس مجمعا قتل هرقانوس، فكفّه فسيّلوا عن ذلك، وجاء كيساوس من مقدونية إلى صور، ولقي هرقانوس وهيردوس وشكوا إليه ما فعله قائده ملكيا من(2/149)
مداخلة اليهود في قتل أنظفتر، فأذن لهم في قتله فقتلوه. ثم زحف كينانوس بن أخي قيصر وقائده أنطيوس [1] في العساكر لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر، فلقيهم قريبا من مقدونية فظفرا به وقتلاه، وملك كينانوس مكان عمه وسمى أوغسطس قيصر باسم عمه. فأرسل إليه هرقانوس ملك اليهود بهدية وفيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر وسأل تجديد العهد لهم، وأن يطلق السبيّ [2] الّذي سبي منهم أيام كيساوس، وأن يرد اليهود إلى بلاد يونان وأثينة، وأن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر، فأجابه إلى ذلك كله.
وسار أنطيانوس وأوغسطس قيصر إلى بلاد الأرمن بدمشق وحمص، فلقته هنالك كلبطرة ملكة مصر وكانت ساحرة، فاستأمنته وتزوّجها وحضر عنده هرقانوس ملك اليهود. وجاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس وأخيه فسيّلو وتظلموا منهما، وأكذبهم ملكهم هرقانوس وأبى عليها، وأمر انطيانوس بالقبض على أولئك الشاكين وقتل منهم، ورجع هيردوس وأخوه فسارا إلى مكانهما ومكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس، وسار أنطيانوس إلى بلاد الفرس فدوّخها وعاث في نواحيها وقهر ملوكهم وقفل الى رومة.
قال ابن كريّون: وفي خلال ذلك لحق أنطقنوس وجماعة من اليهود بالفرس، وضمنوا لملكهم أن يحملوا إليه بدرة من الذهب وثمانمائة جارية من بنات اليهود ورؤسائهم يسبيهنّ له، على أن يملكه مكان عمه هرقانوس ويسلمه إليه، ويقتل هيردوس وأخاه فسيّلو، فأجابهم ملك الفرس إلى ذلك، وسار في العساكر وفتح بلاد الأرمن وقتل من وجد بها من قواد الروم ومقاتلتهم، وبعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس موريا بالصلاة في بيت المقدس والتبرك بالهيكل، حتى إذا توسط المدينة ثار بها وأفحش في القتل، وبادر هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه، ومضى فسيلو إلى الحصن يضبطه. وتورّط من كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم، وامتنعوا على القائد، وفسد ما كان دبره في أمر أنطقنوس فرجع إلى استمالة هرقانوس وهيردوس، وطلب الطاعة منهم للفرس وأنه يتلطف لهم عند الملك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انطونيوس.
[2] السبي: بضم السين ج (سبّي) ويطلق في الأغلب على النساء، أما الرجال فيعبر عنهم في مثل هذا الحال بالأسرى.(2/150)
في إصلاح حالهم، فصغى هرقانوس وفسيّلو إلى قوله وخرجوا إليه. وارتاب هيردوس وامتنع فارتحل بهما قائد الفرس حتى إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما فمات فسيّلو من ليلته، وقيد هرقانوس واحتمله إلى بلاده، وأشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من الكهنونة.
ولما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال، وأحسن إليه إلى أن استدعاه هيردوس، كما يأتي بعد، وبعث ملك الفرس قائده إلى اليهود مع أنطقنوس ليملك، فخرج هيردوس عن القدس إلى جبل الشّراة فترك عياله بالحصن عند أخيه يوسف، وسار إلى مصر يريد قيصر. فأكرمته كلبطرة ملكة مصر، وأركبته السفن إلى رومية، فدخل بها انطيانوس إلى أوغسطس قيصر، وخبره الخبر عن الفرس والقدس، فملكه أوغسطس وألبسه التّاج وأركبه في رومية في زي الملك، والهاتف بين يديه بأن أوغسطس ملّكه. واحتفل انطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر وشيوخ رومية، وكتبوا له العهد في ألواح من نحاس، ووضعوا ذلك اليوم التاريخ، وهو أول ملك هيردوس.
وسار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس ومعه هيردوس، وفارقه من أنطاكية وركب البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس، فخرج أنطقنوس إلى جبال الشّرارة للاستيلاء على عيال هيردوس، وأقام على حصار الحصن، وجاء هيردوس فحاربه وخرج يوسف من الحصن من ورائه، فانهزم أنطقنوس إلى القدس، وهلك أكثر عسكره.
وحاصره هيردوس وبعث انطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم يجيبوه، وأقام هيردوس على حصاره حتى جاء الخبر عن أنطيانوس قائد قيصر أنه ظفر بملك الفرس وقتله ودوّخ بلادهم، وأنه عاد ونزل الفرات. فترك هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو، ومن تبعهم من الأرمن، وسار للقاء أنطيانوس، وبلغه وهو بدمشق أنّ أخاه يوسف قتل في حصار القدس على يد قائده أنطقنوس، وأنّ العساكر انفضت ورجعوا إلى دمشق، وجاء سيساو منهزما قائد أنطيانوس بالعساكر. وتقدّم هيردوس وقد خرج أنطقنوس للقائه فهزمه، وقتل عامّة عسكره واتبعه إلى القدس. ووافاه سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياما، ثم اقتحموا البلد وتسللوا صاعدين إلى السور، وقتلوا الحرس وملكوا المدينة، وأفحش سيساو في قتل اليهود، فرغب إليه هيردوس في الإبقاء. وقال له: إذا قتلت قومي(2/151)
فعلى من تملكني؟ فرفع القتل عنهم وردّ ما نهب وقرّب إلى البيت تاجا من الذهب وضعت فيه، وحمل إليه هيردوس أموالا. ثم عثروا على أنطقنوس مختفيا بالمدينة، فقيده سيساو القائد، وسار به إلى أنطيانوس، وقد كان سار من الشام إلى مصر، فجاءه بأنطقنوس هنالك، ولحق بهم هيردوس وسأل من أنطيانوس قتل أنطقنوس فقتله. واستبد هيردوس بملك اليهود وانقرض ملك بني حشمناي والبقاء للَّه وحده.
انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس وبنيه
وكان أوّل ما افتتح به ملكه أن بعث إلى هرقانوس الّذي احتمله الفرس وقطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته، ورغّبه في الكهنونية التي كان عليها، فرغب وحذّره ملك الفرس من هيردوس، وعزله اليهود الذين معه، وأراه أنّها خديعة وأنه العيب الّذي به يمنع الكهنونية، فلم يقبل شيئا من ذلك. وصغى إلى هيردوس وحسن ظنّه به وسار إليه وتلقّاه بالكرامة والإعطاء وكان يخاطبه بأبي في الجمع والخلوة.
وكانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الإسكندر وابن أخيه أرستبلوس، وكانت بنتها منه مريم تحت هيردوس، فاطلعتا على ضمير هيردوس من محاولة قتله، فخبرتاه بذلك واشارتا عليه باللحاق بملك العرب ليكون في جواره، فخاطبه هرقانوس في ذلك وأن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج به إلى أحيائهم، وكان حامل الكتاب من اليهود مضطغنا على هرقانوس لأنه قتل أخاه وسلب ماله، فوضع الكتاب في يد هيردوس، فلما قرأه ردّه إليه وقال: أبلغه إلى ملك العرب وأرجع الجواب إليّ. فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس، وأنه أسعف وبعث الرجال فالقهم بوصولك إليّ. فبعث هيردوس من يقبض على الرجال بالمكان الّذي عينه، وأحضرهم وأحضر حكام البلاد اليهود والسبعين شيخا. وأحضر هرقانوس وقرأ عليه الكتاب بخطه، فلم يحر جوابا وقامت عليه الحجة، وقتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره وأربعين من ملكه، وهو آخر ملوك بني حشمناي.
وكان للإسكندر بن أرستبلوس، ابن يسمّى أرستبلوس، وكان من أجمل الناس صورة، وكان في كفالة أمه الإسكندرة، وأخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه. وكان هيردوس يغص به وكانت أخته وأمهما يؤمّلان أن يكون كوهنا بالبيت مكان جدّه هرقانوس، وهيردوس يريد نقل الكهنونة عن بني حشمناي، وقدّم لها رجلا من(2/152)
عوام الكهنونية، وجعله كبير الكهنونية، فشق ذلك على الاسكندرة بنت هرقانوس وبنتها مريم زوج هيردوس. وكان بين الإسكندرة وكلوبطرة ملكة مصر مواصلة ومهاداة، وطلبت منها أن تشفع زوجها انطيانوس في ذلك إلى هيردوس، فاعتذر له هيردوس بأنّ الكواهن لا تعزل، ولو أردنا ذلك فلا يمكّننا أهل الدين من عزله، فبعث بذلك إلى الإسكندرة. ودست الإسكندرة إلى الرسول الّذي جاء من عند أنطيانوس، وأتحفته بمال فضمن لهم أنّ انطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس إليه، ورجع إلى أنطيانوس فرغبه في ذلك ووصف له من جماله وأغراه باستقدامه، فبعث فيه أنطيانوس إلى هيردوس وهدّده بالوحشة إن منعه، فعلم أنه يريد منه القبيح، فقدّمه كهنونا وعزل الأول، واعتذر لأنطيانوس بأنّ الكوهن لا يمكن سفره، واليهود تنكر ذلك. فأغفل أنطيانوس الأمر ولم يعاود فيه.
ووكل هيردوس بالإسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعي أفعالها، فاطلع على كتبها إلى كلوبطرة أن تبعث إليها السفن والرجال يوصلنها إليها، وأنّ السفن وصلت إلى ساحل يافا، وأن الإسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما هي وابنتها على هيئة الموتى. فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في تابوتيهما فوبخهما ثم عفا عنهما. ثم بلغه أنّ أرستبلوس حضر في عيد المظال، فصعد على المذبح وقد لبس ثياب القدس وازدحم الناس عليه وظهر من ميلهم إليه ومحبتهم ما لا يعبر عنه، فغص بذلك واعمل التدبير في قتله. فخرج في منتزه له بأريحاء في نيسان، واستدعى أصحابه وأحضر أرستبلوس، فطعموا ولعبوا وانغمسوا في البرك يسبحون وعمد غلمان هيردوس إلى أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق وفاض، فاغتم الناس لموته وبكى عليه هيردوس ودفنه، وكان موته لسبع عشرة سنة من عمره. وتأكدت البغضاء بين الإسكندرة وابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق، وبين أمّ هيردوس وأخته، وكثرت شكواهما إليه فلم يشكهما لمكان زوجته مريم وأمّها منه.
قال ابن كريّون: ثم انتقض أنطيانوس على أوغسطس قيصر وذلك انه تزوّج كلوبطرة وملك مصر، وكانت ساحرة فسحرته واستمالته، وحملته على قتل ملوك كانوا في طاعة الروم، وأخذ بلادهم وأموالهم، وسبي نسائهم وأموالهم وأولادهم.
وكان من جملته هيردوس وتوقف فيه خشية من أوغسطس قيصر، لأنه كان يكرمه بسبب ما صنع في الآخرين، فحمله على الانتقاض والعصيان، ففعل وجمع(2/153)
العسكر واستدعى هيردوس فجاءه وبعثه إلى قتال العرب، وكانوا خالفوا عليه، فمضى هيردوس لذلك ومعه أنيثاون قائد كلوبطرة، وقد دست له أن يجرّ الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل. وثبت هيردوس وتخلص من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق كثير.
ورجع هيردوس إلى بيت المقدس فصالح جميع الملوك والأمم المجاورين له، وامتنع العرب من ذلك فسار إليهم وحاربهم، ثم استباحهم بعد أيام ومواقف بذلوا وجمعوا له الأموال وفرض عليهم الخراج في كل سنة ورجع. وكان أنطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة وكانت بينه وبين أغسطس قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها وقتله، وسار إلى مصر فخافه هيردوس على نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس وموالاته، ولم يمكنه التخلف عن لقائه. فأخرج خدمه من القدس فبعث بأمّه وأخته إلى قلعة الشّراة لنظر أخيه فرودا، وبعث بزوجه مريم وأمها الإسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر زوج أخته يوسف ورجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما وعهد إليهما بقتل زوجته وأمّها إن قتله قيصر.
ثم حمل معه الهدايا وسار الى أوغسطس قيصر وكان تحقد له صحبة أنطيانوس، فلما حضر بين يديه عنّفه وأزاح التاج عن رأسه وهمّ بعقابه، فتلطف هيردوس في الاعتذار، وأنّ موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من الجميل في السعاية عند الملك وهي أعظم أياديه عندي، ولم تكن موالاتي له في عداوتك ولا في حربك ولو كان ذلك وأهلكت نفسي دونه كنت غير ملوم، فإن الوفاء شأن الكرام. فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلي ولا نظري، وإن أبقيتني فأنا محل الصنيعة والشكر. فانبسط أوغسطس لكلامه وتوّجه كما كان، وبعثه على مقدّمته إلى مصر، فلما ملك مصر وقتل كلوبطرة وهب لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه ونفل. فأعاد هيردوس إلى ملكه ببيت المقدس وسار إلى رومية.
قال ابن كريّون: ولما عاد هيردوس الى بيت المقدس أعاد حرمه من أماكنهنّ، فعادت زوجته مريم وأمّها من حصن الإسكندرونة وفي خدمتها يوسف زوج أخته وسوما الصوري وقد كانا حدّثا المرأة وأمّها بما أسر إليهما هيردوس، وقد كان سلف منه قتل هرقانوس وأرستبلوس فشكرتا له. وبينما هو آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سوما الصوري في ملاحاة جرت بينهما، ولم يصدّق ذلك هيردوس(2/154)
للعداوة والثقة بعفة الزوجة. ثم جرى منها في بعض الأيام وهو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسرّ إلى سوما وزوج أخته، فقويت عنده الظّنّة بهم جميعا وأن مثل هذا السرّ لم يكن إلّا لأمر مريب، وأخذ في إخفائها وإقصائها ودسّت عليه أخته بعض النساء تحدّثه بأنّ زوجته داخلته في أن تستحضر السّمّ وأحضره فجرّب وصح وقتل للحين صهره يوسف وصاحبه سوما، واعتقل زوجته ثم قتلها وندم على ذلك، ثم بلغه عن أمّها الاسكندرة مثل ذلك فقتلها. وولّى على أروم مكان صهره رجلا منهم اسمه كرسّوس وزوجته أخته، فسار إلى عمله وانحرف عن دين التوراة والإحسان الّذي حملهم عليه هرقانوس، وأباح لهم عبادة صنمهم وأجمع الخلاف، وطلق أخت هيردوس فسعت به إلى أخيها وخبرته بأحواله وأنه آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثني عشر سنة. فقام هيردوس في ركائبه، وبحث عنه فحضر وطالبه ببني حشمناي الّذي عنده، فأحضرهم فقتله وقتلهم، وأرهف حدّه وقتل جماعة من كبار اليهود ومقدميهم، أتمهم بالإنكار عليه. فأذعن له الناس واستفحل ملكه وأهمل المراعاة لوصايا التوراة وعمل في بيت المقدس سورا واتخذ منتزه لعب، وأطلق فيه السباع ويحمل بعض الجهلة على مقابلتها فتفترسهم، فنكر الناس ذلك وأعمل أهل الدولة الحيلة في قتله فلم تتم لهم، وكان يمشي متنكرا للتجسس على أحوال الناس، فعظمت هيبته في النفوس.
وكان أعظم طوائف اليهود عنده الربّانيون بما تقدّم لهم في ولايته، وكان لطائفة العبّاد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضا، كان شيخهم مناحيم لذلك العهد محدثا وكان حدثه وهو غلام بمصير الملك له، وأخبره وهو ملك بطول مدّته في الملك فدعا له ولقومه. وكان كلفا ببناء المدن والحصون، ومدينة قيسارية من بنائه. ولما حدثت في أيامه المجاعة شمّر لها وأخرج الزرع للناس وبثه فيهم بيعا وهبة وصدقة، وأرسل في الميرة من سائر النواحي، وأمر قيصر في سائر تخومه وفي مصر ورومة أن يحملوا الميرة إلى بيت المقدس، فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة.
وأجرى على الشيوخ والأيتام والأرامل والمنقطعين كفايتهم من الخبز، وعلى الفقراء والمساكين كفايتهم من الحنطة، وفرّق على خمسين ألفا قصدوه من غير ملّته، فرفعت المجاعة وارتفع له الذكر والثناء الجميل.
قال ابن كريّون: ولما استفحل ملكه وعظم سلطانه أراد بناء البيت على ما بناه سليمان(2/155)
بن داود، لأنهم لما رجعوا إلى القدس باذن كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه، فلم يتمّ على حدود سليمان، ولما اعتزم على ذلك ابتدأ أولا بإحضار الآلات مستوفيات خشية أن يحصل الهدم وتطول المدّة وتعرض القواطع والموانع. فأعدّ الآلات وأكمل جمعها في ست سنين، ثم جمع الصنّاع للبناء وما يتعلق به فكانوا عشرة آلاف، وعين ألفا من الكهنة يتولّون القدس الأقدس الّذي لا يدخله غيرهم.
ولما تمّ له ذلك شرع في الهدم فحصل لا قرب وقت، ثم بنى البيت على حدوده وهيئته أيام سليمان وزاد في بعض المواضع على ما اختاره ووقف عليه نظره، فكمل في ثمان سنين. ثم شرع في الشكر للَّه تعالى على ما هيّأ له من ذلك فقرّب القربان واحتفل في الولائم وإطعام الطعام، وتبعه الناس في ذلك أياما فكانت من محاسن دولته.
قال ابن كريّون: ثم ابتلاه الله بقتل أولاده وكان له ولدان من مريم بنت الإسكندرة قتيلة السم، أحدهما الإسكندر والآخر ارستبلوس، وكانا عند قتل أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم، فلما وصلا وقد قتل أمّهما حصلت بينه وبينهما الوحشة، وكان له ولد آخر اسمه انظفتر على اسم جدّه، وكان قد أبعد أمّه راسيس لمكان مريم، فلما هلكت واستوحش من ولدها لطلب محل راسيس منه، قدم ابنها أنظفتر وجعله وليّ عهده، وأخذ في السعاية على اخوته خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فانحرف عنهما. واتفق أن سار الى أوغسطس قيصر ومعه ابنه إسكندر، فشكاه عنده وتبرأ الإسكندر وحلف على براءته، فأصلح بينهما قيصر ورجع إلى القدس. وقسم القدس بين ولده الثلاثة، ووصاهم ووصى الناس بهم، وعهد أن لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن ذلك، وأنظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما وقد داخل في ذلك عمه قدودا وعمته سلومنت، فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما. وبلغ الخبر أرسلاوش ملك كفتور، وكانت بنته تحت الإسكندر، منهما فجاء إلى هيردوس مظهرا السخط على الإسكندر والانحراف عنه وتحيّل في إظهار جراءتهما، وأطلعه على جلية الحال وسعاية أخيه وأخته، فانكشف له الأمر وصدّقه وغضب على أخيه قدودا، فجاء إلى أرسلاوش وأحضره عند هيردوس حتى أخبره بمصدوقيّة الحال، ثم شفعه فيه وأطلق ولديه ورضي عنهما، وشكر لأرسلاوش من تلطفه في تلافي هذا الأمر وانصرف إلى بلده.
ولم ينف ذلك أنظفتر عن تدبيره عليهما، وما زال يغري أباه ويدسّ له من يغريه حتى(2/156)
أسخطه عليهما ثانية واعتقلهما، وأمضى بهما في بعض أسفاره مقيّدين. ونكر ذلك بعض أهل الدولة فدس أنظفتر إلى أبيه المنكر عليّ من المدبّرين عليك، وقد ضمن لحجامك الإسكندر مالا على قتلك. فأنزل هيردوس بهما العقاب ليتكشف الخبر، ونمي بأنّ ذلك الرجل معه ولذعه العقاب وأقرّ على نفسه وقتل هو وأبوه والحجّام، ثم قتل هيردوس ولديه وصلبهما على مصطبة. وكان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش ملك كفتور وهما كوبان والإسكندر، ولابنه أرستبلوس ثلاثة من الولد:
أعرباس وهيردوس وأستروبلوس. ثم ندم هيردوس على قتل ولديه، وعطف على أولادهما فزوّج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا وزوّج ابنة ابنه أرستبلوس من ابن ابنه أنظفتر، وأمر أخاه قدودا وابنه أنظفتر بكفالتهما والإحسان اليهم، فكرها ذلك واتفقا على فسخه وقتل هيردوس متى أمكن.
وبعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى أوغسطس قيصر، ونما الخبر إليه بأنّ أخاه قدودا يريد قتله، فسخطه وأبعده وألزمه بيته. ثم مرض قدودا واستبدّ أخاه هيردوس ليعوده فعاده ثم مات، فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نمي إليه، فعاقب جواريه، فأقرّت إحداهما بأن أنظفتر وقدودا كانا يجتمعان عند رسيس أمّ أنظفتر يدبّران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر، فأقرّ بمثل ذلك وأنه بعث على السم من مصر وهو عند امرأة قدودا، فأحضرت فأقرت بأنّ قدودا أمرها عند موته بإراقته، وأنها أبقت منه قليلا يشهد لها إن سئلت. فكتب هيردوس الى ابنه أنظفتر بالقدوم، فقدم مستريبا بعد أن أجمع على الهروب، فمنعه خدم أبيه. ولما حضر جمع له الناس في مشهد وحضر رسول أغسطس وقدم كاتبه نيقالوس. وكان يحب أولاد هيردوس المقتولين ويميل إليهما عن أنظفتر، فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة وأحضر بقية السمّ وجرّب في بعض الحيوانات فصدق فعله، فحبس هيردوس ابنه أنظفتر حتى مرض وأشرف على الموت، وأسف على ما كان منه لأولاده فهمّ بقتل نفسه، فمنعه جلساؤه وأهله، وسمع من القصر البكاء والصراخ لذلك، فهمّ أنظفتر بالخروج من محبسه ومنع، وأخبر هيردوس بذلك وأمر بقتله في الوقت فقتل. ثم هلك بعده لخمسة أيام ولسبعين سنة من عمره وخمس وثلاثين من ملكه.
وعهد بالملك لابنه أركلاوش وخرج كاتبه نيقالوس فجمع الناس وقرأ عليهم العهد وأراهم خاتم هيردوس عليه، فبايعوا له وحمل أباه إلى قبره على سرير من الذهب(2/157)
مرصع بالجوهر والياقوت وعليه ستور الديباج منسوجة بالذهب، وأجلس مسندا ظهره إلى الأرائك والناس أمامه من الاشراف والرؤساء، ومن خلفه الخدم والغلمان، وحواليه الجواري بأنواع الطيب إلى أن اندرج في قبره.
وقام أركلاوش بملكه وتقرّب إلى الناس بإطلاق المسجونين، فاستقام أمره وانطلقت الألسنة بذمّ هيردوس والطعن عليه. ثم انتقضوا على أركلاوش بملكه بما وقع منه من القتل فيهم، فساروا إلى قيصر شاكين بذلك وعابوه عنده بأنه ولي من غير أمره، وحضر أركلاوش وكاتبه نيقالوس بخصمهم ودفع دعاويهم، وأشار عظماء الروم بإبقائه فملكه قيصر وأعاده الى القدس. وأساء السيرة في اليهود وتزوّج امرأة أخيه الإسكندر وكان له أولاد منها فماتت لوقتها. ووصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر فبعث قائدا من الروم الى المقدس، فقيد أركلاوش وحمله إلى رومة لسبع سنين من دولته، وولى عليه اليهود بالقدس أخاه أنطيفس، وكان شرّا منه واغتصب امرأة أخيه فيلقوس [1] وله منها ولدان، ونكر ذلك عليه علماء اليهود والكهنونية. وكان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم، وهذا هو المعروف عند النصارى بالمعمدان الّذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم.
وفي دولة أنطيفس هذا مات أوغسطس قيصر، فملك بعده طبريانوس وكان قبيح السيرة، وبعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود فامتنعوا، فقتل منهم جماعة، فأذنوا بحربة وقاتلوه وهزموه. وبعث طبريانوس العساكر مع قائده إلى القدس فقبض على أنطيفس وحمله مقيدا. ثم عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها وملك بعده على اليهود أغرباس ابن أخيه أرستبلوس المقتول، وهلك في أيامه طبريانوس قيصر وملك نيروش [2] وكان أشرّ من جميع من تقدّمه، وأمر أن يسمّى إلا هو، وبنى المذبح للقربان وقرّب وأطاعته الناس إلّا اليهود، وبعثوا إليه في ذلك أفيلو الحكيم في جماعة فشتمهم وحبسهم وسخط اليهود. ثم قبحت أحواله وساءت أفعاله وثارت عليه دولته فقتلوه، ورموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب.
ثم ملك بعده قلديوس قيصر وأطلق أفيلو والذين معه إلى بيت المقدس، وهدم المذابح التي كان نيروش بناها.
__________
[1] وهو معروف باسم فيلبس.
[2] وفي نسخة ثانية نيرون.(2/158)
وكان أغرباس حسن السيرة معظما عند القياصرة وهلك لثلاث وعشرين سنة من دولته. وملك بعده ابنه أغرباس بأمر اليهود وملك عشرين سنة، وكثرت الحروب والفتن في أيامه في بلاد اليهود والأرمن، وظهرت الخوارج والمتغلبون، وانقطعت السبل وكثر الهرج داخل المدينة في القدس. وكان الناس يقتل بعضهم بعضا في الطرقات يحملون سكاكين صغار محدّين لها فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه حتى صاروا يلبسون الدروع لذلك، وخرج كثير من الناس عن المدينة فرارا من القتل. وهلك ولد طبريانوس قيصر ونيروش من بعده، وملك على الروم فيلقوس قيصر فسعى بعض الشرار عنده بأنّ هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمّون على الروم، فبعث إليهم من قتلهم وأسرهم.
واشتدّ البلاء على اليهود وطالت الفتن فيهم، وكان الكهنون الكبير فيهم لذلك العهد عنّاني، وكان له ابن اسمه العازار وكان ممن خرج من القدس وكان فاتكا مصعلكا، وانضم إليه جماعة من الأشرار، وأقاموا يغيرون على بلاد اليهود والأرمن وينهبون ويقتلون، وشكتهم الأرمن إلى فيلقوس قيصر، فبعث من قيده وحمله وأصحابه إلى رومة، فلم يرجع الى القدس إلّا بعد حين.
واشتدّ قائد الروم ببيت المقدس على اليهود وكثر ظلمه فيهم، فأخرجوه عنهم بعد أن قتلوا جماعة من أصحابه، ولحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك اليهود راجعا من روميّة ومعه قائدان من الروم، فشكى إليه فيلقوس بما وقع من اليهود، ومضى إلى بيت المقدس فشكى إليه اليهود بما فعل فيلقوس وأنهم عازمون على الخلاف، وتلطف لهم في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم إلى قيصر ويعتذر منه، فامتنع العازار بن عنّاني وأبى إلا المخالفة، وأخرج القربان الّذي كان بعثه معه نيروش قيصر من البيت، ثم عمد إلى الروم الذين جاءوا مع أغرباس فقتلهم حيث وجدوا، وقتل القائدين. ونكر ذلك أشياخ اليهود واجتمعوا لحرب العازر وبعثوا إلى أغرباس، وكان خارج القدس، فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل، فكانت الحرب بينهم وبين العازار سجالا، ثم هزمهم وأخرجهم من المدينة، وعاث في البلد وخرّب قصور الملك ونهبها وأموالها وذخائرها، وبقي أغرباس والكهنونة والعلماء والشيوخ خارج المقدس. وبلغهم أنّ الأرمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق ونواحيها وبقيساريّة، فساروا إلى بلادهم وقتلوا من وجدوه بنواحي دمشق من الأرمن. ثم(2/159)
سار أغرباس إلى قيرش قيصر وخبّره الخبر فامتعض لذلك، وبعث إلى كسنينا وقائده على الأرمن، وقد كان مضى إلى حرب الفرس فدوّخها وقهرهم، وعاد إلى بلاد الأرمن فنزل دمشق فجاءه عهد قيصر بالمسير مع أغرباس ملك اليهود إلى القدس، فجمع العساكر وسار وخرّب كل ما مرّ عليه. ولقيه العازار الثائر بالقدس فانهزم ورجع، ونزل كسنينا وقائد الروم فأثخن فيهم، وارتحل كسنينا إلى قيساريّة، وخرج اليهود في اتباعهم فهزموهم، ولحق كسنينا وأغرباس بقيصر قيرش، فوافقوا وصول قائده الأعظم اسبنانوس [1] عن بلاد الغرب، وقد فتح الأندلس ودوّخ أقطارها فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود وأمره أن يستأصلهم ويهدم حصونهم.
فسار ومعه ابنه طيطوش وأغرباس ملك اليهود، وانتهوا إلى أنطاكية، وتأهب اليهود لحربهم، وانقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي مع كل فرقة كهنون، فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق ونواحيها، وكان ابنه العازر كهنون بلاد أروم وما يليها إلى أيلة، وكان يوسف بن كريّون كهنون طبريّة وجبل الخليل وما يتصل به، وجعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار الى حدود مصر من يحفظها من بقية الكهنونيّة. وعمّر كل منهم أسوار حصونه ورتب مقاتلته.
وسار اسبنانوس بالعساكر من أنطاكية فتوسط في بلاد الأرمن وأقام، وخرج يوسف بن كريّون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه واستولى عليه، وبعث أهل طبريّة من ورائه إلى الروم فاستأمنوا إليهم، فزحف يوسف مبادرا وقتل من وجد فيها من الروم، وقبل معذرة أهل طبرية، وبلغه مثل ذلك عن جبل الخليل فسار إليهم وفعل فيهم فعله في طبرية. فزحف اليه اسبنانوس من عكّا في أربعين ألف مقاتل من الروم ومعه أغرباس ملك اليهود وسارت معهم الأمم من الأرمن وغيرهم، إلا أروم فإنّهم كانوا حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس. ونزل أسبنانوس بعساكره على يوسف بن كريّون ومن معه بطبريّة فدعاهم الى الصلح، فسألوا الإمهال إلى مشاورة الجماعة بالقدس، ثم امتنعوا وقاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن، فاستلمهم حتى قل عددهم، وأغلقوا الحصن فقطع عنهم الماء خمسين ليلة، ثم بيّتهم الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم، وأفلت يوسف بن كريّون ومن معه من الفل فامتنعوا ببطن الأعراب، وأعطاهم أسبنانوس الأمان، فمال إليه يوسف وأبى القوم إلّا أن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: أسبيانوس.(2/160)
يقتلوا أنفسهم وهموا بقتله، فوافقهم على رأيهم إلى أن قتل بعضهم بعضا ولم يبق من يخشاه، فخرج إلى أسبنانوس مطارحا عليه، وحرّضه اليهود على قتله فأبى واعتقله وخرّب أعمال طبرية وقتل أهلها ورجع إلى قيساريّة.
قال ابن كريّون: وفي خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل المدينة، وذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي اسمه يوحنّان، وكان مرتكبا للعظائم واجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع السابلة والنهب والقتل، فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس وتألّف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم، فتحكم على أهل المقدس وأخذ الأموال وزاحم عنّاني الكهنون الأعظم، ثم عزله واستبدل به رجلا من غواتهم وحمل الشيوخ على طاعته، فامتنعوا فتغلب عليهم فقتلهم. فاجتمع اليهود إلى عنّاني الكهنون وحاربهم يوحنان وتحصنوا في القدس، وراسله عنّاني في الصلح فأبى، وبعث إلى أروم يشتجيشهم فبعثوا إليه بعشرين ألفا منهم، فأغلق عنّاني أبواب المدينة دونهم، وحاط بهم من الأسوار، ثم استغفلوه وكبسوا المدينة، واجتمع معهم يوحنان فقتلوا من وجوه اليهود نحوا من خمسة آلاف وصادروا أهل النعم على أموالهم، وبعثوا يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم فغنم أموالهم وقتل من وجد منهم. وبعث أهل القدس في استدعاء أسبنانوس وعساكره فزحف من قيساريّة حتى إذا توسّط الطريق خرج يوحنّان من القدس وامتنع ببعض الشعاب، فمال إليه أسبنانوس بالعسكر وظفر بالكثير منهم فقتلوهم. ثم سار إلى بلاد أروم ففتحها، وسبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضا، وعمّر جميع ما فتح من البلاد، ورجع إلى قيسارية ليزيح علله ويسير الى القدس.
ورجع يوحنّان أثناء ذلك من الشعاب، فغلب على المدينة، وعاث فيهم بالقتل، وتحكم في أموالهم، وأفسد حريمهم.
قال ابن كريّون: وقد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنّان ثائرا آخر اسمه شمعون، واجتمع إليه اللصوص والشرار حتى كثر جمعه وبلغوا نحوا من عشرين ألفا، وبعث إليه أهل أروم عسكرا فهزمهم واستولى على الضياع ونهب الغلال، وبعث إلى امرأته من المدينة فردّها يوحنّان من طريقها وقطع من وجد معها، ثم أسعفوه بامرأته وسار إلى أروم فحاربهم وهزمهم، وعاد إلى القدس فحاصرها وعظم الضرر على أهلها من شمعون خارج المدينة ويوحنّان داخلها، ولجئوا إلى الهيكل وحاربوا يوحنّان فغلبهم(2/161)
وقتل منهم خلقا، فاستدعوا شمعون لينصرهم من يوحنان فدخل ونقض العهد وفعل أشرّ من يوحنّان.
قال ابن كريّون: ثم ورد الخبر إلى أسبنانوس وهو بمكانه من قيساريّة بموت قيروش قيصر وأنّ الروم ملكوا عليهم مضعفا اسمه نطاوس فغضب البطارقة الذين مع أسبنانوس وملكوه، وسار الى رومة وخلف نصف العسكر مع ابنه طيطش، وقدّم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الّذي ملكه الروم فهزم وقتل، وسار أسبنانوس إلى اسكندرية وركب البحر منها، ورجع طيطش الى قيساريّة إلى أن ينسلخ فصل الشتاء ويزيح العلل.
وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس وكثر القتل حتى سالت الدماء في الطرقات، وقتل الكهنونية على المذبح وهم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء، وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد النيران بالليل، وكان يوحنّان أخبث القوم وأشرّهم.
ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكر الروم إلى أنّ نزل على القدس وركب إلى باب البلد يتخيّر المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم، فصموا عنه وأكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه، وخلص منهم بشدّته، فعبى عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة ورتّب العساكر والآلات للحصار. واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم، وبرزوا إلى الروم فانهزموا، ثم عاودوا فظهروا، ثم انتقضوا بينهم وتحاربوا ودخل يوحنّان الى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنونة وقتل جماعة أخرى خارج المسجد. وزحف طيطش وبرزوا إليه فردّوه إلى قرب معسكره، وبعث إليهم قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله، فغضب طيطش وصنع كبشا وأبراجا من الحديد توازي السور وشحنها بالمقاتلة، فأحرق اليهود تلك الآلات ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم.
وكان يوحنّان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة، ومع شمعون عشرة الاف من اليهود وخمسة آلاف من أروم، وبقية اليهود بالمدينة مع العازر وأعاط طيطش الزحف بالآلات وثلم السور الأوّل وملكه إلى الثاني، فاصطلح اليهود بينهم وتذامروا [1] واشتدّ الحرب، وباشرها طيطش بنفسه ثم زحف بالآلات إلى
__________
[1] تذامروا: بمعنى تلاوموا ربما عنى المؤرخ تذمّروا بمعنى تحاضّوا على القتال.(2/162)
السور الثاني فثلمه، وتذامر اليهود فمنعوهم عنه ومكثوا كذلك أربعة أيام.
وجاء المدد من الجهات إلى طيطش ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب، ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة، فامتنعوا. فجاء بنفسه في اليوم الخامس وخاطبهم ودعاهم وجاء معه يوسف بن كريّون فوعظهم ورغبهم في أمنة الروم ووعدهم، وأطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة، ومنعهم هؤلاء لرؤساء الخوارج، وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم، ولم يبق من المدينة ما يعصمهم إلّا السور الثالث.
وطال الحصار واشتدّ الجوع عليهم والقتل، ومن وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم وصلبوه، حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب. ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربع جهاته ونصب الآلات، وصبر اليهود على الحرب وتذامر اليهود وصعب الحرب وبلغ الجوع في الشدّة غايته، واستأمن متاي الكوهن إلى الروم وهو الّذي خرج في استدعاء شمعون، فقتله شمعون وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنونيّة والعلماء والأئمة ممن حذر منه أن يستأمن. ونكر ذلك العازر بن عنّاني ولم يقدر على أكثر من الخروج من بيت المقدس. وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود، وأكلوا الجلود والخشاش [1] والميتة، ثم أكل بعضهم بعضا، وعثر على امرأة تأكل ابنها، فأصابت رؤساؤهم لذلك رحمة، وأذنوا في الناس بالخروج، فخرجت منهم أمم وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام، وابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أو جوهر ضنة به، وشعر بهم الروم فكانوا يقتلونهم ويشقون عنها بطونهم، وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن فطردهم طيطش.
وطمع الروم في فتح المدينة وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات ولم يكن لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور، وبنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة، وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة، واستماتوا في تلك الحال إلى الليل. ثم بيت الروم المدينة وملكوا الأسوار عليهم وقاتلوهم من الغد فانهزموا الى المسجد، وقاتلوا في الحصن، وهدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال. ووقف ابن كريّون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا، وخرج جماعة من الكهنونية فأمنهم ومنع
__________
[1] حشرات الأرض- حية الجبل (قاموس)(2/163)
الرؤساء بقيتهم، ثم باكرهم طيطش بالقتال من الغد فانهزموا الأقداس [2] وملك الروم المسجد وصحنه.
واتصلت الحرب أياما وهدمت الأسوار كلها وثلم سور الهيكل، وأحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم وفرّ كثير. ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب الأصنام في الهيكل ومنع من تخريبه. ونكر رؤساء الروم ذلك ودسّوا من اضرم النار في أبوابه وسقفه، وألقى الكهنونة أنفسهم جزعا على دينهم وحزنوا، واختفى شمعون ويوحنّان في جبل صهيون، وبعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا وطرقوا القدس في بعض الليالي، فقتلوا قائدا من قواد العسكر ورجعوا إلى مكان اختفائهم. ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء يوحنّان ملقيا بيده إلى طيطش فقيده، وخرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص من آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان، ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل، فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودراهم وطيبا فامتلأت يده منها، ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى، وأحصى الموتى في هذه الوقعة. قال ابن كريّون: فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن بأخبار مناحيم الموكل به مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا وثمانمائة. وقال غير مناحيم كانت عدّتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار، أو طرح إلى خارج الحصن وقتل في الطرقات ولم يدفن. وقال غيره كان الّذي أحصي من الموتى والقتلى ألف ألف ومائة ألف والسبي والأسارى مائة ألف، كان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا. وكان فيمن هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة.
وأمّا الفرّار بن عفّان فقد كان خرج من القدس عند ما قتل شمعون أمتاي الكوهن كما ذكرنا، فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى وحصّنها واجتمع إليه فل اليهود، واتصل الخبر بطيطش وهو في انطاكية، فبعث إليه عسكرا من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياما، ثم نهض الكهنونة وأولادهم وخرجوا إلى الروم مستميتين، فقاتلوا إلى أن قتلوا عن آخرهم. وأما يوسف بن كريّون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع ولم يقف لهم بعدها على خبر وأراده طيطش على السكنى عنده برومة، فتضرّع اليه في البقاء بأرض القدس، فأجابه إلى ذلك وتركه. وانقرضت دولة اليهود أجمع، والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه..
__________
[2] الأصح ان يقول: فانهزم الاقداس.(2/164)
الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الاقسة على تدوين شريعته
كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس، وهو ماثان بن ألعازر بن اليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن أيود بن زروقابل بن سالات بن يوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن أمون بن عمون ابن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يواش بن أحزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن رحبعم بن سليمان ابن داود صلوات الله عليهما. ويوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني سليمان ولد في جلاء بابل وهذا النسب نقلته من إنجيل متى [1] . وكانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم، وكان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم، ونسبه ابن إسحاق إلى أمون بن منشا الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم، وقال فيه عمران بن ياشم بن أمون. وهذا بعيد لأن الزمان بين عمون وعمران أبعد من أن يكون بينهما أب واحد، فإنّ أمون كان قبيل الخراب الأوّل وعمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني، وبينهما قريب من أربعمائة سنة. ونقل ابن عساكر، والظنّ أنّه ينقل عن مستند، أنه من ولد زريافيل الّذي ولي على بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس، وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الّذي حبسه بخت نصّر وولّى عمه صدقيا هو بعده كما مرّ. وقال فيه:
عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زريافيل، وعدّ نحوا من ثمانية آباء بأسماء
__________
[1] بعد مقارنة الأسماء في إنجيل متى ظهر تباين في بعض الأسماء وهذه هي الأسماء: إبراهيم ولد إسحاق وإسحاق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا واخوته ويهوذا ولد فارص وزارح من تامار وفارص ولد حصرون وحصرون ولد آرام وآرام ولد عميناب وعميناب ولد نحشون ونحشون ولد سلمون وسلمون ولد بوعز من ارحاب وبوعز ولد عوبير من راعوث وعوبير ولد يسى ويسى ولد داود الملك، وداود الملك ولد سليمان من التي كانت لأوباء، وسليمان ولد رحبعام ورحبعام ولد أبيّا وأبيّا ولد آسا وآسا ولد يوشافاط ويوشافاط ولد يورام ويورام ولد عزيا وعزيا ولد يوثام ويوثام ولد آحاز ولد حزقيا ولد منسي ومنسي ولد آمون وآمون ولد يوشيا ويوشيا ولد يكنيا واخوته في جلاء بابل.(2/167)
عبرانية لا وثوق بضبطها، وهو أقرب من الأول وفيه ذكر ماثان الّذي هو شهرتهم، ولم يذكره ابن إسحاق.
وكان عمران أبو مريم كهنونا في عصره، وكانت تحته حنّة بنت فاقود بن فيل وكانت من العابدات، وكانت أختها إيشاع ويقال خالتها تحت زكريّا بن يوحنّا، ونسبه ابن عساكر الى يهوشافاظ خامس ملوك القدس من عهد سليمان أبيهم وعد ما بينه وبين يهوشافاظ اثني عشر أبا أوّلهم يوحنا بأسماء عبرانية، كما فعل في نسب عمران، ثم قال وهو أبو يحيى صلوات الله عليهما، ويقال بالمدّ والقصر من غير ألف، وكان نبيا من بني إسرائيل صلوات الله عليهم أهـ. ونقلت من كتاب يعقوب بن يوسف النجّار مثان يعني ماثان من سبط داود، وكان له ولدان يعقوب ويؤاقيم، ومات فتزوّج أمّهما بعده مطنان، ومطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود وسمي ماثان فولدت هالي من مطنان. ثم تزوّج ومات ولم يعقب فتزوّج امرأته أخوه لأمه يعقوب بن ماثان فولدت منه يوسف خطيب مريم ونسب إلى هالي، لأنّ من أحكام التوراة إن مات من غير عقب فامرأته لأخيه وأوّل ولد منها ينسب إلى الأوّل، فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان، وإنّما هو يوسف بن يعقوب بن ماثان وهو ابن عمّ مريم لحا [1] .
وكان ليوسف من البنين خمسة بنين وبنت وهم يعقوب ويوشا وبيلوت وشمعون ويهوذا وأختهم مريم، كانوا يسكنون بيت لحم. فارتحل بأهله ونزل ناصرة وسكن بها وتعلم النجارة حتى صار يلقّب بالنجار. وتزوّج يؤاقيم حنّة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريّا بن يوحنا المعمدان، وأقامت ثلاثين سنة لا يولد لها، فدعوا الله وولد لها مريم فهي بنت يؤاقيم موثان وهو مثان. وولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى. قلت في التنزيل مريم ابنة عمران فليعلم أن معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم وكان له اسمان أهـ.
وعن الطبري وكانت حنة أم مريم لا تحبل، فنذرت للَّه إن حملت لتجعلن ولدها حبيسا ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله، فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها وجاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده وهي ابنة امامهم وكهنونهم، فتنازعوا في كفالتها، وأراد زكريّا أن يستبدّ بها لأنّ زوجه إيشاع خالتها، ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم، فاقترعوا فخرجت قرعة زكريّا عليها فكفلها ووضعها في
__________
[1] لحّا: بفتح اللام وشد الحاء المهملة قاله نصر.(2/168)
مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها وهو المحراب فيما قيل. والظاهر أنّها دفعتها إليهم بعد مدّة إرضاعها.
فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها، وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات كما قصّه القرآن. وكانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضا عاقرا، وطلب زكريّا من الله ولدا، فبشره بيحيى نبيا كما طلب، لأنه قال يرثني ويرث من آل يعقوب وهم أنبياء فكان كذلك. وكان حاله في نشوه وصباه عجبا وولد في دولة هيردوس ملك بني إسرائيل، وكان يسكن القفار ويقتات الجراد ويلبس الصوف من وبر الإبل، وولّاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس، ثم أكرمه الله بالنّبوّة كما قصه القرآن. وكان لعهده على اليهود بالقدس أنطيفس بن هيردوس وكان يسمى هيردوس [2] باسم أبيه، وكان شريرا فاسقا واغتصب امرأة أخيه وتزوّجها ولها ولدان منه، ولم يكن ذلك في شعرهم مباحا، فنكر ذلك عليه العلماء والكهنونية وفيهم يحيى بن زكريا، المعروف بيوحنان ويعرّفه النصارى بالمعمدان، فقتل جميع من نكر عليه ذلك وقتل فيهم يحيى صلوات الله عليه.
وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة.
وقد اختلف الناس هل كان أبوه حيّا عند قتله فقيل إنه لما قتل يحيى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه، ففرّ أمامهم ودخل في بطن شجرة كرامة له فدلهم عليه طرف ردائه خارجا منها، فشقوها بالمنشار وشق زكريا فيها نصفين. وقيل بل مات زكريا قبل هذا والمشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وقد مرّ ذكره. وكذلك اختلف في دفنه فقيل دفن ببيت المقدس وهو الصحيح. وقال ابو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أنّ بخت نصّر لما قدم دمشق وجد دم يحيى بن زكريّا يغلي، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن دمه. ويشكل أنّ يحيى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق وأنّ ذلك كان بعد بخت نصّر بأحقاب متطاولة وفي هذا ما فيه. وفي الإسرائيليات من تأليف يعقوب بن يوسف النجّار أنّ هيردوس قتل زكريا عند ما جاء المجوس للبحث عن إيشوع والإنذار به، وأنه طلب ابنه يوحنّا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم، فهربت به أمّه إلى الشقراء واختلفت. فطالب به أباه زكريّا وهو كهنون في الهيكل، فقال لا
__________
[2] وفي الإنجيل: هيردوس.(2/169)
علم لي هو مع أمّه فتهدّده وقتله. ثم قال بعد قتل زكريا بسنة تولى الكهنونية يعقوب بن يوسف إلى أن مات هيرودوس.
وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية وبين الناس في نبوّتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها. وعند أهل السنة أنّ النبوّة مختصة بالرجل، قاله أبو الحسن الأشعري وغيره وأدلة الفريقين في أماكنها.
وبشرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها، وأنها تلد ولدا من غير أب يكون نبيّا، فعجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أنّ الله قادر على ما يشاء، فاستكانت وعلمت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت.
وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجّار أنّ أمّها حنّة توفيت لثمان سنين من عمر مريم، وكان من سنتهم أنّها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل، فأوحى الله إليه أن يجمع أولاد هارون ويردّها إليهم، فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها، وحضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه، فقال له زكريّا هذه عزراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها.
فاحتملها متكرّها بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة فأقامت معه، إلى أن خرجت يوما تستسقي من العين فعرض لها الملك [1] أوّلا وكلّمها ثم عاودها وبشّرها بولادة عيسى كما نصّ القرآن. فحملت وذهبت إلى زكريا ببيت المقدس فوجدته على الموت وهو يجود بنفسه، فرجعت الى ناصرة، ورأى يوسف الحمل فلطم وجهه وخشي الفضيحة مع الكهنونية فيما شرطوا عليه، فأخبرته بقول الملك، فلم يصدّق وعرض له الملك في نومه وأخبره أنّ الّذي بها من روح القدس، فاستيقظ وجاء إلى مريم فسجد لها وردّها إلى بيتها. ويقال إنّ زكريا حضر لذلك وأقام فيهما سنة اللعان الّذي أوصى به موسى، فلم يصبهما شيء وبرّأهما الله. ووقع في إنجيل متّى أنّ يوسف خطب مريم ووجدها حاملا قبل أن يجتمعا، فعزم على فراقها خوفا من الفضيحة، فأمر في نومه أن يقبلها وأخبره الملك بأن المولود من روح القدس، وكان يوسف صديقا وولد على فراشه إيشوع انتهى.
وقال الطبريّ: كانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها، وفي رواية عنه أنه ابن خالها، وكانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلّا لحاجة الإنسان، وإذا نفد
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الملاك.(2/170)
ماؤهما فيملآن من أقرب المياه. فمضت مريم يوما وتخلف عنها يوسف، ودخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد، فتمثّل لها جبريل بشرا، فذهبت لتجزع، فقال لها «إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا 19: 19» فاستسقاها. وعن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم، فاشتملت على عيسى، فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجّار، وكان في مسجد بجبل صهيون، وكان لخدمته عندهم فضل، وكانا يجمرانه ويقمانه. وكانا صالحين مجتهدين في العبادة، ولما رأى ما بها من الحمل استعظمه وعجب منه لما يعلم من صلاحها وأنها لم تغب قط عنه، ثم سألها فردّت الأمر إلى قدرة الله، فسكت وقام بما ينو بها من الخدمة. فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع، وكانت أيضا حبلى بيحيى، فقالت لها اني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أن يعيرها قومها ويقتلوا ما في بطنها، فاحتملها يوسف إلى مصر وأخذها المخاض في طريقها، فوضعته كما قصّة القرآن، واحتملته على الحمار، وأقامت تكتم أمرها من الناس وتتحفظ به، حتى بلغ اثنتي عشرة سنة وظهرت عليه الكرامات، وشاع خبره، فأمرت أن ترجع به إلى إيلياء فرجعت. وتتابعت عنه المعجزات وانثال الناس عليه يستشفون ويسألون عن الغيوب.
قال الطبريّ: وفي خبر السدّي أنّها إنّما خرجت من المسجد لحيض أصابها، فكان نفخ الملك، وأنّ إيشاع خالتها التي سألتها عن الجمل وناظرتها فيه فحجتها بالقدرة، وأنّ الوضع كان في شرقي بيت لحم قريبا من بيت المقدس وهو الّذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد.
قال ابن العميد مؤرخ النصارى: ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا، ولإحدى وثلاثين من دولة هيردوس الكبر، ولاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس قيصر.
وفي الإنجيل أنّ يوسف تزوّجها ومضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم، فوضعته هنالك ووضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل. وأنّ جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم؟ وجاءوا الى هيردوس يسألونه وقالوا جئنا لنسجد له، وحدّثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شأن ظهوره، وأنه يولد ببيت لحم من ابن سنتين فما دونها. وسمع اوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله،(2/171)
فكتب له بمصدوقية خبره وأنه قتل فيمن قتل من الصبيان. وكان يوسف النّجار قد أمر أن يخرج به الى مصر، فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة، وظهرت عليه الكرامات، وهلك هيرودوس الّذي كان يطلبه وأمروا بالرجوع إلى إيليا، فرجعوا.
وظهر صدق شعيا النبيّ في قوله عنه من مصر دعوتك. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجّار حذرا من أن يكتب كما أمر أوغسطس في بعض أيامه فأجاءها المخاض وهي في طريقها على حمار، فصابرته إلى قرية بيت لحم وولدت في غار وسماه إيشوع، وأنه لما بلغ سنتين، وكان من أمر المجوس ما قدّمناه، حذر هيرودوس من شأنه وأمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم، فخرج يوسف به وبأمّه إلى مصر، أمر بذلك في نومه، وأقام بمصر سنتين حتى مات هيرودوس، ثم أمر بالرجوع فرجع الى ناصرة، وظهرت عليه الخوارق من احياء الموتى وإبراء المعتوهين وخلق الطير وغير ذلك من خوارقه، حتى إذا بلغ ثماني سنين كفّ عن ذلك.
ثم جاء يوحنان [1] المعمدان من البرية، وهو يحيى بن زكريا، ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين، وقد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح، وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنان وهو ابن ثلاثين سنة، ثم خرج الى البرية واجتهد في العبادة والصلاة والرهبانية واختار تلامذته الاثني عشر: سمعان بطرس وأخوه أندراوس ويعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا وفيليبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القناني [2] ويهوذا الأسخريوطي. وشرع في إظهار المعجزات. ثم قبض هيرودوس الصغير على يوحنان وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه، فقتله ودفن بنابلس.
ثم شرّع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات، وحلّل وحرّم وأنزل عليه الإنجيل، وظهرت على يديه الخوارق والعجائب، وشاع ذكره في النواحي، واتبعه الكثير من بني إسرائيل، وخافه رؤساء اليهود على دينهم، وتأمروا في قتله. وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه، قال وإنما فعلته لتتأسوا به، وقال يعظهم ليكفرنّ بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثا ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني، ثم افترقوا. وكان اليهود قد بعثوا العيون
__________
[1] وفي الإنجيل يوحنا.
[2] وفي إنجيل متى: سمعان الغيور أو سمعان القناني أو القانوني.(2/172)
عليهم، فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرّأ منهم وتركوه، وجاء يهوذا الأسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهما، وأراهم مكانه الّذي كان يبيت فيه، وأصبحوا به إلى فلاطش النبطي [1] قائد قيصر على اليهود. وحضر جماعة الكهنونية وقالوا هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدّعي الملك فأقتله. وتوقف فصاحوا به وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله.
وكان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه وصلب، وأقام سبعا. وجاءت أمّه تبكي عند الخشبة فجاءها عيسى وقال: مالك تبكي؟ قالت: عليك. قال: إنّ الله رفعني ولم يصبني إلّا خير وهذا شيء شبه لهم، وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا. فانطلقوا إليه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي، كما عين لهم من قبل. وعند علماء النصارى أن الّذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حواريا، وإلى أرض السودان والحبشة ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس متّى العشار، وأندراوس إلى أرض بابل، والمشرق توماس، وإلى أرض إفريقية فيلبس، وإلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحناس، وإلى أورشليم وهي بيت المقدس يوحنا، وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس، وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني.
قال ابن إسحاق: ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم، وسمع قيصر بذلك وكتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره ومعجزاته وبغي اليهود عليه وعلى يوحنان قبله، فأمرهم بالكف عن ذلك. ويقال قتل بعضهم. وانطلق الحواريّون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض وكذب بعض. ودخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة فقتله غاليوس قيصر وحبس شمعون، ثم خلص وسار إلى أنطاكية ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس، واتبعه كثير من الناس وآمن به بعض نساء القياصرة وأخبرها بخبر الصليب، فدخلت إلى القدس وأخرجته من تحت الزبل والقمامات بمكان الصلب وغشته بالحرير والذهب وجاءت به إلى رومة.
وأما بطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية، ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب متّى انجيله بالعبرانية في بيت المقدس ونقله من بعد ذلك
__________
[1] وفي الإنجيل بيلاطس البنطي.(2/173)
يوحنّان بن زيدي إلى رومة، وكتب لوقا انجيله بالرومية وبعثه الى بعض أكابر الروم، وكتب يوحنّا بن زيدي انجيله برومة. ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عدّ الكتب التي يجب قبولها، فمن القديمة: التوراة خمسة أسفار، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راعوث، وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة كتب، وسفر بنيامين، وسفر المقباسين [1] ثلاثة كتب، وكتاب عزرا الامام، وكتاب أشير، وكتاب قصة هامان، وكتاب أيّوب الصديق، ومزامير داود النبي، وكتب ولده سليمان خمسة، ونبوّات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتابا، وكتاب يشوع بن شارخ [2] . ومن الحديثة: كتب الإنجيل الأربعة، وكتب القتاليقون سبع رسائل، وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه.
وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية فكان: برومة بطرس الرسول الّذي بعثه عيسى صلوات الله عليه، وكان بيت المقدس يعقوب النجّار، وكان بالإسكندرية، مرقص تلميذ بطرس، وكان ببيزنطية وهي قسطنطينية أندرواس [3] الشيخ، وكان بأنطاكية [4] .
وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملّة وخليفة المسيح فيهم، ويبعث نوّابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك، ويسمّون القرّاء بالقسيس، وصاحب الصلاة بالجاثليق، وقومة المسجد بالشمامسة، والمنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب، والقاضي بالمطران. ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف الى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة اسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر. وكان الأساقفة يسمون البطرك أبا، والقسوس يسمون الأساقفة أبا، فوقع الاشتراك في اسم الأب، فاخترع اسم
__________
[1] وهو سفر المكتابيين وهو كتابان: الأول والثاني، كما في التوراة.
[2] وفي التوراة: يشوع بن سيراخ.
[3] وفي الإنجيل اندراوس.
[4] بياض بالأصل وفي الإنجيل: وكان في الكنيسة التي بأنطاكية أنبياء ومعلمون منهم برنابا وسمعان الملقب بالأسود ولوقيوس القيرواني ومناين الّذي تربى مع هيردوس رئيس الربع وشارل (اعمال الرسل الفصل 13) .(2/174)
البابا لبطرك الاسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس، ومعناه أبو الاباء فاشتهر هذا الاسم. ثم انتقل الى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح، وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا.
ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه الى رومة، وجعل مكان بطرس أرنوس برومة. وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس وكان بالإسكندرية يدعو الى الدين سبع سنين ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب وقتله نيرون، وولى بعده حنينا وهو أوّل البطاركة عليها بعد الحواريين. وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجّار وهدموا البيعة ودفنوا الصليب الى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد، وجعل نيرون مكان يعقوب النجّار ابن عمه شمعون بن كيافا.
ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه كما يأتي في أخبارهم، الى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة، وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية. وكانت أمه هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها، وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليهما بزعمهم، فأخبرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحا للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات، فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم، وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته، فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير، ورفعتها عندها للتبرك بها، وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة [1] . وخربت مسجد بني إسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود، إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك.
وكان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، وأقام هؤلاء النصرانية بطاركتهم وأساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين والعقائد والأحكام. ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد وسائر ما ذهبوا إليه
__________
[1] كان اسمها قيامه فحرفوها قمامه. كذا في الخطط قاله نصر. أهـ.(2/175)
من الإيمان باللَّه وصفاته، وحاش للَّه وللمسيح وللحواريّين أن يذهبوا إليه، وهو معتقدهم التثليث. وإنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لم يهتدوا إلى تأويلها، ولا وقفوا على فهم معانيها، مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم: أذهب إلى أبي وأبيكم. وقال: افعلوا كذا وكذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء وتكونوا تامّين، كما أنّ أباكم الّذي في السماء تامّ. وقال له في الإنجيل إنّك أنت الابن الوحيد. وقال له شمعون الصفا إنك ابن الله حقا. فلما أثبتوا هذه الأبوة من ظاهر هذا اللفظ زعموا أنّ عيسى ابن مريم من أب قديم، وكان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح وتدرعت به، فكان مجموع الكلمة والجسد ابنا، وهو ناسوت كلي قديم أزلي، وولدت مريم إلها أزليا والقتل والصلب وقع على الجسد والكلمة، ويعبرون عنهما بالناسوت واللاهوت.
وأقاموا على هذه العقيدة ووقع بينهم فيها اختلاف، وظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية، كان من أشدّهم ابن دنصان، ودافعهم هؤلاء الأساقفة والبطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقّا، وظهر يونس الشميصانيّ بطرك انطاكية بعد حين أيام افلوديس قيصر، فقال بالوحدانية ونفى الكلمة والروح، وتبعه جماعة على ذلك. ثم مات فردّ الأساقفة مقالته وهجروها ولم يزالوا على ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين، فتنصّر ودخل في دينهم. وكان باسكندرية أسكندروس البطرك وكان لعهده أريوش [1] من الأساقفة، وكان يذهب الى حدوث الابن وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك، فمنعه إسكندروس الدخول إلى الكنيسة وأعلم أن إيمانه فاسد، وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي. وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي أريوش، فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين وأحضرهم جميعا لتسع عشرة من دولته، وتناظروا. ولما قال أريوش: إنّ الابن حادث وأنّ الأب فوّض إليه بالخلق. وقال الإسكندروس: بالخلق استحق الألوهية، فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أن يشيد بكفر أريوش.
وطلب الإسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني، فجمعهم قسطنطين وكانوا ألفين وثلاثمائة وأربعين أسقفا وذلك في مدينة نيقية، فسمي المجتمع مجتمع نيقية، وكان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية، وأسطانس بطرك أنطاكية،
__________
[1] وفي نسخة اخرى أريوس.(2/176)
ومقاريوس أسقف بيت المقدس. وبعث سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه، فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا عنهم، بعد الاختلاف الكثير، على ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد، فصار قسطنطين إلى قولهم، وأعطى سيفه وخاتمه وباركوا عليه ووضعوا له قوانين الدين والملك، ونفى أريوش وأشيد بكفره وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع، ونصّها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم والشهرستاني في كتاب الملل والنحل وهو:
«نؤمن باللَّه الواحد الأحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الوحيد إيشوع المسيح [2] ابن الله ذكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الّذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء الّذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلا طوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعدّ للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الاحياء والأموات ونؤمن بروح الواحد روح الحق الّذي يخرج من أبيه بمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين انتهى» .
هذا هو اتفاق المجمع الأوّل الّذي هو مجمع نيقية وفيه إشارة إلى حشر الأبدان ولا يتفق النصارى عليه، وإنما يتفقون على حشر الأرواح ويسمون هذه العقيدة الأمانة، ووضعوا معها قوانين الشرائع ويسمونها الهيمايون:
وتوفي الإسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر، ولما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس وأحب الملك أن يقدسها ويجمع الأساقفة لذلك، وبعث أوسانيوس بطرك القسطنطينية وحضر معهم أثناس بطرك الإسكندرية، واجتمعوا في صور وكان أوسانيوس الّذي أخرجه إسكندروس مع أريوس من كنيسة إسكندرية.
وكان بسبب ذلك مجمع نيقية وكتاب الأمانة. ونفي أريوس حينئذ وأوسانيوس وصاحبهما ولعنوا. جاء أوسانيوس من بعد ذلك وأظهر البراءة من أريوس ومن مقالته فقبله قسطنطين وجعله بطركا بالقسطنطينية، فلما اجتمعوا في صور وكان فيهم أومانيوس على رأي أريوس، فأشار أوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر أثناس بطرك الاسكندرية عن مقالة أريوس. فقال أومانيوس: إنّ أريوس لم يقل إنّ المسيح
__________
[2] وهو يسوع المسيح كما في الإنجيل.(2/177)
خلق العالم وإنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل. فقال أثناس بطرك الاسكندرية: وهذا الكلام أيضا يقتضي أنّ الابن مخلوق وأنه خلق المخلوقات دون الأب لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيئا لأنه مستعين بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمّم فهو في ذاته الخالق والله سبحانه منزّه عن ذلك وإن زعم أريوس ان الأب يريد الشيء والابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتمّ لأنّ الأب إنما له الارادة فقط وللابن الاختراع فهو أتم.
فلما ظهر بطلان مقالة أريوس وثبوا على أومانيوس المناظر عن مقالة أريوس وضربوه ضربا وجيعا، وخلصه ابن أخت الملك، ثم قدّسوا الكنائس، وانفضّ الجمع وبلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أوسانيوس بالقسطنطينية وغضب عليه ومات لسنتين من رياسته، واجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة، وأنّ جماعة نيقية ظلموا أريوس وبغوا عليه وصدّوا عن الحق في قولهم إنّ الأب مساو للابن في الجوهرية وكاد الملك أن يقبل منهم. فكتب إليه كيراش أسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس فقبل ورجع. واختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة أريوس، وظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم. وأفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه، فقال له بعض العلماء والحكماء: لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضا وإنما هم الخلق يحمدون الله ويصفونه بالصفات الكثيرة والله يحب ذلك. فسكن بعض الشيء وكان بعضهم يعرض عن الطائفتين ويخلي كل أحد ودينه.
ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين وخمسين سنة اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس وسليوس، بأن جسد المسيح بغيرنا موت وأنّ اللاهوت أغناه عنها، مستدلين بما وقع في الإنجيل أنّ الكلمة صار لحما ولم يقل صار إنسانا، وجعلا من الإله عظيما وأعظم منه والأب أفضل عظما. وقال: إن الأب غير محدود في القوّة وفي الجوهر. فأبطلوا هذه المقالة ولعنوهما وأشادوا بكفرهما وزادوا في الأمانة التي قرّرها جماعة نيقية ما نصه: «ونؤمن بروح القدس المنتقى من الأب» . ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أو ينقص منها.
ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس البطرك بالقسطنطينية لأنه كان يقول: إنّ مريم لم تلد إلها وإنما ولدت إنسانا، وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات وليس هو إلها حقيقية بل بالموهبة والكرامة. ويقول بجوهرين(2/178)
وأقنومين: وهذا الرأي الّذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس وديودوس الأسقفين، وكان من مقالتهما أنّ المولود من مريم هو المسيح والمولود من الأب هو الابن الأزلي والابن الأزلي حلّ في المسيح المحدث فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة، وإنّما الاتحاد بالمشيئة والارادة. فأثبتوا للَّه ولدين أحدهما بالجوهر والثاني بالنعمة. وبلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك اسكندرية، فكتب الى بطرك رومة وهو أكليمس، وإلى يوحنا وهو بطرك أنطاكية، وإلى يونالوس أسقف بيت المقدس. فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع ولا التفت إلى قولهم. فاجتمعوا في مدينة أفسيس [1] في مائتين أسقفا للنظر في مقالته، فقرّروا إبطالها ولعنوه وأشاروا بكفره، ووجد عليهم يوحنّا بطرك أنطاكية حيث لم ينتظروا حضوره فخالفهم ووافق نسطوريوس، ثم أصلح بينهم باوداسوس من بعد مدّة واتفقوا على نسطوريوس. وكتب أساقفة المشارقة أمانتهم وبعثوا بها إلى كرلّس فقبلها ونفى نسطوريوس إلى صعيد مصر، فنزل أخميم ومات بها لسبع سنين من نزولها، وظهرت مقالته في نصارى المشرق وبفارس والعراق والجزيرة والموصل الى الفرات.
وكان بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدونية، اجتمع فيه ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفا من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الاسكندرية لأنه كان يقول: المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة من مشيئتين. وكانت الأساقفة والبطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين وطبيعتين ومشيئتين وأقنوم واحد، فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة وكتب خطه بذلك ولعن من يخالفه. فأراد مرقيان قيصر قتله، فأشارت البطارقة بإحضاره وجمع الأساقفة لمناظرته، فحضر بمجلس مرقيان قيصر وافتضح في مخاطبتهم ومناظرتهم. وخاطبته زوج الملك فأساء الردّ فلطمته بيدها، وتناوله الحاضرون بالضرب، وكتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأنّ مجمع خلقدونية هو الحق ومن لا يقبله يقتل. ومرّ ديسقورس بالقدس وأرض فلسطين وهو مضروب منفي فاتبعوا رأيه، وكذلك اتبعه أهل مصر والإسكندرية، وولّى وهو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية.
قال ابن العميد: وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأنّ اسمه كان في الغلمانية
__________
[1] وهي مدينة أفسس كما في الإنجيل.(2/179)
يعقوب، وكان يكتب إلى المؤمنين من المسكين المنفي يعقوب. وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه. وقيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقورس وكان له تلميذ اسمه يعقوب، فكان شاويرش يبعث يعقوب إلى المؤمنين ليثبتوا على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه.
قال: ومن جمع خلقدونية افترقت الكنائس والأساقفة إلى يعقوبية وملكية ونسطورية، فاليعقوبية أهل مذهب ديسقورس الّذي قرّرناه آنفا، والملكية أهل الأمانة التي قرّرها جماعة نيقية وجماعة خلقدونية بعدهم وعليها جمهور النصرانية، والنسطورية أهل المجمع الثالث وأكثرهم بالمشرق. وبقي الملكية واليعقوبية يتعاقبون في الرئاسة على الكراسي بحسب من يريدهم من القياصرة وما يختارونه من المذهبين.
ثم كان بعد ذلك بمائة وثلاثين سنة أو ثلاث وستين سنة المجمع الخامس بقسطنطينية في أيام يوسيطانوس قيصر، للنظر في مقالة أقفسح لأنه نقل عنه أنه يقول: بالتناسخ وينكر البعث. ونقل عن أساقفة أنقرا والمصيصة والرها أنهم يقولون أنّ جسد المسيح فنطايسا [1] . فأحضر قيصر جمعهم بالقسطنطينية ليناظرهم البطرك بها، فقال البطرك: إن كان جسد المسيح فني فقوله وفعله كذلك. وقال الأسقف أقفسح: إنما قام المسيح من بين الأموات فأشادوا بكفره وأوجبوا لعنتهم ولعنة من يقول بقولهم. واستقرّت فرق النصارى على هذه الثلاثة.
الخبر عن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم الى تمامه وانقراضه
هذه الأمّة من أقدم أمم العالم وأشدهم قوة وآثارا في الأرض، وكانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان: الأولى منهما الكينية، ويظهر أنّ مبتدأها ومبتدأ دولة التبابعة وبني إسرائيل واحد وأنّ الثلاثة متعاصرة. ودولة الكينية هذه هي التي غلب عليها الإسكندر والساسانية الكسروية، ويظهر أنها معاصرة لدولة الروم بالشام، وهي التي غلب عليها المسلمون. وأما ما قبل هاتين الدولتين فبعيد، وأخباره متعارضة
__________
[1] الواضح ان هذه الكلمة محرّفة ومقتضى السياق: فني.(2/180)
ونحن ذاكرون ما اشتهر من ذلك. وأما أنسابهم فلا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح وأن جدّهم الأعلى الّذي ينتمون إليه هو فرس، والمشهور أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح. وأرض إيران هي بلاد الفرس، ولما عربت قيل لها إعراق، هذا عند المحققين. وقيل إنهم منسوبون إلى إيران بن إيران بن أشوذ، وقيل إلى غليم بن سام. ووقع في التوراة ذكر ملك الأهواز كردامر من بني غليم، فهذا أصل هذا القول والله أعلم، لأنّ الأهواز من ممالك بلاد فارس. وقيل: إلى لاوذ بن إرم بن سام، وقيل إلى أميم بن لاوذ، وقيل إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق.
ويقال إنّ الساسانيّة فقط من ولد إسحاق وأنه يسمى عندهم وترك، وأنّ جدّهم منوشهر بن منشحر بن فرهس بن وترك، هكذا نقل المسعودي هذه الأسماء وهي كما تراه غير مضبوطة. وفيما قيل: إنّ الفرس كلهم من ولد إيران بن أفريدون الآتي ذكره، وأنّ من قبله لا يسمون بالفرس والله أعلم. وكان أوّل ما ملك إيران أرض فارس فتوارث أعقابه الملك ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة، ثم اتسعت مملكتهم إلى الإسكندرية غربا وباب الأبواب شمالا. وفي الكتب أنّ أرض إيران هي أرض الترك، وعند الإسرائيليين أنهم من ولد طيراش بن يافث وإخوتهم بنو مادي بن يافث وكانوا مملكة واحدة.
فأما علماء الفرس ونسّابتهم فيأبون من هذا كله وينسبون الفرس إلى كيومرث ولا يرفعون نسبه إلى ما فوقه، ومعنى هذا الاسم عندهم ابن الطين وهو عندهم أوّل النسب، هذا رأيهم. وأما مواطن الفرس فكانت أوّل أمرهم بأرض فارس وبهم سميت، ويجاورهم إخوانهم في نسب أشوذ بن سام وهم فيما قال البيهقي: الكرد والديلم والخزر والنبط والجرامقة. ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة وسائر هؤلاء الأمم، ثم اتسعت ممالكهم إلى الإسكندرية.
وفي هذا الجيل على ما اتفق عليه المؤرخون أربع طبقات: الطبقة الأولى تسمى البيشدانية، والطبقة الثانية تسمى الكينية، والطبقة الثالثة تسمى الاشكانية، والطبقة الرابعة تسمى الساسانية، ومدة ملكهم في العالم على ما نقل ابن سعيد عن كتاب تاريخ الأمم لعليّ بن حمزة الأصبهاني، وذلك من زمن كيومرث أبيهم إلى مهلك يزدجرد أيام عثمان أربعة آلاف سنة ومائتا سنة ونحو إحدى وثمانين سنة.
وكيومرث عندهم هو أوّل ملك نصب في الأرض ويزعمون، فيما قال المسعودي، أنه(2/181)
عاش ألف سنة، وضبطه بكاف أوّل الاسم قبل الياء المثناة من أسفل، والسهيليّ ضبطه، بجيم مكان الكاف والظاهر أنّ الحرف بين الجيم والكاف كما قدّمناه.
الطبقة الاولى من الفرس وذكر ملوكهم وما صار اليه في الخليقة أحوالهم
الفرس كلهم متفقون على أنّ كيومرت هو آدم الّذي هو أوّل الخليقة، وكان له ابن اسمه منشا ولمنشا سيامك ولسيامك أفروال ومعه أربعة بنين وأربع بنات، ومن أفروال كان نسل كيومرت، والباقون انقرضوا فلا يعرف لهم عقب. قالوا: وولد لأفروال أوشهنك بيشداد، فاللفظة الأولى حرفها الأخير بين الكاف والقاف والجيم واللفظة الأخرى معناها بلغتهم النور، قاله السهيليّ.
وقال الطبري: أوّل حاكم بالعدل، وكان أفروال وارث ملك كيومرت وملك الأقاليم السبعة. قال الطبري عن ابن الكلبي: إنه أوشهنك بن عابر بن شالخ، قال: والفرس تدعيه وتزعم أنه بعد آدم بمائتي سنة، قال وإنما كان نوح بعد آدم بمائتي سنة فصيره بعد آدم. وأنكره الطبري لأنّ شهرة اوشهنك تمنع من مثل هذا الغلط فيه، ويزعم بعض الفرس أنّ أوشهنك بيشداد هو مهلايل وأنّ أباه أفروال هو قينن وأنّ سيامك هو أنوش وأنّ منشا هو شيث وأنّ كيومرت هو آدم. قال وزعمت الفرس أنّ ملك أوشهنك كان أربعين سنة فلا يبعد أن يكون بعد آدم بمائتي سنة.
وقال بعض علماء الفرس: أنّ كيومرت هو كومر بن يافث بن نوح، وأنه كان معمرا ونزل جبل دنباوند من جبال طبرستان وملكها، ثم ملك فارس وعظم أمره وأمر بنيه حتى ملكوا بابل. وأنّ كيومرت هو الّذي بنى المدن والحصون واتخذ الخيل وتسمى بآدم وحمل الناس على دعائه بذلك، وأنّ الفرس من عقب ولده ماداي، ولم يزل الملك في عقبهم في الكينية والكسرويّة إلى آخر أيامهم.
وتقول الفرس أنّ أوشهنك وهو مهلايل ملك الهند، قالوا وملك بعد أوشهنك طهمورث بن أنوجهان بن أنكهد بن أسكهد بن أوشهنك. وقيل مكان أسكهد فيشداد، وكلّها أسماء أعجمية لا عهدة علينا في نقلها لعجمتها وانقطاع الرواية في الأصول التي نقلت منها:(2/182)
قال ابن الكلبي: إنّ طهمورث أوّل ملوك بابل وأنه ملك الأقاليم كلها وكان محمودا في ملكه وفي أوّل سنة من ملكه ظهر بيوراسب ودعا إلى ملة الصابئة. وقال علماء الفرس: ملك بعد طهمورث جمشيد ومعناه الشعاع لجمالة وهو جمّ بن نوجهان أخو طهمورث، وملك الأرض واستقام أمره، ثم بطر النعمة وساءت أحواله فخرج عليه قبل موته بسنة بيوراسب وظفر به فنشره بمنشار وأكله وشرط أمعاءه. وقيل إنه ادّعى الربوبية فخرج عليه أوّلا أخوه أستوير فاختفى. ثم خرج بيوراسب فانتزع الأمر من يده وملك سبعمائة سنة. وقال ابن الكلبي مثل ذلك.
قال الطبري: بيوراسب هو الازدهاك والعرب تسميه الضحاك، وهو بصاد بين السين والزاي وجاء قريب من الهاء وكاف قريبة من القاف وهو الّذي عني أبو نواس بقوله:
وكان منّا الضحاك تعبده ... الجامل [1] والجن في محاربها
لأنّ اليمن تدعيه. قال: وتقول العجم إنّ جمشيد زوّج أخته من بعض أهل بيته وملك على اليمن فولدت الضحاك. وتقول أهل اليمن في نسبه الضحاك بن علوان بن عبيدة بن عويج، وأنه بعث على مصر أخاه سنان بن علوان ملكا وهو فرعون إبراهيم، قاله ابن الكلبيّ.
وأما الفرس فينسبونه هكذا: بيوراسب بن رتيكان بن ويدوشتك بن فارس بن أفروال، ومنهم من خالف في هذا. ويزعمون أنه ملك الأقاليم كلّها، وكان ساحرا كافرا وقتل أباه، وكان أكثر إقامة ببابل.
وقال هشام: ملك الضحاك وهو نمرود الخليل بعد جمشيد وأنّه التاسع منهم، وكان مولده بدنباوند، وأنّ الضحاك سار إلى الهند فخالفه أفريدون إلى بلاده فملكها، ورجع الضحاك فظفر به أفريدون وحبسه بجبال دنباوند، واتخذ يوم ظفر به عيدا.
وعند الفرس أنّ الملك إنّما كان للبيت الّذي وطنه أوشهنك وجمشيد وأن الضحاك هو بيوراسب خرج عليهم وبنى بابل، وجعل النبط جنده، وغلب أهل الأرض بسحره، وخرج عليه رجل من عامّة أصبهان اسمه عالي، وبيده عصا علّق فيها جرابا واتخذها راية، ودعا الناس إلى حربه، فأجابوا وغلبه فلم يدع الملك وأشار بتولية بني جمشيد لأنّه من عقب أوشهنك ملكهم الأوّل ابن أفروال، فاستخرجوا أفريدون من مكان اختفائه فملكوه واتبع الضحاك فقتله، وقيل أسره بدنباوند. ويقال كان على
__________
[1] الجامل: قطيع الإبل مع رعاته وأربابه.(2/183)
عهد نوح وإليه بعث. ولهذا يقال إنّ أفريدون هو نوح، والتحقيق عند نسابة الفرس على ما نقل هشام بن الكلبيّ أنّ أفريدون من ولد جمشيد بينهما تسعة آباء. وملك مائتي سنة وردّ غصوب الضحاك ومظالمه. وكان له ثلاثة بنين الأكبر سرم والثاني طوج والثالث إيرج، وأنه قسّم الأرض بينهم، فكانت الروم وناحية المغرب لسرم، والترك والصين والعراق لإيرج وآثره بالتاج والسرير، ولما مات قتله أخواه واقتسما الأرض بينهما ثلاثمائة سنة.
ويزعمون أنّ أفريدون وآباءه العشرة يلقّبون كلهم أشكيان، وقيل في قسمته الأرض بين ولده غير هذا، وأنّ بابل كانت لإيرج الأصغر وكان يسمّى خيارث ويقال كان لإيرج ابنان: وندان وأسطوبة وبنت اسمها خورك، وقتل الابنان مع أبيهما بعد مهلك أفريدون، وأنّ أفريدون ملك خمسمائة سنة وأنّه الّذي محا آثار ثمود من النبط بالسواد، وأنه أوّل من تسمّى بكي، فقيل كي أفريدون ومعناه التنزيه أي مخلص متصل بالروحانيات. وقيل معناه البهاء لأنه يغشاه نور من يوم قتل الضحاك، وقيل معناه مدرك الثأر. وكان منوشهر الملك ابن منشحر بن إيرج من نسل أفريدون، وكانت أمّه من ولد إسحاق عليه السلام فكفلته حتى كبر، فملك وثأر بأبيه إيرج من عمه بعد حروب كانت له معهما، ثم استبدّ ونزل بابل وحمل الفرس على دين إبراهيم عليه السلام، وثار عليه فراسياب [1] ملك الترك فغلبه على بابل وملكها. ثم اتبعه إلى غياض طبرستان فجهّز العساكر لحصاره وسار إلى العراق فملكه. ويقال فراسياب هذا من عقب طوج بن أفريدون، ولحق ببلاد الترك عند ما قتل منوشهر جدّ طوج فنشأ عندهم وظهر من بلادهم فلهذا نسب إليهم.
وقال الطبري: لما هلك منوشهر بن منشحور، غلب أفراسياب بن أشك بن رستم بن ترك على خيارات، وهي بابل، وأفسد مملكة فارس وحيّرها، فثار عليه زومر بن طهمارست، ويقال راسب بن طهمارست. وينسب إلى منوشهر في تسعة آباء، وأن منوشهر غضب على طهمارست وكانوا يحاربون أفراسياب فهمّ بقتله وشفع فيه أهل الدولة فنفاه إلى بلاد الترك، وتزوّج منهم ثم عاد إلى أبيه وأعمل الحيلة في إخراج امرأته من بلاد الترك وكانت ابنة وامن ملك الترك، فولدت له زومر ابنه.
وقام بالملك بعد منوشهر وطرد أفراسياب عن مملكة فارس وقتل جدّه وامن في حروبه
__________
[1] وفي نسخة اخرى: أفراسياب.(2/184)
مع الترك، ولحق أفراسياب بتركستان واتخذ يوم ذلك الغلب عيدا ومهر جانا وكان ثالث أعيادهم. وكان غلبه على بلاد فارس لاثنتي عشرة سنة من وفاة منوشهر جدّه، وكان زومر بن طهمارست هذا محمودا في سيرته وأصلح ما أفسد أفراسياب بن خيارت من مملكة بابل، وهو الّذي حفر نهر الزاب بالسواد، وبنى على حافته المدينة العتيقة وسمّاها الزواهي، وعمل فيها البساتين وحمل إليها بزور الأشجار والرياحين. وكان معه في الملك كرشاسب من ولد طوج بن أفريدون وقيل من ولد منوشهر، ويقال إنما كان رديفا له وكان عظيم الشأن في أهل فارس، ولم يملك وإنما كان الملك لزومر بن طهمارست، وهلك لثلاث سنين من دولته. وفي أيامه خرج بنو إسرائيل من التيه وفتح يوشع مدينة أريحاء ودال الملك من بعده للكينية حسبما يذكر وأولهم كيقباذ.
ويقال إنّ مدّة الملك لهذه الطبقة كانت ألفين وأربعمائة وسبعين سنة فيما قال البيهقي والأصبهاني، ولم يذكر من ملوكهم إلّا هؤلاء التسعة الذين ذكرهم الطبري والله وارث الأرض ومن عليها.(2/185)
الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلى حين انقراضهم
هذه الطبقة الثانية من الفرس وملوكهم يعرفون بالكينيّة لأنّ اسم كل واحد مضاف إلى كي وقد تقدّم معناه، والمضاف عند العجم متأخر عن المضاف إليه وأوّلهم فيما قالوا كيقباذ من عقب منوشهر بينهما أربعة آباء، وكان متزوجا بامرأة من رءوس الترك ولدت له خمسة من البنين: كي وافيا وكيكاوس وكي أرش وكي نية وكي فاسمن، وهؤلاء هم الجبابرة وآباء الجبابرة. قال الطبريّ: وقيل إنّ الملوك الكينية وأولادهم من نسله جرت بينه وبين الترك حروب، وكان مقيما بنهر بلخ يمانع الترك من طروق بلاده وملك مائة سنة وانتهى.
وملك بعده ابنه كيكاوس بن كينية وطالت حروبه مع فراسيات ملك الترك، وهلك فيها ابنه سياوخش، ويقال كان على عهد داود، وأنّ عمرا ذا الأذعار من ملوك التبابعة غزاه في بلاده فظفر به وحبسه عنده باليمن، وسار وزيره رستم بن دستان بجنود فارس إلى غزو ذي الأذعار فقتله وتخلص كيكاوس الى ملكه. وقال الطبري كان كيكاوس عظيم السلطان والحماية، وولد له ابنه سياوخش فدفعه إلى رستم الشديد ابن دستان، وكان أصهر بسجستان حتى إذا كملت تربيته وفصاله ردّه الى أبيه، فرضيه وكفلت به امرأة أبيه فسخطه، وبعثه لحراب فراسيات [1] وأمره بالمناهضة، فراوده فراسيات في الصلح، وامتنع أبوه كيكاوس فخشي منه على نفسه، ولحق بفراسيات فزوّجه بنته أم كي خسرو، ثم خشيه فراسيات على نفسه وأشار على ابنته بقتله فقتلته. وترك ابنة فراسيات حاملا بخسرو وولدته هنالك، وأعمل كيكاوس الحيلة في إخراجه فلحق به.
ويقال إنه لما بلغه قتل ابنه، بعث عساكره مع قواده فوطئوا بلاد الترك وأثخنوا فيها وقتلوا بني فراسيات فيمن قتلوه. قال الطبري وإنه غزا بلاد اليمن ولقيه ذو الأذعار في حمير وقحطان، فظفر به وأسره وحبسه في بئر وأطبق عليه. وإن رستم سار من سجستان فحارب ذا الأذعار ثم اصطلحا على أن يسلم إليه كيكاوس فأخذه ورجع إلى
__________
[1] وفي نسخة أخرى: افراسيات.(2/187)
بابل، وكافأه كيكاوس على ذلك بالعتق من عبودية الملك، ونصب لجلوسه سريرا من فضة بقوائم من ذهب وتوّجه بالذهب، وأقطعه سجستان وأباستان، وهلك لمائه وخمسين من دولته، وملك بعده فيما قال الطبري والمسعودي والبيهقي وجماعة من المؤرخين، حافده كي خسروا وابن ابنه سباوخش.
وقال السهيليّ: إنه ملك كي خسرو وبعد ثلاثة آخرين بينه وبينه كيكاوس فأوّلهم بعده ابنه كي كينة، ثم من بعده ابنه اجو بن كي كينة، ثم عمّه سباوخش بن كيكاوس، ثم بعد الثلاثة كي خسرو بن سباوخش أهـ. وهو غريب فإنهم متفقون على أنّ سباوخش مات في حياة أبيه في حروب الترك.
قال الطبري: وقد كان كيكاوس بن كي كينة بن كيقباذ ملّك كي خسرو حين جاءه من بلاد الترك مع أمّه وأسفاقدين بنت فراسيات. قالوا ولما ملك بعث العساكر مع أجو إلى أصبهان لحرب فراسيات ملك الترك للطلب بثأر أبيه سباوخش، فزحفوا إلى الترك وكانت بينهم حروب شديدة انهزمت فيها عساكر الفرس، فنهض كي خسرو بنفسه إلى بلخ وقدم عساكره وقوّاده فقصدوا بلاد الترك من سائر النواحي وهزموا عساكرهم وقتلوا قوادهم. وكان قاتل سباوخش بن كي خسرو فيمن قتل منهم، وبعث فراسيات ابنه وكان ساحرا الى كيخسرو ويستميله، فعمد إلى القواد بمنعه وقتاله، وقاتل فقتل، وزحف فراسيات فلقيه كي خسرو وكانت بينهما حروب شديدة انجلت عن هزيمة فراسيات والترك، واتبعه كي خسرو فظفر به في أذربيجان فذبحه وانصرف ظافرا. وكان فيمن حضر معه لهذا الفتح ملك فارس وهو كي أوجن بن حينوش بن كيكاوس بن كي كينة بن كيقباذ، وهو عند الطبري أبو كيهراسف الّذي ملك بعد كيخسرو على ما نذكر.
وملك على الترك بعد فراسيات جوراسف ابن أخيه شراشف. ثم أن كي خسرو ترهب وتزهد في الملك واستخلف مكانه كيهراسف بن كي أوجن الّذي قدّمنا انه أبوه عند الطبري ولد كيخسرو فقيل غاب في البرية، وقيل مات، وذلك لستين سنة من ملكه.
ولما ملك كيهراسف اشتدّت شوكة الترك فسكّن لقتالهم مدينة بلخ على نهر جيحون، وأقام في حروبهم عامّة أيامه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة في أيام بخت نرسي المشتهر ببختنصّر، وأضاف إليه كهراسف ملكا عند ما سار إليه وأذن له(2/188)
في فتح ما يليه، وسار إلى الشام مع ملوك الفرس وبخت نصّر ملك الموصل وله سنجاريف ففتح بيت المقدس، وكان له الظهور على اليهود واستأصلهم كما مرّ في أخبارهم، وبخت نصّر هذا الّذي غزا العرب وقاتلهم واستباحهم، ويقال إنّ ذلك كان في أيام كي بهمن حافد كيستاسب بن كيهراسف.
قال هشام بن محمد: أوحى الله إلى أرميا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان حافد زريافيل الّذي رجّع بني إسرائيل إلى بيت المقدس، بأمر بخت نصّر أن يفرّق العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويستبيحهم بالقتل ويعلمهم بكفرهم بالرسل واتخاذهم الآلهة. وفي كتاب الإسرائيليين والوحي بذلك كان إلى يرميا بن خلقيّا وقد مرّ ذكره، وأنه أمر أن يستخرج معدّ بن عدنان من بينهم ويكفله إلى انقضاء أمر الله فيهم انتهى.
قال: فوثب بخت نصّر على من وجده ببلاده من العرب للميرة، فحبسهم ونادى بالغزو وجاءت منهم طوائف مستسلمين فقبلهم وأنزلهم بالأنبار والحيرة.
وقال غير هشام إنّ بخت نصّر غزا العرب بالجزيرة وما بين أيلة والأبلّة، وملأها عليهم خيلا ورجالا ولقيه بنو عدنان فهزمهم إلى حضّورا واستلحمهم أجمعين. وأنّ الله أوحى إلى أرميا ويوحنّا أن يستخرجا معدّ بن عدنان الّذي من ولده محمد أختم به النبيّين آخر الزمان، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وردفه يوحنا على البراق وجاء به إلى حرّان، وربى بين أنبياء بني إسرائيل.
ورجع بخت نصّر إلى بابل وأنزل السبي بالأنبار فقيل أنبار العرب وسميت بهم، وخالطهم النبط بعد ذلك. ولما هلك بخت نصّر خرج معدّ بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل إلى الحج فحجّوا، وبقي هنالك مع قومه وتزوج بعانة بنت الحارث بن مضاض الجرهميّ، فولدت له نزار بن معدّ.
وأما كيهراسف فكان يحارب الترك عامّة أيامه، وهلك في حروبهم لمائة وعشرين سنة من ملكه، وكان محمود السيرة، وكانت الملوك شرقا وغربا يحملون إليه الإتاوة ويعظمونه، وقيل إنه ولّى ابنه كيستاسب على الملك وانقطع للعبادة. ولما ملك ابنه كيستاسب شغل بقتال الترك عامة أيامه، ودفع لحروبهم ابنه أسفنديار فعظم عناؤه فيهم. وظهر في أيامه زرادشت الّذي يزعم المجوس نبوّته، وكان فيما زعم أهل الكتاب من أهل فلسطين خادما لبعض تلامذة أرميا النبي خالصة عنده، فخانه في(2/189)
بعض أموره فدعا الله عليه فبرص ولحق بأذربيجان وشرّع بها دين المجوسية. وتوجّه إلى كيستاسب فعرض عليه دينه فأعجبه وحمل الناس على الدخول فيه، وقتل من امتنع.
وعند علماء الفرس أنّ زرادشت من نسل منوشهر الملك، وأنّ نبيّا من بني إسرائيل بعث إلى كيستاسب وهو ببلخ، فكان زرادشت وجاماسب العالم، وهو من نسل منوشهر أيضا، يكتبان بالفارسية ما يقول ذلك النبيّ بالعبرانية، وكان جاماسب يعرف اللسان العربيّ ويترجمه لزرادشت، وأنّ ذلك كان لثلاثين سنة من دولة كيهراسف.
وقال علماء الفرس: إن زرادشت جاء بكتاب ادّعاه وحيا، كتب في اثني عشر ألف بعده نقشا بالذهب، وأن كيستاسب وضع ذلك في هيكل بإصطخر ووكّل به الهرابذة ومنع من تعليمه العامّة. قال المسعودي: ويسمى ذلك الكتاب نسناه وهو كتاب الزمزمة، ويدور على ستين حرفا من حروف المعجم. وفسّره زرادشت وسمّى تفسيره زند، ثم فسّر التفسير ثانيا وسمّاه زنديّه، وهذه اللفظة هي التي عربتها العرب زنديق. وأقسام هذا الكتاب عندهم ثلاثة: قسم في أخبار الأمم الماضية، وقسم في حدثان المستقبل، وقسم في نواميسهم وشرائعهم مثل أنّ المشرق قبلة وأن الصلوات في الطلوع والزوال والغروب وأنها ذات سجدات ودعوات. وجدّد لهم زرادشت بيوت النيران التي كان منوشهر أخمدها، ورتب لهم عيدين: النيروز في الاعتدال الربيعيّ والمهرجان في الاعتدال الخريفي، وأمثال ذلك من نواميسهم. ولما انقرض ملك الفرس الأول أحرق الإسكندر هذه الكتب، ولما جاء أردشير جمع الفرس على قراءة سورة منها تسمّى أسبا. قال المسعودي: وأخذ كيستاسب بدين المجوسية من زرادشت لخمس وثلاثين سنة من نبوّته فيما زعموا، ونصّب كيستاسب مكانه جاماسب العالم من أهل أذربيجان، وهو أوّل موبذان كان في الفرس انتهى.
قال الطبري: وكان كيستاسب مهادنا أرجاماسب ملك الترك وقد اشترط عليه أن تكون دابة كيستاسب موقفة على بابه بمنزلة دواب الرؤساء عند أبواب الملوك، فمنعه من ذلك زرادشت وأشار عليه بفتنة الترك، فبعث إلى الدابة والموكل بها وصرفهما إليه.
وبلغ الخبر الى ملك الترك فبعث إليه بالعتاب والتهديد وأن يبعث بزرداشت إليه وإلا فيعزّره. وأغلظ كيستاسب في الجواب وآذنه بالحرب، وسار بعضهما إلى بعض(2/190)
واقتتلوا وقتل رزين بن كيستاسب وانهزم الترك وأثخن فيهم الفرس، وقتل ساحر الترك قيدوشق ورجع كيستاسب إلى بلخ. ثم سعى عنده بابنه أسفنديار فحبسه وقيده وسار إلى جبل بناحية كرمان وسجستان فانقطع به للعبادة ودراسة الدين. وخلّف أباه كهراسف في بلخ شيخا قد أبطله الكبر وترك خزائنه وأمواله فيها مع امرأته، فغزاهم بخاخدراسف وقدّم أخا جورا في جموع الترك وكان مرشحا للملك فأثخن واستباح واستولى على بلخ، وقتل كهراسف أباهم وغنموا الأموال وهدموا بيوت النيران وسبوا حمّايي بنت كستاسب وأختها، وكان فيما غنموه العلم الأكبر الّذي كانوا يسمونه زركش كاويان وهي راية الحدّاد الّذي خرج على الضحّاك وقتله. وولّى أفريدون فسمّوا بتلك الراية ورصعوها بالجواهر ووضعوها في ذخائرهم يبسطوها [1] في الحروب العظام، وكان لها ذكر في دولتهم وغنمها المسلمون يوم القادسية.
ثم مضى خدراسف ملك الترك في جموعه إلى كيستاسب وهو بجبال سجستان متعبدا فتحصن منه وبعث إلى ابنه أسفنديار مع جاماسب العالم وهو في الجبل فقلّده الملك ومحاربة الترك، فسار إليهم وأبلى في حروبهم فانهزموا، وغنم ما معهم واسترد ما كانوا غنموه والراية زركش كاويان في جملته. ثم دخل أسفنديار إلى بلادهم في اتباعهم وفتح مدينتهم عنوة، وقتل ملكهم خدراسف وإخوته، واستلحم مقاتلته واستباح أمواله ونساءه، ودخل مدينة فراسيات ودوّخ البلاد، وانتهى إلى بلاد صول والتبت، وولّى على كل ناحية من الترك، وفرض الخراج، وانصرف إلى بلخ وقد غصّ به أبوه.
قال هشام بن محمد: فبعثه إلى رستم ملك سجستان الّذي كان يستنفره كيقباذ جدّهم من ملوك اليمن، وأقطعه تلك الممالك جزاء لفعله. فسار إليه أسفنديار وقاتله رستم وهلك كيستاسب لمائة وعشرين سنة. ويقال إنه الّذي ردّ بني إسرائيل إلى بلادهم وأنّ أمّه كانت من بني طالوت. ويقال إنّ ذلك هو حافد بهمن. وقيل إن الّذي ردهم هو كورش من ملوك بابل أيام بهمن بأمره.
ثم ملك بعد كيستاسب حافده كي بهمن ويقال أردشير بهمن. قال الطبري: ويعرف بالطويل الباع لاستيلائه على الممالك والأقاليم. قال هشام بن محمد: ولمّا ملك سار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه فكانت بينهما حروب فقتل فيها رستم بن دستان وأبوه
__________
[1] الأصح ان يقول: يبسطونها.(2/191)
وإخوته وأبناؤه. ثم غزا الروم وفرض عليهم الإتاوة وكان من أعظم ملوك الفرس، وبنى مدنا بالسواد، وكانت أمّه من نسل طالوت لأربعة آباء من لدنه وكانت له أمّ ولد من سبي بني إسرائيل اسمها راسف وهي أخت زريافيل الّذي ملكه على اليهود ببيت المقدس وجعل له رياسة الجالوت وملك الشام، وملك ثمانين سنة، فملكت حمايي ملّكها الفرس لجمالها ولحسن أدبها وكمال معرفتها وفروسيتها، وكانت بلغت شهرا أزاد. وقيل إنما ملوكها لأنها لما حملت من أبيها بدار الأكبر سألته أن يعقد له التاج في بطنها ففعل ذلك. وكان ابنه ساسان مرشّحا للملك فغضب، ولحق بجبال إصطخر زاده يتولى ماشيته بنفسه، فلما مات أبوه فقدوا ذكرا من أولاده فولوا حمايي هذه وكانت مظفرة على الأعداء. ولما بلغ ابنها دارا الأشد، سلّمت إليه الملك وسارت إلى فارس واختطت مدينة دارابجرد، وردت الغزو إلى بلاد الروم، وأعطيت الظفر فكثر سبيهم عندها، وملكت ثلاثين سنة. ولما ملك ابنها دار نزل بابل وضبط ملكه وغزا الملوك وأدّوا الخراج إليه، ويقال إنه الّذي رتّب دواب البرد. وكان معجبا بابنه دارا حتى سمّاه باسمه وولّاه عهده وهلك لاثنتي عشرة سنة.
وملك بعده ابنه دارا بهمن، وكان له مربّي اسمه بيدلي قتله أبوه دارا بسعاية وزيره أرشيش محمود، وندم على قتله. فلمّا ولي دارا جعل على كتابته أخا بيدلي ثم استوزره رعيا لمرباه مع أخيه، فاستفسده على أرشيش وزيره ووزير أبيه وعلى سائر أهل الدولة استوحشوا منه. وقال هشام بن محمد: وملك دارا بن دارا أربع عشرة سنة فأساء السيرة وقتل الرؤساء وأهلك الرعية وغزاه الإسكندر بن فيلبس ملك بني يونان. وقد كانوا يسمّونه [1] فوثب عليه بعضهم وقتله، ولحق بالإسكندر وتقرّب بذلك إليه فقتله الإسكندر وقال هذا جزاء من اجترأ على سلطانه، وتزوّج بنته روشنك كما نذكره في أخبار الإسكندر.
وقال الطبري: قال بعض أهل العلم بأخبار الماضين كان لدارا من الولد يوم قتل أربع بنين أسسك وبنودار وأردشير وبنت اسمها روشنك وهي التي تزوجها الإسكندر.
قال: وملك أربع عشرة سنة، هذه هي الأخبار المشهورة للفرس الأولى إلى ملكهم الأخير دارا.
__________
[1] لم نجد في كتب التاريخ لقبا لدارا بن دارا، ولكن ابن الأثير ذكر ان دارا بن بهمن بن إسفنديار كان يلقب: جهرازاد اي كريم الطبع.(2/192)
قال هروشيوش مؤرّخ الروم في مبدإ دولة الفرس هؤلاء إنما كانت بعد دخول بني إسرائيل إلى الشام، وعلى عهد عثنيئال بن قنّاز بن يوفّنا، وهو ابن أخي كالب بن يوفنّا الّذي دبّر أمر بني إسرائيل بعد يوشع. قال: وفي ذلك الزمان خرج أبو الفرس من أرض الروم الغريقيين من بلاد آسيا واسمه بالعربية فارس باليونانية يرشور وبالفارسية يرشيرش، فنزل بأهل بيته في ناحية وتغلب على أهل ذلك الموضع فنسبت إليه تلك الأمّة، واشتق اسمها من اسمه، وما زال أمرهم ينمو إلى دولة كيرش الّذي يقال فيه أنه كسرى الأوّل، فغلب على القضاعيّين، ثم زحف إلى مدينة بابل وعرض له دونها النهر الثاني بعد الفرات وهو نهر دجلة، فاحتفر له الجداول وقسّمه فيها، ثم زحف إلى المدينة وتغلب عليها وهدمها، ثم حارب السريانيين فهلك في حروبهم ببلاد شيت. وولى ابنه قنبيشاش بن كيرش فثأر منهم بأبيه، وتخطاهم إلى أرض مصر فهدم أوثانهم ونقض شرائعهم، فقتله السحرة وذلك لألف سنة من ابتداء دولتهم فولي أمر الفرس دارا وقتل السحرة بمصر وردّ عمالة [1] السريانيين إليهم، ورجع بني إسرائيل إلى الشام في الثانية من أيامه، وزحف إلى بلاد الروم الغريقيين طالبا ثأر كيرش، فلم يزل في حروبهم إلى أن هلك لثلاث وعشرين من دولته نار عليه أحد قواده فقتله، وولّى بعده ابنه أرتشخار أربعين سنة، وولي بعده ابنه دارا أنوطو سبع عشرة سنة.
ثم ولي بعده ابنه أرتشخار بعد أن نازعه كيرش بن نوطو فقتله أرتشخار واستولى على لأمر وسالم الروم الغريقيين، ثم انتقضوا عليه واستعانوا بأهل مصر، فطالت الحرب ثم اصطلحوا ووقعت الهدنة، وهلك أرتشخار وذلك على عهد الإسكندر ملك اليونانيين وهو خال الإسكندر الأعظم، وهلك لعهده، فولي أبو الإسكندر الأعظم ببلد مقدونية وهو ملك فيلبش.
وهلك أرتشخار أوقش لست وعشرين من دولته وولي من بعده ابنه شخشار أربع سنين، وفي أيامه ولي على مقدونية واليونانيين وسائر الروم الغريقيين الإسكندر بن فيلبّس. ثم ولي بعده شخاردارا وعلى عهده تغلب الإسكندر على يهود بيت المقدس وعلى جميع الروم الغريقيين، ثم حدثت الفتنة بينه وبين دارا وتزاحفوا مرات انهزم في كلها، وكان لاسكندر الظهور عليه، ومضى إلى الشام ومصر فملكهما وبنى
__________
[1] بكسر العين:، تولى إيالة، وبفتحها: عمل الناقة، وبضمّها: أجر العامل ورزقه.(2/193)
الإسكندرية، وانصرف فلقيه دارا أنطوس فهزمه وغلب على ممالك الفرس واستولى على مدينتهم وخرج في اتباع دارا فوجده في بعض طريقه جريحا، ولم يلبث أن هلك من تلك الجراحة، فأظهر الإسكندر الحزن عليه وأمر بدفنه في مقابر الملوك، وذلك لألف سنة ونحو من ثمانين سنة منذ ابتداء دولتهم كما قلناه انتهى كلام هروشيوش.
وقال السهيليّ: وجده مثخنا في المعركة فوضع رأسه على فخذه وقال: يا سيد الناس لم أرد قتلك ولا رضيته فهل من حاجة؟ فقال تتزوّج ابنتي وتقتل قاتلي ففعل الإسكندر ذلك. وانقرض أمر هذه الطبقة الثانية والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى.(2/194)
قال ابن العميد: في ترتيب هؤلاء الملوك الفرس من بعد كيرش إلى دارا. آخرهم يقال: إنه ملك من بعد كورش ابنه قمبوسيوس ثمانيا وقيل تسعا وقيل اثنتين وعشرين سنة، وقيل إنه غزا مصر واستولى عليها وتسمّى بخت نصّر الثاني، وملك بعد أريوش بن كستاسب خمسا وعشرين سنة وهو أوّل الملوك الأربعة الذين عناهم دانيال بقوله ثلاث ملوك يقومون بفارس والرابع يكثر ماله ويعظم على من قبله. فأوّلهم دارا بن كستاسب وهو مذكور في المجسطي، والثاني دارا ابن الأمة، والثالث الّذي قتله الإسكندر، وقيل بل هو الرابع الّذي عناه دانيال لأنه جعل أوّل الأربعة داريوش وأخشورش العادي وسركورش ورديفه في الملك، ثم عد الثلاثة بعده. وفي الثانية من ملكة داريوش بن كيستاسب لبابل تمت سبعون سنة لخراب القدس، وفي الثالثة كمل بناء البيت، ثم ملك بعد داريوش بن كيستاسب هذا أسمرديوس المجوسي سنة واحدة وقيل ثلاث عشرة سنة وسمى مجوسيا لظهور زرادشت بدين المجوسية في أيامه.
ثم ملك أخشويرش بن داريوش عشرين سنة وكان وزيره همان العمليقيّ، وقد مرّت قصته مع الجارية من بني إسرائيل. ثم ملك من بعده ابنه ارطحشاشت بن أخشويرش ويلقب بطويل اليدين، وكانت أمّه من اليهود بنت أخت مردخاي، وكانت خطيّة عند أبيه، وعلى يدها تخلّص اليهود من سعاية وزيره فيهم عنده، وكان العزيّر في خدمته، ولعشرين من دولته أمر بهدم أسوار القدس ثم رغب إليه العزيّر في تجديدها فبناها في اثنتي عشرة سنة. قال ابن العميد عن المجسطي إنّ العزير هذا ويسمّى عزراء هو الرابع عشر من الكهنونة من لدن هارون عليه السلام، وأنه كتب لبني إسرائيل التوراة وكتب الأنبياء من حفظه بعد عودهم من الجلاء الأوّل، لأن بخت نصّر كان أحرقها، وقيل أنّ الّذي كتب لهم ذلك هو يشوع بن أبو صادوق. ثم ملك من بعده أرطحشاشت الثاني خمس سنين وقيل إحدى وثلاثين وقيل ست عشرة وقيل شهرين، ورجّح ابن العميد الخمس لموافقتها سياقة التواريخ، وكان لعهده أبقراط وسقراط في مدينة أشياش، ولعهده كتب النواميس الاثني عشر. ثم ملك بعده صغريتوس ثلاث سنين وقيل سنة واحدة وقيل سبعة أشهر، ولم يزل محنقا لمرض كان به إلى أن هلك. ثم ملك من بعده دارا ابن الأمة ويلقّب الناكيش، وقيل داريوش ألياريوس، ملك سبع عشر سنة وكان على عهده من حكماء يونان سقراط وفيثاغورس وأقليوس، وفي الخامسة من دولته انتقض أهل مصر على يونان واستبدوا(2/196)
بملكهم بعد مائة وأربع وعشرين سنة، كانوا فيها في ملكتهم، ثم ملك من بعده أرطحشاشت ابن أخي كورش داريوش إحدى عشرة سنة وقيل اثنتين وعشرين سنة وقيل أربعين وقيل إحدى وعشرين، وكان لعهده ألياقم الكوهن الّذي داهن الكهنونية ستا وأربعين سنة. ثم ملك من بعده أرطحشاشت وتسمّى أخوش، ويقال أوغش، عشرين سنة وقيل خمسا وعشرين وقيل تسعا وعشرين، وزحف إلى مصر فملكها وهرب منها فرعون ساناق إلى مقدونيّة واسمه قصطرا، وبنى أرطحشاشت قصر الشمع وجعل فيه هيكلا وهو الّذي حاصره عمرو بن العاص وملكه. ثم ملك من بعده ابنا أرشيش بن أرطحشاشت، وقيل اسمه فارس، أربع سنين وقيل إحدى عشرة، وكان لعهده من حكماء يونان بقراط وأفلاطون ودمقراطس، ولعهده قتل بقراط على القول بالتناسخ وقيل لم يكن مذهبه وإنما ألزمه بعض تلامذته ثم شهدوا عليه وقتل مسموما قتله القضاة بمدينة أثينا. ثم ملك من بعده ابنه دارا بن أرشيش عشرين سنة وقيل ست عشرة. وقال ابن العميد عن أبي الراهب: إنّه دارا الرابع الّذي أشار إليه دانيال كما مرّ، وكان هذا الملك عظيما فيهم وتغلب على يونان، وألزمهم الوظائف التي كانت عليهم لآبائه وملكهم يومئذ الإسكندر بن فيلبس وكان عمره ست عشرة سنة، فطمع فيه دارا وطلب الضريبة فمنع وأجاب بالاغلاظ وزحف إليه فقاتله وقتله واستولى الإسكندر على ملك فارس وما وراءه انتهى كلام ابن العميد.
الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية ملوك الطوائف وذكر دولهم ومصاير أمورهم الى نهايتها
هذه الطبقة من ملوك الفرس يعرفون بالأشكانيّة، وكافها أقرب إلى الغين، من ولد أشكان بن دارا الأكبر، وقد مرّ ذكره، وكانوا من أعظم ملوك الطوائف عند افتراق أمر الفرس، وذلك أنّ الإسكندر لما قتل دارا الأصغر استشار معلّمه أرسطو في أمر الفرس، فأشار عليه أن يفرّق رياستهم في أهل البيوت منهم فتفترق كلمتهم ويخلص لك أمرهم، فولّى الإسكندر عظماء النواحي من الفرس والعرب والنبط والجرامقة كلّا على عمله واستبدّ كلّ بناحية واستقام له ملك فارس والمشرق. ولما مات الإسكندر قسم ملكه بين أربعة من أمرائه: فكان ملك مقدونية وأنطاكية وما إليها من ممالك(2/197)
الروم لفيلبّس من قواده، وكانت الإسكندرية ومصر والمغرب لفيلادفس ولقبه بطليموس، وكان الشام وبيت المقدس وما إلى ذلك لدمطوس، وكان السواد إلى الجبال والأهواز وفارس ليلاقش سيلقس ولقبه أنطيخس وأقام السواد في ملكته أربعا وخمسين سنة.
قال الطبريّ: وكان أشك بن دارا الأكبر خلفه أبوه بالريّ فنشأ بها فلما كبر وهلك الإسكندر جمع العساكر وسار يريد أنطيخس، والتقيا بالموصل فانهزم أنطيخس وقتل، وغلب أشك على السواد من الموصل إلى الريّ وأصبهان، وعظّمه سائر ملوك الطوائف لشرفه ونسبه وأهدوا إليه من غير أن يكون له عليهم إيالة في عزل ولا تولية، بل إنّما كانوا يعظّمونه ويبدءون باسمه في المخاطبات وهم مع ذلك متعادون، تختلف حالاتهم بعضهم مع بعض في الحرب والمهادنة. وقال بعضهم: كان رجلا من نسل الملوك من فارس مملكا على الجبال وأصبهان والسواد لفوات الإسكندر.
ثم غلب بعد ذلك ولده على السواد وجمعه إلى الجبال وأصبهان وصار كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، ولذلك قصر ذكر هؤلاء الملوك دون غيرهم من الطوائف، فمنهم من قال: إنه أشك بن دارا، كما قدّمنا، وهو قول الفرس. وقيل هو أشك عقب أسفنديار بن كستاسب بينهما ستة آباء. وقيل هو أشك بن أشكان الأكبر من ولد كينيّة بن كيقباذ، ويقال: إنه كان أعظم الأشكانية وقهر ملوك الطوائف وعلى إصطخر لاتصالها بأصبهان وتخطّاها إلى ما يتاخمها من بلاد فارس فغلب عليه واتصل ملكه عشرين سنة. وملك بعده جور بن أشك وغزا بني إسرائيل بسبب قتلهم يحيى بن زكريا.
وقال المسعودي: ملك أشك بن أشك بن دارا بن أشكان الأول منهم عشر سنين، ثم سابور ابنه ستين سنة وغزا بني إسرائيل بالشام ونهب أموالهم، ولإحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى صلوات الله عليه بأرض فلسطين. ثم ملك عمّه جور عشر سنين، ثم نيرو بن سابور إحدى وعشرين سنة وفي أيامه غلب طيطش قيصر على بيت المقدس وخرّبها وأجلى منها اليهود كما مرّ. ثم جور بن نيرو تسع عشرة سنة، ثم جرسي أخوه أربعين سنة، ثم هرمز أخوهما أربعين سنة، ثم ابنه أردوان بن هرمز خمس عشرة سنة، ثم ابنه كسرى بن أردوان أربعين سنة. ثم ابنه يلاوش بن كسرى أربعا وعشرين سنة، وفي أيامه غزت الروم السواد مع قيصر يطلبون بثأر أنطيخش ملك(2/198)
أنطاكية من اليونان الّذي قتله أشك جدّ يلاوش هذا، فجمع يلاوش العساكر واستنفر ملوك الطوائف بفارس والعراق فوجهوا له بالمدد واجتمع له أربعمائة ألف من المقاتلة، وولّى عليهم صاحب الحضر وكان من ملوك الطوائف على السواد، فزحف إلى قيصر فقتله واستباح عسكر الروم وقتل وفتح أنطاكية وانتهى إلى الخليج. وولّى من بعد يلاش ابنه أردوان بن يلاوش ثلاث عشرة سنة. ثم خرج عليه أردشير بن بابك بن ساسان وجمع ملك فارس من أيدي ملوك الطوائف وجدّد الدولة الساسانية كما نذكر في أخبارهم.
قال الطبريّ: وفي أيام الطوائف كانت ولادة عيسى صلوات الله عليه لخمس وستين من غلب الإسكندر على بابل ولإحدى وخمسين من ملك الأشكانية، والنصارى يزعمون أن ذلك كان لمضي ثلاثمائة وثلاث وستين من غلب الإسكندر على بابل. قال الطبريّ: وجميع سني الطوائف من لدن الإسكندر إلى ظهور أردشير بن بابك واستوائه على الأمر مائتان وستون سنة، وبعضهم يقول خمسمائة وثلاث وعشرون سنة. وقال بعضهم: ملك في هذه المدّة منهم تسعون ملكا على تسعين طائفة كلهم يعظّم ملوك المدائن منهم وهم الأشكانيّون.
يا ى ط ح ز جرسى د ب أردوان بن يلاوش بن كسرى بن أردوان بن هرمز بن فيروز بن سابور بن أشك بن أشك بن دارا الأكبر جور ج جور
الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي
هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة وأشدّها قوة وهي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العالم وهما دولة فارس والروم. وكان مبدأ أمرها من توثب أردشير ابن بابك شاه ملك مرو، وهو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر بن كي بهمن. وقد تقدّم ذكر كي بهمن وأنّ ابنه ساسان غضب لما توج للملك أخوه دارا وهو في بطن أمّه، ولحق بجبال إصطخر فأقام هنالك وتناسل ولده بها إلى أن كان ساسان الأصغر منهم، فكان قيّما على بيت النار(2/199)
لاصطخر، وكان شجاعا، وكانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك، وولد لبابك أردشير وضبطه الدار الدّارقطنيّ: بالراء المهملة. وكان على إصطخر يومئذ ملك من ملوك الطوائف وله عامل على دارابجرد خصيّ اسمه سرّي، فلما أتت لأردشير سبع سنين جاء به جدّه ساسان إلى ملك إصطخر وسأله أن يضمه إلى عامل دارابجرد الخصيّ يكفله إلى أن تتمّ تربيته، ولما هلك عامل دارابجرد أقام بأمره فيها أردشير هذا وملكها، وكان له علم من المنجّمين بأنّ الملك سيصير إليه، فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم، وكتب إلى أبيه بذلك، ثم وثب على عامل إصطخر فغلبه على ما بيده وملك إصطخر وكثيرا من أعمال فارس.
وكان زعيم الطوائف يومئذ أردوان ملك الأشكانيّين فكتب إليه يسأله أن يتوّجه فعنّفه، وكتب إليه بالشخوص فامتنع، وخرج بالعساكر من إصطخر وقدم موبذان رورين فتوّجه ثم فتح كرمان وبها ملك من ملوك الطوائف، وولّى عليها ابنه، وكتب إليه أردوان يتهدّده وأمر ملك الأهواز من الطوائف أن يسير إليه فرجع مغلوبا. ثم سار أردشير إلى أصبهان فقتل ملكها واستولى عليها، ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك، ثم زحف إليه أردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير وقتله وملك همذان والجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ثم السودان. وبنى مدينة على شاطئ، دجلة شرقي المدائن. ثم رجع إلى إصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو وبلخ وخوارزم إلى تخوم خراسان، وبعث بكثير من الرءوس إلى بيت النيران، ثم رجع إلى فارس ونزل صول وأطاعه ملك كوشان ومكران ثم ملك البحرين بعد أن حاصرها مدّة، وألقى ملكها بنفسه في البحر. ثم رجع فنزل المدائن وتوجه ابنه سابور، ولم يزل مظفرا وقهر الملوك حوله وأثخن في الأرض، ومدّن المدن واستكثر العمارة وهلك لأربع عشرة سنة من ملكه بإصطخر بعد مقتل أردوان.
وقال هشام بن الكلبي: قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الّذي كان لآبائه قبل الطوائف وأن يجمعه لملك واحد، وكان أردوان ملكا على الاردوانيين وهم أنباط السواد، وكان بابا ملكا على الأرمانيّين وهم أنباط الشام، وبينهما حرب وفتنة فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة. ثم بعث أردشير إلى بابا في الصلح على أن يدعه في الملك ويخلّي بابا بينه وبين أردوان، فلم يلبث أن قتل أردوان واستولى على السواد فأعطاه بابا الطاعة بالشام ودانت له سائر الملوك وقهرهم. ثم رجع إلى أمر(2/200)
العرب وكانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة، وكانوا ثلاث فرق: الأولى تنوخ ومنهم قضاعة الذين كنا قدّمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع ملك من التبابعة وأتى بهم وكانوا يسكنون بيوت الشعر والوبر ويضعونها غربي الفرات بين الأنبار والحيرة وما فوقها فأنفوا من الإقامة في مملكة أردشير وخرجوا إلى البرية، والثانية العبّاد الذين كانوا يسكنون الحيرة وأوطنوها، والثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم ولم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس ولا من العبّاد الذين دانوا بهم. فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة والأنبار وكان منهم عمرو بن عديّ وقومه، فعمّروا الحيرة والأنبار ونزلوا وخربوها وكانتا من بناء العرب أيام بخت نصّر، ثم عمرها بنو عمرو بن عديّ لما أصاروها نزلا [1] لملكهم إلى أن صبحهم الإسلام، واختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة.
وكان أردشير لمّا ملك أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جدّه، ووجد بقصر أردوان جارية استملحها ودفعت عن نفسها القتل بإنكار نسبها فيهم، فقالت أنا مولاة وبكر، فواقعها وحملت وظنّت الأمن على نفسها، فأخبرته بنسبها فتنكّر ودفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها، فاستبقاها ذلك المرزبان إلى أن شكى إليه أردشير قلّة الولد والخوف على ملكه من الانقطاع وندم على ما سلف منه من قتل الجارية وإتلاف الحمل، فأخبره بحياتها وأنها ولدت ولدا ذكرا وأنه سمّاه سابور وأنه قد كملت خصاله وآدابه، فاستحضره أردشير واختبره فرضيه وعقد له التاج.
ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده فأفاض العطاء في أهل الدولة وتخيّر العمّال، ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها، ثم رجع فشخص إلى نصّيبين فملكها عنوة فقتل وسبى، وافتتح من الشام مدنا وحاصر أنطاكية وبها من الملوك أريانوس فاقتحمها عليه وأسره وحمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أن فاداه على أموال عظيمة ويقال على بناء شاذروان تستر ويقال جدع أنفه وأطلقه ويقال بل قتله، وكان بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر وبها ملك من الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف وهو الّذي يقول فيه الشاعر:
وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون
ولقد كان آمنا للدّواهي ... ذا ثراء وجوهر مكنون
__________
[1] بضم النون والزاي: المنزل، بكسر فسكون: المجتمع، وبفتح وكسر المكان الّذي ينزل فيه (قاموس) .(2/201)
وقال المسعودي: وهو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين. قال الطبريّ:
وتسمّيه العرب الضيزن. وقال هشام بن محمد الكلبي: من قضاعة وهو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجدم بن عمرو بن النخع بن سليم، وسنذكر نسب سليم في قضاعة. وكان بأرض الجزيرة وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى وكان ملكه قد بلغ الشام، فخلف سابور في غزاته إلى خراسان وعاث في أرض السواد، فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه وحاصره أربع سنين قال الأعشى:
ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمة وهل خالد من نعم
أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القمم
ثم إنّ ابنة ساطرون واسمها النضيرة خرجت إلى ربض [1] المدينة وكانت من أجمل النساء، وسابور كان جميلا، فأشرفت عليه فشغفت به شغف بها، وداخلته في أمر الحصن ودلّته على عورته فدخله عنوة وقتل الضيزن وأباد قضاعة الذين كانوا معه وأكثرهم بنو حلوان فانقرضوا، وخرّب حصن الحضر. وقال عديّ بن زيد في رثائه:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلّله كلسا ... فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريح المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور
ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر وباتت ليلها تتضور في فراشها وكان من الحرير محشوّ بالقز والقسيّ فإذا ورقة آس بينها وبين الفراش تؤذيها، فقال: ويحك ما كان أبوك يغذيك؟ قالت الزبد والمخّ والشهد وصفو الخمر، فقال: وأبيك لأنا أحدث عهدا وأبعد ودّا من أبيك الّذي غذاك بمثل هذا. وأمر رجلا ركب فرسا جموحا وعصب غدائرها بذنبه ولم يزل يركضه حتى تقطعت أوصالها.
وعند ابن إسحاق أنّ الّذي فتح حصن الحضر وخرّبه وقتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف. وقال السهيليّ: لا يصح لأنّ الساطرون من ملوك الطوائف والّذي أزال ملكهم هو أردشير وابنه سابور، وسابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير هو التاسع من ملوك أردشير. قال السهيليّ وأوّل من ملك الحيرة من ملوك الساسانية سابور بن
__________
[1] الربض: ما حول المدينة من بيوت ومساكن، سور المدينة أو الضاحية (قاموس) .(2/202)
أردشير، والحيرة وسط بلاد السواد وحاضرة العرب، ولم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته، وولّى عليهم عمرو بن عديّ جدّ آل المنذر بعده وأنزله الحيرة، فجبى خراجهم وإتاوتهم واستعبدهم لسلطانه وقبض أيديهم عن الفساد باقطار ملكه وما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته. وولّى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو بن عديّ وصار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد.
وهلك سابور لثلاثين سنة من ملكه وولي بعده ابنه هرمز ويعرف بالبطل فملك سنة واحدة، وولي بعده ابنه بهرام بن هرمز وكان عامله على مذحج من ربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز أمرؤ القيس بن عمرو بن عديّ وهو أوّل من تنصّر من ملوك الحيرة وطال أمد ملكه. قال هشام بن الكلبي: ملك مائة وأربع عشرة سنة من لدن أيام سابور أهـ.
وكان بهرام بن هرمز حليما وقورا وأحسن السيرة واقتدى بآبائه، وكان ماني الثنويّ الزنديق صاحب القول بالنور والظلمة قد ظهر في أيام جدّه سابور فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه، ولمّا ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه، فأشادوا بكفره وقتله وقالوا زنديق. قال المسعودي: ومعناه أنّ من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الّذي قدّمنا أنّ اسمه زندة فيقولون زنديه فعرّبته العرب فقالوا زنديق، ودخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر، ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر.
ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين وثلاثة أشهر من دولته، وولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة عكف أوّلها على اللذات، وامتدّت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور والظلم فخربت الضياع والقرى حتى نبّه الموبذان لذلك بمثل ضربه له، وذلك أنّه سامره في ليلة فمرّ راجعا من الصيد فسمعا بومين يتحدّثان في خراب، فقال بهرام ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير؟ فقال له الموبذان: نعم إنّا نعرف ذلك أيها الملك وإنهما يتحاوران في عقد نكاح وإنّ الأنثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب فقبل الذكر وقال: إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا. فتفطّن بهرام لذلك وأفاق من غفلته وأشرف على أحوال ملكه مباشرا بنفسه وقابضا أيدي البطانة عن الرعية وحسنت أيامه إلى أن هلك. وولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاثة أسماء(2/203)
متشابهة وتلقّب شاه، وكان مملّكا على سجستان وهلك لأربع سنين من دولته. وملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى، وكان عادلا حسن السيرة. وملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته، ثم أبدل من خلقه الشر بالخير وسار فيهم بالعدل والرّفق والعمارة وهلك لسبع سنين من ولايته. وكان هؤلاء كلهم ينزلون جنديسابور من خراسان. ولما هلك ولم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه ووجدوا ببعض نسائه حملا فتوّجوه وانتظروا إتمامه، وقيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد.
وشاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون [1] صبيّا في المهد فطمع فيهم الترك والروم، وكانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم وهم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجتهم إليها بما هم فيه من الشظف وسوء العيش، فسار منهم جمع من ناحية البحرين وبلاد القيس ووحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم وغلبوا أهلها على الماشية والحرث والمعايش، وأكثر الفساد ومكثوا في ذلك حينا ولم يغزهم أحد من فارس ولا دافعوهم لصغر الملك، حتى إذا كبر وعرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل وبلغ ست عشرة سنة من عمره [2] ، ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه. وكان أوّل شيء ابتدأ به شأن العرب، فجهّز إليهم العساكر وعهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم، ثم شخص بنفسه إليهم وغزاهم وهم غازون ببلاد فارس فقتلهم وأبرح القتل، وهربوا أمامه وأجاز البحر في طلبهم إلى الخطّ وتعدّى إلى بلاد البحرين قتلا وتخريبا. ثم غزا بعدها رءوس العرب من تميم وبكر وعبد القيس فأثخن فيهم وأباد عبد القيس ولحق فلّهم بالرمال ثم أتى اليمامة فقتل وأسر وخرّب ثم عطف إلى بلاد بكر وتغلب، ما بين مملكة فارس ومناظر الروم بالشام، فقتل من وجد هنالك من العرب وطمّ مياههم وأسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين [3] من البحرين والخطّو من بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان ويدعون بكر إياد ومن بني حنظلة الأهواز، وبنى مدينة الأنبار والكرخ والسوس.
وفيما قاله غيره إنّ إيادا كان تشتو بالجزيرة وتصيّف بالعراق وتشن الغارة. وكانت
__________
[1] لا معنى لهذه الكلمة حسب سياق الجملة وربما تكون محرفة عن: يولون.
[2] الأصح ان يقول: لمّا أطاق حمل السلاح.
[3] بمعنى البلد.(2/204)
تسمى طمّا [1] لانطباقها على البلاد، وسابور يومئذ صغير حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم ورئيسهم يومئذ الحرث بن الأغرّ الأيادي، وكتب إليهم بالنذر بذلك رجل [2] من إياد كان بين ظهرانيّ الفرس، فلم يقبلوا حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم وخرجوا إلى أرض الجزيرة والموصل إجلاء ولم يعاودوا العراق. ولمّا كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزيرة مع تغلب وغيرهم فأنفوا ولحقوا بأرض الروم.
وقال السهيليّ: عند ذكر سابور بن هرمز إنّه كان يخلع أكتاف العرب ولذلك لقّبه العرب ذو الأكتاف، وأنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين وله يومئذ ثلاثمائة سنة وإنه قال: إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أنّ لكم دولة. فقال له عمرو بن تميم: ليس هذا من الحزم أيها الملك فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعه وتكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك وأعقاب قومك. فيقال إنه استبقاه ورحم كبره.
ثم غزا سابور بلاد الروم وتوغّل فيها ونازل حصونهم، وكان ملوك الروم على عصره قسطنطين وهو أوّل من تنصّر من ملوكهم وهلك قسطنطين وملك بعده إليانوس من أهل بيته وانحرف عن دين النصرانية وقتل الأساقفة وهدم البيع وجمع الروم وانحدر لقتال سابور. واجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم وسار قائد إليانوس واسمه يوسانوس في مائة وسبعين ألفا من المقاتلة، حتى دخل أرض فارس، وبلغ خبره وكثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء وأجفل وصحبه العرب، ففضّوا جموعه وهرب في فلّ من عسكره، واحتوى إليانوس على خزائنه وأمواله واستولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه. ثم استنفر أهل النواحي واجتمعت إليه فارس وارتجع مدينة طبسون وأقاما متظاهرين، وهلك إليانوس بسهم أصابه، فبقي الروم فوضى وفزعوا إلى يوسانوس القائد أن يملّكوه، فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا. وبعث إليه سابور في القدوم عليه، فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم، وتلقّاه سابور وعانقه وبالغ في إكرامه وعقد معه الصلح على
__________
[1] الطمّ: البحر، العدد الكثير (قاموس)
[2] ربما كان يقصد به لقيطا بن يعمر الأيادي، وكان كاتبا في البلاط الفارسيّ ومن قصيدته المنذرة:
يا ايها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادا ومنتجعا
لا تلهكم إبل ليست لكم إبل ... إن العدو بعظم منكم قرعا(2/205)
أن يعطي الروم قيمة ما أفسدوه من بلاد فارس وأعطوا بدلا عن ذلك نصيبين فرضي بها أهل فارس، وكانت ممّا أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور وشرّد عنها أهلها خوفا من سطوته، فنقل إليها من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما. وانصرف يوسانوس بالروم وهلك عن قرب ورجع سابور إلى بلاده.
وفيما نقله بعض الأخباريّين إنّ سابور دخل بلاد الروم متنكرا وعثر عليه فأخذ وحبس في جلد ثور وزحف ملك الروم بعساكره إلى جنديسابور فحاصرها، وإن سابور هرب من حبسه ودخل جنديسابور المدينة ثم خرج إلى الروم فهزمهم وأسر ملكهم قيصر، وأخذه بعمارة ما خرّب من بلاده ونقل التراب والغروس إليها ثم قطع أنفه وبعث به على حمار إلى قومه، وهي قصة واهية تشهد العادة بكذبها.
ثم هلك سابور لاثنتين وسبعين سنة من ملكه وهو الّذي بنى مدينة نيسابور وسجستان وبنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم، وملك لعهده أمرؤ القيس بن عديّ، وأوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز، وفتك في أشراف فارس وعظمائهم فخلعوه لأربعين سنة من دولته. وملكوا سابور بن ذي الأكتاف فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه، وأحسن السيرة ورفق بالرعية وحمل على ذلك العمّال والوزراء والحاشية ولم يزل عادلا، وخضع له عمه أردشير المخلوع، وكانت له حروب مع إياد وفي ذلك يقول شاعرهم:
على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنعم
وقيل إنّ هذا الشعر إنما قيل في سابور ذي الأكتاف. ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته، وملك أخوه بهرام ويلقب كرمان شاه وكان حسن السياسة وملك لإحدى عشرة سنة من دولته رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله. وملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم، وبعض نسّابة الفرس يقول إنّه أخوه ولي ابنه وإنّما هو ابن ذي الأكتاف. وقال هشام بن محمد: كان فظّا غليظا كثير المكر والخديعة يفرغ في ذلك عقله وقوّة معرفته وكان معجبا برأيه سيّئ الخلق كثير الحدّة يستعظم الزلّة الصغيرة ويردّ الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة. وبالجملة فهو سيّئ الأحوال مذمومها واستوزر، لأول ولايته برسيّ الحكيم ويسمّى فهر برشي ومهر مرسة، وكان متقدّما في الحكمة والفضائل وأمّل أهل المملكة أن تهرب من يزدجرد الأثيم، فلم يكن ذلك واشتدّ أمره على الأشراف بالإهانة وعلى من دونهم بالقتل. وبينما هو جالس في(2/206)
مجلسه يوما إذا بفرس [1] عابر لم يطق أحد إمساكه قد وقف ببابه، فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه فرمحه فمات لوقته لإحدى وعشرين سنة من ملكه.
وملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد ويلقب ببهرام جور، وكان نشوؤه ببلاد الحيرة مع العرب أسلمه أبوه إليهم فربّي بينهم وتكلّم بلغتهم ولما مات أبوه قدّم أهل فارس رجلا من نسل أردشير، ثم زحف بهرام جور بالعرب فاستولى على ملكه نذكر في أخبار آل المنذر. وفي. يام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام وقتله، ثم غزا الهند وتزوّج ابنة ملكهم فهابته ملوك الأرض، وحمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة، وهلك لتسع وعشرين من دولته.
وملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور واستوزر مهر برسي الحكيم الّذي كان أبوه استوزره، وجرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل والإحسان، وهو الّذي شرع في بناء الحائط بناحية الباب والأبواب، وجعل جبل الفتح سدا بين بلاده وما وراءها من أمم الأعاجم، وهلك لعشرين سنة من دولته.
وملك من بعده ابنه هرمز وكان ملكا على سجستان فغلب على الدولة ولحق أخوه فيروز بملك الصغد بمروالروذ. وهذه الأمم هم المعروفون قديما بالهياطلة وكانوا بين خوارزم وفرغانة، فأمر فيروز بالعساكر وقاتل أخاه هرمز فغلبه وحبسه. وكانت الروم قد امتنعت من حمل الخراج فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهر برسي، فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كان يحملونه واستقام أمره وأظهر العدل. وأصابهم القحط في دولته سبع سنين فأحسن تدبير الناس فيها وكفّ عن الجباية وقسّم الأموال، ولم يهلك في تلك السنين أحد إتلافا. وقيل أنه استسقى لرعيته من ذلك القحط فسقوا وعادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه. وكان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره، فقوي ملكهم أمره وزحفوا إلى أطراف ملكه وملكوا طخارستان وكثيرا من بلاد خراسان وزحف هو إلى قتالهم فهزموه وقتلوه وأربعة بنين له وأربعة إخوة واستولوا على خراسان بأسرها. وسار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز فغلبهم على خراسان وأخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى والسبي، وكان مهلكه لسبع وعشرين من ملكه. وبنى المدن بالري
__________
[1] وردت هذه القصة في كتاب التاج للجاحظ ص 274: « ... وقالت الفرس، هذا ملك من الملائكة جعله الله في صورة فرس، فبعثه لقتل يزدجرد لما ظلم الرعية وعاث في الأرض» .(2/207)
وجرجان وأذربيجان.
وقال بعضهم: إنّ ملك الهياطلة الّذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا [1] ، والرجل الّذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من نسل منوشهر، وإن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا والهياطلة على مدينتي الملك وهما طبسون ونهرشير، فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدّم.
وملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش بن فيروز ونازعه أخوه قبّاذ الملك فغلبه يلاوش ولحق قبّاذ بخاقان ملك الترك يستنجده. وأحسن يلاوش الولاية والعدل وحمل أهل المدن على عمارة ما خرّب من مدنهم، وبنى ميدنة ساباط بقرب المدائن، وهلك لأربع سنين من دولته. وملك من بعده أخوه قبّاذ بن فيروز وكان قد سار بعساكر الترك أمده بها خاقان، فبلغه الخبر بمهلك أخيه وهو بنيسابور من طريقه، وقد لقي بها ابنا كان له هنالك حملت به أمّه منه عند مروره ذلك الى خاقان، فلما أحل بنيسابور ومعه العساكر سأل عن المرأة، فأحضرت ومعها الخبر وجاء الخبر هنالك بمهلك أخيه يلاوش فتيمّن بالمولود وسار إلى سرحد الّذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن، ومال الناس إليه دون قبّاذ واستبدّ عليه. فلما كبر وبلغ سن الاستبداد بأمره أنف من استبداد سرحد عليه، فبعث إلى أصبهبذ البلاد وهو سابور مهران فقدم عليه وقبض على سرحد وحبسه ثم قتله ولعشرين من دولته حبس وخلع. ثم عاد إلى الملك وصورة الخبر عن ذلك أنّ مزدك الزنديق كان إباحيا، وكان يقول باستباحة أموال الناس وأنها فيء، وأنه ليس لأحد ملك شيء ولا حجره، والأشياء كلها ملك للَّه مشاع بين الناس لا يختص به أحد دون أحد وهو لمن اختاره، فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد واجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه، وملكوا جاماسات أخاه.
وخرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ ويقرّب إلى الناس بقتل المزدكية، وأعاد قباذ إلى ملكه، ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بإنكار ما أتى قبلهم فقبله، واتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف وفسد الملك وخلعوه وحبسوه وأعادوا جاماسات. وفرّ قباذ من محبسه ولحق قباذ بالهياطلة وهم الصغد مستجيشا لهم، ومرّ في طريقه بأبو شهر فتزوج بنت ملكها وولدت له أنوشروان، ثم أمدّه ملك الهياطلة، فزحف إلى
__________
[1] وفي الكامل: أخشنوار.(2/208)
المدائن لست سنين من مغيبه وغلب أخاه جاماسات واستولى على الملك. ثم غزا بلاد الروم وفتح آمد وسبى أهلها وطالت مدّته وابتنى المدن العظيمة منها مدينة أرّجان بين الأهواز وفارس، ثم هلك لثلاث وأربعين سنة من ملكه في الكرة الأولى.
وملك ابنه أنوشروان بن قبّاذ بن فيروز بن يزدجرد، وكان يلي الأصبهبذ وهي الرئاسة على الجنود، ولما ملك فرّق أصبهبذ البلاد على أربعة فجعل: أصبهبذ المشرق بخراسان والمغرب بأذربيجان وبلاد الخزر واستردّ البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك مثل السند وبست الرخّج وزابلستان وطخارستان ودهستان.
وأثخن في أمّة البازر وأجلى بقيتهم، ثم أدهنوا واستعان بهم في حروبه. وأثخن في أمّة صول واستلحمهم، وكذلك الجرامقة وبلنجر واللان وكانوا يجاورون أرمينية ويتملأون على غزوها فبعث إليهم العساكر واستلحموهم وأنزل بقيتهم أذربيجان.
وأحكم بناء الحصون التي كان بناها قبّاذ وفيروز بناحية صول واللان لتحصين البلاد، وأكمل بناء الأبواب والسور الّذي بناه جدّه بجبل الفتح، بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء إلى أن استقرّت بقعر البحر وشقت بالخناجر فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح والبحر، وفتحت فيه الأبواب ثم وصلوه في شعاب الجبل وبقي فيه إلى أن كمل. قال المسعودي: إنه كان باقيا لعصره. والظنّ أن التتر خرّبوه بعد لمّا استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة، ومكانه اليوم في مملكة بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم. وكان لكسرى أنوشروان في بنائه خبر مع ملوك الخزر.
ثم استفحل ملك الترك زحف خاقان سيحور وقتل ملك الهياطلة واستولى على بلادهم وأطاعه أهل بلنجر وزحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل، وبعث الى أنوشروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر في الفداء، وضبط أنوشروان أرمينية بالعساكر، وامتنعت صول بملكها أنوشروان والناحية الأخرى بسور الأبواب، فرجع خاقان خائبا.
وأخذ أنوشروان في إصلاح السّابلة والأخذ بالعدل وتفقّد أهل المملكة وتخيّر الولاة والعمّال مقتديا بسيرة أردشير بن بابك جدّه. ثم سار إلى بلاد الروم وافتتح حلب وقبرص وحمص وانطاكية ومدينة هرقل ثم الاسكندرية، وضرب الجزية على ملوك القبط، وحمل إليه ملك الروم الفدية، وملك الصين والتبت الهدايا. ثم غزا بلاد(2/209)
الخزر وأدرك فيهم بثأره وما فعلوه ببلاده. ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة فبعث معه قائدا من قوّاده في جند من الديلم فقتلوا مسروقا ملك الحبشة باليمن وملكوها، وملك عليهم سيف بن ذي يزن. وأمره أن يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قوّاده فقتل ملكها واستولى عليها وحمل إلى كسرى أموالا جمة. وملك على العرب في مدينة الحيرة. ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثأر جدّه فيروز فقتل ملكهم واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل عساكره فرغانة وأثخن في بلاد الروم وضرب عليهم الجزى. وكان مكرما للعلماء محبا للعلم وفي أيامه ترجم كتاب كليلة وترجمه من لسان اليهود [1] وحله بضرب الأمثال ويحتاج إلى فهم دقيق. وعلى عهده ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتين وأربعين سنة من ملكه وذلك عام الفيل. وكذلك ولد أبوه عبد الله بن عبد المطلب لأربع وعشرين من ملكه.
قال الطبريّ: وفي أيامه رأى الموبذان الإبل الصعاب تقود الخيل العراب وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فأفزعه ذلك، وقصّ الرؤيا على من يعبّرها، فقال: حادث يكون من العرب. فكتب كسرى إلى النعمان أن يبعث إليه بمن يسأله عما يريده فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حسّان بن نفيلة الغسّاني وقصّ عليه الرؤيا فدلّه على سطيح، وقال له: ائته أنت فسار إليه وقصّ عليه الرؤيا فأخبره بتأويلها وأنّ ملك العرب سيظهر والقصة معروفة. وكان فيما قاله سطيح إنّه يملك من آل كسرى أربعة عشر ملكا فاستطال كسرى المدّة وملكوا كلهم في عشرين سنة أو نحوها.
وبعث عامل اليمن وهرز بهديّة وأموال وطرف من اليمن إلى كسرى، فأغار عليها بنو يربوع من تميم وأخذوها، وجاء أصحاب العير الى هوذة بن عليّ ملك اليمامة من بني حنيفة، فسار معهم إلى كسرى فأكرمه وتوّجه بعقد من لؤلؤ ومن ثمّ قيل له ذو التاج، وكتب إلى عامله بالبحرين في شأنهم، وكان كثيرا ما يوقع ببني تميم ويقطعهم حتى سمّوه المكفّر فتحيل عليهم بالميرة، ونادى مناديه في أحيائهم: إنّ الأمير يقسم فيكم بحصن المشعر ميرة، فتسايلوا [2] إليه ودخلوا الحصن، فقتل الرجال وخصى
__________
[1] ترجم الكتاب من اللغة الهندية. وفي مقدمة هذا الكتاب عرض وافي لكيفية الحصول عليه من المكتبة الهندية.
[2] اي قدموا من كل جهة كالسيل.(2/210)
الصبيان. وجاءت هدية أخرى من اليمن على أرض الحجاز أجازها رجل من بني كنانة فعدت عليه قيس وقتلوه وأخذوا الهدية، فنشأت الفتنة بين كنانة وقيس لأجل ذلك وكانت بينهما حرب الفجّار عشرين سنة وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرا كان ينبل على أعمامه. ثم هلك أنوشروان لثمان وأربعين من دولته وملك ابنه هرمز.
قال هشام: وكان عادلا حتى لقد أنصف من نفسه خصيّا كان له، وكانت له خؤلة في الترك وكان مع ذلك يقتل الأشراف والعلماء، وزحف إليه ملك الترك شبّابة في ثلاثمائة ألف مقاتل، فسار هرمز إلى هراة وباذغيس لحربهم، وخالفه ملك الروم إلى ضواحي العراق، وملك الخزر الى الباب والأبواب، وجموع العرب إلى شاطئ الفرات. فعاثوا في البلاد ونهبوا واكتنفته الأعداء من كل جانب، وبعث قائده بهرام صاحب الريّ إلى لقاء الترك، وأقام هو بمكانه من خراسان بيت هراة وباذغيس، وقاتل بهرام الترك وقتل ملكهم شبّابة بسهم أصابه واستباح معسكره وأقام بمكانه.
فزحف إليه برمومة بن شبّابة بالترك فهزمه بهرام وحاصره في بعض الحصون حتى استسلم وبعث به الى هرمز أسيرا، وبعث معه بالأموال والجواهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة يقال في مائتين وخمسين ألفا من الأحمال، فوقع ذلك من هرمز أحسن المواقع. وغصّ أهل الدولة ببهرام وفعله فأكثروا فيه السعاية وبلغ الخبر إلى بهرام فخشيه على نفسه فداخل من كان معه من المرازبة وخلعوا هرمز، ودعوا لابنه أبرويز وداخلهم في ذلك أهل الدولة، فلحق أبرويز بأذربيجان خائفا على نفسه، واجتمع إليه المرازبة والأصبهبذيّون فملكوه. ووثب بالمدائن الأشراف والعظماء ونفدويه وبسطام خال أبرويز فخلعوا هرمز وحبسوه تحرّزا من قتله.
وأقبل أبرويز بمن معه إلى المدائن فاستولى على الملك، ثم نظر في أمر بهرام وتحرّز منه وسار إليه وتوافقا بشط النهروان [1] ، ودعاه أبرويز إلى الدخول في أمره ويشترط ما أحب، فلم يقبل ذلك وناجزه الحرب فهزمه. ثم عاود الحرب مرارا وأحس أبرويز بالقتل من أصحابه فرجع إلى المدائن منهزما، وعرض على النعمان أن يركبه فرسه فنجا عليها. وكان أبوه محبوسا بطبسون فأخبره الخبر وشاوره فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم يستجيشه، فمضى لذلك ونزل المدائن لاثنتي عشرة سنة من ملكه.
__________
[1] ثلاث قرى بين واسط وبغداد.(2/211)
وفي بعض من طرق هذا الخبر أنّ أبرويز لمّا استوحش من أبيه هرمز لحق بأذربيجان واجتمع عليه من اجتمع ولم يحدث شيئا. وبعث هرمز لمحاربة بهرام قائدا من مرازبته فانهزم وقتل ورجع فلّهم إلى المدائن وبهرام في اتّباعهم، واضطرب هرمز وكتبت إليه أخت المرزبان المهزوم من بهرام تستحثه للملك فسار إلى المدائن وملك، وأتاه أبوه فتواضع له أبرويز وتبرأ له من فعل الناس وأنه إنّما حمله على ذلك الخوف، وسأله أن ينتقم له ممن فعل به ذلك وأن يؤنسه بثلاثة من أهل النسب والحكمة يحادثهم كل يوم فأجابه، واستأذنه في قتل بهرام جوبين فأشار به. وأقبل بهرام حثيثا وبعث خاليه نفدويه وبسطام يستدعيانه للطاعة فردّ أسوأ ردّ وقاتل أبرويز واشتدّت الحرب بينهما، ولما رأى أبرويز فشل أصحابه شاور أباه ولحق بملك الروم، وقال له خالاه عند وصولهم من المدائن: نخشى أن يدخل بهرام المدائن ويملّك أباك ويبعث فينا إلى ملك الروم. وانطلقوا إلى المدائن فقتلوا هرمز ثم ساروا مع أبرويز وقطعوا الفرات، واتبعتهم عساكر بهرام وقد وصلوا إلى تخوم الروم وقاتلوهم وأسروا نفدويه خال أبرويز ورجعوا عنهم. ولحق أبرويز ومن معه بأنطاكيّة وبعث إلى قيصر موريق يستنجده فأجابه وأكرمه وزوّجه ابنته مريم، وبعث إليه أخاه بناطوس بستين ألف مقاتل وقائدهم، واشترط عليه الإتاوة التي كان الروم يحملونها، فقبل وسار بالعساكر إلى أذربيجان ووافاه هنالك خاله نفدويه هاربا من الأسر الّذي كانوا أسروه. ثم بعث العساكر من أذربيجان مع أصبهبذ الناحية، فانهزم بهرام جوبين ولحق بالترك وسار أبرويز إلى المدائن فدخلها وفرّق في الروم عشرين ألف ألف دينار وأطلقهم إلى قيصر.
وأقام بهرام عند ملك الترك وصانع أبرويز عليه ملك الترك وزوجته حتى دست عليه من قتله، واغتمّ لذلك ملك الترك وطلّقها من أجله، وبعث إلى أخت بهرام أن يتزوّجها فامتنعت، ثم أخذ أبرويز في مهاداة قيصر موريق وألطافه، وخلعه الروم وقتلوه وملّكوا عليهم ملكا اسمه قوفا قيصر، ولحق ابنه بأبرويز فبعث العساكر على ثلاثة من القواد وسار أحدهم ودوّخوا الشام إلى فلسطين، ووصلوا إلى بيت المقدس فأخذوا أسقفتها ومن كان بها من الأقسّة وطالبوهم بخشبة الصليب فاستخرجوها من الدفن وبعثوا بها إلى كسرى، وسار منهم قائد آخر إلى مصر واسكندرية وبلاد النوبة فملكوا ذلك كلّه، وقصد الثالث قسطنطينيّة وخيّم على الخليج وعاث في ممالك الروم.(2/212)
ولم يجب أحد إلى طاعة ابن موريق وقتل الروم قوفا الّذي كانوا ملّكوه لما ظهر من فجوره، وملّكوا عليهم هرقل فافتتح أمره بغزو بلاد كسرى وبلغ نصيبين، فبعث كسرى قائدا من أساورته فبلغ الموصل وأقام عليها يمنع الروم المجاوزة، وجاز هرقل من مكان آخر إلى جند فارس، فأمر كسرى قائده بقتاله فانهزم وقتل وظفر هرقل بحصن كسرى وبالمدائن، ووصل هرقل قريبا منها ثم رجع. وأولع كسرى العقوبة بالجند المنهزمين، وكتب إلى سخراب بالقدوم من خراسان وبعثه بالعساكر، وبعث هرقل عساكره والتقيا بأذرعات وبصرى [1] فغلبتهم عساكر فارس، وسار سخراب في أرض الروم يخرّب ويقتل ويسبي حتى بلغ القسطنطينيّة، ورجع وعزله أبرويز عن خراسان وولّى أخاه.
وفي مناوبة هذا الغلب بين فارس والروم نزلت الآيات من أوّل سورة الروم. (قال الطبري) ، وأدنى الأرض التي أشارت إليها الآية هي أذرعات وبصرى التي كانت بها هذه الحروب. ثم غلبت الروم لسبع سنين من ذلك العهد وأخبر المسلمون بذلك الوعد الكريم لما أهمّهم من غلب فارس الروم، لأن قريشا كانوا يتشيّعون لفارس لأنهم غير دائنين بكتاب، والمسلمون يودّون غلب الروم لأنهم أهل كتاب، وفي كتب التفسير بسط ما وقع في ذلك بينهم.
وأبرويز هذا هو الّذي قتل النعمان بن المنذر ملك العرب وعامله على الحيرة سخّطه بسعاية عديّ بن زيد العباديّ وزير النعمان، وكان قد قتل أباه وبعثه إلى كسرى ليكون عنده ترجمانا للعرب كما كان أبوه قد فعل بسعايته في النعمان وحمله على أن يخطب إليه ابنته، وبعث إليه رسوله بذلك عديّ بن زيد فترجم له عنه في ذلك مقالة قبيحة أحفظت كسرى أبرويز مع ما كان تقدّم له في منعه الفرس يوم بهرام كما تقدّم، فاستدعاه أبرويز وحبسه بساباط، ثم أمر به فطرح للفيلة [2] ، وولّى على العرب بعده إياس بن قبيصة الطائيّ جزاء بوفاء ابن عمه حسّان يوم بهرام كما تقدّم.
__________
[1] بلد في الشام مشهورة بصناعة السيوف.
[2] أ (المعروف في كتب الأدب ان النعمان زوج ابنة عدي، وان بني مرينا- وهي اسرة تكره بني أيوب: أسرة عدي- قد احفظها هذا الزواج الّذي أدى الى ملكية النعمان لأنها كانت تريد ان يتولى الملك ولد آخر من أولاد المنذر الرابع فأخذت تتقرب إلى النعمان وتدس الدسائس على عدي- فغضب عليه النعمان وسجنه فشفع به كسرى فأخفقت الشفاعة ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد النعمان على ذلك فقتل عديا فغضب زيد ابنه ودبّر مكيدة دفعت كسرى لقتل النعمان) .(2/213)
ثم كان على عهده وقعة ذي قار لبكر بن وائل ومن معهم من عبس وتميم على الباهوت مسلحة كسرى بالحيرة ومن معه من طيِّئ، وكان سببها أنّ النعمان بن المنذر أودع سلاحه عند هانئ بن مسعود الشيبانيّ وكانت شكّة ألف فارس، وطلبها كسرى منه، فأبى إلّا أن يردّها إلى بيته، فآذنه كسرى بالحرب وآذنوه بها. وبعث كسرى إلى إياس أن يزحف إليه بالمسالح التي كانت ببلاد العرب بأن يوافوا إياسا، واقتتلوا بذي قار وانهزمت الفرس ومن معهم. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليوم انتصف العرب من العجم وبي نصروا أوحى إليه بذلك أو نفث في روعه، قيل إنّ ذلك كان بمكّة وقيل بالمدينة بعد وقعة بدر بأشهر.
وفي أيام أبرويز كانت البعثة لعشرين من ملكه وقيل لاثنتين وثلاثين حكاه الطبريّ، وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوه إلى الإسلام، كما تقدّم في أخبار اليمن وكما يأتي في أخبار الهجرة.
ولما طال ملك أبرويز بطر وأشر وخسر الناس في أموالهم وولّى عليهم الظّلمة وضيّق عليهم المعاش وبغّض عليهم ملكه. وقال هشام: جمع أبرويز من المال ما لم يجمعه أحد، وبلغت عساكره القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن ويصيّف بهمدان، وكان له اثنتا عشرة ألف امرأة، وألف فيل وخمسون ألف دابة. وبنى بيوت النيران وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ وأحصى جبايته لثمان عشرة سنة من ملكه فكان أربعمائة ألف ألف مكرّرة مرتين وعشرون ألف ألف مثلها فحمل إلى بيت المال بمدينة طبسون، وكانت هنالك أموال أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد منها اثنا عشر ألف بدرة في كل بدرة من الورق مصارفة أربعة آلاف مثقال فتكون جملتها ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال مكرّرة مرتين في صنوف من الجواهر والطيوب والأمتعة والآنية لا يحصيها إلا الله تعالى. ثم بلغ من عتوّه واستخفافه بالناس أنه أمر بقتل المقيدين في سجونه وكانوا ستة وثلاثين ألفا، فنقم ذلك عليه أهل الدولة وأطلقوا ابنه شيرويه واسمه قبّاذ وكان محبوسا مع أولاده كلهم لإنذار بعض المنجمين له بأن بعض ولده يغتاله فحبسهم، وأطلق أهل الدولة شيرويه وجمعوا إليه المقيدين الذين أمر بقتلهم، ونهض إلى قصور الملك بمدينة نهر شير فملكها وحبس أبرويز وبعث إلى ابنه شيرويه يعنّفه، فلم يرض ذلك أهل الدولة وحملوه على قتله، وقتل لثمان وثلاثين سنة من ملكه، وجاءته أختاه بوران وأزرميدخت فأسمعتاه وأغلظتا له فيما فعل فبكى(2/214)
ورمى التاج عن رأسه، وهلك لثمانية أشهر من مقتل أبيه في طاعون وهلك فيه نصف الناس أو ثلثهم، وكان مهلكه لسبع من الهجرة فيما قال السهيليّ.
ثم ولي ملك الفرس من بعده ابنه أردشير طفلا ابن سبع سنين لم يجدوا من بين الملك سواه لأن أبرويز كان قتل المرشّحين كلهم من بينه وبني أبيه، فملّك عظماء فارس هذا الطفل أردشير وكفله بها در خشنش صاحب المائدة في الدولة، فأحسن سياسة ملكه وكان شهريران بتخوم الروم في جند ضمّهم إليه أبرويز وحموهم هنالك وصاحب الشورى في دولتهم، ولما لم يشاوروه في ذلك غضب وبسط يده في القتل، وطمع في الملك وأطاعه من كان معه من العساكر. وأقبل الى المدائن وتحصّن بهادر خشنش بمدينة طبسون دار الملك، ونقل إليها الأموال والذخائر وأبناء الملوك، وحاصرها شهريران فامتنعت، ثم داخل بعض العسس ففتحوا له الباب فاقتحمها وقتل العظماء واستصفى الأموال وفضح النساء.
وبعث أردشير الطفل الملك من قتله لسنة ونصف من ملكه، وملك شهريران على التخت ولم يكن من بيت الملك، وامتعض لقتل أردشير جماعة من عظماء الدولة وفيهم زادان فرّوخ وشهريران ووهب مؤدّب الأساورة، وأجمعوا على قتل شهريران.
وداخلوا في ذلك بعض حرس الملك فتعاقدوا على قتله، وكانوا يعملون قدام الملك في الأيام والمشاهد سماطين، ومرّ بهم شهريران بعض أيام بين السماطين وهم مسلحون فلما حاذاهم طعنوه فقتلوه وقتلوا العظماء بعد قتل أردشير الطفل.
ثم ملّكوا بوران بنت أبرويز ودفعت أمير الدولة إلى [1] قبائل شهريران من حرس الملك وهو فرّوخ بن ماخد شيراز من أهل إصطخر، ورفعت رتبته، وأسقطت الخراج عن الناس، وأمرت برم القناطير والجسور وضرب الورق، وردّت خشبة الصليب على الجاثليق ملك الروم، وهلكت لسنة وأربعة أشهر. وملّكوا بعدها خشنشده من عمومة أبرويز عشرين يوما فملك أقل من شهر. ثم ملك أزرميدخت بنت أبرويز وكانت من أجلّ نسائهم، وكان عظيم فارس يومئذ فرّوخ هرمز أصبهبذ خراسان فأرسل إليها في التزويج، فقالت هو حرام على الملكة ودعته ليلة كذا، فجاء وقد عهدت إلى صاحب حرسها أن يقتله ففعل، فأصبح بدار الملك قتيلا وأخفي أثره.
وكان لما سار إلى أزرميدخت استخلف على خراسان ابنه رستم، فلما سمع بخبر أبيه
__________
[1] الواضح من سياق الجملة ان كلمة سقطت أثناء النسخ فتكون الجملة (الى رجل من قبائل شهريران) .(2/215)
أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن وملكها، وسمل أزرميدخت وقتلها، وقيل سمّها فماتت وذلك لستة أشهر من ملكها، وملكوا بعدها رجلا من نسل أردشير بن بابك وقتل لأيام قلائل، وقيل بل هو من ولد أبرويز اسمه فرّوخ زاذ بن خسرو وجدوه بحصن الحجارة قريب نصيبين، فجاءوا به إلى المدائن وملّكوه ثم عصوا عليه فقتلوه.
وقيل لمّا قتل كسرى بن مهرخشنش طلب عظماء فارس من يولّونه الملك ولو من قبل النساء، فأتى برجل وجد بميسان اسمه فيروز بن مهرخشنش ويسمى أيضا خشنشدة أمّه صهاربخت بنت يراد قرّار بن أنوشروان فملّكوه كرها، ثم قتلوه بعد أيام قلائل.
ثم شخص رجل من عظماء الموالي وهو رئيس الخول إلى ناحية الغرب، فاستخرج من حصن الحجارة قرب نصيبين ابنا لكسرى كان لجأ إلى طبسون فملّكوه، ثم خلعوه وقتلوه لستة أشهر من ملكه.
وقال بعضهم: كان أهل إصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز فلما بلغهم أن أهل المدائن عصوا على ابن خسرو فرّوخ زاذ أتوا بيزدجرد من بيت النار الّذي عندهم ويدعى أردشير، فملّكوه بإصطخر وأقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا فرّوخ زاذ خسرو لسنة من ملكه. واستقلّ يزدجرد بالملك وكان أعظم وزرائه رئيس الموالي الّذي جاء بفرّخزاد خسرو من حصن الحجارة. وضعفت مملكة فارس، وتغلب الأعداء على الأطراف من كل جانب، فزحف إليهم العرب المسلمون بعد سنتين من ملكه، وقيل بعد أربع، فكانت أخبار دولته كلها هي أخبار الفتح نذكرها هنالك إلى أن قتل بمرو بعد نيف وعشرين سنة من ملكه.
هذه هي سياقة الخبر عن دولة هؤلاء الأكاسرة الساسانية عند الطبري. ثم قال آخرها:
فجميع سني العالم من آدم إلى الهجرة على ما يزعمه اليهود أربعة آلاف سنة وستمائة واثنان وأربعون سنة، وعلى ما يدّعيه النصارى في توراة اليونانيين ستة آلاف سنة غير ثمان سنين، وعلى ما يقوله الفرس إلى مقتل يزدجرد أربعة آلاف ومائة وثمانون سنة ومقتل يزدجرد عندهم لثلاثين من الهجرة، وأمّا عند أهل الإسلام فبين آدم ونوح عشرة قرون والقرن مائة سنة وبين نوح وإبراهيم كذلك وبين إبراهيم وموسى كذلك ونقله الطبري عن ابن عبّاس وعن محمد بن عمرو بن واقد الإسلامي عن جماعة من أهل العلم وقال: إنّ الفترة بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة ورواه عن سلمان الفارسيّ وكعب الأحبار والله أعلم بالحق في ذلك والبقاء للَّه الواحد القهّار.(2/216)
الخبر عن دولة يونان والروم وأنسابهم ومصايرهم
كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم وأوسعهم ملكا وسلطانا، وكانت لهم الدولتان العظيمتان للإسكندر والقياصرة من بعده الذين صبحهم الإسلام وهم ملوك بالشام، ونسبهم جميعا إلى يافث باتفاق من المحقّقين، إلا ما ينقل عن الكندي في نسب يونان إلى عابر بن فالغ وأنه خرج من اليمن بأهله وولده مغاضبا لأخيه قحطان فنزل ما بين الافرنجة والروم فاختلط نسبه بهم، وقد ردّ عليه أبو العبّاس الناشيء في ذلك بقوله:
تخلط يونان بقحطان ضلّة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدّا
ولذلك يقال إنّ الإسكندر من تبّع، وليس شيء من ذلك بصحيح، وإنما الصحيح نسبهم إلى يافث، ثم إنّ المحقّقين ينسبون الروم جميعا إلى يونان الإغريقيون منهم والطينيون. ويونان معدود في التوراة من ولد يافث لصلبه، واسمه فيها يافان بفاء تقرب من الواو، فعرّبته العرب الى يونان.
وأمّا هروشيوش فجعل الغريقيين خمس طوائف منتسبين إلى خمسة من أبناء يونان وهم: كيتم وحجيلة وترشوش ودودانم وإيشاي، وجعل من شعوب إيشاي سجينيّة وأثناش وشمالا وطشّال ولجدمون. ونسب الروم اللطينيين فيهم ولم يعين نسبهم في أحد من الخمسة، ونسب الافرنج إلى غطرما بن عومر بن يافث، وقال: إن الصقالبة إخوانهم في نسبه، وقال: إنّ الملك كان في هذه الطوائف لبني أشكان بن غومر والملوك منهم هؤلاء الغريقيون قبل يونان وغيرهم. ونسب القوط الى ماداي بن يافث وجعل من إخوانهم الأرمن، ثم نسب القوط مرّة أخرى إلى ماغوغ بن يافث وجعل اللطينيين من إخوانهم في ذلك النسب. ونسب القاللّين منهم إلى رفنّا بن غومار، ونسب إلى طوبال بن يافث الأندلس والإيطاليين والأركاديّين، ونسب إلى طبراش بن يافث أجناس الترك. واسم الغريقيين عنده يشمل أبناء يونان كلهم كما ذكره، وينوّع الروم إلى الغريقيين واللطينيين.
وقال ابن سعيد فيما نقله من تواريخ المشرق عن البيهقي وغيره: إنّ يونان هو ابن علجان بن يافث، قال: ولذلك يقال لهم العلوج ويشركهم في هذا النسب سائر(2/218)
أهل الشمال من غير الترك، وإنّ الشعوب الثلاثة من ولد يونان، فالإغريقيون من ولد أغر يقش بن يونان والروم من ولد رومي بن يونان واللطينيون من ولد لطين بن يونان، وإنّ الإسكندر من الروم منهم والله أعلم. ونحن الآن نذكر أخبار الدولتين الشهيرتين منهم مبلغ علمنا والله الموفق للصواب سبحانه وتعالى.(2/219)
الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان الى انقراض أمرهم
هؤلاء اليونانيون المتشعّبون إلى الغريقيين واللطينيين- كما قلناه- اختصوا بسكنى الناحية الشمالية من المعمور مع إخوانهم من سائر بني يافث كلهم كالصقالبة والترك والافرنجة من ورائهم وغيرهم من شعوب يافث، ولهم منها الوسط ما بين جزيرة الأندلس إلى بلاد الترك بالمشرق طولا وما بين البحر المحيط والبحر الرومي عرضا، فمواطن اللطينيين منهم في الجانب الغربي ومواطن الغريقيين منهم في الجانب الشرقي والبحر بينهما خليج القسطنطينية. وكان لكل واحد من شعبي الغريقيين واللطينيين منهم دولة عظيمة مشهورة في العالم.
واختص الغريقيون باسم اليونانيين، وكان منهم الإسكندر المشهور الذكر أحد ملوك العالم، وكانت ديارهم كما قلناه بالناحية الشرقية من خليج القسطنطينية بين بلاد الترك ودروب الشام، ثم استولى على ما وراء ذلك من بلاد الترك والعراق والهند، ثم جال أرمينية وما وراءها من بلاد الشام وبلاد مقدونية ومصر والاسكندرية، وكان ملوكهم يعرفون بملوك مقدونية.
وذكر هروشيوش مؤرّخ الروم من شعوب هؤلاء الغريقيين بنو لجدمون وبنو أنتناش، قال: وإليهم ينسب الحكماء الأنتاشيون وهم ينسبون لمدينتهم أجدة أنتاش، قال:
ومن شعوبهم أيضا بنو طمّان ولجدمون كلهم بنو شمالا بن إيشاي، وقال في موضع آخر: لجدمون أخو شمالا.
وكانت شعوب هذه الأمّة قبل الفرس والقبط وبني إسرائيل متفرّقة بافتراق شعوبها، وكان بينهم وبين إخوانهم اللطينيين فتن وحروب، ولما استفحل ملك فارس لعهد الكينيّة أرادوهم على الطاعة لهم، فامتنعوا وغزتهم فارس، فاستصرخوا عليهم بالقبط فسالموهم إلى محاربة الغريقيين حتى أذلّوهم وأخذوا الجزى منهم وولّوا عليهم. ويقال:
إنّ أفريدون ولّى عليهم ابنه، وأنّ جدّه الإسكندر لأبيه من أعقابه. ويقال: أن بخت نصّر لما ملك مصر والمغرب أنفوه بالطاعة وكانوا يحملون خراجهم إلى ملك فارس عددا من كرات الذهب أمثال البيض ضريبة معلومة عليهم في كل سنة، ولما فرغوا(2/220)
من شأن أهل فارس وأنفوا ملكهم بالجزى والطاعة صرفوا وجوههم إلى حرب اللطينيين، ثم استفحل أمر الإيشاءيّين من الغريقيّين ولم يكن قوامهم إلا الجرمونيّون، فغلبوهم وغلبوا بعدهم اللطينيين والفرناسيين والأركاديين، واجتمع إليهم سائر شعوب الغريقيين واعتز سلطانهم وصار لهم الملك والدولة.
وقال ابن سعيد: إنّ الملك استقرّ بعد يونان في ابنه أغريقش في الجانب الشرقي من خليج قسطنطينية، وتوالى الملك في ولده وقهروا اللطينيين والروم ودال ملكهم في أرمينية، وكان من أعظمهم هرقل الجبّار بن ملكان بن سلقوس بن أغريقش، يقال: إنه ضرب الإتاوة على الأقاليم السبعة. وملك بعده ابنه يلاق وإليه تنسب الأمّة اليلاقيّة وهي الآن باقية على بحر سودان. واتصل الملك في عقب يلاق إلى أن ظهر إخوانهم الروم واستبدّوا بالملك، وكان أولهم هردوس بن منطرون بن رومي بن يونان فملك الأمم الثلاثة وصار اسمه لقبا لكل من ملك بعده، وسمّت به يهود الشام كل من قام بأمرها منهم. ثم ملك بعده ابنه هرمس، فكانت له حروب مع الفرس إلى أن قهروه وضربوا عليه الإتاوة، فاضطرب حينئذ أمر اليونانيين وصاروا دولا وممالك. وانفرد الاغريقيون برئيس لهم، وصنع مثل ذلك اللطينيون، إلّا أنّ اللقب بملك الملوك كان لملك الروم، ثم ملك بعده ابنه مطريوش فحمل الإتاوة لملك الفرس لاشتغاله بحرب اللطينيين والإغريقيين. وملك بعده ابنه فيلفوش [1] وكانت أمّه من ولد سرم من ولد أفريدون الّذي ملّكه أبوه على اليونان، فظهر وهدم مدينة إغريقيّة وبنى مدينة مقدونية في وسط الممالك بالجانب الغربي من الخليج. وكان محبّا للحكمة فلذلك كثر الحكماء في دولته. ثم ملك من بعده ابنه الإسكندر وكان معلمه من الحكماء أرسطو.
وقال هروشيوش: إنّ أباه فيلفوش إنما ملك بعد الإسكندر بن تراوش أحد ملوكهم العظماء، وكان فيلفوش صهرا له على أخته لينبادة بنت تراوش، وكان له منها الإسكندر الأعظم. قال: وكان ملك الإسكندر بن تراوش لعهد أربعة آلاف وثمانمائة من عهد الخليقة ولعهد أربعمائة أو نحوها من بناء رومة، وهلك وهو محاصر لرومة قتله اللطينيون عليها لسبع سنين من دولته. فولي أمر الغريقيين والروم من بعده صهره على أخته لينبادة فيلفوش ابن آمنة بن هركلش، واختلفوا عليه فافترق أمرهم
__________
[1] هو فيلبس المقدوني والد الإسكندر.(2/221)
وحاربهم إلى أن انقادوا وغلبهم على سائر أوطانهم. وأراد بناء القسطنطينية فمنعه الجرمانيّون بما كانت لهم، فقاتلهم حتى استلحمهم، واجتمع إليه سائر الروم والغريقيين من بني يونان، وملك ما بين ألمانية وجبال ارمينية. وكان الفرس لذلك العهد قد استولوا على الشام ومصر فاعتزم فيلفوش على غزو الشام، فاغتاله في طريقه بعض اللطينيين وقتله بثأر كان له عنده. ووليّ من بعده ابنه الإسكندر فاستمرّ على مطالبة بلاد الشام، وبعث إليه ملوك فارس في الخراج على الرسم الّذي كان لعهد أبيه فيلفوش، فبعث إليه الإسكندر إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض الذهب وأكلتها. ثم زحف إلى بلاد الشام واستولى عليها وفتح بيت المقدس وقرّب فيه القربان وذلك لعهد مائتين وخمسين من فتح بخت نصّر إيّاها، وامتعض أهل فارس لانتزاعه إياها من ملكتهم، فزحف إليه دارا في ستين ألفا من الفرس ولقيه الإسكندر في ستمائة ألف من قومه فغلبهم وفتح كثيرا من مدن الشام ورجع إلى طرسوس، فزحف إليه دارا ولقيه عليها فهزمه الإسكندر وافتتح طرسوس. ومضى وبنى الإسكندرية.
ثم تزاحف مع دارا وهزمه وقتله وتخطي إلى فارس فملك بلادها وهدم مدينة الملك بها وسبى أهلها، وأشار عليه معلمه أرسطو بأن يجعل الملك في أسافلهم لتتفرق كلمتهم ويخلص إليه أمرهم، فكاتب الإسكندر ملوك كل ناحية من الفرس والنبط والعرب وملّك على كل ناحية وتوجه فصاروا طوائف في ملكهم، واستبدّ كل واحد منهم بجهة كان ملكها لعقبه ومعلمه أرسطو هذا من اليونانيين وكان مسكنه أثينا وكان كبير حكماء الخليقة غير منازع، أخذ الحكمة عن أفلاطون اليوناني، كان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرّواق المظلّل له من حرّ الشمس فسمى تلاميذه بالمشّاءين. وأخذ أفلاطون عن سقراط ويعرف بسقراط الدّنّ بسكناه في دنّ من الخزف اتخذه لرهبانيّته، وقتله قومه أهل يونان مسموما لمّا نهاهم عن عبادة الأوثان، وكان هو أخذ الحكمة عن فيثاغورس منهم، ويقال: إنّ فيثاغورس أخذ عن تاليس حكيم ملطية، وأخذ تاليس عن لقمان. ومن حكماء اليونانيين دميقراطيس، وأنكيثاغورس كان مع حكمته مبرزا في علم الطب وبعث فيه بهمن ملك الفرس إلى يونان فامتنع من إيفاده عليه ضمانة به، وكان من تلامذته جالينوس لعهد عيسى عليه السلام ومات بصقليّة ودفن بها.(2/222)
ولما استولى الإسكندر على بلاد فارس تخطّاها إلى بلاد السند فملكها وبنى بها مدينة سمّاها الإسكندرية، ثم زحف إلى بلاد الهند فغلب على أكثرها وحاربه فور ملك الهند فانهزم وأخذه الإسكندر أسيرا بعد حروب طويلة، وغلب على جميع طوائف الهنود وملك بلاد الصين والسند وذللت إليه الملوك وحملت إليه الهدايا والخراج من كل ناحية، وراسله ملوك الأرض من إفريقية والمغرب والافرنجة والصقالبة والسودان. ثم ملك بلاد خراسان والترك، واختط مدينة الإسكندرية عند مصب النيل في البحر الرومي، واستولى على الملوك يقال: على خمسة وثلاثين ملكا. وعاد إلى بابل فمات بها، يقال مسموما سمّه عامله على مقدونية لأنّ أمّه شكته إلى الإسكندر فتوعده فأهدى له سمّا وتناوله فمات لاثنتين وأربعين سنة من عمره، بعد أن ملك اثنتي عشرة سنة، سبعا منها قبل مقتل دارا وخمسا بعده.
قال الطبري: ولما مات عرض الملك على ابنه إسكندروس فاختار الرهبانية، فملّك يونان عليهم لوغوس من بيت الملك ولقبه بطليموس. قال المسعودي: ثم سارت هذه التسمية لكل من يملك منهم ومدينتهم مقدونية وينزلون الاسكندرية، وملك منهم أربعة عشر ملكا في ثلاثمائة سنة.
وقال ابن العميد: كان قسّم الملك في حياته بين أربعة من أمرائه بطليموس فليادا [1] كان على الاسكندرية ومصر والمغرب، وفيلفوس بمقدونية وما إليها من ممالك الروم وهو الّذي سمّ الإسكندر، ودمطرس بالشام، وسلقنوس [2] بفارس والمشرق. فلما مات استبدّ كلّ واحد بناحيته.
وكتب أرسطو شرح كتاب هرمس وترجمه من اللسان المصري إلى اليوناني، وشرح ما فيه من العلوم والحكمة والطلسمات. وكتاب الأسطماخيس يحتوي على عبادة الأول، وذكر فيه أنّ أهل الأقاليم السبعة كانوا يعبدون الكواكب السيّارة. كل إقليم لكوكب، ويسجدون له ويبخّرون ويقرّبون ويذبحون، وروحانية ذلك الكوكب تدبرهم بزعمهم. وكتاب الأستماطس يحتوي على فتح المدن والحصون بالطلسمات والحكم، ومنها طلسمات لا نزال المطر وجلب المياه. وكتب الأشطرطاش في الاختيارات على سرى القمر في المنازل والاتصالات، وكتب أخرى في منافع
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بطليموس فلدلغوس.
[2] وفي نسخة اخرى سلقوس.(2/223)
وخواص الأعضاء الحيوانيات والأحجار والأشجار والحشائش.
وقال هروشيوش: إنّ الّذي ملك بعد الإسكندر صاحب عسكره بطليموس بن لاوي، فقام بأمرهم ونزل الاسكندرية واتخذها دارا لملكهم. ونهض كلمش بن الإسكندر وأمّه بنت دارا ولينبادة أمّ الإسكندر وساروا إلى صاحب أنطاكية واسمه فمشاندر فقتلهم. واختلف الغريقيون على بطليموس وافترق أمره وحارب كل واحد منهم ناحيته، إلى أن غلبهم جميعا واستقام أمره، ثم زحف إلى فلسطين وتغلب على اليهود وأثخن فيهم بالقتل والسبي والأسر، ونقل رؤساءهم إلى مصر، ثم هلك لأربعين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه فلديغيش، وأطلق أسرى اليهود من مصر، وردّ الأواني إلى البيت وحباهم بآنية من الذهب وأمرهم بتعليقها في مسجد القدس، وجمع سبعين من أحبار اليهود ترجموا له التوراة من اللسان العبراني الى اللسان الرومي واللطيني، ثم هلك فلديغيش لثمان وثلاثين سنة من ملكه.
وولي بعده ابنه أنطريس ويلقب أيضا بطليموس لقبهم المخصوص بهم الى آخر دولتهم، فانعقدت السلم بينه وبين أهل إفريقية على مدعيون ملك قرطاجنّة، ووفد عليه وعقد معه الصلح عن قومه، وزحف قوّاد رومة إلى الغريقيين ونالوا منهم. ثم هلك أنطريس لست وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده أخوه فلوباذي فزحف إليه قواد رومة فهزمهم وجال في ممالكهم، ثم كانت حروبه معهم بعدها سجالا.
وزحف إلى اليهود فملك الشام عليهم وولّى الولاة من قبله فيهم وأثخن بالقتل والسبي فيهم، يقال: إنه قتل منهم نحوا من ستين ألفا، وهلك لسبع عشرة سنة من ملكه.
ووليّ بعده ابنه إيفانش وعلى عهده كانت فتنة أهل رومة وأهل افريقية التي اتصلت نحوا من عشرين سنة، وافتتح أهل رومة صقلّيّة وأجاز قوّادهم إلى إفريقية وافتتحوا قرطاجنّة، كما نذكر في أخبارهم، وهلك إيفانش لأربع وعشرين سنة من دولته.
وولي بعده بالإسكندرية ابنه فلو ماطر فزحف الغريقيون إلى رومة، وكان فيهم صاحب مقدونية وأهل أرمينيّة والعراق وظاهرهم ملك النوبة واجتمعوا لذلك، فغلبهم الرومانيون وأسروا صاحب مقدونية، وهلك فلو ماطر لخمس وثلاثين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه إيرياطش وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة واستولوا على الأندلس وأجازوا البحر إلى قرطاجنة بإفريقية فملكوها وقتلوا ملكها أشدريال وخرّبوا مدينتها بعد أن عمرت تسعمائة سنة من بنائها كما نذكر في أخبارها. وزحف أيضا أهل(2/224)
رومة إلى الغريقيين فغلبوهم وملكوا عليهم مدينتهم قرنطة من أعظم مدنهم، يقال:
إنها كانت ثانية قرطاجنة.
ثم هلك إيرياطش لسبع وعشرين سنة من مدته وولي بعده ابنه شوطار سبع عشرة سنة وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة ومهدوا الأندلس، وملك بعده أخوه الإسكندر عشر سنين، ثم ابنه ديونشيس مائة وثلاثين سنة وعلى عهده استولى الرومانيون على بيت المقدس ووضعوا الجزيرة على اليهود، وزحف قيصر يولش [1] من قوادهم إلى الافرنجة ولمياش أيضا من قوادهم إلى الفرس فغلبوهم جميعا وما حولهم إلى أنطاكية واستولوا على ما كان لهم من ذلك. وخرج الترك من بلادهم فأغاروا على مقدونية فردّهم هامس قائد الرومانيين بالمشرق على أعقابهم.
وهلك ديونشيس فوليت بعده ابنته كلابطرة سنتين فيما قال هروشيوش لخمسة آلاف ونيف من مبدإ الخليقة ولسبعمائة سنة من بناء رومة، وعلى عهدها استبد قيصر يولش بملك رومة وغلب عليها القواد أجمع ومحا دولتهم منها وذلك بعد مرجعه من حرب الافرنج، ثم سار الى المشرق فملك إلى أرمينية ونازعه مبانش هنالك فهزمه قيصر، وفرّ مبانش الى مصر مستنجدا ملكتها وهي يومئذ كلابطره، فبعثت برأسه الى قيصر خوفا منه، فلم يغنها ذلك وزحف قيصر إليها فملك مصر والإسكندرية من كلابطره هذه وانقرض ملك اليونانيين، وولّى قيصر على مصر والاسكندرية وبيت المقدس من قبله وذلك لسبعمائة أو نحوها من بناء رومة ولخمسة آلاف من مبدإ الخليقة.
وذكر البيهقي: إن كلابطره زحفت إلى أرض اللطينيين وقهرتهم، وأرادت العبور إلى الأندلس فحال دونها الجبل الحاجز بين الأندلس والإفرنج فاستعملت في فتحه الحيل [2] والنار حتى نفذت إلى الأندلس، وإنّ مهلكها كان على يد أوغسطس يولش [3] ثاني القياصرة. وكذا ذكر المسعودي وأن ملكت لاثنتين وعشرين سنة، وكان زوجها أنطونيوس مشاركا لها في ملك مقدونية ومصر، وأن قيصر أوغسطس زحف إليهم فهلك زوجها انطونيوس في حروبه، ثم أراد التحكّم في كلابطره ليستولي
__________
[1] وفي نسخة اخرى: قيصر يوليوس.
[2] (ورد في تاج العروس: الحول والحيل والحول، كعنب هو الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف) .
[3] وفي نسخة أخرى: اوغسطوس يوليوس.(2/225)
على حكمتها إذ كانت بقية الحكماء من آل يونان، فخطبها وتحيّلت في إهلاكه وإهلاك نفسها بعد أن اتخذت بعض الحيّات القاتلة التي بين الشام والحجاز وأطلقتها بمجلسها بين رياحين نصبتها هنالك، ولمست الحيّات فهلكت لحينها وأقامت بمكانها كأنها جالسة، ودخل أوغسطس لا يشعر بذلك حتى تناول من تلك الرياحين ليشمها فأصابته الحيّة وهلك لحينه وتمت حيلتها عليه. وانقرض ملك اليونانيين بهلاكها، وذهبت علومهم إلّا ما بقي بأيدي حكمائهم في كتب خزائنهم حتى بحث عنها المأمون وأمر باستخراجها فترجمت له من هروشيوش.
وأمّا ابن العميد فعدّ ملوك مصر والإسكندرية بعد الإسكندر أربعة عشر آخرهم كلابطره كلهم يسمّون بطليموس، كما قال المسعودي. ولم يذكر ملوك المشرق منهم بعد الإسكندر ولا ملوك الشام ولا ملوك مقدونية الذين قسم الملك فيهم كما ذكرناه إلا بذكر ملك أنطاكية من اليونانيين ويسمّيه أنطيوخس كما ذكرناه الآن، وذكر في أسماء ملوك مصر هؤلاء وفي عددهم خلافا كثيرا إلّا أنه سمّى كل واحد منهم بطليموس، فقال في بطليموس الأوّل: إنّه أخو الإسكندر أو مولاه اسمه فلافاذافسد أو أرنداوس أو لوغس أو فيليبس ملك سبعا وقيل أربعين، قال: وفي عصره بنى سلقيوس وأظنه ملك المشرق منهم قمامة وحلب وقنّسرين وسلوقية والاذقية، قال:
ومنها كان الكوهن الأعظم بالقدس سمعان بن خونيّا [1] وبعده أخوه ألعازر، قال:
وفي التاسعة من ملك لوغش جاء أنطيوخس المعظّم إلى بلد اليهود واستعبدهم، وفي الحادية عشر حارب الروم فغلبوه وأسروه وأخذوا منه ابنه أقفاقس رهينة، وفي الثالثة عشر تزوج أنطيوخس كلابطره بنت لوغش زوّجها له أبوها وأخذ سورية بلاد المقدس في مهرها، وفي التاسعة عشر وثب أهل فارس والمشرق على ملكهم فخلعوه وولّوا ابنه ثم هلك لوغش.
قال ابن العميد: بعد مائة وإحدى وثلاثين سنة لليونان ملك بطليموس بن الإسكندروس ويلقّب غالب أثور، وملك مصر والإسكندرية والبلاد الغربية إحدى وعشرين سنة وقيل ثمانيا وثلاثين سنة ويسمّى أيضا فيلادلفوس أي محب أخيه، وهو الّذي استدعى أحبار اليهود وعلماءهم الاثنين وسبعين يترجموا [2] له التوراة وكتب
__________
[1] وفي الإنجيل: سمعان بن يونا.
[2] الأصح ان يقول ليترجموا.(2/226)
الأنبياء من العبرانية إلى اليونانية وقابلوها بنسخهم فصحت، وكان من هؤلاء الأحبار سمعان المذكور أوّلا وعاش الى أن حمل على ذراعيه في الهيكل ومات ابن ثلاثمائة وخمسين، وكان منهم ألعازر الّذي قتله أنطيوخس على امتناعه عن السجود لصنمه وقتله ابن سبعين سنة. ويظهر من هذا أنّ بطليموس هو تلماي وإنّه من ملوك مقدونية وملك مصر لأنّ ابن كريّون قال: وفي ذلك الزمان كان تلماي من أهل مقدونية ملك مصر وكان يحبّ العلوم، فاستدعى من اليهود سبعين من أحبارهم وترجموا له التوراة وكتب الأنبياء، وكان في عصره صادوق الكوهن انتهى. وملك خمسا وأربعين سنة.
وملك بعده بطليموس الأرنبا وقيل اسمه رغادي وقيل راكب الأنبر ملك أربعا وعشرين، وقيل سبعا وعشرين، وهو الّذي بنى ملعب الخيل بإسكندرية الّذي أحرق في عصر زينون قيصر. وملك بعده بطليموس محب أخيه ويقال: أوغسطس ويقال فيلادلفس ملك ست عشرة، وكان في عصره أخميم الكوهن. وملك بعده بطليموس الصائغ، ويقال: أخيه [1] ملك خمس سنين وقيل خمسا وعشرين، وعلى عهده كان اليهود الكوهن وكان ضالّا غشوما وقتله بعض خدمه خنقا. وملك بعده بطليموس محب أبيه، وقيل اسمه كلا فاطر [2] ملك سبع عشرة سنة وأخذ الجزية من اليهود. وملك بعده بطليموس المظفّر وقيل الغالب وقيل محب أمّه ملك عشرين وقيل أربعا وعشرين، وفي التاسعة عشرة من ملكه خرج متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي من بني يوناداب من نسل هارون، بعث أنطيخوس ملك انطاكية ابنه ألغايش بالعساكر إلى القدس فاعمل الحيلة في ملكها وقتل العازر والكوهن وحمل بني إسرائيل على السجود لآلهته، فهرب متيتيا في جماعة من اليهود الى الجبال، حتى إذا خرجت عساكر يونان رجع إلى القدس ومرّ بالمذبح فوجد يهوديا يذبح خنزيرا عليه، وثار باليونانيين فقتل قائدهم وأخرجهم واستبدّ بملك القدس كما ذكرناه في أخباره.
ثم ملك بطليموس كلاباطر أي محب أبيه خمسا وعشرين سنة وقيل عشرين، وكان في أيامه بالقدس يهود ابن متيتيّا وبعده أخوه يوناداب وبعده أخوه شمعون وبعده
__________
[1] الأصح ان يقول اخوه.
[2] وفي نسخة اخرى: فيلوباطر.(2/227)
أخوه هرقانوس واسمه يوحنّان وهو أوّل من تسمّى بالملك من بن حشمناي، وبعث ابنه يوحنّا بالعساكر لقتال قيدونوس قائد أنطيخوس فغلبه، وارتفع عن اليهود الخراج الّذي كانوا يعطونه لملوك سورية من أيام فيلفوس [1] ملك المشرق. وملك بعده بطليموس أرغادي أي الفاضل وقيل بطليموس الصايغ وقيل سانيطر ملك عشرين وقيل ثلاثا وعشرين وقيل ثلاثة عشر، ولعهده جدّد أنطيخوس بناء أنطاكية وسمّاها باسمه، ولعهده كان ملك هرقانوس على القدس وبنيه الثلاثة وخرّب مدينة السامرة سبسطية، ولعهده أيضا زحف أنطيخوس [2] إلى القدس وحاصرها، فصانعه هرقانوس بثلاثمائة كرة من الذهب استخرجها من قبر داود عليه السلام.
ثم ملك على مصر والاسكندرية بطليموس المخلص وقيل مقروطون وقيل شعري ملك ثماني عشرة وقيل عشرين وقيل سبعا وعشرين، ولعهده كان الإسكندروس تلماي بن هرقانوس سابع بني حشمناي بالقدس، وكانت فرقة اليهود عندهم ثلاثة: الربّانيون ثم القرّاءون وهم في الإنجيل زنادقة [3] وهم في الإنجيل الكتبة. ثم [4] على مصر بطليموس محب أمّه وقيل الإسكندروس وقيل قيقتس وقيل الإسكندر وقيل ابن المخلص ملك عشر سنين لا غير، ولعهده كانت الإسكندرة ملكة على بيت المقدس، ولعهده بطلت مملكة سورية لمائتين وسبع عشرة سنة من ملك يونان، وقتل بطليموس هذا قتله أهل إهراقية وأحرقوه. ثم ملك على مصر بطليموس فيناس وقيل إيزيس وقيل المنفي، لأنّ كلابطرة الملكة نفته عن الملك وملك ثمان سنين وقيل ثلاثا وعشرين يوما وقيل ثمانية عشر يوما، وبعضهم أسقطه من البطالسة ولم يذكره. ثم ملك على مصر بطليموس يوناشيش إحدى وعشرين سنة وقيل إحدى وثلاثين وقيل ثلاثين، ولعهده كان أرستبلوس وأخوه هرقانوس على القدس.
ثم ملك على مصر كلابطره بنت ديوناشيش ومعنى هذا الاسم الساكنة على الصخرة ملكت ثلاثين وقيل اثنتين وعشرين وكانت حاذقة، وفي الثالثة من ملكها حفرت خليج الإسكندرية وجرى فيه الماء وبنت باسكندرية هيكل زحل والعاروص وبنت
__________
[1] وفي نسخة اخرى: فيلبوس.
[2] وفي نسخة اخرى: انطيوخوس.
[3] بياض بالأصل ومكان البياض (ثم الحيسيد) كما في مكان آخر من الكتاب.
[4] الواضح انه سقطت كلمة أثناء النسخ فتصبح الجملة. «ثم ملك على مصر» .(2/228)
مقياسا بأخميم وآخر بمدينة أنصنا، وفي الرابعة من ملكها ملك برومة أغانيوس أوّل القياصرة ملك أربعا ثم يوليوس بعده ثلاثا، ثم أغسطس بن مونوجس فاستولى على الممالك والنواحي وبلغ خبره إليها فحصّنت بلادها وبنت حائطا من الفرماء إلى النوبة شرقي النيل وحائطا آخر من إسكندرية إلى النوبة غربيّ النيل وهو حائط العجوز لهذا العهد. وبعض أوغسطس العساكر إلى مصر مع قائده أنطريوس ومعه مترداب [1] ملك الأرمن، فخادعت كلابطره أنطريوس وأوعدته بتزويجها فقتل رفيقه مترداب وتزوّجها وعصى أوغسطس، فسار أوغسطس إليها وملك مصر وقتل كلا بطرة وولديها وقائده بطريوس [2] الّذي تزوجها. يقال: إنّها وضعت له سمّا في مجلسها وأن أوغسطس تناوله ومات، والله أعلم. وانقرضت مملكة يونان من مصر والاسكندرية والمغرب بملكها وصارت هذه الممالك للروم إلى حين الفتح الإسلامي، انتهى كلام ابن العميد.
والخلاف الّذي ينقله عن جماعة مؤرخيهم يذكر منهم سعيد بن بطريق ويوحنّا فم الذهب والمنجّبي وابن الراهب وابو فانيوس. والظاهر أنهم من مؤرخي النصارى والبقاء للَّه الواحد القهّار سبحانه لا إله غيره ولا معبود سواه.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: متردات
[2] هذا الاسم ورد: أنطريوس وبطريوس في الصفحة ذاتها.(2/229)
الخبر عن اللطينيين وهم الكيتم المعرفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره
هذه الأمّة من أشهر أمم العالم وهي ثانية الغريقيين عند هروشيوش ويجتمعان في نسب يونان، وثالثتهم عند البيهقي ويجتمعون في نسب يونان بن علجان بن يافث، واسم الروم يشملهم ثلاثتهم لما كان الروم أهل المملكة العظمى منهم، ومواطن هؤلاء اللطينيين بالناحية الغربية من خليج القسطنطينية إلى بلاد الافرنجة فيما بين البحر المحيط والبحر الرومي من شماليه. وملك هذه الأمّة قديما [1] كانت لهم مدينة اسمها طروبة، وذكر هروشيوش أنّ أوّل من ملك من اللطينيين ألفنس بن شطرنش بن أيّوب وذلك لعهد دائرة بني إسرائيل وقد مرّ ذكرها في آخر الألف الرابع من مبدإ الخليقة. وملك من بعده ابنه بريامش واتصل الملك في عقب الفنس هذا وإخوته وكان منهم كرمنس بن مرسية بن شيبن بن مزكة الّذي ألف حروف اللسان اللطيني وأثبتها ولم تكن قبله، وذلك على عهد يؤاثير بن كلعاد من حكّام بني إسرائيل بعد أربعة آلاف وخمسين من مبدإ الخليقة.
وكان بين هؤلاء اللطينيين وبين الغريقيين إخوانهم فتن طويلة، وعلى يدهم خربت طروبة مدينة اللطينيين لعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين من مبدإ الخليقة أيام عبدون ملك بني إسرائيل وقد مرّ ذكره، وكان ملكهم يومئذ أناش من عقب بريامش بن ألفنس بن شطرنش، وولي بعده ابنه أشكانيش بن أناش وهو الّذي بنى مدينة ألبا.
ثم اتصل الملك فيهم إلى أن افترق أمرهم، ثم كان من أعقابهم برقاش أيام انقراض ملك الكلدانيّين، وصار للمازنيّين والقضاعيّين على عهد عزيّاه بن أمصيا من ملوك بني إسرائيل ولعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين سنة من مبدإ الخليقة، فصار الأمر في اللطينيين لبرقاش هذا بتولية ملك المازنيّين ما كان لهم وللسريانيّين قبلهم من الصيت في العالم والتفوّق على الملوك بنسبهم وعصبيتهم. ثم اتصل الملك لابنه ولحافديه روملّوس وأماش [2] وهما اللذان اختطا مدينة رومة وذلك لعهد أربعة آلاف وخمسمائة
__________
[1] الأصح ان يقول قديم.
[2] وفي نسخة اخرى: داموس.(2/232)
سنة من مبدإ الخليقة وعلى عهد حزقيّا بن آحاز ملك بني إسرائيل، ولأربعمائة ونيف من خراب مدينة طروبة. وكان طول مدينة رومة من الشمال إلى الجنوب عشرين ميلا في عرض اثني عشر ميلا، وارتفاع سورها ثمانية وأربعون ذراعا في عرض عشرة أذرع، وكانت من أحفل مدن العالم، ولم تزل دار مملكة اللطينيين والقياصرة منهم حتى صبحهم الإسلام وهي في ملكهم.
وكان اللطينيون بعد روملّس وأماش وانقراض عقبهم قد سئموا ولاية الملوك عليهم فعزلوهم وصار أمرهم شورى بين الوزراء وكانوا يسمونهم القنشلش ومعناه الوزراء بلغتهم، وكان عددهم سبعين على ما ذكر هروشيوش. ولم يزل أمرهم على ذلك مدّة سبعمائة سنة إلى أن استبدّ عليهم قيصر بولش [1] بن غايش أوّل ملوك القياصرة كما نذكر بعد.
وكانت لهم حروب مع الأمم المجاورة لهم من كل جهة فحاربوا اليونانيّين ثم حاربوا الفرس من بعدهم، واستولوا على الشام ومصر ثم ملكوا جزيرة الأندلس ثم جزيرة صقلّيّة ثم أجازوا إلى إفريقية فملكوها وخرّبوا قرطاجنّة، وأجاز أهل إفريقية إليهم وحاصروا رومة واتصلت الفتن بينهم عشرين سنة أو نحوها على ما نذكر.
وذهب جماعة من الأخباريّين إلى أن الروم من ولد عيصو بن إسحاق عليه السلام، قال ابن كريّون: كان لليفاز بن عيصو ولد اسمه صفوا ولما خرج يوسف من مصر ليدفن أباه يعقوب في مدينة الخليل عليه السلام اعترضه بنو عيصو وقاتلوه، فهزمهم وأسر منهم صفوا بن أليفاز وبعثه إلى إفريقية، فصار عند ملكها، واشتهر بالشجاعة.
وحدثت الفتنة بين أغنياس وبين الكيتم وراء البحر فأجاز إليهم أغنياس في أهل إفريقية وأثخن فيهم، وظهرت شجاعة صفوا بن أليفاز، ثم هرب صفوا إلى الكيتم وعظم بينهم وحسن أثره في أهل إفريقية وفي الأمم المجاورة لكيتم من أموال وغيرها فزوّجوه وملّكوه عليهم، قال: وهو أوّل من ملك في بلاد أسبانيا، وأقام ملكا خمسا وخمسين سنة. ثم عدّ ابن كريّون بعد ستة عشر ملكا من أعقابه آخرهم روملّس باني رومة، وكان لعهد داود عليه السلام، وخاف منه فوضع مدينة رومة وبنى على جميعها هياكله ونسبت المدينة إليه وسمّيت باسمه وسمّى أهلها الروم نسبة إليها.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قيصر يوليوس.(2/233)
ثم عدّ بعد روملّس خمسة من الملوك اغتصب خامسهم رجلا في زوجه فقتلت نفسها، وقتله زوجها في الهيكل. وأجمع أهل رومة أن لا يولّوا عليهم ملكا وقدّموا شيوخا ثلاثمائة وعشرين يدبّرون ملكهم، فاستقام أمرهم كما يجب، إلى أن تغلّب قيصر وسمّى نفسه ملكا، فصاروا من بعده يسمّون ملوكا انتهى كلام ابن كريون.
وهو مناقض لما قاله هروشيوش، فإنه زعم أنّ بناء رومة كان لعهد داود عليه السلام، وهروشيوش قال: إنه كان لعهد حزقيّا رابع عشر ملوك بني يهوذا من لدن داود عليه السلم، وبين المدّتين تفاوت، وخبر هروشيوش مقدّم لأن واضعيه مسلمان كانا يترجمان لخلفاء الإسلام بقرطبة وهما معروفان ووضعا الكتاب. فاللَّه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل إفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون
كان بناء قرطاجنة هذه قبل بناء رومة باثنتين وسبعين سنة، قال هرشيوش: على يدي ديدن بن أليثا من نسل عيصو بن إسحاق. وكان بها أمير يسمّى ملكون وهو الّذي بعث إلى الإسكندر بطاعته عند استيلائه على طرسوس، ثم صار ملك إفريقية إلى أملقا من ملوكهم فافتتح صقلّيّة وهاجت الحرب بينه وبين الرومانيين وأهل الاسكندرية بسبب أهل سردانيّة [1] وذلك لخمسين سنة من بناء رومة، ثم وقعت السلم بينهم وهي السلم التي وفد فيها عتّون من ملوك إفريقية على أنطريطش ملك مقدونية وإسكندرية وهو ملك الروم الأعظم. ثم ولى بقرطاجنّة أملقا ابنه أنبيل فأجاز إلى بلاد الإفرنج وغلبهم على بلادهم، وزحف إليه قواد رومة فوالى عليهم الهزائم وبعث أخاه أشدربال [2] إلى الأندلس فملكها، وخالفه قوّاد الرومانيين إلى إفريقية بعد أن ملكوا من حصون صقلّيّة أربعين أو نحوها، ثم أجازوا إلى إفريقية فملكوها وقتلوا غشّول خليفة أنبيل فيها وافتتحوا مدينة جردا. وخرج آخرون من قوّاد رومة إلى الأندلس فهزموا أشدربال واتّبعوه إلى أن قتلوه. وفّر أخوه أنبيل عن بلادهم بعد ثلاث عشرة
__________
[1] وهي جزيرة سردينية.
[2] وفي نسخة اخرى: اشدريال.(2/234)
سنة من إجازته إليهم، وبعد أن حاصر رومة وأثخن في نواحيها فلحق بإفريقية ولقيه قوّاد أهل رومة الذين أجازوا إلى إفريقية فهزموه وحاصروه بقرطاجنّة، حتى سأل الصلح على أن يغرم لهم ثلاثة آلاف قنطار من الفضّة فأجابوه إليه.
وسكنت الحرب بينهم ثم ظاهر بعد ذلك أنبيل صاحب إفريقية ملوك السريانيّين على حرب أهل رومة فهلك في حربهم مسموما. وبعد أن تخلص أهل رومة من تلك الحروب رجعوا إلى الأندلس فملكوها، ثم أجازوا البحر إلى قرطاجنّة ففتحوها وقتلوا ملكها يومئذ أنبيل وخرّبوها لتسعمائة سنة من بنائها وسبعمائة لبناء رومة.
ثم دارت الحرب بين أهل رومة وملك النوبة، واستظهر ملك النوبة بالبربر بعد أن هزمه أهل رومة واتبعوه الى قفصة فملكوها واستولوا على ذخيرتها، وهي من بناء أركلش الجبّار ملك الروم، وهزمهم أهل رومة فخافهم ملك البربر من ملوك النوبة إلى أن هلك في أسرهم. وكانت هذه الحروب لعهد بطليموس الإسكندر، بعد أن كان قوّاد رومة اجتمعوا على بناء قرطاجنّة وتجديدها لاثنتين وعشرين سنة من خرابها فعمرت واتصل بها لأهل رومة ملك على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبدإ أمورهم ومصاير أحوالهم
لم يزل أمر هؤلاء الكيتم وهم اللطينيون راجعا إلى الوزراء منذ سبعمائة سنة، كما قلناه من عهد بناء رومة أو قبلها بقليل كما قال هروشيوش، تقترع الوزراء في كل سنة فيخرج قائد منهم إلى كل ناحية كما توجبه القرعة فيحاربون أمم الطوائف ويفتحون الممالك. وكانوا أوّلا يعطون إخوانهم من الروم اليونانيين طاعة معروفة بعد الفتن والمحاربة، حتى إذا هلك الإسكندر وافترق أمر اليونانيين والروم وفشلت ريحهم وقعت فتنة هؤلاء اللطينيين وهم الكيتم مع أهل افريقية، واستولوا عليها مرارا وخرّبوا قرطاجنّة ثم بنوها كما ذكرناه. وملكوا الأندلس وملكوا الشام وأرض الحجاز وقهروا العرب بالحجاز وافتتحوا بيت المقدس وأسروا ملكها يومئذ من اليهود وهو أرستبلوس ابن الإسكندر ثامن ملوك بني حشمناي وغرّبوه الى رومة وولّوا قائدهم على الشام، ثم(2/235)
حاربوا ألغماس فكانت حربهم سجالا، إلى أن خرج بولس [1] بن غايش ومعه ابن عمه لو جيار بن مدكة إلى جهة الأندلس، وحارب من كان بها من الإفرنج والجلالقة إلى أن ملك برطانية [2] واشبونة [3] ورجع إلى رومة، واستخلف على الأندلس أكتبيان ابن أخيه يونان. فلما وصل إلى رومة وشعر الوزراء أنه يروم الاستبداد عليهم فقتلوه.
فزحف اكتبيان ابن أخيه من الأندلس فأخذ بثأره وملك رومة واستولى على أرض قسطنطينية وفارس وإفريقية والأندلس، وعمه يولش [4] هو الّذي تسمّى قيصر فصار سمة لملوكهم من بعده. وأصل هذا الاسم جاشر فعرّبته العرب إلى قيصر، ولفظ جاشر مشترك عندهم فيقال جاشر للشعر وزعموا أنّ يولش ولد شعره نام يبلغ عينيه، ويقال أيضا للمشقوق جاشر، وزعموا أنّ قيصر ماتت أمّه وهي مقرب [5] فبقر بطنها واستخرج يولس، والأوّل أصحّ وأقرب إلى الصواب.
وكانت مدّة يولس قيصر خمس سنين، ولما ولّى قيصر أكتبيان [6] ابن أخته انفرد بملك الناحية الشمالية من الأرض، ووفد عليه رسل الملوك بالمشرق يرغبون في ولايته ويضرعون إليه في السلم فاسعفهم، ودانت له أقطار الأرض، وضرب الإتاوة على أهل الآفاق من الصغر. وكان العامل على اليهود بالشام من قبله هيردوس بن أنظفتر، وعلى مصر ابنه غايش. وولد المسيح لاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه. وهلك قيصر أكتبيان لست وخمسين من ملكه بعد سبعمائة وخمسين سنة لبناء رومة وخمسة آلاف ومائتين لمبدإ الخليقة انتهى كلام هروشيوش.
وأما ابن العميد مؤرخ النصارى فذكر عن مبدإ هؤلاء القياصرة أنّ أمر رومة كان راجعا إلى الشيوخ الذين يدبّرون أمرهم، وكانوا ثلاثمائة وعشرين رجلا لأنهم كانوا حلفوا أن لا يولّوا عليهم ملكا، فكان تدبيرهم يرجع إلى هؤلاء وكانوا يقدّمون واحدا منهم ويسمّونه الشيخ، وانتهى تدبيرهم في ذلك الزمان إلى أغانيوس فدبّرهم أربع
__________
[1] وفي نسخة اخرى: يوليوس بن غايش.
[2] هي بريتانيا مقاطعة فرنسية تقع في الشمال الغربي.
[3] وهي لشبونة في الأندلس.
[4] وهو يوليوس قيصر.
[5] الحامل التي قرب ولادها (قاموس) .
[6] هو أوكتاف.(2/236)
سنين، وهو الّذي سمّي قيصر لأن أمّه ماتت وهو جنين في بطنها فبقروا بطنها وأخرجوه، ولما كبر انتهت إليه رياسة هؤلاء الشيوخ برومة أربع سنين، ثم وليّ من بعده يوليوس قيصر ثلاث سنين، ثم وليّ من بعده أوغسطس قيصر بن مرنوخس، قال: ويقال إن أوغسطس قيصر كان أحد قواد الشيخ مدبر رومة، وتوجه بالعساكر لفتح المغرب والأندلس ففتحهما وعاد إلى رومة فملك عليهم، وطرد الشيخ من رياسته بها وتدبيره ووافقته الناس على ذلك. وكان للشيخ نائب بناحية المشرق يقال له فمقيوس، فلما بلغه ذلك زحف بعساكره إلى رومة فخرج إليه أوغسطس فهزمه وقتله واستولى على ناحية المشرق. وسير عساكره إلى فتح مصر مع قائدين من قوّاده هما أنطونيوس ومترداب ملك الأرمن بدمشق، فتوجها إلى مصر وبها يومئذ كلابطره الملكة من بقية البطالسة ملوك يونان بالإسكندرية ومصر، فحصّنت بلادها وبنت بدعوتي النيل حائطين مبدؤهما من النوبة إلى الإسكندرية غربا وإلى الفرما شرقا وهو حائط العجوز لهذا العهد. ثم داخلت القائد أنطونيوس وخادعته بالتزويج فتزوّجها وقتل رفيقه مترداب وعصي على أوغسطس، فزحف إليه وقتله وملك مصر وقتل كلابطره وولديها وكان يسميان الشمس والقمر، وملك مصر والإسكندرية وذلك لاثنتي عشرة سنة من ملكه.
قال ولاثنتين وأربعين سنة من ملك أوغسطس ولد المسيح بعد مولد يحيى بثلاثة أشهر. وذلك لتمام خمسة آلاف وخمسمائة سنة من سنيّ العالم ولاثنتين وثلاثين من ملك هيردوس بالقدس، وقيل لخمس وثلاثين من مملكته، والكلّ متفقون على أنها لاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس. قال: وسياقة التاريخ تقتضي أنها خمسة آلاف وخمسمائة شمسية من مبدإ العالم لأن من آدم إلى نوح ألفا وستمائة، ومن نوح إلى الطوفان ستمائة، ومن الطوفان إلى إبراهيم ألفا واثنتين وسبعين سنة، ومن إبراهيم إلى موسى أربعمائة وخمسا وعشرين، ومن موسى إلى داود عليهما السلام سبعمائة وستين، ومن داود إلى الإسكندر سبعمائة وستين سنة، ومن الإسكندر إلى مولد المسيح ثلاثمائة وتسع عشرة سنة. هكذا ذكر ابن العميد وأنها تواريخ النصارى وفيها نظر، ويظهر من كلامه أن قيصر الّذي سمّاه أوغسطس، وذكر أنّ المسيح ولد لاثنتين وأربعين من ملكه هو الّذي سمّاه هيردوس قيصر أكتبيان وجعل مهلكه لخمسة آلاف ومائتين من مبدإ الخليقة. وعند ابن العميد أن ملكه لخمسة آلاف وخمسمائة وخمس عشرة(2/237)
والله أعلم بالحق من ذلك.
ثم ولي من بعد طباريش [1] قيصر وكان وادعا واستولى على النواحي، وعلى عهده كان شأن المسيح وبغى اليهود عليه ورفعه الله من الأرض، وأقام الحواريّون من بعده واليهود يضطهدونهم ويحبسونهم على إظهار أمرهم، وكان بلاطس النبطي الّذي كان قائدا على اليهود يسعى إلى طباريش بأخبار المسيح وبغى اليهود عليه وعلى يوحنا المعمدان، وتبعتهم الحواريّون من بعده بالأذيّة، وأراه [2] انهم على حق فأمر بتخلية سبيلهم، وهمّ بالأخذ بدينهم فمنعه من ذلك قومه. ثم قبض على هيردوس وأحضره إلى رومة ثم نفاه الى الأندلس فمات بها، ثم ولي مكانته أغرباس ابن أخيه، وافترق الحواريون في الآفاق لإقامة الدين وحمل الأمم على عبادة الله. ثم قتل طباريش قيصر أغرباس ملك اليهود الى أشرّ من حالهم وقتلوا أتباع الحواريين من الروم.
ومات طباريش لثلاث وعشرين من ملكه بعد أن جدّد مدينة طبرية، فيما قال ابن العميد، واشتقّ اسمها من اسمه وملك من بعده غاينس قيصر. وقال هيروشيوش: هو أخو طباريش وسمّاه غاينس فليفة من أكتبيان، وقال: هو رابع القياصرة وأشدّهم وأراد اليهود على نصب وثنه ببيت المقدس فمنعوه. وقال ابن العميد: ووقعت في أيامه شدّة على النصارى وقتل يعقوب أخاه يوحنّا من الحواريين وحبس بطرس رئيسهم ثم هرب إلى انطاكية فأقام بها، وقدم هراديوس بطركا عليها وهو أوّل البطاركة فيها. ثم توجه إلى رومة لسنتين من ملك غانيس فدبّرها خمسا وعشرين سنة ونصب فيها الأساقفة، وتنصّرت امرأة من بيت الملك فعضدت النصارى، ولقي النصارى الذين بالقدس شدائد من اليهود وكان الأسقف عليهم يومئذ يعقوب بن يوسف الخطيب.
وقال ابن العميد عن المسبحي: إن فيلقس [3] ملك مصر غزا اليهود لأوّل سنة من ملك غانيس واستعبدهم سبع سنين، قال وفي الرابعة من ملكه أمر عامله على اليهود بسورية وهي أورشاليم. وهي بيت المقدس- أن ينصب الأصنام في محاريب اليهود، ووثب عليه بعض قوّاده فقتله.
وملك من بعده قلوديش قيصر، قال هروشيوش: هو ابن طباريش وعلى عهده
__________
[1] هو طيباريوس.
[2] الضمير يعود إلى الله.
[3] وفي نسخة ثانية: فيليبس.(2/238)
كتب متّى الحواريّ إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية، قال ابن العميد، ونقله يوحنّا ابن زبدي إلى الروميّة، قال: وفي أيامه كتب بطرس رأس الحواريّين إنجيله بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب لوقا من الحواريين إنجيله بالرومية وبعث به إلى بعض الأكابر من الروم وكان لوقا طبيبا. ثم عظم الفساد بين اليهود ولحق ملكهم أغرباس برومة فبعث معه أقلوديش عساكر الروم فقتلوا من اليهود خلقا، وحملوا إلى أنطاكية ورومة منهم سبيا عظيما وخربت القدس وانجلى أهلها فلم يولّ عليهم القياصرة أحدا لخرابها، وافترقت اليهود على فرق كثيرة أعظمها سبعة. قال ولسبع من ملك أقلوديش دخلت بطريقة من الروم في دين النصارى على يد شمعون الصفا، وسمعت منه بالصليب، فجاءت إلى القدس لإظهاره، ورجعت إلى رومة.
وهلك أقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه وملك من بعده ابنه نيرون. قال هروشيوش: هو سادس القياصرة، وكان غشوما فاسقا، وبلغه أن كثيرا من أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا، وقتل بطرس رأس الحواريين، وأقام أريوس بطركا برومة مكان بطرس من بعد خمس وعشرين سنة مضت لبطرس في كرسيها وهو رأس الحواريين ورسول المسيح إلى رومة، وقتل مرقص الإنجيليّ بالإسكندرية لاثنتي عشرة من ملكه وكان هنالك منذ سبع سنين بها مساعدا إلى النصرانية بالإسكندرية ومصر وبرقة والمغرب، وولي مكانه حنانيّا [1] ويسمى بالقبطيّة جنبار وهو أول البطارقة بها واتخذ معه الأقسّة الاثني عشر.
قال ابن العميد عن المسبحي: وفي الثانية من ملك نيرون عزل بلخس القاضي، كان على اليهود من جهة الروم، وولّى مكانه قسطس القاضي، وقتل بوثار رئيس الكهنونيّة بالمقدس، ومات القاضي قسطس فثار اليهود على من كان بالمقدس من النصارى وقتلوا أسقفهم هنالك وهو يعقوب بن يوسف النجّار، وهدموا البيعة وأخذوا الصليب والخشبتين ودفنوها إلى أن استخرجتها هلانة أم قسطنطين كما نذكر بعد.
وولي مكان يعقوب النجّار ابن عمه شمعون بن كنابا، ثم ثار بهم اليهود وأخرجوهم من المقدس لعشر من ملك نيرون فأجازوا الأردن وأقاموا هنالك. وبعث نيرون قائده أسباشيانس، وأمر بقتل اليهود وخراب القدس وتحصّن اليهود منه وبنوا عليهم ثلاثة حصون، وحاصرهم أسباشيانس وخرّب جميع حصونهم وأحرقها وأقام عليهم سنة
__________
[1] وفي الإنجيل: حننيا.(2/239)
كاملة. وقال هروشيوش: إنّ نيرون قيصر انتقض عليه أهل مملكته فخرج عن طاعته أهل برطانية من أرض الجوف، ورجع أهل أرمينية والشام الى طاعة الفرس. فبعث صهره على أخته وهو يشبشيان بن لوجيه فسار إليهم في العساكر وغلبهم على أمرهم.
ثم زحف الى اليهود بالشام وكانوا قد انتقضوا فحاصرهم بالقدس، وبينما هو في حصاره إذ بلغه موت نيرون لأربع عشرة سنة من ملكه، ثار به جماعة من قوّاده فقتلوه، وكان قد بعث قائدا الى جهة الجوف والأندلس، فافتتح برطانية ورجع إلى رومة بعد مهلك نيرون قيصر فملكه الروم عليهم، وأنه قتل أخاه يشبشيان فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة. وبشّره رئيس اليهود وكان أسيرا عنده بالملك، ويظهر أنه يوسف بن كريّون الّذي مرّ ذكره، فانطلق إلى رومة وخلّف ابنه طيطش على حصار القدس فافتتحها وخرّب مسجدها وعمرانها كما مرّ ذكره. قال: وقتل منهم نحوا من ستمائة ألف ألف [1] مرتين وهلك في حصارها جوعا نحو هذا العدد، وبيع من سراريهم في الآفاق نحو من تسعين ألفا، وحمل منهم إلى رومة نحوا من مائة ألف استبقاهم لفتيان الروم يتعلمون المقاتلة فيهم ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح. وهي الجلوة الكبرى كانت لليهود بعد ألف ومائة وستين سنة من بناء بيت المقدس ولخمسة آلاف ومائتين وثلاثين من مبدإ الخليقة ولثمانمائة وعشرين من بناء رومة. فكان معه إلى أن افتتحها وكان المستبد بها بعد مهلك نيرون قيصر، وانقطع ملك آل يولس قيصر لمائة وست عشرة سنة من مبدإ دولتهم، واستقام ملك يشبشيان في جميع ممالك الروم وتسمّى قيصر كما كان من قبل أهـ. كلام هروشيوش.
وقال ابن العميد: إن أسباشيانس لما بلغه وهو محاصر للقدس أنّ نيرون هلك، ذهب بالعساكر الذين معه، وبشّره يوسف بن كريّون كهنون طبرية من اليهود بأنّ مصير ملك القياصرة إليه، ثم بلغه أنّ الروم بعد مهلك نيرون ملّكوا غليان بن قيصر فأقام عليهم تسعة أشهر، وكان رديء السيرة، وقتله بعض خدمه غيلة، وقدّموا عوضه أنّون ثلاثة أشهر ثم خلعوه، وملّكوا أبطالس ثمانية أشهر، فبعث أسباشيانس وهو
__________
[1] انتقد ابن خلدون في مقدمته لهذا التاريخ اخبار المؤرخين الهواهية البعيدة عن المعقول، وهذا العدد الّذي ذكره ابن خلدون بعيد جدا عن المعقول، لأن الستمائة ألف ألف مكررة يعني انها تساوي 1200 مليون وهذا رقم خيالي وربما تكون كلمة الألف الثانية مكررة من الناسخ فيكون العدد ستمائة ألف مكررة اي حوالي مليون ومائتي ألف. وهو رقم معقول.(2/240)
الّذي سمّاه هروشيوش يشبشيان قائدين إلى رومة فحاربوا أبطانش وقتلوه. وسار أسباشيانس إلى رومة وبعت إليه طيطش المحاصر للقدس بالأموال والغنائم والسبي، قال وكانت عدّة القتلى ألف ألف والسبي تسعمائة ألف، واحتمل الخوارج الذين كانوا في نواحي القدس مع الأسرى، وكان يلقي منهم كل يوم للسباع فرائس إلى أن فنوا. قال: ولما ملك طيطش بيت المقدس رجع النصارى الذين كانوا عبروا إلى الأردن فبنوا كنيسة بالمقدس وسكنوا، وكان الأسقف فيهم سمعان بن كلوبا ابن عمّ يوسف النجّار وهو الثاني من أساقفة المقدس.
ثم هلك أسباشيانس وهو يشبشيان لتسع سنين من ملكه وملك بعده ابنه طيطش قيصر سنتين وقيل ثلاثا. قال ابن العميد: لأربعمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش: كان متفنّنا في العلوم ملتزما للخير عارفا باللسان الغريقيّ واللطيني، وولي بعده أخوه دومريان خمس عشرة سنة، قال هروشيوش: وهو ابن أخت نيرون قيصر، قال: وكان غشوما كافرا وأمر بقتل النصارى فعل خاله نيرون، وحبس يوحنا الحواري، وأمر بقتل اليهود من نسل داود حذرا أن يملكوا، وهلك في حروب الإفرنج وسمّاه ابن العميد دانسطيانوس، وقال: ملك ست عشرة سنة وقيل تسعا، وكان شديدا على اليهود وقتل أبناء ملوكهم، وقيل له إنّ النصارى يزعمون أنّ المسيح يأتي ويملك فأمر بقتلهم، وبعث [1] عن أولاد يهوذا بن يوسف من الحواريّين وحملهم إلى رومة مقيّدين، وسألهم عن شأن المسيح، فقالوا إنّما يأتي عند انقضاء العالم فخلّى سبيلهم. وفي الثالثة من دولته طرد بطرك إسكندرية لسبع وثمانين سنة للمسيح، وقدم مكانه ملموا فأقام ثلاث عشرة سنة ومات فولى مكانه كرماهو.
قال ابن العميد عن المسبحي: ولعهده كان أمر ليونيوس صاحب الطّلسمات برومة، فنفى ذوسطيالوس جميع الفلاسفة والمنجّمين من رومة وأمر أن لا يغرس بها كرم، ثم هلك ذو سطيالوس، وهو الّذي سمّاه هروشيوش دومريان، وقال: هلك في حروب الإفرنج، وملك بعده برما ابن أخيه طيطش نحوا من سنتين وسمّاه ابن العميد تاوداس، وقال: إنّ المسبحيّ سمّاه قارون، قال: ويسمّى أيضا برسطوس، وقال ملك على الروم سنة أو سنة ونصفا وأحسن السيرة وأمر بردّ من كان منفيّا من النصارى وخلاهم ودينهم ورجع يوحنّا الإنجيلي إلى أفسس بعد ست سنين. وقال هروشيوش:
__________
[1] مقتضى السياق: وبحث.(2/241)
أطلقه من السجن. قال: ولم يكن له ولد فعهد بالملك إلى طريانس من عظماء قوّاده وكان من أهل مالقة فولي بعده وتسمّى قيصر. قال ابن العميد: واسمه أنديانوس، وسمّاه المسبحي طرينوس وملك على الروم باتفاق المؤرخين سبع عشرة سنة، وقتل سمعان بن كلاويّا أسقف بيت المقدس وأغناطيوس بطرك أنطاكية. ولقي النصارى في أيامه شدّة وتتبع أئمتهم بالقتل واستعبد عامّتهم، وهو ثالث القياصرة بعد نيرون في هذه الدولة. ولعهده كتب يوحنّا إنجيله برومة في بعض الجزائر السادسة من ملكه وكان قد رجع اليهود الى بيت المقدس فكثروا بها وعزموا على الانتقاض، فبعث عساكره وقتل منهم خلقا كثيرا. وقال هروشيوش: إنّ الحرب طالت بينه وبين اليهود، فخرّبوا كثيرا من المدن إلى عسقلان ثم إلى مصر والإسكندرية فانهزموا هنالك وقتلوا وزحفوا بعدها إلى الكوفة، فأثخن فيهم بالقتل وخضد من شوكتهم.
قال ابن العميد: وفي تاسعة من ملكه مات كوثبانو بطرك الإسكندرية لإحدى عشرة سنة من ولايته، وولي مكانه أمرغو اثنتي عشرة سنة أخرى [1] . وقال بطليموس صاحب كتاب المجسطي: إنّ شيلوش الحكيم رصد برومة في السنة الأولى من ملك طرنيوس وهو أندريانوس [2] لأربعمائة وإحدى وعشرين للإسكندر ولثمانمائة وخمس وأربعين لبخت نصّر. وقال ابن العميد: خرج عليه خارجيّ ببابل فهلك في حروبه لتسع عشرة سنة من ولايته كما قلناه، فولي من بعد أندريانوس إحدى وعشرين سنة، وقال ابن العميد عن ابن بطريق عشرين سنة. وقال هروشيوش: إنّه أثخن في اليهود، ثم بنى مدينة المقدس وسمّاها إيلياء. وقال ابن العميد: كان شديدا على النصارى وقتل منهم خلقا، وأخذ الناس بعبادة الأوثان، وفي ثامنة ملكه خرّب بيت المقدس وقتل عامّة أهلها وبنى على باب المدينة عمودا وعليه لوح نقش فيه مدينة إيلياء. ثم زحف إلى الخارجيّ الّذي خرج على طرنيوس قبله فهزمه إلى مصر وألزم أهل مصر حفر خليج من مجرى النيل إلى مجرى القلزم وأجرى فيه الحلو [3] ، ثم ارتد بعد ذلك، وجاء الفتح والدولة الإسلامية فألزمهم عمرو بن العاص حفره حتى جرى فيه الماء ثم انسد لهذا العهد.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: عشر سنوات اخرى.
[2] هو أدريانوس.
[3] ربما يكون قد سقط من الناسخ كلمة الماء فتصبح الجملة: «واجرى فيه الماء الحلو» .(2/242)
وكان أندريانوس هذا قد بنى مدينة القدس ورجع إليها اليهود وبلغه أنهم يرومون الانتقاض، وأنهم ملكوا عليهم زكريّا من أبناء الملوك، فبعث إليهم العساكر وتتبعهم بالقتل وخرّب المدينة حتى عادت صحراء، وأمر أن لا يسكنها يهودي، وأسكن اليونان بيت المقدس، وكان هذا الخراب لثلاث وخمسين سنة من خراب طيطش الّذي هو الجلوة الكبرى. وامتلأ القدس من اليونان وكانت النصارى يتردّدون إلى موضع القبر والصليب يصلّون فيه، وكانت اليهود يرمون عليه الزبل والكناسات، فمنعهم اليونان من الصلاة فيه وبنوا هنالك هيكلا على اسم الزهرة.
وقال ابن العميد عن المسبحي: وفي الرابعة من ملك أندريانوس بطل الملك من الرّها وتداولتها القضاة من قبل الروم، وبنى أندريانوس بمدينة أثينوس [1] بيتا ورتب فيه جماعة من الحكماء لمدارسة العلوم، قال: وفي خامسة ملكه قدم نسطس بطركا على إسكندرية وكان حكيما فاضلا فلبث إحدى عشرة سنة ثم مات، وقدم مكانه أمانيق في سادسة عشر من ملك أندريانوس فلبث إحدى عشرة سنة وهو سابع البطارقة. ثم مات أندريانوس لإحدى وعشرين من ملكه كما مرّ، وولي ابنه أنطونيش. قال هروشيوش: ويسمّى قيصر الرحيم. وقال ابن العميد: ملك اثنتين وعشرين. وقال الصعيديّون إحدى وعشرين. قال: وفي خامسة ملكه قدم مرتيانو بطركا بإسكندرية وهو الثامن منهم، فلبث تسع سنين ومات، وكان فاضل السيرة.
وقدم بعده كلوتيانو فلبث أربع عشرة سنة، ومات في سابعة ملكه أوراليانوس بعده وكان محبوبا. وقال بطليموس صاحب المجسطي: إنه رصد الاعتدال الخريفيّ في ثالثة ملك أنطونيوس، فكان لأربعمائة وثلاث وستين بعد الإسكندر.
ثم هلك أنطونيوس لاثنتين وعشرين كما مرّ، فملك من بعده أوراليانس. قال هروشيوش: وهو أخو أنطونيوس وسمّاه أورالش وأنطونيوس الأصغر، وقال: كانت له حروب مع أهل فارس وبعد أن غلبوا على أرمينية وسورية من ممالكه فدفعهم عنهما وغلبهم في حروب طويلة، وأصاب الأرض على عهده وباء عظيم، وقحط الناس سنتين، واستسقى لهم النصارى فأمطروا وارتفع الوباء والقحط بعد أن كان اشتدّ على النصارى وقتل منهم خلقا، وهي الشدّة الرابعة من بعدت نيرون.
قال ابن العميد: وفي السابعة من ملكه قدم على الإسكندرية البطرك أغريبوس،
__________
[1] هي مدينة أثنيا.(2/243)
فلبث اثني عشر سنة ومات في تاسعة عشر من ملك أنطونيوس الأصغر، قال وفي أيامه ظهرت مبتدعة من النصارى واختلفت أقوالهم وكان منهم ابن ديصان وغيره، فجاهدهم أهل الحق من الأساقفة وأبطلوا بدعتهم.
وهلك أنطونيوس هذا لتسع عشرة من ملكه. وفي عاشرة ملكه ظهر أردشير بن بابك أوّل ملوك الساسانيّة واستولى على ملك الفرس، وكان صاحب الحضر متملّكا على السواد فغلبه وملك السواد وقتله وقصّته معروفة. وكان لعهده جالينوس المشهور بالطبّ وكان ربي معه، فلما بلغه أنه ملك على الروم قدم عليه من بلاد اليونان وأقام عنده، وكان لعهده أيضا ديمقراطس الحكيم، ولأوّل سنة من ملكه قدم بليانس بطركا على إسكندرية وهو الحادي عشر من بطاركتها فلبث فيهم عشر سنين ومات.
وولي مكانه ديمتريوس فلبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة ومات كمودة قيصر لثلاثة عشر كما قلناه. فولي من بعده ورمتيلوس ثلاثة أشهر. قال ابن العميد: وسمّاه ابن بطريق فرطنوش. وقال: وملك ثلاثة أشهر وسمّاه غيره فرطيخوس. وسمّاه الصعيديّون برطانوس ومدّة ملكه باتفاقهم شهران. وقال هروشيوش: اسمه اللبيس بن طيجليس وهو عمّ كمودة قيصر، قال وولي سنة واحدة وقتله بعض قوّاده وأقام في الملك ستة أشهر وقتل.
قال ابن العميد: وملك بعده يوليانس قيصر شهرين ومات، ثم ولي سوريانوس قيصر وسمّاه بعضهم سورس [1] وسمّاه هروشيوش طباريش بن أرنت بن أنطونيش، واختلفوا في مدّته، فقال ابن العميد عن ابن بطريق: سبع عشرة سنة، وقال المسبحي: ثمان عشرة، وعن أبي فانيوس ستة عشرة، وعن ابن الراهب ثلاث عشرة، وعن الصعيديين سنتين. قال وملك في رابعة من ملك أردشير واشتدّ على النصارى وفتك فيهم وسار إلى مصر والإسكندرية فقتلهم وهدم كنائسهم وشرّدهم كل مشرّد، وبنى بالإسكندرية هيكلا سمّاه هيكل الآله. قال هروشيوش: وهي الشدّة الخامسة من بعد شدّة نيرون. قال: ثم انتقض عليه اللطينيون ولم يزل محصورا إلى أن هلك. وملك من بعده أقطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق: ست سنين، وعن المسبحيّ: سبع سنين. وسماه أنطونيش قسطس. قال: وكان ابتداء ملكه عندهم لخمس وعشرين وخمسمائة من ملك
__________
[1] وفي نسخة اخرى: سويرس.(2/244)
الإسكندر، ولعهده سار أردشير ملك الفرس إلى نصّيبين فحاصرها وبنى عليها حصنا، ثم بلغه أنّ خارجا خرج عليه بخراسان، فاجفل عنهم بعد المصالحة على أن لا يتعرّضوا لحصنه، فلما رحل بنوا من وراء الحصن وأدخلوه في مدينتهم، ورجع أردشير فنازلهم وامتنعوا عليه، فأشار بعض الحكماء بأن يجمع أهل العلم فيدعون الله دعوة رجل واحد، ففعلوا فملك الحصن لوقته. وقال هروشيوش: لمّا ولي أنطونيش ضعف عن مقاومة الفرس فغلبوا على أكثر مدن الشام ونواحي أرمينية وهلك في حروبهم وولي بعده مفريق بن مركة وقتله قوّاد رومة لسنة من ملكه وكذا قال ابن العميد، وسمّاه ابن بطريق بقرونشوش، والمسبحي هرقليانوس. قالوا جميعا:
وملك من بعده أنطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: ثلاث سنين، وعن المسبحيّ والصعيديين: أربع سنين، قال: وفي أوّل سنة من ملكه بنيت مدينة عمّان بأرض فلسطين، وملك سابور بن أردشير مدنا كثيرة من الشام.
ومات أنطونيش فملك من بعده إسكندروس لثلاث وعشرين من ملك سابور بن أردشير فملك على الروم ثلاث عشرة سنة وكانت أمّه محبة في النصارى. وقال هروشيوش: ملك عشرين سنة وكانت أمّه نصرانية وكانت النصارى معه في سعة من أمرهم. قال ابن العميد: وفي سابعة ملكه قدم [1] تاوكلّا بطركا بالإسكندرية وهو الثالث عشر من البطاركة فلبث فيهم ست عشر سنة ومات. قال هروشيوش: ولعشر من ملكه غزا فارس فقتل سابور بن أردشير وانصرف ظافرا فثار عليه أهل رومة وقتلوه.
وملك من بعده مخشميان بن لوجية ثلاث سنين، ولم يكن من بيت الملك وإنّما ولوه لأجل حرب الإفرنج واشتدّ على النصارى الشّدّة السادسة من بعد نيرون. وأمّا ابن العميد فسماه فقيموس ووافق على الثلاث سنين في مدّته وعلى ما لقي النصارى منه، وأنّه قتل منه سرحبوس في سلمية وواجوس في بالس على الفرات، وقتل بطرك انطاكية فسمع أسقف بيت المقدس بقتله فهرب وترك الكرسي. قال: وفي ثالثة ملكه ملك سابور بن أردشير خلاف ما زعم هروشيوش من أنه قتله.
ثم هلك فقيموس أرمشميان وولي من بعده يونيوس ثلاثة أشهر وقتل فيما قال ابن العميد، وقال: سمّاه أبو فانيوس لوكس قيصر وابن بطريق بلينايوس ولم يذكره
__________
[1] بمعنى مضى على وجوده زمن طويل.(2/245)
هروشيوش. ثم ملّك عرديانوس قيصر، قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: أربع سنين، وعن المسبحيّ والصعيديّين: ست سنين، وسمّاه أبو فانيوس فودينوس والصعيديّون قرطانوس. قال: وكان ملكه لإحدى وخمسين وخمسمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش: غرديار بن بليسان. قال: وملك سبع سنين وطالت حروبه مع الفرس وكان ظافرا عليهم وقتله أصحابه على نهر الفرات، قال وولي بعده فلفش [1] بن أولياق بن أنطونيش سبع سنين وهو ابن عم الإسكندر الملك قبله وأوّل من تنصّر من ملوك الروم. وقال ابن العميد عن الصعيديّين: ملك ست سنين وقيل تسع سنين، وكان ملكه لخمس وخمسين وخمسمائة من ملك الإسكندر وآمن بالمسيح. وفي أول سنة من ملكه قدم دنوشيوش بطركا بالإسكندرية وهو رابع عشر البطاركة بها فلبث تسع عشرة سنة، ولعهد فيلفش هذا قدم غرديانوس أسقفا على بيت المقدس بعد هروب مركيوس ثم عاد من هروبه فأقام شريكا معه سنة واحدة، ومات غرديانوس فانفرد مركيوش أسقفا ببيت المقدس عشر سنين، قال:
وقتل فيلفش قيصر قائد من قواده يقال له دافيس وملك مكانه خمس سنين. وقال عن المسبحيّ وابن الراهب سنة، وعن ابن بطريق سنتين. قال: وكان يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدّة، وكان من أولاد الملوك، وقتل بطرك رومة وأجاز من مدينة قرطاجنّة إلى مدينة أفسس وبنى بها هيكلا وحمل النصارى على السجود له، قال: وفي أيامه كانت قصّة فتية أهل الكهف وظهروا بعده في أيام تاودوسيوس.
وأمّا هروشيوش فسماه داجية بن مخشميان، وقال: ملك سنة واحدة، وكانت على النصارى في أيامه الشدّة السابعة، وقتل بطرك رومة منهم.
ووليّ من بعده غالش قيصر سنتين واستباح في قتل النصارى وباء عظيم أقفلت له المدن. وقال هروشيوش: هو غالش بن يولياش، وقال ابن بطريق: إنّ يولياش كان شريكا له في ملكه ومات قبله. قال ابن العميد: إحدى عشرة سنة لسبعين وخمسمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش وابن بطريق: ملك خمس عشرة سنة واسمه غاليوش، وقال المسبحيّ: خمس عشرة سنة، وسماه داقيوس وغاليوش ابنه. وقال آخرون: اسمه أورليوش وملك خمس سنين. وقال أبو فانيوس: اسمه غليوس وملك أربع عشرة سنة. وقال الصعيديّون ملك كذلك واسمه أوراليونوس.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: فيلبّس.(2/246)
قال ابن العميد: وكان يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدّة في أوّل سنة من ملكه قدم مكتميوش [2] بطركا بالإسكندرية وهو الخامس عشر من بطاركتها فلبث اثنتي عشرة سنة ومات، وفي خامسة ملكه قدم إسكندروس أسقفا ببيت المقدس ثم قتله بعد سبع سنين وبعث ابنه في عساكر الروم لغزو الفرس، فانهزم وحمل أسيرا إلى كسرى بهرام فقتله. وقال هرشيوش: ولي غلينوس خمسة عشر سنة فاشتدّ على النصارى الأمر وقتلهم وقتل معهم بطرك بيت المقدس، وكانت له حروب مع الفرس أسره في بعضها ملكهم سابور ثم من عليه وأطلقه، ووقع في أيامه برومة وباء عظيم فرفع طلبه عن النصارى بسببه، وفي أيامه خرج القوط من بلادهم وتغلبوا على بلاد الغريقيين ومقدونية وبلاد النبط، وكان هؤلاء القوط يعرفون بالسنسبين وكانت مواطنهم في ناحية بلاد السريانيين، فخرجوا لعهد غلنوش هذا وغلبوا كما قلناه على بلاد الغريقيين ومقدونية وعلى مرية.
وهلك غلينوش قتيلا على يد قواد رومة، ثم ملك أقاويدوش قيصر سنة واحدة، وقال ابن العميد عن المسبحيّ سنة وتسعة أشهر لثمانين وخمسمائة للإسكندر. وفي أوّل سنة من ملكه قدم يونس السميصانيّ بطركا بأنطاكيّة فلبث ثمان سنين وكان يقول بالوحدانيّة ويجحد الكلمة بالروح، ولما مات اجتمع الأساقفة بأنطاكيّة وردوا مقالته. وقال هروشيوش: ولي بعد غلينوش فلوديش بن يلاريان بن موكله فنسبه هكذا، وقال فيه من عظماء القواد. ولم يكن من بيت الملك ودفع القوط المتغلّبين عن مقدونية من منذ خمس عشرة سنة عليها، ومات لسنتين من ملكه وهذا كما قال المسبحي.
وقال هروشيوش: ولي بعده أخوه نطيل سبع عشرة يوما وقتله بعض القواد، ولم يذكر ذلك ابن العميد. ثم ملك بعده أوريليانس ست سنين وسمّاه ابن بطريق أوراليوس والمسبحيّ أرينوس وأبو فانيوس أوليوس وهروشيوش أوليان بن بلنسيان.
وقال: ملك خمس سنين، قال ابن العميد: وفي الرابعة من ملكه قدم تاونا بطركا بالإسكندرية سادس عشر البطاركة فلبث عشر سنين. وكان النصارى يقيمون الدين خفية، فلمّا صار بطركا قابل الروم ولاطفهم بالهدايا فأذنوا له في بناء كنيسة مريم وأعلنوا فيها بالصلاة، قال: وفي سادسة ملكه ولد قسطنطين. وقال هروشيوش: إنّ
__________
[2] وفي نسخة اخرى: مكسيموس.(2/247)
أورليان بن بلنسيان هذا حارب القوط فظفر بهم وجدّد بناء رومة واشتدّ على النصارى تاسعة بعد نيرون ثم قتل. فولي بعده طانيش بن إلياس وملك قريبا من السنة. وقال ابن العميد: اسمه طافسوس وملك ستة أشهر. وقال ابن بطريق: اسمه طافساس وملك تسعة أشهر.
ثم ملك فروفش قيصر خمس سنين، وقال أبو فانيوس: اسمه فروش، وقال ابن بطريق وابن الراهب والصعيديّون ست سنين، وقال المسبحيّ سبع سنين وسمّاه ألاكيوس وأرفيون، وسمّاه ابن بطريق بروش، وسماه هروشيوش فاروش بن أنطويش. قال: وتغلب على كثير من بلاد الفرس، وقال ابن العميد: كان ملكه لسابعة من ملك سابور ذي الأكتاف ولخمسمائة واثنتين وتسعين من ملك الإسكندر، وكان شديدا على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا وهلك هو وأبناه في الحرب.
وقال هروشيوش: ولما هلك فاروش ولي من بعده ابنه مناربان وقتل لحينه، ولم يذكره ابن العميد. ثم ملك بقلاديانوش إحدى وعشرين سنة، وقال المسبحيّ:
عشرين سنة، وقال غيره: ثماني عشرة سنة، وملك لخمسمائة وخمس وتسعين للإسكندر، وقال غيرهم: كان اسمه عربيطا وارتقى في أطوار الخدمة عند القياصرة إلى أن استخلصه فاريوش وجعله على خيله وكان حسن المزمار. ويقال أنّ الخيل كانت ترقص طربا لمزاميره، وعشقته بنت فاريوش الملك، ولما مات أبوها وإخوتها ملّكها الروم عليهم فتزوجته وسلمت له في الملك، فاستولى على جميع ممالك الروم وما والاها، وقسطنطش ابن عمه على بلاد أشيّا وبيزنطية، وأقام هو بأنطاكيّة وله الشام ومصر الى أقصى المغرب. وفي تاسعة عشر من ملكه انتقض أهل مصر والاسكندرية فقتل منهم خلقا ورجع إلى عبادة الأصنام وأمر بغلق الكنائس، ولقي النصارى منه شدّة وقتل القسيس مار جرس [1] وكان من أكابر أبناء البطارقة، وقتل ملقوس منهم أيضا. وفي عاشرة ملكه قدم مار بطرس بطركا بالإسكندرية فلبث عشر سنين وقتله، وجعل مكانه تلميذه إسكندروس، وكان كبير تلامذته اريوش كثيرا لمخالفة [2] له فسخطه وطرده، ولما مات مار بطرس رجع أريوش عن المخالفة فأدخله إسكندروس إلى الكنيسة وصيّره قسّا.
__________
[1] هو القديس مار جرجس.
[2] ومقتضى السياق «وكان كبير تلامذته أريوش يوشي به كثيرا لمخالفته له» .(2/248)
قال ابن العميد: وفي أيام دقلاديانوس خرج قسطنطش ابن عمّه ونائبة على بيزنطيا وأشيّا ورأى هلانة، وكانت تنصّرت على يد أسقف الرّها، فأعجبته وتزوّجها وولدت له قسطنطين، وحضر المنجّمون لولادته فأخبروا بملكه، فأجمع ديقلاديانوس على قتله فهرب إلى الرّها. ثم جاء بعد موت ديقلاديانوس فوجد أباه قسطنطش قد ملك على الروم فتسلّم الملك من يده على ما نذكر، وهلك ديقلاديانوس لعشرين سنة من ملكه ولستمائة وستة عشرة سنة من ملك الإسكندر وملك من بعده ابنه مقسيمانوس [1] قال ابن بطريق: سبع سنين، وقال المسبحيّ وابن الراهب: سنة واحدة.
قالوا وكان شريكه في الملك مقطوس، وكان أشدّ كفرا من ديقلاديانوس، ولقي النصارى منهما شدّة وقتلا منهم خلقا كثيرا، وفي أول سنة من ملكه قدم الإسكندروس تلميذ مار بطرس الشهير بطركا بالإسكندرية، فلبث فيهم ثلاثا وعشرين سنة.
وعلى عهد مقسيمانوس تذكر تلك الخرافة بين المؤرخين من أن سابور ملك الفرس دخل أرض الروم متنكرا، وحضر مكان مقسيمانوس وسجنه في جلد بقرة وسار إلى مملكة فارس وسابور في ذلك الجلد وهرب منه، ولحق بفارس وهزم الروم، في حكاية مستحيلة وكلها أحاديث خرافة. والصحيح منه أنّ سابور سار إلى مملكة الروم فخرج إليه مقسيمانوس واستولى على ملكه كما نذكر بعد. وأمّا هروشيوش فلما ذكر مناربان قيصر بن قاريوس وأنّه ملك بعد أبيه وقتل لحينه، ثم قال وقام بملكهم ديوقاريان وثأر من قاتله، خرج عليه أقرير بن قاريوس فقتله ديوقاريان بعد حروب طويلة، ثم انتقض عليه أهل ممالكه وثار الثوار ببلاد الإفرنجة والأندلس وإفريقية ومصر، وسار إليه سابور ذو الأكتاف فدفع ديوقاريان إلى هذه الحروب كلها مخشميان هركوريش وصيّره قيصر، فبدأ أوّلا ببلاد الإفرنجة فغلب الثوار بها وأصلحها وكان الثائر الّذي بالأندلس قد ملك برطانية سبع سنين فقتله بعض أصحابه ورجعت برطانية إلى ملك ديوقاريان، ثم استعمل مخشميان خليفة ديوقاريان صهره قسطنطش وأخاه مخشمس ابني وليتنوس، فمضى مخشمس إلى إفريقية وقهر الثوار بها وردّها إلى طاعة الرومانيين، وزحف ديوقاريان قيصر الأعظم إلى مصر والإسكندرية فحصر الثائر بها إلى أن ظفر به وقتله، ومضى قسطنطش إلى اللمانيّين في ناحية بلاد الافرنج فظفر بهم بعد حروب طويلة. وزحف مخشميان خليفة ديوقاريان إلى سابور ملك الفرس
__________
[1] هو مكسيمانوس.(2/249)
فكانت حروبه معه سجالا حتى غلبه وأصاب منه، واستأصل مدينة غورة والكوفة من بلاده سبيا وقتلا ورجع إلى رومة. ثم سرّحه ديوقاريان قيصر إلى حروب أهل غالش من الإفرنجة، فأثخن فيهم قتلا وسبيا، ثم اشتدّ ديوقاريان على النصارى الشدّة العاشرة بعد نيرون وأثخن فيهم بالقتل ودام ذلك عليهم عشر سنين.
ثم اعتزل ديوقاريان وخليفته مخشميان الملك ورفضاه ودفعاه إلى قسطنطش بن وليتنوش وأخيه مخشمس ويسمّى غلاريس، فاقتسما ملك الرومانيين، فكان لمخشمس غلاريس ناحية الشرق وكان لقسطنطش ناحية المغرب وكانت إفريقية وبلاد الأندلس وبلاد الافرنج في ملكته [1] . وهلك ديوقاريان ومخشميان معتزلين عن الملك بناحية الشام وأقام قسطنطش في الملك، ثم هلك ببرطانية وأقام بملك اللطينيين من بعده ابنه قسطنطين. انتهى كلام هروشيوش.
ويظهر أنّ هذا الملك الّذي سمّاه ابن العميد ديقلاديانوس هو الّذي سمّاه هروشيوش ديوقاريان، والخبر من بعد ذلك متشابه والأسماء مختلفة ولا يخفى عليك وضع كل اسم في مكانه من الآخر والله سبحانه وتعالى أعلم.
الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم
هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم وأشهرهم وكان لهم الاستيلاء على جانب البحر الرومي من الأندلس إلى رومة إلى القسطنطينية إلى الشام إلى مصر والإسكندرية إلى إفريقية والمغرب، وحاربوا الترك والفرس بالمشرق والسودان بالمغرب من النبويّة فمن وراءهم. وكانوا أوّلا على دين المجوسيّة، ثم بعد ظهور الحواريّين ونشر دين النصرانية بأرضهم وتسلطهم عليهم بأرضهم مرة بعد أخرى أخذوا بدينهم. وكان أول من أخذ به قسطنطين بن قسطنطش بن وليتنوس [2] وأمّه هلانة بنت مخشميان قيصر خليفة ديوقاريان قيصر الثالث والثلاثون من القياصرة، وقد
__________
[1] الأصح ان يقول ملكه.
[2] هو ولتينوس.(2/250)
مرّ ذكره آنفا. وإنّما سعى هذا الدين دين النصرانيّة نسبة إلى ناصرة القرية التي كان فيها مسكن عيسى عليه السلام عند ما رجع من مصر مع أمّه. وأمّا نسبه إلى نصران فهو من أبنية المبالغة ومعناه أنّ هذا الدين في غير أهل عصابة فهو دين من ينصره من أتباعه.
ويعرف هؤلاء القياصرة ببني الأصفر وبعض الناس ينسبهم إلى عيصو بن إسحاق وقد أنكر ذلك المحقّقون وأبوه. وقال أبو محمد بن حزم عند ذكر إسرائيل عليه السلام كان لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب واسمه عيصاب، وكان بنوه يسكنون جبال السراة من الشام إلى الحجاز، وقد بادوا جملة إلّا أن قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهو خطأ وإنما وقع لهم هذا الغلط لأنّ موضعهم كان يقال له أروم فظنّوا أنّ الروم من ذلك الموضع وليس كذلك، لأنّ الروم إنّما نسبوا إلى روملّس باني رومة وربما يحتجون بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك للحرث بن قيس: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد بني عيصاب على الحقيقة لأن قصده كان إلى ناحية السراة وهو مسكن بني عيصو (قلت) : مسكن عيصو هؤلاء كان يقال له أيذوم، بالذال المعجمة إلى الظاء أقرب فعرّبتها العرب راء، ومن هنا جاء الغلط والله تعالى أعلم. وهذا الموضع يقال له يسعون أيضا والاسمان في التوراة.
قال ابن العميد: خرج قسطنطين المؤمن على مقسيمانوس فهزمه، ورجع إلى رومة وازدحم العسكر على الجسر فوقع بهم في البحر وغرق مقسمانوس مع من غرق، ودخل قسطنطين رومة وملكها بعد أن أقام ملكا على بيزنطية من بعد أبيه ستا وعشرين سنة، فبسط العدل ورفع الجور. وخرج قائده يسكن ناحية قسطنطينيّة، وولّاه على رومة وأعمالها وألزمه بإكرام النصارى، ثم انتقض عليه وقتل النصارى وعبد الأصنام، وكان فيمن قتل ماريادس بطرك بطارقة، فبعث قسطنطين العساكر إلى رومة لحربه فساقوه أسيرا وقتله.
ثم تنصّر قسطنطين في مدينة نيقيا لاثنتي عشر من ملكه وهدم بيوت الأصنام وبنى الكنائس، ولتاسع عشرة من ملكه كان مجمع الأساقفة بمدينة نيقية ونفى أريوس، كما ذكرنا ذلك كله من قبل وأنّ رئيس هذا المجمع كان إسكندروس بطرك الاسكندرية، وفي الخامسة عشر من رياسته توفي بعد المجمع بخمسة أشهر. وقال ابن بطريق كانت ولاية إسكندروس في الخامسة من ملك قسطنطين وبقي ست عشرة(2/251)
سنة وقتل في السادسة والعشرين من ملك ديقلاديانوس وأنه كان على عهد أوسانيوس أسقف قيساريّة. قال المسبحيّ: مكث بطركا ثلاثا وعشرين وكسر صنم النحاس الّذي هو هيكل زحل بإسكندرية، وجعل مكانه كنيسة فهدمها العبيديّون عند ملكهم إسكندريّة. وقال ابن الراهب: إنّ إسكندروس البطرك ولي أول سنة من ملك قسطنطين فمكث اثنتين وعشرين سنة وعلى عهده جاءت هلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس وبنت الكنائس وسألت عن موضع الصليب فأخبرها مقاريوس الأسقف: إنّ اليهود أهالوا عليه التراب والزبل فأحضرت الكهنونيّة وسألتهم عن موضع الصليب وسألتهم رفع ما هنالك من الزبل ثم استخرجت ثلاثة من الخشب وسألت أيتها خشبة المسيح، فقال لها الأسقف: علامتها أنّ الميت يحيا بمسيسها، فصدّقت ذلك بتجربتها، واتخذوا ذلك اليوم عيدا لوجود الصليب، وبنت على الموضع كنيسة القمامة [1] ، وأمرت مقاريوس الأسقف ببناء الكنائس وكان ذلك لثلاثمائة وثمان وعشرين من مولد المسيح عليه السلام.
وفي حادية وعشرين من ملك قسطنطين كان مهلك إسكندروس البطرك، وولي مكانه تلميذه أثناسيوس كانت أمّه تنصّرت على يده فربى ابنها عنده وعلمه وولي بطركا مكانه وسعى به أصحاب أريوس إلى الملك بعده مرتين بقي فيهما على كرسيه ثم رجع. وحمل قسطنطين اليهود بالقدس على النصرانية فأظهروها وافتتحوا في الامتناع من أكل الخنزير، فقتل منهم خلقا وتنصّر بعضهم، فزعموا أنّ أخبار اليهود نقصوا من سني مواليد الآباء نحوا من ألف وخمسمائة سنة ليبطلوا مجيء المسيح في السوابيع التي ذكر دانيال أنّ المسيح يظهر عندها، وأنها لم يحن وقتها وأنّ التوراة الصحيحة هي التي فسّرها السبعون من أحبار اليهود [2] ملك مصر. وزعم ابن العميد أن قسطنطين أحضرها واطلع منها على النقض الّذي قاله، قال: وهي التوراة التي بيد النصارى الآن.
قال ثم أمر قسطنطين بتجديد مدينة بيزنطية وسمّاها قسطنطينية باسمه وقسّم ممالكه بين أولاده، فجعل لقسطنطين قسطنطينية وما والاها، لقسطنطين الآخر بلاد الشام الى أقصى المشرق، ولقسطوس الثالث رومة وما والاها. قال وملك خمسين سنة منها
__________
[1] هي كنيسة القيامة.
[2] بياض بالأصل ومقتضى السياق: فسرها السبعون من أحبار اليهود وأرسلوها الى ملك مصر.(2/252)
ست وعشرون بيزنطية قبل غلبة مقسميانوس ومنها أربع وعشرون بعد استيلائه على الروم، وتنصّر في اثنتي عشرة من آخر ملكه، وهلك لستمائة وخمسين للإسكندر.
قال هروشيوش: كان قسطنطين بن قسنطش على دين المجوسية، وكان شديدا على النصارى، ونفى بطرك رومة فدعا عليه وابتلى بالجذام، ووصف له في مداواته أن ينغمس في دماء الأطفال، فجمع منهم لذلك عددا ثم أدركته الرقة عليهم فأطلقهم، فرأى في منامه من يحضّه على الاقتداء بالبطرك فردّه إلى رومة وبريء من الجذام. وجنح من حينئذ إلى دين النصرانية، ثم خشي خلاف قومه في ذلك، فارتحل الى القسطنطينية ونزلها وشيّد بناءها وأظهر ديانة المسيح، وخالف أهل رومة فرجع إليهم وغلبهم على أمرهم وأظهر دين النصرانية، ثم جاهد الفرس حتى ممالكهم. ولعشرين سنة من ملكه خرجت طائفة من القوط إلى بلاده فأغاروا وسبوا فزحف إليهم وأخرجهم من بلاده. ثم رأى في منامه عربا وبنودا على تمثال الصلبان وقائلا يقول هذه علامة الظفر لك، فخرجت أمه هلانة إلى بيت المقدس لطلب آثار المسيح وبنت الكنائس في البلدان ورجعت ثم هلك قسطنطين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه أهـ. كلام هروشيوش.
ثم ولي قسطنطين الصغير بن قسطنطين وسمّاه هروشيوش قسطنش. قال ابن العميد: ملك أربعا وعشرين سنة وكان أخوه قسطوس برومية بولاية أبيهما ففي خامسة من ملك قسطنطين بعث العساكر فقتل مقنيطوس وأتباعه وولى على رومة من جهته فكانت له صاغية إلى أريوش فأخذ بمذهبه، وغلبت تلك المقالة على أهل قسطنطينية وأنطاكية ومصر والإسكندرية، وغلب أتباع أريوش على الكنائس ووثبوا على بطرك اسكندرية ليقتلوه فهرب كما مرّ، ثم هلك لأربع وعشرين سنة من ملكه.
وولي ابن عمه يولياش. وقال هروشيوش بن منخشمطش قال: وملك سنة واحدة.
وقال ابن العميد: ملك سنتين باتفاق لثلاثة من ملك سابور وكان كافرا وقتل النصارى وعزلهم عن الكنائس وأطرحهم من الديوان وسار لقتال الفرس فمات من سهم أصابه. وقال هروشيوش: تورط في طريقه في مفازة ضلّ فيها عن سبيله فتقبض عليه أعداؤه وقتلوه.
قال هروشيوش: وولي بعده بليان بن قسطنطين سنة أخرى، وزحف إلى الفرس وملكهم يومئذ سابور، فحجم عن لقائهم، فصالحهم ورجع وهلك في طريقه. ولم(2/253)
يذكر ابن العميد بليان هذا وإنّما قال: ملك من بعد يوليانوس الملك يوشانوس واحدة باتفاق في سادسة عشر من ملك سابور، وكان مقدّم عساكر يوليانوس، فلما قتل اجتمعوا إليه وبايعوه واشترط عليهم الدخول في النصرانية فغلبوه، وأشار سابور بتوليته ونصب له صليبا في العسكر، ولما ولي نزل على نصّيبين للفرس ونقل الروم الّذي بها إلى آمد ورجع إلى كرسيّ مملكتهم، فردّ الأساقفة إلى الكنائس، ورجع فيمن رجع أثناشيوش بطرك اسكندرية، وطلب منه أن يكتب له أمانة أهل مجمع نيقية، فجمع الأساقفة وكتبوها وأشار عليه بلزومها. ولم يذكر هروشيوش يوشانوش هذا وذكر مكانه آخر قال: وسمّاه بلنسيان بن قسنطش. قال: وقاتل أمما من القوط والافرنجة وغيرهم، قال: وافترق القوط في أيامه فرقتين على مذهبي أريوش وأمانة نيقية، قال: وفي أيامه ولي داماش بطركا برومة ثم هلك بالفالج، وملك بعده أخوه واليس أربع سنين وعمل على مذهب أريوش واشتدّ على أهل الأمانة وقتلهم. وثار عليه بأهل إفريقية بعض النصارى مع البربر فأجاز إليهم البحر وحاربهم فظفر بالثائر وقتله بقرطاجنّة، ورجع إلى قسنطينية فحارب القوط والأمم من ورائهم وهلك في حروبهم.
وقال ابن العميد في قيصر الّذي قتل واليس وسمّاه واليطنوس: إنه ملك اثنتي عشرة سنة فيما حكاه ابن بطريق وابن الراهب، وحكى عن المسبحيّ خمسة عشر سنة، وأنّ أخاه والياش كان شريكه في الملك وأنه كان مباينا وأنه ملك لستمائة وست وسبعين للإسكندر وسبع عشرة لسابور كسرى. قال: وفي أيامه وثب أهل اسكندرية على أثناشيوش البطرك ليقتلوه فهرب وقدّموا مكانه لوقيوس وكان على رأي أريوش، ثم اجتمع أهل الأمانة بعد خمسة أشهر ورجعوه إلى كرسيه وطردوا لوقيوس، وأقام أثناشيوش بطركا إلى أن مات، فولوا بعده تلميذه بطرس سنتين، ووثب به أصحاب لوقيوس فهرب ورجع لوقيوس الى الكرسي فأقام ثلاث سنين. ثم وثب به أهل الأمانة ورجّعوا بطرس وما لسنة من رجعته ولقي من داريانوس قيصر ومن أصحاب أريوش شدائد ومنحنا. وقال المسبحيّ: كان واليطينوس يديدن بالأمانة، وأخوه واليش يدين بمذهب أريوش أخذه عن ثاودكيس أسقف القسطنطينية، وعاهده على إظهاره، فلما ملك نفى جميع أساقفة الأمانة وسار أريوس اسقف أنطاكية بإذنه إلى الاسكندرية، فحبس بطرس البطرك وأقام مكانه أريوش من أهل سميساط،(2/254)
وهرب بطرس من السجن وأقام برومة.
وكانت بين واليطينوس قيصر وبين سابور كسرى فتنة وحروب وهلك في بعض حروبه معهم، وولي بعده أخوه واليش. قال ابن العميد عن ابن الراهب: سنتين، وعن أبي فانيوس ثلاث سنين وسمّاه والاس. وقال: هو أبو الملكين اللذين تركا الملك وترهّبا وسمّى مكسينوس ودوقاديوس، قال: وفي الثانية من ملكه بعث طيماناوس أخا بطرس بطركا على إسكندرية فلبث فيهم سبع سنين ومات، وفي سادسة ملكه كان المجمع الثاني بقسطنطينية وقد مرّ ذكره. وفي أيام واليس قيصر هذا مات بطرك قسطنطينية فبعث أغريوس أسقف يزناروا وولّاه مكانه فوليه أربع سنين ومات. ثم خرج على واليش خارج من العرب فخرج إليه فقتل في حروبه.
ثم ولي أغراديانوس قيصر، قال ابن العميد، وهو أخو واليش وكان والنطوس بن واليش شريكا له في الملك وملك سنة واحدة، وقال عن أبي فانيوس سنتين، وعن ابن بطريق ثلاث سنين، وذكر عن ابن المسبحيّ وابن الراهب: أن تاوداسيوس الكبير كان شريكا لهما وأنّ ابتداء ملكهم لستمائة وتسعين من ملك الإسكندر، وأنه ردّ جميع ما نفاه واليش قبله من الأساقفة إلى كرسيه وخلّى كل واحد مكانه.
ومات أغراديانوس وابن أخيه في سنة واحدة، قال ابن العميد. وملك بعدهما تاوداسيوس سبع عشرة سنة باتفاق لستمائة وتسعين من ملك الإسكندر، ولإحدى وثلاثين من ملك سابور كسرى، وفي سادسة ملكه مات أثناشيوش، بطرك اسكندرية فولي مكانه كاتبه تاوفيلا، وكان بطرك القسطنطينية يوحنّا فم الذهب، وأسقف قبرص أبو فانيوس كان يهوديا وتنصّر. قال: وكان لتاوداسيوس ولدان أرقاديوس وبرباريوس، قال: وفي خامسة عشر من ملكه ظهر الفتية السبعة أهل الكهف الذين قاموا أيام دقيانوس ولبثوا في نومهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين كما قصّه القرآن، ووجد معهم صندوق النحاس والصحيفة التي أودع البطريق فيها خبرهم، وبلغ الأمر إلى قيصر تاوداسيوس فبعث في طلبهم فوجدهم قد ماتوا، فأمر أن يبنى عليهم كنيسة ويتخذ يوم ظهورهم عيدا. قال المسبحيّ: وكان أصحاب أريوس قد استولوا على الكنائس منذ أربعين سنة فأزالهم عنها ونفاهم وأسقط من عساكره كل من يديدن بتلك المقالة، وعقد المجمع الثاني بقسطنطينية لمائتين وخمسين سنة من مجمع نيقية، وقرّر فيه الأمانة الأولى بنيقية وعهدوا أن لا يزاد فيها ولا ينقص. وفي خامسة(2/255)
عشر من ملكه مات سابور بن سابور وملك بعده بهرام. ثم هلك تاوداسيوس لسبع عشرة سنة من ملكه.
وأمّا هروشيوش فقال بعد ذكر واليش: وملك بعده وليطانش ابن أخيه فلنسيان ست سنين وهو الموفى أربعين عددا من ملوك القياصرة، قال واستعمل طودوشيش بن أنطيونش بن لوخيان على ناحية المشرق فملك الكثير منها، ثم همّ أهل رومة على قائدهم فقتلوه وخلعوا وليطانش الملك، فلحق بطودوشيش بالمشرق فسلّم إليه في الملك، فأقبل طودوشيش إلى رومة وقتل الثائر بها واستقل بملك القياصرة، وهلك لأربع عشرة سنة من ولايته، فولي ابنه أركاديش. ويظهر من كلام هروشيوش أن طودوشيش هو تاوداسيوس الّذي ذكره ابن العميد، لأنهما متفقان في أنّ ابنه أركاديش ومتقاربان في المدة، فلعل وليطانش الّذي ذكره هروشيوش هو أغراديانوس الّذي ذكره ابن العميد أهـ.
قال ابن العميد: وملك أركاديش ولد تاوداسيوس الأكبر ثلاث عشرة سنة باتفاق في ثالثة ملك بهرام بن سابور وكان مقيما بالقسطنطينية، وولي أخاه أنوريش على رومة، قال: وولد لأركاديش ابن سمّاه طودوشيش باسم أبيه، ولما كبر طلب معلمه أريانوس ليعلم ولده، فهرب إلى مصر وترهّب، ورغّبه بالمال فأبى وأقام في مغارة بالجبل المقطم على قرية طرا ثلاث سنين، ومات فبنى الملك على قبره كنيسة وديرا يسمى دير القصير، ويقال: دير البغل. وفي أيامه غرق أبو فانيوس بمرجعه إلى قبرص، ومات يوحنّا فم الذهب بطرك القسطنطينية وكان نفاه أركاديش بموافقة أبي فانيوس، ودعا كل منهما على صاحبه فهلكا. وفي التاسعة من ملك أركاديش مات بهرام بن سابور وملك ابنه يزدجرد.
ثم هلك أركاديش وملك من بعده طودوشيش الأصغر ابن أركاديش ثلاث عشرة سنة، وولّى أخاه أنوريش على رومة، فاقتسما ملك اللطينيّين، وانتقض لعهديهما قومس إفريقية وخالفه إلى طاعة القياصرة فحدثت بإفريقية فتنة لذلك. ثم غلب القومس أخاه فلحق بقبرص وترهّب بها، ثم زحف القوط. إلى رومة وفرّ عنها أنوريش فحاربوها ودخلوها عنوة واستباحوها ثلاثا وتجافوا عن أموال الكنائس. قال: ولما هلك أركاديش قيصر استبدّ أخوه أنوريش بالملك خمس عشرة سنة وأحسن في دفاع القوط عن رومة وهلك، فولي من بعده طودوشيش ابن أخيه أركاديش ولم يذكر ابن(2/256)
العميد أنوريش وإنّما ذكر بعد أركاديش ابنه طودوشيش وسمّاه الأصغر، قال:
وملك اثنتين وأربعين سنة باتفاق في خامسة ملك يزدجرد، وكانت بينه وبين الفرس حروب كثيرة. قال: وفي أوّل سنة من ملكه مات تاوفيلا بطرك إسكندرية فولي مكانه كيرلّوس ابن أخته، في سابعة عشر من ملكه قدم نسطوريش بطركا بالقسطنطينية فأقام أربع سنين وظهرت عنه العقيدة التي دان بها وقد تقدّمت، وبلغت مقالته إلى كيرلّس بطرك الإسكندرية، فخاطب في ذلك بطرك رومة وأنطاكية وبيت المقدس، ثم اجتمعوا بمدينة أفسيس في مائتي أسقف وأجمعوا على كفرنسطوريش ونفوه، فنزل أخميم من صعيد مصر وأقام بها سبع سنين، وأخذ بمقالته نصارى الجزيرة والموصل إلى الفرات ثم العراق وفارس إلى المشرق، وولّى طودوشيش بالقسطنطينية مقسيموس عوضا عن نسطورس فأقام بها ثلاث سنين. وفي ثامنة وثلاثين من ملك طودوشيش الأصغر مات كيرلّس بطرك الإسكندرية وولي مكانه ديسقرس، ولقي شدائد من مرقيان الملك بعده. وفي سادسة عشرة من ملك طودوشيش الأصغر مات يزدجرد كسرى وولي ابنه بهرام جور، وكانت بينه وبين خاقان ملك الترك وقائع ثم عدل عن حروبهم ودخل إلى أرض الروم فهزمه طودوشيش وملك ابنه يزدجرد. قال هروشيوش: وفي أيام طودوشيش الأصغر تغلب القوط على رومة وملكوها وهلك ملكهم أبطريك كما نذكر في أخبارهم، ثم صالحوا الروم على أن يكون لهم الأندلس فانقلبوا إليها وتركوا رومة انتهى.
قال ابن العميد: ثم ملك مرقيان بعده ست سنين باتفاق وتزوّج أخت طودوشيش، وسمّاه هروشيوش مركيان بن مليكة. قالوا: وكان في أيامه المجمع الرابع بمقدونية، وقد تقدّم ذكره، وإنّه كان بسبب ديقوس بطرك إسكندرية وما أحدث من البدعة في الأمانة، فأجمعوا على نفيه وجعلوا مكانه برطارس، وافترقت النصارى إلى ملكيّة وهم أهل الأمانة فنسبوا إلى مركيان قيصر الملك الّذي جمعهم وعهد بأن لا يقبل ما اتفق عليه أهل المجمع الخلقدوني، وإلى يعقوبية وهم أهل مذهب ديسقوس وتقدّم الكلام في تسميتهم يعقوبية، وإلى نسطوريّة وهم نصارى المشرق. وفي أيام مركيان سكن شمعون الحبيس الصومعة بأنطاكيّة وترهّب وهو أوّل من فعل ذلك من النصارى، وعلى عهده مات يزدجرد كسرى.
ومات مركيان قيصر لست سنين من ملكه وملك بعده لاون الكبير. قال ابن العميد:(2/257)
لسبعمائة وسبعين من ملك الإسكندر ولثانية من ملك نيرون، ملك ست عشرة سنة.
ووافقه هروشيوش على مدّته، وقال فيه ليون بن شمخليّة. قال ابن العميد: وكان على مذهب الملكيّة ولما سمع أهل اسكندرية بموت مركيان وثبوا على برطارس البطرك فقتلوه بعد ست سنين من ولايته وأقاموا مكانه طيماناوس، وكان يعقوبيّا فجاء قائد من قسطنطينية بعد ثلاث سنين من ولايته فنفاه، وأبدل عنه سورس من الملكيّة وأقام تسع سنين. ثم عاد طيماناوس بالأمر لاون قيصر [1] ، ويقال: إنه بقي بطركا اثنتين وعشرين سنة. ولثانية عشر من ملك لاون زحف الفرس إلى مدينة آمد وحاصروها وامتنعت عليهم، وفي أيامه مات شمعون الحبيس صاحب العمود.
ثم هلك لاون قيصر لست عشرة سنة من ملكه. قال ابن العميد: ووليّ من بعده لاون الصغير وهو أبو زينون الملك بعده. وقال ابن بطريق: هو ابن سينون وكان يعقوبيّا وملك سنة واحدة. ولم يذكره هروشيوش وإنّما ذكر زينون الملك بعده، وسمّاه سينون بالسين المهملة. وقال ملك سبع عشرة سنة. وقال ابن العميد مثله ولثمانية عشر من ملك نيرون ولسبعمائة وسبع وثمانين للإسكندر، قال: وكان يعقوبيّا وخرج عليه ولده ورجل من قرابته وحاربهما عشرين شهرا ثم قتلهما واتباعهما ودخل قسطنطينية ووجد بطركها وكان رديء العقيدة قد غير كتب الكنيسة وزاد ونقّص، فكتب زينون قيصر إلى بطرك رومة وجمع الأساقفة فناظروه ونفوه. وفي سابعة ملك زينون مات طيماناوس بطرك اسكندرية فولي مكانه بطرس وهلك بعد ثمان سنين، فولي مكانه أثناسيوس وهلك لسبع سنين وكان قيّما ببعض البيع في بطركيته. قال المسبحيّ: وفي أيام زينون احترق ملعب الخيل الّذي بناه بطليموس الأرنبا بالإسكندرية. وقال ابن بطريق: وفي أيام زينون هاجت الحرب بين نيرون والهياطلة وهزموه في بعض حروبهم، ورد الكرّة عليه بعض قواده كما في أخبارهم، ومات نيرون وتنازع الملك ابناه قياد ويلاش. وفي عاشرة من ملك زينون غلب يلاش أخاه واستقلّ بالملك ولحق أخوه قياد بخاقان ملك الترك، ثم هلك يلاش لأربع سنين ورجع قياد واستولى على مملكة فارس وذلك في أربعة عشر من ملك زينون فأقام ثلاثا وأربعين سنة.
وهلك زينون لسبع عشرة من ولايته، فملك بعده نسطاس سبعا وعشرين سنة في
__________
[1] مقتضى السياق: بالأمر للاون قيصر.(2/258)
أربعة من ملك قيادة ولثمانمائة وثلاث للإسكندر، وكان يعقوبيّا وسكن حماة ولذلك أمر أن تشيّد وتحصّن فبنيت في سنتين. وعهد لأول ملكه أن يقتل كل امرأة كاتبة، وفي ثالثة ملكه أمر ببناء مدينة في المكان الّذي قتل فيه دارا فوق نصّيبين. ثم وقعت الحرب بينه وبين الأكاسرة وخرّب قياد مدينة آمد ونازلت عساكر الفرس إسكندرية وأحرقوا ما حولها من البساتين والحصون، وقتل بين الأمّتين خلق كثير. وفي سادسة ملكه مات أثناسيوس بطرك الاسكندرية فصيّر مكانه يوحنّا وكان يعقوبيّا ومات لتسع سنين، فصيّر بعده يوحنّا الحسن ومات بعد إحدى عشرة. وفي أيام نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكيّة وكان كلاهما على أمّة ديسقوس. وفي سابعة وعشرين من ملك نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكيّة. ومات يوحنّا بطرك اسكندرية فولّى مكانه ديسقوس الجديد ومات لسنتين ونصف.
وقال سعيد بن بطريق: إن إيليا بطرك المقدس كتب إلى نسطاس قيصر يسأله الرجوع إلى الملكيّة ويوضح له الحق في مذهبهم، وصبا إليه في ذلك جماعة من الرهبان، فأحضرهم وسمع كلامهم وبعث إليهم بالأموال للصدقات وعمارة الكنائس. وكان بقسطنطينية رجل على رأي ديسقوس فمضى إلى نشطانش قيصر ومضى وأشار عليه باتباع مذهب ديسقوس وأن يرفض المجمع الخلقدوني. فقبل ذلك منه وبعث إلى جميع أهل مملكته، وبلغ ذلك بطرك أنطاكية فكتب إلى نشطانش قيصر بالملامة على ذلك فغضب ونفاه، وجعل مكانه بأنطاكيّة سويوس وبلغ ذلك إلى إيليا بطرك القدس، فجمع الرهبان ورؤساء الديور في نحو عشرة آلاف ولعنوا سويوس وأجرموه والملك نشطانش معه. فنفاه نشطانش إلى إيليا وذلك في ثالثة وعشرين من ملكه، فاجتمع جميع البطاركة والأساقفة من الملكيّة وأجرموا نشطانش الملك وسويوس وديسقوس إمام اليعقوبية ونسطورس. قال ابن بطريق: وكان لسويوس تلميذ اسمه يعقوب البرادعي يطوف البلاد داعيا إلى مقالة سويوس ودسيقوس فنسب اليعاقبة إليه. وقال ابن العميد: وليس كذلك لأنّ اليعاقبة سمّوا بذلك من عهد ديسقوس كما مرّ.
ثم هلك نشطانش لسبع وعشرين من ملكه، وملك بعده يشطيانش قيصر لثمانية وثلاثين من ملك قياد بن نيرون ولثمانية وثلاثين للإسكندر، وملك تسع سنين باتفاق. وقال هروشيوش سبعا. وقال المسبحيّ: كان معه شريك في ملكه اسمه(2/259)
يشطيان. وفي ثالثة ملكه غزت الفرس بلاد الروم فوقعت بين الفرس والروم حروب كثيرة، وزحف كسرى في آخرها لثمانية من ملك يشطيانش ومعه المنذر ملك العرب، فبلغ الرّها وغلب الروم وغرق من الفريقين في الفرات خلق كثير وحمل الفرس أسارى الروم وسباياهم، ثم وقع الصلح بينهما بعد موت قيصر. وفي تاسعة ملكه أجاز البربر من المغرب إلى رومة وغلبوا عليها. قال ابن بطريق: وكان يشطيانش على دين الملكيّة فرد كل من نفاه نشطانش قبله منهم، وصيّر طيماناوس بطركا بالإسكندرية وكان يعقوبيّا فلبث فيهم ثلاث سنين، وقيل سبع عشرة سنة.
وقال ابن الراهب: كان يشطيانش خلقدونيّا ونفى طيماناوس البطرك عن إسكندرية وجعل مكانه أيوليناريوس وكان ملكيا، وعقد مجمعا بالقسطنطينية يريد جمع الناس على رأي الخلقدونية مذهبه، وأحضر شاويرش بطرك أنطاكية وأسقفة المشرق فلم يوافقوه، فاعتقل بطرك أنطاكية سنين ثم أطلقه فسار إلى مصر وبقي مختفيا في الديور.
ثم وصل أيوليناريوس بطرك إسكندرية ومعه كتاب الأمانة الخلقدونية، فقبل الناس منه وتبعوا مذهبه فيها وصاروا إليه.
وهلك يشطيانش لتسع سنين من ملكه ثم ملك يشطينانش قيصر لإحدى وأربعين من ملك قياد ولثمانمائة وأربعين للإسكندر وكان ملكيّا وهو ابن عمّ يشطيانش الملك قبله. وقال المسبحيّ: بل كان شريكه كما مرّ وملك أربعين سنة باتفاق. وقال أبو فانيوس: ثلاثا وثلاثين. وفي سابعة ملكه غزا كسرى بلاد الروم وأحرق إيليا وأخذ الصليب الّذي كان فيها، وفي حادية عشر من ملكه عصت السامريّة عليه فغزاهم وخرّب بلادهم، وفي سادسة عشر من ملكه غزا الحارث بن جبلة أمير غسان والعرب ببرية الشام وغزا بلاد الأكاسرة وهزم عساكرهم وخرّب بلادهم ولقيه بعض مرازبة كسرى فهزمهم وردّ السبي منهم، ثم وقع الصلح بين فارس والروم وتوادعوا. وفي خمس وثلاثين من ملك يشطينانش عهد بأن يتخذ عيد الميلاد في رابع وعشرين من كانون، وعيد الغطاس [1] في ست منه، وكانا من قبل ذلك جميعا في سادس كانون. وقال المسبحيّ: أراد يشطينانش حمل الناس على رأي الملكيّة، فأحضر طيماناوس بطرك اسكندرية وكان يعقوبيّا، وأراده على ذلك فامتنع فهمّ بقتله، ثم أطلقه فرجع إلى مصر مختفيا ثم نفاه بعد ذلك وجعل مكانه بولس، وكان ملكيّا فلم
__________
[1] عيد الظهور الإلهي عند المسيحيين.(2/260)
يقبله اليعاقبة وأقام على ذلك سنين.
قال سعيد بن بطريق: ثم بعث قيصر قائدا من قوّاده اسمه يوليناريوس وجعله بطرك إسكندرية فدخل الكنيسة بزيّ الجند ثم لبس زيّ البطاركة وقدّس. فهموا به فصار إلى سياستهم فاقصروا ثم حملهم على رأي اليعقوبيّة وقتل من امتنع وكانوا مائتين.
وفي أيام يشطينانش هذا ثار السامرة بأرض فلسطين وقتلوا النصارى وهدموا كنائسهم فبعث العساكر وأثخنوا فيهم وأمر ببناء الكنائس كما كانت، وكانت كنيسة بيت لحم صغيرة فأمر بأن يوسّع فيها فبنيت كما هي لهذا العهد. وفي عهده كان المجمع الخامس بقسطنطينية بعد مائة وثلاث وستين من الجمع الخلقدوني ولتاسعة وعشرين من ملك يشطينانش وقد مر ذكر ذلك. وفي عهد قيصر هذا مات أيوليناريوس القائد الّذي جعل بطركا بإسكندرية لسبع عشرة سنة من ولايته، وهو كان رئيس هذا المجمع، وجعل مكانه يوحنّا وكان أمانيّا وهلك لثلاث سنين، وانفرد اليعاقبة بالإسكندرية وكان أكثرهم القبط وقدموا عليهم طودوشيوش بطركا لبث فيهم اثنتين وثلاثين سنة، وجعل الملكيّة بطركهم داقيانوس وطردوا طودوشيوش من كرسيه ستة أشهر، ثم أمر يشطينانش قيصر بأن يعاد فأعيد وطلب منه المغامسة أن يقدّم دقيانوش بطرك الملكية على الشمامسة فأجابهم. ثم كتب يشطينانش الى طودوشيوش البطرك باجتماع المجمع الخلقدوني أو يترك البطركية، فتركها ونفاه وجعل مكانه بولس التنسي فلم يقبله أهل إسكندرية ولا ما جاء به. ثم مات وغلقت كنائس القبط اليعقوبيّة ولقوا شدائد من الملكيّة ومات طودوشيوش البطرك في سابعة وثلاثين من ملكة يشطيانش وجعل مكانه باسكندرية بطرس ومات بعد سنتين.
قال ابن العميد: وسار كسرى أنوشروان في مملكة يشطيانش قيصر إلى بلاد الروم وحاصر أنطاكية وفتحها وبنى قبالتها مدينة سمّاها رومة ونقل إليها أهل انطاكية. ثم هلك يشطيانش وملك بعده يوشطونش قيصر لست وثلاثين من ملك أنوشروان ولثمانمائة وثمانين للإسكندر فملك ثلاثة عشر سنة. وقال هروشيوش إحدى عشرة سنة. ولثانية من ملكه مات بطرس ملك إسكندرية فجعل مكانه داميانو فمكث ستا وثلاثين سنة وخربت الديور على عهده، وفي الثانية عشر من ملكه مات كسرى أنوشروان بعد أن كان بعث العساكر من الديلم مع سيف بن ذي يزن من التبابعة ففتحوا اليمن وصارت للأكاسرة. ثم هلك يوشطونش قيصر لإحدى عشرة أو ثلاث(2/261)
عشرة من ملكه. وملك بعده طباريش قيصر لثالثة من ملك هرمز ابن أنوشروان ولثمانمائة واثنتين وتسعين للإسكندر، فملك ثلاث سنين عند ابن بطريق وابن الراهب، وأربعا عند المسبحيّ. ولعهده انتقض الصلح بين الروم وفارس واتصلت الحرب، وانتهت عساكر الفرس إلى رأس عين الخابور، فثار إليهم موريق من بطاركة الروم فهزمهم، ثم جاء طباريش قيصر على أثره فعظمت الهزيمة واستحرّ [1] القتل في الفرس وأسر الروم منهم نحوا من أربعة آلاف غرّبهم إلى جزيرة قبرص، ثم انتقض بهرام مرزبان هرمز كسرى وطرده عن الملك بمنجع من تخوم بلاد الروم وبعث بالصريخ إلى طباريش قيصر، فبعث إليه المدد من الفرسان والأموال. يقال كان عسكر المدد أربعين ألفا فسار هرمز ولقيه بهرام بين المدائن وواسط فانهزم واستبيح، وعاد هرمز إلى ملكه وبعث إلى طباريش بالأموال والهدايا أضعاف ما أعطاه، ورد إليه ما كانت الفرس أخذته من بلادهم وسألهم [2] وغيرها، ونقل من كان فيها من الفرس إلى بلاده. وسأله طباريش بأن يبني هيكلين للنصارى بالمدائن وواسط فأجابه إلى ذلك.
ثم هلك طباريش قيصر وملك من بعده موريكش قيصر في السادسة لهرمز ولثمانمائة وخمس وتسعين للإسكندر وملك عشرين سنة باتفاق المؤرّخين فأحسن السيرة. وفي حادية عشر من ملكه بلغه عن بعض اليهود بأنطاكيّة أنه بال [3] على صورة المسيح، فأمر بقتلهم ونفيهم. ولعهده انتقض على هرمز كسرى قريبه بهرام وخلعه واستولى على ملكه وقتله، وسار ابنه أبرويز إلى موريكش قيصر صريخا فبعث معه العساكر ورد أبرويز إلى ملكه، وقتل بهرام الخارج عليه وبعث إليه بالهدايا والتحف كما فعل أبوه من قبله مع القياصرة، وخطب أبرويز من موريكش قيصر ابنته مريم فزوّجه إيّاها
__________
[1] وفي نسخة اخرى: واستمر.
[2] كذا بياض بالأصل واتفق كل من الطبري وابن الأثير على القول: «وخاف بهرام سطوة هرمز وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، فأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وان ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب الى أذربيجان خوفا من هرمز، فاجتمع اليه هناك عدة من المرازبة والاصبهبذين فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والاشراف بالمدائن وفيهم بندي وبسطام خالا أبرويز فخلعوا هرمز واستولوا على الملك، ثم جرت بينه وبين بهرام حروب اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثا بملكها فأخبره واستتب له الملك. (الطبري ج 2 ص 18) .
[3] وفي نسخة اخرى: انهم بالوا.(2/262)
وبعث معها من الجهاز والأمتعة والأقمشة ما يضيق عنه الحصر.
ثم وثب على موريكش بعض مماليكه بمداخلة قريبه البطريق قوقاص فدسه عليه فقتله وملك على الروم وتسمّى قيصر وذلك لتسعمائة وأربع عشرة للإسكندر وخمس عشرة لأبرويز، فملك ثماني سنين وقتل أولاد موريكش وأفلت صغير منهم فلحق بطور سينا وترهّب ومات هنالك. وبلغ أبرويز كسرى ما جرى على موريكش وأولاده فجمع عساكره وقصد بلاد الروم ليأخذ ثأر صهره [1] ، وبعث عساكره مع مرزبانه خزرويه إلى القدس وعهد إليه بقتل اليهود وخراب البلد. وبعث مرزبان آخر إلى مصر والإسكندرية، وجاء بنفسه في عساكر الفرس إلى القسطنطينية وحاصرها وضيّق عليها، وأمّا خزرويه المرزبان فسار إلى الشام وخرّب البلاد. واجتمع يهود طبريّة والخليل وناصرة وصور وأعانوا الفرس على قتل النصارى وخراب الكنائس، فنهبوا الأموال وأخذوا قطعة من الصليب، وعادوا إلى كسرى بالسبيّ وفيهم ذخريّا بطرك القدس، فاستوهبته مريم بنت موريكش من زوجها أبرويز فوهبه إيّاها مع قطعة الصليب. ولما خلت الشام من الروم واجتمع الفرس على القسطنطينية، تراسل اليهود من القدس والخليل وطبرية ودمشق وقبرص، واجتمعوا في عشرين ألفا وجاءوا إلى صور ليملكوها، وكان فيها من اليهود نحو من أربعة آلاف فتقبض بطركها عليهم وقيدهم، وحاصرهم عساكر اليهود وهدموا الكنائس خارج صور والبطرك يقتل المقيدين ويرمي برءوسهم إلى أن فنوا، وارتحل كسرى عن القسطنطينية جاثيا فأجفل اليهود عن صور وانهزموا.
وقال ابن العميد: وفي رابعة من قوقاص قيصر قدم يوحنّا الرحوم بطركا على الملكيّة باسكندرية ومصر، وإنّما سمّي الرحوم لكثرة رحمته وصدقته، وهو الّذي عمل البيمارستان للمرضى بإسكندرية. ولما سمع بمسير الفرس هرب مع البطريق الوالي بإسكندرية إلى قبرص فمات بها لعشر سنين من ولايته، وخلا كرسي الملكيّة بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة باسكندرية قدّموا عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا اسمه أنشطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة سنة، واستردّ ما كانت الملكيّة بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة باسكندرية قدّموا عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا اسمه أنشطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة سنة، واستردّ ما كانت الملكيّة استولت عليه من الكنائس اليعقوبية، وجاء أثناسيوس بطرك أنطاكية بالهدايا سرورا بولايته، فتلقاه هو بالأساقفة والرهبان، واتخذت الكنيسة بمصر والشام وأقام عنده
__________
[1] موريكش هو حميّ أبرويز اي والد زوجته. ومقتضى السياق ليأخذ بثأر حميّه.(2/263)
أربعين يوما ورجع إلى مكانه. ومات أنسطانيوش بعد اثنتي عشرة من ولايته لثلاثمائة وثلاثين من ملك ديقلاديانوس.
ولمّا انتهى أبرويز في حصار القسطنطينية نهايته وضيّق عليها وعدموا الأقوات، واجتمع البطارقة بعلوقيا وبعثوا السفن مشحونة بالأقوات مع هرقل أحد بطاركة الروم، ففرحوا به، ومالوا إليه وداخلهم في الملك، وأنّ قوقاص سبب هذه الفتنة، فثاروا عليه وقتلوه وملّكوا هرقل، وذلك لتسعمائة واثنتين وعشرين للإسكندر، فارتحل أبرويز عن القسطنطينية راجعا إلى بلاده، وملك هرقل بعد ذلك إحدى وثلاثين سنة ونصف عند المسبحيّ وابن الراهب، واثنتين وثلاثين عند ابن بطريق.
وكانت ملكته أوّل سنة من الهجرة. وقال هروشيوش: لتسع وسمّاه هرقل بن هرقل بن أنطونيش.
ولما تملّك هرقل بعث أبرويز بالصلح بوسيلة قتلهم موريكش فأجابهم على تقرير الضريبة عليهم فامتنعوا فحاصرهم ست سنين أخرى إلى الثمان التي تقدّمت، وجهدهم الجوع فخادعهم هرقل بتقرير الضريبة على أن يفرج عنهم حتى يجمعوا له الأموال. وضربوا الموعد معه ستة أشهر، ونقض هرقل فخالف كسرى إلى بلاده، واستخلف أخاه قسطنطين على قسطنطينية، وسار في خمسة آلاف من عساكر الروم إلى بلاد فارس فخرّب وقتل وسبى وأخذا بني أبرويز كسرى من مريم بنت موريكش وهما قبّاد وشيرويه. ومرّ بحلوان [1] وشهرزور إلى المدائن ودجلة ورجع إلى أرمينية، ولما قرب من القسطنطينية، وارتحل أبرويز كسرى إلى بلاده فوجدها خرابا وكان ذلك مما أضعف من مملكة الفرس وأوهنها.
وخرج هرقل لتاسعة من ملكه لجمع الأموال، وطلب عامل دمشق منصور بن سرحون فاعتذر بأنه كان يحمل الأموال إلى كسرى، فعاقبه واستخلص منه مائة ألف دينار وأبقاه على عمله. ثم سار إلى بيت المقدس وأهدى إليه اليهود فأمّنهم أوّلا ثم عرّفه الأساقفة والرهبان بما فعلوه في الكنائس، ورآها خرابا وأخبروه بمن قتلوه من النصارى، فأمر هرقل بقتلهم فلم ينج منهم إلّا من اختفى أو أبعد المفرّ إلى الجبال والبراري، وأمر بالكنائس فبنيت.
وفي العاشرة من ملكه قدم أندراسكون بطركا لليعاقبة بإسكندرية فأقام ست سنين
__________
[1] مدينة قديمة في العراق العجمي.(2/264)
خربت فيها الديور، ثم مات فجعل مكانه بنيامين فمكث سبعا وثلاثين سنة ومات، والفرس يومئذ قد ملكوا مصر والإسكندرية. وأمّا هرقل فسار من بيت المقدس إلى مصر وملكها وقتل الفرس، وولّى على الإسكندرية فوس وكان أمانيّا وجمع له بين البطركة والولاية. ورأى بنيامين البطرك في نومه شخصا يقول قم فاختف إلى أن يجوز غضب الرب فاختفى، وتقبّض هرقل على أخيه مينا وأراده على الأخذ بالأمانة الخلقدونية فامتنع فأحرقه بالنار ورمى بجثته في البحر. ثم عاد هرقل إلى قسطنطينية بعد أن جمع الأموال من دمشق وحمص وحماة وحلب وعمّر البلاد، إلى أن ملك مصر عمرو بن العاص وفتحها لثلاثمائة وسبع وخمسين لديقلاديانس، وكتب لبنيامين البطرك بالأمان فرجع إلى إسكندرية بعد أن غاب عن كرسيّه ثلاث عشرة سنة.
قال ابن العميد: وانتقل التاريخ إلى الهجرة لإحدى عشرة من ملك هرقل وذلك لتسعمائة وثلاث وثلاثين للإسكندر وستمائة وأربع عشرة للمسيح. قال المسعودي:
وقيل إنّ مولده عليه السلام كان لعهد نيشطيانش الثاني الّذي ذكر إنه نوسطيونس خمس عشرة سنة وهو الّذي ضرب السكّة الهرقليّة، وبعده مورق بن هرقل، قال:
والمشهور بين الناس أن الهجرة وأيام الشيخين كان ملك الروم لهرقل. قال: وفي كتب السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعهد ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر، ثم هرقل بن قيصر أيام عمرو عليه كان الفتح وهو المخرج من الشام، قال ومدّة ملكهم إلى الهجرة مائة وخمس وسبعون سنة.
قال الطبري: مدّة ما بين عمارة المقدس بعد تخريب بخت نصّر إلى الهجرة على قول النصارى ألف سنة وتزيد، ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة ونيف وعشرين سنة، ومنه إلى مولد عيسى ثلاثمائة وثلاث سنين، وعمره إلى رفعه اثنان وثلاثون سنة، ومن رفعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة. وقال هروشيوش إنّ ملك هرقل كانت الهجرة في تاسعته وسمّاه هرقل بن هرقل بن أنطونيوس لستمائة وإحدى عشرة من تاريخ المسيح، ولألف ومائة من بناء رومة والله تعالى أعلم.(2/265)
الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية الى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم
قال ابن العميد وفي الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام والجزيرة فملكها، وأثخن في بلاد الروم، وهدم كنائس النصارى واحتمل ما فيها من الذهب والفضة والآنية، حتى نقل الرخام الّذي كان بالمباني، وحمل أهل الرّها على رأي اليعقوبيّة بإغراء طبيب منهم كان عنده فرجعوا إليه وكانوا ملكيّة. وفي سابعة الهجرة بعث عساكر الفرس ومقدّمهم مرزبانه شهريار فدوّخ بلاد الروم وحاصر القسطنطينية، ثم تغير له فكتب إلى المرازبة معه بالقبض عليه، واتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى شهريار فانتقض ومن معه، وطلبوا هرقل في المدد فخرج معهم بنفسه في ثلاثمائة ألف من الروم وأربعين ألفا من الخزر الذين هم التركمان، وسار إلى بلاد الشام والجزيرة وافتتح مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل وفيما افتتح أرمينية، ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس وقائدهم المرزبان فانهزموا وقتل.
وأجفل أبرويز عن المدائن واستولى هرقل على ذخائر ملكهم، وكان شيرويه بن كسرى محبوسا فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه وعقدوا مع هرقل الصلح، ورجع هرقل إلى آمد بعد أن ولّى أخاه تداوس على الجزيرة والشام، ثم سار إلى الرّها ورد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الّذي أكرهوا على تركه وأقام بها سنة كاملة.
وعن غير ابن العميد: وفي آخر سنة ست [1] من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام، ونصّه على ما وقع في صحيح البخاري «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يوتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. «ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ به شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً من دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 3: 64» . فلمّا بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من قريش وسألهم عن أقربهم نسبا منه فأشاروا
__________
[1] قوله ست أي وكان وصوله إلى هرقل سنة سبع كما صوّبه ابن حجر (قاله نصر) .(2/266)
إلى أبي سفيان بن حرب، فقال لهم: إنّي سائله عن شأن هذا الرجل فاستمعوا ما يقوله. ثم سأل أبا سفيان عن أحوال تجب أن تكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو ينزه عنها، وكان هرقل عارفا بذلك، فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله من ذلك.
فرأى هرقل أنه نبي لا محالة مع أنه كان حزّاء ينظر في علم النجوم، وكان عنده علم من القرآن الكائن قبل الملّة بظهور الملة والعرب، فاستيقن بنبوّته وصحة ما يدعو إليه حسبما ذكره البخاري في صحيحه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بن أبي شمّر الغسّانيّ ملك غسّان بالبلقاء من أرض الشام وعامل قيصر على العرب مع شجاع بن وهب الأسديّ يدعوه إلى الإسلام، قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق يهيئ النزل لقيصر حين جاء من حمص إلى إيلياء، فشغل عني إلى أن دعاني ذات يوم وقرأ كتابي وقال: من ينتزع مني ملكي أنا سائر إليه ولو كان باليمن. ثم أمر بالخيول تنعل، وكتب بالخبر إلى قيصر، فنهاه عن المسير ثم أمرني بالانصراف وزوّدني بمائة دينار.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من الهجرة جيشه الى الشام وهي غزوة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف وأمّر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب فجعفر فعبد الله من رواحة. فانتهوا إلى معان من أرض الشام، ونزل هرقل صاب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم. وانضمت إليه جموع جذام والغيد وبهرام وبلى، وعلى بلى مالك بن زافلة، ثم زحف المسلمون إلى البلقاء ولقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب على مؤتة فكان التمحيص والشهادة، واستشهد زيد ثم جعفر ثم عبد الله، وانصرف خالد بن الوليد بالناس فقدموا المدينة. ووجد النبيّ صلى الله عليه وسلم على من قتل من المسلمين ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده.
ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم فكانت غزوة تبوك، فبلغ تبوك وأتاه صاحب أيلة وجرباء وأذرح وأعطوا الجزية وصاحب أيلة يومئذ يوحنّا بن رؤبة بن نفاثة أحد بطون جذام وأهدى له بغلة بيضاء، وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل وكان بها أكيدر بن عبد الملك فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة فأسروه وقتلوا أخاه وجاءوا به إلي النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وردّه الى قريته. وأقام بتبوك بعض عشرة ليلة وقفل إلى المدينة وبلغ خبر يوحنّا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته أهـ من غير ابن العميد.(2/267)
ورجعنا إلى كلامه قال: وفي الثالثة عشرة من الهجرة جهّز أبو بكر العساكر من المسلمين العرب لفتح الشام: عمرو بن العاص لفلسطين، ويزيد بن أبي سفيان لحمص، وشرحبيل بن حسنة للبلقاء، وقائدهم أبو عبيدة بن الجرّاح. وبعث خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة فلقيه ماهاب البطريق في جموع الروم، فهزمهم خالد إلى دمشق ونزل مرجع [1] الصفراء، ثم أخذوا عليه الطريق ونازلوه ثانية فتجهز إلى جهة المسلمين وقتل ابنه. وبعث أبو بكر خالد بن الوليد بالعراق يسير إلى الشام أميرا على المسلمين فسار ونزل معهم دمشق وفتحوها كما نذكر في الفتوحات. وزحف عمرو بن العاص إلى غيره ولقيته الروم هنالك فهزمهم وتحصّنوا ببيت المقدس وقيساريّة.
ثم زحف عساكر الروم من كل جانب في مائتين وأربعين ألفا والمسلمون في بضع وثلاثين ألفا، والتقوا باليرموك فانهزم الروم وقتل منهم من لا يحصى وذلك في خامسة عشر من الهجرة. ثم تتابعت عليهم الهزائم ونازل أبو عبيدة وخالد بن الوليد حمص فصالحوهم على الجزية. ثم سار خالد إلى قنّسرين فلقيه منياس البطريق في جموع الروم فهزمهم، وقتل منهم خلق كثير وفتح قنّسرين ودوّخ البلاد، ثم سار عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فحاصروا مدينة الرملة وجاء عمر بن الخطاب إلى الشام فعقد لأهل الرملة الصلح على الجزية، وبعث عمرا وشرحبيل لحصار بيت المقدس فحاصروها، ولما أجهدهم البلاء طلبوا الصلح على أن يكون أمانهم من عمر نفسه، فحضر عندهم وكتب أمانهم ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب لأهل إيلياء إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم ونسائهم وجميع كنائسهم لا تسكن ولا تهدم» أهـ.
ودخل عمر بن الخطاب بيت المقدس وجاء كنيسة القمامة [2] فجلس في صحنها، وحان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة، فقال له: صلّ موضعك، فامتنع وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا، فلمّا قضى صلاته قال للتبرك لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر، وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها. ثم قال للبترك أرني موضعا أبني فيه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: موضع الصفراء.
[2] هي كنيسة القيامة.(2/268)
مسجدا فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دما كثيرا فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه في ثوبه، واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه، وأمر ببناء المسجد. ثم بعث عمرو بن العاص إلى مصر فحاصرها وأمدّه بالزبير بن العوام في أربعة آلاف من المسلمين فصالحهم المقوقس [1] على الجزية، ثم سار إلى الاسكندرية فحاصرها وافتتحها.
وفي السابعة عشر من الهجرة جاء ملك الروم إلى حمص في جموع النصرانية وبها أبو عبيدة فهزمهم واستلحمهم، ورجع هرقل إلى أنطاكية، وقد استكمل المسلمون فتح فلسطين وطبرية والساحل كله. واستنفر العرب المتنصّرة من غسّان ولخم وجذام وقدم عليهم ماهاب البطريق وبعثه للقاء العرب، وكتب إلى عامله على دمشق منصور بن سرحون أن يمدّه بالأموال، وكان يحقد عليه نكبته من قبل، واستصفى ماله حين أفرج الفرج عن حصاره بالقسطنطينية لأول ولايته، فاعتذر العامل للبطريق عن المال وهوّن عليه أمر العرب. فسار من دمشق للقائهم ونازلهم بجابية الخولان، ثم اتبعه العامل ببعض مال جهزه للعساكر، وجاء العسكر ليلا وأوقد المشاعل وضرب الطبول ونفخ البوقان، فظنهم الروم عسكر العرب جاءوا من خلفهم وأنهم أحيط بهم، فأجفلوا وتساقطوا في الوادي وذهبوا طوائف إلى دمشق وغيرها من ممالك الروم، ولحق ماهاب بطور سيناء وترهّب إلى أن هلك. واتبع المسلمون الفل مع منصور إلى دمشق وحاصروها ستة أشهر فرّقوا على أبوابها. ثم طلب منصور العامل الأمان للروم من خالد فأمّنه، ودخل المدينة من الباب الشرقي، وتسامع الروم الذين بسائر الأبواب فهربوا وتركوها، ودخل منها الأمراء الآخرون عنوة ومنصور ينادي بأمان خالد، فاختلف المسلمون قليلا ثم اتفقوا على أمان الروم الذين كانوا بالإسكندرية بعد ان افتتحها عمرو بن العاص ركبوا إليه البحر ووافوه بها.
ثم هلك هرقل لإحدى وعشرين من الهجرة ولإحدى وثلاثين من ملكه، فملك على الروم بقسطنطينية قسطنطين وقتله بعض نساء أبيه لستة أشهر من ملكه، وملك أخوه هرقل بن هرقل، ثم تشاءم به الروم فخلعوه وقتلوه وملّكوا عليهم قسنطينوس بن قسطنطين، فملك ست عشرة سنة ومات لسابعة وثلاثين من الهجرة. وفي أيامه غزا
__________
[1] وهو قيرس وزير هرقل وبطريرك الاسكندرية ومتولي شئون مصر لما فتحها عمرو بن العاص سنة 639 م.(2/269)
معاوية بلاد الروم سنة أربع وعشرين وهو يومئذ أمير على الشام في خلافة عمر بن الخطاب، فدوّخ البلاد وفتح منها مدنا كثيرة وقفل، ثم أغزى عساكر المسلمين إلى قبرص في البحر ففتح منها حصونا وضرب الجزية على أهلها سنة سبع وعشرين. وكان عمرو بن العاص لما فتح الاسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان، فرجع بعد ثلاث عشرة من مغيبه، وكان ولّاه هرقل في أوّل الهجرة كما قدمنا. وملك الفرس مصر والاسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل، ثم غاب عن الكرسي عند ما ملك الفرس وقدموا الملكيّة، وبقي غائبا ثلاث عشرة سنة أيام الفرس عشرة وثلاث من ملكة المسلمين، ثم أمّنه عمرو بن العاص فعاد ثم مات في تاسعة وثلاثين من الهجرة، وخلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع عشرة سنة.
ولما هلك قسنطينوس بن قسطنطين في سابعة وثلاثين من الهجرة كما قلناه ملك على الروم في القسطنطينية ابنه يوطيانوس فمكث اثني عشرة سنة وتوفي سنة خمسين، فملك بعده طيباريوس ومكث سبع سنين، وفي أيامه غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في عساكر المسلمين وحاصرها مدّة ثم أفرج عنها، واستشهد أبو أيوب الأنصاري في حصارها ودفن في ساحتها [1] ، ولما قفل عنها توعدهم بتعطيل كنائسهم بالشام إن تعرّضوا لقبره.
ثم قتل طيباريوس قيصر سنة ثمان وخمسين وملك أوغسطس قيصر، وفي أيام ولايته مات أغاثوا بطرك اليعاقبة القبط باسكندرية وقدم مكانه يوحنّا. ثم قتل أوغسطس قيصر ذبحه بعض عبيده سنة [2] ، وملك ابنه أصطفانيوس وكان لعهد عبد الملك بن مروان. وفي سنة خمس وستين من الهجرة زاد عبد الملك في المسجد الأقصى وأدخل الصخرة في الحرم. ثم خلع أصطفانيوس ثم ملك بعده لاون ومات
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 459: «وتوفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به..» .
[2] لم يحدد ابن الأثير السنة التي ملك فيها أوغسطس ولا السنة التي توفي فيها وهناك تباين في الأسماء يقول:
«ثم ملك قسطنطين بن قسط ثلاث عشرة سنة بعض أيام معاوية وأيام يزيد وابنه معاوية ومروان بن الحكم وصدرا من أيام عبد الملك. ثم ملك اسطيناس المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه، ثم ملك بعده لونطيش ثلاث سنين أيام عبد الملك ... » . اما ابن أبي اصيبعة فيقول في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء عن اوسابيوس القيسراني الّذي كان اسقف قيسارية:
«وملك بعد يوليوس قيصر اوغسطس قيصر وكانت مدته ستا وخمسين سنة وستة أشهر وفي سنة ثلاث وأربعين من ملكه ولد المسيح عليه السلام» .(2/270)
سنة ثمان وسبعين، وملك طيباريوس سبع سنين ومات سنة ست وثمانين، فملك سطيانوس وذلك في أيام الوليد بن عبد الملك، وهو الّذي بنى مسجد بني أمية بدمشق، يقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعمائة عشر ألف دينار، وكان فيه من جملة الفعلة اثنا عشر ألف مرخّم، ويقال كانت فيه ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل فكانت تغشى عيون الناظرين وتفتن المسلمين فأزالها عمر بن عبد العزيز وردّها إلى بيت المال. وكان الوليد لما اعتزم على الزيادة في المسجد أمر بهدم كنيسة النصارى وكانت ملاصقة للمسجد فأدخلها فيه، وهي معروفة عندهم بكنيسة مار يوحنّا، ويقال إنّ عبد الملك طلبهم في ذلك فامتنعوا، وإن الوليد بذل لهم فيها أربعين ألف دينار فلم يقبلوا، فهدمها ولم يعطهم شيئا، وشكوا أمرها إلى عمر بن عبد العزيز وجاءوه بكتاب خالد بن الوليد وعهده أن لا تخرّب كنائسهم ولا تسكن، فراودهم على أخذ الأربعين ألفا التي بذل لهم الوليد فأبوا، فأمر أن تردّ عليهم فعظم ذلك على الناس، وكان قاضيه أبو داريس [1] الخولانيّ فقال لهم: تتركون هذه الكنيسة في الكنائس التي في [2] العنوة في المدينة وإلا هدمناها، فأذعنوا وكتب لهم عمر الأمان على ما بقي من كنائسهم.
وفي سنة ست وسبعين بعث كاتب الخراج إلى سليمان بن عبد الملك بأنّ مقياس حلوان بطل فأمر ببناء مقياس في الجزيرة بين الفسطاط والجزيرة فهو لهذا العهد.
وفي سنة إحدى ومائة من الهجرة ملك تدّاوس على الروم سنة ونصفا، ثم ملك بعده لاون أربعا وعشرين سنة، وبعده ابنه قسطنطين. وفي سنة ثلاث عشرة ومائة غزا هشام بن عبد الملك الصائفة اليسرى، وأخوه سلمان الصائفة اليمنى، ولقيهم قسطنطين في جموع الروم فانهزموا وأخذ أسيرا ثم أطلقوه بعد. وفي أيام مروان بن محمد وولاية موسى بن نصير لقي النصارى بالإسكندرية ومصر شدّة وأخذوا بغرامة المال واعتقل بطرك الاسكندرية أبي ميخايل، وطلب بجملة من المال فبذلوا موجودهم وانطلقوا يستسعون ما يحصل لهم من الصدقة، وبلغ ملك النوبة ما حل بهم فزحف في مائة ألف من العساكر إلى مصر، فخرج إليه عامل مصر، فرجع من غير قتال. وفي أيام
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ابو إدريس الخولانيّ.
[2] كذا بياض بالأصل ولم يذكر ابن الأثير ولا الطبري ومقتضى سياق الجملة: «في الكنائس التي تركت لكم وكانت من الأماكن التي أخذت عنوة في المدينة» .(2/271)
هشام ردّت كنائس الملكيّة من أيدي اليعاقبة، وولي عليهم بطرك قريبا من مائة سنة، وكانت رياسة البطرك فيها لليعاقبة وكانوا يبعثون الأساقفة للنواحي، ثم صارت النوبة من ورائهم للحبشة يعاقبة.
ثم ملك بالقسطنطينية رجل من غير بيت الملك اسمه جرجس، فبقي أيام السفّاح والمنصور وأمره مضطرب، ثم مات وملك بعده قسطنطين بن لاون وبنى المدن وأسكنها أهل أرمينية وغيرها. ثم مات قسطنطين بن لاون وملك ابنه لاون، ثم هلك لاون وملك بعده نقفور.
وفي سنة سبع وثمانين ومائة غزا الرشيد هرقلة ودوّخ جهاتها، وصالحه نقفور ملك الروم على الجزية فرجع إلى الرقة وأقام شاتيا وقد كلب البرد، وأمن نقفور من رجوعهم فانتقض، فعاد إلى الرشيد وأناخ عليه حتى قرّر الموادعة والجزية عليه ورجع.
ودخلت عساكر الصائفة بعدها من درب الصفصاق فدوّخوا أرض الروم، وجمع نقفور ولقيهم فكانت عليه هزيمة شنعاء قتل فيها أربعون ألفا ونجا نقفور جريحا. وفي سنة تسعين ومائة دخل الرشيد بالصائفة إلى بلاد الروم في مائة وخمسة وثلاثين ألفا سوى المطوّعة، وبث السرايا في الجهات، وأناخ على هرقلة ففتحها، وبلغ سبيها ستة عشر ألفا، وبعث نقفور بالجزية فقبل وشرط عليهم أن لا يعمر هرقلة.
وهلك نقفور في خلافة الأمين وولي ابنه أستبران قيصر، وغزا المأمون سنة خمس عشرة ومائتين إلى بلاد الروم ففتح حصونا عدّة ورجع إلى دمشق. ثم بلغه أنّ ملك الروم غزا طرسوس والمصيصة وقتل منها نحوا من ألف وستمائة رجل، فرجع وأناخ على أنطواغوا حتى فتحها صلحا، وبعث المعتصم ففتح ثلاثين من حصون الروم، وبعث يحيى بن أكثم بالعساكر فدوّخ أرضهم، ورجع المأمون إلى دمشق. ثم دخل بلاد الروم وأناخ على مدينة لؤلؤة مائة يوم وجهّز إليها العساكر مع عجيف مولاه، ورجع ملك الروم فنازل عجيفا، فأمدّه المأمون بالعسكر فرحل عنه ملك الروم وافتتح لؤلؤة صلحا. ثم سار المأمون إلى بلاد الروم ففتح سلعوس والبروة وبعث ابنه العبّاس بالعساكر فدوّخ أرضهم وبنى مدينة الطوليّة ميلاد في ميل وجعل لها أربعة أبواب. ثم دخل غازيا بلاد الروم ومات في غزاته سنة ثمان عشرة ومائتين. وفي أيامه غلب قسطنطين على مملكة الروم وطرد ابن نقفور عنها، وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين فتح المعتصم عمّورية وقصّتها معروفة في أخباره. أهـ كلام ابن العميد. وأغفلنا من(2/272)
كلامه أخبار البطاركة من لدن فتح الاسكندرية لأنّا رأيناه مستغنى عنه وقد صارت بطركيتهم الكبرى التي كانت بالإسكندرية بمدينة رومة، وهي هنالك للملكيّة ويسمّونه البابا ومعناه أبوا الآباء، وبقي ببلاد مصر بطرك اليعاقبة على المعاهدين من النصارى بتلك الجهات وعلى ملوك النوبة والحبشة.
وأمّا المسعودي فذكر ترتيب هؤلاء القياصرة من بعد الهجرة والفتح كما ذكره ابن العميد، قال: والمشهور بين الناس أنّ الهجرة وأيام الشيخين كان ملك الروم فيها لهرقل، قال: وفي كتب أهل السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعده ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر، ثم هرقل بن قيصر أيام عمر، وعليه كان الفتح وهو المخرج من الشام أيام أبي عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فاستقرّ بالقسطنطينية. وبعده مورق بن هرقل أيام عثمان، وبعده مورق بن مورق أيام علي ومعاوية، وبعده قلفط بن مورق آخر أيام معاوية وأيام يزيد ومروان بن الحكم وكان معاوية يراسله ويراسل أباه مورق، وكانت تختلف إليه علامة نياق وبشّره مورق بالملك وأخبره أنّ عثمان يقتل وأنّ الأمر يرجع إلى معاوية، وهادي ابنه قلفط حين سار إلى حرب عليّ رضي الله عنه، ثم نزلت جيوش معاوية مع ابنه الزيد قسطنطينية وهلك عليها في حصاره أبو أيوب الأنصاري. ثم ملك من بعد قلفط بن مورق لاون بن قلفط أيام عبد الملك بن مروان، وبعده جيرون بن لاون أيام الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز. ثم غشيهم المسلمون في ديارهم وغزوهم في البر والبحر، ونازل مسلمة القسطنطينية، واضطرب ملك الروم وملّك عليهم جرجيس بن مرعش وملك تسع عشرة سنة ولم يكن من بيت الملك. ولم يزل أمرهم مضطربا إلى أن ملك عليهم قسطنطين بن ألبون وكانت أمّه مستبدّة عليه لمكان صغره، ومن بعده نقفور بن استيراق أيام الرشيد وكانت له معه حروب وغزاه الرشيد فأعطاه الانقياد ودفع إليه الجزية، ثم نقض العهد فتجهّز الرشيد إلى غزوة ونزل هرقلة وافتتحها سنة تسعين ومائة وكانت من أعظم مدائن الروم، وانتقاد نقفور بعد ذلك وحمل الشروط. وملك بعده استيراق بن نقفور أيام الأمين، وغلب عليه قسطنطين ابن قلفط وملك أيام المأمون، وبعده نوفيل أيام المعتصم واستردّ زبطرة ونازل عمّورية وافتتحها وقتل من كان بها من أمم النصرانية. ثم ملك ميخايل بن نوفيل أيام الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين، ثم تنازع الروم وملكوا عليهم نوفيل بن ميخاييل،(2/273)
ثم غلب على الملك بسيل الصقلبي ولم يكن من بيت الملك وكان ملكه أيام المعتز والمهتدي وبعضا من أيام المعتمد، ومن بعده إليون بن بسيل بقية أيام المعتمد وصدرا من أيام المعتضد. ومن بعده الإسكندروس ونقموا سيرته فخلعوه وملّكوا أخاه لاوي بن إليون بقية أيام المعتضد والمكتفي وصدرا من أيام المقتدر، ثم هلك وملك ابنه قسطنطين صغيرا وقام بأمره أرمنوس بطريق البحر وزوّجه ابنته ويسمى الدمستق وهو الّذي كان يحارب سيف الدولة ملك الشام من بني حمدان، واتصل ذلك أيام المقتدر والقاهر والراضي والمتّقي. وافترق أمر الروم وأقام بعض بطارقتهم ويعرف أستفانس في بعض النواحي وخوطب بالملك أرمنوس بطركا بكرسي القسطنطينية. إلى هنا انتهى كلام المسعودي. وقال عقبه: فجميع سني الروم المتنصرة من أيام قسطنطين بن هلانة إلى عصرنا وهو حدود الثلاثمائة والثلاثين للهجرة خمسمائة سنة وسبع سنين، وعدد ملوكهم أحد وأربعون ملكا، قال: فيكون ملكهم إلى الهجرة مائة وخمسا وسبعين سنة. أهـ كلام المسعودي.
وفي تاريخ ابن الأثير: إنّ أرمانوس لما مات ترك ولدين صغيرين، وكان الدمستق على عهده قوقاش وملك ملطية من يد المسلمين بالأمان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وكان أمر الثغور لسيف الدولة بن حمدان، وملك قوقاش مرعش وعرزرية وحصونهما وأوقع بجابية طرسوس مرارا، وسار سيف الدولة في بلادهم فبلغ خرشنة وصارخة ودوّخ البلاد وفتح حصونا عدّة ثم رجع. ثم ولّى أرمانوس نقفور دمستقا، واسم الدمستق عندهم على من يلي شرقي الخليج حيث ملك ابن عثمان لهذا العهد، فأقام نقفور دمستقا، وهلك أرمانوس وترك ولدين صغيرين، وكان نقفور غائبا في بلاد المسلمين فلمّا رجع اجتمع إليه زعماء الروم وقدّموه لتدبير أمر الولدين وألبسوه التاج، وسار إلى بلاد المسلمين سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة إلى حلب فهزم سيف الدولة وملك البلد وحاصر القلعة فامتنعت عليه، وقتل ابن أخت الملك في حصارها فقتل جميع الأسرى الذين عنده.
ثم بنى سنة ست وخمسين مدينة بقيسارية ليجلب منها على بلاد الإسلام، فخافه أهل طرسوس واستأمنوا إليه فسار إليهم وملكها بالأمان وملك المصيصة عنوة. ثم بعث أخاه في العساكر سنة تسع وخمسين إلى حلب فملكها، وهرب أبو المعالي بن سيف الدولة إلى البرية، وصالحه مرعويه بعد أن امتنع بالقلعة ورجع. ثم أن أمّ(2/274)
الملكين ابني أرمانوس اللذين كانا مكفولين له، استوحشت منه وداخلت في قتله ابن الشميشق فقتله سنة ستين. وقام ابن أرمانوس الأكبر وهو بسيل بتدبير ملكه، وجعل ابن الشميشق دمستقا وقام على الأورق أخي نقفور، وعلى ابنه ورديس بن لاون واعتقلهما. وسار إلى الرّها وميافارقين، وعاث في نواحيهما، وصانعه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل بالمال فرجع. ثم خرج سنة اثنتين وستين، فبعث أبو تغلب ابن عمه أبا عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره وأطلقه. وكان لأمّ بسيل أخ قام بوزارتها فتحيّل في قتل ابن الشميشق بالسّمّ.
ثم ولّى بسيل بن أرمانوس سقلاروس دمستقا، فعصى عليه سنة خمس وستين وطلب الملك لنفسه، وغلبه بسيل. ثم خرج على بسيل ورد بن منير من عظماء البطارقة، واستجاش بأبي تغلب بن حمدان وملكوا الأطراف، وهزم عساكر بسيل مرّة بعد مرّة، فأطلق ورديس لاون وهو ابن أخي نقفور من معقلة وبعثه في العساكر لقتاله فهزمه ورديس، ولحق ورد بن منير بميافارقين صريخا بعضد الدولة، وراسله بسيل في شأنه فجنح عضد الدولة إلى بسيل وقبض على ورديس واعتقله ببغداد، ثم أطلقه ابنه صمصام الدولة لخمس سنين من اعتقاله، وشرط عليه إطلاق أسرى المسلمين، والنزول عن حصون عدّة من معاقل الروم، وأن لا يغير على بلاد الإسلام. وسار فاستولى على ملطية ومضى إلى القسطنطينية فحاصرها وقتل ورديس بن لاون، واستنجد بسيل بملك الروم وزوّجه أخته ثم صالح وردا على ما بيده. ثم هلك ورد بعد ذلك بقليل واستولى بسيل على أمره وسار إلى قتال البلغار فهزمهم وملك بلادهم وعاث فيها أربعين سنة. واستمدّه صاحب حلب أبو الفضائل بن سيف الدولة، فلما زحف إليه منجوتكين صاحب دمشق من قبل الخليفة بمصر سنة إحدى وثمانين، فجاء بسيل لمدده وهزمه منجوتكين ورجع مهزوما ورجع منجوتكين الى دمشق، ثم عاود الحصار فجاء بسيل صريخا لأبي الفضائل فأجفل منجوتكين من مكانه على حلب، وسار إلى حمص وشيزر فملكها وحاصر طرابلس، وصالحه ابن مروان على ديار بكر. ثم بعث الدوقس الدمستق إلى أمامه فبعث إليه صاحب مصر أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان في العساكر فهزمه وقتله.
ثم هلك بسيل سنة عشر وأربعمائة لنيّف وسبعين من ملكه وملك بعده أخوه قسطنطين وأقام تسعا ثم هلك عن ثلاث بنات، وفملّك الروم عليهم الكبرى منهنّ وأقام بأمرها(2/275)
ابن خالها أرمانوس وتزوّجت به فاستولى على مملكة الروم. وكان خاله ميخاييل متحكما في دولته ومداخلا لأهله فمالت إليه الملكة وحملته على قتل أرمانوس، فقتله واستولى على الأمر. ثم أصابه الصرع وأذاه فعمد لابن أخته واسمه ميخاييل أيضا وكان أرمانوس قد خرج سنة إحدى وعشرين إلى حلب في ثلاثة آلاف مقاتل، ثم خار عن اللقاء فاضطرب ورجع واتبعه العرب فنهبوا عساكره، وكان معه ابن الدوقس من عظماء البطارقة فارتاب وقبض عليه. وخرج سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في جموع الروم فملك الرّها وسروج وهزم عساكر ابن مروان.
ولما ملك ميخاييل سار إلى بلاد الإسلام فلقيه الدربريّ صاحب الشام من قبل العلويّة فهزمه واقتصر الروم بعدها عن الخروج إلى بلاد الإسلام. وملّك ميخاييل ابن أخته كما قلناه وقبض على أخواله وقرابتهم وأحسن السيرة في المملكة، ثم طلب زوجته في الخلع فأبت، فنفاها إلى بعض الجزائر واستولى على المملكة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ونكر عليه البترك ما وقع فيه فهمّ بقتله ودخل بعض حاشيته في ذلك، ونمى الخبر الى البترك فنادى في النصرانية بخلعه وحاصره في قصره واستدعى الملكة التي خلعها ميخاييل من مكانها وأعادوها إلى الملك فنفت ميخاييل كما نفاها أوّلا.
ثم اتفق البترك والروم على خلع الملكة بنت قسطنطين وملّكوا أختها الأخرى تودورة وسلّموا ميخاييل لها، ثم وقعت الفتنة بين شيعة تودورة وشيعة ميخاييل واتصلت، وطلب الروم أن يملكوا عليهم من يمحو هذه الفتنة وأقرعوا على المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين منهم فملّكوه أمرهم، وتزوّج بالملكة الصغيرة تودورة وجعلت أختها الكبرى على ما بذلته لها وذلك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي قسطنطين سنة ست وأربعين، وملك على الروم أرمانوس وقارن ذلك بظهور الدولة السّلجوقيّة واستيلاء طغرلبك على بغداد، فردّد الغزو إليهم من ناحية أذربيجان، ثم سار ابنه الملك آلب أرسلان وملك مدنا من بلاد الكرخ [1] منها مدينة آي وأثخن في بلادهم. ثم سار ملك الروم الى منبج وهزم ابن مرداس وابن حسّان وجموع العرب، فسار آلب أرسلان إليه سنة ثلاث وستين وخرج أرمانوس في مائتي ألف من الروم والعرب والدوس والكرخ ونزل على نواحي أرمينية، فزحف إليه آلب أرسلان من أذربيجان فهزمه وحصل في أسره ثم فاداه على مال يعطيه وأجروه عليه وعقد معه
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بلاد الكرج.(2/276)
صلحا. وكان أرمانوس لمّا انهزم وثب ميخاييل بعده على مملكة الروم، فلما انطلق من الأسر ورجع دفعه ميخاييل عن الملك والتزم أحكام الصلح الّذي عقده مع آلب أرسلان وترهب أرمانوس إلى هنا انتهى كلام ابن الأثير.
ثم استفحل ملك الافرنج بعد ذلك واستبدّوا بملك رومة وما وراءها، وكان الروم لما أخذوا بدين النصرانية حملوا عليه الأمم المجاورين لهم طوعا وكرها، فدخل فيه طوائف من الأمم منهم الأرمن وقد تقدّم نسبهم إلى ناحور أخي إبراهيم عليه السلام وبلدهم أرمينيّة وقاعدتها خلاط، ومنهم الكرج وهم من شعوب الروم وبلادهم الخزر ما بين أرمينية والقسطنطينية شمالا في جبال ممتنعة، ومنه الجركس في جبال بالعدوة الشرقية من بحر نيطش وهم من شعوب الترك، ومنهم الروس في جزائر ببحر نيطش وفي عدوته الشمالية ومنه البلغار نسبة إلى مدينة لهم في العدوة الشمالية أيضا من بحر نيطش، ومنهم البرجان أمّة كبيرة متوغلون في الشمال لا تعرف أخبارهم لبعدها، وهؤلاء كلهم من شعوب الترك.
وأعظم من أخذ به من الأمم الافرنج وقاعدة بلادهم فرنجة، ويقولون فرنسة بالسين وملكهم الفرنسيس، وهم في بسائط على عدوة البحر الرومي من شمالية وجزيرة الأندلس من ورائهم في المغرب تفصل بينهم وبينها جبال متوعرة ذات مسالك ضيقة يسمونها ألبون وساكنها الجلالقة من شعوب الافرنج، وهؤلاء فرنسة أعظم ملوك الافرنجة بالعدوة الشمالية من هذا البحر، واستولوا من الجزيرة البحرية منه على صقلّيّة وقبرص وأقريطش وجنوة، واستولوا أيضا على قطعة من بلاد الأندلس إلى برشلونه، واستفحل ملكهم بعد القياصرة الأول.
ومن أمم الافرنجة البنادقة وبلادهم حفافي خليج يخرج من بحر الروم متضايقا إلى ناحية الشمال ومغربا بعض الشيء على سبعمائة ميل من البحر وهذا الخليج مقابل لخليج القسطنطينية، وفي القرب منه وعلى ثمان مراحل من بلاد جنوة، ومن ورائها مدينة رومة حاضرة الافرنجة ومدينة ملكهم وبها كرسي البطرك الأكبر الّذي يسمونه البابا. ومن أمم الافرنجة الجلالقة وبلادهم الأندلس وهؤلاء كلهم دخلوا في دين النصرانية تبعا للروم إلى من دخل فيه منهم من أمم السودان والحبشة والنوبة، ومن كان على ملكة الروم من برابرة العدوة بالمغرب مثل نغزاوة وهوارة بإفريقية والمصامدة بالمغرب الأقصى، واستفحل ملك الروم ودين النصرانية.(2/277)
ولما جاء الله بالإسلام وغلب دينه على الأديان وكانت مملكة الروم قد انتشرت في حفافي البحر الرومي من عدوتيه، فانتزعوا منهم لأوّل أمرهم عدوته الجنوبية كلّها من الشام ومصر وإفريقية والمغرب وأجازوا من خليج طنجة فملكوا الأندلس كلّها من يد القوط والجلالقة وضعف أمر الروم وملكهم بعد الانتهاء إلى غايته شأن كل أمّة. ثم شغل الافرنجة بما دهمهم من العرب في الأندلس والجزائر بما كانوا يتخيمونهم ويردّدون الصوائف إلى بسائطهم أيام عبد الرحمن الداخل وبنيه الأندلس، وعبد الله الشيعي وبنيه بإفريقية. وملكوا عليهم جزائر البحر الرومي التي كانت لهم مثل صقلّيّة وميورقة ودانية وأخواتها، إلى أن فشل ربح الدولتين وضعف ملك العرب، فاستفحل الافرنجة ورجعت لهم واسترجعوا ما ملكه المسلمون إلّا قليلا بسيف البحر الرومي مضايق العرض في طول أربع عشرة مرحلة واستولوا على جزائر البحر كلّها، ثم سموا إلى الشام وبيت المقدس مسجد أنبيائهم ومطلع دينهم فسربوا إليه آخر المائة الخامسة، وتواثبوا على الأمصار والحصون وسواحله. ويقال: إنّ المستنصر العبيديّ هو الّذي دعاهم لذلك وحرّضهم عليه لما رجى فيه من اشتغال ملوك السلجوقيّة بأمرهم، وإقامتهم سدا بينه وبينهم عند ما سموا إلى ملك الشام ومصر.
وكان ملك الافرنجة يومئذ اسمه بردويل [1] وصهره زجار [2] ملك صقلّيّة من أهل طاعته، فتظاهروا على ذلك وساروا إلى القسطنطينية سنة إحدى وتسعين ليجعلوها طريقا إلى الشام، فمنعهم ملك الروم يومئذ ثم أجازهم على أن يعطوه ملطية إذا ملوكها فقبلوا شرطه. ثم ساروا إلى بلاد ابن قلطمش، وقد استولى يومئذ على مرية وأعمالها وأرزن الروم وأقصر وسيواس، وافتتح تلك الأعمال كلّها عند هبوب ريح قومه على السلجوقيّة، ثم حدثت الفتنة بينهم وبين الروم بالقسطنطينية، واستنجد كل منهم بملوك المسلمين في ثغور الشام والجزيرة، وعظمت الفتن في تلك الآفاق ودامت الحال على ذلك نحوا من مائة سنة وملك الروم بالقسطنطينية في تناقص واضمحلال.
وكان زجار صاحب صقلّيّة يغزو القسطنطينية من البحر ويأخذ ما يجد في مرساها من سفن التجار وشواني [3] المدينة، ولقد دخل جرجي بن ميخاييل صاحب أسطوله الى
__________
[1] وهو بودوان.
[2] وفي نسخة اخرى: روجيه.
[3] الشونة: المركب المعد للجهاد.(2/278)
مينا القسطنطينية سنة أربع وأربعين وخمسمائة ورمى قصر الملك بالسهام، فكانت تلك أنكى على الروم من كل ناحية.
ثم كان استيلاء الإفرنج على القسطنطينية آخر المائة السادسة وكان من خبرها أنّ ملك الروم بالقسطنطينية أصهر إلى الفرنسيس عظيم ملوك الافرنج في أخته فزوّجها له الفرنسيس وكان له منها ابن ذكر، ثم وثب بملك الروم أخوه فسمله وملك القسطنطينية مكانه. ولحق الابن بخاله الفرنسيس صريخا [1] به على عمه فوجده قد جهز الأساطيل الارتجاع بيت المقدس، واجتمع فيها ثلاثة من ملوك الافرنجة بعساكرهم دوقس البنادقة صاحب المراكب البحرية وفي مراكبه كان ركوبهم، وكان شيخا أعمى نقّادا ذا ركب والمركس [2] مقدّم الفرنسيس وكيدفليد وهو أكبرهم، فأمر الفرنسيس بالجواز على القسطنطينة ليصلحوا بين ابن أخته وبين عمّه ملك الروم، فلمّا وصلوا إلى مرسى القسطنطينية، خرج عمّه وحار بهم فهزموه ودخلوا البلد وهرب الى أطراف البلد وقتل حاضروه وأضرموا النار في البلد، فاشتغل الناس بها وأدخل الصبي بشيعته، فدخل الافرنج معه وملكوا البلد وأجلسوا الصبي في ملكه وساء أثرهم في البلد، وصادروا أهل النعم وأخذوا أموال الكنائس، وثقلت ووطأتهم على الروم فعقلوا الصبي وأخرجوهم واستدعوا ملكهم عمّ الصبيّ من مكان مقرّه وملّكوه عليهم.
وحاصرهم الإفرنج فاستنجد بسليمان بن قليج أرسلان صاحب قونية وبلاد الروم شرقي الخليج، وكان في البلد خلق من الإفرنج، فقبل أن يصل سليمان ثاروا فيها وأضرموا النيران حتى شغل بها الناس، وفتحوا الأبواب فدخل الإفرنج واستباحوها ثمانية أيام حتى أقفرت، واعتصم الروم بالكنيسة العظمى منها وهي مموقيا [3] . ثم خرجت جماعة القسيسين والأساقفة والرهبان، وفي أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم أجمعين، ولم يراعوا لهم ذمّة ولا عهدا، ثم خلعوا الصبي واقترعوا ثلاثتهم على الملك فخرجت القرعة على كيدفليد كبيرهم فملّكوه على القسطنطينية وما يجاورها، وجعلوا لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل أقريطش ورودس وغيرهما، وللمركيس مقدم
__________
[1] أي مستغيثا.
[2] الدوقس وهو الدوق والمركس هو المركيز.
[3] هي كنيسة أياصوفيا أهـ.(2/279)
الفرنسيس البلاد التي في شرقي الخليج. ثم تغلّب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري ودفع عنها الإفرنج وبقيت بيده واستولى بعدها على القسطنطينية، وكان اسمه ميخاييل، وفي كتاب المؤيد صاحب حماة أنه أقام ببعض الحصون. ثم بنيت القسطنطينية وملكها وفّر الافرنج في مراكبهم وملك الروم وقتل الّذي كان ملكا قبله، وتوفي سنة إحدى وثمانين وستمائة وعقد معه الصلح المنصور قلاون صاحب مصر والشام لذلك العهد.
قال: وملك بعده ابنه ماند ويلقّب الدوقس وشهرتهم جميعا اللشكري [1] ثم انقرضت دولة بني قليج أرسلان، وملك أعمالهم التتر كما نذكر في أخبارهم، وبقي بني اللشكري ملوكا على القسطنطينية إلى هذا العهد، وملك شرقي الخليج بعد انقضاء دولة التتر من بلاد الروم ابن عثمان جقّ أمير التركمان، وهو الآن متحكّم على صاحب القسطنطينية ومتغلب على نواحيه من سائر جهاته. هذا ما بلغنا من أخبار الروم من أوّل دولتهم منذ يونان والقياصرة لهذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالأندلس الى حين الفتح الإسلامي وأوّلية ذلك ومصايره
هذه الأمة من أمم أهل الدولة العظيمة المعاصرة لدول الطبقة الثانية من العرب وقد ذكرناهم عقب اللطينيين لأنّ الملك صار إليهم من بينهم كما ذكرناه، وسياقة الخبر عنهم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين [2] نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمّرونها بالمشرق فيما بين الفرس واليونان، وهم في نسبهم إخوة الصين من ولد ماغوغ بن يافث، وكانت لهم مع الملوك السريانيّين حروب موصوفة زحف إليهم فيها مومن مالي ملك سريان فدافعوه لعهد إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم كانت لهم حروب مع الفرس عند تخريب بيت المقدس وبناء رومة، ثم غلبهم الإسكندر وصاروا في ملكته واندرجوا في قبائل الروم ويونان. ثم لما ضعف أمر الروم بعد الإسكندر وتغلبوا على بلاد الغريقيّين ومقدونية ونبطة أيام غلبنوش بن بارايان من ملوك القياصرة وكانت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السلكري.
[2] وهم السكيثيون.(2/280)
بينه [1] وبينه حروب سجال، ثم غلبهم القياصرة من بعده وظفروا بهم، حتى إذا انتقل القياصرة إلى القسطنطينية وفشل أمرهم برومة زحف إليها هؤلاء القوط واقتحموها عنوة فاستباحوها. ثم خرجوا عنها أيام طودوشيش بن أركاديش [2] بعد حروب كثيرة، وكان أميرهم لذلك العهد أنطرك كما ذكرناه، ومات لعهد طودوشيش وأراد أن يجعل اسمه سمة الملوك برومة منهم مكان سمة قيصر، فاختلف عليه أصحابه في ذلك فرجع عنه، ثم صالح الرومانيين على أن يكون له ما يفتح من بلاد الأندلس لما كان امر الرومانيين قد ضعف عن الأندلس ولحق بها ثلاث طوائف من الغريقيّين فاقتسموا ملكها وهم الأبيون والشوانيّون والقندلش وباسم قندلس سميت الأندلس.
وكان بالأندلس من قبلهم الأرباريّون من ولد طوال بن يافث وهم إخوة الأنطاليس، سكنوها من بعد الطوفان وصاروا إلى طاعة أهل رومة، حتى دخل إليهم هؤلاء الطوالع من الغريقيين عند ما اقتحم القوط مدينة رومة وغلبوا الأمم الذين كانوا بها من ولد طوال. وقد يقال: إنّ هؤلاء الطوالع كلهم من ولد طوال بن يافث وليسوا من الغريقيّين، واقتسم هؤلاء الطوالع ملكها وكانت جليقية لقندلش ولشبونة وماردة وطليطلة ومرسية لشوانش وكانوا أشرافهم. وكانت إشبيليّة وقرطبة وجيان وطالعة للأبيق وأميرهم عندريقش أخو لشيقش أربعين سنة حين زحف إليهم القوط من رومة، وكان قد ولي عليهم بعد أطفانش ملك آخر منهم اسمه طشريك وقتله الرومانيون، وولي مكانه منهم ماستة ثلاث سنين وزوّج أخته من طودوشيش ملك الرومانيين وصالحه على أن يكون له ما يفتحه من الأندلس. ثم مات وولي مكانه لزريق ثلاث عشرة سنة وهو الّذي زحف إلى الأندلس وقتل ملوكها وطرد الطوائف الذين كانوا بها فأجازوا إلى طنجة وتغلبوا على بلاد البربر وصرفوا البربر الذين كانوا بالعدوة عن طاعة القسطنطين إلى طاعتهم، فلم يزالوا على ذلك إلى دولة يشتيانش [3] نحوا من ثمانين سنة، ثم هلك طورديق [4] ملك القوط بالأندلس وولي مكانه [5]
__________
[1] مقتضى السياق: كانت بينهم وبينه.
[2] وفي نسخة اخرى: طودوسيوس بن أركاديوس.
[3] وهو يوستنيانوس.
[4] وفي نسخة اخرى: طوريق.
[5] بياض بالأصل وهو أدولف.(2/281)
سبع عشرة سنة، وانتقض عليه البسكتس إحدى طوائف القوط فزحف إليهم وردّهم إلى طاعته ثم هلك.
وولي بعده الديك ثلاثا وعشرين سنة، وكانت الافرنج لعهده قد طمعوا في ملك الأندلس وأن يغلبوا عليها القوط، فجمعوا لهم وملكوا على أنفسهم منهم، فزحف إليهم الديك في أمم القوط إلى أن توغل في بلاد الافرنج فغلبوه وقتلوه وعامة أصحابه.
وكانت القوط قبل دخولهم إلى الأندلس فرقتين كما ذكرنا في دولة بلنسيان بن قسطنطين من القياصرة المتنصّرة، وكانت إحدى الفرقتين قد أقامت بمكانها من نواحي رومة فلما بلغهم خبر الديك صاحب الأندلس منهم امتعضوا لذلك، وكان أميرهم طورديك منهم، فزحف إلى الافرنج وغلبهم على ما كانوا لملكونه من الأندلس، ودخل القوط الذين كانوا بالأندلس في طاعته فولّى عليهم ابنه أشتريك ورجع إلى مكانه من نواحي رومة، فزحف الافرنج إلى محاربة أشتريك حتى غلبوه على طلوسة من ناحيتهم.
وهلك أشتريك بعد خمس سنين من ملكه وولي عليهم بعده بشليقش أربع سنين، ثم بعده طودريق إحدى وستين سنة وقتله بعض أصحابه بأشبيليّة، وولي بعده أبرليق خمس سنين، وبعده طودس ثلاث عشرة سنة، وبعده طودشكل سنتين، وبعده أيلة خمس سنين وانتقض عليه أهل قرطبة فحاربهم وتغلب عليهم. وبعده طنجاد خمس عشرة سنة، وبعده ليولة سنة واحدة، وبعده لوبليدة ثماني عشرة سنة وانتقضت عليه الأطراف فحاربهم وسكنهم ونكر عليه النصارى تثليث أريش وراودوه على الأخذ بتوحيدهم الذين [1] يزعمونه فأبى وحاربهم فقتل. وولي ابنه زدريق ست عشرة سنة ورجع إلى توحيد النصارى بزعمهم وهو الّذي بنى البلاد المنسوبة إليه بقرطبة. ولما هلك ولي بعده على القوط ليوبة سنتين، وبعده تبديقا عندمار سنتين، وبعده شيشوط ثماني سنين وعلى عهده كان هرقل ملك قسطنطينية والشام، ولعهده كانت الهجرة.
وهلك شيشوط ملك القوط وولي بعده زدريق آخر منهم ثلاثة أشهر، وبعده شتلة ثلاث سنين، وبعده سنشادش خمس سنين، وبعده خنشوند سبع سنين، وبعده وجنشوند ثلاثا وعشرين سنة، ولهذه العصور ابتدأ ضعف الأحكام للقوط. وبعده
__________
[1] مقتضى السياق: الّذي.(2/282)
مانيه ثمان سنين، وبعده لوري ثمان سنين، وبعده ايقه ست عشرة سنة، وبعده غطسة أربع عشرة سنة وهو الّذي وقع من قصته مع ابنه يليان عامل طنجة ما وقع.
ثم بعده زدريق سنتين وهو الّذي دخل عليه المسلمون وغلبوه على ملك القوط وملكوا الأندلس، ولذلك العهد كان الوليد بن عبد الملك حسبما نذكره عند فتح الأندلس إن شاء الله تعالى.
هذه سياقة الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش وهو أصح ما رأيناه في ذلك والله سبحانه وتعالى الموفق المعين بفضله وكرمه لا ربّ غيره ولا مأمول إلّا خيره.
الطبقة الثالثة من العرب وهم العرب التابعة للعرب وذكر افاريقهم وأنسابهم وممالكهم وما كان لهم من الدول على اختلافها والبادية والرحالة منهم وملكها
هذه الأمّة من العرب البادية أهل الخيام الذين لا إغلاق لهم لم يزالوا من أعظم أمم العالم وأكثر أجيال الخليقة، يكثرون الأمم تارة وينتهى إليهم العزّ والغلبة بالكثرة فيظفرون بالملك ويغلبون على الأقاليم والمدن والأمصار، ثم يهلكهم الترفه والتنعّم ويغلبون عليهم ويقتلون ويرجعون إلى باديتهم، وقد هلك المتصدّرون منهم للرئاسة بما باشروه من الترف ونضارة العيش وتصيير الأمر لغيرهم من أولئك المبعدين عنهم بعد عصور أخرى. هكذا سنّة الله في خلقه وللبادية منهم مع من يجاورهم من الأمم حروب ووقائع في كل عصر وجيل بما تركوا من طلب المعاش، وجعلوا طلب المعاش رزقهم في معاشهم بترصد السبيل وانتهاب متاع الناس.
ولما استفحل الملك للعرب في الطبقة الأولى للعمالقة، وفي الثانية للتبابعة، وكان ذلك عن كثرتهم فكانوا منتشرين لذلك العهد باليمن والحجاز ثم بالعراق والشام، فلما تقلّص ملكهم وكانوا [1] بالعراق منهم بقيّة أقاموا ضاحين [2] من ظل الملك. يقال في مبدإ كونهم هنالك أنّ بخت نصّر لمّا سلطه الله على العرب وعلى بني إسرائيل بما كانوا من بغيهم وقتلهم الأنبياء، قتل أهل الوبر بناحية عدن اليمن نبيّهم شعيب بن ذي
__________
[1] الأصح ان يقول: وكان بالعراق منهم بقية.
[2] بمعنى بعيدين.(2/283)
مهدم على ما وقع في تفسير قوله تعالى: «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ 21: 12» .
فأوحى الله إلى إرمياء بن حزقيّا وبرخيا أن يسيّرا بخت نصّر إلى العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم أن يقتل ولا يستحيى ويستلحمهم أجمعين ولا يبقى منهم أثرا، وقال بخت نصّر: وأنا رأيت مثل ذلك. وسار إلى العرب، وقد نظم ما بين أيلة والأبلّة خيلا ورجلا، وتسامع العرب بأقطار جزيرتهم واجتمعوا للقائه، فهزم عدنان أولا ثم استلحم الباقين ورجع إلى بابل، وجمع السبايا فأنزلهم بالأنبار ثم خالطهم بعد ذلك النبطة.
وقال ابن الكلبي: إنّ بخت نصّر لما نادى بغزو العرب افتتح أمره بالقبض على من كان في بلاده من تجّارهم للميرة وأنزلهم الحيرة، ثم خرج إليهم في العساكر فرجعت قبائل منهم إليه آثروا الإذعان والمسالمة، وأنزلهم بالسواد على شاطئ الفرات، وابتنوا موضع عسكرهم وسموه الأنبار، ثم أنزلهم الحيرة فسكنوها سائر أيامه ورجعوا إلى الأنبار بعد مهلكه.
قال الطبري: إن تبّعا أبا كرب لما غزا العراق أيام أردشير بهمن كانت طريقه على جبل طيِّئ ومنه إلى الأنبار، وانتهى إلى موضع الحيرة ليلا، فتحير وأقام فسمّي المكان الحيرة. ثم سار لوجهه وخلّف هنالك قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، وطنوا وبنوا ولحق بهم ناس من طيِّئ وكلب والسكون وإياد والحرث بن كعب فكانوا معهم.
وقيل وهو قريب من الأوّل: خرج تبّع في العرب حتى تحيروا بظاهر الكوفة فنزل بها ضعفاء الناس فسميت الحيرة، ولما رجع ووجدهم قد استوطنوا، تركهم هنالك وفيهم من كل قبائل العرب من هذيل ولخم وجعفي وطيِّئ وكلب وبني لحيان من جرهم.
قال هشام بن محمد: لما مات بخت نصّر انتقل الذين أسكنهم بالحيرة إلى الأنبار ومعهم من انضم إليهم من بني إسماعيل وبني معدّ وانقطعت طوالع العرب من اليمن عنهم، ثم كثر أولاد معدّ وفرقتهم العرب، وخرجوا يطلبون المنسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، ونزلت قبائل منهم البحرين وبها يومئذ قوم من الأزد نزلوها أيام خروج مزيقياء من اليمن، وكان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة وابن أخيهما مالك بن زهير وابن عمرو(2/284)
بن فهم في جماعة من قومهم والخنفار بن الحيق بن عمرو بن معدّ بن عدنان في قفص كلها ولحق بهم غطفان بن عمرو بن لطمان بن عبد مناف بن بعدم بن دعمي بن أياد بن أرقص بن صبيح بن الحارث بن أفصى بن دعمي وزهير بن الحرث بن أليل بن زهير بن أياد، واجتمعوا بالبحرين وتحالفوا على المقام والتناصر وأنهم يد واحدة، وكان هذا الاجتماع والحلف أزمان الطوائف، وكان ملكهم قليلا ومفترقا وكان كل واحد منهم يغير على صاحبه ويرجع على أكثر من ذلك. فتطلعت نفوس العرب بالبحرين إلى ريف العراق، وطمعوا في غلب الأعاجم عليه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا الخلاف الّذي كان بين الطوائف وأجمع رؤساؤهم المسير إلى العراق.
فسار منهم الأوّل الخنفار بن الحبق في أشلاء قفص بن معدّ ومن معهم من أخلاط الناس، فوجدوا بأرض بابل الى الموصل بني إرم بن سام الذين كانوا ملوكا بدمشق، وقيل لها من أجلهم دمشق إرم وهم من بقايا العرب الأولى، فوجدوهم يقاتلون ملوك الطوائف، فدفعوهم عن سواد العراق، فارتفعوا عنه إلى أشاء قفص، هؤلاء ينسبون إلى عمرو بن عديّ بن ربيعة جدّ بني المنذر عند نسابة مضر، وفي قول حمّاد الراوية كما يأتي ذكره. ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم وابن مالك بن زهير من قضاعة وغطفان بن عمرور وصبح بن صبيح وزهير بن الحرث من أياد فيمن معهم من غسّان وحلفائهم بالأنبار، وكلهم تنوخ كما قدمنا، فغلبوا بني إرم ودفعوهم عن جهات السواد. وجاء على أثرهم نمارة بن قيس ونمارة بن لخم نجدة من قبائل كندة، فنزلوا الحيرة وأوطنوها، وأقامت طالعة الأنبار وطالعة الحيرة لا يدينون للأعاجم ولا تدين لهم حتى مرّ بهم تبّع وترك فيهم ضعفة عساكره كما تقدّم، وأوطنوا فيهم من كل القبائل كما ذكرنا جعف وطيِّئ وتميم وبني لحيان من جرهم. ونزل كثير من تنوّخ ما بين الحيرة والأنبار بادين في الخيام لا يأوون إلى المدن ولا يخالطون أهلها، وكانوا يسمّون عرب الضاحية، وأوّل من ملكه منهم أزمان الطوائف مالك بن فهم، وبعده أخوه عمرو، وبعده ابن أخيه جذيمة الأبرش كما يأتي ذكر ذلك كله.
وكان أيضا ولد عمرو مزيقياء بعد خروجه من اليمن بالأزد قومه عند خروجه أنذرهم بسيل العرم في القصة المشهورة، وقد انتشروا بالشام والعراق وتخلّف من تخلّف منهم بالحجاز وهم خزاعة، فنزلوا مرّ الظهران وقاتلوا جرهما بمكّة فغلبوهم عليها، ونزل نصر بن الأزد عمان، ونزلت غسّان جبال الشراة، وكانت لهم حروب مع بني معدّ(2/285)
إلى أن استقروا هنالك في التخوم بين الحجاز والشام، هذا شأن من أوطن العراق والشام من قبائل سبا، تشاءم منهم أربعة وبقي باليمن ستة وهم مذجح وكندة والأشعريّون وحمير وأنمار وهو أبو خثعم وبجيلة، فكان الملك لهؤلاء باليمن في حمير ثم التبابعة منهم، ويظهر من هذا أنّ خروج مزيقياء والأزد كان لأوّل ملك التبابعة أو قبله بيسير.
وأمّا بنو معدّ بن عدنان فكان إرميا وبرخيا لما أوحي إليهما بغزو بخت نصّر العرب، وأمرهما الله أن يستخرجا معدّ بن عدنان لأنّ من ولده محمدا صلى الله عليه وسلم، أخرجه آخر الزمان أختم به النبيّين وأرفع به من الضعة، فأخرجاه على البراق وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وذهبا به إلى حرّان فربي عندهما. وغزا بخت نصّر العرب واستلحمهم وهلك عدنان وبقيت بلاد العرب خرابا، ثم هلك بخت نصّر فخرج معدّ بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل، فحجّوا جميعا وطفق يسأل عمن بقي من ولد الحرث بن مضاض الجرهميّ. وكانت قبائل دوس [1] أكثر جرهم على يده فقيل له بقي جرهم بن جلهة [2] ، فتزوّج ابنته معانة وولدت له نزار بن معدّ.
قال السهيليّ، وكان رجوع معدّ إلى الحجاز بعد ما رفع الله بأسه عن العرب، ورجعت بقاياهم التي كانت بالشواهق إلى مجالاتهم بعد أن دوّخ بخت نصّر بلادهم وخرّب معمورهم واستأصل حضورا وأهل الرسّ التي كانت سطوة الله بالعرب من أجلهم. أهـ. كلام السهيليّ.
ثم كثر نسل معدّ في ربيعة ومضر وأياد، وتدافعوا إلى العراق والشام، وتقدّم منهم أشاء قفص- كما ذكرنا- وجاءوا على أثرهم، فنزلوا مع أحياء اليمنيّة الذين ذكرناهم قبل، وكانت لهم مع تبّع حروب وهو الّذي يقول:
لست بالتّبع اليماني إن لم ... تركض الخيل في سواد العراق
أو تؤدّي ربيعة الخرج قسرا ... لم تعقها موانع العوّاق
ثم كان بالعراق والشام والحجاز أيام الطوائف ومن بعدهم في أعقاب ملك التبابعة اليمنية والعدنانية ملك ودول بعد أن درست الأجيال قبلهم وتبدّلت الأحوال السابقة
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وفي تاريخ الطبري ج 2 ص 191: وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهميّ وهو الّذي قاتل دوس العتق فافنى أكثر جرهم على يديه فقيل له: بقي جرشم بن جلهمة.
[2] وفي الكامل اسمه: جوشم بن جلهمة.(2/286)
لعصرهم، فاستحق بذلك أن يكون جيلا منفردا عن الأوّل، وطبقة مباينة للطباق السالفة. ولما لم يكن لهم أثر في إنشاء العروبيّة كما للعرب العاربة، ولا في لغتها عنهم كما في المستعربة، وكانوا تبعا لمن تبعهم في سائر أحوالهم استحقوا التسمية بالعرب التابعة للعرب. واستمرت الرئاسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآمادا بما كانت صبغتها لهم من قبل وأحياء مضر وربيعة تبعا لهم، فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسّان في بني جفنة، وبيثرب كذلك في الأوس والخزرج ابني قيلة. وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ظواعن بادية وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء، ثم نبضت عروق الملك في مضر وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز أزمنة عرف فيها منهم ودانت الدول بتعظيمهم. ثم صبح الإسلام أهل هذا الجيل وأمرهم على ما ذكرناه فاستحالت صبغة الملك إليهم، وعادت الدول لمضر من بينهم، واختصت كرامة الله بالنّبوّة بهم، فكانت فيهم الدول الإسلامية كلّها، إلّا بعضا من دولها قام بها العجم اقتداء بالملّة وتمهيدا للدّعوة حسبما نذكر ذلك كله.
فلنأت الآن بذكر قبائل هذه الطبقة من قحطان وعدنان وقضاعة، وما كان لكل واحدة منها من الملك قبل الإسلام وبعده: ومن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني في أخبار خزيمة بن نهد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة قال: كان بدء تفرّق بني إسماعيل من تهامة ونزوعهم عنها إلى الآفاق وخروج من خرج منهم عن نسبه، أنّ قضاعة كانوا مجاورين لنزار وكان خزيمة بن نهد فاسقا متعرّضا للنساء، فشبب بفاطمة بنت يذكر وهو عامر بن عنزة، وذكرها في شعره حيث يقول:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا
وحالت دون ذلك من هموم ... هموم تخرج الشجر الربينا
أري ابنة يذكر ظعنت فحلّت ... جنوب الحزن يا شحطا مبينا
وسخط ذلك يذكر خشية خزيمة على نفسه فاغتاله وقتله، وانطفت نار يذكر ولم يصح على خزيمة شيء تتوجه به المطالبة على قضاعة حتى قال في شعره:
فاه كان عند رضاب العصير ... ففيها يعلّ به الزنجبيل
قتلت أباها على حبّها ... فتبخل إن بخلت أو تقيل(2/287)
فلما سمعت نزار شعر خزيمة بن نهد وقتله يذكر بن عنزة، ثاروا مع قضاعة وتساندوا مع أحياء العرب الذين كانوا معهم، وكانت هذه مع نزار ونسبها يومئذ كندة بن جنادة بن معدّ، وجيرانهم يومئذ أجأ بن عمرو بن أدّ بن أدد ابن أخي عدنان بن أدد.
وكانت قضاعة تنتسب إلى معدّ ومعدّ إلى عدنان، والأشعريون إلى الأشعر بن أدد أخي عدنان، وكانوا يظعنون من تهامة إلى الشام ومنازلهم بالصفاع. وكانت عسقلان من ولد ربيعة، وكانت قضاعة ما بين مكة والطائف، وكندة من العمد إلى ذات عرق، ومنازل أجأ والأشعر ومعدّ ما بين جدّة والبحر. فلما اقتتلوا هزمت نزار قضاعة وقتل خزيمة وخرجوا مفترقين، فسارت تيم اللات من قضاعة وبعض بني رفيدة منهم وفرقة من الأشعريين نحو البحرين، ونزلوا هجر وأجلوا من كان بها من النبط وملوكها. وكانت الزرقاء بنت زهير كاهنة منهم فتكهنت لهم بنزول ذلك المكان والخروج عن تهامة وقالت في شعرها:
ودّع تهامة لا وداع مخالف ... بذمامه لكن قليّ وملام
لا تنكري هجرا مقام غريبة ... لن تعدمي من ظاعنين تهام
ثم تكهنت لهم في سجع بأنهم يقيمون بهجر حتى ينعق غراب أبقع عليه خلخال ذهبا ويقع على نخلة وصفتها فيسيرون إلى الحيرة، وكان في سجعها مقام وتنوخ فسمّيت تلك القبائل تنوخ من أجل هذه اللفظة. ولحق بهم قوم من الأزد فدخلوا في تنوخ وأصاب بقية قضاعة الموتان، وسارت فرقة من بني حلوان فنزلوا عبقرة من أرض الجزيرة ونسج نساؤهم البرود العبقرية من الصوف والبرود التزيدية إليهم لأنهم بنو تزيد، وأغارت عليهم الترك فأصابوا منهم، وأقبل الحرث بن قراد البهراني ليستجيش بني حلوان فعرض له أبان بن سليح صاحب العين فقتله الحرث ولحقت بهرا بالترك، فاستنقذوا ما أخذوه من بني تزيد وهزموهم وقال الحرث:
كأنّ الدهر جمّع في ليال ... ثلاث بينهنّ بشهرزور
صففنا للأعاجم من معدّ ... صفوفا بالجزيرة كالسعير
وسارت سليح بن عمرو [1] بن الحاف وعليهم الهدرجان بن مسلمة، حتى نزلوا فلسطين على بني أدينة بن السميدع بن عاملة، وسارت أسلم بن الحاف وهي عذرة ونهد وحويكة وجهينة حتى نزلوا بين الحجر ووادي القرى، وأقامت تنوخ بالبحرين
__________
[1] قوله سليح بن عمرو يأتي في مكان آخر سليح بن عمران قاله نصر.(2/288)
سنين. ثم أقبل الغراب بحلقتي الذهب ووقع على النخلة ونعق كما قالت الزرقاء فذكروا قولها وارتحلوا إلى الحيرة فنزلوها وهم أوّل من اختطها، وكان رئيسهم مالك بن زهير واجتمع إليه ناس كثيرة من بسائط القرى، وبنوا بها المنازل وأقاموا زمانا ثم أغار عليهم سابور الأكبر وقاتلوه، وكان شعارهم يا لعباد الله فسموا العبّاد. وهرمهم سابور فافترقوا، وسار أهل المهبط منهم مع الضيزن بن معاوية التنوخي فنزل بالحضر الّذي بناه الساطرون الجرمقاني، فأقاموا عليه. وأغارت حمير على قضاعة فأجلوهم وهم كلب. وخرج بنو زبّان بن تغلب بن حلوان فلحقوا بالشام، ثم أغارت عليهم كنانة بعد ذلك بحين واستباحوهم فلحقوا بالسماوة وهي إلى اليوم منازلهم. أهـ كلام صاحب الأغاني (قلت) : وأحياء جدّهم لهذا العهد ما بين عنزة وقلتة وفلسطين إلى معان من أرض الحجاز.
الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم
اعلم أنّ جميع العرب يرجعون إلى ثلاثة أنساب وهي عدنان وقحطان وقضاعة:
فأمّا عدنان: فهو من ولد إسماعيل بالاتفاق، إلّا ذكر الآباء الذين بينه وبين إسماعيل فليس فيه شيء يرجع إلى يقينه، وغير عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا فليس على وجه الأرض منهم أحد.
وأمّا قحطان: فقيل من ولد إسماعيل وهو ظاهر كلام البخاري في قوله، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، وساق في الباب قوله صلى الله عليه وسلم لقوم من أسلم يناضلون:
«ارموا يا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميا» . ثم قال: وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني وخزاعة من سبإ والأوس والخزرج منهم، وأصحاب هذا المذهب على أنّ قحطان ابن الهميسع بن أبين بن قيذار بن نبت بن إسماعيل.
والجمهور على أنّ قحطان هو يقطن [1] المذكور في التوراة في ولد عابر وأن حضرموت من شعوب قحطان.
__________
[1] ورد في التوراة: «وولد لعابر ابنان اسم أحدهما فالج لانه في أيامه انقسمت الأرض واسم أخيه يقطان الفصل العاشر من سفر التكوين.(2/289)
وأمّا قضاعة: فقيل إنّها حمير قاله ابن إسحاق والكلبي وطائفة. وقد يحتج لذلك بما رواه ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: يا رسول الله ممن نحن؟ قال: أنتم من قضاعة بن مالك. وقال عمرو بن مرّة وهو من الصحابة:
نحن بن والشيخ العجاز الأزهري ... قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر وقال زهير: قضاعية وأختها مضريّة، فجعلهما أخوين. وقال: إنهما من حمير بن معدّ بن عدنان. وقال ابن عبد البر: وعليه الأكثرون، ويروي عن ابن عبّاس وابن عمرو وجبير بن مطعم وهو اختيار الزبير بن بكّار وابن مصعب الزبيريّ وابن هشام. قال السهيليّ: والصحيح أنّ أمّ قضاعة وهي عبكرة مات عنها مالك بن حمير وهي حامل بقضاعة فتزوّجها معدّ وولدت قضاعة فتكنى به ونسب إليه وهو قول الزبير. أهـ كلام السهيليّ. وفي كتب الحكماء الأقدمين من يونان مثل بطليموس وهروشيوش ذكر القضاعيّين والخبر عن حروبهم، فلا يعلم أهم أوائل قضاعة هؤلاء وأسلافهم أو غيرهم، وربّما يشهد للقول بأنهم من عدنان وأنّ بلادهم لا تتصل ببلاد اليمن وإنما هي ببلاد الشام وبلاد بني عدنان. والنسب البعيد يحيل الظنون ولا يرجع فيه إلى يقين.
ولنبدأ بقحطان وبطونها: لما أنّ الملك الأقدم للعرب كان في نسب سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ومنه تشعب بطون حمير بن سبإ وكهلان بن سبإ وينفرد بنو حمير بالملك وكان منهم التبابعة أهل الدولة المشهورة وغيرهم كما نذكر. فلنبدأ بذكر حمير أولا من القحطانية، ونذكر بعدهم قضاعة لانتسابهم في المشهور إلى حمير، ثم نتبعهم بذكر كهلان إخوان حمير من القضاعيّة، ثم نرجع إلى ذكر عدنان.
الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها
قد تقدّم لنا ذكر الشعوب من حمير الذين كان لهم الملك قبل التبابعة فلا حاجة لنا إلى إعادة ذكرهم. وتقدّم لنا أنّ حمير بن سبإ كان له من الولد تسعة وهم:
الهميسع ومالك وزيد وعريب وواثل ومشروح ومعديكرب وأوس ومرّة، فبنو مرّةُ دخلوا إلى حضرموت، وكان من حمير أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع ابن حمير وإليهم تنسب عدن أبين، ومنهم بنو الأملوك وبنو عبد شمس وهما ابنا وائل ابن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير، وعريب وأبين أخوان. ومن بني عبد(2/290)
شمس بنو شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس، وقد تقدّم قول من ذهب إلى أنّ جشم وعبد شمس أخوان وهما ابنا وائل، والصحيح ما ذكرناه هنا فلنرجع وبنو خيران وشعبان وهما ابنا عمرو أخي شرعب بن قيس وزيد الجمهور بن سهل أخي خيران وشعبان، ورابعهم حسّان القيل بن عمرو وقد مرّ ذكره، ومن زيد الجمهور ذو رعين واسمه يريم بن زيد بن سهيل وإليه ينسب عبد كلال الّذي تقدّم ذكره في ملوك التبابعة. والحارث وعريب ابنا عبد كلال بن عريب بن يشرح بن مدان بن ذي رعين وهما اللذان كتب لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم كعب بن زيد الجمهور ويلقّب كعب الظلم وأبناء سبإ الأصغر بن كعب وإليه ينتهي نسب ملوك التبابعة. ومن زيد الجمهور بنو حضور بن عديّ بن مالك بن زيد وقد مرّ ذكرهم. وتقول اليمن إن منهم كان شعيب بن ذي مهدم النبي الّذي قتله قومه، فغزاهم بخت نصّر فقتلهم.
وقيل بل هو من حضور بن قحطان الّذي اسمه في التوراة يقطن. ومنهم أيضا بنو ميثم وبنو حالة ابني سعد بن عوف بن عدي بن مالك أخي ذي رعين، وعوف هذا أخو حضور وأخوه أحاظة وميثم بنو حراز بن سعد، فمن ميثم كعب الأحبار وقد مرّ ذكره، وهو كعب بن ماتع بن هلسوع لن ذي هجري بن ميثم. ومن أحاظة رهط ذي الكلاع وهو السميقع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن يزيد وهو ذو الكلاع الأكبر بن النعمان بن أحاظة، ومن عمرو بن سعيد الخبائر والسحول بنو سوادة بن عمرو بن الغوث بن سعيد يحصب، وذو أصبح أبرهة بن الصبّاح، وكان من ملوك اليمن لعهد الإسلام وقد مرّ ذكره ونسبه، ومنهم مالك بن أنس إمام دار الهجرة وكبير فقهاء السلف وهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر وهو نافع بن عمرو بن الحرث بن عثمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح وابناه يحيى ومحمد وأعمامه أويس، وأبو سهل والربيع، وكانوا حلفاء لبني تيم من قريش. ومن زيد الجمهور مرثد بن علس بن ذي جدن بن الحرث ابن زيد وهو الّذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد قاتلي أبيه.
ومن بني سبإ الأصغر الأوزاع وهم بنو مرثد بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبإ الأصغر، ومن إخوان هؤلاء الأوزاع بنو يعفر الذين استبدوا بملك اليمن كما يأتي عند ذكر ملوك اليمن في الدولة العبّاسيّة، وهو يعفر بن عبد الرحمن بن كريب بن عثمان بن الوضّاح بن إبراهيم بن مانع بن عون بن تدرص بن عامر بن ذي مغار البطين بن(2/291)
ذي مرايش بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن شدد بن زرعة. وكان آخر ملوك بني يعفر هؤلاء باليمن أبو حسّان أسعد بن أبي يعفر إبراهيم بن محمد بن يعفر ملك أبو إبراهيم صنعاء وبنى قلعة كحلان باليمن، وورث ملكه بنوه من بعده إلى أن غلب عليهم الصليحيّون من همدان بعدوة العبيديّين من الشيعة كما نذكر في أخبارهم. ومن زيد الجمهور ملوك التبابعة وملوك حمير من ولد صيفي بن سبإ الأصغر بن كعب بن زيد.
قال ابن حزم: فمن ولد صيفي هذا تبّع وهو تبان وهو أيضا أسعد أبو كرب بن كليكرب وهو تبّع بن زيد وهو تبّع بن عمرو وهو تبّع ذو الأذعار بن أبرهة وهو تبّع ذو المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي، قال: فولد تبّع أسعد أبو كرب حسّان ذو معاهر وتبّع زرعة وهو ذو نواس الّذي تهوّد وهوّد أهل اليمن، ويسمى يوسف، وقتل أهل نجران من النصارى. وعمرو بن سعد وهو موثبان، فقال: ومن هؤلاء التبابعة شمّر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، وأفريقش بن قيس بن صيفي، وبلقيس بنت إيلي أشرح بن ذي جدن بن إيلي أشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي. قال:
وفي أنساب التبابعة تخليط واختلاف ولا يصحّ منها ومن أخبارهم إلا القليل. أهـ.
ومن زيد الجمهور ذو يزن بن عامر بن أسلم بن زيد. وقال ابن حزم: إنّ عامر هو ذو يزن، قال ومن ولده: سيف بن النعمان بن عفير بن زرعة بن عفير بن الحرث بن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن، الّذي استجاش كسرى على الحبشة وأدخل الفرس إلى اليمن. هذه بطون حمير وأنسابها وديارهم باليمن من صنعاء إلى ظفار إلى عدن، وأخبار دولهم قد تقدّمت والله وارث الأرض ومن عليها وهو غير الوارثين.
ونلحق بالكلام في أنساب حمير بن سبإ أنساب حضرموت وجرهم وما ذكره النسّابون من شعوبهما: فإنّهم يذكرونهما مع حمير لأن حضرموت وجرهم إخوة سبإ كما وقع في التوراة وقد ذكرناه ولم يبق من ولد قحطان بعد سبإ معروف العقب غير هذين. فأمّا حضرموت فقد تقدّم ذكرهم في العرب البائدة ومن كان منهم من الملوك يومئذ، ونبّهنا هنالك أنّ منهم بقية في الأجيال المتأخرة اندرجوا في غيرهم فلذلك ذكرناهم في هذه الطبقة الثالثة. قال ابن حزم: ويقال إن حضرموت هو ابن يقطن أخي قحطان والله أعلم. وكان فيهم رياسة إلى الإسلام، منهم وائل بن حجر له(2/292)
صحبة وهو وائل بن حجر بن سعيد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن سعد بن عوف بن عديّ بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرّة بن حمير بن زيد بن لابي بن مالك بن قدامة بن أعجب بن مالك بن لابي بن قحطان، وابنه علقمة بن وائل. وسقط عنده بين حجر أبي وائل وسعيد ابن مسروق أب اسمه سعد وهو ابن سعيد. ثم قال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون فيقال إنّهم من ولد الجبّار بن علقمة بن وائل ومنهم علي المنذر بن محمد وابنه بقرمونة وإشبيليّة، اللذين قتلهما إبراهيم بن حجّاج اللخميّ غيلة، وهما ابنا عثمان أبي بكر بن خالد بن عثمان أبي بكر بن مخلوف المعروف بخلدون الداخل المشرق.
وقال غيره في خلدون الأوّل: إنه ابن عمرو بن خلدون. وقال ابن حزم في خلدون:
إنه ابن عثمان بن هانئ بن الخطّاب بن كريب بن معديكرب بن الحرث بن وائل بن حجر. وقال غيره: خلدون بن مسلم بن عمر بن الخطّاب بن هانئ بن كريب بن معديكرب بن الحرث بن وائل. قال ابن حزم: والصدف من بني حضرموت وهو الصدف [1] بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر، قال: ومن حضرموت العلاء بن الحضرميّ الّذي ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين وأبو بكر وعمر بن بعده إلى أن توفي سنة إحدى وعشرين، وهو العلاء بن عبد الله بن عبدة بن حمّاد بن مالك حليف بني أميّة بن عبد شمس وأخوه ميمون بن الحضرميّ ابن الصّدف. فيقال عبد الله بن حمّاد بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن أكبر بن عريب بن مالك بن الخزرج بن الصدف، قال وأخت العلاء الصعبة بنت الحضرميّ أمّ طلحة بن عبد الله أهـ.
وأمّا جرهم فقال ابن سعيد: إنهم أمّتان أمة على عهد عاد وأمة من ولد جرهم بن قحطان، ولمّا ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز، ثم ملك من بعده ابنه عبد ياليل بن جرهم، ثم ابنه جرشم بن عبد ياليل، ثم ملك من بعده ابنه عبد المدان بن جرشم، ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن نفيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه عمرو بن مضاض، ثم أخوه الحرث بن مضاض، ثم ابنه عمرو بن الحرث، ثم أخوه بشر بن الحرث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض. قال وهذه الأمة الثانية هم الذين بعث إليهم إسماعيل وتزوّج فيهم أهـ.
__________
[1] وولد الصدف حريما بالضم ويدعى بالاحروم وجذاما ويدعى بالاجزوم كما في القاموس (قاله نصر) .(2/293)
الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الّذي كان فيها
قد تقدّم آنفا ذكر الخلاف الّذي في قضاعة هل هم لحمير أو لعدنان ونقلنا الحجاج لكلا المذهبين وأتينا بذكر أنسابهم تالية حمير ترجيحا للقول بأنهم منهم، وعلى هذا فقيل هو قضاعة بن مالك بن حمير. وقال ابن الكلبي: قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حمير. وكان قضاعة فيما قال ابن سعيد ملكا على بلاد الشحر، وصارت بعده لابنه الحاف ثم لابنه مالك. ولم يذكر ابن حزم في ولد الحاف مالكا. قال ابن سعيد وكانت بين قضاعة وبين وائل بن حمير حروب، ثم استقل ببلاد الشحر مهرة بن حيدان بن الحاف بن قضاعة وعرفت به، قال وملك بنو قضاعة أيضا نجران ثم غلبهم عليها بنو الحرث بن كعب بن الأزد وساروا إلى الحجاز فدخلوا في قبائل معدّ، ومن هنا غلط من نسبهم إلى معدّ أهـ.
ولنذكر الآن تشعّب البطون من قضاعة: اتفق النسّابون على أنّ قضاعة لم يكن له من الولد إلّا الحافي ومنه سائر بطونهم، وللحافي ثلاثة من الولد: عمرو وعمران وأسلم بضم اللام قاله ابن حزم.
فمن عمرو بن الحافي حيدان وبلى وبهرا، فمن حيدان مهرة، ومن بلى جماعة من مشاهير الصحابة: منهم كعب بن عجرة وخديج بن سلامة وسهل بن رافع وأبو بردة ابن نيار، ومن بهرا جماعة من الصحابة أيضا منهم: المقداد بن عمرو وينسب إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب خال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي أمّه وتبنّاه فنسب إليه. ويقال إنّ خالد بن برمك مولى بني بهرا.
ومن أسلم سعد هذيم وجهينة ونهد بنو زيد بن ليث بن سود بن أسلم، فجهينة ما بين الينبع ويثرب إلى الآن في متّسع من برية الحجاز وفي شماليهم الى عقبة ايلة مواطن بلى وكلاهما على العدوة الشرقية من بحر القلزم وأجاز منهم أمم إلى العدوة الغربية وانتشروا ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكثروا هنالك سائر الأمم وغلبوا على بلاد النوبة وفرّقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد. ومن سعد هذيم بنو عذرة المشهورون بين العرب في المحبة، كان منهم جميل بن عبد الله بن(2/296)
معمر وصاحبته بثينة بنت حبابا. قال ابن حزم: كان لأبيها صحبة ومنهم عروة بن حزام وصاحبته عفرا. ومن بني عذرة كان رزاح بن ربيعة أخو قصيّ بن كلاب لأمّه وهو الّذي استظهر قصي به وبقومه على بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم فغلبهم على الاجازة بالناس من عرفة، وكانت مفتاح رياسته في قريش.
ومن عمران بن الحافي بنو سليح وهو عمرو بن حلوان بن عمران، ومن بني سليح الضجاعم بنو ضجعم بن سعيد بن سليح كانوا ملوكا بالشام للروم قبل غسّان. ومن بني عمران بن الحافي بنو جرم بن زبّان بن حلوان بن عمران بطن كبير وفيهم كثير من الصحابة ومواطنهم ما بين غزة وجبال الشراة من الشام، وجبال الشراة من جبال الكرك. ومن تغلب بن حلوان بنو أسد وبنو النمر وبنو كلب قبائل ضخمة كلهم بنو وبرة بن تغلب، فمن النمر بن خشين بن النمر ومن بني أسد بن وبرة تنوخ وهم فهم بن تيم اللات بن أسد منهم مالك بن زهير بن عمرو بن عمرو بن فهم وعليه تنخت تنوخ، وعلى عهد أبيه مالك بن فهم كما مرّ وكانوا حلفاء لبني حزم. فتنوخ على ثلاثة أبطن: بطن اسمه فهم وهم هؤلاء، وبطن اسمه نزار وهم ليس نزار لهم بوالد لكنهم من بطون قضاعة كلها ومن بني تيم اللات ومن غيرهم بطون ثلاث يقال لهم الأحلاف من جميع قبائل العرب من كندة ولخم وجذام وعبد القيس أهـ كلام ابن حزم. ومن بني أسد بن وبرة بنو القين واسمه النعمان بن جسر بن شيع اللات بن أسد ومن بني كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بنو كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب، قبيلة ضخمة فيها ثلاثة بطون بنو عديّ وبنو زهير وبنو عليهم، وبنو جناب بن هبل ابن عبد الله بن كنانة بطون ضخمة ومنهم عبيدة بن هبيل شاعر قديم ويقول فيه بعض الناس ابن حرام، وهو الّذي عنى امرؤ القيس بقوله نبكي الديار كما بكى ابن حرام وقد قيل إنه من بكر بن وائل، وقال هشام بن السائب الكلبي: إذا سئلوا بم بكى ابن حرام الديار أنشدوا خمسة أبيات من كلمات امرئ القيس المشهورة قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ويقولون إن بقيتها لامرئ القيس بن حجر، وهذا امرؤ القيس بن حرام شاعر قديم دثر شعره لأنه لم يكن للعرب كتاب لبدأتها، وإنما بقي من أشعارهم ما ذكره رواة الإسلام وقيدوه من رواية الكتاب من محفوظ الرجال.
ومن بني عديّ بنو حصين بن ضمضم بن عديّ، كانت منهم نائلة بنت الفرافصة بن(2/297)
الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحرث بن حصن امرأة عثمان بن عفّان، ومنهم أبو الخطّار الحسام بن ضرار بن سلامان بن جشم بن ربيعة بن حصن أمير الأندلس، ومنسبة بن شحيم بن منجاش بن مزغور بن منجاش بن هزيم بن عديّ بن زهير، وابن ابنه حسّان بن مالك بن بحدل الّذي قام بمروان يوم مرج راهط وكانت رياسة الإسلام في كلب لبني بحدل هؤلاء ومن عقبهم بنو منقذ ملوك شيزر.
ومن بني زهير بن جناب حنظلة بن صفوان بن توبل بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شراحيل بن هرير بن أبي جابر بن زهير ولي إفريقية لهشام. ومن عليم بن جناب بنو معقل وربما يقال إنّ عرب المعقل الذين بالمغرب الأقصى لهذا العهد وفي زمانه ينتسبون فيهم.
ومن بطون كلب بن عوف بن بكر بن عوف بن كعب بن عوف بن عامر بن عوف دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج بن عامر بن بكر بن عامر بن عوف صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي أتاه جبريل عليه السلام في صورته. ومنصور بن جهور بن حفر بن عمرو بن خالد بن حارثة بن العبيد بن عامر بن عوف القائم مع يزيد بن الوليد وولاه الكوفة، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزّى بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ بن عوف سبي أبوه زيد في الجاهلية وصار إلى خديجة فوهبته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاءه أبوه وخيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم فاختاره على أبيه وأهله وأقام في كفالة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه، وربي ابنه أسامة في بيته ومع مواليه وأخباره مشهورة.
ومن بني كلب ثم من بني كنانة بن بكر بن عوف النسّابة ابن الكلبي وهو أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحرث بن عبد العزّى بن امرئ القيس. قال ابن حزم: هكذا ذكره ابن الكلبيّ في نسبه وأرى امرأ القيس هذا هو عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ بن عوف بن كنانة بن عذرة وقد مرّ بقية نسبه، وكان لقضاعة هؤلاء ملك ما بين الشام والحجاز إلى العراق في أيلة وجبال الكرك إلى مشارف الشام واستعملهم الروم على بادية العرب هنالك، وكان أوّل الملك فيهم في تنوخ وتتابعت فيهم فيما ذكر المسعودي ثلاثة ملوك: النعمان بن عمر، وثم ابنه عمرو بن النعمان، ثم ابنه الحواري بن عمرو، ثم غلبهم على أمرهم سليح من بطون قضاعة(2/298)
وكانت رياستهم في ضجعم بن معدّ منهم. وقارن ذلك استيلاء طيطش من القياصرة على الشام فولاهم ملوكا على العرب من قبله يجبون له من ساحتهم إلى أن ولي منهم زيادة بن هبولة بن عمرو بن عوف ضجعم. وخرجت غسان من اليمن فغلبوهم على أمرهم وصار ملك العرب بالشام لبني جفنه وانقرض ملك الضجاعم حسبما نذكر.
وقال ابن سعيد: سار زيادة بن هبولة بمن أبقى السيف منهم بعد غسّان إلى الحجاز فقتله حجر آكل المرار الكنديّ، كان على الحجاز من قبل التبابعة، وأفنى بقيتهم فلم ينج منهم إلّا القليل، قال: ومن الناس من يطلق تنوخ على الضجاعمة ودوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا، قال وكان لبني العبيد بن الأبرص بن عمر بن أشجع بن سليح ملك يتوارثونه بالحضر آثاره باقية في برية سنجار وكان آخرهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون وقصته مع سابور ذي الجنود من الأكاسرة معروفة، قال وكان لقضاعة ملك آخر في كلب بن وبرة يتداولونه مع السكون من كندة، فكانت لكلب دومة الجندل وتبوك ودخلوا في دين النصرانية وجاء الإسلام الدولة في دومة الجندل لأكيدر بن عبد الملك بن السكون، ويقال إنه كندي من ذرية الملوك الذين ولّاهم التبابعة على كلب، فأسره خالد بن الوليد وجاء به الى النبيّ صلى الله عليه وسلم فصالح على دومة، وكان في أوّل من ملكها دجانة بن قنافة بن عديّ بن زهير بن جناب، قال: وبقيت بنو كلب الآن في خلق عظيم على خليج القسطنطينية منهم مسلمون ومنهم متنصّرون. أهـ الكلام في أنساب قضاعة.
قال ابن حزم: وجميع قبائل العرب فهي راجعة إلى أب واحد حاش ثلاث قبائل:
وهي تنوخ والعتقيّ وغسّان، فأما تنوخ فقد ذكرناهم، وأمّا العتقيّ فهم من حجر حمير ومن حجر من ذي رعين ومن سعد العشيرة ومن كنانة بن خزيمة ومنهم زبيد بن الحرث العتقيّ من حجر حمير وهو مولى عبد الرحمن بن القاسم وخالد بن جنادة المصريّ صاحب مالك بن أنس، وهو مولى زبيد المذكور من أسفل، وأما غسّان فإنّهم من بني أب لا يدخل بعضهم في هذا النسب ويدخل فيهم من غيرهم. وسموا العتقاء لأنهم اجتمعوا ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فظفر بهم فأعتقهم، وكانوا جماعة من بطون شتّى. وسموا تنوخ لأنّ التنوخ الإقامة فتحالفوا على الإقامة بموضعهم(2/299)
بالشام وهم من بطون شتّى. وأمّا غسّان فإنّهم أيضا طوائف نزلوا بماء يقال له غسّان فنسبوا اليه أهـ كلام ابن حزم.
الخبر عن بطون كهلان من القحطانية وشعوبهم واتصال بعضها مع بعض وانقضائها
هؤلاء بنو كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان اخوة بني حمير بن سبا، وتداولوا معهم الملك أوّل أمرهم، ثم انفرد بنو حمير به وبقيت بطون بني كهلان تحت ملكتهم باليمن. ثم لما تقلص ملك حمير بقيت الرئاسة على العرب البادية لبني كهلان لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم ولا أدركهم الهرم الّذي أودى بحمير، إنّما كانوا أحياء ناجعة في البادية والرؤساء والأمراء في العرب إنّما كانوا منهم. وكان لكندة من بطونهم ملك باليمن والحجاز، ثم خرجت الأزد من شعوبهم أيضا من اليمن مع مزيقياء وافترقوا بالشام، وكان لهم ملك بالشام في بني جفنة، وملك بيثرب في الأوس والخزرج، وملك بالعراق في بني فهم. ثم خرجت لخم وطئ من شعوبهم أيضا من اليمن، وكان لهم ملك بالحيرة في آل المنذر حسبما نذكر ذلك كله.
وأمّا شعوبهم فهي كلها تسعة من زيد بن كهلان في مالك بن زيد وعريب بن زيد، فمن مالك بطون همدان وديارهم لم تزل باليمن في شرقيه، وهم بنو أوسلة، وهو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الجبّار بن مالك بن زيد بن نوف بن همدان. ومن شعوب حاشد بنو يام بن أصغى بن مانع بن مالك بن جشم بن حاشد ومنهم طلحة بن مصرف. ولما جاء الله بالإسلام افترق كثير من همدان في ممالكه، وبقي منهم من بقي باليمن، وكانوا شيعة لعليّ كرم الله وجهه ورضي عنه عند ما شجر بين الصحابة وهو المنشد فيهم متمثلا:
فلو كانت بوّابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
ولم يزل التشيّع دينهم أيام الإسلام كلها، ومنهم كان علي بن محمد الصليحي من بني يام القائم بدعوة العبيديّين باليمن في حصن حرار من بني يام وهو من بطونهم وهو من بني يام من بطون حاشد، فاستولى عليه وورث ملكه لبنيه حسبما نذكره في أخبارهم.
وكانت بعد ذلك وقبله دولة بني الرسي أيام الزيدية بصعدة فكانت على يدهم(2/302)
وبمظاهرتهم، ولم يزل التشيّع دينهم لهذا العهد.
وقال البيهقي: وتفرّقوا في الإسلام فلم تبق لهم قبيلة وبرية إلا باليمن وهم أعظم قبائله وهم عصبة المعطي من الزيدية القائمين بدعوته باليمن، وملكوا جملة من حصون اليمن باليمن، ولهم بها إقليم بكيل وإقليم حاشد من بطونهم.
قال ابن سعيد: ومن همدان بنو الزريع وهم أصحاب الدعوة والملك في عدن والحيرة وهم زيديّة وإخوة همدان إلهان بن مالك بن زيد بن أوسلة ومن مالك بن زيد أيضا الأزد وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك وخثعم وبجيلة ابنا أنمار بن أراش أخي الأزد بن الغوث. وقد يقال أنمار هو ابن نزار بن معدّ وليس بصحيح، فأمّا الأزد فبطن عظيم متّسع وشعوب كثيرة، فمنهم بنو دوس من بني نصر بن الأزد وهو دوس بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحرث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد بطن كبير، ومنهم كان جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس وديارهم بنواحي عمان، وكان بعد دوس وجذيمة ملك بعمّان في إخوانهم بني نصر بن زهران بن كعب، كان منهم قبيل الإسلام المستكبر بن مسعود بن الجرّار بن عبد الله بن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران، والّذي أدرك الإسلام منهم جيفر بن الجلندي بن كركر بن المستكبر وأخوه عبد الله ملك عمان، كتب إليهما النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واستعمل على نواحيهما عمرو بن العاص.
ومن الأزد ثم من بني مازن بن الأزد بنو عمرو مزيقياء بن عامر ويلقب ماء السماء ابن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس البهلول ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وعمرو هذا وآباؤه كانوا ملوكا على بادية كهلان باليمن مع حمير واستفحل لهم الملك من بعدهم.
وكانت أرض سبإ باليمن لذلك العهد من أرفه البلاد وأخصبها وكانت مدافع للسيول المنحدرة بين جبلين هنالك فضرب بينهما سدّ بالصخر والقار يحبس سيول العيون والأمطار حتى يصرفوه من خروق في ذلك السدّ على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، ومكث كذلك ما شاء الله أيام حمير، فلما تقلّص ملكهم وانحلّ نظام دولتهم وتغلّب بادية كهلان على أرض سبإ وانطلقت عليها الأيدي بالعبث والفساد وذهب الحفظة القائمون بأمر السدّ نذروا بخرابه، وكان الّذي ندر به عمرو مزيقياء ملكهم لمّا رأى من اختلال أحواله. ويقال: إنّ أخاه عمران الكاهن أخبره، ويقال طريفة(2/303)
الكاهنة. وقال السهيليّ: طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر وهي طريفة بنت الخير الحميريّة لعهده.
وقال ابن هشام: عن أبي زيد الأنصاري أنه رأى جرذا تحفر السدّ فعلم أنه لا بقاء للسدّ مع ذلك فأجمع النقلة من اليمن وكاد قومه بأن أمر أصغر بنيه أن يلطمه إذا أغلظ له ففعل فقال لا أقيم في بلد يلطمني فيها أصغر ولدي وعرض أمواله فقال أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا أمواله وانتقل في ولده وولد ولده فقال الأزد لا نتخلف عن عمرو فتجشموا للرحلة وباعوا أموالهم وخرجوا معه وكان رؤساءهم في رحلتهم بنو عمرو مزيقياء ومن إليهم من بني مازن ففصل الأزد من بلادهم باليمن إلى الحجاز.
قال السهيليّ: كان فصولهم على عهد حسّان بن تبان أسعد من ملوك التبابعة ولعهده كان خراب السدّ. ولما فصل الأزد من اليمن كان أوّل نزولهم ببلاد عكّ ما بين زبيد وزمع، وقتلوا ملك عكّ من الأزد ثم افترقوا إلى البلاد، ونزل بنو نصر بن الأزد بالشراة وعمان، ونزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بيثرب، وأقام بنو حارثة بن عمرو بمرّ الظهران بمكة وهم فيما يقال خزاعة، ومرّوا على ماء يقال له غسّان بين زبيد وزمع فكل من شبه منه من بني مزيقياء سمّي به، والذين شربوا منه بنو مالك وبنو الحرث وبنو جفنة وبنو كعب فكلهم يسمون غسّان، وبنو ثعلبة العتقاء لم يشربوا منه فلم يسمّوا به، فمن ولد جفنة ملوك الشام الذين يأتي ذكرهم ودولتهم بالشام. ومن ولد ثعلبة العتقاء الأوس والخزرج ملوك يثرب في الجاهلية وسنذكرهم، ومن بطن عمرو مزيقياء بنو أفصى بن حارثة بن عمرو ويقال إنه أفصى بن عامر بن قمعة بلا شك ابن إلياس بن مضر. قال ابن حزم: فإن كان أسلم بن أفصى منهم فمن بني أسلم بلا شك وبنو أبان وهو سعد بن عديّ بن حارثة بن عمرو، وبنو العتيك من الأزد عمران بن عمرو.
وأمّا بجيلة فبلادهم في سروات البحرين والحجاز إلى تبالة وقد افترقوا على الآفاق أيام الفتح فلم يبق منهم بمواطنهم إلا القليل، ويقدم الحاج منهم على مكّة في كل عام عليهم أثر الشظف ويعرفون من أهل الموسم بالسرو [1] ، وأمّا حالهم لأوّل الفتح الإسلامي فمعروف ورجالاتهم مذكورة، فمن بطون بجيلة قسر وهو مالك بن عبقر بن
__________
[1] السرو من: سرا يسرو وسروا، كان سريّا أي صاحب مروءة وسخاء (القاموس) .(2/304)
أنمار وبنو أحمس بن الغوث بن أنمار.
وأمّا بنو عريب بن زيد بن كهلان فمنهم طيِّئ والأشعريون ومذحج وبنو مرّة وأربعتهم بنو أدد بن زيد بن يشجب بن عريب، فأمّا الأشعريون فهم بنو أشعر وهو نبت بن أدد وبلادهم في ناحية الشمال من زبيد وكان لهم ظهور أوّل الإسلام ثم افترقوا في الفتوحات وكان لمن بقي منهم باليمن حروب مع ابن زياد لأول إمارته عليها أيام المأمون ثم ضعفوا عن ذلك وصاروا في عدد الرعايا.
وأمّا بنو طيِّئ بن أدد فكانوا باليمن وخرجوا منه على أثر الأزد إلى الحجاز ونزلوا سميرا وفيد في جوار بني أسد، ثم غلبوهم على أجا وسلمى [1] وهما جبلان من بلادهم فاستقرّوا بهما وافترقوا لأوّل الإسلام في الفتوحات. قال ابن سعيد: ومنهم في بلادهم الآن أمم كثيرة ملئوا السهل والجبل حجازا وشاما وعراقا يعني قبائل طيِّئ هؤلاء وهم أصحاب الدولة في العرب لهذا العهد في العراق والشام وبمصر منهم سنبس والثعالب بطنان مشهوران، فسنبس بن معاوية بن شبل بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ ومعهم بحتر بن ثعل، قال ابن سعيد ومنهم زبيد بن معن بن عمرو بن عسّ بن سلامان بن ثعل وهم في برّيّة سنجار، والثعالب بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيِّئ، وثعلبة بن جدعا بن ذهل بن رومان. قال ابن سعيد: ومنهم بنو لام بن ثعلبة منازلهم من المدينة الى الجبلين وينزلون في أكثر أوقاتهم مدينة يثرب، والثعالب الذين بصعيد مصر من ثعلب بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ. قال ابن حزم: لام بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعا ومن الثعالب بنو ثعلبة بن ذهل بن رومان، وبجهة بنيامين والشام بنو صخر ومن بطونهم غزيّة المرهوب صولتهم بالشام والعراق. وهم بنو غزية بن أفلت بن معبد بن عمرو بن عسّ بن سلامان بن ثعل وبنو غزية كثيرون وهم في طريق الحاج بين العراق ونجد، وكانت الرئاسة على طيِّئ في الجاهلية لبني هني بن عمرو بن الغوث بن طيّ وهم رمليّون وإخوتهم جبليّون، ومن ولده إياس بن قبيصة الّذي أدال به كسرى أبرويز النعمان المنذر حين قتله وأنزل طيّا بالحيرة مكان لخم قوم النعمان وولّي على العرب من إياسا هذا، وهو إياس بن قبيصة بن أبي يعفر بن النعمان بن خبيب بن الحرث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سعد بن هني، فكانت
__________
[1] (في فجر الإسلام ص 8) أجا وسلمى وهما المعروفان الآن بجبل شمّر، وقد سكنتها طيِّئ قبل الإسلام.(2/305)
لهم الرئاسة إلى حين انقراض ملك الفرس. ومن عقب إياس هذا بنو ربيعة بن عليّ بن مفرح بن بدر بن سالم بن قصّة بن بدر بن سميع، ومن ربيعة شعب آل مراد وشعب آل فضل، وآل فضل شعبان آل عليّ وآل مهنا فعلي ومهنّا ابنا فضل، وفضل ومراد ابنا ربيعة وسميع الذين ينسبون إليه من عقب قبيصة بن أبي يعفر، ويزعم كثير من جهلة البادية إنه الّذي جاءت به العبّاسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى زعما كاذبا لا أصل له. وكانت الرئاسة على طيِّئ أيام العبيديّين لبني المفرّح، ثم صارت لبني مراد بن ربيعة وكلهم ورثوا أرض غسّان بالشام وملكهم على العرب، ثم صارت الرئاسة لبني عليّ وبني مهنّا ابني فضل بن ربيعة اقتسموها مدّة، ثم انفرد بها لهذا العهد بنو مهنّا الملوك على العرب إلى هذا العهد بمشارف الشام والعراق وبريّة نجد، وكان ظهورهم لأمر الدولة الأيوبية ومن بعدهم من ملوك الترك بمصر والشام ويأتي ذكرهم، والله وارث الأرض ومن عليها.
وأمّا مذحج واسمه مالك بن زيد بن أدد بن زيد بن كهلان، ومنهم مراد واسمه يخابر بن مذحج، ومنهم سعد العشيرة بن مذحج بطن عظيم لهم شعوب كثيرة، منهم جعفر بن سعد العشيرة وزبيد بن صعب بن سعيد العشيرة. ومن بطون مذحج النخع ورها ومسيلة وبنو الحرث بن كعب، فأمّا النخع فهو جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج ومسيلة ابن عامر بن عمرو بن علة، وأمّارها فهو ابن منبّه بن حرب بن علة. وبقي من مذحج وبرية ينجعون مع أحياء طيِّئ في جملة أيام بني مهنّا مع العرب بالشام زمن أحلافهم وأكثرهم من زبيد. وأما بنو الحرث فالحرث أبوهم ابن كعب بن علة وديارهم بنواحي نجران يجاورون بها بني ذهل بن مزيقياء من الأزد وبني حارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد وكان نجران قبلهم لجرهم، ومنهم كان ملكها الأفعى الكاهن الّذي حكم بين ولد نزار بن معدّ لما تنافروا إليه بعد موت نزار واسمه الغلس بن غمر ماء بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن واثل بن حمير وكان داعية لسليمان عليه السلام بعد أن كان واليا لبلقيس على نجران، وبعثته إلى سليمان فصدّق وآمن وأقام على دينه بعد موته. ثم نزل نجران بنو الحرث بن كعب بن علة بن جلد بن مذحج فغلبوا عليها بني الأفعى. ثم خرجت الأزد من اليمن فمروا بهم وكانت بينهم حروب، وأقام من أقام في جوارهم من بني نصر بن الأزد وبني ذهل بن مزيقياء واقتسموا الرئاسة فنجران معهم. وكان من بني الحرث(2/306)
كعب هؤلاء المذحجيين بنو الزياد واسمه يزيد بن قطن بن زياد بن الحرث بن مالك بن كعب بن الحرث وهم بيت مذحج وملوك نجران وكانت رياستهم في عبد المدان بن الديّان، وانتهت قبيل البعثة إلى يزيد بن عبد المدان، ووفد أخوه عبد الحجر بن عبد المدان على النبي صلى الله عليه وسلم على يد خالد بن الوليد وكان ابن أخيهم زياد بن عبد الله بن عبد المدان خال السفّاح، وولّاه نجران واليمامة.
وقال ابن سعيد: ولم يزل الملك بنجران في بني عبد المدان، ثم في بني أبي الجواد منهم، وكان منهم في المائة السادسة عبد القيس بن أبي الجواد، ثم صار الأمر لهذا العهد إلى الأعاجم شأن النواحي كلها بالمشرق، ثم من بطون الحرث بن كعب بنو معقل وهو ربيعة بن الحرث بن كعب، وقد يقال إنّ المعقل الذين هم بالمغرب الأقصى لهذا العهد إنما هم من هذا البطن وليسوا من معقل بن كعب القضّاعيين ويؤيد هذا أنّ هؤلاء المعقل جميعا ينتسبون إلى ربيعة، وربيعة اسم معقل هذا كما رأيت والله تعالى أعلم.
وأمّا بنو مرّة بن أدد إخوة طيِّئ ومذحج والأشعريّين فهم أبطن كثيرة وتنتهي كلها إلى الحرث بن مرّة، مثل خولان ومعافر ولخم وجذام وعاملة وكندة. فأمّا معافر فهم بنو يعفر بن مالك بن الحرث بن مرّة وافترقوا في الفتوحات وكان منهم المنصور بن أبي عامر صاحب هشام بالأندلس. وأمّا خولان واسمه أفكل بن عمرو بن مالك وعمرو أخو يعفر وبلادهم في جبال اليمن من شرقيّه، وافترقوا في الفتوحات وليس منهم اليوم وبريّة إلّا باليمن وهم لهذا العهد، وهمدان أعظم قبائل العرب باليمن ولهم الغلب على أهله والكثير من حصونه. وأمّا لخم واسمه مالك بن عديّ بن الحرث بن مرّة فبطن كبير متّسع ذو شعوب وقبائل منهم الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، ومن أكبرهم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمم بن أنمارة بن لخم، ويقال نمارة وهم رهط آل المنذر وحافده عمرو بن عدي بن نصر هو ابن أخت جذيمة الوضّاح الّذي أخذ بثأره من الزبا قاتلته، وولي الملك على العرب للأكاسرة بعد خاله جذيمة وأنزلوه بالحيرة حسبما يأتي الخبر عن ملكه وملك بنيه ومن شعوب بني لخم هؤلاء كان بنو عبّاد ملوك إشبيليّة ويأتي ذكرهم. وأمّا جذام واسمه عمرو بن عديّ أخو لخم بن عدي فبطن متّسع له شعوب كثيرة مثل غطفان وأمصى وبنو حرام بن جذام وبنو ضبيب وبنو مخرمة وبنو بعجة بنو نفاثة وديارهم حوالي أيلة(2/307)
من أوّل أعمال الحجاز إلى الينبع بن أطراف يثرب، وكانت لهم رياسة في معان وما حولها من أرض الشام لبني النافرة من نفاثة ثم لفروة بن عمرو بن النافرة منهم، وكان عاملا للرّوم على قومه وعلى من كان حوالي معان من العرب، وهو الّذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء. وسمع بذلك قيصر فأغرى به الحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك غسّان فأخذه وصلبه بفلسطين، وبقيتهم اليوم في مواطنهم الأولى في شعبين من شعوبهم يعرف أحدهما بنو عائد وهم ما بين بلبيس من أعمال مصر إلى عقبة أيلة إلى الكرك من ناحية فلسطين، وتعرف الثانية بنو عقبة وهم من الكرك إلى الأزلم من برية الحجاز. وضمان السابلة ما بين مصر والمدينة النبويّة إلى حدود غزّة من الشام عليهم، وغزّه من مواطن جرم إحدى بطون قضاعة كما مرّ، وبإفريقية لهذا العهد منهم وبريّة كبيرة ينتجعون مع ذياب بن سليم بنواحي طرابلس.
وأمّا عاملة واسمه الحرث بن عدي وهم إخوة لخم وجذام وإنّما سمّي الحرث عاملة بأمّه القضاعية وهم بطن متّسع ومواطنهم ببرية الشام. وأمّا كندة واسمه ثور بن عفير بن عديّ وعفير أخو لخم وجذام، وتعرف كندة الملوك لأنّ الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان كما نذكر، وبلادهم بجبال اليمن مما يلي حضرموت ومنها دمّون التي ذكرها امرؤ القيس في شعره، وبطونهم العظيمة ثلاثة: معاوية بن كندة ومنه الملوك بنو الحرث بن معاوية الأصغر ابن ثور بن مرتع بن معاوية والسكون وسكسك وابنهما أشرش بن كندة، ومن السكون بطن تجيب وهم بنو عدي وبنو سعد بن أشرش بن شبيب بن السكون وتجيب اسم أمّهما. وكان للسكون ملك بدومة الجندل وكان عليها عبد المغيث بن أكيدر بن عبد الملك بن عبد الحق بن أعمى بن معاوية ابن حلاوة بن أمامة بن شكامة بن شبيب بن السكون بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك خالد بن الوليد فجاء به أسيرا، وحقن صلى الله عليه وسلم دمه وصالحه على الجزية وردّه إلى موضعه. ومن معاوية بن كندة بنو حجر ابن الحرث الأصغر ابن معاوية بن كندة منهم حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية وهو حجر أبو الملوك ابن كندة الذين يأتي ذكرهم، والحرث الولادة أخو حجر وكان من عقبه الخارجين باليمن المسلمين طالب الحق وكان أباضيّا وسيأتي ذكره، ومنهم الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية وجبلّة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية(2/308)
بن الحرث الأكبر جاهليّ إسلامي، وابنه محمد بن الأشعث وابنه عبد الرحمن بن الأشعث القائم على عبد الملك والحجاج وهو مشهور، وابن عمهم أيضا ابن عديّ وهو الأدمر بن عديّ بن جبلّة له صحبة فيما يقال، وهو الّذي قتله معاوية على الثورة بأخيه زياد وخبره معروف.
هذه قبائل اليمن من قحطان استوفينا ذكر بطونهم وأنسابهم ونرجع الآن إلى ذكر من كان الملك منهم بالشام والحجاز والعراق حسبما نقصه، والله تعالى المعين بكرمه ومنه لا ربّ غيره ولا خير إلّا خيره.
الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذر من هذه الطبقة وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم وكيف صار إلى طيِّئ من بعدهم
أمّا أخبار العرب بالعراق في الجيل الأول وهم العرب العاربة فلم يصل إلينا تفاصيلها وشرح حالها، إلّا أنّ قوم عاد والعمالقة ملكوا العراق، والمسند في بعض الأقوال أنّ الضحّاك بن سنان منهم كما مرّ. وأمّا في الجيل الثاني وهم العرب المستعربة فلم يكن لهم به مستبدّ وإنما كان ملكهم به بدويا ورياستهم في أهل الظواعن. وكان ملك العرب كما مرّ في التبابعة من أهل اليمن، وكانت بينهم وبين فارس حروب وربّما غلبوهم على العراق وملكوه أو بعضه كما مرّ، لكن اليمن لم يغلبوا ثانيا على ما ملكوا منه، وقد مرّ إيقاع بخت نصّر وإثخانه فيهم ما تقدّم. وكان في سواد العراق وأطراف الشام والجزيرة الأرمانيون من بني إرم بن سام، ومن كان من بقية عساكر ابن تبّع من جعفر طيِّئ وكلب وتميم وغيرهم من جرهم، ومن نزل معهم بعد ذلك من تنوخ ونمارة بن لخم وقنص بن معدّ ومن إليهم كما قدّمنا ذكر ذلك. وكان ما بين الحيرة والفرات إلى ناحية الأنبار موطن لهم وكانوا يسمّون عرب الضاحية، وكان أوّل من ملك منهم في زمن الطوائف مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن قضاعة، وكان منزله مما يلي الأنبار. وملك من بعده أخوه عمرو بن فهم.
ثم ملك من بعدهما جذيمة الأبرش اثنتي عشرة سنة، وقد تقدّم أنه صهرهما وأنّ مالك بن زهير بن عمرو بن فهم زوّجه أخته وصاروا حلفاء مع الأزد من قوم جذيمة(2/310)
ونسب جذيمة في الأزد إلى بني زهران، ثم إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران، وهو جذيمة بن ملك بن فهم بن غنم بن دوس هكذا قال ابن الكبي.
ويقال: إنه من وبار بن أميم بن لاوذ بن سام، وكان بنو زهران من الأزد خرجوا قبل خروج مزيقياء من اليمن ونزلوا بالعراق وقيل ساروا من اليمن مع أولاد جفنة بن مزيقياء، فلما تفرّق الأزد على المواطن نزل بنو زهران هؤلاء بالشراة وعمان وصار لهم مع الطوائف ملك، وكان مالك بن فهم هذا من ملوكهم. وكان بشاطئ الفرات من الجانب الشرقي عمرو بن الظرب بن حسّان بن أدينة من ولد السميدع بن هوثر من بقايا العمالقة، فكان عمرو بن الظرب على مشارف الشام والجزيرة، وكان منزله بالمضيق بين الخابور وقرقيساء فكانت بينه وبين مالك بن فهم حروب هلك عمرو في بعضها، وقامت بملكه من بعده ابنته الزبّاء بنت عمرو واسمها نائلة عند الطبري وميسون عند ابن دريد.
قال السهيليّ: ويقال إنّا الزباء الملكة كانت من ذرية السميدع بن هوثر من بني قطورا أهل مكّة، وهو السميدع بن مرثد بالثاء المثلثة ابن لاي بن قطور بن كركي بن عملاق، وهي بنت عمرو بن أدينة بن الظرب بن حسّان. وبين حسّان هذا والسميدع آباء كثيرة ليست بصحيحة لبعد زمن الزباء من زمن السميدع انتهى كلام السهيليّ.
ولم تزل الحرب بين مالك بن فهم وبين الزباء بنت عمرو إلى أن ألجأها إلى أطراف مملكتها، وكان يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم. قال أبو عبيدة: وهو أوّل ملك كان بالعراق من العرب وأوّل من نصب المجانيق وأوقد الشموع وملك ستين سنة. ولما هلك قام بأمره من بعده جذيمة الوضّاح ويقال له الأبرش، وكان يكنّى بأبي مالك وهو منادم الفرقدين. قال أبو عبيدة: كان جذيمة بعد عيسى بثلاثين سنة فملك أزمان الطوائف خمسا وسبعين سنة وأيام أردشير كلها خمسة عشر سنة وثماني سنين من أيام سابور، وكان بينه وبين الزّباء سلم وحرب، ولم تزل تحاول الثأر منه بأبيها حتى تحيلت عليه وأطمعته في نفسها فخطبها وأجابته، وأجمع المسير إليها وأبى عليه وزيره قيصر بن سعد، فعصاه ودخل إليها ولقيته بالجنود وأحس بالشر، فنجا قيصر ودخل جذيمة إلى قصرها فقطعت رواهشه [1] وأجرت دمه إلى أن
__________
[1] الرواهش: العروق الكبيرة في باطن الذراعين.(2/311)
هلك في حكاية منقولة في كتب الأخباريين.
قال الطبري: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا وأبعدهم مغارا وأشدّهم حزما وأوّل من استجمع له الملك بأرض العراق وسرى بالجيوش، وكان به برص فكنوا عنه بالوضّاح إجلالا له، وكانت منازله بين الحيرة والأنبار وهيت ونواحيها وعين التمر [1] وأطراف البر إلى العمى والقطقطانيّة وجفنة، وكانت تجبى إليه الأموال وتفد إليه الوفود، وغزا في بعض الأيام طسما وجديسا في منازلهم باليمامة، ووجد حسّان بن تبّع قد أغار عليهم فانفكأ هو راجعا بمن معه، وأتت خيول حسّان على سرايا فأجاحوها. وكان أكثر غزو جذيمة للعرب العاربة، وكان قد تكهن وادعى النبوّة، وكانت منازل إياد بعين أباغ سميت باسم رجل من العمالقة نزل بها وكان جذيمة كثيرا ما يغزوهم حتى طلبوا مسالمته، وكان بينهم غلام من لخم من بني أختهم وكانوا أخوالا له وهو عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وكان له جمال وضرب وطلبه منهم جذيمة فامتنعوا من تسليمه إليه، فألح عليهم بالغزو وبعثت إياد من سرق لهم صنمين كانا عند جذيمة يدعو بهما ويستسقى بهما وعرّفوه أنّ الصنمين عندهم وأنهم يردّونهما بشريطة رفع الغزو عنهم، فأجابهم إلى ذلك بشريطة أن يبعثوا مع الصنمين عديّ بن نصر فكان ذلك.
ولما جاءه عديّ بن نصر استخلصه لنفسه وولّاه شرابه، وهويته رقاش أخته فراسلته فدافعها بالخشية من جذيمة، فقالت له اخطبني منه إذا أخذت الخمر منه وأشهد عليه القول ففعل، وأعرس بها من ليلته، وأصبح مضرجا بالخلوق. وراب جذيمة شأنه ثم أعلم بما كان منه فعض على يديه أسفا، وهرب عديّ فلم يظهر له أثر، ثم سألها في أبيات شعر معروفة فأخبرته بما كان منه فعرف عذرها وكف، وأقام عديّ في أخواله إياد إلى أن هلك، وولدت رقاش منه غلاما وسمته عمرا وربي عند خاله جذيمة وكان يستظرفه ثم استهوته الجن فغاب وضرب له جذيمة في الآفاق إلى أن ردّه عليه وافدان من العتقاء، ثم من قضاعة وهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك بن العنس أهديا له طرفا ومتاعا، ولقيا عمرا بطريقهما وقد ساءت حاله وسألاه فأخبرهما باسمه ونسبه فأصلحا من شأنه وجاءا به إلى جذيمة بالحيرة فسرّ به وسرّت أمّه. وحكم الرجلين فطلبا منادمته فأسعفهما وكانا ينادمانه حتى ضرب المثل بهما وقيل ندماني
__________
[1] تقع في الجنوب الغربي من كربلاء.(2/312)
جذيمة، والقصة مبسوطة في كتب الاخباريّين بأكثر من هذا.
قال الطبري: وكان ملك العرب بأرض الحيرة ومشارف الشام عمرو بن ظرب بن حسّان بن أدينة بن السميدع بن هوثر العملاقي، فكانت بينه وبين جذيمة حرب قتل فيها عمرو بن الظرب وفضت جموعه. وملكت بعده ابنته الزبّاء واسمها نائلة وجنودها بقايا العمالقة من عاد الأولى ومن نهد وسليح ابني حلوان ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات وقد بنت هنالك قصرا وتربّع عند بطن المجاز وتصيّف بتدمر. ولما استحكم لها الملك أجمعت أخذ الثأر من جذيمة أبيها فبعثت إليه توهمه الخطبة وأنها امرأة لا يليق بها الملك فيجمع ملكها إلى ملكه، فطمع في ذلك ووافقه قومه، وأبى عليه منهم قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن أربى بن نمارة بن لخم وكان حازما ناصحا، وحذره عاقبة ذلك، فعصاه واستشار ابن أخته عمرو بن عديّ فوافقه فاستخلفه على قومه، وجعل على خيوله عمرو بن عبد الجن، وسار هو على غربي الفرات إلى أن نزل رحبة مالك بن طوق وأتته الرسل منها بالألطاف والهدايا، ثم استقبلته الخيول فقال له قصير: إن أحاطت بك الخيول فهو الغدر فاركب فرسك العصا وكانت لا تجاري. فأحاطت به الخيول ودخل جذيمة على الزبّاء فقطعت رواهشه فسال دمه حتى نزف ومات، وقدم قصير على عمرو بن عديّ وقد اختلف عليه قومه ومال جماعة منهم إلى عمرو بن عبد الجنّ فأصلح أمرهم حتى انقادوا جميعا لعمرو بن عديّ، وأشار عليه بطلب الثأر من الزبّاء بخاله جذيمة. وكانت الكاهنة قد عرفتها بملكها وأعطتها علامات عمرو فحذرته وبعثت رجلا مصوّرا يصور لها عمرا في جميع حالاته، فسار إليه متنكرا واختلط بحشمه وجاء إليها بصورته فاستثبتته وتيقنت أنّ مهلكها منه، واتخذت نفقا في الأرض من مجلسها إلى حصن داخل مدينتها. وعمد عمرو إلى قصير فجدع أنفه بمواطأة منه على ذلك فلحق بالزباء يشكو ما أصابه من عمرو وأنه اتهمه بمداخلة الزبّاء في أمر خاله جذيمة، وما رأيت بعد ما فعل بي أنكى له من أن أكون معك.
فأكرمته وقرّبته حتى إذا رضي منها من الوثوق به أشار عليها بالتجارة في طرف العراق وأمتعته فأعطته مالا وعيرا، وذهب إلى العراق ولقي عمرو بن عديّ بالحيرة فجهزه بالطرف والأمتعة كيما يرضيها، وأتاها بذلك فازدادت به وثوقا وجهّزته بأكثر من الأولى، ثم عاد الثالثة وحمل بغاة الجند من أصحاب عمرو في الغرائر على الجمال(2/313)
وعمرو فيهم، وتقدّم فبشّرها بالعير وبكثرة ما حمل إليها من الطرف، فخرجت تنظر فأنكرت ما رأته في الجمال من التكارد [1] ، ثم دخلت العير المدينة فلما توسطت أنيخت وخرج الرجال، وبادر عمرو إلى النفق فوقف عنده، ووضع الرجال سيوفهم في أهل البلد. وبادرت الزبّاء إلى النفق فوجدت عمرا قائما عنده فلحمها بالسيف وماتت، وأصاب ما أصاب من المدينة وانكفأ راجعا.
قال الطبري: وعمرو بن عديّ أوّل من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأوّل من تجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون وهم ملوك آل نصر. ولم يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة مستبدا منفردا يغزوهم ويغنم، وتفد عليه الوفود ولا يدين لملوك الطوائف ولا يدينون له حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس.
قال الطبري: وإنما ذكرنا في هذا الموضع أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما قدّمناه عند ذكر ملوك اليمن، وأنهم لم يكن لهم ملك مستفحل وإنما كانوا طوائف على المخاليف يغير كل واحد على صاحبه إذا استغفله، ويرجع خوف الطلب حتى كان عمرو بن عديّ فاتصل له ولعقبه الملك على من كان بنواحي العراق وبادية الحجاز بالعرب، فاستعمله ملوك فارس على ذلك إلى آخر أمرهم. وكان أمر آل نصر هؤلاء ومن كان من ولاة الفرس وعمالهم على العرب معروفا مثبتا عندهم في كنائسهم وأشعارهم.
وقال هشام بن الكلبي: كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة. وأمّا ابن إسحاق فذكر في آل نصر ومصيرهم إلى العراق أنّ ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها ربيعة بن نصر وعبرها الكاهنان شقّ وسطيح، وفيها أن الحبشة يغلبون على ملكهم باليمن، قال: فجهّز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرّزاذ فأسكنهم الحيرة، ومن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. وقد يقال إنّ المنذر من أعقاب ساطرون ملك الحضر من تنوخ قضاعة، رواه ابن إسحاق من علماء الكوفة ورواه عن جبير بن مطعم قال: لما أتى عمر رضي الله عنه بسيف النعمان دعا بجبير بن مطعم،
__________
[1] الطرد والمدافعة (قاموس) .(2/314)
وكان أنسب قريش لقريش والعرب، تعلمه من أبي بكر رضي الله عنه فسلّمه إياه، ثم قال: ممن كان النعمان يا جبير؟ قال: كان من أسلاف قنص بن معدّة.
قال السهيليّ: كان ولد قنص بن معد انتشروا بالحجاز فوقعت بينهم وبين بني أبيهم حرب وتضايق بالبلاد وأجدبت الأرض، فساروا نحو سواد العراق وذلك في أيام ملوك الطوائف قاتلهم الأردوانيّون وبعض ملوك الطوائف وأجلوهم عن السواد وقتلوهم، إلا أشلاء لحقت بقبائل العرب ودخلوا فيهم فانتسبوا إليهم. قال الطبري:
حين سأله عمر عن النعمان قال: كانت العرب تقول من أشلاء قنص بن معدوهم من ولد عجم بن قنص إلا أنّ الناس صحّفوا عجم وجعلوا مكانه لخم. قال ابن إسحاق: وأما سائر العرب فيقولون النعمان بن المنذر رجل من لخم ربي بين ولد ربيعة بن نصر أهـ.
ولما هلك عمرو بن عديّ ولي بعده على العرب وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة إمرؤ القيس بن عمرو بن عدي، ويقال له البدء، وهو أوّل من تنصّر من ملوك آل نصر وعمّال الفرس، وعاش فيما ذكر هشام بن الكلبي مائة وأربعة عشر سنة، منها أيام سابور ثلاثا وعشرين سنة، وأيام هرمز بن سابور سنة واحدة، وأيام بهرام بن هرمز ثلاث سنين، وأيام بهرام بن بهرام ثماني عشرة سنة، ومن أيام سابور سبعون سنة. وهلك لعهده فولي مكانه ابنه عمرو بن امرئ القيس البدء، فأقام في ملكه ثلاثين سنة بقية أيام سابور بن سابور، ثم ولي مكانه أوس بن قلام العمليقي فيما قال هشام بن محمد، وهو من بني عمرو بن عملاق، فأقام في ولايته خمس سنين ثم سار به جحجبا بن عتيك بن لخم فقتله وولي مكانه. ثم هلك في عهد بهرام بن سابور، وولى من بعده إمرؤ القيس بن عمرو خمسا وعشرين سنة وهلك أيام يزدجرد الأثيم، فولي مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس وأمّه شقيقة بنت ربيعة بن ذهب بن شيبان وهو صاحب الخورنق، ويقال إنّ سبب بنائه إياه أنّ يزدجرد الأثيم دفع إليه ابنه بهرام جور ليربّيه وأمره ببناء هذا الخورنق مسكنا له وأسكنه إياه، ويقال:
إنّ الصانع الّذي بناه كان اسمه سنمّار وإنه لما فرغ من بنائه ألقاه من أعلاه فمات من أجل محاورة وقعت اختلف الناس في نقلها والله أعلم بصحتها، وذهب ذلك مثلا بين العرب في قبح الجزاء ووقع في أشعارهم منه كثير. وكان النعمان هذا من أفحل ملوك آل نصر وكانت له سنانان إحداهما للعرب والأخرى للفرس، وكان يغزو بهما بلاد(2/315)
العرب بالشام ويدوّخها، وأقام في ملكه ثلاثين سنة ثم زهد وترك الملك ولبس المسوح وذهب فلم يوجد له أثر.
قال الطبري: وأمّا العلماء بأخبار الفرس فيقولون إنّ الّذي تولّى تربية بهرام هو المنذر بن النعمان بن امرئ القيس، دفعه إليه يزدجرد الأثيم لإشارة كانت عنده فيه من المنجمين، فأحسن تربيته وتأديبه وجاءه بمن يلقنه الخلال من العلوم والآداب والفروسية والنقابة [1] حتى اشتمل على ذلك كله بما رضيه، ثم ردّه إلى أبيه فأقام عنده قليلا ولم يرض بحاله، ووفد على أبيه وافد قيصر وهو أخوه قياودس، فقصده بهرام أن يسأل له من أبيه الرجوع إلى بلاد العرب فرجع، ونزل على المنذر. ثم هلك يزدجرد فاجتمع أهل فارس وولوا عليهم شخصا من ولد أردشير وعدلوا عن بهرام لمرباه بين العرب وخلوة عن آداب العجم، وجهّز المنذر العساكر لبهرام لطلب ملكه، وقدّم ابنه النعمان فحاصر مدينة الملك ثم جاء على أثره بعساكر العرب وبهرام معه فأذعن له فارس وأطاعوه، واستوهب المنذر ذنوبهم من بهرام فعفا عنهم واجتمع أمره. ورجع المنذر إلى بلاده وشغل باللهو وطمع فيه الملوك حوله، وغزاه خاقان ملك الترك في خمسين ألفا من العساكر، وسار إليه بهرام فانتهى إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية. ثم ذهب يتصيّد وخلف أخوه نرسي على العساكر فرماه أهل فارس بالجبن وأنه خار عن لقاء الترك، فراسلوا خاقان في الصلح على ما يرضاه فرجع عنهم.
وانتهى الخبر بذلك إلى بهرام فسار في اتباعه وبيته فانفض بعسكره وقتله بيده، واستولى بهرام على ما في العساكر من الأثقال والذراري وظفر بتاج خاقان واكليله وسيفه بما كان فيه من الجواهر واليواقيت، وأسر زوجته، وغلب على ناحية من بلاده فولّى عليها بعض مرازبته وأذن له في الجلوس على سرير الفضة وأغزى ما وراء النهر فدانوا بالجزية، وانصرف إلى أذربيجان فجعل سيف خاقان واكليله معلقا ببيت النار وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع الخراج عن الناس ثلاث سنين شكرا للَّه تعالى على النصر، وتصدّق بعشرين ألف ألف درهم مكرّرة مرّتين، وكتب بالخبر إلى النواحي وولّى أخاه نرسي على خراسان واستوزر له بهر نرسي بن بدارة بن فرّخزاد، ووصل الطبريّ نسبه من هنا بعد أربعة فكان رابعهم أشك بن دارا وأغزى بهرام أرض الروم في أربعين ألفا فانتهى إلى القسطنطينية ورجع.
__________
[1] سلوك طرق الجبال (قاموس) .(2/316)
قال هشام بن الكلبي: ثم جاء الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش إلى بلاد معدّ والحيرة وقد ولاه تبّع بن حسّان بن تبع، فسار إليه النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة وقاتله فقتل النعمان وعدة من أهل بيته وانهزم أصحابه، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من اليمن، وتشتت ملك آل النعمان، وملك الحرث بن عمرو ما كانوا يملكونه. وقال غير هشام بن الكلبي: إنّ النعمان الّذي قتله الحرث هو ابن المنذر بن النعمان وأمه هند بنت زيد مناة بن زيد الله بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الّذي أسرته فارس، ملك عشرين سنة منها في أيام فيروز بن يزدجرد عشر سنين وأيام يلاوش بن يزدجرد أربع سنين وفي أيام قباذ بن فيروز ست سنين.
قال هشام بن محمد الكلبي: ولما ملك الحرث بن عمرو ملك آل النعمان بعث إليه قبّاذ يطلب لقاءه وكان مضعفا فجاءه الحرث وصالحه على أن لا يتجاوز بالعرب الفرات، ثم استضعفه فأطلق العرب للغارة في نواحي السواد وراء الفرات فسأله اللقاء بابنه، واعتذر إليه أشظاظ العرب وأنه لا يضبطهم إلّا المال فأقطعه جانبا من السواد، فبعث الحرث إلى ملك اليمن تبّع يستنهضه بغزو فارس في بلادهم ويخبره بضعف ملكهم، فجمع وسار حتى نزل الحيرة وبعث ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قبّاذ فقاتله واتبع إلى الري فقتله، ثم سار شمر إلى خراسان وبعث تبّع ابنه حسّان إلى الصغد وأمرهما معا أن يدوّخا أرض الصين، وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم فحاصر القسطنطينية حتى أعطوا الطاعة والإتاوة، وتقدّم إلى رومة فحاصرها. ثم أصابهم الطاعون ووهنوا له فوثب عليهم فقتلوهم جميعا. وتقدّم شمر إلى سمرقند فحاصرها واستعمل الحيلة فيها فملكها، ثم سار إلى الصين وهزم الترك ووجد أخاه حسّان قد سبقه إلى الصين منذ ثلاث سنين فأقاما هنالك إحدى وعشرين سنة إلى أن هلك، قال: والصحيح المتفق عليه أنهما رجعا إلى بلادهما بما غنماه من الأموال والذخائر وصنوف الجواهر والطيوب. وسار تبّع حتى قدم مكّة ونزل شعب حجاز وكانت وفاته باليمن بعد أن ملك مائة وعشرين سنة، ولم يخرج أحد بعده من ملوك اليمن غازيا.
ويقال: إنه دخل في دين اليهود للأحبار الذين خرجوا معه من يثرب. وأمّا ابن إسحاق فعنده أنّ الّذي سار إلى المشرق من التبابعة تبّع الأخير وهو تبان أسعد أبو كرب.(2/317)
قال هشام بن محمد: وولّى انوشروان بعد الحرث بن عمرو المنذر بن النعمان الّذي أفلت يوم قتل أبوه ونزل الحيرة وأبوه النعمان الأكبر، فلما قوي سلطان أنوشروان واشتدّ أمره بعث إلى المنذر فملكه الحيرة وما كان يليه الحرث بن عمرو آكل المرار فلم يزل كذلك حتى هلك. قال: وملك العرب من قبل الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر وأمه ماوية بنت النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود ابن المنذر وأمه أم الملك أخت الحرث بن عمرو أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عديّ بن الذميل بن ثور بن أسد بن أربى بن نمارة بن لخم ثلاث سنين، ثم ملك المنذر بن امرئ القيس وهو ذو القرنين لضفيرتين كانتا له من شعره وأمه ماء السماء بنت عوف بن جثم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر بن الضبيب بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط فملك تسعا وأربعين سنة، ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر وأمه هند بنت الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار ست عشرة سنة ولثمان سنين من ملكه كان عام الفيل الّذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ولّى عمرو بن هند شقيقه قابوس أربع سنين: سنة منها أيام أنوشروان وثلاثة أيام ابنه هرمز [1] .
ثم ولّى بعده أخوهما المنذر أربع سنين، ثم ولّى بعده النعمان بن المنذر وهو أبو قابوس اثنين وعشرين سنة منها ثمان سنين أيام هرمز وأربع عشرة أيام [2] أبرويز، وفي أيام النعمان هذا اضحمل ملك آل نصر بالجزرة وعليه انقرض، وهو الّذي قتله كسرى أبرويز وأبدل منه في الولاية على الحيرة والرعب باياس بن قبيصة الطائي، ثم ردّ رياسة الحيرة لمرازبة فارس إلى أن جاء الإسلام وذهب ملك فارس. وكان الّذي دعا أبرويز إلى قتله سعاية زيد بن عدي العبادي فيه عند أبرويز بسبب أنّ النعمان قتل أباه عديّ بن زيد، وسياقة الخبر عن ذلك أن عديّ بن زيد كان من تراجمة أبرويز وكان سبب قتل النعمان أنّ أباه وهو زيد بن حمّاد بن أيوب بن محروب بن عامر بن
__________
[1] هنا عبارة ساقطة من الناسخ. أما الطبري فيقول.
«ولي قابوس بن المنذر اربع سنين من ذلك في زمن انوشروان ثمانية أشهر وفي زمن هرمز بن انوشروان ثلاث سنين واربعة أشهر» ج 2 ص 156.
[2] هنا أيضا سقطت عبارة من الناسخ وعند الطبري «ثم ولي بعد النعمان بن المنذر ابو قابوس اثنين وعشرين سنة من ذلك في زمن هرمز بن انوشروان سبع سنين وثمانية أشهر وفي زمن كسرى أبرويز بن هرمز اربع عشرة سنة واربعة أشهر» . ج 2 ص 156.(2/318)
قبيصة بن امرئ القيس بن زيد مناة والد عديّ هذا كان جميلا شاعرا خطيبا وقارئا كتاب العرب والفرس، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة ويقطعونهم القطائع على أن يترجموا عندهم عن العرب، وكان المنذر بن المنذر لمّا ملك جعل ابنه النعمان في حجر عديّ فأرضعه أهل بيته وربّاه قوم من أشراف الحيرة ينسبون إلى لخم ويقال لهم بنو مرسي، وكان للمنذر بن المنذر عشرة سوى النعمان يقال لهم الأشاهب لجمالهم، وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيرا أمّه سلمى بنت وائل بن عطية من أهل فدك كانت أمة للحرث بن حصن بن ضمضم بن عديّ بن جناب بن كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عمّ النعمان بعث إلى أنوشروان بعديّ بن زيد وإخوته فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر أوصى على ولده إياس بن قبيصة الطائي وجعل أمره كله بيده فأقام على ذلك شهرا، ونظر أنوشروان فيمن يملكه على العرب وشاور عديّ بن زيد واستنصحه في بني المنذر فقال بقيتهم في بني المنذر بن المنذر، فاستقدمهم كسرى وأنزلهم على عديّ، وكان هواه مع النعمان، فجعل يرعى إخوته تفضيلهم عليه، ويقول لهم: إن أشار عليكم كسرى بالملك وبمن يكفوه أمر العرب تكفلوا بشأن ابن أخيكم النعمان، ويسير للنعمان أن سأله كسرى عن شأن إخوته أن يتكفله ويقول: إن عجزت عنهم فأنا عن سواهم أعجز. وكان مع أخيه الأسود بن المنذر رجل من بني مرسي الذين ربّوهم اسمه عديّ بن أوس بن مرسي فنصحه في عديّ وأعلمه أنه يغشّه فلم يقبل. ووقف كسرى على مقالاتهم، فمال إلى النعمان وملّكه وتوّجه بقيمة ستين ألف دينار ورجع إلى الحيرة ملكا على العرب، وعديّ بن أوس في خدمته، وقد أضمر السعاية بعديّ بن زيد فكان يظهر الثناء عليه ويتواصى به مع أصحابه وأن يقولوا مثل قوله، إلّا أنه يستصغر النعمان ويزعم أنه ملكه وانه عامله حتى آسفوه بذلك، وبعث إليه في الزيارة فأتاه وحبسه ثم ندم وخشي عاقبة إطلاقه فجعل يمنّيه. ثم خرج النعمان إلى البحرين وخالفه جفنة ملك غسّان إلى الحيرة وغار عليها ونال منها، وكان عديّ بن زيد كتب إلى أخيه عند كسرى يشعره بطلب الشفاعة من كسرى إلى النعمان، فجاء الشفيع إلى الحيرة وبها خليفة النعمان، وجاء إلى عديّ فقال له: أعطني الكتاب أبعثه أنا ولازمني أنت هنا لئلا أقتل.
وبعث أعداؤه من بني بقيلة إلى النعمان بأن رسول كسرى دخل عنده فبعث من قتله.
فلمّا وفد وافد كسرى في الشفاعة أظهر له الإجابة وأحسن له بأربعة آلاف دينار(2/319)
وجارية وأذن له أن يخرجه من محبسه فوجده قد مات منذ ليال، فجاء الى النعمان مثربا [1] فقال: والله لقد تركته حيّا. فقال: وكيف تدخل إليه وأنت رسول إليّ؟
فطرده فرجع إلى كسرى وأخبره بموته وطوى عنه ما كان من دخوله إليه.
ثم ندم النعمان على قتله، ولقي يوما وهو يتصيد ابنه زيدا فاعتذر إليه من أمر أبيه، وجهّزه إلى كسرى ليكون خليفة أبيه على ترجمة العرب. فأعجب به كسرى وقرّبه وكان أثيرا عنده، ثم إنّ كسرى أراد خطبة بنات العرب فأشار عليه عديّ بالخطبة في بني منذر فقال له كسرى: اذهب إليهم في ذلك، فقال: إنّهم لا ينكحون العجم ويستريبون في ذلك فابعث معي من يفقه العربية فلعلي آتيك بغرضك. فلما جاء إلى النعمان قال لزيد: أما في عير السواد وفارس ما يغنيكم عن بناتنا؟ وسأل الرسول عن العير فقال له زيد: هي البقر. ثم رجعا إلى كسرى بالخيبة، وأغراه زيد فغضب كسرى وحقد على النعمان. ثم استقدمه بعد حين لبعض حاجاته وقال له: لا بدّ من المشافهة لأنّ الكتاب لا يسعها. ففطن فذهب إلى طيِّئ وغيرهم من قبائل العرب ليمنعوه، فأبوا وفرقوا من معاداة كسرى، إلّا بني رواحة بن سعد من بني عبس، فإنّهم أجابوه لو كانوا يغنون عنه فعذرهم، وانصرف عنهم إلى بني شيبان بذي قار والرئاسة فيهم لهانئ بن مسعود بن عامر بن الخطيب بن عمرو المزدلف ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، ولقيس بن خالد بن ذي الخدّين. وعلم أن هانئا يمنعه وكان كسرى قد أقطعه، فرجّع إليه النعمان ماله ونعمه وحلقته وهي سلاح ألف فارس شاكة، وسار إلى كسرى، فلقيه زيد بن عدي بساباط وتبين الغدر، فلمّا بلغ إلى كسرى قيّده وأودعه السجن إلى أن هلك فيه بالطاعون ودعا ذلك إلى واقعة ذي قار بين العرب وفارس.
وذلك أنّ كسرى لما قتل النعمان استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة مكان النعمان ليده التي أسلفها طيِّئ عند كسرى يوم واقعة بهرام على أبرويز، وطلب من النعمان فرسه ينجو عليها فأبى واعترضه حسّان بن حنظلة بن جنّة الطائي وهو ابن عم إياس بن قبيصة فأركبه فرسه ونجا عليه، ومرّ في طريقه بإياس فأهدى له فرسا وجزورا، فرعى له أبرويز هذه الوسائل وقدّم إياسا مكان النعمان. وهو إياس بن قبيصة بن أبي عفر بن النعمان بن جنّة. فلمّا هلك النعمان بعث إياس إلى هانئ بن
__________
[1] ثربه ثربا: لامه، قبح عليه فعله (قاموس) .(2/320)
مسعود في حلقة النعمان، ويقال كانت أربعمائة درع وقيل ثمانمائة، فمنعها هانئ وغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل، وأشار عليه النعمان بن زرعة من بني تغلب أن يمهل إلى فصل القيظ عند ورودهم مياه ذي قار. فلما قاظوا ونزلوا تلك المياه وجاءهم النعمان بن زرعة يخيّرهم في الحرب وإعطاء اليد فاختاروا الحرب، اختاره حنظلة بن سنان العجليّ وكانوا قد ولّوه أمرهم وقال لهم إنما هو الموت قتلا إن أعطيتم باليد أو عطشا إن هربتم وربما لقيكم بنو تميم فقتلوكم. ثم بعث كسرى إلى إياس بن قبيصة أن يسير إلى حربهم ويأخذه معه مسالح فارس وهم الجند الذين كانوا معه بالقطقطانية وبارق وتغلب، وبعث إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الخدّين وكان على طف شقران أن يوافي إياسا، فجاءت الفرس معها الجنود والأفيال عليها الأساورة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة فقال: اليوم انتصف العرب من العجم ونصروا، وحفظ ذلك اليوم فإذا هو يوم الوقعة.
ولما تواقف الفريقان جاء قيس بن مسعود إلى هانئ وأشار عليه أن يفرّق سلاح النعمان على أصحابه ففعل، واختلف هانئ بن مسعود وحنظلة بن ثعلبة بن سنان، فأشار هانئ بركوب الفلاة وقطع حنظلة حزم الرجال وضرب على نفسه وآلى أن لا يفرّ. ثم استقوا الماء لنصف شهر، واقتتلوا وهرب العجم من العطش واتبعهم بكر وعجل، فاصطف العجم وقاتلوا وصبروا وراسلت إياد بكر بن وائل إنّا نفّر عند اللقاء فصحبوهم، واشتدّ القتال وقطعوا الآمال حتى سقطت الرجال إلى الأرض ثم حملوا عليهم، واعترضهم يزيد بن حمّاد السكونيّ في قومه كان كمينا أمامهم فشدّوا على إياس بن قبيصة ومن معه من العرب فولّت إياد منهزمة، وانهزمت الفرس وجاوزوا الماء في حرّ الظهيرة في يوم قائظ فهلكوا أجمعين قتلا وعطشا. وأقام إياس في ولاية الحيرة مكان النعمان ومعه الهمرجان من مرازبة فارس تسع سنين، وفي الثامنة منها كانت البعثة وولي بعده على الحيرة آخر من المرازبة اسمه زاذويه بن ماهان الهمذاني سبع عشرة سنة إلى أيام بوران بنت كسرى. ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر وتسميه العرب والغرور الّذي قتل بالبحرين يوم أجداث.
ولما زحف المسلمون إلى العراق ونزل خالد بن الوليد الحيرة حاصرهم بقصورها فلما أشرفوا على الهلكة خرج إليهم إياس بن قبيصة في أشراف أهل الحيرة وأتقى من خالد والمسلمين بالجزية، فقبلوا منه وصالحهم على مائة وستين ألف درهم، وكتب لهم(2/321)
خالد بالعهد والأمان وكانت أوّل جزية بالعراق. وكان فيهم هانئ بن قبيصة أخو إياس بن قبيصة بالقصر الأبيض، وعديّ بن عديّ العبادي ابن عبد القيس، وزيد بن عديّ بقصر العدسيّين، وأهل نصر بن عدس من قصور الحيرة وهو بنو عوان بن عبد المسيح بن كلب بن وبرة وأهل قصر بني بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا: يا حارث ما أنت إلا بقيلة خضراء وعبد المسيح هذا هو المعمّر وهو الّذي بعثه كسرى أبرويز إلى سطيح في شأن رؤيا المرزبان.
ولما صالح إياس بن قبيصة المسلمين وعقد لهم الجزية سخطت عليه الأكاسرة وعزلوه، فكان ملكه تسع سنين ولسنة منها وثمانية أشهر كانت البعوث، وولي حينئذ الخلافة عمر بن الخطّاب وعقد لسعد بن أبي وقّاص على حرب فارس، فكان من أوّل عمل يزدجرد أن أمر مرزبان الحيرة أن يبعث قابوس بن قابوس بن المنذر وأغراه بالعرب ووعده بملك آبائه، وقال له: ادع العرب وأنت على من أجابك منهم كما كان آباؤك، فنهض قابوس إلى القادسية ونزلها وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان للنعمان فكاتبهم مقاربة ووعدا، وانتهى الخبر الى المثنّى بن حارثة الشيبانيّ عقب مهلك أخيه المثنى وقبل وصول سعد، فأسرى من ذي قار وبيت قابوس بالقادسية ففض جمعه وقتله، وكان آخر من بقي من ملوك آل نصر بن ربيعة وانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس. أهـ كلام الطبري وما نقله عن هشام بن الكلبي.
وقد كان المغيرة بن شعبة تزوج هندا بنت النعمان، وسعد بن أبي وقاص تزوّج صدقة بنت النعمان، وخبرهما معروف ذكره المسعودي وغيره. وعدّة ملوك آل نصر عند هشام بن الكلبي عشرون ملكا ومدتهم خمسمائة وعشرون سنة، وعند المسعودي ثلاث وعشرون ملكا ومدّتهم ستمائة وعشرون سنة. قال: وقد قيل إنّ مدّة عمران الحيرة إلى أن خربت عند بناء الكوفة خمسمائة سنة، قال: ولم يزل عمرانها يتناقص إلى أيام المعتضد ثم أقفرت. وفيما نقله بعض الأخباريّين أنّ خالد بن الوليد قال لعبد المسيح: أخبرني بما رأيت من الأيام؟ قال: نعم. قال: رأيت المرأة من الحيرة تضع مكتلها على رأسها ثم تخرج حتى تأتي الشام في قرى متصلة وبساتين ملتفة وقد أصبحت اليوم خرابا والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
هذا ترتيب الملوك من ولد نصر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عديّ الأوّل منهم وهو الترتيب الّذي ذكره الطبري عن ابن الكلبي وغيره، وبين الناس فيه خلاف في(2/322)
ترتيب ملوكهم، بعد اتفاقهم على أنّ الّذي ملك بعد عمرو بن عديّ ابنه امرؤ القيس ثم ابنه عمرو بن امرئ القيس وهو الثالث منهم. قال علي بن عبد العزيز الجرجاني في أنسابه بعد ذكر عمرو هذا: ثم ثار أوس بن قلام العملقي وملك فثار به جحجب بن عتيك اللخميّ فقتله وملك، ثم ملك من بعده امرؤ القيس البدء بن عمرو الثالث، ثم ملك من بعده ابنه النعمان الأكبر ابن امرئ القيس بن الشقيقة وهو الّذي ترك الملك وساح، ثم ملك من بعده ابنه المنذر، ثم ابنه الأسود بن المنذر، ثم أخوه المنذر بن المنذر، ثم النعمان بن الأسود بن المنذر، ثم أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عديّ بن الذميل بن ثور بن أسد بن أربى بن نمارة بن لخم، ثم ملك من بعده امرؤ القيس بن النعمان الأكبر، ثم ابنه امرؤ القيس، ثم كان أمر الحرث بن عديّ الكنديّ حتى تصالحها وتزوّج المنذر بنته هندا فولدت له عمرا، ثم ملك بعد المنذر عمرو بن هند، ثم قابوس بن المنذر أخوه، ثم المنذر بن المنذر أخوه الآخر، ثم ابنه النعمان بن المنذر. هكذا نسبه الجرجاني وهو موافق لترتيب الطبريّ إلّا في الحرث بن عمرو الكندي فانّ الطبري جعله بعد النعمان الأكبر بن امرئ القيس وابنه المنذر، والجرجاني جعله بعد المنذر بن امرئ القيس بن النعمان وبين هذا المنذر والمنذر بن النعمان الأكبر خمسة من ملوكهم فيهم أبو يعفر بن الذميل، فاللَّه أعلم بالصحيح من ذلك.
وأمّا المسعودي فخالف ترتيبهم فقال: بعد النعمان الأكبر ابن امرئ القيس وسمّاه قائد الفرس ملك خمسا وستين سنة، ثم ملك ابنه المنذر خمسا وعشرين سنة وهذا مثل ترتيب الطبريّ والجرجاني. ثم خالفهما وقال: وملك النعمان بن المنذر الحيرة وهو الّذي بنى الخورنق خمسا وثلاثين سنة، وملك الأسود بن النعمان عشرين سنة، وملك ابنه المنذر أربعين سنة وأمّه ماء السماء من النمر بن قاسط من ربيعة وبها عرف، وملك ابنه عمرو بن المنذر أربعا وعشرين سنه ثم ملك بعده اخوه النعمان وامه مامة قتله كسرى وهو آخرهم. هكذا ساق المسعودي نسق ملوكهم ونسبهم وهو مخالف لما ذكره الطبريّ والجرجاني.
وقال السهيليّ: كان للمنذر بن ماء السماء من الولد المملّكين عمرو والنعمان وكان عمرو لهند بنت الحرث آكل المرار قال: وكان عمرو هذا من أعاظم ملوك الحيرة ويعرف بمحرق لأنه حرق مدينة الملهم عند اليمامة، وكان يملك من قبل كسرى(2/323)
أنوشروان، ومن بعده ملك أخوه النعمان بن المنذر وأمه مامة وقتله كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان لموجدة وجدها بسعاية زيد بن عديّ بن زيد العباديّ، وساق قصة مقتله وولاية إياس بن قبيصة الطائي من بعده وما وقع بعد ذلك من حرب ذي قار وغلب العرب فيها على العجم إلى آخرها. فاللَّه أعلم بالصحيح في ترتيب ملوكهم.
وقال ابن سعيد: أوّل حديثهم في الملك أنّ بني نمارة كانوا جندا للعمالقة بأطراف الشام والجزيرة وكانوا مع الزبّاء، ولما قتلت جذيمة قام عمرو بن عديّ منهم بثأره، وكان ابن أخته حتى أدركه وقتله وبنى الحيرة على فرع من الفرات في أرض العراق.
وقال صاحب تواريخ الأمم: ملك مائة وثمانية وعشرين سنة أيام ملوك الطوائف، وبعده امرؤ القيس بن عمرو، ولما مات ولّى أردشير بن سابور على الحيرة أوس بن قلام من العمالقة، ثم كان ملك الحيرة فوليها امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس المعروف بمحرق قال وهو المذكور في قصيدة الأسود بن يعفر التي على رويّ الدال.
وبعده ابنه النعمان بن شقيقة وهي من بني شيبان وجعل معه كسرى واليا للفرس وهو باني الخورنق والسرير على مياه الفرات، وملك إلى أن ساح وتزهّد ثلاثين سنة، وذكره عديّ بن زيد في شعره. وملك بعده ابنه المنذر وهو الّذي سعى لبهرام جور في الملك حتى ثم له وملك أربعا وأربعين سنة، وملك بعده ابنه الأسود، ثم أخوه المنذر بن المنذر ثم النعمان بن الأسود وغضب عليه كسرى وولّي مكانه الذميل بن لخم من غير بيت الملك، ثم عاد الملك إليهم فولي امرؤ القيس بن النعمان الأكبر وهو ابن الشقيقة وهو الّذي غزا بكر بن وائل، وملك بعده ابنه المنذر بن ماء السماء وهي أمّه أخت كليب سيد وائل وطالبه قبّاذ باتباع مزدك على الزندقة فأبى، وولّى مكانه الحرث بن عمرو ابن حجر الكندي، ثم ردّه أنوشروان إلى ملك الحيرة وقتله الحرث الأعرج الغسّاني يوم حليمة كما يأتي. وملك بعده ابنه عمرو بن هند وهي [1] مامة عمة امرئ القيس بن حجر المعروف بمضرط الحجارة لشدّة بأسه، وهو محرق الثاني حرق بني دارم من تميم لأنهم قتلوا أخاه وحلف ليحرقنّ منهم مائة فحرقهم وملك ستة عشرة سنة أيام أنوشروان، فتك به في رواق بين الحيرة والفرات عمرو بن كلثوم سيد تغلب ونهبوا حياءه [2] . وملك بعده أخوه قابوس بن هند وكان أعرج وقتله بعض بني يشكر فولّى
__________
[1] يعني أن أمه مامة وقد مرّ ذكره من قبل.
[2] بمعنى النبات.(2/324)
أنوشروان على الحيرة بعض مرازبة الفرس فلم تستقم له طاعة العرب، فولّى عليهم المنذر بن المنذر بن ماء السماء فخرج إلى جهة الشام طالبا ثأر أبيه من الحرث الأعرج الغسّاني فقتله الحرث أيضا يوم أباغ. وملك بعده ابنه النعمان بن المنذر وكان ذميما أشقر أبرش، وهو أشهر ملوك الحيرة وعليه كثرت وفود العرب وطلبه بثأر أبيه، وحرد من بني جفنة حتى أسر خلقا كثيرا من أشرافهم، وحمله عديّ بن زيد على أن تنصّر وترك دين آبائه، وحبس عديّا فشفع كسرى فيه بسعاية أخ له كان عنده فقتله النعمان في محبسه، ثم نشأ ابنه زيد بن عدي وصار ترجمانا لكسرى، فأغراه بالنعمان وحضر مع كسرى أبرويز في وقعة بين الفرس والروم وانهزمت الفرس ونجا النعمان على فرسه التخوم بعد أن طلبه منه كسرى ينجو عليه فأعرض عنه، ونزل له إياس بن قبيصة الطائي عن فرسه فنجا عليه، ووفد عليه النعمان بعد ذلك فقتله وولّى على الحيرة إياس بن قبيصة، فلم تستقم له طاعة العرب وغضبوا لقتل النعمان، وكان لهم على الفرس يوم ذي قار سنة ثلاث من البعثة، ومات إياس وصارت الفرس يولّون على الحيرة منهم إلى أن ملكها المسلمون.
وذكر البيهقي: أنّ دين بني نصر كان عبادة الأوثان، وأوّل من تنصر منهم النعمان بن الشقيقة وقيل بل النعمان الأخير. وملّكت العرب بتلك الجهات ابنه المنذر فقتله جيش أبي بكر رضي الله عنه. وفي تواريخ الأمم أنّ جميع ملوك الحيرة من بني نصر وغيرهم خمسة وعشرون ملكا في نحو ستمائة سنة والله أعلم، وهذا الترتيب مساو لترتيب الطبري والجرجاني والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين(2/325)
ملوك كندة الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم
قال الطبري عن هشام بن محمد الكلبي: كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم وكان ممن يخدم حسّان بن تبّع عمرو بن حجر سيد كندة لوقته وأبوه حجر هو الّذي تسمّيه العرب آكل المرار وهو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحرث الأصغر ابن معاوية بن الحرث الأكبر ابن معاوية بن كندة، وكان أخا حسّان بن تبّع لأمّه، فلما دوّخ حسّان بلاد العرب وسار في الحجاز وهمّ بالانصراف ولّى على معدّ بن عدنان كلّها أخا حجر بن عمرو هذا وهو آكل المرار، فدانوا له وسار فيهم أحسن سيرة، ثم هلك وملك من بعده ابنه عمرو المقصور.
قال الطبريّ عن هشام: ولما سار حسّان إلى جديس خلفه على بعض أمور ملكه في حمير، فلما قتل حسّان وولي بعده أخوه عمرو بن تبّع وكان ذا رأي ونبل، فأراد أن يكرم عمرو بن حجر بما نقصه من ابن أخيه حسّان، فزوّجه بنت أخيه حسّان بن تبع، وتكلمت حمير في ذلك وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها أن يتزوّج في ذلك البيت أحد من العرب سواهم، فولدت بنت حسّان لعمرو بن حجر الحرث بن عمرو. وملك بعد عمرو بن تبّع عبد كلال بن متون أصغر أولاد حسّان، واستهوت الجنّ منهم تبّع بن حسّان فولوا عبد كلال مخافة أن يطمع في ملكهم أحد من بيت الملك، فولي عبد كلال لسروّرحمة، وكان على دين النصرانية الأولى وكان ذلك يسوء قومه، ودعا إليه رجل من غسّان قدم عليه من الشام، ووثب حمير بالغسّاني فقتلوه. ثم رجع تبّع بن حسّان من استهواء الجنّ وهو أعلم الناس بنجم وأعقل من يعلم في زمانه وأكثرهم حديثا عما كان ويكون، فملك على حمير وهابته حمير والعرب، وبعث بابن أخته الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معدّ والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة فقاتله فقتل النعمان وعدّة من أهل بيته وهزم أصحابه، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمّه ماء السماء امرأة من النمر بن قاسط وذهب ملك آل النعمان وملك الحرث بن عمرو وما(2/327)
كانوا يماكون وفي كتاب الأغاني قال: لما ملك قبّاذ، وكان ضعيف الملك، توثبت العرب على المنذر الأكبر ابن ماء السماء وهو ذو القرنين ابن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه، وإنّما سمّي ذا القرنين لذؤابتين كانتا له، فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر الأصغر فيهم وكان أنكى ولده، وجاءوا بالحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار فملّكوه على بكر وحشدوا له وقاتلوا معه، وظهر على من قاتله من العرب. وأبي قبّاذ أن يمدّ المنذر بجيش فلمّا رأى ذلك كتب إلى الحرث بن عمرو: إني في غير قومي وأنت أحق من ضمني وأنا متحوّل إليك فحوّله وزوّجه بنته هندا.
وقال غير هشام بن محمد: ان الحرث بن عمرو لمّا ولي على العرب بعد أبيه اشتدّت وطأته وعظم بأسه ونازع ملوك الحيرة وعليهم يومئذ المنذر بن امرئ القيس وبين لهم إذ ولي كسرى قبّاذ بعد أبيه فيروز بن يزدجرد وكان زنديقا على رأي ماني، فدعا المنذر إلى رأيه فأبى عليه وأجابه الحرث بن عمرو فملّكه على العرب وأنزله بالحيرة، ثم هلك قبّاذ وولي ابنه أنوشروان فردّ ملك الحيرة إلى المنذر، وصالحه الحرث على أنّ له ما وراء نهر السواد فاقتسما ملك العرب. وفرّق الحرث ولده في معدّ فملك حجرا على بني أسد، وشرحبيل على بني سعد والرباب، وسلمة على بكر وتغلب، ومعديكرب على قيس وكنانة. ويقال: بل كان سلمة على حنظلة وتغلب، وشرحبيل على سعد والرباب وبكر، وكان قيس بن الحرث سيارة أبي قوم نزل بهم فهو ملكهم. وفي كتاب الأغاني إنه ملّك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل، وحنظلة على بني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب وغلفا وهو معديكرب على قيس، وسلمة بن الحرث على بني تغلب والنمر بن قاسط والنمر بن زيد مناة. أهـ كلام الأغاني.
فأمّا شرحبيل: فإنه فسد ما بينه وبين أخيه سلمة واقتتلوا بالكلاب ما بين البصرة والكوفة، على سبع من اليمامة وعلى تغلب السفّاح وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تميم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب، وسبق إلى الكلاب سفيان بن مجاشع بن دارم من أصحاب سلمة في تغلب مع إخوته لأمه. ثم ورد سلمة وأصحابه فاقتتلوا عامة يومهم، وخذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وأتباعها عن تغلب، وصبر بنو بكر وتغلب ليس معهم غيرهم إلى الليل، ونادى منادي سلمة في ذلك اليوم من يقتل شرحبيل ولقاتله مائة من الإبل،(2/328)
فقتل شرحبيل في ذلك اليوم قتله عصيم بن النعمان بن مالك بن غيّاث بن سعد بن زهير بن بكر بن حبيب التغلبي. وبلغ الخبر إلى أخيه معديكرب فاشتدّ جزعه وحزنه على أخيه وزاد ذلك حتى اعتراه منه وسواس هلك به، وكان معتزلا عن الحرث ومنع بنو سعد بن زيد مناة عيال شرحبيل وبعثوا بهم إلى قومهم، فعل ذلك عوف بن شحنة بن الحرث بن عطارد بن عوف بن معد بن كعب. وأمّا سلمة، فإنه فلج فمات.
وأمّا حجر بن الحرث: فلم يزل أميرا على بني أسد إلى أن بعث رسله في بعض الأيام لطلب الإتاوة من بني أسد فمنعوها وضربوا الرسل، وكان حجر بتهامة فبلغه الخبر، فسار إليهم في ربيعة وقيس وكنانة فاستباحهم وقتله أشرافهم وسرواتهم وحبس عبيد ابن الأبرص في جمع منهم فاستعطفه بشعر بعث به إليه فسرّحه وأصحابه وأوفدهم، فلما بلغوا إليه هجموا عليه ببيته فقتلوه وتولّى قتله علباء بن الحرث الكاهلي كان حجر قتل أباه، وبلغ الخبر امرئ القيس فحلف أن لا يقرب لذة حتى يدرك بثأره من بني أسد، وسار صريخا إلى بني بكر وتغلب فنصروه وأقبل بهم فأجفل بنو أسد، وسار إلى المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة وأوقع امرؤ القيس في كنانة فأثخن فيهم، ثم سار في اتباع بني أسد إلى أن أعيا ولم يظفر منهم بشيء ورجعت عنه بكر وتغلب، فسار إلى مؤثر الخير بن ذي جدن من ملوك حمير صريخا بنصره بخمسمائة رجل من حمير وبجمع من العرب سواهم، وجمع المنذر لامرئ القيس ومن معه، وأمدّه كسرى أنوشروان بجيش من الأساورة والتقوا فانهزم امرؤ القيس، وفرّت حمير ومن كان معه ونجا بدمه وما زال يتنقل في القبائل والمنذر في طلبه وسار إلى قيصر صريخا فأمدّه، ثم سعى به الطمّاح عند قيصر أنه يشبب ببنته، فبعث إليه بحلّة مسمومة كان فيها هلاكه ودفن بأنقرة.
قال الجرجاني ولا يعلم لكندة بعد هؤلاء ملوك اجتمع لهم أمرها وأطيع فيها سوى أنهم قد كان لهم رياسة ونباهة وفيهم سؤدد حتى كانت العرب تسميهم كندة الملوك، وكانت الرئاسة يوم جبلة على العساكر لهم، فكان حسّان بن عمرو بن الجور على تميم ومعاوية بن شرحبيل بن حصن على بني عامر والجور هو معاوية بن حجر آكل المرار أخو الملك المقصور عمرو بن حجر. والله وارث الأرض ومن عليها.
وفي كتاب الأغاني: أن امرئ القيس لما سار إلى الشام نزل على السموأل بن عاديا(2/329)
بالأبلق بعد إيقاعه ببني كنانة على أنهم بنو أسد وتفرّق عنه أصحابه كراهية لفعله، واحتاج إلى الهرب فطلبه المنذر بن ماء السماء وبعث في طلبه جموعا من إياد وبهرا وتنوخ وجيوشا من الأساورة أمده بهم أنوشروان، وخذلته حمير وتفرّقوا عنه فالتجأ إلى السموأل ومعه أدراع خمسة مسمّاة كانت لبني آكل المرار يتوارثونها، ومعه بنته هند وابن عمه يزيد بن الحرث بن معاوية بن الحرث ومال وسلاح كان بقي معه والربيع بن ضبع بن نزارة، وأشار عليه الربيع بمدح السموأل فمدحه ونزل به، فضرب لابنته قبة وأنزل القوم في مجلس له براح، فمكثوا ما شاء الله. وسأله امرؤ القيس أن يكتب له إن الحرث بن أبي شمر يوصله إلى قيصر ففعل واستصحب رجلا يدله على الطريق وأودع ابنته وماله وأدراعه السموأل، وخلف ابن عمه يزيد بن الحرث مع ابنته هند ونزل الحرث بن ظالم غازيا على الأبلق، ويقال الحرث بن أبي شمر ويقال ابن المنذر، وبعث الحرث بن ظالم ابنه يتصيّد ويهدّده بقتله فأبى من الخفار ذمته وقتل ابنه فضرب به المثل في الوفاء بذلك [1] .
وأمّا نسب السموأل فقال ابن خليفة عن محمد بن سالم البيكنديّ عن الطوسي عن ابن حبيب: إنه السموأل بن عريض بن عاديا بن حيا، ويقال إنّ الناس يدرجون عريضا في النسب ونسبه عمرو بن شبّة ولم يذكر عريضا، وقال عبد الله بن سعيد عن دارم بن عقال: من ولد السموأل بن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب بن عمرو ابن عامر مزيقياء وهذا عندي مجال لأن الأعشى أدرك سريج بن السموأل وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقياء قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة، وقد قيل إنّ أمه من غسّان وكلهم قالوا هو صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيما المشهور بالزبّاء، وقيل من ولد الكوهن بن هارون، وكان هذا الحصن لجدّه
__________
[1] الواقع ان ابن السموأل هو الّذي كان في رحلة صيد، وعند عودته الى الحصن وجده محاصرا، فالقى قائد الحملة القبض عليه ونادى والده السموأل ليرى ابنه، واطلّ السموأل فرأى ابنه أسيرا والسيف فوق عنقه، فهدد القائد السموأل بقتل ابنه إذا لم يسلم الأمانة ولكن السموأل ابن تسليم الأمانة وبذلك يقول الأعشى:
كن كالسموأل إذا طاف الهمام به ... في جحفل كهزيع الليل جرار
إذا سامه خطتي خسف فقال له: ... قل ما تشاء فإنّي سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك اني مانع جاري(2/330)
عاديا، واحتفر فيه أروية عذبة وتنزل به العرب فتصيبها وتمتار من حصنه وتقيم هنالك سوقا أهـ كلام الأغاني.
وقال ابن سعيد: كندة لقب لثور بن عفير بن الحرث بن مرّة بن أدد بن يشجب بن عبيد الله بن زيد بن كهلان، وبلادهم في شرقي اليمن، ومدينة ملكهم دمون، وتوالى الملك منهم في بني معاوية بن عنزة، وكان التبابعة يصاهرونهم ويولونهم على بني معدّ ابن عدنان بالحجاز، فأوّل من ولي منهم حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية الأكبر وولاه تبّع بن كرب الّذي كسا الكعبة، وولي بعده ابنه عمرو بن حجر، ثم ابنه الحرث المقصور وهو الّذي أبى أن يتزندق مع قبّاذ ملك الفرس فقتل في بني كلب ونهب ماله، وكان قد ولّى أولاده على بني معدّ فقتل أكثرهم، وكان على بني أسد منهم حجر بن الحرث فجار عليهم فقتلوه، وتجرّد للطلب بثأره ابنه امرؤ القيس، وسار إلى قيصر فأغراه به الطماح الأسديّ. وقال: إنه يتغزّل ببنات الملوك فألبسه حلّة مسمومة تقطع بها.
وقال صاحب التواريخ، إنّ الملك انتقل بعدهم إلى بني جبلة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الأكرمين، واشتهر منهم قيس بن معديكرب بن جبلة ومنه الأعشى وابنته العمرّدة من مردة الإنس ولها في قتال المسلمين أخبار في الردة، وأسلم أخوها الأشعث ثم ارتد بعد الوفاة واعتصم بالحبر، ففتحه جيش أبي بكر رضي الله عنه وجيء به إليه أسيرا فمنّ عليه وزوّجه أخته وخرج من نسله بنو الأشعث المذكورون في الدولة الأموية.
ومن بطون كندة السكون والسكاسك، وللسكاسك مجالات شرقي اليمن متميزة وهم معروفون بالسحر والكهانة، ومنهم تجيب بطن كبير كان منهم بالأندلس بنو صمادح وبنو ذي النون وبنو الأفطس من ملوك الطوائف. والله تعالى وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا ربّ غيره.(2/331)
الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم
أوّل ملك كان للعرب بالشام فيما علمناه للعمالقة، ثم لبني إرم بن سام ويعرفون بالأرمانيين. وقد ذكرنا خلاف الناس في العمالقة الذين كانوا بالشام هل هم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام أو من ولد عماليق بن أليفاز بن عيصو، وأنّ المشهور والمتعارف أنهم من عمليق بن لاوذ. كان بنو إرم يومئذ بادية في نواحي الشام والعراق، وقد ذكروا في التوراة، وكان لهم مع ملوك الطوائف حروب كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك كله من قبل، وكان آخر هؤلاء العمالقة ملك السميدع بن هوثر وهو الّذي قتله يوشع بن نون حين تغلب بنو إسرائيل على الشام، وبقي في عقبه ملك في بني الظرب بن حسّان من بني عاملة العماليق، وكان آخرهم ملكا الزبّاء بنت عمرو بن السميدع.
وكانت قضاعة مجاورين لهم في ديارهم بالجزيرة وغلبوا العمالقة لما فشل ريحهم. فلما هلكت الزبّاء وانقرض أمر بني الظرب بن حسّان، ملك أمر العرب تنوخ من بطون قضاعة، وهم تنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسود بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وقد تقدّم ذكر نزولهم بالحيرة والأنبار ومجاورتهم للأرمانيين. فملك من تنوخ ثلاثة ملوك فيما ذكر المسعودي: النعمان بن عمرو، ثم ابنه عمرو بن النعمان، ثم أخوه الحوار بن عمرو، وكانوا مملكين من قبل الروم. ثم تلاشى أمر تنوخ واضمحلّ وغلبت عليهم سليح من بطون قضاعة، ثم الضجاعم منهم من ولد ضجعم بن سعد بن سليح واسمه عمرو بن حولان بن عمران بن الحاف فتنصّروا وملّكتهم الروم على العرب وأقاموا على ذلك مدّة، وكان نزولهم ببلاد مؤاب من أرض البلقاء. ويقال: إنّ الّذي ولّى سليح على نواحي الشام هو قيصر طيطش بن قيصر ماهان.
قال ابن سعيد: كان لبني سليح دولتان في بني ضجعم وبني العبيد، فأمّا بنو ضجعم فملكوا إلى أن جاءهم غسّان فسلبوهم ملكهم، وكان آخرهم زياد بن الهبولة سار بمن أبقى السيف منهم إلى الحجاز فقتله والي الحجاز للتبابعة حجر آكل المرار. قال: ومن النسّابين من يطلق تنوخ على بني ضجعم ودوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا، ثم(2/333)
سار الضجاعم إلى بريّة الشام ودوس إلى بريّة العراق. قال: وأمّا بنو العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح فتوارثوا الملك بالحضر الّذي آثاره باقية في برية سنجار، والمشهور منهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون وقصّته مع سابور معروفة أهـ كلام ابن سعيد. ثم استحالت صبغة الرئاسة عن العرب لحمير وصارت إلى كهلان إلى بلاد الحجاز، ولما فصلت الأزد من اليمن كان نزولهم ببلاد عكّ ما بين زبيد وزمع فحاربوهم وقتلوا ملك عكّ قتله ثعلبة بن عمرو مزيقياء. قال بعض أهل اليمن، عكّ بن عدنان بن عبد الله بن أدد. قال الدار الدّارقطنيّ: عكّ بن عبد الله بن عدثان بالثاء المثلثة وضم العين ولا خلاف أنه بنونين كما لم يختلف في دوس بن عدثان قبيلة من الأزد أنه بالثاء المثلثة. ثم نزلوا بالظهران وقاتلوا جرهم بمكّة، ثم افترقوا في البلاد فنزل بنو نصر بن الأزد الشراة وعمان ونزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بيثرب وأقام بنو حارثة بن عمر وبمرّ الظهران بمكّة وهم يقال لهم خزاعة.
وقال المسعودي: سار عمرو مزيقياء حتى إذا كان الشراة بمكّة أقام هنالك بنو نصر بن الأزد وعمران الكاهن، وعديّ بن حارثة بن عمرو بالأزد حتى نزلوا بين بلاد الأشعريّين وعكّ على ماء يقال له غسّان بين واديين يقال لهما زبيد وزمع فشربوا من ذلك الماء فسمّوا غسان، وكانت بينهم وبين معدّ حروب إلى أن ظفرت بهم معدّ فأخرجوهم إلى الشراة وهو جبل الأزد الذين هم به وهم على تخوم الشام ما بينه وبين الجبال مما يلي أعمال دمشق والأردن.
قال ابن الكلبي: ولد عمرو بن عامر مزيقياء جفنة ومنه الملوك والحرث وهو محرق أوّل من عاقب بالنار، وثعلبة وهو العنقا، وحارثة وأبا حارثة ومالكا وكعبا ووداعة وهو في همدان وعوفا ودهل وائل ودفع ذهل إلى نجران ومنه أسقف عبيدة وذهلا وقيسا درج هؤلاء الثالثة وعمران بن عمرو فلم يشرب ابو حارثة ولا عمران ولا وائل ماء غسّان فليس يقال لهم غسّان. وبقي من أولاد مزيقياء ستة شربوا منه فهم غسّان وهم: جفنة وحارثة وثعلبة ومالك وكعب وعوف، ويقال إنّ ثعلبة وعوفا لم يشربا منه، ولمّا نزلت غسّان الشام جاوروا الضجاعم وقومهم من سليح ورئيس غسّان يومئذ ثعلبة بن عمرو بن المجالة بن الحرث بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن مازن بن الأزد، ورئيس الضجاعم يومئذ داود اللثق بن هبولة بن عمرو بن عوف بن(2/334)
ضجعم. وكانت الضجاعم هؤلاء ملوكا على العرب عمالا للروم كما قلناه، يجمعون ممن نزل بساحتهم لقيصر، فغلبتهم غسّان على ما بأيديهم من رياسة العرب لما كانت صبغة رياستهم الحميرية قد استحالت وعادت إلى كهلان وبطونها وعرفت الرئاسة منها باليمن قبل فصولهم، وربّما كانوا أولى عدّة وقوّة، وإنّما العزة للكاثر وكانت غسّان لأوّل نزولها بالشام طالبها ملوك الضجاعم بالإتاوة فمانعتهم غسّان فاقتتلوا فكانت الدائرة على غسّان، وأقرّت بالصغار وأدت الإتاوة حتى نشأ جذع بن عمرو [1] بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد، ورجال سليح من ولد رئيسهم داود اللثق وهو سبطة بن المنذر بن داود ويقال بل قتلة. فالتقوا فغلبتهم غسّان وأقادتهم وتفرّدوا بملك الشام وذلك عند فساد كان بين الروم وفارس، فخاف ملك الروم أن يعينوا عليه فارسا، فكتب إليهم واستدناهم ورئيسهم يومئذ ثعلبة بن عمرو أخو جذع بن عمرو، وكتبوا بينهم الكتاب على أنه إن دهمهم أمر من العرب أمدّهم بأربعين ألفا من الروم وإن دهمه أمر أمدته غسّان بعشرين ألفا، وثبت ملكهم على ذلك وتوارثوه. أوّل من ملك منهم ثعلبة بن عمرو فلم يزل ملكها إلى أن هلك وولي مكانه منهم ثعلبة بن عمرو مزيقياء.
قال الجرجاني: وبعد ثعلبة بن عمرو ابنه الحرث بن ثعلبة يقال إنّه ابن مارية، ثم بعده ابنه المنذر بن الحرث، ثم ابنه النعمان بن المنذر بن الحرث، ثم أبو بشر بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، هكذا نسبه بعض النسّاب، والصحيح أنه ابن عوف بن الحرث بن عوف بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن مازن، ثم الحرث الأعرج ابن أبي شمر، ثم عمرو بن الحرث الأعرج، ثم المنذر بن الحرث الأعرج، ثم الأيهم بن جبلة بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ثم ابنه جبله.
وقال المسعودي: أوّل من ملك منهم الحرث بن عمرو مزيقياء، ثم بعده الحرث بن ثعلبة بن جفنة وهو ابن مارية ذات القرطين، وبعده النعمان بن الحرث بن جفنة بن الحرث، ثم أبو شمر بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن الحارث، ثم ملك بعده أخوه المنذر بن الحارث، ثم أخوه جبلة بن الحارث، ثم بعده عوف بن أبي شمر، ثم
__________
[1] انظر مجمع الأمثال في قوله خذ من جذع ما أعطاك أهـ.(2/335)
بعده الحارث بن أبي شمر وعلى عهده كانت البعثة وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كتب إليه من ملوك تهامة والحجاز واليمن وبعث إليه شجاع بن وهب الأسدي يدعوه إلى الإسلام ويرغبه في الدين كذا عند ابن إسحاق. وكان النعمان بن المنذر على عهد الحارث بن أبي شمر هذا وكانا يتنازعان في الرئاسة ومذاهب المدح، وكان شعراء العرب تفد عليهما مثل الأعشى وحسّان بن ثابت وغيرهما.
(ومن شعر حسّان) رضي الله تعالى عنه في مدح أبناء جفنة:
للَّه درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأوّل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
ثم ملك بعد الحارث بن أبي شمرا ابنه النعمان، ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة، وجبلة جدّه هو الّذي ملك بعد أخويه شمر والمنذر.
وقال ابن سعيد: أوّل من ملك من غسّان بالشام وأذهب ملك الضجاعم جفنة بن مزيقياء. ونقل عن صاحب تواريخ الأمم: لما ملك جفنة بنى جلّق وهي دمشق وملك خمسا وأربعين سنة، واتصل الملك في بنيه إلى أن كان منهم الحارث الأعرج ابن أبي شمر وأمه مارية ذات القرطين من بني جفنة بنت الهانئ المذكورة في شعر حسّان بأرض البلقاء ومعان. قال ابن قتيبة: وهو الّذي سار إليه المنذر بن ماء السماء من ملوك الحيرة في مائة ألف، فبعث إليه الحارث مائة من قبائل العرب فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، فأظهروا أنهم رسل في الصلح حتى إذا أحاطوا برواق المنذر فتكوا به وقتلوا جميع من كان معه في الرواق وركبوا خيولهم، فمنهم من نجا ومنهم من قتل.
وحملت غسّان على عسكر المنذر وقد اختطوا فهزموهم، وكانت حليمة بنت الحارث تحرّض الناس وهم منهزمون على القتال فسمي يوم حليمة [1] ، ويقال إنّ النجوم ظهرت فيه بالنهار من كثرة العجاج. ثم توالى الملك في ولد الحارث الأعرج إلى أن ملك منهم جفنة بن المنذر بن الحارث الأعرج وهو محرق لأنه حرق الحيرة دار ملك آل النعمان، وكان جوّالا في الآفاق وملك ثلاثين سنة. ثم كان ثالثة في الملك النعمان
__________
[1] جاء في «أيام العرب» ان غسان أو شكت على الهزيمة فخرجت حليمة بالعطر على الجنود وأخذت ترشهم به وتحرضهم على قتل المنذر، وتعد القاتل بأنها ستتزوجه فبعث ذلك الحماسة في القلوب، واندفعت غسان في القتال حتى تغلبت على المناذرة.(2/336)
بن عمرو بن المنذر الّذي بنى قصر السويدا وقصر حارث عند صيدا وهو مذكور في شعر النابغة [1] ولم يكن أبوه ملكا وإنما كان يغزو بالجيوش [2] ، ثم ملك جبلة بن النعمان وكان منزله بصفّين وهو صاحب عين أباغ يوم كانت له الهزيمة فيه على المنذر بن المنذر ابن ماء السماء وقتل المنذر في ذلك اليوم، ثم اتصل الملك في تسعة منهم بعده وكان العاشر أبو كرب النعمان بن الحارث الّذي رثاه النابغة وكان منزله بالجولان من جهة دمشق، ثم ملك الأيهم بن جبلة بن الحارث وكان له رأي في الإفساد بين القبائل حتى أفنى بعضهم بعضا فعل ذلك ببني جسر وعاملة وغيرهم وكان منزله بتدمر وملك بعده منهم خمسة، فكان السادس منهم ابنه جبلة بن الأيهم وهو آخر ملوكهم أهـ.
كلام ابن سعيد.
واستفحل ملك جبلة هذا وجاء الله بالإسلام وهو على ملكه، ولما افتتح المسلمون الشام أسلم جبلة وهاجر إلى المدينة، واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهنّ لرؤيته لكرم وفادته، وأحسن عمر رضي الله عنه نزله وأكرم وفادته وأجلّه بأرفع رتب المهاجرين، ثم غلب عليه الشقاء ولطم رجلا من المسلمين من فزارة وطئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر رضي الله عنه في القصاص فأخذته العزّة بالإثم، فقال له عمر رضي الله عنه: لا بدّ أن أقيده منك، فقال له: اذن أرجع عن دينكم هذا الّذي يقاد فيه للسوقة من الملوك، فقال له عمر رضي الله عنه: اذن أضرب عنقك، فقال أمهلني الليلة حتى أرى رأيي، واحتمل رواحله وأسرى فتجاوز الدروب الى قيصر ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة. وفيما تذكره الثقات أنه ندم ولم يزل باكيا على فعلته تلك وكان فيما يقال يبعث بالجوائز الى حسان بن ثابت لما كان منه في مدح قومه ومدحه في الجاهلية. وعند ابن هشام أنّ شجّاع بن وهب إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة.
قال المسعودي: جميع ملوك غسّان بالشام أحد عشر ملكا وقال: إنّ النعمان والمنذر إخوة جبلة وأبي شمر وكلهم بنو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ملكوا كلهم.
__________
[1] وفي أبيات النابغة وردت حارب لا حارث حيث يقول:
لئن كان للقصرين: قصر يحلق ... وقصر بصيداء الّذي عند حارب
[2] وفي نسخة ثانية: الجيش.(2/337)
قال: وقد ملك الروم على الشام من غير آل جفنة مثل: الحارث الأعرج وهو أبو شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف وعوف هذا جدّ ثعلبة بن عامر قاتل داود اللثق، وملكوا عليهم أيضا أبا جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن ثعلبة بن مزيقياء وهو أبو جبيلة الّذي استصرخه مالك بن العجلان على يهود يثرب حسبما نذكر بعد.
وقال ابن سعيد عن صاحب تواريخ الأمم: إنّ جميع ملوك بني جفنة اثنان وثلاثون ومدّتهم ستمائة سنة، ولم يبق لغسّان بالشام قائمة، وورث أرضهم بها قبيلة طيِّئ.
قال ابن سعيد: وأمراؤهم بنو مرا وأمّا الآن فأمراؤهم بنو مهنّا وهما معا لربيعة بن عليّ ابن مفرّج بن بدر بن سالم بن عليّ بن سالم بن قصة بن بدر بن سميع. وقامت غسان بعد منصرفها من الشام بأرض القسطنطينية حتى انقرض ملك القياصرة، فتجهزوا إلى جبل شركس، وهو ما بين بحر طبرستان وبحر نيطش الّذي يمدّه خليج القسطنطينية، وفي هذا الجبل باب الأبواب وفيه من شعوب الترك المتنصّرة الشركس وأركس واللاص وكسا ومعهم أخلاط من الفرس ويونان، والشركس غالبون على جميعهم، فانحازت قبائل غسّان إلى هذا الجبل عند انقراض القياصرة والروم وتحالفوا معهم واختلطوا بهم ودخلت أنساب بعضهم في بعض، حتى ليزعم كثير من الشركس أنّهم من نسب غسّان. وللَّه حكمة بالغة في خلقه والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا انقضاء لملكه ولا ربّ غيره.(2/338)
الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشأن نصرتهم وكيف انقراض أمرهم
قد ذكرنا فيما تقدّم شأن يثرب وأنها من بناء يثرب بن فانية بن مهلهل بن إرم بن عبيل ابن عوص وعبيل أخوه عاد. وفيما ذكر السهيليّ: أن يثرب بن قائد بن عبيل بن مهلاييل بن عوص بن عمليق بن لاوذ بن إرم، وهذا أصح وأوجه. وقد ذكرنا كيف صار أمر هؤلاء لإخوانهم جاسم من الأمم العمالقة وأن ملكهم كان يسمّى الأرقم وكيف تغلب بنو إسرائيل عليه وقتلوه وملكوا الحجاز دونه كله من أيدي العمالقة، ويظهر من ذلك أنّ الحجاز لعهدهم كان آهلا بالعمران وجميع مياهه، يشهد بذلك أنّ داود عليه السلام لمّا خلع بنو إسرائيل طاعته وخرجوا عليه بابنه أشبوشت فرّ مع سبط يهوذا إلى خيبر وملك ابنه الشام وأقام هو وسبط يهوذا بخيبر سبع سنين في ملكه، حتى قتل ابنه وعاد إلى الشام. فيظهر من هذا أنّ عمرانه كان متصلا بيثرب ويجاوزها إلى خيبر. وقد ذكرنا هنالك كيف أقام من بني إسرائيل من أقام بالحجاز وكيف تبعتهم يهود خيبر وبنو قريظة.
قال المسعودي: وكانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأكثرها ماء فنزلوا بلاد يثرب واتخذوا بها الأموال وبنوا الآطام [1] والمنازل في كل موطن، وملّكوا أمر أنفسهم، وانضافت إليهم قبائل من العرب نزلوا معهم واتخذوا الأطم والبيوت وأمرهم راجع إلى ملوك المقدس من عقب سليمان عليه السلام. قال شاعر بني نعيف:
ولو نطقت يوما قباء لخبّرت ... بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع
وآطامنا عادية مشمخرّة ... تلوح فتنعى من يعادي ويمنع
فلمّا خرج مزيقياء من اليمن وملك غسّان بالشام ثم هلك، وملك ابنه ثعلبة العنقاء ثم هلك ثعلبة العنقاء، وولي أمرهم بعد ثعلبة عمرو ابن أخيه جفنة سخط مكانه ابنه حارثة فأجمع الرحلة إلى يثرب، وأقام بنو جفنة بن عمرو ومن انضاف إليهم بالشام، ونزل حارثة يثرب على يهود خيبر وسألهم الحلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من
__________
[1] الآطام: ج أطم وهي القلعة.(2/342)
ذلك ما سأل. قال ابن سعيد: وملك اليمن يومئذ شريب بن كعب فكانوا بادية لهم إلى أن انعكس الأمر بالكثرة والغلبة.
ومن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني قال: بنو قريظة وبنو النضير الكاهنان من ولد الكوهن بن هارون عليه السلام، كانوا بنواحي يثرب بعد موسى عليه السلام وقبل تفرّق الأزد من اليمن بسيل العرم ونزول الأوس والخزرج يثرب وذلك بعد الفجّار.
ونقل ذلك عن عليّ بن سليمان الأخفش بسنده إلى العماري قال: ساكنو المدينة العماليق وكانوا أهل عدوان وبغي، وتفرّقوا في البلاد، وكان بالمدينة منهم بنو نعيف وبنو سعيد وبنو الأزرق وبنو نظرون، وملك الحجاز منهم الأرقم ما بين تيماء إلى فدك وكانوا ملوك المدينة ولهم بها نخل وزرع، وكان موسى عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة يغزونهم، وبعث إلى العمالقة جيشا من بني إسرائيل وأمرهم أن لا يستبقوا أحدا فأبقوا ابنا للأرقم ضنّوا به على القتل، فلمّا رجعوا بعد وفاة موسى عليه السلام وأخبروا بني إسرائيل بشأنه فقالوا هذه معصية لا تدخلوا علينا الشام، فرجعوا إلى بلاد العمالقة ونزلوا المدينة وكان هذا أوّلية سكنى اليهود بيثرب. وانتشروا في نواحيها واتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع ولبثوا زمانا، وظهر الروم على بني إسرائيل بالشام وقتلوهم وسبوا، فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل هاربين إلى الحجاز وتبعهم الروم فهلكوا عطشا في المفازة بين الشام والحجاز. وسمّي الموضع تمر الروم. ولما قدم هؤلاء الثلاثة المدينة نزلوا العالية فوجدوها وابية [1] وارتادوا. ونزل بنو النضير مما يلي البهجان، وبنو قريظة وبنو يهدل على نهروز. وكان ممن سكن المدينة من اليهود حين نزلها الأوس والخزرج بنو الشقمة. وبنو ثعلبة وبنو زرعة وبنو قينقاع وبنو يزيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل وبنو عوف وبنو عصص، وكان بنو يزيد من بليّ وبنو نعيف من بليّ وبنو الشقمة من غسّان. وكان يقال لبني قريظة وبني النضير الكاهنان كما مرّ. فلما كان سيل العرم وخرجت الأزد نزلت أزدشنوءة الشام بالسراة وخزاعة بطوى، ونزلت غسّان بصرى [2] وأرض الشام، ونزلت أزد عمان الطائف، ونزلت الأوس والخزرج يثرب نزلوا في ضرار بعضهم بالضاحية وبعضهم بالقرى مع أهلها، ولم يكونوا أهل نعم وشاء لأنّ المدينة كانت ليست بلاد مرعى، ولا نخل
__________
[1] اي وجدوها موبؤة، نزل بها الوباء.
[2] وتعرف ببصرى الشام.(2/343)
لهم ولا زرع إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من الموات والأموال لليهود فلبثوا حينا. ثم وفد مالك بن عجلان إلى أبي جبلة الغسّاني وهو يومئذ ملك غسّان فسأله فأخبره عن ضيق معاشهم، فقال: ما بالكم لم تغلبوهم حين غلبنا أهل بلدنا؟
ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم، فرجع مالك وأخبرهم أنّ الملك آبا جبيلة يزورهم فأعدوا له نزلا فأقبل ونزل بذي حرض، وبعث إلى الأوس والخزرج بقدومه، وخشي أن يتحصّن منه اليهود في الآطام فاتخذ حائرا وبعث إليهم فجاءوه في خواصهم وحشمهم، وأذن لهم في دخول الحائر وأمر جنوده فقتلوهم رجلا رجلا إلى أن أتوا عليهم، وقال للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنّكم ورجع الى الشام فأقاموا في عداوة مع اليهود. ثم أجمع مالك بن العجلان وصنع لهم طعاما ودعاهم فامتنعوا لغدرة أبي جبيلة، فاعتذر لهم مالك عنها وأنه لا يقصد نحو ذلك فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل منهم سبعة وثمانين من رؤسائهم، وفطن الباقون فرجعوا وصوّرت اليهود بالحجاز مالك بن العجلان في كنائسهم وبيعهم وكانوا يلعنونه كلما دخلوا. ولما قتلهم مالك ذلّوا وخافوا وتركوا مشي بعضهم إلى بعض في الفتنة كما كانوا يفعلون من قبل، وكان كل قوم من اليهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا أهـ كلام الأغاني.
وكان لحارثة بن ثعلبة ولدان أحدهما أوس والآخر خزرج، وأمّهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة وقيل بنت كاهن بن عذرة من قضاعة، فأقاموا كذلك زمانا حتى أثروا وامتنعوا في جانبهم وكثر نسلهم وشعوبهم، فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس منهم خطمة بن جشم بن مالك وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، ومن بني عوف بن عمرو حنش ومالك وكلفة كلهم بنو عوف، ومن مالك بن عوف معاوية وزيد. فمن زيد عبيد وضبيعة وأميّة ومن كلفة بن عوف جحجبا بن كلفة ومن مالك بن الأوس أيضا الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو ابن مالك، فمن كعب بنو ظفر ومن الحارث بن الخزرج حارثة وجشم، ومن جشم بنو عبد الأسهل، ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرّة بن مالك فبنوا سعد الجعادرة، ومن بني عامر عطيّة وأميّة ووائل كلهم بنو زيد بن قيس بن عامر، ومن مالك بن الأوس أيضا أسلم وواقف بنو امرئ القيس بن مالك فهذه بطون الأوس.(2/344)
وأمّا الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث، فمن كعب بن الخزرج بنو ساعدة بن كعب، ومن عمرو بن الخزرج بنو النجّار وهم تيم الله بن ثعلبة بن عمرو وهم شعوب كثيرة: بنو مالك وبنو عديّ وبنو مازن وبنو دينار كلهم بنو النجّار، ومن مالك بن النجّار مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو، ومن عمرو عديّ معاوية، ومن عوف بن الخزرج بنو سالم والقواقل وهما عوف بن عمرو بن عوف.
والقواقل ثعلبة ومرضخة بنو قوقل بن عوف، ومن سالم بن عوف بنو العجلان بن زيد بن عصم بن سالم وبنو سالم بن عوف، ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم وتزيد بن جشم، فمن غضب بن جشم بنو بياضة وبنو زريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، ومن تزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن تزيد، ومن الحارث بن الخزرج بنو خدرة وبنو حرام ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. فهذه بطون الخزرج.
فلما انتشر بيثرب هذان الحيّان من الأوس والخزرج وكثروا يهود، خافوهم على أنفسهم، فنقضوا الحلف الّذي عقدوه لهم وكان العزّة يومئذ بيثرب لليهود، قال قيس بن الحطيم:
كنّا إذا رابنا قوم بمظلمة ... شدّت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا
بنو الرهون وواسونا بأنفسهم ... بنو الصريخ فقد عفّوا وقد كرموا
ثم نتج فيهم بعد حين مالك بن العجلان وقد ذكر نسب العجلان، فعظم شأن مالك وسوّده الحيّان، فلما نقض يهود الحلف واقعهم وأصاب منهم ولحق بأبي جبيلة ملك غسّان بالشام وقيل بعث إليه الرنق بن زيد بن امرئ القيس فقدم عليه فأنشده:
أقسمت أطعم من رزق قطرة ... حتى تكثّر للنجاة رحيل
حتى ألاقي معشر أنّى لهم ... خلّ ومالهم لنا مبذول
أرض لنا تدعى قبائل سالم ... ويجيب فيها مالك وسلول
قوم أولو عزّ وعزّة غيرهم ... إنّ الغريب ولو يعزّ ذليل
فأعجبه وخرج في نصرتهم. وأبو جبيلة هو ابن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، كان حبيب بن عبد حارثة وأخوه غانم ابنا الجشمي ساروا مع غسّان إلى الشام وفارقوا الخزرج. ولما خرج أبو جبيلة إلى يثرب(2/345)
لنصرة الأوس والخزرج لقيه أبناء قيلة وأخبروه أنّ يهود علموا بقصده فتحصّنوا في آطامهم فوري [1] عن قصده باليمن، وخرجوا إليه فدعاهم إلى صنيع أعده لرؤسائهم ثم استلحمهم، فعزت الأوس والخزرج من يومئذ وتفرّقوا في عالية يثرب وسافلتها يتبوّءون منها حيث شاءوا، وملكت أمرها على يهود، فذلت اليهود وقلّ عددهم وعلت قدم أبناء قيلة عليهم، فلم يكن لهم امتناع إلّا بحصونهم وتفرّقهم أحزابا على الحيّين إذا اشتجرا.
وفي كتاب ابن إسحاق: إنّ تبعا أبا كرب غزا المشرق فمرّ بالمدينة وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة، فلما رجع أجمع على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن ظلّة، وظلة أمّه وأبوه معاوية بن عمرو. قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عديّ بن النجّار ويقال له أحمر نزل بهم تبّع، وقال: إنّما التمر لمن أبره. فزاد ذلك تبّعا حنقا عليهم فاقتتلوا. وقال ابن قتيبة في هذه الحكاية إنّ الّذي عدا على التبّعي هو مالك بن العجلان، وأنكره السهيليّ، وفرّق بين القصتين بأنّ عمرو بن ظلة كان لعهد تبّع ومالك بن العجلان لعهد أبي جبيلة واستبعد ما بين الزمانين. ولم يزل هذان الحيّان قد غلبوا اليهود على يثرب. وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر وكانت قد تكون بينهم في الحيّين فتن وحروب ويستصرخ كل بمن دخل في حلفه من العرب ويهود.
قال ابن سعيد: ورحل عمرو بن الإنابة من الخزرج إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة، واتصلت الرئاسة في الخزرج والحرب بينهم وبين الأوس، ومن أشهر الوقائع التي كانت بينهم يوم بعاث قبل المبعث، كان على الخزرج فيه عمرو بن النعمان بن صلاة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة، وكان على الأوس يومئذ حضير الكتائب ابن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. وكان حلفاء الخزرج يومئذ أشجّ من غطفان وجهينة من قضاعة، وحلفاء الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس وقريظة والنضير من يهود، وكان الغلب صدر النهار للخزرج ثم نزل حضير وحلف لا أركب أو أقتل، فتراجعت الأوس وحلفاؤها وانهزم الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان رئيسهم. وكان آخر الأيام بينهم،
__________
[1] أي أخفى قصده.(2/346)
وصبحهم الإسلام وقد سئموا الحرب وكرهوا الفتنة، فأجمعوا على أن يتوّجوا عبد الله ابن أبي بن سلول. ثم اجتمع أهل العقبة منهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ودعاهم إلى نصرة الإسلام، فجاءوا إلى قومهم بالخبر كما نذكر وأجابوا واجتمعوا على نصرته، ورئيس الخزرج سعد بن عبادة والأوس سعد بن معاذ. قالت عائشة:
كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسوله، ولما بلغهم خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكّة وما جاء به من الدين وكيف أعرض قومه عنه وكذّبوه وآذوه وكان بينهم وبين قريش إخاء قديم وصهر، فبعث أبو قيس بن الأسلت من بني مرّة بن مالك بن الأوس ثم من بني وائل منهم واسمه صيفي بن عامر بن شحم بن وائل وكان يحبهم لمكان صهره فيهم، فكتب إليهم قصيدة يعظّم لهم فيها الحرمة ويذكر فضلهم وحلمهم وينهاهم عن الحرب، ويأمرهم بالكفّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكّرهم بما رفع الله عنهم من أمر الفيل وأوّلها:
أيا راكبا إمّا عرضت فبلغن ... مقالة أوسيّ لؤيّ بن غالب
تناهز خمسا وثلاثين بيتا ذكرها ابن إسحاق في كتاب السير، فكان ذلك أوّل ما ألقح بينهم من الخير والإيمان.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يئس من إسلام قومه يعرض نفسه على وفود العرب وحجاجهم أيّام الموسم أن يقوموا بدين الإسلام وبنصره حتى يبلغ ما جاء به من عند الله وقريش يصدّونهم عنه ويرمونه بالجنون والشعر والسحر كما نطق به القرآن، وبينما هو في بعض المواسم عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ست نفر اثنان من بني غانم بن مالك وهما: أسعد بن زرارة بن عديّ بن عبيد الله بن ثعلبة بن غانم ابن عوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غانم وهو ابن عفراء، ومن بني زريق بن عامر: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، ومن بني غانم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عبد الله بن عمرو بن الحرث بن ثعلبة بن الحرث ابن حرام بن كعب بن غانم كعب بن رئاب بن غانم وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غانم بن سواد بن غانم وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب ابن غانم. فلما لقيهم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج! قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم! فقال: ألا تجلسون أكلمكم؟ فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله إنه(2/347)
النبي الّذي تعدكم يهودية فلا يسبقنّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم وصدّقوه وآمنوا به وأرجأوا الأمر في نصرته إلى لقاء قومهم، وقدموا المدينة فذكروا لقومهم شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم وافى الموسم في العام المقبل اثنا عشر منهم فوافوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحرث وأخوه معاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك ابن العجلان، وعقبة بن عامر من الستة الأولى، وستة آخرون منهم من بني غانم بن عوف من القواقل: منهم عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غانم، ومن بني زريق ذكوان بن عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق والعبّاس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان، هؤلاء التسعة من الخزرج وأبو عبد الرحمن بن زيد بن ثعلبة بن خزيمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة بن بني عصيّة من بليّ إحدى بطون قضاعة حليف لهم، ومن الأوس رجلان الهيثم بن التيهان واسمه مالك بن التيهان بن مالك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهر وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف. فبايعوه على الإسلام بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض الحرب، ومعناه أنه حينئذ لم يؤمر بالجهاد وكانت البيعة على الإسلام فقط، كما وقع في بيعة النساء على أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ 60: 12 الآية، وقال لهم: فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفّارة له، وإن سترتم عليه في الدنيا إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّب وإن شاء غفر. وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي يقريهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدين، فكان يصلّي بهم، وكان منزله على أسعد بن زرارة.
وغلب الإسلام في الخزرج وفشا فيهم وبلغ المسلمون من أهل يثرب أربعين رجلا فجمعوا، ثم أسلم من الأوس سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل وابن عمه أسيد بن حضير الكتائب وهما سيدا بني عبد الأشهل، وأوعب الإسلام بني عبد الأشهل وأخذ من كل بطن من الأوس ما عدا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وهي أوس أمّه من الأوس من بني حارثة، ووقف بهم عن الإسلام أبو قيس بن الأسلت يرى رأيه حتى مضى صدر من الإسلام ولم يبق دار من(2/348)
دور أبناء قيلة إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون.
ثم رجع مصعب إلى مكّة، وقدم المسلمون من أهل المدينة معه فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق فبايعوه، وكانوا ثلاثمائة وسبعين رجلا وامرأتين، بايعوه على الإسلام وأن يمنعوه ممن أراده بسوء ولو كان دون ذلك القتل، وأخذ عليهم النقباء اثني عشر تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وأسلم ليلتئذ عبد الله بن عمرو بن حرام وأبو جابر بن عبد الله، وكان أوّل من بايع البراء بن معرور من بني تزيد بن جشم من الخزرج. وصرخ الشيطان بمكانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنطست [1] قريش الخبر فوجدوه قد كان فخرجوا في طلب القوم، وأدركوا سعد بن عبادة وأخذوه وربطوه حتى أطلقه جبير بن مطعم بن عدي ابن نوفل والحرث بن حرب بن أمية بن عبد شمس لجوار كان له عليهما ببلده. فلمّا قدم المسلمون المدينة أظهروا الإسلام ثم كانت بيعة الحرب حتى أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، فبايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرته عليهم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله وأن يقوموا بالحق أينما كانوا ولا يخافوا في الله لومة لائم. ولما تمت بيعة العقبة وأذن الله لنبيّه في الحرب أمر المهاجرين الذين كانوا يؤذون بمكّة أن يلحقوا بإخوانهم من الأنصار بالمدينة، فخرجوا أرسالا وأقام هو بمكّة ينتظر الإذن في الهجرة فهاجر من المسلمين كثير سمّاهم ابن إسحاق وغيره.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن هاجر هو وأخوه زيد وطلحة بن عبيد الله وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأنيسة وأبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وعثمان بن عفّان رضي الله عنهم. ثم أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فهاجر وصحبه أبو بكر رضي الله عنه، فقدم المدينة ونزل في الأوس على كلثوم بن مطعم بن امرئ القيس بن الحرث بن زيد بن عبيد بن مالك بن عوف. وسيد الخزرج يومئذ عبد الله بن أبي ابن سلول وأبيّ هو ابن مالك بن الحرث بن عبيد واسم أم عبيد سلول وعبيد هو ابن مالك بن سالم بن غانم بن عوف بن غانم بن مالك بن النجّار، وقد نظموا له الخرز ليملّكوه على الحيين، فغلب على أمره واجتمعت أبناء قيلة كلهم على الإسلام، فضغن لذلك لكنه أظهر أن يكون له اسم منه، فأعطى الصفقة وطوى على النفاق
__________
[1] تنطست: اي تجسّست عن الاخبار وبحثت عنها. (قاموس) .(2/349)
كما يذكر بعد. وسيد الأوس يومئذ أبو عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، فخرج إلى مكة هاربا من الإسلام حين رأى اجتماع قومه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بغضا في الدين، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، ولما فتح الطائف فرّ الى الشام فمات هنالك.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري حتى ابنتي مساكنه ومسجده ثم انتقل إلى بيته. وتلاحق به المهاجرون واستوعب الإسلام سائر الأوس والخزرج وسمّوا الأنصار يومئذ بما نصروا من دينه، وخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم وكتب بين المهاجرين والأنصار كتابا وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم شرط لهم كما يفيده كتاب ابن إسحاق فلينظر هنالك.
ثم كانت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه فغزاهم وغزوة وكانت حروبهم سجالا، ثم كان الظهور والظفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم آخرا كما نذكر في سيرته صلى الله عليه وسلم، وصبر الأنصار في المواطن كلها واستشهد من أشرافهم ورجالاتهم كثير هلكوا في سبيل الله وجهاد عدوّه. ونقض أثناء ذلك اليهود الذين بيثرب على المهاجرين والأنصار ما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهروا عليه، فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيهم وحاصرهم طائفة بعد أخرى، وأمّا بنو قينقاع فإنّهم تثاوروا مع المسلمين بسيوفهم وقتلوا مسلما، وأمّا بنو النضير وقريظة فمنهم من قتله الله وأجلاه، فأمّا بنو النضير فكان من شأنهم بعد أحد وبعد بئر معونة جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من القرى، ولم يكن علم بعقدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما نذكره، فهمّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءهم لذلك خديعة منهم ومكرا، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء وأن يحملوا ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة [1] وافترقوا في خيبر وبني قريظة.
وأمّا بنو قريظة فظاهروا قريشا في غزوة الخندق فلما فرج الله كما نذكره حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكمه وكلمته وشفع الأوس فيهم، وقالوا تهبهم لنا كما وهبت بني قينقاع للخزرج، فردّ حكمهم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا في المسجد أثبت في غزوة الخندق، فجاء
__________
[1] الدرع.(2/350)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم تحكم في هؤلاء بعد ان استحلف الأوس أنهم راضون بحكمه، فقال: يا رسول الله تضرب الأعناق وتسبي الأموال والذرية، فقال حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. فقتلوا عن آخرهم وهم ما بين الستمائة والتسعمائة.
ثم خرج إلى خيبر بعد الحديبيّة سنة ست فحاصرهم وافتتحها عنوة وضرب رقاب اليهود وسبى نساءهم، وكان في السبي صفية بنت حيّي بن أخطب، وكان أبوها قتل مع بني قريظة وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وقتله محمد بن مسلمة غزاه من المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة نفر فبيته. فلما افتتحت خيبر اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وقسم الغنائم في الناس من القمح والتمر، وكان عدد السهام التي قسّمت عليها أموال خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتان. وكانت أرضهم الشّقّ ونطاة والكتيبة، فحصلت الكتيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخمس ففرّقها على قرابته ونسائه ومن وصلهم من المسلمين، وأعمل أهل خيبر على المسافات ولم يزالوا كذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه.
ولما كان فتح مكة سنة ثمان وغزوة حنين على أثرها وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم فيمن كان يستألفه على الإسلام من قريش وسواهم، وجد الأنصار في أنفسهم وقالوا: سيوفنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تقسّم فيهم مع أنّهم كانوا ظنوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح بلاده وجمع على الدين قومه إنه سيقيم بأرضه وله غنيّة عنهم. وسمعوا ذلك من بعض المنافقين. وبلغ ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال: يا معشر الأنصار ما الّذي بلغكم عني؟ فصدقوه الحديث، فقال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله ومتفرّقين فجمعكم الله؟ فقالوا الله ورسوله آمنّ. فقال: «لو شئتم لقلتم جئتنا طريدا فآويناك ومكذّبا فصدّقناك ولكن والله إني لأعطي رجالا استألفهم على الدين وغيرهم أحب اليّ، ألا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والبعير وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ أمّا والّذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الناس دثار وأنتم شعار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار» .
ففرحوا بذلك ورجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب فلم يزل بين أظهرهم(2/351)
إلى أن قبضه الله إليه.
ولما كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بن كعب ودعت الخزرج إلى بيعة سعد بن عبادة، وقالوا لقريش: منا أمير ومنكم أمير ضنّا بالأمر أو بعضه فيهم لما كان من قيامهم بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع المهاجرون، واحتجوا عليهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالأنصار في الخطبة ولم يخطب بعدها. قال: أوصيكم بالأنصار إنهم كرشي [1] وعيبتي [2] وقد قضوا الّذي عليهم وبقي الّذي لهم فأوصيكم بأن تحسنوا إلى محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم فلو كانت الإمارة لكم لكانت ولم تكن الوصية بكم فحجوهم. فقام بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحرث بن الخزرج فبايع لابي بكر واتبعه الناس، فقال حباب بن المنذر بن الجموح بن حرام بن كعب بن غانم بن سلمة بن سعد يا بشير أنفست بها ابن عمك يعني الإمارة، قال لا والله ولكني كرهت أن أنازع الحق قوما جعله الله لهم. فلما رأى الأوس ما صنع بشير بن سعد وكانوا لا يريدون الأمر للخزرج قاموا فبايعوا أبا بكر، ووجد سعد فتخلف عن البيعة ولحق بالشام إلى أن هلك وقتله الجنّ فيما يزعمون وينشدون من شعر الجنّ.
نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادة ... ضربناه بسهم فلم تخط فؤاده
وكان لابنه قيس من بعده غناء في الأيام ... وأثرا في فتوحات الإسلام
وكان له انحياش إلى عليّ في حروبه مع معاوية، وهو القائل لمعاوية بعد مهلك عليّ رضي الله عنه وقد عرض به معاوية في تشيعه فقال: والآن ماذا يا معاوية؟ والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا.
وكان أجود العرب وأعظمهم جثمانا، يقال: إنه كان إذا ركب تخط رجلاه الأرض.
ولما ولي يزيد بن معاوية وظهر من عسفه وجوره وإدالته الباطل من الحق ما هو معروف، امتعضوا للدين وبايعوا لعبد الله بن الزبير حين خرجوا بمكة، واجتمعوا على حنظلة بن عبد الله الغسيل إن أبي عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك
__________
[1] كرش الرجل: صار له جيش بعد انفراده.
[2] العيبة من الرجل موضع سره.(2/352)
ابن صيفي بن أمية بن ضبيعة بن زيد، وعقد ابن الزبير لعبد الله بن مطيع بن إياس على المهاجرين معهم، وسرح يزيد إليهم مسلم بن عقبة المريّ، وهو عقبة بن رباح ابن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مرّة بن عوف ابن سعد بن دينار بن بغيض بن ريث ابن غطفان، فيمن فرض عليه من بعوث الشام والمهاجرين. فالتقوا بالحرة، حرة بني زهرة، وكانت الدبرة على الأنصار واستلحمهم جنود يزيد، ويقال إنه قتل في ذلك اليوم من المهاجرين والأنصار سبعون بدريّا وهلك عبد الله بن حنظلة يومئذ فيمن هلك، وكانت إحدى الكبر التي أتاها يزيد.
واستفحل ملك الإسلام من بعد ذلك واتسعت دولة العرب، وافترقت قبائل المهاجرين والأنصار في قاصية الثغور بالعراق والشام والأندلس وإفريقية والمغرب حامية ومرابطين، فافترق الحيّ أجمع من أبناء قيلة وافترقت وأقفرت منهم يثرب، ودرسوا فيمن درس من الأمم. وتِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ 2: 134 والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. لا خالق سواه ولا معبود إلّا إياه ولا خير إلّا خيره ولا ربّ غيره، وهو نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد للَّه رب العالمين.(2/353)
الخبر عن بني عدنان وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام وأوّلية ذلك ومصايره
قد تقدّم لنا أن نسب عدنان إلى إسماعيل عليه السلام باتفاق من النسّابين، وأنّ الآباء بينه وبين إسماعيل غير معروفة، وتنقلب في غالب الأمر مخلطة مختلفة بالقلّة والكثرة في العدد حسبما ذكرناه، فأمّا نسبته إليه فصحيحة في الغالب ونسب النبيّ صلى الله عليه وسلم منها إلى عدنان صحيح باتفاق من النسّابين. وأمّا بين عدنان وإسماعيل فبين الناس فيه اختلاف كثير، فقيل من ولد نابت بن إسماعيل وهو عدنان بن أدد المقدّم ابن ناحور بن تنوخ بن يعرب بن يشجب بن نابت قاله البيهقي، وقيل من ولد قيذار ابن إسماعيل وهو عدنان بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل ابن قيذار قاله الجرجاني علي بن عبد العزيز النسّابة، وقيل عدنان بن أدد بن يشجب ابن أيوب بن قيذار، ويقال إنّ قصيّ بن كلاب كان يومي شعره بالانتساب إلى قيذار.
ونقل القرطبيّ عن هشام بن محمد فيما بين عدنان وقيذار نحوا من أربعين أبا، وقال سمعت رجلا من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معدّ بن عدنان إلى إسماعيل من كتاب إرمياء النبي عليه السلام وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلّا قليلا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة لأنّ الأسماء ترجمت من العبرانية. ونقل القرطبي عن الزبير بن بكار بسنده إلى ابن شهاب فيما بين عدنان وقيذار قريبا من ذلك العدد، ونقل عن بعض النسّابين أنه حفظ لمعدّ بن عدنان أربعين أبا إلى إسماعيل، وأنه قابل ذلك بما عند أهل الكتاب في نفسه فوجده موافقا وإنما خالف في بعض الأسماء، قال: واستمليته فأملاه عليّ ونقله الطبريّ الى آخره.
ومن النسّابين من يعدّ بين عدنان وإسماعيل عشرين أو خمسة عشر ونحو ذلك. وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: معدّ بن عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثراء. قالت أم سلمة: وزيد هو الهميسع وبرا هو نبت أو نابت وأعراق الثرى هو إسماعيل، وقد تقدّم هذا أوّل الكتاب، وأنّ السهيليّ ردّ تفسير أم سلمة وقال: ليس المراد بالحديث عدّ الآباء بين معدّ وإسماعيل وإنما معناه معنى(2/356)
قوله في الحديث الآخر: أنتم بنو آدم وآدم من التراب، وعضد ذلك باتفاق النسّابين على بعد المدّة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو خمسة أو عشرة إذ المدة أطول من هذا كله بكثير. وكان لعدنان من الولد على ما قال الطبري ستة: الربب وهو عكّ وعرق وبه سميت عرق اليمن وأدّ وأبيّ والضحّاك وعبق وأمهم مهدد، قال هشام بن محمد هي من جديس وقيل من طسم وقيل من الطواسيم من نسل لفشان بن إبراهيم.
قال الطبري: ولما قتل أهل حضورا شعيب بن مهدم نبيهم أوحى الله إلى إرميا وأبرخيا من أنبياء بني إسرائيل بأن يأمر بخت نصّر يغزو العرب ويعلماه أنّ الله سلّطه عليهم، وأن يحتملا معدّ بن عدنان إلى أرضهم ويستنقذاه من الهلكة لما أراده من شأن النبوة المحمديّة في عقبه، كما مرّ ذلك من قبل، فحملاه على البراق ابن اثنتي عشرة سنة وخلصا به إلى حرّان فأقام عندهما وعلّماه علم كتابهما، وسار بخت نصّر إلى العرب فلقيه عدنان فيمن اجتمع إليه من حضورا وغيرهم بذات عرق فهزمهم بخت نصّر وقتلهم أجمعين، ورجع إلى بابل بالغنائم والسبي وألقاها بالأنبار. ومات عدنان عقب ذلك وبقيت بلاد العرب خرابا حقبا من الدهر حتى إذا هلك بخت نصّر خرج معدّ في أنبياء بني إسرائيل إلى مكّة، فحجوا وحج معهم ووجد أخويه وعمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن وتزوّجوا فيهم، وتعطّف عليهم أهل اليمن بولادة جرهم فرجّعهم إلى بلادهم، وسأل عمن بقي من أولاد الحرث بن مضاض الجرهميّ فقيل له بقي جرهم بن جلهة فتزوّج ابنته معانة وولدت له نزار بن معدّ.
وأمّا مواطن بني عدنان هؤلاء فهي مختصة بنجد، وكلها بادية رحّالة إلا قريشا بمكّة، ونجد هو المرتفع من جانبي الحجاز وطوله مسيرة شهر من أوّل السروات التي تلي اليمن إلى آخرها المطلة على أرض الشام مع طول تهامة، وأوّله في أرض الحجاز من جهة العراق العذيب مما يلي الكوفة وهو ماء لبني تميم، وإذا دخلت في أرض الحجاز فقد أنجدت، وأوّله من جهة تهامة الحجاز حضن ولذلك يقال أنجد من رأى حضنا. قال السهيليّ: وهو جبل متصل بجبل الطائف الّذي هو أعلى نجد تبيض فيه النسور، قال: وسكانه بنو جشم بن بكر وهو أوّل حدود نجد، وأرض تهامة من الحجاز في قرب نجد مما يلي بحر القلزم في سمت مكّة والمدينة وتيماء وأيلة وفي شرقها بينها وبين جبل نجد غير بعيد، منها العوالي وهي ما ارتفع عن هذه الأرض، ثم تعلوا(2/357)
عن السروات ثم ترتفع إلى نجد وهي أعلاها. والعوالي والسروات بلاد تفصل بين تهامة ونجد متصلة من اليمن إلى هشام كسروات الخيل تخرج من نجد منفصلة من تهامة داخلة في بلاد أهل الوبر. وفي شرقي هذا الجبل برّيّة نجد ما بينه وبين العراق متصلة باليمامة وعمان والبحرين إلى البصرة، وفي هذه البريّة ومشاتي للعرب تشتو بها منهم خلق أحياء لا يحصيهم إلّا خالقهم.
قال السهيليّ: واختص بنجد من العرب بنو عدنان لم تزاحمهم فيه قحطان إلّا طيِّئ من كهلان فيما بين الجبلين سلمى وأجأ، وافترق أيضا من عدنان في تهامة والحجاز، ثم في العراق والجزيرة، ثم افترقوا بعد الإسلام على الأوطان. وأمّا شعوبهم فمن عدنان عكّ ومعدّ فمواطن عكّ في نواحي زبيد، وقال عكّ بن الديث بالدال غير منقوطة والثاء مثلثة ابن عدنان، ويقال أن عكّا هذا هو ابن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله من بطون الأزد ومن عكّ بن عدثان بنو عائق بن الشاهد بن علقمة بن عكّ بطن متسع كان منهم في الإسلام رؤساء وأمراء.
وأمّا معدّ فهو البطن العظيم ومنه تناسل عقب عدنان كلهم، وهو الّذي تقدّم الخبر عنه بأنّ إرمياء النبي من بني إسرائيل أوحى الله إليه أن يأمر بخت نصّر بالانتقام من العرب وأن يحمل معدّا على البراق أن تصيبه النقمة لأنه مستخرج من صلبه نبيا كريما خاتما للرسل فكان كذلك، ومن ولده إياد ونزار ويقال وقنص وأنمار، فأمّا قنص فكانت له الإمارة بعد أبيه على العرب وأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجوه [1] أهل مكّة وقدموا عليه نزارا. ولما احتضر قسّم ماله بين ولديه فجعل لربيعة الفرس، ولمضر القبّة الحمراء، ولأنمار الحمار، ولاياد عند من جعله من ولده الحلمة والعصا. ثم تحاكموا في هذا الميراث إلى أفعى نجران في قصة معروفة ليست من غرض الكتاب.
وأمّا إياد فتشعّبوا بطونا كثيرة وتكاثر بنو إسماعيل وانفرد بنو مضر بن نزار برياسة الحرام وخرج بنو إياد إلى العراق، ومضى أنمار إلى السروات بعدّ بنيه في اليمانية وهم: خثعم وبجيلة، ونزلوا بأريافه وكان لهم في بلاد الأكاسرة آثار مشهورة إلى أن تابع لهم الأكاسرة الغزو وأبادوهم، وأعظم ما باد [2] منهم سابور ذو الأكتاف هو الّذي
__________
[1] الصحيح ان يقول: أخرجه.
[2] الصحيح أعظم ما أباد منهم حسب مقتضى السياق.(2/358)
استلحمهم وأفناهم.
وأمّا نزار فمنه البطنان: العظيمان ربيعة ومضر، ويقال: إنّ إيادا يرجعون إلى نزار وكذلك أنمار، فأمّا ربيعة فديارهم ما بين الجزيرة والعراق وهم ضبيعة وأسد ابنا ربيعة، ومن أسد عنزة وجديلة ابنا أسد فعنزة بلادهم في عين التمر في برية العراق على ثلاثة مراحل من الأنبار ثم انتقلوا عنها إلى جهات خيبر فهم هنالك، وورثت بلادهم غزيّة من طيِّئ الذين لهم الكثرة والإمارة بالعراق لهذا العهد، ومن عنزة هؤلاء بإفريقية حي قليل مع رياح من بني هلال بن عامر، ومنهم أحياء مع طيِّئ ينتجعون ويشتون في برية نجد.
وأمّا جديلة فمنهم عبد القيس وهنب ابنا أفصى بن دعمي بن جدلة، فأمّا عبد القيس وكانت مواطنهم بتهامة ثم خرجوا إلى البحرين وهي بلاد واسعة على بحر فارس من غريبه، وتتصل باليمامة من شرقيها، وبالبصرة من شماليها، وبعمان من جنوبها، وتعرف ببلاد هجر ومنها القطيف وهجر والعسير وجزيرة أوال والأحساء، وهجر هي باب اليمن من العراق وكانت أيام الأكاسرة من أعمال الفرس وممالكهم وكان بها بشر كثير من بكر بن وائل وتميم في باديتها، فلما نزل معهم بنو عبد القيس زاحموهم في ديارهم تلك وقاسموهم في الموطن ووفدوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسلموا، ووفد منهم المنذر بن عائذ بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر ابن عمرو بن عوف بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن بكر، وذكروا أنه سيدهم وقائدهم إلى الإسلام فكانت له صحبة ومكانة من النبي صلى الله عليه وسلم. ووفد أيضا الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلّى بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة، وثعلبة أخو عوف بن جذيمة وفد في عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوي من بني تميم وسيأتي ذكره، وكان نصرانيّا فأسلم وكانت له أيضا صحبة ومكانة. وكان عبد القيس هؤلاء من أهل الردّة بعد الوفاة، وأمّروا عليهم المنذر بن النعمان الّذي قتل كسرى أباه، فبعث إليهم أبو بكر بن العلا بن الحضرميّ في فتح البحرين وقتل المنذر. ولم تزل رياسة عبد القيس في بني الجارود أولا ثم في ابنه المنذر وولّاه عمر على البحرين ثم ولّاه على إصطخر، ثم عبد الله بن زياد ولّاه على الهند ثم ابنه حكيم بن المنذر وتردد على ولاية البحرين قبل ولاية العراق.(2/359)
وأمّا هنب بن أفصى فمنهم النمر ووائل ابنا قاسط بن هنب. فأمّا بنو النمر بن قاسط فبلادهم رأس العين، ومنه صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مناة بن النمر بن قاسط صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور، وينسب إلى الروم، وكان سنان أبوه استعمله كسرى على الأبلّة، وكان لبني النمر بن قاسط شأن في الردّة مذكور، ومنهم ابن القرية المشهور بالفصاحة أيام الحجّاج، ومنصور بن النمر الشاعر مادح الرشيد.
وأمّا بنو وائل فبطن عظيم متسع أشهرهم بنو تغلب وبنو بكر بن وائل وهما اللذان كانت بينهما الحروب المشهورة التي طالت فيما يقال أربعين سنة، فلبني تغلب شهرة وكثرة وكانت بلادهم بالجزيرة الفراتيّة بجهات سنجار ونصيبين وتعرف بديار ربيعة، وكانت النصرانية غالبة عليهم لمجاورة الروم. ومن بني تغلب عمرو بن كلثوم الشاعر، وهو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غانم بن تغلب وأمّه هند بنت مهلهل، ومن ولده مالك بن طوق بن مالك بن عتاب بن زافر بن شريح بن عبد الله بن عمرو بن كلثوم وإليه تنسب رحبة مالك بن طوق على الفرات، وعاصم بن النعمان عم عمرو بن كلثوم هو الّذي قتل شرحبيل بن الحرث الملك آكل المرار يوم الكلاب. ومن بني تغلب كليب ومهلهل ابنا ربيعة بن الحرث بن زهير بن جشم، وكان كليب سيد بني تغلب وهو الّذي قتله جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان وكان متزوّجا بأخته فرعت ناقة البسوس في حمى كليب فرماها بسهم فأثبتها، وقتله جسّاس لأنّ البسوس كانت جارته، فقام أخو كليب وهو مهلهل بن الحرث كمن برياسة تغلب وطالب بكر بن وائل بثأر كليب فاتصلت الحرب بينهم أربعين سنة، وأخبارها معروفة، وطال عمر مهلهل وتغرّب إلى اليمن فقتله عبدان له في طريقه، وبنو شعبة الذين بالطائف لهذا العهد من ولد شعبة بن مهلهل. ومن تغلب الوليد بن طريف بن عامر الخارجيّ وهو من بني صيفي بن حيّ بن عمرو بن بكر بن حبيب وهو الّذي رثته أخته ليلى بقولها:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يريد العزّ إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف
خفيف على ظهر الجواد إلى الوغي ... وليس على أعدائه بخفيف
فلو كان هذا الموت يقبل فدية ... فديناه من ساداتنا بألوف(2/360)
ومنهم بنو حمدان ملوك الموصل والجزيرة أيام المتّقي، ومن بعده من خلفاء العباسيّين وسيأتي ذكرهم في أخبار بني العبّاس وهم بنو حمدان من بني عديّ بن أسامة بن غانم بن تغلب، كان منهم سيف الدولة الملك المشهور.
وأمّا بكر بن وائل ففيهم الشهرة والعدد فمنهم يشكر بن بكر بن وائل وبنو عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل ومنهم بنو حنيفة وبنو عجل ابني لجيم بن صعب.
في بني حنيفة بطون متعدّدة أكثرهم بنو الدول بن حنيفة، فيهم البيت والعدد ومواطنهم باليمامة وهي من أوطان الحجاز كما هي نجران من اليمن، والشرقي منها يوالي البحرين وبني تميم والغرب يوالي أطراف اليمن والحجاز، والجنوب نجران والشمالي أرض نجد وطول اليمامة عشرون مرحلة، وهي على أربعة أيام من مكّة بلاد نخل وزلع وقاعدتها حجر بالفتح، وبها بلد اسمه اليمامة، ويسمّى أيضا جوّ باسم الزرقاء، وكانت مقرا للملوك قبل بني حنيفة، واتخذ بنو حنيفة بعدها بلد حجر وبقي كذلك في الإسلام. وكانت مواطن اليمامة لبني همدان بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير غلبوا على من كان بها من طسم وجديس كان آخر ملوكهم بها فيما ذكره الطبريّ قرط ابن يعفر، ثم هلك فغلب عليها بعده طسم وجديس وكانت منهم الزرقاء أخت رياح بن مرّة ابن طسم كما تقدّم في أخبارهم. ثم استولى على اليمامة آخرا بنو حنيفة وغلبوا عليها طسما وجديسا وكان ملكها منهم هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو بن عبد العزّى بن شحيم بن مرّة بن الدول بن حنيفة، وتوّجه كسرى وابن عمه عمرو بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزّى، قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ.
وكان منهم ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة ملك اليمامة عند المبعث وثبت عند الردّة. ومنهم الخارجي نافع بن الأزرق بن قيس بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنيفة وإليه تنسب الأزارقة، ومنهم محلم بن سبيع بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة صاحب مسيلمة الكذّاب، وهو من بني عديّ بن حنيفة، وهو مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحرث بن عبد الحرث بن عدي، وأخبار مسيلمة في الردّة معروفة وسيأتي الخبر عنها.
وأمّا بنو عجل بن لجيم بن صعب وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار كما مرّ، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة وقد دثروا، وخلفهم في اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر، وكان منهم بنو أبي دلف العجليّ، كانت لهم دولة(2/361)
بعراق العجم يأتي ذكرها.
وأمّا عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فمنه تيم الله وقيس ابنا ثعلبة بن عكابة وشيبان بن ذهل بن ثعلبة، بطون ثلاثة عظيمة، وأوسعها وأكثرها شعوبا بنو شيبان، وكانت لهم كثرة في صدر الإسلام شرقي دجلة في جهات الموصل، وأكثر أئمة الخوارج في ربيعة منهم، وسيّدهم في الجاهلية مرّة بن ذهل بن شيبان كان له أولاد عشرة نسلوا عشرة قبائل أشهرهم: همّام وجسّاس، وسادهما بعد أبيه. وقال ابن حزم: تفرّع من همّام ثمانية وعشرون بطنا. وأمّا جسّاس فقتل كليبا زوج أخته وهو سيّد تغلب حين قتل ناقة البسوس جارته، وأقام ابن كليب عند بني شيبان إلى أن كبر وعقل أن جساسا خاله هو الّذي قتل أباه فقتله ورجع إلى تغلب، فمن ولد جسّاس بنو الشيخ كانت لهم رياسة بآمد وانقطعت على يد المعتضد. ومن بني شيبان هانئ بن مسعود الّذي منع حلقة النعمان من أبرويز لما كانت وديعة عنده، وكان سبب ذلك يوم ذي قار وهو هانئ بن مسعود بن عامر بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، ومنهم الضحّاك بن قيس الخارجيّ الّذي بويع أيام مروان بن محمد على مذهب الصفريّة وملك الكوفة وغيرها، وبايعه بالخلافة جماعة من بني أمية منهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقتله آخرا مروان بن محمد. وهو الضحّاك بن قيس بن الحصين بن عبد الله بن ثعلبة بن زيد مناة بن أبي عمرو بن عوف بن ربيعة بن محلم بن ذهل بن شيبان، وسيأتي الإلمام بخبره. ومنهم المثنّى بن حارثة الّذي فتح سواد العراق أيام أبي بكر وعمر وأخوه المعنّى بن حارثة. ومنهم عمران بن حطّان من أعلام الخوارج. وهذا انقضاء الكلام في ربيعة بن نزار والله المعين.(2/362)
وأمّا مضر بن نزار وكانوا أهل الكثرة والغلب بالحجاز من سائر بني عدنان وكانت لهم رياسة بمكّة فيجمعهم فخذان عظيمان وهما خندف وقيس، لأنه كان له من الولد اثنان: إلياس وقيس عيلان عبد حضنه قيس فنسب إليه، وقيل هو فرس، وقد قيل إنّ عيلان هو ابن مضر واسمه إلياس وإنّ له ابنين قيس ودهم، وليس ذلك بصحيح، وكان لإلياس ثلاثة من الولد مدركة وطابخة وقمعة لامرأة من قضاعة تسمّى خندف فانتسب بنو إلياس كلهم إليها، وانقسمت مضر إلى خندف وقيس عيلان. فأمّا قيس فتشعّبت إلى ثلاث بطون من كعب وعمرو وسعد بنيه الثلاثة، فمن عمرو بنو فهم وبنو عدوان ابني عمرو بن قيس، وعدوان بطن متّسع وكانت منازلهم الطائف من أرض نجد نزلها بعد أيام العمالقة ثم غلبتهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة، وكان منهم عامر بن الظرب بن عمرو بن عبّاد بن يشكر بن عدوان حكم العرب في الجاهلية، وكان منهم أيضا أبو سيارة الّذي يدفع بالناس في الموسم، وعميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن رائش بن زيد بن عدوان، وبإفريقية لهذا العهد منهم أحياء بادية بالقفر يظعنون مع بني سليم تارة ومع رياح بن هلال بن عامر أخرى.
ومن بني فهم بن عمرو فيما ذكر البيهقي بنو طرود بن فهم بطن متسع كانوا بأرض نجد، وكان منهم الأعشى، وليس منهم الآن بها أحد، وبإفريقية لهذا العهد حي يظعنون مع سليم ورياح، وانقضى الكلام في بني عمرو بن قيس.
وأمّا سعد بن قيس فمنهم غنيّ وباهلة وغطفان ومرّة، فأمّا غنيّ فهم بنو عمرو بن أعصر بن سعد، وأما باهلة فمنهم بنو مالك بن أعصر بن سعد صاحب خراسان المشهور، ومنهم أيضا الأصمعيّ رواية العرب المشهور وهو عبد الملك بن علي بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعيد بن عبد غانم بن قتيبة بن معن بن مالك.
وأمّا بنو غطفان بن سعد: فبطن عظيم متسع كثير الشعوب والبطون ومنازلهم بنجد ما يلي وادي القرى وجبلي طيِّئ، ثم افترقوا في الفتوحات الإسلامية واستولت عليها قبائل طيِّئ وليس منهم اليوم عمودة رجالة في قطر من الأقطار إلّا ما كان لفزارة ورواحة في جوار هيب ببلاد برقة. وبنو غطفان بطون ثلاثة: منهم أشجع بن ريث ابن غطفان، وعبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، وذبيان. فأمّا أشجع فكانوا(2/364)
عرب المدينة يثرب وكان سيّدهم معقل بن سنان من الصحابة، وكان منهم نعيم بن مسعود بن أنيف بن ثعلبة بن قند بن خلاوة بن سبيع بن أشجع الّذي شتت جموع الأحزاب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى آخرين مذكورين منهم، وليس لهذا العهد منهم بنجد أحد إلّا بقايا حوالي المدينة النبويّة، وبالمغرب الأقصى منهم حي عظيم الآن يظعنون مع عرب المعقل بجهات سجلماسة ووادي ملويّة ولهم عدد وذكر.
وأمّا بنو عبس فبيتهم في بني عدّة بن قطيعة كان منهم الربيع بن زياد وزير النعمان، ثم إخوتهم بنو الحرث بن قطيعة كان منهم زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن آزر بن الحرث سيّدهم، وكانت له السيادة على غطفان أجمع، وله بنون أربعة منهم:
قيس ساد بعده على عبس، وابنه زهير هو صاحب حرب داحس والغبرا فرسين كانت إحداهما وهي داحس لقيس والأخرى وهي الغبرا لحذيفة بن بدر سيد فزارة فأجرياهما وتشامّا في الحكم بالسبق فتشاجرا وتحاربا وقتل قيس حذيفة ودامت الحرب بين عبس وفزارة وإخوة قيس بن زهير الحرث وشاس ومالك وقتل مالك في تلك الحرب، وكان منهم الصحابيّ المشهور حذيفة بن اليماني بن حسل بن جابر بن ربيعة بن جروة بن الحرث بن قطيعة ومن عبس بن جابر بنو غالب بن قطيعة، ثم عنترة بن معاوية بن شدّاد بن مراد بن مخزوم بن مالك بن غالب الفارس المشهور وأحد الشعراء الستة في الجاهلية، وكان بعده من أهل نسبه وقرابته الحطيئة الشاعر المشهور واسمه جرول بن أوس بن جؤبة بن مخزوم، وليس بنجد لهذا العهد أحد من بني عبس، وفي أحياء زغبة من بني هلال لهذا العهد أحياء ينتسبون إلى عبس، فما أدري من عبس هؤلاء أم هو عبس آخر من زغبة نسبوا إليه.
وأما ذبيان بن بغيض: فلهم بطون ثلاثة: مرّة وثعلبة وفزارة، فأمّا فزارة فهم خمسة شعوب: عديّ وسعد وشمخ ومازن وظالم. وفي بدر بن عديّ كانت رياستهم في الجاهلية، وكانوا يرأسون جميع غطفان، ومن قيس وإخوتهم بنو ثعلبة بن عديّ كان منهم حذيفة بن بدر بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة الّذي راهن قيس بن زهير العبسيّ على جري داحس والغبرا وكانت بسبب ذلك الحرب المعروفة، ومن ولده عيينة بن حصن بن حذيفة الّذي قاد الأحزاب إلى المدينة وأغار على المدينة لأوّل بيعة أبي بكر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمّيه الأحمق المطاع، ومنهم أيضا الصحابيّ المشهور سمرة بن جندب بن هلال بن خديج بن(2/365)
مرّة بن خرق بن عمرو بن جابر بن خشين ذي الرأسين بن لاي بن عصيم بن شمخ بن فزارة، ومن بني سعد بن فزارة يزيد بن عمرو بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة ولي العراقين هو وأبوه أيام يزيد بن عبد الملك ومروان بن محمد، وهو الّذي قتله المنصور بعد أن عاهده، ومن بني مازن بن فزارة هرم بن قطبة أدرك الإسلام وأسلم، إلى آخرين يطول ذكرهم ولم يبق بنجد منهم أحد. وقال ابن سعيد: إنّ أبرق الحنّان وأبانا من وادي القرى من معالم بلادهم، وانّ جيرانهم من طيِّئ مولدها لهذا العهد، وإنّ بأرض برقة منهم إلى طرابلس قبائل رواحة وهيب وفزّان. قلت: وبإفريقية والمغرب لهذا العهد أحياء كثيرة اختلطوا مع أهله، فمنهم مع المعقل بالمغرب الأقصى أحياء كثيرة لهم عدد وذكر بالمعقل إلى الاستظهار بهم حاجة، ومنهم مع بني سليم بن منصور بإفريقية طائفة أخرى أحلاف لأولاد أبي الليل من شعوب بني سليم يستظهرون بهم في مواقف حروبهم ويولّونهم على ما يتولونه للسلطان من أمور باديتهم نيابة عنهم شأن الوزراء في الدول، وكان من أشهرهم معن بن معاطن وزير حمزة بن عمر بن أبي الليل أمير الكعوب بعده حسبما نذكره في أخبارهم، وربما يزعم بنو مرين أمراء الزاب لهذا العهد أنّهم منهم، وينتسبون إلى مازن بن فزارة، وليس ذلك بصحيح، وهو نسب مصون يتقرّب به إليهم بعض البدو من فزارة هؤلاء طمعا فيما بأيديهم لمكانهم من ولاية الزاب والانفراد بجبايته ومصانعة الناس بوفرها، فيلهجونهم بذلك ترفعا على أهل نسبهم بالحقيقة من الأثابج، كما يذكر لكونه تحت أيديهم ومن رعاياهم.
وأمّا بنو مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان فمنهم هرم بن سنان بن غيظ بن مرّة وهو سيدهم في الجاهلية الّذي مدحه زهير بن أبي سلمى، ومنهم أيضا الفاتك وهو الحرث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وشرحبيل بن الأسود بن المنذر، وحصل ابن الحرث في يد النعمان بن المنذر فقتله، وشاعره في الجاهلية النابغة زياد بن عمرو الذبيانيّ أحد الشعراء الستة. ومنهم أيضا مسلم بن عقبة بن رياح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع قائد يزيد بن معاوية صاحب يوم الحرّة على أهل المدينة إلى آخرين يطول ذكرهم. وهذا آخر الكلام في بني غطفان وبلادهم بنجد مما يلي وادي القرى، وبها من المعالم أبنى والحاجر والهباءة وأبرق الحنّان، وتفرّقوا على بلاد الإسلام في الفتوحات ولم يبق لهم(2/366)
في تلك البلاد ذكر، ونزلت بها قبائل طيِّئ وبانقضاء ذكرهم انقضى بنو سعد بن قيس.
وأمّا خصفة بن قيس: فتفرّع منهم بطنان عظيمان وهما بنو سليم بن منصور وهوازن بن منصور، ولهوازن بطون كثيرة يأتي ذكرها، ويلحق بهذين البطنين بنو مازن بن منصور وعددهم قليل، وكان منهم عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نشيب بن وهب بن زيد بن مالك بن عبد عوف بن الحرث بن مازن الصحابي المشهور الّذي بني البصرة لعمر بن الخطّاب، وإليه ينسب العتبيّون الذين سادوا بخراسان، ويلحق أيضا بنو محارب بن خصفة. فأمّا بنو سليم فشعوبهم كثيرة منهم بنو ذكوان بن رفاعة بن الحرث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم، وإخوتهم بنو عبس بن رفاعة الذين منهم عبّاس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد عبس الصحابي المشهور الّذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين في المؤلّفة قلوبهم، ثم زاده حين غضب استقلالا لعطائه وأنشد الأبيات المعروفة في السير، وكان أبوه مرداس تزوّج الخنساء وولدت منه.
ومن بني سليم أيضا بنو ثعلبة بن بهثة بن سليم، كان منهم عبيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي الأعور والي إفريقية، وجده أبو الأعور من قوّاد معاوية واسمه عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد بن قائف بن الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة، والرود بن خالد بن حذيفة بن عمرو بن خلف بن مازن بن مالك بن ثعلبة وكان على بني سليم يوم الفتح، وعمرو بن عتبة بن منقذ بن عامر بن خالد كان صديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأسلم ثلاث أبو بكر وبلال فكان يقول كنت يومئذ ربع الإسلام [1] . ومن بني سليم أيضا بنو علي بن مالك بن امرئ القيس بن بهثة وبنو عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس، وهما اللذان لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم [2] أهل بئر معونة وقتلهم إيّاهم. ومن
__________
[1] اما الطبري فيقول في ج 2 ص 214: «قال حدثني عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: اتبعني عليه رجلان حرّ وعبد، ابو بكر وبلال، قال فأسلمت عند ذلك قال فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام.
وكذلك أورد ابن الأثير القصة عن عمرو بن عبسة. إلى أن قال: ... فلقد رأيتني رابع الإسلام، وهكذا يستدل لنا أن اسم هذا الرجل هو عمرو بن عبسه وليس عمرو بن عتبة.
[2] المعنى غير منسجم وربما تكون سقطت بعض الكلمات أثناء النسخ وهذه القصة مذكورة عند الطبري في ج 3 ص 33 وفي غيره من كتب التاريخ والسير ومقتضى السياق: «لعنهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم وافاه الخبر عن أهل بئر معونة وقتلهم إياهم.(2/367)
شعوب عصيّة الشريد واسمه عمرو بن يقظة بن عصيّة. وقال ابن سعيد: الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عصية الذين كانت منهم الخنساء وأخواها صخر ومعاوية ابنا عمرو بن الحرث بن الشريد والشريد بيت سليم في الجاهلية، قال ابن سعيد كان عمرو بن الشريد يمسك بيده ابنيه صخرا ومعاوية في الموسم فيقول: أنا أبو خيري مضر ومن أنكر فليعتبر فلا ينكر أحد وابنته الخنساء الشاعرة وقد تقدّم ذكرها، وحضرت بأولادها حروب القادسيّة. وبنو الشريد لهذا العصر في جملة بني سليم في إفريقية ولهم شوكة وصولة، ومنهم إخوة عصيّة بن خفّاف الذين كان منهم الخفّاف كبير أهل الردّة الّذي أحرقه أبو بكر بالنار واسمه إياس بن عبد الله بن أليل بن سلمة بن عميرة.
ومن بني سلم أيضا بنو بهز بن امرئ القيس بن بهثة كان منهم الحجّاج بن علا بن خالد بن نديرة [1] بن حبتر بن هلال بن عبد ظفر بن سعد بن عمرو بن تميم بن بهز الصحابي المشهور، وابنه نصر بن حجّاج الّذي نفاه عمر عن المدينة، إلى آخرين من سليم يطون ذكرهم. قال ابن سعيد: ومن بني سليم بنو زغبة بن مالك بن بهثة كانوا بين الحرمين ثم انتقلوا الى المغرب فسكنوا بإفريقية في جوار إخوتهم بني ذياب بن مالك ثم صاروا في جوار بني كعب. ومن بني سليم بنو ذياب بن مالك ومنازلهم ما بين قابس وبرقة، يجاورون مواطن يعهب، وبجهة المدينة خلق منهم يؤذون الحاج ويقطعون الطريق. وبنو سليمان بن ذياب في جهة فزّان وودّان ورؤساء ذياب لهذا العهد الجواري ما بين طرابلس وقابس، وبيتهم بنو صابر والمحامد بنواحي فاس وبيتهم في بني رحاب بن محمود وسيأتي ذكرهم.
ومن بني سليم بنو عوف بن بهثة: ما بين قابس وبلد العنّاب من إفريقية وجرما، هم مرداس وعلاق فأمّا مرداس فرياستهم في بني جامع لهذا العهد، وأمّا علاق فكان رئيسهم الأوّل في دخولهم إفريقية رافع بن حمّاد، ومن أعقابه بنو كعب رؤساء سليم لهذا العهد بإفريقية، ومن بني سليم بنو يعهب بن بهثة إخوة بني عوف بن بهثة وهم ما بين السدرة من برقة إلى العدوة الكبيرة ثم الصغيرة من حدود الإسكندرية، فأوّل ما يلي الغرب منهم بنو أحمد لهم أجدابية وجهاتها وهم عدد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ، وقبائل شماخ لها عدد وأسماء متمايزة ولها العز في بيت لكونها جازت المحصب من بلاد برقة مثل المرج وطلميثا ودرنا، وفي المشرق عن بني أحمد إلى
__________
[1] وهو الحجاج بن علاط بن خالد بن نويرة.(2/368)
العقبة الكبيرة، وأمّا الصغيرة فسال ومحارب والرئاسة في هذين القبيلتين لبني عزاز وهبيب بخلاف سائر سليم لأنها استولت على إقليم طويل خربت مدنه ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلّا لأشياخها وتحت أيديهم خلق من البرابرة واليهود زراعا وتجارا.
وأمّا رواحة وفزارة اللذين في بلاد هبيب فهم من غطفان وهذا آخر الكلام في بني سليم بن منصور وكانت بلادهم في عالية نجد بالغرب وخيبر ومنها حرّة بني سليم، وحرّة النار بين وادي القرى وتيماء، وليس لهم الآن عدد ولا بقيّة في بلادهم، وبإفريقية منهم خلق عظيم كما يأتي ذكره في أخبارهم عند ذكر الطبقة الرابعة من العرب.
وأمّا هوازن بن منصور ففيهم بطون كثيرة يجمعهم ثلاثة أجرام كلهم لبكر بن هوازن وهم بنو سعد بن بكر وبنو معاوية بن بكر وبنو منبّه بن بكر.
فأمّا بنو سعد بن بكر، وهم أظآر النبيّ صلى الله عليه وسلم أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب بن عبد الله بن سحنة بن ناصرة بن عصيّة بن نصر بن أسعد، وبنوها عبد الله وأنيسة والشيما بنو الحرث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملاذ بن ناصرة، وحصلت الشيما في سبي هوازن فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّها إلى قومها وكان فيها أثر عضّة عضّها إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمله.
فأمّا بنو منبّه بن بكر فمنهم ثقيف، وهم بنو قسيّ بن منبّه بطن عظيم متسع، منهم بنو جهم بن ثقيف كان منهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن حبيب بن الحرث بن مالك بن حطيط صاحب لوائهم يوم حنين وقتل يومئذ كافرا وكان من ولده أمير الأندلس لسليمان بن عبد الملك وهو الحرّ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان، ومنهم بنو عوف بن ثقيف ويعرفون بالأحلاف، فمنهم بنو سعد بن عوف كان منهم عتبان بن مالك بن كعب بن عمرون بن سعد بن عوف الّذي وضعته ثقيف رهينة عند أبي مكسورة وأخوه معتب، كان من بنيه عروة بن مسعود بن معتب الّذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه داعيا إلى الإسلام فقتلوه، وهو أحد عظيمي القريتين، ومن بنيه أيضا الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب صاحب العراقين لعبد الملك وابنه الوليد، ومنهم يوسف بن عمر بن محمد بن عبد الحكم والي العراقين لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد وكثير من قومه كانوا ولاة بالعراق والشام واليمن ومكّة. ومن بني معتب أيضا غيلان بن مسلمة بن معتب(2/369)
كانت له وفادة على كسرى، ومنهم بنو غبرة بن عوف الذين منهم الأخنس بن شريق ابن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العرّي بن غيرة بن عوف بن ثقيف، والحرث بن كلدة بن عمرو بن علاج طبيب العرب، وأبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن غيرة الصحابي المقتول يوم الجسر من أيام القادسيّة، وبانه المختار بن أبي عبيد الّذي ادعى النبوّة بالكوفة وكان عاملا عليها لعبد الله بن الزبير فانتقض عليه ودعا لمحمد بن الحنفيّة ثم ادعى النبوة، ومنهم أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير في آخرين يطول ذكرهم. ومواطن ثقيف كانت بالطائف وهي مدينة من أرض نجد قريبا من مكّة ثم جلس في شرقها وشمالها وهي على قبّة الجبل كانت تسمى واج وبوج، وكانت في الجاهلية للعمالقة ثم نزلتها ثمود قبل وادي القرى، ومن ثم يقال: إنّ ثقيفا كانت من بقايا ثمود، يقال: إنّ الّذي سكنها بعد العمالقة عدوان وغلبهم عليها ثقيف وهي الآن دارهم كذا ذكره السهيليّ. ويقال:
إنهم موال لهوازن ويقال إنهم من إياد. ومن أعمال الطائف سوق عكاظ والعرج، وعكاظ حجر بين اليمن والحجاز، وكانت سوقها في الجاهلية يوما في السنة يقصدها العرب من الأقطار فكانت لهم موسما [1] وأمّا بنو معاوية بن بكر بن هوازن ففيهم بطون كثيرة منهم بنو نصر بن معاوية الذين منهم مالك بن سعد بن عوف بن سعد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر قائد المشركين يوم حنين وأسلم وحسن إسلامه. ومنهم بنو جشم بن معاوية، ومن جشم غزيّة رهط دريد بن الصمّة [2] ومواطنهم بالسروات وهي بلاد تفصل بين تهامة ونجد متصلة من اليمن إلى الشام كسروات الجبل وسروات جشم متصلة بسروات هذيل، وانتقل معظمهم إلى الغرب وهم الآن به كما يأتي ذكره في الطبقة الرابعة من العرب، ولم يبق بالسروات منهم إلّا من ليس له صولة، ومنهم بنو سلول ومنهم بنو مرّة بن صعصعة بن معاوية وإنّما عرفوا بأمهم سلول، وكانوا في الغرب كثيرا وفي
__________
[1] سوق للعرب بين نخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يوما أو شهرا، تجتمع فيها قبائل العرب فيتناشدون ويتفاخرون. يؤنث، يذكر فالتأنيث لغة الحجاز والتذكير لغة تميم. قد تابع المؤلف لغة الحجاز.
[2] وفي نسخة ثانية: غزيّة رهط بن دريد الصمّة. وهو القائل:
وهل انا الا من غزيّة ان نموت ... غويت وان ترشد غزيّة أرشد(2/370)
الغرب منهم كثير لهذا العهد. ومنهم فيما يزعم العرب بنو يزيد أهل وطن حمزة غربي بجاية وبعض أحياء بجيل عياض. كما نذكر منهم بنو عامر بن صعصعة بن معاوية جرم كبير من أجرام العرب لهم بطون أربعة. نمير وربيعة وهلال وسوأة، فأمّا نمير بن عامر فهم إحدى جمرات العرب وكانت لهم كثرة وعزّة في الجاهلية والإسلام ودخلوا إلى الجزيرة الفراتية وملكوا حرار وغيرها، واستلحمهم بنو العبّاس أيام المعتز فهلكوا ودثروا. وأمّا سوأة بن عامر فشعوبهم في رباب من سمرة، بن سوأة، فمنهم جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن رباب الصحابي المشهور، ومن بطن رباب هؤلاء حيّ بإفريقية ينجعون مع رياح بن هلال ويعرفون بهذا النسب كما يأتي في أخبار هلال من الطبقة الرابعة. وأمّا هلال بن عامر فبطون كثيرة كانوا في الجاهلية بنجد ثم ساروا إلى الديار المصرية في حروب القرامطة، ثم ساروا إلى إفريقية أجازهم الوزير البارزيّ في خلافة المستنصر العبيديّ لحرب المعزّ بن باديس، فملك عليه ضواحي إفريقية، ثم زاحمهم بنو سليم فساروا إلى الغرب ما بين بونة وقسنطينة، إلى البحر المحيط، وكان لهلال خمسة من الولد: شعبة وناشرة ونهيك وعبد مناف وعبد الله، وبطونهم كلها ترجع إلى هؤلاء الخمسة، فكان من بني عبد مناف زينب أمّ المؤمنين بنت خزيمة بن الحرث بن عبد الله بن عمرو بن عبد الله بن عبد مناف، وكان من بني عبد الله ميمونة أمّ المؤمنين بنت الحرث بن حزن بن بحير بن هرم بن رويبة بن عبد الله.
قال ابن حزم: ومن بطون بني هلال بنو قرّة وبنو نعجة الذين بين مصر وافريقية، وبنو حرب الذين بالحجاز، وبنو رياح الذين أفسدوا إفريقية.
وقال ابن سعيد: وجيل بني هلال مشهور بالشام وقد صار عربه حرائر وفيه قلعة صرخد مشهورة قال: وقبائلهم في العرب ترجع لهذا العهد إلى أثبج ورياح وزغبة وقارع. فأمّا الأثبج فمنهم سراح بجهة برقة، وعياض بجبل القلعة المسمّى لهم ولغيرهم. وأمّا رياح فبلادهم بنواحي قسنطينة والسلم والزاب، ومنهم عتبة بنواحي بجاية، ومنهم بالمغرب الأقصى خلق كثير كما يأتي في أخبارهم. وأمّا زغبة فإنّهم في بلاد زنانة خلق كثير. وأمّا قارع فإنّهم في المغرب الأقصى مع المعقل وقرّة وجشم.
وبنو قرّة كانت منازلهم ببرقة وكانت رياستهم أيام الحاكم العبيديّ لما مضى ابن مقرب، ولما بايعوا لأبي ركوة من بني أميّة بالأندلس وقتله الحاكم سلّط عليهم العرب والجيوش فأفنوهم، وانتقل جلّهم إلى المغرب الأقصى، فهم مع جشم(2/371)
هنالك كما يأتي ذكره ويأتي الكلام في نسب هلال وشعوبهم ومواطنهم بالمغرب الأوسط وإفريقية عند الكلام عليهم في الطبقة الرابعة.
وأمّا بنو ربيعة بن عامر فبطون كثيرة وعامّتها ترجع إلى ثلاثة من بنيه وهم عامر وكلاب وكعب، وبلادهم بأرض نجد الموالية لتهامة بالمدينة وأرض الشام، ثم دخلوا إلى الشام وافترق منهم على ممالك الإسلام فلم يبق منهم بنجد أحد. فمن عامر بن ربيعة بنو التكما وهو ربيعة بن عامر بن ربيعة الّذي اشترك ابنه حندج مع خالد بن جعفر بن كلاب في قتل زهير بن جذيمة العبسيّ، وبنو ذي السهمين معاوية بن عامر بن ربيعة وهو ذو الحجر عوف بن عامر بن ربيعة، وبنو فارس الضحيا عمرو بن عارم بن ربيعة منهم خدّاش بن زهيرة بن عمرو من فرسان الجاهلية وشعرائها.
وأمّا بنو كلاب بن ربيعة فمنهم بنو الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب وبنو ربيعة المجنون ابن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب وبنو عمرو بن كلاب. قال ابن خزم:
يقال: إنّ منهم بني صالح بن مرداس أمراء حلب، ومن بني كلاب بنو رواس واسمه الحرب بن كلاب، وبنو الضباب واسمه معاوية بن كلاب الذين منهم شهر بن ذي الجوش [1] بن الأعور بن معاوية قاتل الحسين بن عليّ، ومن عقبة كان الصهيل ابن حاتم بن شمر وزير عبد الرحمن بن يوسف الفهري بالأندلس، وبنو جعفر بن كلاب الذين منهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر وعمّه أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة وربيعة بن مالك وتبّع المعتبرين وأبوه لبيد بن ربيعة شاعر معروف مشهور. وكانت بلاد بني كلاب حمى ضرية والرَّبَذَة في جهات المدينة وفدك والعوالي، وحمى ضرية هي حمى كليب وائل نباته النضر تسمن عليه الخيل والإبل، وحمى الرَّبَذَة هو الّذي أخرج عليه عثمان أبا ذر رضي الله عنهما. ثم انتقل بنو كلاب إلى الشام فكان لهم في الجزيرة الفراتية صيت وملك وملكوا حلب وكثيرا من مدن الشام، تولّى ذلك منهم بنو صالح بن مرداس، ثم ضعفوا فهم الآن تحت خفارة العرب المشهورين بالشام وهنالك بالإمارة من طيِّئ. قال ابن سعيد وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة.
ومن بني كعب بن ربيعة بطون كثيرة منهم: الحريش بن كعب بطن كان منهم مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن وقدان بن الحريش الصحابي المشهور،
__________
[1] وهو: شمر بن ذي الجوشن.(2/372)
ويقال: إنّ منهم ليلى التي شبّب بها قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة الشاعر، مادح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة الّذي غلب على ناب فارس أيام الزبير وعم أمه زياد بن الأشهب الّذي وفد على عليّ ليصلح بينه وبين معاوية، ومالك بن عبد الله بن جعدة الّذي أجار قيس بن زهير العبسيّ. وبنو قشير بن كعب منهم مرّة بن هبيرة بن عامر بن مسلمة الخير بن قشير وفد على النبي صلى الله عليه وسلّم فولّاه صدقات قومه، وكلثوم بن عياض بن رصوح بن الأعور بن قشير الّذي ولي إفريقية، وابن أخيه بلخ بن بشر. ومن بني قشير بخراسان أعيان منهم أبو القاسم القشيريّ صاحب الرسالة، ومنهم عريسة الأندلس بنو رشيق ملكها منهم عبد الرحمن بن رشيق وأخرج منها ابن عمارة، ومنهم الصمّة بن عبد الله من شعراء الحماسة. وبنو العجلان بن عبد الله بن كعب وشاعرهم تميم بن مقبل. وبنو عقيل بن كعب وهم بطون كثيرة منهم: بنو المنتفق بن عامر بن عقيل. ومن أعقاب بني المنتفق هؤلاء العرب المعروفون في المغرب بالخلط. قال عليّ بن عبد العزيز الجرجاني: الخلط بنو عوف وبنو معاوية ابنا المنتفق بن عامر بن عقيل انتهى.
قال ابن سعيد: ومنازل المنتفق [1] الآجام التي بين البصرة والكوفة والإمارة منهم في بني معروف. قلت والخلط لهذا العهد في أعداد جشم بالمغرب، ومن بني عقيل بن كعب بنو عبادة بن عقيل، منهم الأخيل واسمه كعب بن الرحّال بن معاوية بن عبادة، ومن عقبه ليل الأخيلية [2] بنت حذيفة بن سداد بن الأخيل.
وذكر ابن قتيبة: أن قيس بن الملوّح المجنون منهم. وبنو عبادة هؤلاء لهذا العهد فيما قال ابن سعيد بالجزيرة الفراتيّة فيما يلي العراق، ولهم عدد وذكر، وغلب منهم على الموصل وحلب في أواسط الخامسة قريش بن بدران بن مقلد فملكها هو وابنه مسلم بن قريش من بعده، ويسمى شرف الدولة، وتوالى الملك في عقب مسلم بن قريش منهم إلى أن انقرضوا. قال ابن سعيد: ومنهم لهذا العهد بقية بين الحازر والزاب يقال لهم عرب شرف الدولة، ولهم إحسان من صاحب الموصل وهم في تجمل وعزّ إلّا أنّ عددهم قليل نحو مائة فارس. ومن بني عقيل بن كعب خفاجة بن عمرو بن عقيل
__________
[1] تسمى الآن في العراق (المنتفك) ويطلقونها خاصة على لواء الناصرية.
[2] وفي نسخة ثانية: ليلى الأخيلة.(2/373)
وانتقلوا في قرب من هذه العصور إلى العراق والجزيرة ولهم ببادية العراق دولة، ومن بني عامر بن عقيل بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف، وهم إخوة بني المنتفق وهم ساكنون بجهات البصرة وقد ملكوا البحرين بعد بني أبي الحسن ملكوها من تغلب. قال ابن سعيد: وملكوا أرض اليمامة من بني كلاب، وكان ملكهم لعهد الخمسين من المائة السابعة عصفور وبنوه وقد انقضى الكلام في بطون قيس عيلان.
والله المعين لا ربّ غيره ولا خير إلّا خيره وهو نعم المولى، ونعم النصير، وهو حسبي ونعم الوكيل. وأسأله الستر الجميل آمين.(2/374)
وأمّا بطون خندف بن الياس بن مضر ولد إلياس مدركة وطابخة وقمعة وأمّهم امرأة من قضاعة اسمها خندف فانتسب ولد إلياس كلّهم إليها، فمن بطون قمعة أسلم وخزاعة، فأسلم بنو أفصى بن عامر بن قمعة، وخزاعة بن عمرو بن عامر بن لحيّ وهو ربيعة ابن عامر بن قمعة واسمه حارثة. وعمرو بن حليّ هو أوّل من غيّر دين إسماعيل وعبد الأوثان وأمر العرب بعبادتها، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار» يعني أحشائه. ومواطنهم بأنحاء مكة في مرّ الظهران وما يليه وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا عام الحديبيّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا مما [1] صالح قريشا عليه ثم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فغزا قريشا وغلبهم على أمرهم وافتتح مكّة وكان عام الفتح. وقد يقال: إنّ خزاعة هؤلاء من غسّان وأنهم بنو حارثة بن عمرو مزيقياء، وأنهم أقاموا بمرّ الظهران حين سارت غسّان إلى الشام وتخزعوا عنهم فسموا خزاعة، وليس ذلك بصحيح كما ذكر. وكان لخزاعة ولاية البيت قبل قريش في بني كعب بن عمرو بن لحيّ، وانتهت إلى حليل بن حبشيّة بن سلول وهو الّذي أوصى بها لقصي بن كلاب حين زوّجه ابنته حبي بنت حليل. ويقال: إنّ أبا غبشان بن حليل واسمه المحترش باع الكعبة من قصي بزق وخمر وفيه جرى المثل المعروف. يقال: أخسر صفقة من أبي غبشان. ومن ولد حليل بن حبشيّة كان كرز بن علقمة بن علال بن حريبة بن عبد فهم بن حليل، الّذي قفا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى الغار، ورأى عليه نسج العنكبوت وعش اليمامية ببيضها فرخوا عنه.
ولخزاعة هؤلاء بطون كثيرة منهم بنو المصطلق بن سعد بن عمرو بن لحيّ، وبنو كعب بن عمرو. ومنهم عمران بن الحصين صحابي، وسليمان بن صرد أمير التوّابين القائمين بثأر الحسين، ومالك بن الهيثم من نقباء بني العبّاس وبنو عديّ بن عمرو، ومنهم جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، وبنو مليح بن عمرو، ومنهم طلحة الطلحات، وكثير الشاعر صاحب عزّة وهو ابن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سبيع بن خثعمة بن سعد بن مليح. وبنو عوف بن عمرو ومنهم العبّاد أهل الحيرة وهم بنو جهينة بن عوف. ومن إخوة خزاعة بنو أسلم بن أفصى بن عامر بن قمعة وبنو مالك بن أفصى، وماثان بن أفصى. فمن أسلم سلمة بن الأكوع
__________
[1] الأصح ان يقول: ممن.(2/376)
الصحابي ودعبل وبنو الشيص الشاعران ومحمد بن الأشعث قائد بني العباس، ومن ذلك مالك بن سليمان بن كثّير من دعاة بني العبّاس قتله أبو مسلم.
وأمّا طابخة فلهم بطون كثيرة أشهرها ضبّة والرباب ومزينة وتميم، وبطون صغار إخوة لتميم، ومنهم صوفة ومحارب.
فأمّا بنو تميم بن مرّ فهم: بنو تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة، وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمامة وانتشرت إلى العذيب من أرض الكوفة، وقد تفرّقوا لهذا العهد في الحواضر ولم تبق منهم باقية، وورث منازلهم الحيّان العظيمان بالمشرق لهذا العهد غزيّة من طيِّئ وخفاجة من بني عقيل بن كعب. ولتميم بطون كثيرة منهم الحارث بن تميم وفيهم ينسب المسيّب بن شريك الفقيه وهم قليل، وبنو العنبر الّذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وزفر الفقيه ابن ذهيل ابن قيس بن مسلم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو بن جيجور بن جندب بن العنبر صاحب أبي حنيفة، والناسك الفاضل عامر بن عبد قيس بن ثابت بن بشامة بن حذيفة بن معاوية بن الجون بن كعب بن جندب وربيعة ابن رفيع بن سلمة بن محلم بن صلاة بن عبدة بن عديّ بن جندب، وبنو الهجيج بن عمرو بن تميم وبنو أسيد بن عمير. وكان منهم أبو هالة هند بن زرارة بن النبّاش بن عديّ بن نمير بن أسيد الصحابي المشهور، وحنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح ابن الحرث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحليم [1] المشهور أكثم بن صيفي بن رياح، ويحيى بن أكثم قاضي المأمون من ولد صيفي بن رياح. وبنو مالك بن عمرو بن تميم منهم النضر بن شميل ابن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير بن عروة بن جميل بن حجر بن خزاعيّ بن مازن بن مالك النحويّ المحدّث، وسلم بن أخوز بن أربد بن محزر بن لاي بن مهل بن ضباب بن حجبة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك صاحب الشرطة لنصر بن سيّار وقاتل يحيى بن زيد بن زين العابدين، وأخوه هلال بن أخوز قاتل آل المهلّب، وقطريّ بن الفجاءة، واسم الفجاءة جعونة بن يزيد بن زياد بن جنز بن كابية بن حرقوص الخارجي الأزرقيّ سلم عليه بالخلافة عشرين سنة، ومالك بن الريب بن جوط بن قرط بن حسيل بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص
__________
[1] الصحيح: الحكيم لا الحليم حسب شهرة أكثم بن صيفي.(2/377)
صاحب القصيدة المشهورة نعى بها نفسه وبعث بها إلى قومه وهو في خراسان في بعث عثمان بن عفّان وأوّلها:
دعاني الهوى من أهل ودّي ورفقتي ... بذي الشيّطين [1] فالتفت ورائيا
يقولون لا تبعد [2] وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلّا مكانيا
وبنو عمرو بن العلاء بن عمّار بن عدنان بن عبيد الله بن الحصي بن الحرث بن جلهّم ابن خزاعيّ بن مازن بن مالك، وبنو الحرث بن عمرو بن تميم وهم الحبطات منهم عبّاد بن الحصين بن يزيد بن أوس بن سيف بن عدم بن جبلذة بن قيار بن سعد بن الحرث وهو الملقّب بالحبط لعظم بطنه، وبنو امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم وكان منهم زيد بن عديّ بن زيد بن أيوب بن مخوّف بن عامر بن عطيّة بن امرئ القيس صاحب النعمان بن المنذر بالحيرة الّذي سعى به إلى كسرى حتى قتله ومقاتل بن حسّان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب بن مخوف صاحب قصر بني مقاتل بن منصور بالحيرة ولاهز بن قريط بن سريّ بن الكاهن بن زيد بن عصيّة من دعاة بني العباس الّذي قتله أبو مسلم لنذارته لنصر بن سيّار. وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم منهم الأبناء كان منهم رؤبة بن العجّاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كنيف بن عمير ابن حيّ بن ربيعة بن سعد بن مالك بن سعد، وعبدة بن الطيب الشاعر. وبنو منقر ابن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة، كان منهم قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه، وكان من ولده ميّة صاحبة ذي الرمّة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم. ومن بني منقر عمرو بن الأهتم صحابي وبنو مرّة بن عبيد بن مقاعس، منهم الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين بن حفص بن عبّادة بن النزّال بن مرّة وأبو بكر الأبهريّ المالكيّ، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح بن عمرو بن حفص بن عمرو بن مصعب بن الزبير بن سعد بن كعب بن عبادة بن النزّال. وبنو صريم بن مقاعس، منهم عبد الله بن أباض رئيس الإباضيّة من الخوارج، وعبد الله بن صفّار رئيس الصفريّة، والبرك بن عبد الله الّذي اشترط بقتل معاوية وضربه فجرحه. وبنو عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة منهم، ثم من بني بهدلة
__________
[1] الشيطين: مثنى شيّط بتشديد الياء أهـ.
[2] تبعد: من بعد بمعنى هلك ومات.(2/378)
ابن عوف الزبرقان واسمه الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة وأويس ابن أخيه حنظلة الّذي أسر هوذة بن علي الحنفي. ومن بني عطارد بن عوف كرب بن صفوان بن شخمة بن عطارد الّذي كان يجيز بأهل الموسم في الجاهلية.
ومن بني قريع بن عوف بن كعب جعفر الملقب أنف الناقة وكان ولده يغضبون منها إلى أن مدحهم الحطيئة بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا
[1] وبنو الحرث الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة، كان منهم زهرة بن جؤيّة بن عبد الله بن قتادة بن مرثد بن معاوية بن قطن بن مالك بن أرتم بن جشم بن الحرث الّذي أبلى في القادسيّة وقتل الجالنوس أمير الفرس، وقتله هو بعد ذلك أصحاب شبيب الخارجي مع عتاب بن ورقا وبنو مالك بن سعد بن زيد مناة، كان منهم الأغلب بن سالم بن عقال بن خفافة بن عبّاد بن عبد الله بن محرث بن سعد بن حرام بن سعد بن مالك أبو الولاة بإفريقية لبني العبّاس، وبنو ربيعة بن مالك بن زيد مناة كان منهم عروة بن جرير بن عامر بن عبد بن كعب بن ربيعة أول خارجي قال: لا حكم إلّا للَّه يوم صفّين. ويعرف بأنّ أباه نسبه إلى أمّه. ومن بني حنظلة بن مالك البراجم وهم بنو عمرو. والظلم وغالب وكلبة وقيس كلهم بنو حنظلة كان منهم ضابىء بن الحرث بن أرطاة بن شهاب بن عبيد بن جنادل [2] بن قيس وابن عمير بن ضابىء الّذي قتله الحجاج. وبنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة كان منهم بمراثيه المشهورة، وبنو الحرث بن يربوع منهم الزبير بن الماحور أمير الخوارج وأخوه عثمان وعلي وهم بنو بشير بن يزيد الملقّب بالماحور بن الحارث بن ساحق بن الحرث بن سليط بن يربوع وكلهم أمراء الأزارقة، وبنو كليب بن يربوع كان منهم جرير الشاعر ابن عطية بن الخطفي وهو حذيفة بن بدر بن سلم بن عوف بن كليب. وبنو العنبر بن يربوع منهم كانت سجاح المتنبئة بنت أويس بن جوين بن سامة بن عنبر. وبنو رياح كان منهم شبث بن ربعي بن حصين بن عميم بن ربيعة بن زيد بن رياح كان منهم رياح أسلم ثم سار مع الخوارج ثم رجع عنهم تائبا، ومعقل بن قيس أوفده عمّار بن ياسر على عمر بفتح تستر، وعتاب بن ورقاء بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح
__________
[1] فأصبحوا بعد مدحه يفتخرون به.
[2] وفي نسخة أخرى: جندال.(2/379)
أمير أصبهان وقتله شبيب الخارجي. وبنو طهيّة بن مالك وهم بنو أبي سود وعوف ابني مالك. وبنو دارم بن مالك بن حنظلة كان منهم ثم من بني نهشل بن دارم بن حازم بن خزيمة بن عبد الله بن حنظلة نضلة بن حدثان بن مطلق بن أصحر بن نهشل صاحب الشرطة لبني العبّاس. ومن بني مجاشع بن دارم الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، والفرزدق بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال والحتات بن يزيد بن علقمة الّذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان. ومن بني عبد الله بن دارم المنذر بن ساوى بن عبد الله بن زيد بن عبد مناة بن دارم صاحب هجر ومن بني غرس بن زيد بن عبد الله بن دارم حاجب بن زرارة بن غرس وابنه عطارد وبنوهم، كان فيهم رؤساء وأمراء وانقضى الكلام في تميم.
وأمّا بنو مزينة: وهم بنو مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس واسم ولده عثمان وأوس وأمّهما مزينة فسمّي جمع ولديهما بها، فكان منهم زهير بن أبي سلمى وهو ربيعة بن أبي رباح بن قرة بن الحرث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن لاظم بن عثمان أحد الشعراء الستة، وأبناء بجير وكعب الّذي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنعمان بن مقرّن بن عامر بن صبح بن هجيم بن نصر بن حبشيّة بن كعب بن عفراء بن ثور بن هرمة، وأخوه سويد الّذي قتل يوم نهاوند، ومعقل بن يسّار بن عبد الله بن معير بن حراق بن لابي بن كعب بن عيد ثور الصحابي المشهور.
وأمّا الرباب: وهم بنو عبد مناة بن أدّ بن طابخة فمن بنيه تميم وعديّ وعوف وثور، وسمّوا الرباب لأنهم غمسوا في الربّ أيديهم في حلف على بني ضبّة، وبلادهم جوار بني تميم بالدهناء، وفي أشعارهم ذكر حزوى وعالج من معالمهما.
وتفرّقوا لهذا العهد ولم يبق منهم أحد هنالك. وكان من بني تميم بن عبد مناة المستورد بن علقمة بن الفريس بن صباري بن نشبة بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن لؤيّ بن عمرو بن الحرث بن تميم الخارجي قتله معقل بن قيس الرياحيّ في إمارة المغيرة بن شعبة، وابن باخمة ورد بن مجالد بن علقمة حضر مع عبد الرحمن بن ملجم في قتل عليّ وقتل، وقطام بنت بجنة بن عديّ بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تميم التي تزوّجها عبد الرحمن بن ملجم ومهرها قتل عليّ فيما قيل حيث يقول:(2/380)
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب عليّ بالحسام المصمّم
[1] وكانت خارجية وقتل أبوها شحمة وعمها الأخضر يوم النهروان. ومن بني عديّ بن عبد مناة ذي الرمّة الشاعر، وهو غيلان بن عقبة بن بهس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عديّ. ومن بني ثور بن عبد مناة ويسمى أطمل سفيان الثوريّ، وهو سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن منقر بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور وأخواه عمرو والمبارك والربيع بن خثيم الفقيه.
وأمّا ضبّة: فهم بنو ضبّة بن أدّ وكانت ديارهم جوار بني تميم إخوتهم بالناحية الشمالية التهاميّة من نجد، ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق بجهة النعمانيّة وبها قتلوا المثنّى الشاعر. فمنهم ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن أسعد بن ضبّة سيد بني ضبّة في الجاهلية، وبقيت سيادتهم في بنيه، وكان له ثمانية عشر ولدا ذكرا شهدوا معه يوم القريتين، وابنه حصين كان مع عائشة يوم الجمل، ومن ولده القاضي أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسّان بن المنذر بن ضرار بن عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عبس بن عنبسة بن شعبة ابن المختبر بن عامر بن العباب بن حسل بن بجالة المذكور في قوّاد بني العبّاس ولي مصر أيام المتوكل. ويقال: إنّ الديلم من بني باسل بن ضبّة بن أدّ والله أعلم.
وأمّا صوفة: فهم بنو الغوث بن مرّ بن أدّ كانوا يجيزون بالحاج في الموسم لا يجوز أحد حتى يجوزوا ثم انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية، وورث ذلك آل صفوان بن شحمة من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وقد مرّ ذكر ذلك وانقضى بنو طابخة بن إلياس.
وأمّا مدركة بن إلياس فهم بطون كثيرة أعظمها هذيل والقارة وأسد وكنانة وقريش.
فأمّا هذيل: فهم بنو هذيل بن مدركة، وديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف، ولهم أماكن ومياه في أسفلها من جهات نجد وتهامة وبين
__________
[1] وفي كتاب ligionoftheShiah:لمؤلفه دوايت. م دونالدسن.
ثلاثة الاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المسمم
فلا مهر أعلى من عليّ وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وربما تكون هذه الرواية أصح لان الحسام الّذي قتل به الامام كان مسموما.(2/381)
مكّة والمدينة، ومنها الرجيع وبئر معونة. وهم بطنان سعد بن هذيل ولحيان بن هذيل: فمن بني سعد بن هذيل أبو بكر الشاعر، والحطيئة فيما يقال، وعبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن الحارث بن تميم بن سعد الصحابي المشهور. وأخواه عتبة وعميس، وبنوه عبد الرحمن وعتبة، والمسعودي المؤرخ ابن عتبة وهو عليّ بن الحسين بن عليّ بن عبد الله بن زيد بن عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ومن عتبة أخيه عتبة بن عبيد الله بن زيد بن عتبة فقيه المدينة. وقد افترقوا في الإسلام على الممالك ولم يبق لهم حي يطرف. وبإفريقية منهم قبيلة بنواحي باجة يعسكرون مع جند السلطان ويؤدّون المغرم.
وأمّا بنو أسد: فمنهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة، بطن كبير متسع ذو بطون، وبلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد وفي مجاورة طيِّئ، ويقال: إنّ بلاد طيِّئ كانت لبني أسد، فلما خرجوا من اليمن غلبوهم على أجا وسلمى وجاءوا واصطلحوا وتجاوروا لبني أسد والتغلبيّة وواقصة وغاضرة. ولهم من المنازل المسمّاة في الأشعار غاضرة والنعف، وقد تفرّقوا من بلاد الحجاز على الأقطار ولم يبق لهم حيّ وبلادهم الآن فيما ذكر ابن سعيد لطيّئ وبني عقيل الأمراء، كانوا بأرض العراق والجزيرة وكانوا في الدولة السلجوقيّة قد عظم أمرهم وملكوا الحلّة وجهاتها، وكان بها منهم الملوك بنو مرين الذين ألّف الهباريّ أرجوزته المعروفة به في السياسة. ثم اضمحلّ ملكهم بعد ذلك وورث بلادهم بالعراق خفاجة. وكانت بنو أسد بطونا كثيرة، كان منها بنو كاهل قاتل حجر بن عمرو الملك والد امرئ القيس، وبنو غنم بن دودان بن أسد منهم: عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثّير بن غنم الّذي أسلم ثم تنصّر ومات نصرانيا، وأخته زينب أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وعكاشة بن محصن بن حدثان بن قيس بن مرّة بن كثّير الصحابي المشهور. وبنو ثعلبة بن دودان بن أسد منهم: الكميت الشاعر ابن زيد بن الأخنس بن ربيعة بن امرئ القيس بن الحرث بن عمرو بن مالك بن سعد بن ثعلبة، وضرار بن الأزور وهو مالك بن أويس بن خزيمة بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة الصحابي، قاتل مالك بن نويرة، والحضرميّ بن عامر بن مجمع بن موالة بن همّام بن صحب بن القيس بن مالك وافدهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وبنو عمرو بن قعيد بن(2/382)
الحارث بن ثعلبة بن دودان منهم: الطمّاح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعيد الّذي سعى عند قيصر في هلاك امرئ القيس، وطليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمر والّذي كان كاهنا وادعى النبوّة ثم أسلم.
وفي بني أسد بطون يطون ذكرها.
وأمّا القارة وعكل: فهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس إخوة بني أسد وكانوا حلفاء لبني زهرة بن قريش.
وأمّا كنانة فهم كنانة بن خزيمة بن مدركة إخوة بني أسد، وديارهم بجهات مكّة، وفيهم بطون كثيرة وأشرفها قريش، وهم بنو النضر بن كنانة وسيأتي ذكرهم. ثم بنو عبد مناة بن كنانة وبنو مالك بن كنانة. فمن بني عبد مناة: بنو بكر وبنو مرّة وبنو الحرث وبنو عامر، فمن بني بكر بنو ليث بن بكر منهم بنو الملوّح بن يعمر وهو الشدّاخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث. ومنهم الصعب بن جثامة بن قيس بن الشدّاخ الصحابي المشهور، والشاعر عروة بن أدينة بن يحيى بن مالك بن الحرث بن عبد الله ابن الشدّاخ، ومنهم بنو شجع بن عامر بن ليث بن بكر ومنهم أبو واقد الليثي الصحابي وهو الحرث بن عوف بن أسيد بن جابر بن عديدة بن عبد مناة بن شجع، وبنو سعد بن ليث بن بكر منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جابر بن خميس بن عديّ بن سعد آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة سبع ومائة وواثلة بن الأسقع بن عبد العزّى بن عبد ياليل بن ناشب بن عبدة بن سعد الصحابي المشهور، وبنو جذع بن بكر بن ليث بن بكر:
منهم أمير خراسان نصر بن سيّار بن رافع بن عديّ بن ربيعة بن عامر بن عوف بن جندع ورافع بن الليث بن نصر القائم بسمرقند أيام الرشيد بدعوة بني أميّة ثم استأمن إلى المأمون. ومن بني عبد مناف بنو عريج بن بكر بن عبد مناف وبنو الديل بن بكر:
منهم الأسود بن رزق بن يعمر بن نافثة بن عديّ بن الدّيل الّذي كان بسببه فتح مكة. وسارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن محميّة بن عبد بن عديّ بن الديل الّذي ناداه عمر فيما اشتهر من المدينة وهو بالعراق يقاتل وأبو الأسود واضع النحو وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن جندب بن يعمر بن حليس بن نافثة بن عديّ. وبنو ضمرة بن بكر: منهم عامرة بن مخشى بن خويلد عبد بن نهم بن يعمر(2/383)
بن عوف بن جري بن ضمرة الّذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعمرو بن أميّة بن خويلد بن عبد الله بن إياس بن عبيد بن ناشرة بن كعب بن جري الصحابي، والبرّاض بن قيس بن رافع بن قيس بن جري الفاتك قاتل عروة الرحّال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب وكان بسببها حرب الفجّار. ومن ضمرة غفّار بن مليل بن ضمرة بطن كان منهم أبو ذرّ الغفاريّ الصحابي وهو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفّار، وصاحبه كثّير الشاعر الّذي تشبّب بعزّة بنت جميل بن حفص بن إياس بن عبد العزّى بن حاجب غافر بن غفّار ومنهم كلثوم بن الحصين بن خالد بن معيسير بن بدر بن خميس بن غفّار واستخلفه النبيّ صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوة الفتح. وبنو مدلج بن مرة بن عبد مناة: منهم سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن مالك بن تيم بن مدلج الّذي اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعالة قريش ليردّه فظهرت فيه الآية وصرفه الله تعالى عنه ومجزز المدلجيّ الّذي سرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقيافته في أسامة وزيد وهو مجزز بن الأعور بن جعد بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج. وبنو عامر بن عبد مناة منهم بنو مساحق بن الأفرم بن جذيمة بن عامر الذين قتلهم خالد بن الوليد بالغميصاء ووداهم النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر فعل خالد. وبنو الحارث بن عبد مناة منهم الحليس بن علقمة بن عمرو بن الأوقح بن عامر بن جذيمة بن عوف بن الحارث الّذي عقد حلف الأحابيش مع قريش وأخوه تيم الّذي عقد حلف القارة معهم. وبنو فراس بن مالك بن كنانة: منهم فارس العرب ربيعة بن المكدّم بن عامر بن خويلد بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطعّان بن فارس. وبنو عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة: منهم نسأة الشهور في الجاهلية قام الإسلام فيهم على جنادة بن أميّة بن عوف بن قلع بن جذيمة بن فقيم بن علي بن عامر وكل من صارت إليه هذه المرتبة كان يسمى القلمس وأوّل من نسأ الشهور: سمير بن ثعلبة بن الحارث وكان منهم الرماحس بن عبد العزيز بن الرماحس بن الرسارس بن واقد بن وهب بن هاجر بن عزّ بن وائلة بن الفاكه بن عمرو بن الحرث ولّاه عبد الرحمن الداخل حين جاء إلى الأندلس على الجزيرة وشذونة وامتنع بها ثم زحف إليه ففرّ إلى العدوة وبها مات. وكان له بالأندلس عقب ولهم في الدولة الأمويّة ذكر وولايات كان منها على الأساطيل فكان لهم فيها غناء وكانوا يغزون سواحل العبيديّين بإفريقية فتعظم نكايتهم(2/384)
فيها. وهو وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا ربّ غيره ولا خير إلّا خيره، ولا يرجى إلا إيّاه ولا معبود سواه، وهم نعم المولى، ونعم النصير، وأسأله الستر الجميل، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. والحمد للَّه رب العالمين، حمدا دائما كثيرا، والله ولي التوفيق.(2/385)
وأمّا قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن فهر بن مالك بن النضر، والنضر هو الّذي يسمّى قريشا، قيل للتفرش وهو التجارة، وقيل تصغير قرش وهو الحوت الكبير المفترس دواب البحر. وإنما انتسبوا إلى فهر لأنّ عقب النضر منحصر فيه لم يعقب من بني النضر غيره، فهذا وجه القول بأن قريشا من بني فهر بن مالك أعني انحصار نسبهم فيه، وأمّا الّذي اسمه قريش فهو النضر. فولد فهر غالب والحارث ومحارب فبنو محارب بن فهر من قريش الظواهر منهم الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب صاحب مرج راهط، قاتل فيه مروان بن الحكم حين بويع له بالخلافة وقتل. وضرار بن الخطّاب بن مرداس بن كثّير بن عمرو آكل السقف [1] ابن حبيب بن عمرو بن شيبان الفارس المشهور في الصحابة، وأبوه الخطّاب بن مرداس سيد الظواهر في الجاهلية، وكان يأخذ المرباع منهم وحضر حروب الفجّار، وابنه من فرسان الإسلام وشعرائه. وعبد الملك بن قطيّ بن نهشل بن عمرو بن عبد الله بن وهب بن سعد بن عمرو آكل السقف شهد يوم الحرّة وعاش حتى ولي الأندلس وصلبه أصحاب بلخ بن بشر القشيري، وكرز بن جابر بن حسل ابن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان قتل يوم الفتح وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسار بنو الحرث بن فهر من الظواهر، منهم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن وهب بن ضبّة بن الحرث من العشيرة وأمير المسلمين بالشام عند الفتح، وعقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ضرب بن الحرث فاتح إفريقية ومؤسس القيروان بها، ومن عقبه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة والي إفريقية أبوه حبيب بن عقبة هو قاتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، ويوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة صاحب الأندلس وعليه دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فقتله ووليها هو وبنوه من بعده.
وأمّا غالب بن فهر وهو في عمود النسب الكريم فولد تيم الأدرم وولدين فبنو تيم الأدرم من الظواهر وهم بادية، كان منهم ابن خطل الّذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح فقتل وهو متعلّق بأستار الكعبة، وهو هلال بن عبد الله بن عبد مناة بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم الأدرم.
وأمّا لؤيّ بن غالب في عمود النسب الكريم فولد كعبا وعامرا وبطونا أخرى يختلف
__________
[1] ج سقيفة: بمعنى البعير.(2/387)
في نسها إلى لؤيّ خزيمة وسامة وسعد وجشم، وهو الحارث وعوف وهم من قريش الظواهر على أقل، فمنهم خزيمة بن لؤيّ وبنو سامة بن لؤيّ، ويقال ليس بنو سامة من قريش وهم بعمان. ويقال: إنّ منهم بني سامان ملوك ما وراء النهر. فأمّا بنو عامر بن لؤيّ فهم شقير حسل بن عامر ومعيص بن عامر فمن بني معيص بشر بن أرطاة وهو عويمر عمران بن الحليس بن يسار بن نزار بن معيص بن عامر وهو أحد قوّاد معاوية، ومكرز بن حفص بن الأحنف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص من سادات قريش الّذي أجار أبا جندل بن سهيل فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب الأصم ابن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص، وهو ابن خال خديجة وأمّه أمّ كلثوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكمثة بن عامر بن مخزوم.
ومن بني حسل عامر بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن جبيب بن خزيمة بن مالك بن حسل بن عامر أمير المسلمين في فتح إفريقية أيام عثمان وولي مصر وكان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة ثم جاء تائبا وحسنت حاله وقصته معروفة، وحويطب بن عبد العزّى بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل له صحبة، وعبد عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك صاحب الحديبيّة وأخوه السكران، وابنه أبو جندل سهيل واسمه العاصي وهو الّذي جاء في قيوده يوم صلح الحديبيّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردّه وقصته معروفة.
وزمعة بن قيس بن عبد شمس، وابنه عبد بن زمعة، وبنته سودة بنت زمعة أم المؤمنين وكانت زوجة السكران ابن عمها، ثم تزوّجها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا كعب بن لؤيّ وهو في عمود النسب الكريم فولده مرّة وهصيص وعديّ وهم قريش البطاح أي بطائح مكّة، فمن ابن كعب هصيص بن كعب بن لؤيّ بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب منهم العاصي بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، وابناه عمرو وهشام ابنا العاصي، وعبد الرحمن بن معيص بن أبي وداعة وهو الحارث بن سعيد بن سعد بن سهم قارئ أهل مكّة، وإسماعيل بن جامع بن عبد المطّلب بن أبي وادعة مفتي مكّة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم قتلا يوم بدر كافرين وألقيا في القليب، وقتل يومئذ العاصي بن منبّه، وكان له ذو(2/388)
الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الله بن الزبعري بن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم كان يؤذي بشعره ثم أسلم وحسن إسلامه، وحذافة بن قيس أبو الأخنس وخنيس، وكان خنيس على حفصة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن حذافة من مهاجرة الحبشة وهو الّذي مضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى. وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، كان منهم أميّة بن خلف بن وهب بن حذافة قتل يوم بدر وأخوه أبيّ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بيده وابنه صفوان بن أميّة أسلم يوم الفتح وابنه عبد الله بن صفوان قتل مع الزبير وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة وإخوته قدامة والسائب وعبد الله مهاجرون بدريّون وإخوتهم زينب بنت مظعون أم حفصة.
وبنو عديّ بن كعب: منهم زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن زراح بن عديّ [1] . رفض الأوثان في الجاهلية والتزم الحنيفيّة ملّة إبراهيم إلى أن قتل بقرية من قرى البلقاء قتله لخم أو جذام، وابنه سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة. وعمر بن الخطّاب أمير المؤمنين، وابنه عبد الله وعاصم وعبيد الله وغيرهم، وخارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبيد الله بن عويج بن عديّ بن كعب الّذي قتله الحروري بمصر يظنّه عمرو بن العاص [2] وقال:
أردت عمرا وأراد الله خارجة فصارت مثلا. وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم صاحب النفل يوم حنين ومطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج صحابي، وابنه عبد الله بن مطيع كان على المهاجرين يوم الحرّة قتل مع ابن الزبير بمكة.
وأمّا مرّة بن كعب وهو من عمود النسب الكريم فكان له من الولد كلاب وتيم ويقظة.
فأمّا تيم بن مرّة فمنهم: عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم سيد قريش في الجاهلية وتنسب إليه الدار المشهورة يومئذ بمكّة. ومنهم أبو بكر الصدّيق واسمه عبد الله بن أبي قحافة وهو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب وابناه عبد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رزاح بن عديّ.
[2] وبهذه المناسبة قال الشاعر:
وليتها إذ فدت عمر الخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر(2/389)
الرحمن ومحمد وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قتل يوم الجمل وابنه محمد السجّاد وأعقابهم كثيرة.
وبنو يقظة بن مرّة منهم: بنو مخزوم بن يقظة بن مرّة فمنهم صيفي بن أبي رفاعة وهو أمية بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، قتل هو أخوه ببدر كافرا، والأرقم بن أبي الأرقم واسمه عبد مناف بن أبي جندب، واسمه أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم صاحبي بدريّ كان يجتمع بداره النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمون سرّا قبل أن يفشوا الإسلام، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من قدماء المهاجرين كان زوج أمّ سلمة قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم واسمه أبو قيس قتل يوم بدر كافرا، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة واسمه عمر وقتل يومئذ كافرا وابنه عكرمة صحابي، والحارث بن هشام بن المغيرة أسلم وحسن إسلامه وله عقب كثير مشهورون، وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة قتل يوم بدر كافرا وبنته أمّ سلمة أمّ المؤمنين وهشام بن أبي حذيفة من مهاجرة الحبشة، وعبد الله بن أبي ربيعة وهو عمرو بن المغيرة من الصحابة من ولده الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقبّاع، والوليد بن المغيرة مات بمكّة كافرا وابنه خالد بن الوليد سيف الله صاحب الفتوحات الإسلامية، وسعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم تابعي، وأبوه المسيّب من أهل بيعة الرضوان.
وأمّا كلاب بن مرّة من عمود النسب الكريم فولد له قصيّ وزهرة فبنو زهرة بن كلاب منهم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي صلى الله عليه وسلم وابن أخيها عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب، وسعد بن أبي وقّاص واسمه مالك بن وهب بن عبد مناف أمير المسلمين في فتح العراق، وهاشم ابن أخيه عتبة من الأمراء يومئذ، وابنه عمرو بن سعيد الّذي بعثه عبد الله بن زياد لقتال الحسين وقتله المختار بن أبي عبيد، وأخوه محمد بن سعد قتله الحجّاج بن أبي الأشعث، والمسوّر ابن مخرمة بن نوفل بن وهب صحابي وأبوه من المؤلّفة قلوبهم، وعبد الله بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة وابنه سلمة وله عقب كثير.
وأمّا قصيّ بن كلاب من عمود النسب الكريم، وهو الّذي جمع أمر قريش وأثل مجدهم، فولد له عبد مناف وعبد الدار وعبد العزّى.(2/390)
فبنو عبد الدار كان منهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، أسر يوم بدر مع المشركين، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومرّ بالصفراء أمر به فضرب عنقه هنالك. ومصعب بن عمرو بن هاشم بن عبد مناف صحابي بدري استشهد يوم أحد وكان صاحب اللواء، ومن عقبه كان عامر بن وهب القائم بسرقسطة من الأندلس بدعوة أبي جعفر المنصور، وقتله يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ أمير الأندلس قبل عبد الرحمن الداخل. ومنهم أبو السنابل بن بعكك بن السبّاق بن عبد الدار صحابي مشهور، ومنهم عثمان بن طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار الّذي دفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مفتاح الكعبة، وقيل إنّما دفعه إلى أخيه شيبة وصارت حجابة البيت إلى بني شيبة بن طلحة من يومئذ.
وبنو عبد العزّى بن قصيّ منهم أبو البختري العاصي بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى، أراد التملّك على قريش من قبل قيصر فمنعوه فرجع عنهم الى الشام، وسجن من وجد بها من قريش، وكان في جملتهم أبو أحيحة سعيد بن العاص فدست قريش إلى عمرو بن جفنة الغسّانيّ، فسمّ عثمان بن الحويرث ومات بالشام.
وهبّار بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى، كان من عقبه عمر بن عبد العزيز بن المنذر بن الزبير بن عبد الرحمن بن هبّار صاحب السند وليها في ابتداء الفتنة إثر قتل المتوكّل، وتداول أولاده ملكها إلى أن انقطع أمرهم على يد محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وما دون النهر من خراسان، وكانت قاعدتهم المنصورة، وكان جدّه المنذر بن الربيع قد قام بقرقيسياء أيام السفّاح فأسر وصلب. وإسماعيل بن هبّار قتله مصعب بن عبد الرحمن غفيلة، وهبّار كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ابنه عوف أسلم فمدحه وحسن إسلامه. وعبد الله بن زمعة بن الأسود له صحبة وتزوّج زينب بنت أبي سلمة من أم سلمة أم المؤمنين. وخديجة أمّ المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، والزبير بن العوّام بن خويلد أحد العشرة، وابناه عبد الله ومصعب. وحكيم بن حزام بن خويلد عاش ستين سنة في الإسلام وباع داره والندوة من معاوية بمائة ألف، وابنه هشام بن حكيم.
وأمّا عبد مناف وهو صاحب الشوكة في قريش وسنام الشرف وهو في عمود النسب الكريم، فولد له عبد شمس وهاشم والمطّلب ونوفل. وكان بنو هاشم وبنو عبد(2/391)
شمس متقاسمين رياسة بني عبد مناف والبقية أحلاف لهم فبنو المطّلب أحلاف لبني هاشم وبنو نوفل أحلاف لبني عبد شمس.
فأمّا بنو عبد شمس فمنهم العبلات وهم بنو أميّة الأصغر وبنته الثريا صاحبة عمرو بن أبي ربيعة وهي سيدة القريض المغنّي وبنو ربيعة بن عبد شمس: منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، ومن عتبة ابنه الوليد وقتل يوم بدر كافرا، وأبو حذيفة صحابي وهو مولى سالم قتل يوم اليمامة، وهند بنت عتبة أمّ معاوية رضي الله عنها. وبنو عبد العزّى بن عبد شمس: منهم أبو العاصي بن الربيع بن عبد العزّى صهر النبيّ وكانت له منها أمامة تزوّجها علي بعد فاطمة رضي الله عنهما. وبنو أميّة الأكبر بن عبد شمس منهم سعيد بن أبي أحيحة العاصي بن أميّة مات كافرا، وابنه خالد بن عبد قتل يوم اليرموك، وسعيد بن العاص بن سعيد قديم الإسلام ولي صنعاء واستشهد في فتح الشام، وابنه سعيد قتل يوم اليرموك، وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ولي الكوفة لعثمان، وابنه عمرو الأشدق القائم على عبد الملك وقتله، وأمير المؤمنين عثمان بن عفّان بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص، وأعقابه الخلفاء الأوّلون في الإسلام والملوك بالأندلس معروفون يأتي ذكرهم عند أخبار دولهم. وأبو سفيان بن حرب بن أميّة وأبناؤه معاوية أمير المؤمنين ويزيد وحنظلة وعتبة وأم حبيبة أمّ المؤمنين، وعقب معاوية بين الخلفاء والإسلام بيّن معروف يذكر عند ذكرهم. وعتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكّة إذ فتحها فلم يزل عليها إلى أن مات يوم ورود الخبر بموت أبي بكر الصدّيق. ومنهم بنو أبي الشوراب القضاة ببغداد من عهد المتوكل إلى المقتدر، وهم بنو أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط واسمه أبان بن عمرو بن أمية قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر صبرا، وابنه الوليد صحابي ولي الكوفة وهو الّذي حدّ على الخمر بين يدي عثمان، وابنه أبو قطيفة الشاعر، ومن عقبة بن أبي معيط المعيطي الّذي بويع بدانية من شرق الأندلس بايع له ما ملكها مجاهد زمان الفتنة بعد المائة الرابعة في آخر الدولة الأموية، وهو عبد الله بن عبيد الله بن عبيد الله بن الوليد بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عثمان بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عقبة بن أبي معيط.(2/392)
وبنو نوفل بن عبد مناف: منهم جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل الصحابي المشهور، وأبوه مطعم هو الّذي نوّه به النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الطائف ومات قبل بدر، وطعيمة بن عديّ قتل يوم بدر كافرا، ومولاه وحشي هو الّذي قتل يوم أحد حمزة بن عبد المطّلب.
وبنو المطّلب بن عبد مناف منهم قيس بن مخرمة بن المطّلب صحابي، وابنه عبد الله بن قيس مولى يسار جد محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، ومسطح وهو عوف بن أثاثة بن عبّاد بن المطّلب أحد من تكلم بالإفك وهو ابن خالة أبي بكر الصدّيق، وركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطّلب كان من أشدّ الرجال، وصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه وكانت آية من آياته. والسائب بن عبد يزيد وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر يوم بدر ومن عقبه الشافعيّ محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب.
وأمّا بنو هاشم بن عبد مناف فسيّدهم عبد المطلب بن هاشم، ولم يذكر من عقبه إلّا عقب عبد المطلب هذا، وكان بنوه عشرة عبد الله أبو النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أصغرهم، وحمزة، والعبّاس وأبو طالب، والزبير، والمقوّم ويقال اسمه الغيداق، وضرار وحجل، وأبو لهب، وقثم والزبير لا عقب لهما. وعقب حمزة انقرض فيما قال ابن حزم. ومن عقب أبي لهب ابنه عتبة صحابي. وأمّا عقب العبّاس وأبي طالب فأكثر من أن يحصر، والبيت والشرف من بني العبّاس في عبد الله بن العبّاس، ومن بني أبي طالب في علي أمير المؤمنين وبعده أخوه جعفر رضي الله عنهم أجمعين، وسنذكر من مشاهيرهم عند ذكر أخبارهم ودولهم ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.
هذا آخر الكلام وفي أنساب قريش وانقضى بتمامها الكلام في أنساب مضر وعدنان فلنرجع الآن إلى أخبار قريش وسائر مضر وما كان لهم من الدول الإسلامية. والله المستعان لا ربّ غيره، ولا خير إلّا خيره، ولا معبود سواه ولا يرجى إلّا إياه، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأسأله الستر الجميل.(2/393)
الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك اليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة
قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز وأكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم كان لهم ملك هنالك، وكانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد، وكانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت. وأصاب اليمن يومئذ قحط ففرّوا نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى وعثروا في طريقهم بإسماعيل مع أمّه هاجر عند زمزم، وكان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام. ونزلوا على قطورا من بقية العمالقة، وعليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق.
واتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن وما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم، وعليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم، فنزلوا على مكّة بقعيقعان وكانت قطورا أسفل مكّة. وكان مضاض يعشر من دخل مكّة من أعلاها والسميدع من أسفلها، هكذا عند ابن إسحاق والمسعودي أنّ قطورا من العمالقة، وعند غيرهما أنّ قطورا من بطون جرهم وليسوا من العمالقة. ثم افترق أمر قطورا وجرهم وتنافسوا الملك واقتتلوا وغلبهم المضاض وقتل السميدع وانقضت العرب العاربة قال الشاعر:
مضى آل عملاق فلم يبق منهمو ... حقير ولاذ وعزّة متشاوس
عتوا فأدال الدهر منهم وحكمه ... على الناس هذا وأغذ ومبايس
ونشأ إسماعيل صلوات الله عليه بين جرهم وتكلم بلغتهم وتزوّج منهم حرّا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم، وهي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره ووجده غائبا فقال لها: قولي لزوجك فليغير عتبته، فطلّقها وتزوّج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف، ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور، وتزوّج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم. ولثلاثين سنة من عمر إسماعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام، وكان الحجر زربا لغنم(2/395)
إسماعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسماعيل وصيّرها خلوة لعبادته، وجعلها حجا للناس كما أمره الله، وانصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مرّ. وبعث الله إسماعيل إلى العمالقة وجرهم وأهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض إلى أن قبضة الله ودفن بالحجر مع أمه هاجر ويقال آجر، وكان عمره فيما يقال مائة وثلاثين سنة وعهد بأمره لابنه قيذار: ومعنى قيذار صاحب الإبل وذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسماعيل كذا قال السهيليّ، قال غيره معناه الملك. ويقال: إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت ووليها، وكان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر: قيذار ينابوت ادبيبل [1] مبسام مشمع دوما مسّا حدد [2] ديما يطور ياقيس قدما [3] أمّهم السيدة بنت مضاض قاله السهيليّ.
وهكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات، والحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج، فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ، وقد ضبط ابن إسحاق تيماء منهم بالطاء والياء وضبطه الدار الدّارقطنيّ بالضاد المعجمة والميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم وذكر ابن إسحاق ديما. وقال البكري به سميت دومة الجندل لأنه كان نزلها وذكر أنّ الطوربيطون ابن إسماعيل.
ثم هلك نابت بن إسماعيل، وولى أمر البيت جدّه الحرث بن مضاض، وقيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم، ثم ابنه الحرث بن عمرو. ثم قسمت الولاية بين ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسماعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال. ثم بغت جرهم في البيت، ووافق بغيهم تفرّق سبإ ونزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكّة، فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم واقتتلوا فغلبهم بنو حارثة، وهم فيما قيل خزاعة، وملكوا البيت عليهم، ورئيسهم يومئذ عمرو بن لحيّ وشرّد بقية جرهم.
ولحيّ هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر، وقيل: إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر. وفي الحديث «رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار»
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قيايوت أدبئيل.
[2] وفي نسخة ثانية: حدار.
[3] وهذه هي أسماء بني إسماعيل عن التوراة: بنايوت، قيذار، أدئبيل، مبسام، مشماع، دومة، مسّا، حدار، تيما، يطور، ناغيش، قدمه. هؤلاء بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بحسب احويتهم وحظائرهم اثنا عشر زعيما لقبائلهم. سفر التكوين: الفصل الخامس والعشرون.(2/396)
يعني أحشاءه، لأنه الّذي بحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي وغير دين إسماعيل ودعا الى عبادة الأوثان. وفي طريق آخر رأيت عمرو بن عامر. قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة، هذا هو عمرو بن لحيّ بن قمعة بن إلياس وإنّما عامر اسم أبيه أخو قمعة، وهو مدركة بن إلياس، وقال السهيليّ: كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحيّ بد أبيه قمعة ولحيّ تصغير واسمه ربيعة تبنّاه حارثة وانتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين، وأسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة.
وعن ابن إسحاق أنّ الّذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها، وإنّما تصدّى للنكير عليهم خزاعة وكنانة. وتولّى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وبنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم واقتتلوا، وغلبهم بنو بكر وبنو غبشان بن كنانة وخزاعة على البيت ونفوهم من مكّة.
فخرج عمرو، وقيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر، بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن وجميع أموال الكعبة بزمزم. ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكّة وحزنوا حزنا شديدا. وقال عمرو بن الحرث وقيل عامر:
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأزالنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر
وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف فما تحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعزّزنا فأعظم ملكنا ... فليس لحيّ عندنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤنا منّا ونحن الأصاهر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها ... فإنّ لها حالا وفيها التّشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للنّاس تجري المقادر
أقول إذا نام الخليّ ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدّلت منها أوجها لا أحبّها ... قبائل منها حمير وبحائر
وصرنا أحاديثا وكنّا بغبطة ... بذلك عضّتنا السنون الغوابر
فساحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر
ونبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظلّ بها أمنا وفيها العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر
ثم غلبت بنو حبشيّة على أمر البيت بقومهم من خزاعة، واستقلوا بولايتها دون بني بكر(2/397)
عبد مناة، وكان الّذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث وهو غبشان.
وذكر الزبير: أنّ الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسماعيل هم إياد بن نزار.
ومن بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر وإياد فأخرجتهم مضر، ولما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود ودفنوه في بعض المواضع، ورأت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دلوهم عليه أنّ لهم ولاية البيت دونهم، فوفّوا لهم بذلك. وصارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصيّ. ويذكر ان من وليها منهم عمرو بن لحيّ ونصب الأصنام وخاطبه رجل من جرهم:
يا عمرو لا تظلم بمكّة إنّها بلد حرام سائل بعاد أين هم- وكذاك تحترم الأنام وهي العماليق الذين لهم بها كان السوام وكانت ولاية البيت لخزاعة وكان لمضر ثلاث خصال: الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرّة إخوتهم وهو صوفة، والإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عديّ وانتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة على حمار، ونسأ الشهور الحرم، كان لبني مالك بن كنانة وانتهى إلى القلمس كما مرّ. وكان إذا أراد الناس الصدور من مكّة قال: اللَّهمّ إني أحللت أحد الصغرين ونسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس.
ونحن الناسئون على معدّ ... شهور الحلّ نجعلها حراما
قال ابن إسحاق: فأقام بنو خزاعة وبنو كنانة على ذلك مدّة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه. وفي أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة ومن مضر كلها وصاروا جرما وبيوتات متفرّقين في بطن قومهم من بني كنانة، وكلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها.
وصارت قريش على فرقتين: قريش البطاح وقريش الظواهر. فقريش البطاح ولد قصيّ بن كلاب وسائر بني كعب بن لؤيّ، وقريش الظواهر من سواهم وكانت خزاعة بادية لكنانة، ثم صار بنو كنانة لقريش، ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح، وقريش الظواهر من كان على أقل من مرحلة، ومن الضواحي ما كان على أكثر من(2/398)
ذلك. وصار من سوى قريش وكنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية، وظعونا ناجعة من بطون قيس، وخندف من أشجع وعبس وفزارة ومرّة وسليم وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة وثقيف. ومن تميم والرباب وضبعي بني أسد وهذيل والقارة وغير هؤلاء من البطون الصغار، وكان التقدّم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش، والتقدّم في قريش لبني لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكان سيّدهم قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ كان له فيهم شرف وقرابة وثروة وولد.
وكان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر ورحم كلالة كانوا من أجلها فيه شيعة، وذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكّة قبل مهلك كلاب بن مرّة. وكان كلاب خلف قصيّا في حجر أمّه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوّجها ربيعة وقصيّ يومئذ فطيم فاحتملته إلى بلاد بني عذرة وتركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا، وولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة. ولما شبّ قصيّ وعرف نسبه رجع إلى قومه، وكان الّذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو، فأصهر إلى قصيّ في ابنته حبي فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار وعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصيّ. ولما انتشر ولد قصيّ وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصيّ أنه أحق بالكعبة وبأمر مكّة وخزاعة وبني بكر لشرفه في قريش. ولما كثرت قريش سائر الناس واعتزت عليهم وقيل أوصى له بذلك حليل، ولما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش ودعاهم الى ذلك فأجابوه، وكتب إلى أخيه رزاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكّة في إخوته من ولد ربيعة ومن تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصيّ.
قال السهيليّ: وذكر غير ابن إسحاق أنّ حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبي حين كبر وضعف فكانت بيدها، وكان قصيّ ربما أخذها يفتح البيت للناس ويغلقه. فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصيّ وأبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصيّ، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم.
وقال الطبريّ: لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبي لما كبر وثقل قالت: اجعل ذلك لرجل يقوم لك به. فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤيّ بن ملكان(2/399)
بن قصيّ، وكانت له ولاية الكعبة. ويقال: إنّ أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصيّ بزق خمر، قليل فيه: «أخسر من صفقة أبي غبشان» . فكان من أوّل ما بدءوا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج، وذلك أنّ بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم ويرمون الجمار لرميهم، ورثوا ذلك من بني الغوث بن مرّة، كانت أمّه من جرهم وكانت لا تلد، فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها، فولدت الغوث وخلى أخواله من جرهم بينه وبين من نافسه بذلك، فكان له ولولده وكان يقال لهم صوفة.
وقال السهيليّ: عن بعض الأخباريين: إنّ ولاية الغوث بن مرّة كانت من قبل ملوك كندة، ولما انقرضوا ورث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة، ولما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتاب بن شجنة وقد مرّ ذكره في بطون تميم. فلما كان العام الّذي أجمع فيه قصيّ الانفراد بولاية البيت وحضر إخوته من عذرة، تعرّض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش وكنانة وقضاعة عند الكعبة، فلما وقفوا للإجازة قال: لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا وغلبهم قصيّ على ما كان بأيديهم، وعرفت خزاعة وبنو بكر عند ذلك أنّه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين، فانحازوا عنه وأجمعوا لحربه وتناجزوا وكثر القتل، ثم صالحوه على أن يحكمّوا من أشراف العرب، وتنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصيّ عليهم، فولي قصيّ البيت وقرّ بمكة وجمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها وقطعها أرباعا بينهم، فأنزل كل بطن منهم بمنزله الّذي صبحهم [1] به الإسلام وسمّي بذلك مجمعا قال الشاعر:
قصيّ لعمري كان يدعى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر
فكان أوّل من أصاب من بني لؤيّ بن غالب ملكا أطاع له به قومه، فصار له لواء الحرب وحجابة البيت، وتيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم وكثيرها، فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم وجعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم ومعاقدهم. ثم تصدّى لإطعام الحاج وسقايته لما رأى أنهم ضيف الله وزوّار بيته، وفرض على قريش خراجا يؤدّونه إليه
__________
[1] صبح: أتاهم صباحا. وصبح: كان وضيّا. وصبح: كان مشرقا وجميلا.(2/400)
زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله، وكانت الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء له. ولما أسنّ قصيّ وكان بكرة عبد الدار وكان ضعيفا، وكان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه، فأوصى قصيّ لعبد الدار بما كان له من الحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف، وكان أمره في قومه كالدين المتّبع لا يعدل عنه. ثم هلك وقام بأمره في قومه بنوه من بعده.
وأقاموا على ذلك مدّة وسلطان مكّة لهم وأمر قريش جميعا، ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم ونازعوهم، فافترق أمر قريش وصاروا في مظاهرة بني قصيّ بعضهم على بعض فرقتين. وكان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا: بنو الحرث بن فهر، وبنو محارب بن فهر، وبنو عامر بن لؤيّ، وبنو عديّ بن كعب، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو تيم بن مرّة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وبنو عبد الدار، وبنو عبد مناف بن قصيّ.
فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصيّ، وقام بأمرهم عبد شمس أسنّ ولده واجتمع له من قريش: بنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث. واعتزل بن عامر، وبنو المحارب الفريقين. وصار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار وهم: بنو سهم، وبنو جمح، وبنو عديّ، وبنو مخزوم. ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا، وأحشر بنو عبد مناف وحلف قومهم عند الكعبة جفنة مملوءة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف، فسمّي «حلف المطيّبين» . وأجمعوا للحرب وسوّوا بين القبائل وأنّ بعضها إلى بعض، فعبت بنو عبد الدار لبني أسد، وبنو جمح لبني زهرة، وبنو مخزوم لبني تيم، وبنو عديّ لبني الحرث. ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ويختص بنو عبد الدار بالحجابة واللواء فرضي الفريقان وتحاجز الناس.
وقال الطبريّ قيل ورثها من أبيه. ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره وقراره بمكّة، وتقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام، فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج وإكرام وفدهم. ويقال: إنه أوّل من أطعم الثريد الّذي كان يطعم فهو(2/401)
ثريد قريش الّذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. والثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة والتنور وليس من طعام العرب، إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة، وهو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه، ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه وتتلازج. وما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أنّ لفظ الثريد يتناوله لغة.
ويقال: إن هاشم بن عبد المطلب أوّل من سنّ الرحلتين في الشتاء والصيف للعرب ذكره ابن إسحاق، وهو غير صحيح، لأنّ الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم ومصالحها لأنّ معاشهم فيها، وهذا معنى العرب وحقيقتهم أنه الجيل الّذي معاشهم في كسب الإبل والقيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه والنتاج والتوليد وغير ذلك من مصالحها، والفرار بها من أذى البرد عند التوليد الى القفار ودفئها، وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء، وتكوّنت على ذلك طباعهم فلا بد لهم منها ظعنوا أو أقاموا وهو معنى العروبية، وشعارها أنّ هاشما لما هلك وكان مهلكه بغزّة من أرض الشام، تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده ابنه المطّلب، وكان ذا شرف وفضل، وكانت قريش تسمّيه الفضل لسماحته، وكان هاشم قدم يثرب فتزوّج في بني عديّ وكانت قبله عند أحيحة بن الجلّاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده، فولدت عمرو بن أحيحة، وكانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح، فولدت عبد المطّلب فسمته شيبة، وتركه هاشم عندها حتى كان غلاما.
وهلك هاشم فخرج إليه أخوه المطّلب فأسلمته إليه بعد تعسّف واغتباط به، فاحتمله ودخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش: هذا عبد ابتاعه المطّلب، فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ.
ثم أنّ المطّلب هلك بردمان من اليمن، فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم، وأقام الرفادة والسقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكّة من قبله، وكانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير والحبشة، وقد قدّمناه خبره مع ابن ذي يزن ومع أبرهة. ولمّا أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها، اعترضته قريش دون ذلك، ثم حالوا بينه وبين ما أراد منها، فنذر لئن ولد له عشرة من الولد ثم يبلغوا معه(2/402)
حتى يمنعوه لينحرنّ أحدهم قربانا للَّه عند الكعبة، فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الّذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة، فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحيّر في شأنه، ومنعه قومه من ذلك، وأشار بعضهم وهو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرّافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك، فألفوها بخيبر وسألوها.
فقالت: قرّبوه وعشرا من الإبل وأجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك وإلّا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح وانحروها حينئذ فهي الفدية عنه وقد رضي إلهكم. ففعلوا وبلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب، وكانت من كرامات الله به.
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين» يعني عبد الله أباه وإسماعيل بن إبراهيم جدّه اللذين قرّبا للذبح، ثم فديا بذبح الأنعام.
ثم إنّ عبد المطلب زوّج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك، فلما أبطأ عليهم خبره بعث في أثره. وقال الطبريّ: عن الواقدي:
الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش، فنزل بالمدينة ومرض بها ومات. ثم أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكّة والكون يصغي لملك العرب والعالم يتمخّض بفصال النبوة، إلى أن وضح نور الله من أفقهم، وسرى خبر السماء إلى بيوتهم، واختلفت الملائكة إلى أحيائهم، وخرجت الخلافة في أنصبائهم، وصارت العزّة لمضر ولسائر العرب بهم، وذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ 5: 54. وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وهو الّذي احتفر زمزم.
قال السهيليّ: ولما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب وأسيافا كذلك، كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة، وقيل سابور. ودفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكّة، فاستخرجها عبد المطلب، وضرب الغزالين حلية للكعبة فهو أوّل من ذهّب حلية الكعبة بها، وضرب من تلك الأسياف باب حديد وجعله للكعبة. ويقال: إنّ أوّل من كسى الكعبة واتخذ لها غلقا تبّع إلى أن جعل لها عبد المطلب هذا الباب. ثم اتخذ عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه، وحسده قومه على ذلك وكانوا يخرّبونه بالليل، فلما غمّه ذلك رأى في النوم قائلا يقول: «قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حلّ وبلّ فإذا قلتها فقد كفيتهم»(2/403)
فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جسده، ولما علموا بذلك تناهوا عنه.
وقال السهيليّ: أوّل من كسا البيت المسوح والخصف والأنطاع تبّع الحميريّ. ويروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء والوصائل قبله وسكن. وممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل. وقال ابن إسحاق: أوّل من كسا البيت الديباج الحجاج. وقال الزبير بن بكار بل عبد الله بن الزبير أوّل من كساها ذلك. وذكر جماعة منهم الدار الدّارقطنيّ: أنّ نتيلة بنت جناب أم العبّاس بن عبد المطلب كانت أضلت العبّاس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة، وكانت من بيت مملكة، فوفت بنذرها.
هذه أخبار قريش وملكهم بمكّة، وكانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية وينازعونهم في الشرف، وكانوا من أوفر قبائل هوازن، لأنّ ثقيفا هو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن، وكانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عبّاد بن يشكر بن بكر بن عدوان وكثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا، ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا وقل عددهم، وكان قسي بن منبّه صهرا لعامر بن الظرب، وكان بنوه بينهم فلما قل عدد عدوان نغلّب عليهم ثقيف وأخرجوهم من الطائف وملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به. على ما نذكره والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء للَّه وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أمر النبوّة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الاباية والحرب
لما استقر أمر قريش بمكة على ما استقر، وافترقت قبائل مضر في أدنى مدن الشام والعراق وما دونهما من الحجاز فكانوا ظعونا واحياء، وكان جميعهم بمسغبة وفي جهد من العيش بحرب بلادهم وحرب فارس والروم على تلول العراق والشام، وأربابهما ينزلون حاميتهم بثغورها، ويجهزّون كتائبهم بتخومها، ويولّون على العرب من رجالاتهم وبيوت العصائب منهم من يسومهم القهر، ويحملهم على الانقياد حتى يؤتوا جباية السلطان الأعظم وإتاوة ملك العرب، ويؤدّوا ما عليهم من الدماء(2/404)
والطوائل من يسترهن [1] أبناءهم على السلم وكف العادية، ومن انتجاع الأرباب وميرة الأقوات، والعساكر من وراء ذلك توقع بمن منع الخراج وتستأصل من يروم الفساد. وكان أمر مضر راجعا في ذلك إلى ملوك [2] كندة بني حجر آكل المرار منذ ولّاه عليهم تبّع حسّان كما ذكرناه، ولم يكن في العرب ملك إلّا في آل المنذر بالحيرة للفرس وفي آل جهينة بالشام للروم وفي بني حجر هؤلاء على مضر والحجاز. وكانت قبائل مضر مع ذلك بل وسائر العرب أهل بغي وإلحاد، وقطع للأرحام، وتنافس في الردى، وإعراض عن ذكر الله، فكانت عبادتهم الأوثان والحجارة، وأكلهم العقارب والخنافس والحيات والجعلان، وأشرف طعامهم أوبار الإبل إذا أمرّوها في الحرارة في الدم، وأعظم عزّهم وفادة على آل المنذر وآل جهينة وبني جعفر [3] ونجعة من ملوكهم، وإنما كان تنافسهم الموءودة والسائبة والوصيلة والحامي.
فلما تأذن الله بظهورهم واشرأبّت إلى الشرف هوادي أيامهم وتم أمر الله في إعلاء أمرهم [4] وهبت ريح دولتهم وملّة الله فيهم، تبدّت تباشير الصباح من أمرهم وأونس الخير والرشد في خلالهم وأبدل الله بالطيّب الخبيث من أحوالهم وشرهم، واستبدلوا بالذلّ عزّا وبالمآثم متابا وبالشرّ خيرا، ثم بالضلالة هدى وبالمسغبة شبعا وريّا وايالة وملكا. وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه فكان لهم من العز والظهور قبل المبعث ما كان، وأوقع بنو شيبان وسائر بكر [5] بن وائل وعبس بن غطفان بطيء، وهم يومئذ ولاة العرب بالحيرة وأميرها منهم قبيصة بن إياس ومعه الباهوت [6] صاحب مسلحة كسرى، فأوقعوا بهم الوقعة المشهورة بذي قار والتحمت عساكر الفرس، وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمدينة ليومها وقال: «اليوم انتصفت العرب من العجم وبي نصروا» . ووفد حاجب بن زرارة من بني تميم على كسرى في طلب الانتجاع والمسيرة بقومه في اباب [7] العراق، فطلب الأساورة منه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ويسترهنوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: (أمراء كندة) .
[3] وفي النسخة الباريسية: بني حجر.
[4] وفي النسخة الباريسية: يدهم.
[5] وفي النسخة الباريسية: مضر.
[6] وفي النسخة الباريسية: ابناهوت.
[7] وفي النسخة الباريسية: أرياف.(2/405)
الرهن على عادتهم، فأعطاهم قوسه واستكبر عن استرهان ولده، توقعوا [1] منه عجزا عما سواها وانتقلت خلال الخير من العجم ورجالات فارس فصارت أغلب في العرب حتى كان الواحد منهم همّه بخلافه [2] وشرفه الشرّ والسفسفة على أهل دول العجم. وانظر فيما كتب به عمر إلى أبي عبيدة بن المثنى حين وجهه الى حرب فارس: «انك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والحيرة [3] تقدم على أقوام قد جرءوا على الشرّ فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون» أهـ. وتنافست العرب في الخلال وتنازعوا في المجد والشرف حسبما هو مذكور في أيامهم وأخبارهم.
وكان حظ قريش من ذلك أوفر على نسبة حظهم من مبعثه [4] وعلى ما كانوا ينتحلونه من هدى آبائهم، وانظر ما وقع في حلف الفضول حيث اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزّى وبنو زهرة وبنو تميم، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكّة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلمته، وسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
وفي الصحيح عن طلحة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت» . ثم ألقى الله في قلوبهم التماس الدين وإنكار ما عليه قومهم من عبادة الأوثان، حتى لقد اجتمع منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، وعثمان بن الحويرث بن أسد، وزيد بن عمرو بن نفيل من بني عدي بن كعب عمّ عمر بن الخطاب، وعبيد الله بن جحش من بني أسد بن خزيمة، وتلاوموا في عبادة الأحجار والأوثان وتواصوا بالنفر في البلدان بالتماس الحنيفيّة دين إبراهيم نبيهم. فأما ورقة فاستحكم في النصرانية وابتغى من أهلها الكتب حتى علم من أهل الكتاب، وأمّا عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه حتى جاء الإسلام فأسلم وهاجر إلى الحبشة فتنصر وهلك نصرانيا وكان يمرّ بالمهاجرين بأرض الحبشة فيقول: فقحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر مثل ما يقال في الجر وإذا فتح عينيه فقح وإذا أراد ولم يقدر صأصأ، وأمّا عثمان بن الحويرث فقدم على ملك الروم قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فرجعوا منه عجزا عمن سواها.
[2] وفي نسخة ثانية: بخلاله.
[3] وفي النسخة الباريسية: والخيانة الحميرية.
[4] وفي النسخة الباريسية: مغبّته.(2/406)