[المجلد الأول]
بسم الله الرحمن الرحيم
المؤلف والكتاب
كلمة الناشر
العلامة ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ، ولد في تونس سنة 732 هـ- 332 م، ينحدر من أصل أندلسي إشبيلي، تلقى العلم على عدد كبير من العلماء الاندلسيين الذين هاجروا إلى تونس.
وإذا كان في شبابه اجتذبه بلاط بني مرين في فاس للخدمة فيه فقد أتيح له الاتصال هناك بالوزير لسان الدين ابن الخطيب خلال فترة نفيه مع سلطانه إلى المغرب وقد توطدت بين الرجلين صداقة متينة ظهرت بوضوح في تلك الترجمة التي أفردها له ابن الخطيب في كتابه «الاحاطة في أخبار غرناطة» بعد عودته الى وطنه قال فيه:
... مفخر من مفاخر التخوم المغربية- أي ابن خلدون- شرح البردة شرحا بديعا دل على غزارة حفظه وتفنن إدراكه ولخص كثيرا من كتب- ابن رشد وعلق للسلطان أبي سالم في العقليات تقييدا مفيدا في المنطق، ولخص محصل الامام فخر الدين الرازيّ، وألف كتابا في الحساب، وشرع في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال [1] » .
وإذا كان ابن خلدون انغمر في حياة سياسية حافلة سواء في بلاط المرينيين بفاس أو الحفصيين في تونس فإنه اعتزل السياسة وآثر الانطواء بعد مقتل صديقه ابن الخطيب في سجنه فقد ملّ السياسة وانسحب من الحياة العامة واختلى أربع سنوات 776- 780 هـ- في قلعة بني سلامه في ولاية وهران غربي الجزائر وفي تلك الخلوة كتب «مقدمة» والتي اشتهرت بمقدمة ابن خلدون والتي قال عنها هو: «سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها، على ذلك النحو الّذي اهتديت إليه في تلك الخلوة» .
وعاش ابن خلدون بعد ذلك مدة طويلة ارتحل خلالها الى الشام ومصر حيث ولي منصب قاضي القضاة المالكية، في مصر عدة مرات، وتصادف أيضا وجوده في دمشق عند ما حاصرها المغولي، تيمور لنك. وتمكن من الخروج قاصدا تيمور لنك، متوسلا إليه إنقاذ المدينة. وبعدها
__________
[1] يشير بذلك الى كتاب الحلل المرموقة في اللمع المنظومة لابن الخطيب وهو الفية في أصول الفقه.(1/3)
عاد ابن خلدون الى مصر وتوفي فيها سنة 808 هـ- ومن أشهر مؤلفاته في التاريخ: «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا» وكتاب «العبر وديوان المبتدإ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر» وهو كتابنا هذا الّذي نقدم له.
يتألف الكتاب من سبعة أجزاء وجزء ثامن للفهارس الجزء الأول منه: مقدمة ابن خلدون المشهورة والتي تضمنت نظريته في التاريخ على أنه فرع من الفلسفة وأنه لا بد من تحليل الحوادث التاريخية وذلك بدراسة طبائع البشر والعمران وأنظمة الحكم والسلطان واستقصاء عللها وأسبابها لفهم التاريخ واستخلاص منه العبر وتناول في بقية الاجزاء الستة التالية أخبار العرب وأجيالهم ودولهم ومن عاصرهم من الدول المشاهير منذ بدء الخليقة الى عصره، ثم أخبار البربر وأجيالهم وما كان بديار المغرب خاصة والمشرق عامة من الملك والدول.
والجزء الثامن فهارس عامة.
وقد تفردت هذه النسخة بتعليقات وشروحات معتمدة على المقارنة بين كل النسخ المتوافرة بالإضافة الى المراجع العديدة لضبط النص والأحداث والأسماء حيث لاحظنا تحريف في الأسماء ناجم عن الأسماء الأعجمية والبربرية وغيرها كما يعود الاضطراب الى أخطاء النساخ والناقلين وقد ضبطنا هذه الأسماء وأشرنا في الهوامش اليها كما وردت في مختلف النسخ واستعنا لذلك بتاريخ ابن الأثير «الكامل في التاريخ» وتاريخ الطبري كما استعنا بمكتبة الدكتور سهيل زكار فيما يخص تاريخ شمال افريقية.
كما لاحظنا اضطرابا في نقل النص أحيانا وأحيانا أخرى عمد المؤلف الى ترك أمكنة بيضاء ليعود الى إملائها فيما بعد ولكن الموت عاجله قبل ذلك كما أن بعض النساخ أحيانا يترك فراغا مكان الكلمة التي لا يفهمها أو غير المقروءة ولا يعود اليها وعمدنا الى ملأ الفراغ ما أمكن من النسخ الأخرى وأشرنا اليه في الهوامش.
كما وجدنا بعض الفصول قد حذف من نسخة ووجد في نسخة أخرى وبالعكس لذلك أضفنا هذا النقص الحاصل بحيث تخرج هذه الطبعة كاملة متكاملة.
وأضفنا اليها جزءا خاصا يحتوي على فهارس للأسماء والقبائل والمدن والأماكن.
هذه النسخة الجديدة نضعها بين أيدي القراء الكرام آملين أن يجدوا فيها ما يتوخون من الدقة شاكرين لكل من ساهم معنا وقدم لنا العون والله من وراء القصد.
25 جمادى الآخرة 1401 خليل شحادة- دار الفكر(1/4)
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغنيّ بلطفه عبد الرّحمن بن محمّد بن خلدون الحضرميّ وفّقه الله.
الحمد للَّه الّذي له العزّة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنّعوت، العالم فلا يغرب عنه ما تظهره النّجوى أو يخفيه السّكوت، القادر فلا يعجزه شيء في السّماوات والأرض ولا يفوت، أنشأنا من الأرض نسما [1] واستعمرنا فيها أجيالا وأمما ويسّر لنا منها أرزاقا وقسما، تكنفنا الأرحام والبيوت، ويكفلنا الرّزق والقوت، وتبلينا الأيّام والوقوت، وتعتورنا الآجال الّتي خطّ علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثّبوت، وهو الحيّ الّذي لا يموت، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد النّبي العربيّ المكتوب في التّوراة والإنجيل المنعوت، الّذي تمحّض لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الآحاد والسّبوت، ويتباين زحل واليهموت [2] ، وعلى آله وأصحابه الّذين لهم في صحبته وأتباعه الأثر
__________
[1] أي نفوسا، والله بارئ النسم أي خالق النفوس (قاموس) .
[2] قوله اليهموت هو النون أي الحوت الّذي على ظهره الأرض السابقة ويسمى أيضا لوتيا كما في المزهر وروح البيان واللهجة ومعلوم ان بينه وبين زحل الّذي مر في الفلك السابع بونا بعيدا وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي 1 هـ- في أول سورة نون اليهموت بفتح المثناة النحمية وسكون الهاء وما لشهر من أنه بالباء الموحدة غلط على ما ذكره الفاضل المحشي ومثله في روح البيان قاله نصر الهوريني أقره المصحح الثاني.(1/5)
البعيد والصّيت، والشّمل الجميع في مظاهرته ولعدوّهم الشّمل الشّتيت، صلى الله عليه وعليهم ما اتّصل بالإسلام جدّه المبخوت. وانقطع بالكفر حبله المبتوت، وسلم كثيرا.
أمّا بعد فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال [1] ، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول، تنمو [2] فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق.
وإنّ فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدّفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الرّوايات المضعفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممّن بعدهم واتّبعوها، وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتّحقيق قليل، وطرف التّنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتّقليد عريق في الآدميّين وسليل، والتّطفّل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحقّ لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النّظر شيطانه، والنّاقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصّحيح إذا تمقّل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.
__________
[1] جمع قيل، والقيل الملك وقيل: هو الرئيس دون الملك الأعلى.
[2] نما الخبر أو الحديث: ارتفع وذاع.(1/6)
هذا وقد دوّن النّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدّول في العالم وسطّروا، والّذين ذهبوا بفضل الشّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطّبريّ وابن الكلبيّ ومحمّد بن عمر الواقديّ وسيف بن عمر الأسديّ وغيرهم من المشاهير، المتميّزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعوديّ والواقديّ من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات. ومشهور بين الحفظة الثّقات، إلّا أنّ الكافّة اختصّتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التّصنيف واتّباع آثارهم، والنّاقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم. فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الرّوايات والآثار.
ثمّ إنّ أكثر التّواريخ لهؤلاء عامّة المناهج والمسالك، لعموم الدّولتين صدر الإسلام [1] في الآفاق والممالك. وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملّة من الدّول والأمم، والأمر العمم [2] . كالمسعوديّ ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التّقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشّأو البعيد، فقيّد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيّان مؤرّخ الأندلس والدّولة الأمويّة بها وابن الرّفيق مؤرّخ إفريقية والدّولة الّتي كانت بالقيروان.
ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء إلّا مقلّد، وبليد الطّبع والعقل وبليد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عمّا أحالته الأيّام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون [3] الأخبار عن الدّول،
__________
[1] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: لعموم صدر الإسلام والدولتين (أي دولة بني أمية والدولة العباسية) .
[2] امر عمم: تام، عام (لسان العرب) .
[3] بمعنى يجمعون.(1/7)
وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها [1] ، إنّما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحقّقت فصولها، يكرّرون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتّباعا لمن عني من المتقدّمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال النّاشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم [2] صحفهم عن بيانها، ثمّ إذا تعرّضوا لذكر الدّولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرّضون لبدايتها، ولا يذكرون السّبب الّذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علّة الوقوف عند غايتها، فيبقى النّاظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدّول ومراتبها، مفتّشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كلّه في مقدّمة الكتاب. ثمّ جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيّامهم بحروف الغبار [3] ، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل، وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعدّ لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرّخين والعوائد.
ولمّا طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبّهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم. وسمت التّصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السّوم [4] ، فأنشأت في التّاريخ كتابا. رفعت به عن أحوال النّاشئة من الأجيال حجابا:
وفصّلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأوّليّة الدّول والعمران عللا وأسبابا. وبنيته على أخبار الأمم الّذين عمّروا المغرب في هذه الأعصار، وملئوا
__________
[1] أي قديمها وحديثها.
[2] اسعجم الكلام: أصبح مبهما.
[3] اسم العلامات تدل على الأعداد (قاموس) .
[4] السوم: طلب الشراء (لسان العرب) .(1/8)
أكناف الضّواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدّول الطّوال أو القصار، ومن سلف لهم من الملوك والأنصار، وهما العرب والبربر، إذ هما الجيلان اللّذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما، حتّى لا يكاد يتصوّر فيه ما عداهما، ولا يعرف أهله من أجيال الآدميّين سواهما، فهذّبت مناحيه تهذيبا، وقرّبته لأفهام العلماء والخاصّة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتّمدّن وما يعرض في الاجتماع الإنسانيّ من العوارض الذّاتيّة ما يمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدّول من أبوابها، حتّى تنزع من التّقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيّام والأجيال وما بعدك ورتّبته على مقدّمة وثلاثة كتب.
المقدّمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرّخين.
الكتاب الأوّل في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذّاتيّة من الملك والسّلطان والكسب والمعاش والصّنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
الكتاب الثّاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه من الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النّبط والسّريانيّين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والرّوم والتّرك والإفرنجة الكتاب الثّالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوّليّتهم وأحيالهم وما كان بديار المغرب خاصّة من الملك والدّول ثمّ كانت الرّحلة إلى المشرق لاجتناء [1] أنواره، وقضاء الفرض والسّنّة في مطافه ومزاره: والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره: فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الدّيار، ودول التّرك فيما ملكوه من الأقطار، وأتبعت بها ما كتبته في تلك الأسطار، وأدرجتها
__________
[1] وفي بعض النسخ لاجتلاء.(1/9)
في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النّواحي، وملوك الأمصار والضّواحي، سالكا سبيل الاختصار والتّلخيص، مفتديا بالمرام السّهل من العويص، داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الإخبار على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلّل من الحكم النّافرة صعابا، وأعطى لحوادث الدّول عللا وأسبابا، فأصبح للحكمة صوانا. وللتّاريخ جرابا.
ولمّا كان مشتملا على أخبار العرب والبربر، من أهل المدن والوبر، والإلماع بمن عاصرهم من الدّول الكبر، وأفصح بالذّكرى والعبر، في مبتدإ الأحوال ومما بعدها من الخبر، سمّيته كتاب العبر، وديوان المبتدإ والخبر، في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر، ولم أترك شيئا في أوّليّة الأجيال والدّول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التّصرّف والحول، في القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملّة، ومدينة وحلّة [1] ، وعزّة وذلّة، وكثرة وقلّة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلّبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلّا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله، فجاء هذا الكتاب فذّا بما ضمّنته من العلوم الغريبة، والحكم المحجوبة القريبة، وأنا من بعدها موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء، في مثل هذا القضاء [2] ، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتّسعة الفضاء، في النّظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتّغمّد [3] لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللّوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله اسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل.
وبعد أن استوفيت علاجه، وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه،
__________
[1] الحلة، القرية مجازا، ومعناها في الأصل، القوم النازلون في مكان ما.
[2] بمعنى، هذه القضايا.
[3] تغمده: ستر ما كان منه.(1/10)
وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه، وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه، أتحفت بهذه النّسخة منه [1] خزانة مولانا السّلطان الإمام المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي منذ خلع التّمائم [2] ، ولوث [3] العمائم، بحلي القانت الزّاهد، المتوشّح بزكاء المناقب والمحامد، وكرم الشّمائل والشّواهد، بأجمل من القلائد، في نحور الولائد، المتناول بالعزم القويّ السّاعد، والجدّ المواتي المساعد، والمجد الطّارف والتّالد، ذوائب ملكهم الرّاسي القواعد، الكريم المعالي والمصاعد، جامع أشتات العلوم والفوائد، وناظم شمل المعارف والشّوارد، ومظهر الآيات الرّبّانيّة، في فضل المدارك الإنسانيّة، بفكره الثّاقب النّاقد، ورأيه الصّحيح المعاقد، النيّر المذاهب والعقائد، نور الله الواضح المراشد، ونعمته العذبة الموارد، ولطفه الكامن بالمراصد للشّدائد. ورحمته الكريمة المقالد، الّتي وسعت صلاح الزّمان الفاسد) ، واستقامة المائد من الأحوال
__________
[1] قوله أتحفت بهذه النسخة منه إلخ وجد في نسخة بخط بعض فضلاء المغاربة زيادة قبل قوله أتحفت وبعد قوله وأدرت سياجه ونصها التمست له الكف الّذي يلمح بعين الاستبصار فنونه. ويلحظ بمداركه الشريفة معياره الصحيح وقانونه. ويميز رتبته في المعارف عما دونه. فسرحت فكري في فضاء الوجود. واجلت نظري ليل التمام والهجود. بين التهائم والنجود. في العلماء الركع والسجود. والخلفاء أهل الكرم والجود. حتى وقف الاختيار بساحة الكمال. وطافت الأفكار بموقف الآمال. وظفرت أيدي المساعي والاعتمال. بمنتدى المعارف مشرقة فيه غرر الجمال. وحدائق العلوم الوارفة الظلال. عن اليمين والشمال. فأنخت مطيّ الأفكار في عرصاتها، وجلوت محاسن الأنظار على منصاتها. وأتحفت بديوانها مقاصير إيوانها. واطلعته كوكبا وقادا في أفق خزانتها وصوانها. ليكون آية للعقلاء يهتدون بمناره. ويعرفون فضل المدارك الإنسانية في أثارة. وهي خزانة مولانا السلطان الامام المجاهد. الفاتح الماهد. إلى آخر النعوت المذكورة هنا ثم قال الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين أبو العباس أحمد ابن مولانا الأمير الطاهر المقدس أبي عبد الله محمد ابن مولانا الخليفة المقدس أمير المؤمنين. أبي يحيى أبي بكر ابن الخلفاء الراشدين. من أئمة الموحدين الذين جددوا الدين. ونهجوا السبل للمهتدين. ومحوا أثر البغاة المفسدين من المجسّمة والمعتدين. سلالة أبي الحفص والفاروق. والنبعة النامية على تلك المغارس الزاكية والعروق. والنور المتلألئ من تلك الأشعة والبروق. فأوردته من مودعها إلى العلي بحيث مقر الهدى. ورياض المعارف خضلة الندي، إلى اخر ما ذكر هنا الا أنه لم يقيد الإمامة بالفارسية لكن النسخة المذكورة مختصرة عن هذه النسخة المنقولة من خزانة الكتب الفارسية ولم يقل فيها ثم كانت الرحلة إلى المشرق إلخ.
[2] التميمة: خرزة رقطاء تنظم في السير، ثم يعقد في العنق، وهي التمائم والتميم، عن ابن جني وقيل: هي قلادة يجعل فيها سبور وعوذ، وحكي عن ثعلب، تمّت المولود، علّقت عليه التمائم (لسان العرب) .
[3] لوث: عصب العمامة.(1/11)
والعوائد، وذهبت بالخطوب الأوابد، وخلعت على الزّمان رونق الشّباب العائد، وحجّته الّتي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند، (أمير المؤمنين) أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السّلطان المعظّم الشّهير الشّهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السّلطان المقدّس أمير المؤمنين، أبي الحسن ابن السّادة الأعلام من ملوك بني مرين، الّذين جدّدوا الدّين، ونهجوا السّبيل للمهتدين، ومحوا آثار البغاة المفسدين، أفاء الله على الأمّة ظلاله، (وبلّغه في نصر دعوة الإسلام آماله) .
وبعثته إلى خزانتهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويّين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسيّ سلطانهم، حيث مقرّ الهدى، ورياض المعارف خضلة النّدى. وفضاء الأسرار الرّبّانيّة فسيح المدى، والإمامة الفارسيّة الكريمة [1] العزيزة إن شاء الله بنظرها الشّريف، وفضلها الغنيّ عن التّعريف، تبسط له من العناية مهادا، وتفسح له في جانب القبول آمادا، فتوضح بها أدلّة على رسوخه وأشهادا، ففي سوقها تنفق بضائع الكتّاب وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب، ومن مدد بصائرها المنيرة نتائج القرائح والألباب، والله يوزعنا شكر نعمتها، ويوفّر لنا حظوظ المواهب من رحمتها ويعيننا على حقوق خدمتها، ويجعلنا من السّابقين في ميدانها المحلّين في حومتها، ويضفي على أهل إيالتها، وما أوي من الإسلام إلى حرم عمالتها، لبوس حمايتها وحرمتها، وهو سبحانه المسئول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها، بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
[1] قوله الفارسية أي المنسوبة إلى أبي فارس المتقدم ذكره 1 هـ-.(1/12)
المقدمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها
اعلم أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا [1] على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المزلّات والمغالط لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ولا بدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد.
__________
[1] بمعنى يطلعنا، وهي لغة ضعيفة.(1/13)
وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرّخين في جيوش بني إسرائيل بأنّ موسى عليه السّلام أحصاهم في التّيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السّلاح خاصّة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستّمائة ألف أو يزيدون ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشّام واتّساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكلّ مملكة من الممالك حصّة من الحامية تتّسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عمّا فوقها تشهد بذلك الغوائد المعروفة والأحوال المألوفة ثمّ إنّ مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفّت عن مدى البصر مرّتين أو ثلاثا أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصّفّين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بخت نصّر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملّتهم وسلطانهم وهو من بعض عمّال مملكة فارس يقال إنّه كان مرزبان المغرب من تخومها وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النّهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قطّ مثل هذا العدد ولا قريبا منه وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسيّة مائة وعشرين ألفا كلّهم متبوع على ما نقله سيف [1] قال وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف وعن عائشة والزّهريّ فإنّ جموع رستم الّذين زحف بهم سعد بالقادسيّة إنّما كانوا ستّين ألفا كلّهم متبوع وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتّسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإنّ العمالات والممالك في الدّول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلّتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأوّل والقوم لم تتّسع ممالكهم إلى غير الأردنّ وفلسطين من الشّام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف.
__________
[1] هو سيف بن عمر الأسدي، من جامعي تواريخ الأمم والدول.(1/14)
وأيضا فالّذين بين موسى وإسرائيل إنّما هو أربعة آباء على ما ذكره المحقّقون فإنّه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بفتح الهاء وكسرها ابن لاوي بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله هكذا نسبه في التّوراة والمدّة بينهما على ما نقله المسعوديّ قال دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السّلام إلى التّيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة ويبعد أن يتشعّب النّسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد وإن زعموا أنّ عدد تلك الجيوش إنّما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلّا أحد عشر أبا فإنّه سليمان بن داود بن يشّا بن عوفيذ (ويقال ابن عوفذ) ابن باعز (ويقال بوعز) بن سلمون بن نحشون بن عمّينوذب (ويقال حمّيناذاب) بن رمّ بن حصرون (ويقال حسرون) بن بارس (ويقال ببرس) بن يهوذا بن يعقوب ولا يتشعّب النّسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الّذي زعموه اللَّهمّ إلى المائتين والآلاف فربّما يكون وأمّا أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا.
والّذي ثبت في الإسرائيليّات أنّ جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصّة وأنّ مقرّباته [1] كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه هذا هو الصّحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامّة منهم وفي أيّام سليمان (عليه السّلام) وملكه كان عنفوان دولتهم واتّساع ملكهم هذا وقد نجد الكافّة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدّول الّتي لعهدهم أو قريبا منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النّصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السّلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغّلوا في العدد
__________
[1] المقرّبات، جمع مقربة: وهي من الخيل التي يقرّب معلفها ومربطها لكرامتها.(1/15)
وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإعراب فإذا استكشف أصحاب الدّواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثّروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدّونه وما ذلك إلّا لولوع النّفس بالغرائب وسهولة التّجاوز على اللسان والغفلة على المتعقّب والمنتقد حتّى لا يحاسب نفسه على خطإ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتّخذ آيات الله هزءا [1] ويشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة.
ومن الأخبار الواهية للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في أخبار التّبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنّهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية [2] والبربر من بلاد المغرب وأنّ أفريقش بن قيس بن صيفيّ من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى عليه السّلام أو قبله بقليل غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنّه الّذي سمّاهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنّه لمّا انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة [3] وكتامة ومن هذا ذهب الطّبريّ والجرجانيّ والمسعوديّ وابن الكلبيّ والبيليّ إلى أنّ صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصّحيح وذكر المسعوديّ أيضا أنّ ذا الأذعار من ملوكهم قبل أفريقش وكان على عهد سليمان (عليه السّلام) غزا المغرب ودوّخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنّه بلغ وادي الرّمل في بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرّمل فرجع وكذلك يقولون في تبّع الآخر وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد يستأسف من ملوك الفرس الكيانيّة أنّه ملك الموصل وأذربيجان
__________
[1] وفي بعض النسخ هزوا.
[2] كذا المشهور بدون تشديد الباء، وقد تشدّد الياء: (إفريقية) في معجم البلدان لياقوت الحموي.
[3] صنهاجة بفتح الصاد كما هي معروفة في المغرب، وبكسر الصاد كما وردت في ألف.(1/16)
ولقي التّرك فهزمهم وأثخن ثمّ غزاهم ثانية وثالثة كذلك وأنّه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصّغد من بلاد أمم التّرك وراء النّهر وإلى بلاد الرّوم فملك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى الصين فوجد أخاه الثّاني الّذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها فأثخنا في بلاد الصّين ورجعا جميعا بالغنائم وتركوا ببلاد الصّين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد وبلغ الثّالث إلى قسطنطنيّة فدرسها [1] ودوّخ بلاد الرّوم ورجع.
وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصّحّة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة. وذلك أنّ ملك التّبابعة إنّما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيّهم بصنعاء اليمن. وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق وبحر السّويس الهابط منه إلى السّويس من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصوّر الجغرافيا فلا يجد السّالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السّويس والمسلك هناك ما بين بحر السّويس والبحر الشّاميّ قدر مرحلتين فما دونهما ويبعد أن يمرّ بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن يصير من أعماله هذه ممتنع في العادة. وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشّام والقبط بمصر ثمّ ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشّام ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال وأيضا فالشّقّة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزّرع والنّعم وانتهاب البلاد فيما يمرّون عليه ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرّواحل بنقله فلا بدّ وأن يمرّوا في طريقهم كلّها بأعمال قد ملكوها ودوّخوها لتكون الميرة منها وإن قلنا إنّ تلك العساكر تمرّ بهؤلاء الأمم من غير أن
__________
[1] درس الأثر: بمعنى محاه (لسان العرب) .(1/17)
تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة فذلك أبعد وأشدّ امتناعا فدلّ على أنّ هذه الأخبار واهية أو موضوعة. وأمّا وادي الرّمل الّذي يعجز السّالك فلم يسمع قطّ ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقصّ طرقه من الرّكّاب والقرى [1] في كلّ عصر وكلّ جهة وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوفّر الدّواعي على نقله. وأمّا غزوهم بلاد الشّرق وأرض التّرك وإن كان طريقه أوسع من مسالك السّويس إلّا أنّ الشّقّة هنا أبعد وأمم فارس والرّوم معترضون فيها دون التّرك ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الرّوم وإنّما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال وقد وقع ذلك بين ذي الأذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانيّة وبين تبّع الأصغر أبي كرب ويستأسف منهم أيضا ومع ملوك الطّوائف بعد الكيانيّة والسّاسانيّة من بعدهم بمجاوزة [2] أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتّبت وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة منهم والحاجة إلى الأزودة والعلوفات مع بعد الشّقّة كما مرّ فالأخبار بذلك واهية مدخولة وهي لو كانت صحيحة النّقل لكان ذلك قادحا فيها فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح وقول ابن إسحاق في خبر يثرب والأوس والخزرج أنّ تبّعا الآخر سار إلى المشرق محمولا على العراق وبلاد فارس وأمّا بلاد التّرك والتّبت فلا يصحّ غزوهم إليها بوجه لما تقرّر فلا تثقنّ بما يلقى إليك من ذلك وتأمّل الأخبار واعرضها على القوانين الصّحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه والله الهادي إلى الصّواب.
فصل
وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسّرون في تفسير سورة «والفجر»
__________
[1] بمعنى: الأشخاص الذين يطوفون في البلاد (قاموس) .
[2] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: وأمّا مجاوزة أرض فارس.(1/18)
في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 89: 6- 7 فيجعلون لفظة إرم اسما لمدينة وصفت بأنّها ذات عماد أي أساطين وينقلون أنّه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشدّاد ملكا من بعده وهلك شديد فخلص الملك لشدّاد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنّة فقال لأبنينّ مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدّة ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وأنّها مدينة عظيمة قصورها من الذّهب وأساطينها من الزّبرجد والياقوت وفيها أصناف الشّجر والأنهار المطّردة [1] ولمّا تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتّى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السّماء فهلكوا كلّهم. ذكر ذلك الطّبريّ والثّعالبيّ والزّمخشريّ وغيرهم من المفسّرين وينقلون عن عبد الله بن قلّابة [2] من الصّحابة أنّه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه وبلغ خبره معاوية فأحضره وقصّ عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثمّ التفت فأبصر ابن قلّابة فقال هذا والله ذلك الرّجل.
وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض وصحارى عدن الّتي زعموا أنّها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا والأدلّاء تقصّ طرقه من كلّ وجه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريّين ولا من الأمم ولو قالوا إنّها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلّا أنّ ظاهر كلامهم أنّها موجودة وبعضهم يقول إنّها دمشق بناء على أنّ قوم عاد ملكوها وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنّها غائبة وإنّما يعثر عليها أهل الرّياضة والسّحر مزاعم كلّها أشبه بالخرافات والّذي حمل المفسّرين
__________
[1] الجارية.
[2] هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي وكنيته: أبو قلابة وهو من التابعين (معجم الأدباء) .(1/19)
على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنّها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء ورشّح لهم ذلك قراءة ابن الزّبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثمّ وقفوا على تلك الحكايات الّتي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة الّتي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات وإلّا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنّهم أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوّتهم لأنّه بناء خاصّ في مدينة معيّنة أو غيرها وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزّبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار وأيّ ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الّذي تمحّلت [1] لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية الّتي ينزّه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصّحّة.
ومن الحكايات المدخولة للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في سبب نكبة الرّشيد للبرامكة من قصّة العبّاسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنّه لكلفه بمكانهما من معاقرته إيّاهما الخمر أذن لهما في عقد النّكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه وأنّ العبّاسة تحيّلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبّه حتّى واقعها (زعموا في حالة السكر) فحملت ووشي بذلك للرّشيد فاستغضب وهيهات ذلك من منصب العبّاسة في دينها وأبويها وجلالها وأنّها بنت عبد الله بن عبّاس ليس بينها وبينه إلّا أربعة رجال هم أشراف الدّين وعظماء الملّة من بعده. والعبّاسة بنت محمّد المهديّ ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمّد السّجّاد ابن عليّ أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العبّاس عمّ النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النّبويّة وصحبة الرّسول وعمومته وإقامة الملّة ونور الوحي ومهبط
__________
[1] تمحل للشيء بمعنى، احتال في طلبه. وفي العبارة اضطراب، والتصويب «الّذي تمحل لتوجيهه بأمثال هذه الحكايات» .(1/20)
الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبيّة وسذاجة [1] الدّين البعيدة عن عوائد التّرف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصّون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطّهارة والذّكاء [2] إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنّس شرفها العربيّ بمولى من موالي العجم بملكة جدّه من الفرس أو بولاء جدّها من عمومة الرّسول وأشراف قريش وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقّتهم إلى منازل الأشراف وكيف يسوغ من الرّشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همّته وعظم آبائه ولو نظر المتأمّل في ذلك نظر المنصف وقاس العبّاسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولجّ في تكذيبه وأين قدر العبّاسة والرّشيد من الناس.
وإنّما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدّولة واحتجافهم [3] أموال الجباية حتّى كان الرّشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن له معهم تصرّف في أمور ملكه فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمّروا مراتب الدّولة وخططها [4] بالرّؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عمّن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. يقال إنّه كان بدار الرّشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدّولة بالمناكب ودفعوهم عنها بالرّاح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون وليّ عهد وخليفة حتّى شبّ في حجره ودرج
__________
[1] بمعنى الوضع الصحيح الطبيعي الّذي لم تشبه شائبة (قاموس) .
[2] في جميع النسخ المطبوعة الذكاء بالذال، وفي النسخة الباريسية المخطوطة، الزكاء بالزين وهو الأصح بمعنى الصلاح.
[3] احتجف الشيء: استخلصه وحازه. والأصح استعمال كلمة احتجانهم، واحتجن الشيء أي جذبه، ولكن ابن خلدون يتعمد استعمال الكلمات الفريدة.
[4] جمع خطة بضم الخاء وهي بمعنى الأمر، واما بالكسر كما أوردها محقق لجنة البيان العربيّ بمعنى «المكان المختط لعمارة: فليس لها معنى في هذا المقام.(1/21)
من عشّه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت فتوجّه الإيثار من السّلطان إليهم وعظمت الدّالّة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرّقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطّت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وتسرّبت إلى خزائنهم في سبيل التّزلّف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشّيعة وعظماء القرابة العطاء وطوّقوهم المنن وكسبوا [1] من بيوتات الأشراف المعدم وفكّوا العاني [2] ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنّوا لعفاتهم [3] الجوائز والصّلات واستولوا على القرى والضّياع من الضّواحي والأمصار في سائر الممالك حتّى أسفّوا البطانة وأحقدوا الخاصّة وأغصّوا [4] أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبّت إلى مهادهم الوثير من الدّولة عقارب السّعاية حتّى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم السّاعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرّحم ولاوزعتهم أواصر القرابة وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكان الحقود الّتي بعثتها منهم صغائر الدّالّة. وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصّتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أخي محمّد المهديّ الملقّب بالنّفس الزّكيّة الخارج على المنصور ويحيى هذا هو الّذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الدّيلم على أمان الرّشيد بخطّه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطّبريّ ودفعه الرّشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره فحبسه مدّة ثمّ حملته الدّالّة على تخلية سبيله والاستبداد بحلّ عقاله حرما [5] لدماء أهل البيت بزعمه ودالّة على السّلطان في حكمه. وسأله الرّشيد عنه لمّا وشي به إليه ففطن وقال أطلقته فأبدى له وجه
__________
[1] يتعدى فعل كسب بنفسه إلى مفعول ثان، وهو هنا بمعنى: كسب فلانا مالا أي اناله (قاموس) .
[2] العاني: الأسير.
[3] اسنوا الجوائز: أي اجزلوها، والعفاة جمع عاف، وهو طالب المعروف.
[4] ثقال كلمة غص للطعام، واستعملها هنا ابن خلدون للغيظ على التشبيه.
[5] أي لحرمة دماء أهل البيت.(1/22)
الاستحسان وأسرّها في نفسه فأوجد السّبيل بذلك على نفسه وقومه حتّى ثلّ عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم وبدارهم وذهبت سلفا ومثلا للآخرين أيّامهم ومن تأمّل أخبارهم واستقصى سير الدّولة وسيرهم وجد ذلك محقّق الأثر ممهّد الأسباب وانظر ما نقله ابن عبد ربّه في مفاوضة الرّشيد عمّ جدّه داود بن علي في شأن نكبتهم وما ذكره في باب الشّعراء في كتاب العقد في محاورة الأصمعيّ للرّشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم تتفهّم أنّه إنّما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه وكذلك ما تحيّل به أعداؤهم من البطانة فيما دسّوه للمغنّين من الشّعر احتيالا على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا ممّا نجد
واستبدّت مرّة واحدة ... إنّما العاجز من لا يستبد
وإنّ الرّشيد لمّا سمعها قال: «إي والله إنّي عاجز» حتّى بعثوا بأمثال هذه كامن غيرته وسلّطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ باللَّه من غلبة الرّجال وسوء الحال.
وأمّا ما تموّه له الحكاية من معاقرة الرّشيد الخمر واقتران سكره بسكر النّدمان فحاشا الله ما علمنا عليه من سوء، وأين هذا من حال الرّشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدّين والعدالة وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السّماك والعمريّ ومكاتبته سفيان الثّوريّ وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكّة في طوافه وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصّلوات وشهود الصّبح لأوّل وقتها. حكى الطّبريّ وغيره أنّه كان يصلّي في كلّ يوم مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاما ويحجّ عاما ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرّض له بمثل ذلك في الصّلاة لمّا سمعه يقرأ «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 36: 22» وقال والله ما أدري لم؟ فما تمالك الرّشيد أن ضحك ثمّ التفت إليه مغضبا وقال يا ابن أبي مريم في الصّلاة أيضا إيّاك إيّاك(1/23)
والقرآن والدّين ولك ما شئت بعدهما وأيضا فقد كان من العلم والسّذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك ولم يكن بينه وبين جدّه أبي جعفر بعيد زمن إنّما خلّفه غلاما وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدّين قبل الخلافة وبعدها وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطّإ يا أبا عبد الله إنّه لم يبق على وجه الأرض أعلم منّي ومنك وإنّي قد شغلتني الخلافة فضع أنت للنّاس كتابا ينتفعون به تجنّب فيه رخص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر ووطّئه للنّاس توطئة قال مالك فو الله لقد علّمني التّصنيف يومئذ ولقد أدركه ابنه المهديّ أبو الرّشيد هذا وهو يتورّع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخيّاطين في إرقاع [1] الخلقان من ثياب عياله فاستنكف المهديّ من ذلك وقال يا أمير المؤمنين عليّ كسوة هذه العيال عامنا هذا من عطائي فقال له لك ذلك ولم يصدّه عنه ولا سمح بالإنفاق فيه من أموال المسلمين فكيف يليق بالرّشيد على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوّته وما ربّي عليه من أمثال هذه السّير في أهل بيته والتّخلّق بها أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهليّة في اجتناب الخمر معلومة ولم يكن الكرم شجرتهم وكان شربها مذمّة عند الكثير منهم والرّشيد وآباؤه كانوا على ثبج [2] من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم والتّخلّق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب. وانظر ما نقله الطّبريّ والمسعوديّ في قصّة جبريل بن بختيشوع الطّبيب حين أحضر له السّمك في مائدته فحماه عنه ثمّ أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرّشيد وارتاب به ودسّ خادمه حتّى عاينه يتناوله فأعدّ ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السّمك في ثلاثة أقداح خلط إحداها باللّحم المعالج بالتّوابل والبقول والبوارد والحلوى وصبّ على الثّانية ماء
__________
[1] الأصح أن يقول في رقع الخلقان أو في ترقيعها. والخلقان الثياب البالية (قاموس) .
[2] الثبج من كل شيء: معظمه، أعلاه ووسطه ومنه حديث عبادة: يوشك أن يرى الرجل من ثبج المسلمين أي من وسطهم، وقيل: من سراتهم وعليتهم (قاموس)(1/24)
مثلّجا وعلى الثّالثة خمرا صرفا وقال في الأوّل والثّاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السّمك بغيره أو لم يخلطه وقال في الثّالث هذا طعام ابن بختيشوع ودفعها إلى صاحب المائدة حتّى إذا انتبه الرّشيد وأحضره للتّوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتّت ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما فكانت له في ذلك معذرة وتبين من ذلك أنّ حال الرّشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنّه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتّى تاب وأقلع وإنّما كان الرّشيد يشرب نبيذ التّمر على مذهب أهل العراق [1] وفتاويهم فيها معروفة وأمّا الخمر الصّرف فلا سبيل إلى اتّهامه بها ولا تقليد الأخبار الواهية فيها فلم يكن الرّجل بحيث يواقع محرّما من أكبر الكبائر عند أهل الملّة ولقد كان أولئك القوم كلّهم بمنحاة من ارتكاب السّرف والتّرف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدّين الّتي لم يفارقوها بعد فما ظنّك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلّة إلى الحرمة ولقد اتّفق المؤرّخون الطّبريّ والمسعوديّ وغيرهم على أنّ جميع من سلف من خلفاء بني أميّة وبني العبّاس إنّما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة في المناطق والسّيوف واللّجم والسّروج وأنّ أوّل خليفة أحدث الرّكوب بحلية الذّهب هو المعتزّ بن المتوكّل ثامن الخلفاء بعد الرّشيد وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم فما ظنّك بمشاربهم؟ ويتبيّن ذلك بأتمّ من هذا إذا فهمت طبيعة الدّولة في أوّلها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأوّل إن شاء الله والله الهادي إلى الصّواب. ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافّة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنّه كان يعاقر الخمر وأنّه سكر ليلة مع شربه [2] فدفن في الرّيحان حتّى أفاق وينشدون على لسانه:
يا سيّدي وأمير النّاس كلّهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
__________
[1] يقصد به مذهب أبي حنيفة.
[2] الشرب: الذين يشربون معا، جمع شارب (قاموس) .(1/25)
إنّي غفلت عن السّاقي فصيّرني ... كما تراني سليب العقل والدّين
وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرّشيد وشرابهم إنّما كان النّبيذ ولم يكن محظورا عندهم وأمّا السّكر فليس من شأنهم وصحابته للمأمون إنّما كانت خلّة في الدّين ولقد ثبت أنّه كان ينام معه في البيت ونقل في فضائل المأمون وحسن عشرته أنّه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسّس ويلتمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم وثبت أنّهما كانا يصلّيان الصّبح جميعا فأين هذا من المعاقرة وأيضا فإنّ يحيى بن أكثم كان من علية أهل الحديث وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وخرّج عنه التّرمذيّ كتابه الجامع [1] وذكر المزنيّ الحافظ أنّ البخاريّ روى عنه في غير الجامع فالقدح فيه قدح في جميعهم وكذلك ما ينبزه [2] المجّان بالميل إلى الغلمان بهتانا على الله وفرية على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصّاص الواهية الّتي لعلّها من افتراء أعدائه فإنّه كان محسودا في كماله وخلّته للسّلطان وكان مقامه من العلم والدّين منزّها عن مثل ذلك وقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به النّاس فقال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكارا شديدا وأثنى عليه إسماعيل القاضي فقيل له ما كان يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذيب باغ وحاسد وقال أيضا يحيى بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء ممّا كان يرمى به من أمر الغلمان ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنّه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرمى بما رمى به ابن حيّان في الثّقات وقال لا يشتغل بما يحكى عنه لأنّ أكثرها لا يصحّ عنه ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربّه صاحب العقد من حديث الزّنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران وأنّه عثر في بعض اللّيالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل [3] مدلّى من بعض السّطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل
__________
[1] كذا بالأصل في جميع النسخ، والتصويب: وخرّج عنه الترمذي في كتابه الجامع.
[2] الأصح، ما ينبزه به المجان. وفي بعض النسخ (ما يثبجه المجان) .
[3] كذا بالأصل في جميع النسخ ولعلها عثر على زنبيل، أو بمعنى زلّ: أي لم ينتبه للزنبيل فوقع فيه.(1/26)
من الحرير فاعتقده وتناول المعالق فاهتزّت وذهب به صعدا إلى مجلس شأنه كذا ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته وجمال رؤيته ما يستوقف الطّرف ويملك النّفس وأنّ امرأة برزت له من خلل السّتور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتّانة المحاسن فحيّته ودعته إلى المنادمة فلم يزل يعاقرها الخمر حتّى الصّباح ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد شغفته حبّا بعثه على الإصهار إلى أبيها وأين هذا كلّه من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الرّاشدين من آبائه وأخذه بسير الخلفاء الأربعة أركان الملّة ومناظرته العلماء وحفظه لحدود الله تعالى في صلواته وأحكامه فكيف تصحّ عنه أحوال الفسّاق المستهترين [1] في التّطواف باللّيل وطروق المنازل وغشيان السّمر سبيل عشّاق الأعراب وأين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصّون والعفاف وأمثال هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤرّخين معروفة وإنّما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللّذّات المحرّمة وهتك قناع المخدّرات ويتعلّلون بالتّأسّي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذّاتهم فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقّرون عنها عند تصفّحهم لأوراق الدّواوين ولو ائتسوا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللّائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون. ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلّم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك فقال لي أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهديّ كيف كان إمام هذه الصّناعة ورئيس المغنّين في زمانه؟ فقلت له يا سبحان الله وهلّا تأسّيت بأبيه أو أخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصمّ عن عذلي وأعرض وَالله يَهْدِي من يَشاءُ 2: 213.
ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرّخين والأثبات في العبيديين خلفاء الشّيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله
__________
[1] المستهتر: لشيء بالفتح المولع به لا يبالي بما فعل فيه وشتم له والّذي كثرت أباطيله هـ- قاموس.(1/27)
عليهم والطّعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصّادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفّقت للمستضعفين من خلفاء بني العبّاس تزلّفا إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفنّنا في الشّمات بعدوّهم حسبما تذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التّفطّن لشواهد الواقعات وأدلّة الأحوال الّتي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرّدّ عليهم.
فإنّهم متّفقون في حديثهم عن مبدإ دولة الشّيعة أنّ أبا عبد الله المحتسب لمّا دعي بكتامة للرّضى من آل محمّد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهديّ وابنه أبي القاسم خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محلّ الخلافة واجتازا بمصر وأنّهما خرجا من الاسكندريّة في زيّ التّجّار ونمي خبرهما إلى عيسى النّوشريّ عامل مصر والاسكندريّة فسرّح في طلبهما الخيّالة حتّى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبّسوا به من الشّارة والزّيّ فأفلتوا إلى المغرب. وأنّ المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقيا بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر أليشع صاحب سجلماسة من آل مدرار على خفيّ مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة.
هذا قبل أن تظهر الشّيعة على الأغالبة بالقيروان ثمّ كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب وإفريقية ثمّ باليمن ثمّ بالإسكندريّة ثمّ بمصر والشّام والحجاز وقاسموا بني العبّاس في ممالك الإسلام شقّ الأبلمة [1] وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون من أمرهم ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيريّ من موالي الدّيلم المتغلبين على خلفاء بني العبّاس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم وخطب لهم على منابرها حولا كاملا وما زال بنو العبّاس يغصّون بمكانهم ودولتهم وملوك بني أميّة وراء البحر ينادون بالويل والحرب
__________
[1] يقال: الأمر بيننا شق الأبلمة. والأبلمة هي الخوصة أي ورقة الدوم وهي شجرة تشبه النخلة.
وذلك لأنها تؤخذ فتشق طولا على السواء. والمعنى أنهم قاسموا بني العباس أعمالهم. وفي نسخة لجنة البيان العربيّ «شق الأبلة» وهو تحريف.(1/28)
منهم وكيف يقع هذا كلّه لدعيّ في النّسب يكذب في انتحال الأمر واعتبر حال القرمطيّ إذ كان دعيّا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرّقت أتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم ولو كان أمر العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم
فقد اتّصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم عليه السّلام ومصلّاه وموطن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثمّ انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كلّه على أتمّ ما كانوا عليه من الطّاعة لهم والحبّ فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصّادق ولقد خرجوا مرارا بعد ذهاب الدّولة ودروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة ويذهبون إلى تعيينهم بالوصيّة ممّن سلف قبلهم من الأئمّة ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبّس في أمره ولا يشبّه في بدعته ولا يكذّب نفسه فيما ينتحله.
والعجب من القاضي أبي بكر الباقلانيّ شيخ النّظّار من المتكلّمين كيف يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرّاي الضّعيف فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدّين والتّعمّق في الرّافضيّة فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم وليس إثبات منتسبهم بالّذي يغني عنهم من الله شيئا في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السّلام في شأن ابنه «إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ 11: 46. [1] » وقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة يعظها يا فاطمة اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا ومتى عرف امرؤ قضيّة أو استيقن أمرا وجب عليه أن يصدع به والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل والقوم كانوا في مجال لظنون الدّول بهم وتحت رقبة من الطّغاة لتوفّر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرّر
__________
[1] سورة هود آية 46.(1/29)
خروجهم مرّة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون كما قيل:
فلو تسأل الأيّام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكانيا
حتّى لقد سمّي محمّد بن إسماعيل الإمام جدّ عبيد الله المهديّ بالمكتوم سمّته بذلك شيعتهم لما اتّفقوا عليه من إخفائه حذرا من المتغلّبين عليهم فتوصّل شيعة بني العبّاس بذلك عند ظهورهم إلى الطّعن في نسبهم وازدلفوا بهذا الرّأي القائل [1] للمستضعفين من خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولّون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشّام ومصر والحجاز من البربر الكتّامين شيعة العبيديّين وأهل دعوتهم حتّى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النّسب وشهد بذلك عندهم من أعلام النّاس جماعة منهم الشّريف الرّضيّ وأخوه المرتضى وابن البطحاويّ ومن العلماء أبو حامد الأسفرايينيّ والقدّوريّ والصّيمريّ وابن الأكفانيّ والأبيورديّ وأبو عبد الله بن النّعمان فقيه الشّيعة وغيرهم من أعلام الأمّة ببغداد في يوم مشهود وذلك سنة ستّين وأربعمائة في أيّام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على السّماع لما اشتهر وعرف بين النّاس ببغداد وغالبها شيعة بني العبّاس الطّاعنون في هذا النّسب فنقله الأخباريّون كما سمعوه ورووه حسبما وعوه والحقّ من ورائه.
وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحّة نسبهم فالمعتضد أقعد [2] بنسب أهل البيت من كلّ أحد والدّولة والسّلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصّنائع وتلتمس فيه ضوالّ الحكم وتحدى إليه ركائب الرّوايات والأخبار وما
__________
[1] أي الضعيف أو الخاطئ.
[2] اقعد، بمعنى أكفأ.(1/30)
نفق فيها نفق عند الكافّة فإن تنزّهت الدّولة عن التّعسّف والميل والأفن [1] والسّفسفة وسلكت النّهج الأمم ولم تجر [2] عن قصد السّبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللّجين [3] المصفّى وإن ذهبت مع الأعراض والحقود وماجت بسماسرة العرب البغي والباطل نفق البهرج والزّائف والنّاقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه.
ومثل هذا وأبعد منه كثيرا ما يتناجى به الطّاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (رضوان الله عليهم) الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرّضون تعريض الحدّ بالتّظنّن في الحمل المخلّف عن إدريس الأكبر إنّه لراشد مولاهم قبّحهم الله وأبعدهم ما أجهلهم أما يعلمون أنّ إدريس الأكبر إنّه لراشد مولاهم قبّحهم الله وأبعدهم ما أجلهم أما يعلمون أنّ إدريس الأكبر كان إصهاره في البربر وأنّه منذ دخل المغرب إلى أن توفّاه الله عزّ وجلّ عريق في البدو وأنّ حال البادية في مثل ذلك غير خافية إذ لا مكامن لهم يتأتّى فيها الرّيب وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من جاراتهنّ ومسمع من جيرانهنّ لتلاصق الجدران وتطامن [4] البنيان وعدم الفواصل بين المساكن وقد كان راشد يتولّى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاه بمشهد من أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافّتهم وقد اتّفق برابرة المغرب الأقصى عامّة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه وآتوه طاعتهم عن رضى وإصفاق [5] وبايعوه على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته ولو حدّثوا أنفسهم بمثل هذه الرّيبة أو قرعت أسماعهم ولو من عدوّ كاشح أو منافق مرتاب لتخلّف
__________
[1] الأفن: ضعف الرأي.
[2] قوله ولم تجر بضم الجيم: أي لم تمل.
[3] اللجين: الفضة.
[4] اطمأنت وتطامنت: انخفضت (لسان العرب) .
[5] واصفقت يده بكذا أي صادفته ووافقته، وقد استعملها ابن خلدون بمعنى الموافقة وهو ضعيف.
والأصح عن رضا وصفق من صفق: أي ضرب يده على يده (لسان العرب) .(1/31)
عن ذلك ولو بعضهم كلّا والله إنّما صدرت هذه الكلمات من بني العبّاس أقتالهم [1] ومن بني الأغلب عمّالهم كانوا بإفريقيّة وولاتهم.
وذلك أنّه لمّا فرّ إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبة أن يقعدوا له بالمراصد ويذكوا عليه العيون فلم يظفروا به وخلص إلى المغرب فتمّ امره وظهرت دعوته وظهر الرّشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على الاسكندريّة من دسيسة التّشيّع للعلويّة وإدهانه [2] في نجاة إدريس إلى المغرب فقتله ودسّ الشّمّاخ من موالي المهديّ أبيه للتّحيّل على قتل إدريس فأظهر اللّحاق به والبراءة من بني العبّاس مواليه فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله الشّمّاخ في بعض خلواته سمّا استهلكه به [3] ووقع خبر مهلكه من بني العبّاس أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدّعوة العلويّة بالمغرب واقتلاع جرثومتها ولمّا تأدّى إليهم خبر الحمل المخلّف لإدريس فلم يكن لهم إلّا كلا ولا [4] وإذا بالدّعوة قد عادت والشّيعة بالمغرب قد ظهرت ودولتهم بإدريس بن إدريس قد تجدّدت فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السّهام وكان الفشل والهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية فلم يكن منتهى قدرة الرّشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب واشتمال البربر عليه إلّا التّحيّل في إهلاكه بالسّموم فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سدّ تلك الفرجة من ناحيتهم وحسم الدّاء المتوقّع بالدّولة من قبلهم واقتلاع تلك العروق قبل أن تشج [5] منهم يخاطبهم بذلك المأمون ومن بعده من خلفائهم فكان الاغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز ولمثلها من الزّبون [6]
__________
[1] جمع قتل وهو العدو المقابل.
[2] بمعنى الغش.
[3] بمعنى أهلكه.
[4] كذا في جميع النسخ، وأظن أنها محرفة عن كلالة أي الوارث الّذي ليس بولد للميت ولا والد له.
[5] بمعنى تمتد وترسخ.
[6] يقال للناقة إذا كان من عادتها أن تدفع حالبها عن حلبها: «زبون» (لسان العرب) وقد استعملت هنا بمعنى الأشخاص الذين يدافعون عن الملوك. وان كان هذا الاستعمال ضعيفا. وقد تكررت هذه العبارة بنصها عدة مرات في تاريخ ابن خلدون، لذلك لا يمكننا أن نقول أن ابن خلدون قصد بها كلمة سواها.(1/32)
على ملوكهم أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء [1] ممالك العجم على سدّتها وامتطائهم صهوة التّغلّب عليها وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها [2] وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم:
خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السّعايات وتلوا بالمعاذير فطورا باحتقار المغرب وأهله وطورا بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التّخوم من عمله وينفذون سكّته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم تعريضا باستفحاله وتهويلا باشتداد شوكته وتعظيما لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه وتهديدا بقلب الدّعوة إن ألجئوا إليه وطورا يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطّعن الكاذب تخفيضا لشأنه لا يبالون بصدقة من كذبه لبعد المسافة وأفن عقول من خلّف من صبية بني العبّاس وممالكهم العجم في القبول من كلّ قائل والسّمع لكلّ ناعق ولم يزل هذا دأبهم حتّى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه الكلمة الشّنعاء أسماع الغوغاء وصرّ عليها بعض الطّاعنين أذنه واعتدّها ذريعة إلى النّيل من خلفهم عند المنافسة. وما لهم قبّحهم الله والعدول عن مقاصد الشّريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون وإدريس ولد على فراش أبيه والولد للفراش.
على أنّ تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان فاللَّه سبحانه قد أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ففراش إدريس طاهر من الدّنس ومنزه عن الرّجس بحكم القرآن ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه وإنّما أطنبت في هذا الرّد سدّا لأبواب الرّيب ودفعا في صدر الحاسد لما
__________
[1] بمعنى الثوب.
[2] الخطة: الأرض. والدار يختطها الرجل في أرض غير مملوكة ليتحجرها ويبني فيها وذلك إذا أذن السلطان (لسان العرب) وعنى بها ابن خلدون هنا: بالموظفين المشرفين على أعمال الخطط.(1/33)
سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم بفريته وينقله بزعمه عن بعض مؤرّخي المغرب ممّن انحرف عن أهل البيت وارتاب في الإيمان بسلفهم وإلّا فالمحلّ منزّه عن ذلك معصوم منه ونفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكنّي جادلت عنهم في الحياة الدّنيا وأرجو أن يجادلوا عنّي يوم القيامة ولتعلم أنّ أكثر الطّاعنين في نسبهم إنّما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإنّ ادّعاء هذا النّسب الكريم دعوى شرف عريضة على الأمم والأجيال من أهل الافاق فتعرض التّهمة فيه.
ولمّا كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فارس وسائر ديار المغرب قد بلغ من الشّهرة والوضوح مبلغا لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمّة والجيل من الخلف عن الأمّة والجيل من السّلف وبيت جدّهم إدريس مختطّ فاس ومؤسّسها من بيوتهم ومسجده لصق محلّتهم ودروبهم وسيفه منتضى برأس المئذنة العظمى من قرار بلدهم وغير ذلك من آثاره الّتي جاوزت أخبارها حدود التّواتر مرّات وكادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النّسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها وما عضد شرفهم النّبويّ من جلال الملك الّذي كان لسلفهم بالمغرب واستيقن أنّه بمعزل عن ذلك وأنّه لا يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه [1] وأنّ غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممّن لم يحصل له أمثال هذه الشّواهد أن يسلّم لهم حالهم لأنّ النّاس مصدّقون في أنسابهم وبون ما بين العلم والظّنّ واليقين والتّسليم فإذا علم بذلك من نفسه غصّ بريقه وودّ كثير منهم لو يردّونهم عن شرفهم ذلك سوقة ووضعاء [2] حسدا من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب اللّجاج والبهت بمثل هذا الطّعن الفائل والقول المكذوب تعلّلا بالمساواة في الظنّة والمشابهة في تطرّق الاحتمال وهيهات لهم ذلك فليس في
__________
[1] قوله: «لا يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» مثل يكنى به عن ضعة مكانة شخص بالنسبة لشخص آخر.
[2] قوله: ووضعاء بضم الواو جمع وضيع.(1/34)
المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن.
وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الحوطيّ بن محمّد بن يحيى العوّام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم نقباء أهل البيت هناك والسّاكنون ببيت جدّهم إدريس ولهم السّيادة على أهل المغرب كافّة حسبما نذكرهم عند ذكر الادارسة إن شاء الله تعالى ويلحق بهذه المقالات الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرّأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهديّ صاحب دولة الموحّدين ونسبته إلى الشّعوذة والتّلبيس فيما أتاه من القيام بالتّوحيد الحقّ والنّعي على أهل البغي قبله وتكذيبهم لجميع مدّعياته في ذلك حتّى فيما يزعم الموحّدون اتّباعه من انتسابه في أهل البيت وإنّما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه فإنّهم لمّا رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدّين بزعمهم ثمّ امتاز عنهم بأنّه متبوع الرّأي مسموع القول موطأ العقب نفسوا ذلك عليه [1] وغضّوا منه بالقدح في مذاهبه والتّكذيب لمدّعياته وأيضا فكانوا يؤنسون [2] من ملوك لمتونة أعدائه تجلّة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السّذاجة وانتحال الدّيانة فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب للشّورى كلّ في بلده وعلى قدره في قومه فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحربا لعدوّهم ونقموا على المهديّ ما جاء به من خلافهم والتّثريب [3] عليهم والمناصبة [4] لهم تشيّعا للمتونة وتعصّبا لدولتهم ومكان الرّجل غير مكانهم وحاله على غير معتقداتهم وما ظنّك برجل نقم على أهل الدّولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه ودعا إلى
__________
[1] أي حسدوه.
[2] بمعنى يعلمون.
[3] التثريب كالتأنيث والتعيير والاستقصاء في اللوم (قاموس) .
[4] ناصبة مناصبة: عاداه وقاومه.(1/35)
جهادهم بنفسه فاقتلع الدّولة من أصولها وجعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوّة وأشدّ شوكة وأعزّ أنصارا وحامية وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلّا خالقها وقد بايعوه على الموت ووقوه بأنفسهم من الهلكة وتقرّبوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدّعوة والتّعصّب لتلك الكلمة حتّى علت على الكلم ودالت بالعدوّتين من الدّول وهو بحالة من التّقشّف والحصر [1] والصّبر على المكاره والتّقلّل من الدّنيا حتّى قبضه الله وليس على شيء من الحظّ والمتاع في دنياه حتّى الولد الّذي ربّما تجنح إليه النّفوس وتخادع عن تمنّيه فليت شعري ما الّذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله وهو لم يحصل له حظّ من الدّنيا في عاجله ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تمّ أمره وانفسحت دعوته سنّة الله الّتي قد خلت في عباده وأمّا إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده [2] حجّة لهم مع أنّه إن ثبت أنّه ادّعاه وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأنّ النّاس مصدّقون في أنسابهم وإن قالوا إنّ الرّئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصّحيح حسبما يأتي في الفصل الأوّل من هذا الكتاب والرّجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا باتّباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتّى تمّ أمر الله في دعوته فاعلم أنّ هذا النّسب الفاطميّ لم يكن أمر المهديّ يتوقّف عليه ولا اتّبعه النّاس بسببه وإنّما كان اتّباعهم له بعصبيّة الهرغيّة والمصموديّة ومكانه منها ورسوخ شجرته فيها وكان ذلك النّسب الفاطميّ خفيّا قد درس عند النّاس وبقي عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم فيكون النّسب الأوّل كأنّه انسلخ منه ولبس جلدة هؤلاء وظهر فيها فلا يضرّه الانتساب الأوّل في عصبيّته إذ هو مجهول عند أهل العصابة ومثل هذا واقع كثيرا إذا كان النّسب الأوّل خفيّا وانظر قصّة عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة حتّى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهّم منه وجه
__________
[1] بمعنى الامتناع عن النساء.
[2] عضده: بكسر الضاد: بمعنى أعانه وكان له عضدا (لسان العرب) .(1/36)
الحقّ والله الهادي للصّواب وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط فقد زلّت أقدام كثير من الأثبات والمؤرّخين الحفّاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم ونقلها عنهم الكافّة من ضعفة النّظر والغفلة عن القياس وتلقّوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا رويّة واندرجت في محفوظاتهم حتّى صار فنّ التّاريخ واهيا مختلطا وناظره مرتبكا وعدّ من مناحي العامّة فإذا يحتاج صاحب هذا الفنّ إلى العلم بقواعد السّياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السّير والأخلاق والعوائد والنّحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتّفق منها والمختلف والقيام على أصول الدّول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتّى يكون مستوعبا لأسباب كلّ خبره وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلّا زيّفه واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التّاريخ إلّا لذلك حتّى انتحله الطّبريّ والبخاريّ وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمّة وقد ذهل الكثير عن هذا السّر فيه حتّى صار انتحاله مجهلة [1] واستخفّ العوامّ ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتّطفّل عليه فاختلط المرعيّ بالهمل [2] واللّباب بالقشر والصّادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور ومن الغلط الخفيّ في التّاريخ الذّهول عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدّل الأعصار ومرور الأيّام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلّا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطّن له إلّا الآحاد من أهل الخليقة وذلك أنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ إنّما هو اختلاف على الأيّام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص
__________
[1] المجهلة: ما يحملك على الجهل (قاموس) .
[2] هو مثل جيد لاختلاط الجيد بالقبيح.(1/37)
والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسّريانيّون والنّبط والتّبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصّة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم [1] ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثمّ جاء من بعدهم الفرس الثّانية والرّوم والعرب فتبدّلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها ثمّ جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السّلف ثمّ درست دولة العرب وأيّامهم وذهبت الأسلاف الذين شيّدوا عزّهم ومهّدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل التّرك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشّمال فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها والسّبب الشّائع في تبدّل الأحوال والعوائد أنّ عوائد كلّ جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكميّة النّاس على دين الملك وأهل الملك والسّلطان إذا استولوا على الدّولة والأمر فلا بدّ من أن يفزعوا إلى [2] عوائد من قبلهم ويأخذون الكثير منها ولا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدّولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأوّل فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشّيء وكانت للأولى أشدّ مخالفة ثمّ لا يزال التّدريج في المخالفة حتّى ينتهي إلى المباينة بالجملة فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسّلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة. والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذّهول والغفلة عن قصده وتعوّج به [3] عن مرامه فربّما يسمع
__________
[1] صنائع: جمع صناعة، وجمع صنيعة بمعنى الإحسان (قاموس) .
[2] وفي بعض النسخ (لا بدّ وأن) وهو تركيب غير فصيح وقد استعمله ابن خلدون كثيرا في كتابه والأصح استعمال «لا بدّ أن ... » وفزع إلى معنى: لجأ إلى.
[3] بمعنى ترجع به.(1/38)
السّامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطّن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأوّل وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط فمن هذا الباب ما ينقله المؤرّخون من أحوال الحجّاج وأنّ أباه كان من المعلّمين مع أنّ التّعليم لهذا العهد من جملة الصّنائع المعاشيّة البعيدة من اعتزاز أهل العصبيّة والمعلّم مستضعف مسكين منقطع الجذم [1] فيتشوّف الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصّنائع المعاشيّة إلى نيل الرّتب الّتي ليسوا لها بأهل ويعدّونها من الممكنات لهم فتذهب بهم وساوس المطامع وربّما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتّلف ولا يعلمون استحالتها في حقّهم وأنّهم أهل حرف وصنائع للمعاش وأنّ التّعليم صدر الإسلام والدّولتين لم يكن كذلك ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنّما كان نقلا لما سمع من الشّارع وتعليما لما جهل من الدّين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب والعصبيّة الّذين قاموا بالملّة هم الّذين يعلّمون كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على معنى التّبليغ الخبريّ لا على وجه التّعليم الصّناعيّ إذ هو كتابهم المنزل على الرّسول منهم وبه هداياتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه وقتلوا واختصّوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمّة لا تصدّهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة ويشهد لذلك بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلّمونهم حدود الإسلام وما جاء به من شرائع الدّين بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم فما استقرّ الإسلام ووشجت عروق الملّة حتّى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها واستحالت بمرور الأيّام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشّرعيّة من النّصوص لتعدّد الوقائع وتلاحقها فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطإ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التّعلّم فأصبح من جملة الصّنائع والحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم والتّعليم واشتغل أهل العصبيّة بالقيام
__________
[1] الجذم: الأصل (قاموس) .(1/39)
بالملك والسّلطان فدفع لعلم من قام به من سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين وأهل السّلطان عن التّصدّي للتّعليم واختصّ انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبيّة والملك والحجّاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم ومكانهم من عصبيّة العرب ومناهضة قريش في الشّرف ما علمت ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنّه حرفة للمعاش وإنّما كان على ما وصفناه من الأمر الأوّل في الإسلام ومن هذا الباب أيضا ما يتوهّمه المتصفّحون لكتب التّاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرّئاسة في الحروب وقود العساكر فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرّتب يحسبون أنّ الشّأن خطّة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل ويظنّون بابن أبي عامر صاحب [1] هشام المستبدّ عليه وابن عبّاد من ملوك الطّوائف بإشبيليّة إذا سمعوا أنّ آباءهم كانوا قضاة أنّهم مثل القضاة لهذا العهد ولا يتفطّنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبيّنه في فصل القضاء من الكتاب الأوّل وابن أبي عامر وابن عبّاد كانا من قبائل العرب القائمين بالدّولة الأمويّة بالأندلس وأهل عصبيّتها وكان مكانهم فيها معلوما ولم يكن نيلهم لما نالوه من الرّئاسة والملك بخطّة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنّما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبيّة من قبيل [2] الدّولة ومواليها كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب وانظر خروجهم بالعساكر في الطّوائف [3] وتقليدهم عظائم الأمور الّتي لا تقلّد إلّا لمن له الغنى [4] فيها بالعصبيّة فيغلط السّامع في ذلك ويحمل الأحوال على غير ما هي وأكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد
__________
[1] كذا بالأصل في جميع النسخ، وأظنها تحريف من الناسخ وصوابها (حاجب هشام) وهشام هذا هو أحد ملوك الأندلس، وكان ابن أبي عامر حاجبا له.
[2] بمعنى جماعة الدولة.
[3] كذا بالأصل في جميع النسخ والغالب أنه تحريف عن «صوائف» وهي غزوات الصين.
[4] كذا بالأصل في جميع النسخ ولا معنى لها هنا والصحيح، الغناء بمعنى الاجزاء والكفاية.(1/40)
لفقدان العصبيّة في مواطنهم منذ أعصار بعيدة بفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيّات [1] من البربر فبقيت أنسابهم العربيّة محفوظة والذّريعة إلى العزّ من العصبيّة والتّناصر مفقودة بل صاروا من جملة الرّعايا المتخاذلين الذين تعبّدهم القهر ورئموا للمذلّة [2] يحسبون أنّ أنسابهم مع مخالطة الدّولة هي الّتي يكون لهم بها الغلب والتّحكّم فتجد أهل الحرف والصّنائع منهم متصدّين لذلك ساعين في نيله فأمّا من باشر أحوال القبائل والعصبيّة ودولهم بالعدوة الغربيّة وكيف يكون التّغلّب بين الأمم والعشائر فقلّما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره. ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرّخون عند ذكر الدّول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمّه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كلّ ذلك تقليد لمؤرّخي الدّولتين من غير تفطّن لمقاصدهم والمؤرّخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدّولة وأبناؤها متشوّفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتّى في اصطناع الرّجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم والقضاة أيضا كانوا من أهل عصبيّة الدّولة وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كلّه وامّا حين تباينت الدّول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصّة ونسب الدّول بعضها من بعض في
__________
[1] العصبية بفتحتين التعصب وهو أن يذب الرجل عن حريم صاحبه ويشمر عن ساق الجد في نصره منسوبة إلى العصبة محركة وهم أقارب الرجل من قبل أبيه لأنهم هم الذابون عن حريم من هو منتهاهم وهي بهذا المعنى ممدوحة وإما العصبية المذمومة في الحديث الجامع الصغير ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية فهي تعصب رجال لقبيلة على رجال لقبيلة أخرى لغير ديانة كما كان يقع من قيام سعد على حرام نسبة إلى العصبة بمعنى قوم الرجل الذين يتعصبون له ولو من غير أقاربه ظالما كان أو مظلوما وفي الفتاوي الخيرية من موانع قبول الشهادة العصبية وهي أن يبغض الرجل الرجل لأنه من بني فلان أو من قبيلة كذا والوجه في ذلك ظاهر وهو ارتكاب المحرم ففي الحديث ليس منا من دعي إلى عصبية وهو موجب للفسق ولا شهادة لمرتكبه. قاله الأستاذ أبو ألوفا.
[2] في القاموس: يقولون: «هو رءوم للضيم أي ذليل راضي بالخسف» وهذه العبارة قليلة الاستعمال.
والأصح: رئموا المذلة بمعنى ألفوها.(1/41)
قوّتها وغلبتها ومن كان يناهضها من الأمم أو يقصّر عنها فما الفائدة للمصنّف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنّساء ونقش الخاتم واللّقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنّما حملهم على ذلك التّقليد والغفلة عن مقاصد المؤلّفين الأقدمين والذّهول عن تحرّي الأغراض من التّاريخ اللَّهمّ إلّا ذكر الوزراء الّذين عظمت آثارهم وعفت [1] على الملوك أخبارهم كالحجّاج وبني المهلّب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الإخشيديّ وابن أبي عامر وأمثالهم فغير نكير الالماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك. ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها وهي أنّ التّاريخ إنّما هو ذكر الأخبار الخاصّة بعصر أو جيل فأمّا ذكر الأحوال العامّة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أسّ للمؤرّخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبيّن به أخباره وقد كان النّاس يفردونه بالتّأليف كما فعله المسعوديّ في كتاب مروج الذّهب شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده في عصر الثّلاثين والثّلاثمائة غربا وشرقا وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدّول وفرّق شعوب العرب والعجم فصار إماما للمؤرّخين يرجعون إليه وأصلا يعوّلون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه ثمّ جاء الكبريّ من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصّة دون غيرها من الأحوال لأنّ الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم تغيّر وأمّا لهذا العهد وهو آخر المائة الثّامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الّذي نحن شاهدوه وتبدّلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامّة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثّامنة من الطّاعون الجارف الّذي تحيّف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن
__________
[1] عفا عليه: زاد (قاموس) .(1/42)
العمران ومحاها وجاء للدّول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلّص من ظلالها وفلّ من حدّها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التّلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السّبل والمعالم وخلت الدّيار والمنازل وضعفت الدّول والقبائل وتبدّل السّاكن وكأنّي بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنّما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدوّن أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنّحل الّتي تبدّلت لأهلها ويقفو مسلك المسعوديّ لعصره ليكون أصلا يقتدي به من يأتي من المؤرّخين من بعده وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربيّ إمّا صريحا أو مندرجا في أخباره وتلويحا لاختصاص قصدي في التّأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار لعدم اطّلاعي على أحوال المشرق وأممه وأنّ الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه والمسعوديّ إنّما استوفى ذلك لبعد رحلته وتقلّبه في البلاد كما ذكر في كتابه مع أنّه لمّا ذكر المغرب قصّر في استيفاء أحواله وفوق كلّ ذي علم عليم ومردّ العلم كلّه إلى الله والبشر عاجز قاصر والاعتراف متعيّن واجب ومن كان الله في عونه تيسّرت عليه المذاهب وأنجحت له المساعي والمطالب ونحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التّأليف والله المسدّد والمعين وعليه التّكلان وقد بقي علينا أن نقدّم مقدّمة في كيفيّة وضع الحروف الّتي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا.
اعلم أنّ الحروف في النّطق كما يأتي شرحه بعد هي كيفيّات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصّوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع(1/43)
الحنك والحلق والأضراس أو بقرع الشّفتين أيضا فتتغاير كيفيّات الأصوات بتغاير ذلك القرع وتجيء الحروف متمايزة في السّمع وتتركب منها الكلمات الدّالّة على ما في الضّمائر وليست الأمم كلّها متساوية في النّطق بتلك الحروف فقد يكون لأمّة من الحروف ما ليس لأمّة أخرى والحروف الّتي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفا كما عرفت ونجد للعبرانيّين حروفا ليست في لغتنا وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم وكذلك الإفرنج والتّرك والبربر وغير هؤلاء من العجم ثمّ إنّ أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدّلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثّمانية والعشرين وإذا عرض لهم الحرف الّذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملا عن الدّلالة الكتابيّة مغفلا عن البيان وربّما يرسمه بعض الكتّاب بشكل الحرف الّذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده وليس بكاف في الدّلالة بل هو تغيير للحرف من أصله. ولمّا كان كتابنا مشتملا على أخبار البربر وبعض العجم وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الّذي يليه كما قلناه لأنّه عندنا غير واف بالدّلالة عليه فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجميّ بما يدلّ على الحرفين اللّذين يكتنفانه ليتوسّط القارئ بالنّطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته وإنّما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام كالصّراط في قراءة خلف فإنّ النّطق بصاده فيها معجم متوسّط بين الصّاد والزّاي فوضعوا الصّاد ورسموا في داخلها شكل الزّاي ودلّ ذلك عندهم على التّوسّط بين الحرفين فكذلك رسمت أنا كلّ حرف يتوسّط بين حرفين من حروفنا كالكاف المتوسّطة عند البربر بين الكاف الصّريحة عندنا والجيم أو القاف مثل اسم بلكين فأضعها كافا وأنقّطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين فيدلّ ذلك على أنّه متوسّط بين الكاف والجيم أو القاف وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر وما جاء من(1/44)
غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسّط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معا ليعلم القارئ أنّه متوسّط فينطق به كذلك فنكون قد دللنا عليه ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبه لكنّا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الّذي من لغتنا وغيّرنا لغة القوم فاعلم ذلك والله الموفّق للصّواب بمنّه وفضله [1] .
__________
[1] يعتبر ابن خلدون أول من حاول استخدام العلوم الاجتماعية والسياسية مجتمعة وتسخيرها لدراسة التاريخ، غير أنه لم يجد من يخلفه في الإسلام إلى أن جاءت المؤثرات الحديثة تؤثر في العالم الإسلامي وقد باءت بالفشل حتى اليوم كل محاولة لمعرفة المثال الّذي احتذاه ابن خلدون في تفكيره ومن المحتمل انه كانت في بيئته.
شمالي افريقيا وفي اسبانيا، أفكار تناقش أمامه بشكل أولي. غير أنه لا جدال في إبداعه الأساس، وقد ذكر ابداعه بقوة إذ قال «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما. وأعثرنا على علم بين بكرة وجهينة خبره، فان كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية، وان فاتني شيء من إحصائه واشتبهت بغيره مسائله فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء» ويؤيد صدق قوله تواضعه الواضح. ثم انه ليس هناك مبرر للريبة بابن خلدون عند ما يقول ان مصادر الهامة هي أصول الفقه وكتب الآداب، فهو يقول «وهذا الفن الّذي لاح لنا النظر فيه نجد مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم من جنس مسائله بالموضوع والمطلب مثل ما يذكره الحكماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه الحاكم والوازع، ومثلما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون للعبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وشأن العبارات أخف ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع والقتل أيضا مفسد للنوع وان الظلم مؤذن بخراب العمران ... » ولا شك أن أعظم ما قام به ابن خلدون هو تطبيق الأفكار السياسية والاجتماعية المبعثرة على التاريخ الّذي يعتبره القوة الحية التي تربط الماضي بالحاضر بعملية واحدة مستمرة.
فالإنسان والبيئة والجهود الفردية والتنظيمات الاجتماعية كلها مادة أولية للتاريخ، حسب تحليل ابن خلدون العميق رغم تعسفه أحيانا، وتحليل ابن خلدون هذا رغم إمكان تفسيره على ضوء أسسه الإسلامية، إلا أنه أقرب إلى التوقف الفذ منه إلى مجرد وقفة عادية في مجرى علم التاريخ الإسلامي.
(علم التاريخ عند المسلمين ص 165- 166. فرانز روزنثال) .(1/45)
الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب
اعلم أنّه لمّا كانت حقيقة التّاريخ أنّه خبر عن الاجتماع الانسانيّ الّذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التّوحّش والتّأنّس والعصبيّات وأصناف التّغلّبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدّول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصّنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. ولمّا كان الكذب متطرّقا للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التّشيّعات للآراء والمذاهب فإنّ النّفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التّمحيص والنّظر حتّى تتبيّن صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأوّل وهلة وكان ذلك الميل والتّشيّع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتّمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثّقة بالنّاقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التّعديل والتّجريح. ومنها الذّهول عن المقاصد فكثير من النّاقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنّه وتخمينه فيقع في الكذب.
ومنها توهّم الصّدق وهو كثير وإنّما يجيء في الأكثر من جهة الثّقة بالنّاقلين ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التّلبيس والتّصنّع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتّصنّع على غير الحقّ في نفسه. ومنها تقرّب النّاس(1/46)
في الأكثر لأصحاب التّجلّة والمراتب بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة فالنّفوس مولعة بحبّ الثّناء والنّاس متطلّعون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغيين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها. ومن الأسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة على جميع ما تقدّم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإنّ كلّ حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بدّ له من طبيعة تخصّه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فإذا كان السّامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصّدق من الكذب وهذا أبلغ في التّمحيص من كلّ وجه يعرض وكثيرا ما يعرض للسّامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم كما نقله المسعوديّ عن الإسكندر لمّا صدّته دوابّ البحر عن بناء الإسكندريّة وكيف اتّخذ صندوق الزّجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتّى صوّر تلك الدّوابّ الشّيطانيّة الّتي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنيّة ونصبها حذاء البنيان ففرّت تلك الدّوابّ حين خرجت وعاينتها وتمّ بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتّخاذه التّابوت الزّجاجيّ ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أنّ الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور [1] ومن أعتمده منهم فقد عرّض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع النّاس إلى غيره وفي ذلك إتلافه ولا ينظرون به رجوعه من غروره [2] ذلك طرفة عين ومن قبل أنّ الجنّ لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختصّ بها إنّما هي قادرة على التّشكّل وما يذكر من كثرة الرّؤوس لها فإنّما المراد به البشاعة والتّهويل لا أنّه حقيقة. وهذه كلّها قادحة في تلك الحكاية والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كلّه وهو أنّ المنغمس في الماء ولو كان في الصّندوق يضيق عليه الهواء للتّنفّس الطّبيعىّ وتسخن روحه بسرعة لقلّته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدّل لمزاج الرّئة والرّوح
__________
[1] في بعض النسخ الغرر أي بمعنى تعريض النفس للهلاك.
[2] كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: أغرره.(1/47)
القلبيّ ويهلك مكانه وهذا هو السّبب في هلاك أهل الحمّامات إذا أطبقت [1] عليهم عن الهواء البارد والمتدلّين في الآبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرّياح فتخلخلها فإنّ المتدلّي فيها يهلك لحينه وبهذا السّبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإنّ الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حارّ بإفراط والماء الّذي يعدّله بارد والهواء الّذي خرج إليه حارّ فيستولي الحارّ على روحه الحيوانيّ ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعوديّ أيضا في تمثال الزّرزور الّذي برومة تجتمع إليه الزّرازير في يوم معلوم من السّنة حاملة للزّيتون ومنه يتّخذون زيتهم وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطّبيعيّ في اتّخاذ الزّيت. ومنها ما نقله البكريّ في بناء المدينة المسمّاة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب والمدن إنّما اتّخذت للتّحصّن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم وكما نقله المسعوديّ أيضا في حديث مدينة النّحاس وأنّها مدينة كلّ بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب وأنّها مغلقة الأبواب وأنّ الصّاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفّق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدّهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصّاص وصحراء سجلماسة قد نفضها [2] الرّكّاب والأدلّاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر ثمّ إنّ هذه الأحوال الّتي ذكروا عنها كلّها مستحيل عادة مناف للأمور الطّبيعية في بناء المدن واختطاطها وأنّ المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية والخرثيّ [3] وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنّما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق
__________
[1] بمعنى دامت.
[2] نفض المكان: نظر جميع ما فيه حتى يتعرّفه (قاموس) .
[3] الخرثيّ بالضم أثاث البيت (قاموس) .(1/48)
على التّمحيص بتعديل الرّواة ولا يرجع إلى تعديل الرّواة حتّى يعلم أنّ ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع وأمّا إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنّظر في التّعديل والتّجريح ولقد عدّ أهل النّظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللّفظ وتأويله بما لا يقبله العقل وإنّما كان التّعديل والتّجريح هو المعتبر في صحّة الأخبار الشّرعيّة لأنّ معظمها تكاليف إنشائيّة [1] أوجب الشّارع العمل بها حتّى حصل الظّنّ بصدقها وسبيل صحّة الظّنّ الثّقة بالرّواة بالعدالة والضّبط. وأما الأخبار عن الواقعات فلا بدّ في صدقها وصحّتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار فيها ذلك أهمّ من التّعديل ومقدّما عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشريّ الّذي هو العمران ونميّز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتدّ به وما لا يمكن أن يعرض له وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار والصّدق من الكذب بوجه برهانيّ لا مدخل للشّكّ فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرّى به المؤرّخون طريق الصّدق والصّواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأوّل من تأليفنا وكأنّ هذا علم مستقلّ بنفسه فإنّه ذو موضوع وهو العمران البشريّ والاجتماع الإنسانيّ وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته [2] واحدة بعد أخرى وهذا شأن كلّ علم من العلوم وضعيّا كان أو عقليّا.
واعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصّنعة غريب النّزعة عزيز الفائدة اعثر عليه البحث وأدّى إليه الغوص وليس من علم الخطابة إنّما هو الأقوال المقنعة
__________
[1] إنشائية نسبة إلى إنشاء وهو الّذي يشمل الأمر والنهي وما شاكل وهو قابل الخبر ويقال جملة إنشائية في مقابل جملة خبرية.
[2] أي ما يلحق المجتمع من العوارض والأحوال لذاته.(1/49)
النّافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدّهم عنه ولا هو أيضا من علم السّياسة المدنية إذ السياسة المدنيّة هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النّوع وبقاؤه فقد خالف موضوعة موضوع هذين الفنّين اللّذين ربّما يشبهانه وكأنّه علم مستنبط النّشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظّنّ بهم أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا من فالعلوم كثيرة ممّا وصل فأين علوم الفرس الّتي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيّين والسّريانيّين وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنّما وصل إلينا علوم أمّة واحدة وهم يونان خاصّة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها ولم نقف على شيء من علوم غيرهم وإذا كانت كلّ حقيقة متعلّقة طبيعيّة يصلح أن يبحث عمّا يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كلّ مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصّه لكنّ الحكماء لعلّهم إنّما لاحظوا في ذلك العناية بالثّمرات وهذا إنّما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . وهذا الفنّ الّذي لاح لنا النّظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطّلب مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النّبوّة من أنّ البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع [1] ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللّغات أنّ النّاس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التّعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخفّ ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشّرعيّة بالمقاصد في أنّ الزّنا مخلط للأنساب
__________
[1] الوازع ج وزعة ووزّاع: من يدبّر أمور الجيش، الزاجر. (قاموس)(1/50)
مفسد للنّوع وأنّ القتل أيضا مفسد للنّوع وأنّ الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشّرعيّة في الأحكام فإنّها كلّها مبنيّة على المحافظة على العمران فكان لها النّظر فيما يعرض له وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثّلة وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرّقة لحكماء الخليقة لكنّهم لم يستوفوه فمن كلام الموبذان [1] بهرام بن بهرام في حكاية البوم الّتي نقلها المسعوديّ. «أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل للمال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك» . ومن كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه «الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمّال وإصلاح العمّال باستقامة الوزراء ورأس الكلّ بافتقاد الملك حال رعيّته بنفسه واقتداره على تأديبها حتّى يملكها ولا تملكه.
وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السّياسة المتداول بين النّاس جزء صالح منه إلّا أنّه غير مستوف ولا معطي حقّه من البراهين ومختلط بغيره وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الّتي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان وجعلها في الدّائرة القريبة الّتي أعظم القول فيها هو قوله: «العالم بستان سياجه الدّولة الدّولة سلطان تحيا به السّنّة السّنّة سياسة يسوسها الملك الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرّعيّة الرّعيّة عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف وبه قوام العالم العالم بستان» ثمّ ترجع إلى أوّل الكلام. فهذه ثمان كلمات حكميّة سياسيّة ارتبط بعضها ببعض وارتدّت أعجازها إلى صدورها واتّصلت في دائرة لا يتعيّن طرفها فخر بعثوره عليها وعظّم من فوائدها. وأنت إذا
__________
[1] الموبذان فقيه الفرس وحاكم المجوس (قاموس) .(1/51)
تأمّلت كلامنا في فصل الدّول والملك وأعطيته حقّه من التّصفّح والتّفهّم عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب [1] بيان وأوضح دليل وبرهان أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان وكذلك تجد في كلام ابن المقفّع وما يستطرد في رسائله من ذكر السّياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهنّاه إنّما يجليها في الذّكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسّل وبلاغة الكلام وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطّرطوشيّ في كتاب سراج الملوك وبوّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنّه لم يصادف فيه الرّمية ولا أصاب الشّاكلة [2] ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلّة إنّما يبوّب الباب للمسألة ثمّ يستكثر من الأحاديث والآثار وينقل كلمات متفرّقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة ولا يكشف عن التّحقيق قناعا ولا يرفع البراهين الطّبيعيّة حجابا إنّما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنّه حوّم على الغرض ولم يصادفه ولا تحقّق قصده ولا استوفى مسائله ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما وأعثرنا على علم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره [3] فإن كنت قد استوفيت مسائله وميّزت عن سائر الصّنائع أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره فللنّاظر المحقّق إصلاحه ولي الفضل لأنّي نهجت له السّبيل وأوضحت له الطّريق والله يهدي بنوره من يشاء. ونحن الآن نبيّن في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصّنائع بوجوه برهانيّة يتّضح بها التّحقيق في معارف الخاصّة والعامّة وتندفع بها الأوهام وترفع الشّكوك. ونقول لمّا كان الإنسان
__________
[1] أوعب: ايعابا الشيء أخذه بأجمعه (قاموس) .
[2] الرميّة: ما يرمى من حيوان، والشاكلة: الوجهة والطريقة والمعنى في الجملتين لم يصب الغرض.
[3] في بعض النسخ: جعلنا سن بكرة وجهينة خبره وهو مثل يطلق على من يأتي بالخبر الصادق واليقين. وفيه إشارة إلى المثل المشهور «وعند جهينة الخبر اليقين» .(1/52)
متميّزا عن سائر الحيوانات بخواصّ اختصّ بها فمنها العلوم والصّنائع الّتي هي نتيجة الفكر الّذي تميّز به عن الحيوانات وشرّف بوصفه على المخلوقات ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسّلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك [1] من بين الحيوانات كلّها إلّا ما يقال عن النّحل والجراد وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهاميّ لا بفكر ورويّة ومنها السّعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه لما جعل الله من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه وهداه إلى التماسه وطلبه قال تعالى: «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى 20: 50» ومنهما العمران وهو التّساكن والتّنازل في مصر [2] أو حلّة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التّعاون على المعاش كما نبيّنه ومن هذا العمران ما يكون بدويّا وهو الّذي يكون في الضّواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرّمال ومنه ما يكون حضريّا وهو الّذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر [3] للاعتصام بها والتّحصّن بجدرانها وله في كلّ هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيّا له فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستّة فصول. الأوّل في العمران البشريّ على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض.
والثّاني في العمران البدويّ وذكر القبائل والأمم الوحشيّة. والثّالث في الدّول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانيّة والرّابع في العمران الحضريّ والبلدان والأمصار. والخامس في الصّنائع والمعاش والكسب ووجوهه. والسّادس في العلوم واكتسابها وتعلّمها. وقد قدّمت العمران البدويّ لأنّه سابق على جميعها كما نبيّن لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار وأمّا تقديم المعاش فلأنّ المعاش ضروريّ طبيعيّ وتعلّم العلم كماليّ أو حاجيّ والطّبيعيّ أقدم من الكماليّ وجعلت
__________
[1] يظهر أن هنا عبارة ساقطة من جميع النسخ لأن الكلام غير مستقيم. وفي نسخة لجنة البيان العربيّ عبارة بين قوسين وهي: «ولا يشبهه في ذلك» .
[2] مصرج أمصار. أي البلد أو المدينة.
[3] المدر. سكان القرى والأمصار والعرب تسمي القرية المدرة (قاموس) .(1/53)
الصّنائع مع الكسب لأنّها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبيّن لك بعد والله الموفّق للصّواب والمعين عليه.
الباب الأوّل من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة وفيه مقدمات
الأولى في أنّ الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ
ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع الّذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران وبيانه أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصحّ حياتها وبقاؤها إلّا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله إلّا أنّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادّة حياته منه ولو فرضنا منه أقلّ ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل إلّا بعلاج كثير من الطّحن والعجن والطّبخ وكلّ واحد من هذه الأعمال الثّلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتمّ إلّا بصناعات متعدّدة من حدّاد ونجّار وفاخوريّ وهب أنّه يأكله حبّا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله أيضا حبّا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزّراعة والحصاد والدّراس الّذي يخرج الحبّ من غلاف السّنبل ويحتاج كلّ واحد من هذه من الزّراعة والحصاد والدّارس الّذي يخرج الحبّ من غلاف السّنبل ويحتاج كلّ واحد من هذه آلات متعدّدة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ويستحيل أن تفي بذلك كلّه أو ببعضه قدرة الواحد فلا بدّ من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتّعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف وكذلك يحتاج كلّ واحد منهم أيضا في الدّفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأنّ الله سبحانه لمّا ركّب الطّباع في الحيوانات كلّها وقسم القدر بينها جعل(1/54)
حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظّ الإنسان فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثّور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته. ولمّا كان العدوان طبيعيّا في الحيوان جعل لكلّ واحد منها عضوا يختصّ بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره وجعل للإنسان عوضا من ذلك كلّه الفكر واليد فاليد مهيّئة للصّنائع بخدمة الفكر والصّنائع تحصّل له الآلات الّتي تنوب له عن الجوارح المعدّة في سائر الحيوانات للدّفاع مثل الرّماح الّتي تنوب عن القرون النّاطحة والسّيوف النّائبة عن المخالب الجارحة والتّراس [1] النّائبة عن البشرات الجاسية [2] إلى غير ذلك وغيره ممّا ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيّما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدّة لها فلا بدّ في ذلك كلّه من التّعاون عليه بأبناء جنسه وما لم يكن هذا التّعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتمّ حياته لما ركّبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السّلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى حياته ويبطل نوع البشر وإذا كان التّعاون حصل له القوت للغذاء والسّلاح للمدافعة وتمّت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه فإذن هذا الاجتماع ضروريّ للنّوع الإنسانيّ وإلّا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إيّاهم وهذا هو معنى العمران الّذي جعلناه موضوعا لهذا العلم وفي هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنّه الّذي هو موضوع له وهذا وإن لم يكن واجبا على صاحب الفنّ لما تقرّر في الصّناعة المنطقيّة أنّه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضا من الممنوعات عندهم فيكون إثباته من التّبرّعات والله الموفّق بفضله. ثمّ إنّ هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قرّرناه وتمّ عمران العالم بهم فلا بدّ من وازع يدفع
__________
[1] جمع ترس وهو ما يلبس على الجسم لاتقاء السهام والسيوف (قاموس) .
[2] القاسية والصلبة.(1/55)
بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانيّة من العدوان والظّلم وليست السّلاح الّتي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنّها موجودة لجميعهم فلا بدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسّلطان واليد القاهرة حتّى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك وقد تبيّن لك بهذا أنّ للإنسان خاصّة طبيعيّة ولا بدّ لهم منها وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النّحل والجراد لما استقرئ فيها من الحكم والانقياد والاتّباع لرئيس من أشخاصها متميّز عنهم في خلقه وجثمانه إلّا أنّ ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسّياسة «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى 20: 50» وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوّة بالدّليل العقليّ وأنّها خاصّة طبيعية للإنسان فيقرّرون هذا البرهان إلى غاية وأنّه لا بدّ للبشر من الحكم الوازع ثمّ يقولون بعد ذلك وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنّه لا بدّ أن يكون متميّزا عنهم بما يودع الله فيه من خواصّ هدايته ليقع التّسليم له والقبول منه حتّى يتمّ الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزيّف وهذه القضيّة للحكماء غير برهانيّة كما تراه إذ الوجود وحياة البشر قد تتمّ من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبيّة الّتي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادّته فأهل الكتاب والمتّبعون للأنبياء قليلون بالنّسبة إلى المجوس الّذين ليس لهم كتاب فإنّهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدّول والآثار فضلا عن الحياة وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشّمال والجنوب بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتّة فإنّه يمتنع وبهذا يتبيّن لك غلطهم في وجوب النّبوّات وأنّه ليس بعقليّ وإنّما مدركة الشّرع كما هو مذهب السّلف من الأمّة والله وليّ التوفيق والهداية
.(1/56)
المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار [1] والأنهار والأقاليم
اعلم أنّه قد تبيّن في كتب الحكماء النّاظرين في أحوال العالم أنّ شكل الأرض كرويّ وأنّها محفوفة بعنصر الماء كأنّها عنبة طافية عليه فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنّوع البشريّ الّذي له الخلافة على سائرها وقد يتوهّم من ذلك أنّ الماء تحت الأرض وليس بصحيح وإنّما النّحت الطّبيعيّ قلب الأرض ووسط كرتها الّذي هو مركزها والكلّ يطلبه بما فيه من الثّقل وما عدا ذلك من جوانبها وأمّا الماء المحيط بها فهو فوق الأرض وإن قيل في شيء منها إنّه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. وأمّا الّذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النّصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائيّ بها من جميع جهاتها بحرا يسمّى البحر المحيط ويسمّى أيضا لبلايه بتفخيم اللّام الثّانية ويسمّى أوقيانوس أسماء أعجميّة ويقال له البحر الأخضر والأسود ثمّ إنّ هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشّمال وإنّما المعمور منه أميل إلى الجانب الشّماليّ على شكل مسطّح كرويّ ينتهي من جهة الجنوب إلى
__________
[1] ورد بالأصل في جميع النسخ الأشجار وهو تحريف. وفي النسخة الباريسية المخطوطة: البحار وهو الصحيح لأن البحث في هذه المقدمة مستفيض عن البحار ولا يكاد يكون للأشجار بها ذكر.(1/57)
خطّ الاستواء ومن جهة الشّمال إلى خطّ كرويّ ووراءه الجبال الفاصلة بينه وبين الماء العنصريّ الّذي بينهما سدّ يأجوج ومأجوج وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء أيضا بقطعتين من الدّائرة المحيطة وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النّصف من الكرة أو أقلّ والمعمور منه مقدار ربعه وهو المنقسم بالأقاليم السّبعة وخطّ الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق وهو طول الأرض وأكبر خطّ في كرتها كما أنّ منطقة فلك البروج ودائرة معدّل النّهار أكبر خطّ في الفلك ومنطقة البروج منقسمة بثلاثمائة وستّين درجة والدّرجة من مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع والذّراع أربعة وعشرون إصبعا والإصبع ستّ حبّات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهرا لبطن وبين دائرة معدّل النّهار الّتي تقسم الفلك بنصفين وتسامت خطّ الاستواء من الأرض وبين كلّ واحد من القطبين تسعون درجة لكنّ العمارة في الجهة الشّماليّة من خطّ الاستواء أربع وستّون درجة والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدّة البرد والجمود كما كانت الجهة الجنوبيّة خلاء كلّها لشدّة الحرّ كما نبيّن ذلك كلّه إن شاء الله تعالى. ثمّ إنّ المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وعمّا فيه من الأمصار والمدن والجبال والبحار والأنهار والقفار والرّمال مثل بطليموس في كتاب الجغرافيا وصاحب كتاب زخّار [1] من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمّونها الأقاليم السّبعة بحدود وهميّة بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطّول فالإقليم الأوّل أطول ممّا بعده وهكذا الثّاني إلى آخرها فيكون السّابع أقصر لما اقتضاه وضع
__________
[1] وردت في بعض النسخ روجار وهو الصحيح وروجار هو ملك صقلّيّة وقد ألف له الشريف الادريسي كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» وقد طاف الادريسي في بلاد الروم واليونان ومصر والمغرب وفرنسا وجزيرة بريطانيا وقد دعاه الملك روجار إلى زيارة صقلّيّة فرسم له ما عاينه من البلاد على كرة من فضة. وقد ازدهرت العلوم في أيام الملك روجار لاحتكاك الثقافتين العربية واليونانية في بلاده (قاموس) .(1/58)
الدّائرة النّاشئة عن انحسار الماء عن كرة الأرض وكلّ واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التّوالي وفي كلّ جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه. وذكروا أنّ هذا البحر المحيط يخرج من جهة المغرب في الإقليم الرّابع البحر الرّوميّ المعروف يبدأ في خليج متضايق في عرض اثني عشر ميلا أو نحوها ما بين طنجة وطريف ويسمّى الزّقاق ثمّ يذهب مشرّقا وينفسح إلى عرض ستّمائة ميل ونهايته في آخر الجزء الرّابع من الإقليم الرّابع على ألف فرسخ ومائة وستّين فرسخا من مبدئه وعليه هنالك سواحل الشّام وعليه من جهة الجنوب سواحل المغرب أوّلها طنجة عند الخليج ثمّ إفريقية [1] ثمّ برقة إلى الاسكندريّة ومن جهة الشّمال سواحل القسطنطنيّة عند الخليج ثمّ البنادقة ثمّ رومة ثمّ الافرنجة ثمّ الأندلس إلى طريف عند الزّقاق قبالة طنجة ويسمّى هذا البحر الرّوميّ والشّاميّ وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلّيّة وميورقة وسردانية قالوا: ويخرج منه في جهة الشّمال بحران آخران من خليجين. أحدهما مسامت للقسطنطينيّة يبدأ من هذا البحر متضايقا في عرض رمية السّهم ويمرّ ثلاثة بحار فيتّصل بالقسطنطينيّة ثمّ ينفسح في عرض أربعة أميال ويمرّ في جرية ستّين ميلا ويسمّى خليج القسطنطينيّة ثمّ يخرج من فوهة عرضها ستّة أميال فيمدّ بحر نيطش وهو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشّرق فيمرّ بأرض هرقلة وينتهي إلى بلاد الخزريّة على ألف وثلاثمائة ميل من فوهته وعليه من الجانبين أمم من الرّوم والتّرك وبرجان والرّوس. والبحر الثّاني من خليجي هذا البحر الرّوميّ وهو بحر البنادقة [2] يخرج من بلاد الرّوم على سمت الشّمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة وينتهي إلى بلاد إنكلاية على ألف ومائة ميل من مبدئه وعلى حافتيه من
__________
[1] كانت تطلق قديما على المغرب الأدنى أي تونس وما يليها.
[2] هو بحر الادرياتيك. نسبة إلى شعوب البنادقة الذين توطنوا على سواحله ودعوا بنادقة نسبة إلى مدينة البندقية (فينيسيا اليوم) .(1/59)
البنادقة والرّوم وغيرهم أمم ويسمّى خليج البنادقة. قالوا وينساح من هذا البحر المحيط أيضا من الشّرق وعلى ثلاث عشرة درجة في الشّمال من خطّ الاستواء بحر عظيم متّسع يمرّ في الجنوب قليلا حتّى ينتهي إلى الإقليم الأوّل ثمّ يمرّ فيه مغربا إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة والزّنج وإلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ من مبدئه ويسمّى البحر الصّينيّ والهنديّ والحبشيّ [1] وعليه من جهة الجنوب بلاد الزّنج وبلاد بربر الّتي ذكرها امرؤ القيس في شعره وليسوا من البربر الّذين هم قبائل المغرب ثمّ بلد مقدشو ثمّ بلد سفالة وأرض الواق واق وأمم أخر ليس بعدهم إلّا القفار والخلاء وعليه من جهة الشّمال الصّين من عند مبدئه ثمّ الهند ثمّ السّند ثمّ سواحل اليمن من الأحقاف وزبيد وغيرها ثمّ بلاد الزّنج عند نهايته وبعدهم الحبشة. قالوا ويخرج من هذا البحر الحبشيّ بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقا ثمّ يمرّ مستبحرا إلى ناحية الشّمال ومغرّبا قليلا إلى أن ينتهي إلى القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثّاني على ألف وأربعمائة ميل من مبدئه ويسمّى بحر القلزم [2] وبحر السّويس وبينه وبين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل وعليه من جهة الشّرق سواحل اليمن ثمّ الحجاز وجدّة ثمّ مدين وأيلة وفاران عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل الصّعيد وعيذاب وسواكن وزيلع ثمّ بلاد الحبشة عند مبدئه وآخره عند القلزم يسامت البحر الرّوميّ عند العريش وبينهما نحو ستّ مراحل وما زال الملوك في الإسلام وقبله يرومون خرق ما بينهما ولم يتمّ ذلك [3] . والبحر الثّاني من هذا البحر الحبشيّ ويسمّى الخليج الأخضر [4] يخرج
__________
[1] هو المحيط الهندي.
[2] بحر القلزم: اسم أطلقه العرب سابقا على البحر الأحمر وسمي نسبة إلى مدينة (قليزمة) بالقرب من السويس. (المنجد) .
[3] هنا شرح للدكتور علي عبد الواحد وافي. في طبعه دار «الجنة البيان العربيّ» ننقلها بنصها «تم ذلك بعد وفاة ابن خلدون بنحو أربعة قرون ونصف قرن عن طريق قناة السويس. وكلام ابن خلدون يدل على أن توصيل هذين البحرين أحدهما بالآخر مشروع قديم فكر فيه الملوك في الإسلام ومن قبل الإسلام. وفي الحق ان تاريخه يبدأ من العهد الفرعوني نفسه ويقال ان أول ملك من الفراعنة فكر في حفر القناة هو سنوابرات الثالث الّذي يفكر أولياء الأمور في مصر الآن في إقامة تمثال له في بور سعيد» .
[4] هو الخليج الفارسيّ.(1/60)
ما بين بلاد السند والأحقاف من اليمن ويمرّ إلى ناحية الشّمال مغرّبا قليلا إلى أن ينتهي إلى الأبلّة من سواحل البصرة في الجزء السّادس من الإقليم الثّاني على أربعمائة فرسخ وأربعين فرسخا من مبدئه ويسمّى بحر فارس وعليه من جهة الشّرق سواحل السّند ومكران وكرمان وفارس والأبلّة وعند نهايته من جهة الغرب سواحل البحرين واليمامة وعمان والشّحر والأحقاف عند مبدئه وفيما بين بحر فارس والقلزم وجزيرة العرب كأنّها داخلة من البرّ في البحر يحيط بها البحر الحبشيّ من الجنوب وبحر القلزم من الغرب وبحر فارس من الشّرق وتفضي إلى العراق بين الشّام والبصرة على ألف وخمسمائة ميل بينهما وهنالك الكوفة والقادسيّة وبغداد وإيوان كسرى والحيرة ووراء ذلك أمم الأعاجم من الترك والخزر وغيرهم وفي جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها وبلاد اليمامة والبحرين وعمان في جهة الشّرق منها وبلاد اليمن في جهة الجنوب منها وسواحله على البحر الحبشيّ. قالوا وفي هذا المعمور بحر آخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشّمال بأرض الدّيلم يسمّى بحر جرجان وطبرستان طوله ألف ميل في عرض ستّمائة ميل في غربيّه أذربيجان والدّيلم وفي شرقيّه أرض الترك وخوارزم وفي جنوبيّه طبرستان وفي شماليّه أرض الخزر واللّان. هذه جملة البحار المشهورة الّتي ذكرها أهل الجغرافيا. قالوا وفي هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار وهي النّيل والفرات ودجلة ونهر بلخ المسمّى جيحون. فأمّا النّيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خطّ الاستواء بستّ عشرة درجة على سمت الجزء الرّابع من الإقليم الأوّل ويسمّى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصبّ بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى ثمّ تخرج أنهار من البحيرتين فتصبّ كلّها في بحيرة واحدة عند خطّ الاستواء على عشر(1/61)
مراحل من الجبل ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشّمال على سمته ويمرّ ببلاد النّوبة ثمّ بلاد مصر فإذا جاوزها تشعّب في شعب متقاربة يسمّى كلّ واحد منها خليجا وتصبّ كلّها في البحر الرّوميّ عند الإسكندريّة ويسمّى نيل مصر وعليه الصّعيد من شرقيّه والواحات من غربيّه ويذهب الآخر منعطفا إلى المغرب ثمّ يمرّ على سمته إلى أن يصبّ في البحر المحيط وهو نهر السّودان وأممهم كلّهم على ضفّتيه. وأمّا الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينيّة في الجزء السّادس من الإقليم الخامس ويمرّ جنوبا في أرض الرّوم وملطية إلى منبج ثمّ يمرّ بصفّين ثمّ بالرّقة ثمّ بالكوفة إلى أن ينتهي إلى البطحاء الّتي بين البصرة وواسط ومن هناك يصبّ في البحر الحبشيّ وتنجلب إليه في طريقه أنهار كثيرة ويخرج منه أنهار أخرى تصبّ في دجلة. وأمّا دجلة فمبدؤها عين ببلاد خلاط من أرمينيّة أيضا وتمرّ على سمت الجنوب بالموصل وأذربيجان وبغداد إلى واسط فتتفرّق إلى خلجان كلّها تصبّ في بحيرة البصرة وتفضي إلى بحر فارس وهو في الشّرق على يمين الفرات وينجلب إليه أنهار كثيرة عظيمة من كلّ جانب وفيما بين الفرات ودجلة من أوّله جزيرة الموصل قبالة الشّام من عدوتي الفرات وقبالة آذربيجان من عدوة دجلة. وأمّا نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثّامن من الإقليم الثّالث من عيون هناك كثيرة وتنجلب إليه أنهار عظام ويذهب من الجنوب إلى الشّمال فيمرّ ببلاد خراسان ثمّ يخرج منها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثّامن من الإقليم الخامس فيصبّ في بحيرة الجرجانيّة الّتي بأسفل مدينتها وهي مسيرة شهر في مثله وإليها ينصبّ نهر فرغانة والشّاش الآتي من بلاد التّرك وعلى غربيّ نهر جيحون بلاد خراسان وخوارزم وعلى شرقيّه بلاد بخارى وترمذ وسمرقند ومن هنالك إلى ما وراءه بلاد التّرك وفرغانة والخزلجيّة وأمم الأعاجم وقد ذكر ذلك كلّه بطليموس في كتابه والشّريف في كتاب روجار وصوّروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأودية واستوفوا من ذلك(1/62)
ما لا حاجة لنا به لطوله ولأنّ عنايتنا في الأكثر إنّما هي بالمغرب الّذي هو وطن البربر وبالأوطان الّتي للعرب من المشرق والله الموفّق.
تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانا من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك
ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأوّل والثّاني من الأقاليم المعمورة أقلّ عمرانا ممّا بعدهما وما وجد من عمرانه فيتخلّله الخلاء والقفار والرّمال والبحر الهنديّ الّذي في الشّرق منهما وأمم هذين الإقليمين وأناسيّهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره ومدنه كذلك والثّالث والرّابع وما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة والرّمال كذلك أو معدومة وأممها وأناسيّها تجوز الحدّ من الكثرة وأمصارها ومدنها تجاوز الحدّ عددا والعمران فيها مندرج ما بين الثّالث والسّادس والجنوب خلاء كلّه وقد ذكر كثير من الحكماء أنّ ذلك لإفراط الحرّ وقلّة ميل الشّمس فيها عن سمت الرّؤوس فلنوضح ذلك ببرهانه ويتبيّن منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثّالث والرّابع من جانب الشّمال إلى الخامس والسّابع. فنقول إنّ قطبي الفلك الجنوبيّ والشّماليّ إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدّوائر المارّة من المشرق إلى المغرب وتسمّى دائرة معدّل النّهار وقد تبيّن في موضعه من الهيئة أنّ الفلك الأعلى متحرّك من المشرق إلى المغرب حركة يوميّة يحرّك بها سائر الأفلاك في جوفه قهرا وهذه الحركة محسوسة وكذلك تبيّن أنّ للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق وتختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في(1/63)
السّرعة والبطء وممرّات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلّها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين وهي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجا وهي على ما تبيّن في موضعه مقاطعة لدائرة معدّل النّهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما أوّل الحمل وأوّل الميزان فتقسمها دائرة معدّل النّهار بنصفين نصف مائل عن معدّل النّهار إلى الشّمال وهو من أوّل الحمل إلى آخر السّنبلة ونصف مائل عنه إلى الجنوب وهو من أوّل الميزان إلى آخر الحوت وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خطّ واحد يسامت دائرة معدّل النّهار يمرّ من المغرب إلى المشرق ويسمّى خطّ الاستواء ووقع هذا الخطّ بالرّصد على ما زعموا في مبدإ الإقليم الأوّل من الأقاليم السّبعة والعمران كلّه في الجهة الشّماليّة يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتّدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع وستّين درجة وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السّابع وإذا ارتفع على الأفق تسعين درجة وهي الّتي بين القطب ودائرة معدّل النّهار على الأفق وبقيت ستّة من البروج فوق الأفق وهي الشّماليّة وستّة تحت الأفق وهي الجنوبيّة والعمارة فيما بين الأربعة والسّتين إلى التّسعين ممتنعة لأنّ الحرّ والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزّمان بينهما فلا يحصل التّكوين فإذا الشّمس تسامت الرّؤوس على خطّ الاستواء في رأس الحمل والميزان ثمّ تميل عن المسامتة إلى رأس السّرطان ورأس الجدي ويكون نهاية ميلها عن دائرة معدّل النّهار أربعا وعشرين درجة ثمّ إذا ارتفع القطب الشّماليّ عن الأفق مالت دائرة معدّل النّهار عن سمت الرّؤوس بمقدار ارتفاعه وانخفض القطب الجنوبيّ كذلك بمقدار متساو في الثّلاثة وهو المسمّى عند أهل المواقيت عرض البلد وإذا مالت دائرة معدّل النّهار عن سمت الرّؤوس علت عليها البروج الشّماليّة مندرجة في مقدار علوّها إلى رأس السّرطان وانخفضت البروج الجنوبيّة من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه فلا يزال الأفق الشّماليّ يرتفع حتّى يصير(1/64)
أبعد الشّماليّة وهو رأس السّرطان في سمت الرّؤوس وذلك حيث يكون عرض البلد أربعا وعشرين في الحجاز وما يليه وهذا هو الميل الّذي إذا مال رأس السّرطان عن معدّل النّهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشّماليّ حتّى صار مسامتا فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع وعشرين نزلت الشّمس عن المسامتة ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعا وستّين ويكون انخفاض الشّمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبيّ عن الأفق مثلها فينقطع التّكوين لإفراط البرد والجمد وطول زمانه غير ممتزج بالحرّ. ثمّ إنّ الشّمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعّة قائمة وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادّة وإذا كانت زوايا الأشعّة قائمة عظم الضّوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادّة فلهذا يكون الحرّ عند المسامتة وما يقرب منها أكثر منه فيما بعد لأنّ الضّوء سبب الحرّ والتّسخين.
ثمّ إنّ المسامتة في خطّ الاستواء تكون مرّتين في السّنة عند نقطتي الحمل والميزان وإذا مالت فغير بعيد ولا يكاد الحرّ يعتدل في آخر ميلها عند رأس السّرطان والجدي إلّا إن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعّة القائمة الزّوايا تلحّ على ذلك الأفق ويطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة ويفرط في شدّتها وكذا ما دامت الشّمس تسامت مرّتين فيما بعد خطّ الاستواء إلى عرض أربع وعشرين فإنّ الأشعّة ملحّة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خطّ الاستواء وإفراط الحرّ يفعل في الهواء تجفيفا ويبسا يمنع من التّكوين لأنّه إذا أفرط الحرّ جفّت المياه والرّطوبات وفسد التّكوين في المعدن والحيوان والنّبات إذ التّكوين لا يكون إلّا بالرّطوبة ثمّ إذا مال رأس السّرطان عن سمت الرّؤوس في عرض خمس وعشرين فما بعده نزلت الشّمس عن المسامتة فيصير الحرّ إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلا قليلا فيكون التّكوين ويتزايد على التّدريج إلى أن يفرط البرد في شدّته لقلّة الضّوء وكون الأشعّة منفرجة الزّوايا فينقص التّكوين ويفسد بيد أنّ(1/65)
فساد التّكوين من جهة شدّة الحرّ أعظم منه من جهة شدّة البرد لأنّ الحرّ أسرع تأثيرا في التّجفيف من تأثير البرد في الجمد فلذلك كان العمران في الإقليم الأوّل والثّاني قليلا وفي الثّالث والرّابع والخامس متوسّطا لاعتدال الحرّ بنقصان الضّوء وفي السّادس والسّابع كثيرا لنقصان الحرّ وأنّ كيفيّة البرد لا تؤثّر عند أوّلها في فساد التّكوين كما يفعل الحرّ إذ لا تجفيف فيها إلّا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السّابع فلهذا كان العمران في الرّبع الشّماليّ أكثر وأوفر والله أعلم. ومن هنا أخذ الحكماء خلاء خطّ الاستواء وما وراءه وأورد [1] عليهم أنّه معمور بالمشاهدة والأخبار المتواترة فكيف يتم البرهان على ذلك والظّاهر أنّهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلّيّة إنّما أدّاهم البرهان إلى أنّ فساد التّكوين فيه قويّ بإفراط الحرّ والعمران فيه إمّا ممتنع أو ممكن أقليّ وهو كذلك فإنّ خطّ الاستواء والّذي وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جدّا. وقد زعم ابن رشد أنّ خطّ الاستواء معتدل وأنّ ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشّمال فيعمر منه ما عمر من هذا والّذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التّكوين وإنّما امتنع فيما وراء خطّ الاستواء في الجنوب من جهة أنّ العنصر المائيّ غمر وجه الأرض هنالك إلى الحدّ الّذي كان مقابلة من الجهة الشّماليّة قابلا للتّكوين [2] ولمّا امتنع المعتدل لغيبة الماء تبعه ما سواه لأنّ العمران متدرّج ويأخذ في التّدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع وأمّا القول بامتناعه في خطّ الاستواء فيردّه النّقل المتواتر والله أعلم. ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيّا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثمّ نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى آخره.
__________
[1] أورد عليه الخبر: قصّه (قاموس) .
[2] جاء كشف اوستراليا وأميركا والقسم الواقع جنوب خط الاستواء من افريقيا مؤيدا لرأي ابن رشد.
ومبينا فساد ما كان يعتقد حينئذ من قلة، العمران جنوب خط الاستواء (عن طبعة لجنة البيان العربيّ) .(1/66)
تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا
اعلم أنّ الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدّم ذكره على سبعة أقسام من الشّمال إلى الجنوب يسمّون كلّ قسم منها إقليما فانقسم المعمور من الأرض كلّه على هذه السّبعة الأقاليم كلّ واحد منها آخذ من الغرب إلى الشّرق على طوله.
فالأوّل منها مار من المغرب إلى المشرق مع خطّ الاستواء بحدّه من جهة الجنوب وليس وراءه هنالك إلّا القفار والرّمال وبعض عمارة إن صحّت فهي كلا عمارة ويليه من جهة شماليّه الإقليم الثّاني ثمّ الثّالث كذلك ثمّ الرّابع والخامس والسّادس والسّابع وهو آخر العمران من جهة الشّمال وليس وراء السّابع إلّا الخلاء والقفار إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط كالحالّ فيما وراء الإقليم الأوّل في جهة الجنوب إلّا أنّ الخلاء في جهة الشّمال أقلّ بكثير من الخلاء الّذي في جهة الجنوب. ثمّ إنّ أزمنة اللّيل والنّهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشّمس عن دائرة معدّل النّهار وارتفاع القطب الشّماليّ عن آفاقها فيتفاوت قوس اللّيل والنّهار لذلك وينتهي طول اللّيل والنّهار في آخر الإقليم الأوّل وذلك عند حلول الشّمس برأس الجدي للّيل وبرأس السّرطان للنّهار كلّ واحد منهما إلى ثلاث عشرة ساعة وكذلك في آخر الإقليم الثّاني ممّا يلي الشّمال فينتهي طول النّهار فيه عند حلول الشّمس برأس السّرطان وهو منقلبها الصّيفيّ إلى ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة ومثله أطول اللّيل عند منقلبها الشّتويّ برأس الجدي ويبقى للأقصر من اللّيل والنّهار ما يبقى بعد الثّلاث عشرة ونصف من حملة أربع وعشرين السّاعات الزّمانيّة لمجموع اللّيل والنّهار وهي دورة الفلك الكاملة وكذلك في آخر الإقليم الثّالث ممّا يلي الشّمال أيضا ينتهيان إلى أربع عشرة ساعة وفي آخر الرّابع إلى أربع عشرة ساعة(1/67)
ونصف ساعة وفي آخر الخامس إلى خمس عشرة ساعة وفي آخر السّادس إلى خمس عشرة ساعة ونصف وإلى آخر السّابع إلى ستّ عشرة ساعة وهنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من ليلها ونهارها بنصف ساعة لكلّ إقليم يتزايد من أوّله في ناحية الجنوب إلى آخره في ناحية الشّمال موزّعة على أجزاء هذا البعد. وأمّا عرض البلدان في هذه الأقاليم وهو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد ودائرة معدّل النّهار الّذي هو سمت رأس خطّ الاستواء وبمثله سواء ينخفض القطب الجنوبيّ عن أفق ذلك البلد ويرتفع القطب الشّماليّ عنه وهو ثلاثة أبعاد متساوية تسمّى عرض البلد كما مرّ ذلك قبل. والمتكلّمون على هذه الجغرافيا قسموا كلّ واحد من هذه الأقاليم السّبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية ويذكرون ما اشتمل عليه كلّ جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها في المسالك ونحن الآن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير البلدان والأنهار والبحار في كلّ جزء منها ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب نزهة المشتاق الّذي ألّفه العلويّ الإدريسيّ الحمّوديّ لملك صقلّيّة من الإفرنج وهو زخّار بن زخّار [1] عند ما كان نازلا عليه بصقلّية بعد خروج صقلّيّة من إمارة مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السّادسة وجمع له كتبا جمّة للمسعوديّ وابن خرداذبه والحوقليّ والقدريّ وابن إسحاق المنجّم وبطليموس وغيرهم ونبدأ منها بالإقليم الأوّل إلى آخرها والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنّه وفضله.
الإقليم الأوّل،
وفيه من جهة غربيّه الجزائر الخالدات الّتي منها بدأ بطليموس بأخذ أطوال البلاد وليست في بسيط الإقليم وإنّما هي في البحر المحيط جزر متكثّرة أكبرها وأشهرها ثلاث ويقال إنّها معمورة وقد بلغنا أنّ سفائن من الإفرنج مرّت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا وباعوا بعض
__________
[1] روجار الثاني.(1/68)
أسراهم بسواحل المغرب الأقصى وصاروا إلى خدمة السّلطان فلمّا تعلّموا اللّسان العربيّ أخبروا عن حال جزائرهم وأنّهم يحتفرون الأرض للزّراعة بالقرون وأنّ الحديد مفقود بأرضهم وعيشهم من الشّعير وماشيتهم المعز وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف وعبادتهم السّجود للشّمس إذا طلعت ولا يعرفون دينا ولم تبلغهم دعوة ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلّا بالعثور لا بالقصد إليها لأنّ سفر السّفن في البحر إنّما هو بالرّياح ومعرفة جهات مهابّها وإلى أين يوصل إذا مرّت على الاستقامة من البلاد الّتي في ممرّ ذلك المهبّ وإذا اختلف المهبّ وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السّفينة بها على قوانين في ذلك محصّلة عند النّواتية [1] والملّاحين الّذين هم رؤساء السّفن في البحر والبلاد الّتي في حافات البحر الرّوميّ وفي عدوته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهابّ الرّياح وممرّاتها على اختلافها معها في تلك الصّحيفة ويسمّونها الكنباص وعليها يعتمدون في أسفارهم وهذا كلّه مفقود في البحر المحيط فلذلك لا تلج فيه السّفن لأنّها إن غابت عن مرأى السّواحل فقلّ أن تهتدي إلى الرّجوع إليها مع ما ينعقد في جوّ هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسّفن في مسيرها وهي لبعدها لا تدركها أضواء الشّمس المنعكسة من سطح الأرض فتحلّلها فلذلك عسر الاهتداء إليها وصعب الوقوف على خبرها. وأمّا الجزء الأوّل من هذا الإقليم ففيه مصبّ النّيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه ويسمّى نيل السّودان ويذهب إلى البحر المحيط فيصبّ فيه عند جزيرة أوليك وعلى هذا النّيل مدينة سلا وتكرور وغانة وكلّها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السّودان وإلى بلادهم تسافر تجّار المغرب الأقصى وبالقرب منها من شماليّها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثّمين ومفاوز يجولون فيها وفي جنوبيّ هذا النّيل قوم من السّودان يقال لهم
__________
[1] بالعامية: الملاحون.(1/69)
«لملم» وهم كفار ويكتوون في وجوههم وأصداغهم وأهل غانة والتّكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتّجّار فيجلبونهم إلى المغرب وكلّهم عامّة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلّا أناسيّ أقرب إلى الحيوان العجم من النّاطق يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيّأة وربّما يأكل بعضهم بعضا وليسوا في عداد البشر. وفواكه بلاد السّودان كلّها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان. فكان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويّين يعرفون ببني صالح وقال صاحب كتاب روجار إنّه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن وقد ذهبت هذه الدّولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان مالي وفي شرقيّ هذا البلد في الجزء الثّالث من الإقليم بلد (كوكو) على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك ويمرّ مغرّبا فيغوص في رمال الجزء الثّاني وكان ملك كوكو قائما بنفسه ثمّ استولى عليها سلطان مالي وأصبحت في مملكته وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلّها من تاريخ البربر وفي جنوبيّ بلد كوكو بلاد كاتم [1] من أمم السّودان وبعدهم ونغارة على ضفّة النّيل من شماليّه وفي شرقيّ بلاد ونغارة وكاتم بلاد زغاوة وتاجرة المتّصلة بأرض النّوبة في الجزء الرّابع من هذا الإقليم وفيه يمرّ نيل مصر ذاهبا من مبدئه عند خطّ الاستواء إلى البحر الرّوميّ في الشّمال ومخرج هذا النّيل من جبل القمر الّذي فوق خطّ الاستواء بستّ عشرة درجة واختلفوا في ضبط هذه اللّفظة فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السّماء لشدّة بياضه وكثرة ضوءه وفي كتاب المشترك لياقوت بضمّ القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند وكذا ضبطه ابن سعيد فيخرج من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كلّ خمسة منها في بحيرة وبينهما ستّة أميال ويخرج من كلّ واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلّها في بطيحة
__________
[1] كانم وليس كاتم: بكسر النون من بلاد البربر بأقصى الغرب في بلاد السودان وقيل كانم صنف من السودان. (معجم البلدان)(1/70)
واحدة في أسفلها جبل معترض يشقّ البحيرة من ناحية الشّمال وينقسم ماؤها بقسمين فيمرّ الغربيّ منه إلى بلاد السّودان مغرّبا حتّى يصبّ في البحر المحيط ويخرج الشّرقيّ منه ذاهبا إلى الشّمال على بلاد الحبشة والنّوبة وفيما بينهما وينقسم في أعلى أرض مصر فيصبّ ثلاثة من جداوله في البحر الرّوميّ عند الإسكندريّة ورشيد ودمياط ويصبّ واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتّصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأوّل وعلى هذا النّيل بلاد النّوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان وحاضرة بلاد النّوبة مدينة دنقلة وهي في غربيّ هذا النّيل وبعدها علوة وبلاق [1] وبعدهما جبل الجنادل على ستّة مراحل من بلاق في الشّمال وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النّوبة فينفذ فيه النّيل ويصبّ في مهوى بعيد صبّا هائلا فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظّهر إلى بلد أسوان قاعدة الصّعيد إلى فوق الجنادل وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة والواحات في غربيّها عدوة النّيل وهي الآن خراب وبها آثار العمارة القديمة. وفي وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خطّ الاستواء ذاهبا إلى أرض النّوبة فيصبّ هناك في النّيل الهابط إلى مصر وقد وهم فيه كثير من النّاس وزعموا أنّه من نيل القمر وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنّه ليس من هذا النّيل. وإلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس ينتهي بحر الهند الّذي يدخل من ناحية الصّين ويغمر عامّة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس فلا يبقى فيه عمران إلّا ما كان في الجزائر الّتي في داخله وهي متعدّدة يقال تنتهي إلى ألف جزيرة أو فيما على سواحله من جهة الشّمال وليس منها في هذا الإقليم الأوّل إلّا طرف من بلاد الصّين في جهة الشّرق وفي بلاد اليمن. وفي الجزء السّادس من هذا الإقليم فيما بين البحرين الهابطين من هذا البحر الهنديّ إلى جهة الشّمال وهما بحر قلزم
__________
[1] بلاق: هي- بولاق.(1/71)
وبحر فارس وفيما بينهما جزيرة العرب وتشتمل على بلاد اليمن وبلاد الشّحر [1] في شرقيّها على ساحل هذا البحر الهنديّ وعلى بلاد الحجاز واليمامة وما إليهما كما نذكره في الإقليم الثّاني وما بعده فأمّا الّذي على ساحل هذا البحر من غربيّه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة ومجالات البجّة [2] في شماليّ الحبشة ما بين جبل العلّاقيّ في أعالي الصّعيد وبين بحر القلزم الهابط من البحر الهنديّ وتحت بلاد زالع من جهة الشّمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهنديّ ممتدّا مع ساحل اليمن من الجنوب إلى الشّمال في طول اثني عشر ميلا فيضيق البحر بسبب ذلك إلى أن يصير في عرض ثلاثة أميال أو نحوها ويسمّى باب المندب وعليه تمرّ مراكب اليمن إلى ساحل السّويس قريبا من مصر وتحت باب المندب جزيرة سواكن ودهلك وقبالته من غربيه مجالات البجّة من أمم السّودان كما ذكرناه ومن شرقيّه في هذا الجزء تهائم اليمن ومنها على ساحله بلد عليّ بن يعقوب وفي جهة الجنوب من بلد زالع وعلى ساحل هذا البحر من غربيّه قرى بربر يتلو بعضها بعضا وينعطف من جنوبيّه إلى آخر الجزء السّادس ويليها هنالك من جهة شرقيّها بلاد الزّنج ثمّ بلاد سفالة من ساحله الجنوبيّ بلاد الوقواق متّصلة إلى آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط. وأمّا جزائر هذا البحر فكثيرة.
من أعظمها جزيرة سرنديب مدوّرة الشّكل. وبها الجبل المشهور يقال ليس في الأرض أعلى منه وهي قبالة سفالة. ثمّ جزيرة القمر وهي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة وتذهب إلى الشّرق منحرفة بكثير إلى أن تقرب من سواحل أعالي الصّين ويحتفّ بها في هذا البحر من جنوبيّها جزائر الوقواق ومن شرقيّها جزائر السّيلان إلى جزائر أخر في هذا البحر كثيرة العدد وفيها أنواع الطّيب
__________
[1] الشحر: ساحل اليمن وقيل الساحل ما بين عدن وعمان.
[2] ويقال أيضا البجاة واما زالع فهي زيلع: مجموعة قبائل تسكن ما بين النيل والبحر الأحمر.(1/72)
والأفاويه وفيها يقال معادن الذّهب والزّمرّد وعامّة أهلها على دين المجوسيّة وفيهم ملوك متعدّدون وبهذه الجزائر من أحوال العمران عجائب ذكرها أهل الجغرافيا وعلى الصّفّة الشّماليّة من هذا البحر في الجزء السّادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلّها فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد والمهجم وتهامة اليمن وبعدها بلد صعدة مقرّ الإمامة الزّيديّة وهي بعيدة عن البحر الجنوبيّ وعن البحر الشّرقيّ وفيما بعد ذلك مدينة عدن وفي شماليّها صنعاء وبعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف وظفّار وبعدها أرض حضرموت ثمّ بلاد الشّحر ما بين البحر الجنوبيّ وبحر فارس.
وهذه القطعة من الجزء السّادس هي الّتي انكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم الوسطى وينكشف بعدها قليل من الجزء التّاسع وأكثر منه من العاشر فيه أعالي بلاد الصّفين ومن مدنه الشّهيرة خانكو وقبالتها من جهة الشّرق جزائر السّيلان وقد تقدّم ذكرها وهذا آخر الكلام في الإقليم الأوّل والله سبحانه وتعالى وليّ التّوفيق بمنّه وفضله.
الإقليم الثّاني:
وهو متّصل بالأوّل من جهة الشّمال وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات الّتي مرّ ذكرها وفي الجزء الأوّل والثّاني منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية وبعدها في جهة الشّرق أعالي أرض غانة ثمّ مجالات زغاوة من السّودان وفي الجانب الأسفل منهما صحراء نستر متّصلة من الغرب إلى الشّرق ذات مفاوز تسلك فيها التّجّار ما بين بلاد المغرب وبلاد السّودان وفيها مجالات الملثّمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة ولمطة ووريكة وعلى سمت هذه المفاوز شرقا أرض فزّان ثمّ مجالات أزكار [1] من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالي الجزء الثّالث على سمتها في الشّرق وبعدها من هذا الجزء الثّالث وهي جهة الشّمال منه بقيّة أرض وذّان وعلى سمتها شرقا أرض سنتريّة وتسمّى الواحات الدّاخلة وفي الجزء الرّابع من أعلاه
__________
[1] وفي بعض النسخ ازكار.(1/73)
بقيّة أرض الباجويّين ثمّ يعترض في وسط هذا الجزء بلاد الصّعيد حافات النّيل الذّاهب من مبدئه في الإقليم الأوّل إلى مصبّه في البحر فيمرّ في هذا الجزء بين الجبلين الحاجزين وهما جبل الواحات من غربيّه وجبل المقطّم من شرقيّه وعليه من أعلاه بلد أسنا وأرمنت ويتّصل كذلك حافاته إلى أسيوط وقوص ثمّ إلى صول ويفترق النّيل هنالك على شعبين ينتهي الأيمن منهما في هذا الجزء عند اللّاهون والأيسر عند دلاص وفيما بينهما أعالي ديار مصر وفي الشّرق من جبل المقطّم صحارى عيذاب ذاهبة في الجزء الخامس إلى أن تنتهي إلى بحر السّويس وهو بحر القلزم الهابط من البحر الهنديّ في الجنوب إلى جهة الشّمال وفي عدوته الشّرقيّة من هذا الجزء أرض الحجاز من جبل يلملم إلى بلاد يثرب في وسط الحجاز مكّة شرّفها الله وفي ساحلها مدينة جدّة تقابل بلد عيذاب في العدوة الغربيّة من هذا البحر.
وفي الجزء السّادس من غربيّه بلاد نجد أعلاها في الجنوب وتبالة وجرش إلى عكاظ من الشّمال وتحت نجد من هذا الجزء بقيّة أرض الحجاز وعلى سمتها في الشّرق بلاد نجران وخيبر وتحتها أرض اليمامة وعلى سمت نجران في الشّرق أرض سبإ ومأرب ثمّ أرض الشّحر وينتهي إلى بحر فارس وهو البحر الثّاني الهابط من البحر الهنديّ إلى الشّمال كما مرّ ويذهب في هذا الجزء بانحراف إلى الغرب فيمرّ ما بين شرقيّه وجوفيه قطعة مثلّثة عليها من أعلاه مدينة قلهات وهي ساحل الشّحر ثمّ تحتها على ساحله بلاد عمان. ثمّ بلاد البحرين وهجر منها في آخر الجزء وفي الجزء السّابع في الأعلى من غربيّه قطعة من بحر فارس تتّصل بالقطعة الأخرى في السّادس ويغمر بحر الهند جانبه الأعلى كلّه وعليه هنالك بلاد السّند إلى بلاد مكران ويقابلها بلاد الطّوبران وهي من السّند أيضا فيتّصل السّند كلّه في الجانب الغربيّ من هذا الجزء وتحول المفاوز بينه وبين أرض الهند ويمرّ فيه نهره الآتي من ناحية بلاد الهند ويصبّ في البحر الهنديّ في الجنوب وأوّل بلاد الهند على ساحل البحر الهنديّ وفي سمتها شرقا بلاد بلهرا وتحتها الملتان بلاد الصنم(1/74)
المعظّم عندهم، ثمّ إلى أسفل من السّند، ثمّ إلى أعالي بلاد سجستان. وفي الجزء الثّامن من غربيّه بقيّة بلاد بلهرا من الهند، وعلى سمتها شرقا بلاد القندهار، ثمّ بلاد منيبار وفي الجانب الأعلى على ساحل البحر الهنديّ وتحتها في الجانب الأسفل أرض كابل وبعدها شرقا إلى البحر المحيط بلاد القنوج ما بين قشمير الدّاخلة وقشمير الخارجة عند آخر الإقليم وفي الجزء التّاسع ثمّ في الجانب الغربيّ منه بلاد الهند الأقصى ويتّصل فيه إلى الجانب الشّرقيّ فيتّصل من أعلاه إلى العاشر وتبقى في أسفل ذلك الجانب قطعة من بلاد الصّين فيها مدينة شيغون ثمّ تتّصل بلاد الصّين في الجزء العاشر كله إلى البحر المحيط والله ورسوله أعلم وبه سبحانه التّوفيق وهو وليّ الفضل والكرم.
الإقليم الثّالث:
وهو متّصل بالثّاني من جهة الشّمال ففي الجزء الأوّل منه وعلى نحو الثّلث من أعلاه جبل درن معترض فيه من غربيّه عند البحر المحيط إلى الشّرق عند آخره ويسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلّا خالقهم حسبما يأتي ذكره وفي القطعة الّتي بين هذا الجبل والإقليم الثّاني وعلى البحر المحيط منها رباط ماسة ويتّصل به شرقا بلاد سوس ونول وعلى سمتها شرقا بلاد درعة ثمّ بلاد سجلماسة ثمّ قطعة من صحراء نستر المفازة الّتي ذكرناها في الإقليم الثّاني وهذا الجبل مطلّ على هذه البلاد كلّها في هذا الجزء وهو قليل الثّنايا والمسالك في هذه النّاحية الغربيّة إلى أن يسامت وادي ملويّة فتكثر ثناياه ومسالكه إلى أن ينتهي وفي هذه النّاحية منه أمم المصامدة ثمّ هنتاتة ثمّ تين ملّل ثمّ كدميوه ثمّ مشكورة وهم آخر المصامدة فيه ثمّ قبائل صنهاكة وهم صنهاجة وفي آخر هذا الجزء منه بعض قبائل زناتة ويتّصل به هنالك من جوفيه جبل أوراس وهو جبل كتامة وبعد ذلك أمم أخرى من البرابرة نذكرهم في أماكنهم. ثمّ إنّ جبل درن هذا من جهة غربيّه مطلّ على بلاد المغرب الأقصى وهي في جوفيه ففي(1/75)
النّاحية الجنوبيّة منها بلاد مراكش وأغمات وتادلّا [1] وعلى البحر المحيط منها رباط أسفى ومدينة سلا وفي الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس ومكناسة وتازا وقصر كتامة وهذه هي الّتي تسمّى المغرب الأقصى في عرف أهلها وعلى ساحل البحر المحيط منها بلدان أصيلا والعرايش وفي سمت هذه البلاد شرقا بلاد المغرب الأوسط وقاعدتها تلمسان وفي سواحلها على البحر الرّوميّ بلد هنين ووهران والجزائر لأنّ هذا البحر الرّوميّ يخرج من البحر المحيط من خليج طنجة في النّاحية الغربيّة من الإقليم الرّابع ويذهب مشرّقا فينتهي إلى بلاد الشّام فإذا خرج من الخليج المتضايق غير بعيد انفسح جنوبا وشمالا فدخل في الإقليم الثّالث والخامس فلهذا كان على ساحله من هذا الإقليم الثّالث الكثير من بلاده ثمّ يتّصل ببلاد الجزائر من شرقيّها بلاد بجاية في ساحل البحر ثمّ قسطنطينيّة في الشّرق منها وفي آخر الجزء الأوّل وعلى مرحلة من هذا البحر في جنوبيّ هذه البلاد ومرتفعا إلى جنوب المغرب الأوسط بلد أشير ثمّ بلد المسيلة ثمّ الزّاب وقاعدته بسكرة تحت جبل أوراس المتّصل بدرن كما مرّ وذلك عند آخر هذا الجزء من جهة الشّرق والجزء الثّاني من هذا الإقليم على هيئة الجزء الأوّل ثمّ جبل درن على نحو الثّلث من جنوبه ذاهبا فيه من غرب إلى شرق فيقسمه بقطعتين ويغمر البحر الرّوميّ مسافة من شماله فالقطعة الجنوبيّة عن جبل درن غربيّها كلّه مفاوز وفي الشّرق منها بلد عذامس وفي سمتها شرقا أرض ودّان الّتي بقيّتها في الإقليم الثّاني كما مرّ والقطعة الجوفيّة عن جبل درن ما بينه وبين البحر الرّوميّ في الغرب منها جبل أوراس وتبسة والأوبس وعلى ساحل البحر بلد بونة ثمّ في سمت هذه البلاد شرقا بلاد إفريقية فعلى ساحل البحر مدينة تونس ثمّ السّوسة ثمّ المهديّة وفي جنوب هذه البلاد تحت جبل درن بلاد الجريد توزر وقفصة ونفزاوة وفيما بينها وبين السواحل مدينة القيروان وجبل وسلات وسبيطلة وعلى سمت هذه البلاد
__________
[1] كذا في جميع النسخ وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجمه تادلة.(1/76)
كلّها شرقا بلد طرابلس على البحر الرّوميّ وبإزائها في الجنوب جبل دمّر ونقرة من قبائل هوارة متّصلة بجبل درن وفي مقابلة غذامس الّتي مرّ ذكرها في آخر القطعة الجنوبيّة وآخر هذا الجزء في الشّرق سويقة ابن مشكورة على البحر وفي جنوبها مجالات العرب في أرض ودّان وفي الجزء الثّالث من هذا الإقليم يمرّ أيضا فيه جبل درن إلّا أنّه ينعطف عند آخره إلى الشّمال ويذهب على سمته إلى أن يدخل في البحر الرّوميّ ويسمّى هنالك طرف أوثان والبحر الرّوميّ من شماليّه يغمر طائفة منه إلى أن يضايق ما بينه وبين جبل درن فالّذي وراء الجبل في الجنوب وفي الغرب منه بقيّة أرض ودّان. ومجالات العرب فيها ثمّ زويلة ابن خطّاب ثمّ رمال وقفار إلى آخر الجزء في الشّرق وفيما بين الجبل والبحر في الغرب منه بلد سرت على البحر ثمّ خلاء وقفار تجول فيها العرب ثمّ أجدابيّة ثمّ برقة عند منعطف الجبل ثمّ طلمسة على البحر هنالك ثمّ في شرق المنعطف من الجبل مجالات هيب ورواحة إلى آخر الجزء وفي الجزء الرّابع من هذا الإقليم وفي الأعلى من غربيّه صحارى برقيق وأسفل منها بلاد هيب ورواحة ثمّ يدخل البحر الرّوميّ في هذا الجزء فيغمر طائفة منه إلى الجنوب حتّى يزاحم طرفه الأعلى ويبقى بينه وبين آخر الجزء قفار تجول فيها العرب وعلى سمتها شرقا بلاد الفيّوم وهي على مصبّ أحدّ الشّعبين من النّيل [1] الّذي يمرّ على اللّاهون من بلاد الصّعيد في الجزء الرّابع من الإقليم الثّاني ويصبّ في بحيرة فيّوم [2] وعلى سمته شرقا أرض مصر ومدينتها الشّهيرة على الشّعب الثّاني الّذي يمرّ بدلاص من بلاد الصّعيد عند آخر الجزء الثّاني ويفترق هذا الشّعب افتراقة ثانية من تحت مصر على شعبين آخرين من شطنوف وزفتي وينقسم الأيمن منهما من قرمط بشعبين آخرين ويصبّ
__________
[1] يقصد به بحر يوسف الّذي يأخذ مياهه من ترعة الإبراهيمية عند ديروط. ويمر بمديريات أسيوط والمنيا وبني سويف والفيوم (عن نسخة لجنة البيان العربيّ) .
[2] يقصد بها بحيرة قارون. وهي المشهورة في التاريخ باسم «بحيرة موريس» (عن نسخة لجنة البيان العربيّ) .(1/77)
جميعها في البحر الرّوميّ فعلى مصبّ الغربيّ من هذا الشّعب بلد الإسكندريّة وعلى مصبّ الوسط بلد رشيد وعلى مصبّ الشّرقيّ بلد دمياط وبين مصر والقاهرة وبين هذه السّواحل البحريّة أسافل الدّيار المصريّة كلّها محشوّة عمرانا وفلجا [1] وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم بلاد الشّام وأكثرها على ما أصف وذلك لأنّ بحر القلزم ينتهي من الجنوب وفي الغرب منه عند السّويس لأنّه في ممرّه مبتدئ من البحر الهنديّ إلى الشّمال ينعطف آخذا إلى جهة الغرب فتكون قطعة من انعطافه في الجزء طويلة فينتهي في الطّرف الغربيّ منه إلى السّويس وعلى هذه القطعة بعد السّويس فاران ثمّ جبل الطّور ثمّ أيلة مدين ثمّ الحوراء في آخرها ومن هنالك ينعطف بساحله إلى الجنوب في أرض الحجاز كما مرّ في الإقليم الثّاني في الجزء الخامس منه وفي النّاحية الشّماليّة من هذا الجزء قطعة من البحر الرّوميّ غمرت كثيرا من غربيّه عليها الفرما والعريش وقارب طرفها بلد القلزم فيضايق ما بينهما من هنالك وبقي شبه الباب مفضيا إلى أرض الشّام وفي غربيّ هذا الباب فحص التّيه أرض جرداء لا تنبت كانت مجالا لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وقبل دخولهم إلى الشّام أربعين سنة كما قصّه القرآن وفي هذه القطعة من البحر الرّوميّ في هذا الجزء طائفة من جزيرة قبرص وبقيّتها في الإقليم الرّابع كما نذكره وعلى ساحل هذه القطعة عند الطّرف المتضايق لبحر السّويس بلد العريش وهو آخر الدّيار المصريّة وعسقلان وبينهما طرف هذا البحر ثمّ تنحطّ هذه القطعة في انعطافها من هنالك إلى الإقليم الرّابع عند طرابلس وغزّة وهنالك ينتهي البحر الرّوميّ في جهة الشّرق وعلى هذه القطعة أكثر سواحل الشّام ففي شرقه غزّة ثمّ عسقلان وبانحراف يسير عنها إلى الشّمال بلد قيساريّة ثمّ كذلك بلد عكّا ثمّ صور ثمّ صيداء ثمّ ينعطف البحر إلى الشّمال في الإقليم الرّابع ويقابل هذه البلاد السّاحليّة من هذه القطعة في هذا الجزء جبل عظيم يخرج من ساحل أيلة من بحر
__________
[1] وفي بعض النسخ خلجا: جمع خليج. والفلج الشق في الأرض الزراعة (قاموس) .(1/78)
القلزم ويذهب في ناحية الشّمال منحرفا إلى الشّرق إلى أن يجاوز هذا الجزء ويسمّى جبل اللّكام وكأنّه حاجز بين أرض مصر والشّام ففي طرفه عند أيلة العقبة الّتي يمرّ عليها الحجّاج من مصر إلى مكّة ثمّ بعدها في ناحية الشّمال مدفن الخليل عليه الصّلاة والسّلام عند جبل السّراة يتّصل من عند جبل اللّكام المذكور من شمال العقبة ذاهبا على سمت الشّرق ثمّ ينعطف قليلا وفي شرقه هنالك بلد الحجر وديار ثمود وتيماء ودومة الجندل وهي أسافل الحجاز وفوقها جبل رضوى وحصون خيبر في جهة الجنوب عنها وفيما بين جبل السّراة وبحر القلزم صحراء تبوك وفي شمال جبل السّراة مدينة القدس عند جبل اللّكام ثمّ الأردنّ ثمّ طبريّة وفي شرقيّها بلاد الغور إلى أذرعات وفي سمتها دومة الجندل آخر هذا الجزء وهي آخر الحجاز. وعند منعطف جبل اللّكام إلى الشّمال من آخر هذا الجزء مدينة دمشق مقابلة صيدا وبيروت من القطعة البحريّة وجبل اللّكام يعترض بينها وبينها وعلى سمت دمشق في الشّرق مدينة بعلبكّ ثمّ مدينة حمص في الجهة الشّماليّة آخر الجزء عند منقطع جبل اللّكام وفي الشّرق عن بعلبكّ وحمص بلد تدمر ومجالات البادية إلى آخر الجزء وفي الجزء السّادس من أعلاه مجالات الأعراب تحت بلاد نجد واليمامة ما بين جبل العرج والصّمّان إلى البحرين وهجر على بحر فارس وفي أسافل هذا الجزء تحت المجالات بلد الحيرة والقادسيّة ومغايض الفرات. وفيما بعدها شرقا مدينة البصرة وفي هذا الجزء ينتهي بحر فارس عند عبّادان والأبلّة من أسافل الجزء من شماله ويصبّ فيه عند عبّادان نهر دجلة بعد أن ينقسم بجداول كثيرة وتختلط به جداول أخرى من الفرات ثمّ تجتمع كلها عند عبّادان وتصبّ في بحر فارس وهذه القطعة من البحر متّسعة في أعلاه متضايقة في آخره في شرقيّه وضيّقة عند منتهاه مضايقة للحدّ الشّماليّ منه وعلى عدوتها الغربيّة منه أسافل البحرين وهجر والإحساء وفي غربها أخطب والصّمّان وبقيّة أرض اليمامة وعلى عدوته الشّرقيّة سواحل فارس من أعلاها وهو من عند آخر الجزء من الشّرق(1/79)
على طرف قد امتدّ من هذا البحر مشرّقا ووراءه إلى الجنوب في هذا الجزء جبال القفص من كرمان وتحت هرمز على الساحل بلد سيراف ونجيرم على ساحل هذا البحر وفي شرقيّه إلى آخر هذا الجزء وتحت هرمز بلاد فارس مثل سابور وداربجرد ونسا وإصطخر والشّاهجان وشيراز وهي قاعدتها كلّها وتحت بلاد فارس إلى الشّمال عند طرف البحر بلاد خوزستان ومنها الأهواز وتستر وصدى وسابور والسّوس ورامهرمز وغيرها وأرّجان وهي حدّ ما بين فارس وخوزستان وفي شرقيّ بلاد خوزستان جبال الأكراد متّصلة إلى نواحي أصبهان وبها مساكنهم ومجالاتهم وراءها في أرض فارس وتسمّى الرّسوم. وفي الجزء السّابع في الأعلى منه من المغرب بقيّة جبال القفص ويليها من الجنوب والشّمال بلاد كرمان ومكران ومن مدنها الرّودان والشّيرجان [1] وجيرفت ويزدشير والبهرج وتحت أرض كرمان إلى الشّمال بقيّة بلاد فارس إلى حدود أصبهان ومدينة أصبهان [2] في طرف هذا الجزء ما بين غربة وشماله ثمّ في المشرق عن بلاد كرمان وبلاد فارس أرض سجستان وكوهستان [3] في الجنوب وأرض كوهستان في الشّمال عنها ويتوسّط بين كرمان وفارس وبين سجستان وكوهستان وفي وسط هذا الجزء المفاوز العظمى القليلة المسالك لصعوبتها ومن مدن سجستان بست والطّاق وأمّا كوهستان فهي من بلاد خراسان ومن مشاهير بلادها سرخس وقوهستان آخر الجزء. وفي الجزء الثّامن من غربة وجنوبه مجالات الحلج من أمم التّرك متّصلة بأرض سجستان من غربها وبأرض كابل الهند من جنوبها. وفي الشّمال عن هذه المجالات جبال الغور وبلادها وقاعدتها غزنة فرضة الهند وفي آخر الغور من الشّمال بلاد أستراباذ ثمّ في الشّمال غربا إلى آخر الجزء بلاد هراة أوسط خراسان وبها أسفراين وقاشان وبوشنج ومروالرّوذ والطّالقان والجوزجان وتنتهي خراسان هنالك إلى نهر
__________
[1] لم نعثر على شيرجان في معجم البلدان ولكن وجدنا سيرجان ونعتقد أنها المقصودة.
[2] هي مدينة أصفهان اليوم.
[3] ذكرها ياقوت الحموي في معجمه «قوهستان» .(1/80)
جيحون. وعلى هذا النّهر من بلاد خراسان من غربيّه مدينة بلخ وفي شرقيّه مدينة ترمذ ومدينة بلخ كانت كرسيّ مملكة التّرك وهذا النّهر نهر جيحون مخرجه من بلاد وجّار في حدود بذخشان ممّا يلي الهند ويخرج من جنوب هذا الجزء وعند آخره من الشّرق فينعطف عن قرب مغرّبا إلى وسط الجزء ويسمّى هنالك نهر خرناب ثمّ ينعطف إلى الشّمال حتّى يمرّ بخراسان ويذهب على سمته إلى أن يصبّ في بحيرة خوارزم في الإقليم الخامس كما نذكره ويمدّه عند انعطافه في وسط الجزء من الجنوب إلى الشّمال خمسة أنهار عظيمة من بلاد الختل والوخش من شرقيّه وأنهار أخرى من جبال البتم من شرقيّه أيضا وجوفي الجبل حتّى يتّسع ويعظم بما لا كفاء [1] له ومن هذه الأنهار الخمسة الممدّة له نهر وخشاب يخرج من بلاد التّبت وهي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء فيمرّ مغرّبا بانحراف إلى الشّمال إلى أن يخرج إلى الجزء التّاسع قريبا من شمال هذا الجزء يعترضه في طريقه جبل عظيم يمرّ من وسط الجنوب في هذا الجزء ويذهب مشرّقا بانحراف إلى الشّمال إلى أن يخرج إلى الجزء التّاسع قريبا من شمال هذا الجزء فيجوز بلاد التّبت إلى القطعة الشرقيّة الجنوبيّة من هذا الجزء ويحول بين التّرك وبين بلاد الختل وليس فيه إلّا مسلك واحد في وسط الشّرق من هذا الجزء جعل فيه الفضل بن يحيى سدّا وبنى فيه بابا كسدّ يأجوج ومأجوج فإذا خرج نهر وخشاب من بلاد التّبت واعترضه هذا الجبل فيمرّ تحته في مدى بعيد إلى أن يمرّ في بلاد الوخش ويصبّ في نهر جيحون عند حدود بلخ ثمّ يمرّها بطا إلى التّرمذ في الشّمال إلى بلاد الجوزجان وفي الشّرق عن بلاد الغور فيما بينها وبين نهر جيحون بلاد النّاسان من خراسان وفي العدوة الشّرقيّة هنالك من النّهر بلاد الختل وأكثرها جبال وبلاد الوخش ويحدّها من جهة الشّمال جبال البتم تخرج من طرف خراسان غربيّ نهر جيحون وتذهب مشرّقة إلى أن يتّصل طرفها بالجبل العظيم الّذي خلفه بلاد التّبت ويمرّ تحته نهر وخشاب كما قلناه فيتّصل
__________
[1] بمعنى لا مثيل له.(1/81)
عند باب الفضل بن يحيى ويمرّ نهر جيحون بين هذه الجبال وأنهار أخرى تصبّ فيه منها نهر بلاد الوخش يصبّ فيه من الشّرق تحت التّرمذ إلى جهة الشّمال ونهر بلخ يخرج من جبال البتم مبدئه عند الجوزجان ويصبّ فيه من غربيّه وعلى هذا النّهر من غربيّه بلاد آمد من خراسان وفي شرقيّ النّهر من هنالك أرض الصّغد وأسر وشنّة من بلاد التّرك وفي شرقها أرض فرغانة أيضا إلى آخر الجزء شرقا وكلّ بلاد التّرك تحوزها جبال البتم إلى شمالها وفي الجزء التّاسع من غربة أرض التّبت إلى وسط الجزء وفي جنوبيّها بلاد الهند وفي شرقيّها بلاد الصّين إلى آخر الجزء وفي أسفل هذا الجزء شمالا عن بلاد التّبت بلاد الخزلجيّة من بلاد التّرك إلى آخر الجزء شرقا وشمالا ويتّصل بها من غربيّها أرض فرغانة أيضا إلى آخر الجزء شرقا ومن شرقيّها أرض التّغرغر من التّرك إلى الجزء شرقا وشمالا. وفي الجزء العاشر في الجنوب منه جميعا بقيّة الصّين وأسافله وفي الشّمال بقيّة بلاد التّغرغر ثمّ شرقا عنهم بلاد خرخير من التّرك أيضا إلى آخر الجزء شرقا وفي الشّمال من أرض خرخير بلاد كتمان من التّرك وقبالتها في البحر المحيط جزيرة الياقوت في وسط جبل مستدير لا منفذ منه إليها ولا مسلك والصّعود إلى أعلاه من خارجة صعب في الغاية وفي الجزيرة حيّات قتّالة وحصى من الياقوت كثيرة فيحتال أهل تلك النّاحية بما يلهمهم الله إليه وأهل هذه البلاد في هذا الجزء التّاسع والعاشر فيما وراء خراسان والجبال كلّها مجالات للتّرك أمم لا تحصى وهم ظواعن رحّالة أهل إبل وشاء وبقر وخيل للنّتاج والرّكوب والأكل وطوائفهم كثيرة لا يحصيهم إلّا خالقهم وفيهم مسلمون ممّا يلي بلاد النّهر نهر جيحون ويغزون الكفّار منهم الدّائنين [1] بالمجوسيّة فيبيعون رقيقهم لمن يليهم ويخرجون إلى بلاد خراسان والهند والعراق
الإقليم الرّابع:
يتّصل بالثّالث من جهة الشّمال. والجزء الأوّل منه في غربيّه
__________
[1] الذين يدينون بالمجوسية.(1/82)
قطعة من البحر المحيط مستطيلة من أوّله جنوبا إلى آخره شمالا وعليها في الجنوب مدينة طنجة ومن هذه القطعة تحت طنجة من البحر المحيط إلى البحر الرّوميّ في خليج متضايق بمقدار اثني عشر ميلا ما بين طريف والجزيرة الخضراء شمالا وقصر المجاز وسبتة جنوبا ويذهب مشرّقا إلى أن ينتهي إلى وسط الجزء الخامس من هذا الإقليم وينفسح في ذهابه بتدريج إلى أن يغمر الأربعة الأجزاء وأكثر الخامس من هذا الإقليم الثّالث والخامس كما سنذكره ويسمّى هذا البحر البحر الشّاميّ أيضا وفيه جزائر كثيرة أعظمها في جهة الغرب يابسة ثمّ مايرقة ثمّ منرقة ثمّ سردانيّة ثمّ صقلّيّة وهي أعظمها ثمّ بلونس ثمّ أقريطش ثمّ قبرص كما نذكرها كلّها في أجزائها الّتي وقعت فيها ويخرج من هذا البحر الرّوميّ عند آخر الجزء الثّالث منه وفي الجزء الثّالث من الإقليم الخامس خليج البنادقة يذهب إلى ناحية الشّمال ثمّ ينعطف عند وسط الجزء من جوفه ويمرّ مغرّبا إلى أن ينتهي في الجزء الثّاني من الخامس ويخرج منه أيضا في آخر الجزء الرّابع شرقا من الإقليم الخامس خليج القسطنطينيّة يمرّ في الشّمال متضايقا في عرض رمية السّهم إلى آخر الإقليم ثمّ يفضي إلى الجزء الرّابع من الإقليم السّادس وينعطف إلى بحر نيطش ذاهبا إلى الشّرق في الجزء الخامس كلّه ونصف السّادس من الإقليم السّادس كما نذكر ذلك في أماكنه وعند ما يخرج هذا البحر الرّوميّ من البحر المحيط في خليج طنجة وينفسح إلى الإقليم الثّالث. يبقى في الجنوب عن الخليج قطعة صغيرة من هذا الجزء فيها مدينة طنجة على مجمع البحرين وبعدها مدينة سبتة على البحر الرّوميّ ثمّ قطاون ثمّ باديس ثمّ يغمر هذا البحر بقيّة هذا الجزء شرقا ويخرج إلى الثّالث وأكثر العمارة في هذا الجزء في شماله وشمال الخليج منه وهي كلّها بلاد الأندلس الغربيّة منها ما بين البحر المحيط والبحر الرّوميّ أوّلها طريف عند مجمع البحرين وفي الشّرق منها على ساحل البحر الرّوميّ الجزيرة الخضراء ثمّ مالقة ثمّ المنقب [1] ثمّ المرية وتحت هذه من لدن البحر المحيط غربا
__________
[1] وفي بعض النسخ المنكب.(1/83)
وعلى مقربة منه شريش ثمّ لبلة وقبالتها فيه جزيرة قادس وفي الشّرق عن شريش ولبلة إشبيليّة ثمّ أستجة وقرطبة ومديلة ثمّ غرناطة وجيّان وأبّدة ثمّ وادياش وبسطة وتحت هذه شنت مريّة وشلب على البحر المحيط غربا وفي الشّرق عنهما بطليوس وماردة ويابرة ثمّ غافق وبزجالة ثمّ قلعة رياح وتحت هذه أشبونة على البحر المحيط غربا وعلى نهر باجة وفي الشّرق عنها شنترين وموزيّة على النّهر المذكور ثمّ قنطرة السّيف ويسامت اشبونة من جهة الشّرق جبل الشّارات يبدأ من المغرب هنالك ويذهب مشرّقا مع آخر الجزء من شماليّه فينتهي إلى مدينة سالم فيما بعد النّصف منه وتحت هذا الجبل طلبيرة في الشّرق من فورنة ثمّ طليطلة ثمّ وادي الحجارة ثمّ مدينة سالم وعند أوّل هذا الجبل فيما بينه وبين أشبونة بلد قلمريّة وهذه غربيّ الأندلس. وأمّا شرقيّ الأندلس فعلى ساحل البحر الرّوميّ منها بعد المرية قرطاجنّة ثمّ لفتة ثمّ دانية ثمّ بلنسية إلى طرطوشة آخر الجزء في الشّرق، وتحتها شمالا ليورقة وشقّورة تتاخمان بسطة وقلعة رياح من غرب الأندلس ثمّ مرسية شرقا ثمّ شاطبة تحت بلنسية شمالا ثمّ شقر ثمّ طرطوشة ثمّ طركونة آخر الجزء ثمّ تحت هذه شمالا أرض منجالة وريدة متاخمان لشقّورة وطليطلة من الغرب ثمّ أفراغة شرقا تحت طرطوشة وشمالا عنها ثمّ في الشّرق عن مدينة سالم قلعة أيّوب ثمّ سرقسطة ثمّ لاردة [1] آخر الجزء شرقا وشمالا. والجزء الثّاني من هذا الإقليم غمر الماء جميعه إلّا قطعة من غربيّه في الشّمال فيها بقيّة جبل البرنات ومعناه جبل الثّنايا والسّالك يخرج إليه من آخر الجزء الأوّل من الإقليم الخامس يبدأ من الطّرف المنتهي من البحر المحيط عند آخر ذلك الجزء جنوبا وشرقا ويمرّ في الجنوب بانحراف إلى الشّرق فيخرج في هذا الإقليم الرّابع منحرفا عن الجزء الأوّل منه إلى هذا الجزء الثّاني فيقع فيه قطعة منه تفضي ثناياها إلى البرّ المتّصل وتسمّى أرض غشكونيّة وفيه مدينة خريدة وقرقشونة وعلى ساحل البحر الرّوميّ من هذه القطعة مدينة برشلونة ثمّ أربونة وفي هذا البحر الّذي غمر
__________
[1] هكذا في معجم البلدان وفي نسخة لجنة البيان العربيّ لارادة وهو تحريف.(1/84)
الجزء جزائر كثيرة والكثير منها غير مسكون لصغرها ففي غربيّه جزيرة سردانيّة [1] وفي شرقيّه جزيرة صقلّيّة متّسعة الأقطار يقال إنّ دورها سبعمائة ميل وبها مدن كثيرة من مشاهيرها سرقوسة وبلرم وطرابغة ومازر ومسيني وهذه الجزيرة تقابل أرض إفريقية وفيما بينهما جزيرة أعدوش ومالطة. والجزء الثّالث من هذا الإقليم مغمور أيضا بالبحر إلّا ثلاث قطع من ناحية الشّمال الغربيّة منها أرض قلوريّة والوسطى من أرض أبكيردة والشّرقيّة من بلاد البنادقة.
والجزء الرّابع من هذا الإقليم مغمور أيضا بالبحر كما مرّ وجزائره كثيرة وأكثرها غير مسكون كما في الثّالث والمغمور منها جزيرة بلونس في النّاحية الغربيّة الشّماليّة وجزيرة أقريطش مستطيلة من وسط الجزء إلى ما بين الجنوب والشرق منه. والجزء الخامس من هذا الإقليم غمر البحر منه مثلّثة كبيرة بين الجنوب والغرب ينتهي الضّلع الغربيّ منها إلى آخر الجزء في الشّمال وينتهي الضّلع الجنوبيّ منها إلى نحو الثّلثين من الجزء ويبقى في الجانب الشّرقيّ من الجزء قطعة نحو الثّلث يمرّ الشّمالي منها إلى الغرب منعطفا مع البحر كما قلناه وفي النّصف الجنوبيّ منها أسافل الشّام ويمرّ في وسطها جبل اللّكام إلى أن ينتهي إلى آخر الشّام في الشّمال فينعطف من هنالك ذاهبا إلى القطر الشّرقيّ الشّماليّ ويسمّى بعد انعطافه جبل السّلسلة ومن هنالك يخرج إلى الإقليم الخامس ويجوز من عند منعطفه قطعة من بلاد الجزيرة إلى جهة الشّرق ويقوم من عند منعطفه من جهة المغرب جبال متّصلة بعضها ببعض إلى أن ينتهي إلى طرف خارج من البحر الرّوميّ متأخّر إلى آخر الجزء من الشّمال وبين هذه الجبال ثنايا تسمّى الدّروب وهي الّتي تفضي إلى بلاد الأرمن وفي هذا الجزء قطعة منها بين هذه الجبال وبين جبل السّلسلة فأمّا الجهة الجنوبيّة الّتي قدّمنا أنّ فيها أسافل الشّام وأنّ جبل اللّكام معترض فيها بين البحر الرّوميّ وآخر الجزء من الجنوب إلى الشّمال فعلى ساحل
__________
[1] أي سردينية.(1/85)
البحر بلد أنطرطوس [1] في أوّل الجزء من الجنوب متاخمة لغزّة وطرابلس على ساحله من الإقليم الثّالث وفي شمال أنطرطوس جبلة ثمّ اللّاذقيّة ثمّ إسكندرونة ثمّ سلوقيّة وبعدها شمالا بلاد الرّوم وأمّا جبل اللّكام المعترض بين البحر وآخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشّام من أعلى الجزء جنوبا من غربيّه حصن الحواني وهو للحشيشة [2] الإسماعيليّة ويعرفون لهذا العهد بالفداويّة ويسمّى مصيات [3] وهو قبالة أنطرطوس وقبالة هذا الحصن في شرق الجبل بلد سلميّة [4] في الشّمال عن حمص وفي الشّمال وفي مصيات بين الجبل والبحر بلد أنطاكية ويقابلها في شرق الجبل المعرّة وفي شرقها المراغة وفي شمال أنطاكية المصيصة ثمّ أذنة ثمّ طرسوس آخر الشّام ويحاذيها من غرب الجبل قنّسرين ثمّ عين زربة [5] وقبالة قنّسرين في شرق الجبل حلب ويقابل عين زربة منبج آخر الشّام. وأمّا الذروب فعن يمينها ما بينها وبين البحر الرّوميّ بلاد الرّوم الّتي هي لهذا العهد للتّركمان وسلطانها ابن عثمان وفي ساحل البحر منها بلد أنطاكية والعلايا. وأمّا بلاد الأرمن الّتي بين جبل الدّروب وجبل السّلسلة ففيها بلد مرعش وملطية والمعرّة إلى آخر الجزء الشّماليّ ويخرج من الجزء الخامس في بلاد الأرمن نهر جيحان ونهر سيحان في شرقيّه فيمرّ بها جيحان جنوبا حتّى يتجاوز الدّروب ثمّ يمرّ بطرسوس ثمّ بالمصيصة ثمّ ينعطف هابطا إلى الشّمال ومغرّبا حتّى يصبّ في البحر الرّوميّ جنوب سلوقيّة ويمرّ نهر سيحان موازيا لنهر جيحان فيحاذي المعرّة ومرعش ويتجاوز جبال الدّروب إلى أرض الشّام ثمّ يمرّ بعين زربة ويحوز عن نهر جيحان ثمّ ينعطف إلى الشّمال مغرّبا فيختلط بنهر جيحان عند المصيصة
__________
[1] أي طرطوس.
[2] أظن أنه يعني الحشاشون الإسماعيلية.
[3] ورد ذكرها في معجم البلدان مصياب أو مصياف كما تعرف اليوم أما مصيات فهي محرفة.
[4] كذا ذكرها ياقوت بياء مفتوحة غير مشددة وتعرف في أنحاء بلاد الشام بياء مشددة وفتح اللام وتسكين الميم.
[5] ذكرها ياقوت «عين زربى» .(1/86)
ومن غربها وأمّا بلاد الجزيرة الّتي يحيط بها منعطف جبل اللّكام إلى جبل السّلسلة ففي جنوبها الرّافضة والرّقّة ثمّ حرّان ثمّ سروج والرّها ثمّ نصيبين ثمّ سميساط وآمد تحت جبل السّلسلة وآخر الجزء من شماله وهو أيضا آخر الجزء من شرقيّه ويمرّ في وسط هذه القطعة نهر الفرات ونهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس ويمرّان في بلاد الأرمن جنوبا إلى أن يتجاوزا جبل السلسلة فيمرّ نهر الفرات من غربيّ سميساط وسروج وينحرف إلى الشّرق فيمرّ بقرب الرّافضة والرّقّة ويخرج إلى الجزء السّادس ويمرّ دجلة في شرق آمد وينعطف قريبا إلى الشّرق فيخرج قريبا إلى الجزء السّادس وفي الجزء السّادس من هذا الإقليم من غربيّه بلاد الجزيرة وفي الشّرق منها بلاد العراق متّصلة بها تنتهي في الشّرق إلى قرب آخر الجزء ويعترض من آخر العراق هنالك جبل أصبهان هابطا من جنوب الجزء منحرفا إلى الغرب فإذا انتهى إلى وسط الجزء من آخره في الشّمال يذهب مغرّبا إلى أن يخرج من الجزء السّادس ويتّصل على سمته بجبل السّلسلة في الجزء الخامس فينقطع هذا الجزء السّادس بقطعتين غربيّة وشرقيّة ففي الغربيّة من جنوبيّها مخرج الفرات من الخامس وفي شماليّها مخرج دجلة منه أمّا الفرات فأوّل ما يخرج إلى السّادس يمرّ بقرقيسياء ويخرج من هنالك جدول إلى الشّمال ينساب في أرض الجزيرة ويغوص في نواحيها ويمرّ من قرقيسيا غير بعيد ثمّ ينعطف إلى الجنوب فيمرّ بقرب الخابور إلى غرب الرّحبة ويخرج منه جداول من هنالك يمرّ جنوبا ويبقى صفّين في غربيّه ثمّ ينعطف شرقا وينقسم بشعوب فيمرّ بعضها بالكوفة وبعضها بقصر ابن هبيرة وبالجامعين وتخرج جميعا في جنوب الجزء إلى الإقليم الثّالث فيغوص هنالك في شرق الحيرة والقادسيّة ويخرج الفرات من الرّحبة مشرّقا على سمته إلى هيت من شمالها يمرّ إلى الزّاب والأنبار من جنوبهما ثمّ يصبّ في دجلة عند بغداد. وأمّا نهر دجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمرّ بجزيرة ابن عمر على شمالها ثمّ بالموصل كذلك وتكريت وينتهي إلى(1/87)
الحديثة فينعطف جنوبا وتبقى الحديثة في شرقه والزّاب الكبير والصّغير كذلك ويمرّ على سمته جنوبا وفي غرب القادسيّة إلى أن ينتهي إلى بغداد ويختلط بالفرات ثمّ يمرّ جنوبا على غرب جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الإقليم الثّالث فتنتشر هنالك شعوبه وجداوله ثمّ يجتمع ويصبّ هنالك في بحر فارس عند عبّادان وفيما بين نهر دجلة والفرات قبل مجمعهما ببغداد هي بلاد الجزيرة ويختلط بنهر دجلة بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشّرقيّة الشّماليّة منه وينتهي إلى بلاد النّهروان قبالة بغداد شرقا ثمّ ينعطف جنوبا ويختلط بدجلة قبل خروجه إلى الإقليم الثّالث ويبقى ما بين هذا النّهر وبين جبل العراق والأعاجم بلد جلولاء وفي شرقها عند الجبل بلد حلوان وصيمرة [1] .
وأمّا القطعة الغربيّة من الجزء فيعترضها جبل يبدأ من جبل الأعاجم مشرّقا إلى آخر الجزء ويسمّى جبل شهرزور ويقسمها بقطعتين في الجنوب من هذه القطعة الصّغرى بلد خونجان من الغرب والشّمال عن أصبهان وتسمّى هذه القطعة بلد الهلوس وفي وسطها بلد نهاوند وفي شمالها بلد شهرزور غربا عند ملتقى الجبلين والدّينور شرقا عند آخر الجزء وفي القطعة الصّغرى الثّانية من بلاد أرمينيّة قاعدتها المراغة والّذي يقابلها من جبل العراق يسمّى باريا وهو مساكن للأكراد والزّاب الكبير والصّغير الّذي على دجلة من ورائه وفي آخر هذه القطعة من جهة الشّرق بلاد أذربيجان ومنها تبريز والبيدقان وفي الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة من هذا الجزء قطعة من بحر نيطش وهو بحر الخزر وفي الجزء السّابع من هذا الإقليم من غربة وجنوبه معظم بلاد الهلوس وفيها همذان وقزوين وبقيّتها في الإقليم الثّالث وفيها هنالك أصبهان ويحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها ويمرّ بالإقليم الثّالث ثمّ ينعطف من الجزء السّادس إلى الإقليم الرّابع ويتّصل بجبل العراق في شرقيّه الّذي مرّ ذكره هنالك وإنّه محيط ببلاد الهلوس في القطعة الشّرقيّة ويهبط
__________
[1] ورد في بعض النسخ صميرة وهو تحريف.(1/88)
هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثّالث إلى جهة الشّمال ويخرج إلى هذا الجزء السّابع فيحيط ببلاد الهلوس من شرقها وتحته هنالك قاشان ثمّ قم وينعطف في قرب النّصف من طريقه مغرّبا بعض الشّيء ثمّ يرجع مستديرا فيذهب مشرّقا ومنحرفا إلى الشّمال حتّى يخرج إلى الإقليم الخامس ويشتمل على منعطفه واستدارته على بلد الرّيّ في شرقيّه ويبدأ من منعطفه جبل آخر يمرّ غربا إلى آخر هذا الجزء ومن جنوبه من هنالك قزوين ومن جانبه الشّماليّ وجانب جبل الرّيّ المتّصل معه ذاهبا إلى الشّرق والشّمال إلى وسط الجزء ثمّ إلى الإقليم الخامس بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال وبين قطعة من بحر طبرستان ويدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء في نحو النّصف من غربة إلى شرقه ويعترض عند جبل الرّيّ وعند انعطافه إلى الغرب جبل متّصل يمرّ على سمته مشرّقا وبانحراف قليل إلى الجنوب حتّى يدخل في الجزء الثّامن من غربة ويبقى بين جبل الرّيّ وهذا الجبل من عند مبدئهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين ومنها بسطام ووراء هذا الجبل قطعة من هذا الجزء فيها بقيّة المفازة الّتي بين فارس وخراسان وهي في شرقيّ قاشان وفي آخرها عند هذا الجبل بلد أستراباذ وحافات هذا الجبل من شرقيّه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من خراسان ففي جنوب الجبل وشرق المفازة بلد نيسابور ثمّ مرو الشّاهجان آخر الجزء وفي شماله وشرقيّ جرجان بلد مهرجان وخازرون وطوس آخر الجزء شرقا وكلّ هذا تحت الجبل وفي الشّمال عنها بلاد نسا ويحيط بها عند زاوية الجزئين الشّمال والشّرق مفاوز معطّلة. وفي الجزء الثّامن من هذا الإقليم وفي غربيّه نهر جيحون ذاهبا من الجنوب إلى الشمال ففي عدوته الغربيّة رمم [1] وآمل من بلاد خراسان والظّاهريّة والجرجانيّة من بلاد خوارزم ويحيط بالزّاوية الغربيّة الجنوبيّة منه جبل أستراباذ المعترض في الجزء السّابع
__________
[1] في بعض النسخ رمّ بفتح أوله وتشديد ثانيه، جمع رموم ومعناها محال الأكراد ومنازلهم. بلغة أهل فارس. وهي مواضع بفارس (معجم البلدان) .(1/89)
قبله ويخرج في هذا الجزء من غربيّه ويحيط بهذه الزّاوية وفيها بقيّة بلاد هراة والجوزخان حتّى يتّصل بجبل البتّم كما ذكرناه هنالك وفي شرقيّ نهر جيحون من هذا الجزء وفي الجنوب منه بلاد بخارى ثمّ بلاد الصّغد وقاعدتها سمرقند ثمّ سردارا وأشنه [1] ومنها خجندة آخر الجزء شرقا وفي الشّمال عن سمرقند وسردار وأشنه أرض إيلاق [2] ثمّ في الشّمال عن إيلاق أرض الشّاش إلى آخر الجزء شرقا ويأخذ قطعة من الجزء التّاسع في جنوب تلك القطعة بقيّة أرض فرغانة ويخرج من تلك القطعة الّتي في الجزء التّاسع نهر الشّاش يمرّ معترضا في الجزء الثّامن إلى أن ينصبّ في نهر جيحون عند مخرجه من هذا الجزء الثّامن في شماله إلى الإقليم الخامس ويختلط معه في أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التّاسع من الإقليم الثّالث من تخوم بلاد التّبّت ويختلط معه قبل مخرجه من الجزء التّاسع نهر فرغانة وعلى سمت نهر الشّاش جبل جبراغون يبدأ من الإقليم الخامس وينعطف شرقا ومنحرفا إلى الجنوب حتّى يخرج إلى الجزء التّاسع محيطا بأرض الشّاش ثمّ ينعطف في الجزء التّاسع فيحيط بالشّاش وفرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثّالث وبين نهر الشّاش وطرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب وبينه وبين أرض بخارى وخوارزم مفاوز معطّلة وفي زاوية هذا الجزء من الشّمال والشّرق أرض خجندة وفيها بلد إسبيجاب وطراز. وفي الجزء التّاسع من هذا الإقليم في غربيّه بعد أرض فرغانة والشّاش أرض الخزلجيّة في الجنوب وأرض الخليجة في الشّمال وفي شرق الجزء كلّه أرض الكيماكيّة ويتّصل في الجزء العاشر كلّه إلى جبل قوقيا آخر الجزء شرقا وعلى قطعة من البحر المحيط هنالك وهو جبل يأجوج ومأجوج وهذه الأمم كلّها من شعوب الترك. انتهى.
الإقليم الخامس:
الجزء الأوّل منه أكثره مغمور بالماء إلّا قليلا من جنوبه
__________
[1] في بعض النسخ اسروشنة وفي معجم البلدان: اشروسنة.
[2] في المشترك إقليم إيلاق متصل بإقليم الشاش لا فصل بينهما وهو بكسر الهمزة وسكون الياء بعدها.(1/90)
وشرقه لأنّ البحر المحيط بهذه الجهة الغربيّة دخل في الإقليم الخامس والسّادس والسّابع عن الدّائرة المحيطة بالإقليم فأمّا المنكشف من جنوبه فقطعة على شكل مثلّث متّصلة من هنالك بالأندلس وعليها بقيّتها ويحيط بها البحر من جهتين كأنّهما ضلعان محيطان بزاوية المثلّث ففيها من بقيّة غرب الأندلس سعيور على البحر عند أوّل الجزء من الجنوب والغرب وسلمنكة شرقا عنها وفي جوفها سمّورة وفي الشّرق عن سلمنكة أيّلة آخر الجنوب وأرض قستالية [1] شرقا عنها وفيها مدينة شقّونيّة وفي شمالها أرض ليون وبرغشت [2] ثمّ وراءها في الشّمال أرض جليقيّة إلى زاوية القطعة وفيها على البحر المحيط في آخر الضّلع الغربيّ بلد شننياقو ومعناه يعقوب وفيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلّية عند آخر الجزء في الجنوب وشرقا عن قستالية وفي شمالها وشرقها وشقة وبنبلونة على سمتها شرقا وشمالا وفي غرب بنبلونة قشتالة ثمّ ناجزة فيما بينها وبين برغشت ويعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر وللضّلع الشّماليّ الشّرقيّ منه وعلى قرب ويتّصل به وبطرف البحر عند بنبلونة في جهة الشّرق الّذي ذكرنا من قبل أن يتّصل في الجنوب بالبحر الرّوميّ في الإقليم الرّابع ويصير حجرا [3] على بلاد الأندلس من جهة الشّرق وثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد غشكونيّة من أمم الفرنج فمنها من الإقليم الرّابع برشلونة وأربونة على ساحل البحر الرّوميّ وخريدة وقرقشونة وراءهما في الشّمال ومنها من الإقليم الخامس طلّوشة شمالا عن خريدة. وأمّا المنكشف في هذا الجزء من جهة الشّرق فقطعة على شكل مثلّث مستطيل زاويته الحادّة وراء البرنات شرقا وفيها على البحر المحيط على رأس القطعة الّتي يتّصل بها جبل البرنات بلد نيونة وفي آخر هذه القطعة في النّاحية الشّرقيّة الشّماليّة من الجزء أرض بنطو من الفرنج إلى آخر الجزء. وفي الجزء الثّاني من النّاحية الغربيّة
__________
[1] قشتالة.
[2] برغش (معجم البلدان) .
[3] يصير مانعا.(1/91)
منه أرض غشكونيّة وفي شمالها أرض بنطو وبرغشت وقد ذكرناهما وفي شرق بلاد غشكونيّة في شمالها قطعة أرض من البحر الرّوميّ دخلت في هذا الجزء كالضّرس مائلة إلى الشّرق قليلا وصارت بلاد غشكونيّة في غربها داخلة في جون من البحر وعلى رأس هذه القطعة شمالا بلاد جنوة وعلى سمتها في الشّمال جبل نيت جون وفي شماله وعلى سمته أرض برغونة وفي الشّرق عن طرف جنوة الخارج من البحر الرّوميّ طرف آخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البرّ في البحر في غربيّه نيش وفي شرقيّه مدينة رومة العظمى كرسيّ ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم وفيها من المباني الضّخمة والهياكل الهائلة والكنائس العاديّة [1] ما هو معروف الأخبار ومن عجائبها النّهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب مفروش قاعه ببلاط النّحاس وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريّين وهما مدفونان بها وفي الشّمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء، وعلى هذا الطّرف من البحر الّذي في جنوبه رومة بلاد نابل [2] في الجانب الشّرقيّ منه متّصلة ببلد قلوريّة من بلاد الفرنج وفي شمالها طرف من خليج البنادقة دخل في هذا الجزء من الجزء الثّالث مغرّبا ومحاذيا للشّمال من هذا الجزء وانتهى إلى نحو الثّلث منه وعليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من جنوبه فيما بينه وبين البحر المحيط ومن شماله بلاد إنكلاية في الإقليم السّادس. وفي الجزء الثّالث من هذا الإقليم في غربيّه بلاد قلوريّة بين خليج البنادقة والبحر الرّوميّ يحيط بها من شرقيّه يصل من برّها في الإقليم الرّابع في البحر الرّوميّ في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشّمال إلى هذا الجزء في شرقيّ بلاد قلوريّة بلاد أنكبردة في جون بين خليج البنادقة والبحر الرّوميّ ويدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرّابع وفي البحر الرّوميّ ويحيط به من شرقيّه
__________
[1] نسبة إلى عاد.
[2] نابولي.(1/92)
خليج البنادقة من البحر الرّوميّ ذاهبا إلى سمت الشّمال ثمّ ينعطف إلى الغرب محاذيا لآخر الجزء الشّماليّ ويخرج على سمته من الإقليم الرّابع جبل عظيم يؤازيه ويذهب معه إلى الشّمال ثمّ يغرّب معه في الإقليم السّادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليّه في بلاد إنكلاية من أمم اللّمانيّين كما نذكر وعلى هذا الخليج وبينه وبين هذا الجبل ما داما ذاهبين إلى الشّمال بلاد البنادقة فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد حروايا ثمّ بلاد الألمانيّين عند طرف الخليج. وفي الجزء الرّابع من هذا الإقليم قطعة من البحر الرّوميّ خرجت إليه من الإقليم الرّابع مضرّسة كلّها بقطع من البحر ويخرج منها إلى الشّمال وبين كلّ ضرسين منها طرف من البحر في الجون بينهما وفي آخر الجزء شرقا قطع من البحر ويخرج منها إلى الشّمال خليج القسطنطينيّة يخرج من هذا الطّرف الجنوبيّ ويذهب على سمت الشّمال خليج القسطنطينيّة يخرج من هذا الطّرف الجنوبيّ ويذهب على سمت الشّمال إلى أن يدخل في الإقليم السّادس وينعطف من هنالك عن قرب مشرّقا إلى بحر نيطش في الجزء الخامس وبعض الرّابع قبله والسّادس بعده من الإقليم السّادس كما نذكر وبلد القسطنطينيّة في شرقيّ هذا الخليج عند آخر الجزء من الشّمال وهي المدينة العظيمة الّتي كانت كرسيّ القياصرة وبها من آثار البناء والضّخامة ما كثرت عنه الأحاديث والقطعة الّتي ما بين البحر الرّوميّ وخليج القسطنطينيّة من هذا الجزء وفيها بلاد مقدونيّة الّتي كانت لليونايّين ومنها ابتداء ملكهم وفي شرقيّ هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس وأظنّها لهذا العهد مجالات للتّركمان وبها ملك ابن عثمان وقاعدته بها بورصة وكانت من قبلهم للرّوم وغلبهم عليها الأمم إلى أن صارت للتّركمان. وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم من غربيّه وجنوبيّه أرض باطوس وفي الشّمال عنها إلى آخر الجزء بلاد عمّوريّة وفي شرقيّ عمّورية نهر قباقب الّذي يمدّ الفرات ويخرج من جبل هنالك ويذهب في الجنوب حتّى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء إلى ممرّه في الإقليم الرّابع وهنالك في غربيّه آخر الجزء في مبدإ نهر سيحان ثمّ نهر جيحان غربيّه الذّاهبين على سمته وقد مرّ ذكرهما وفي شرقه هنالك مبدأ نهر دجلة(1/93)
الذّاهب على سمته وفي موازاته حتّى يخالطه عند بغداد وفي الزّاوية الّتي بين الجنوب والشّرق من هذا الجزء وراء الجبل الّذي يبدأ منه نهر دجلة بلد ميّافارقين ونهر قباقب الّذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين إحداهما غربيّة جنوبيّة وفيها أرض باطوس كما قلناه وأسافلها إلى آخر الجزء شمالا ووراء الجبل الّذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمّورية كما قلناه والقطعة الثّانية شرقيّة شماليّة على الثّلث في الجنوب منها مبدأ دجلة والفرات وفي الشّمال بلاد البيلقان متّصلة بأرض عمّوريّة من وراء جبل قباقب وهي عريضة وفي آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة وفي الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة قطعة من بحر نيطش الّذي يمدّه خليج القسطنطينيّة.
وفي الجزء السّادس من هذا الإقليم في جنوبه وغربة بلاد أرمينيّة متّصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشّرق وفيها بلدان أردنّ في الجنوب والغرب وفي شمالها تفليس ودبيل وفي شرق أردنّ مدينة خلاط ثمّ بردعة في جنوبها بانحراف إلى الشّرق مدينة أرمينيّة ومن هنالك مخرج بلاد أرمينيّة إلى الإقليم الرّابع وفيها هنالك بلد المراغة في شرقيّ جبل الأكراد المسمّى بأرمى وقد مرّ ذكره في الجزء السّادس منه ويتاخم بلاد أرمينيّة في هذا الجزء وفي الإقليم الرّابع قبله من جهة الشّرق فيها بلاد أذربيجان وآخرها في هذا الجزء شرقا بلاد أردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في النّاحية الشّرقيّة من الجزء السّابع ويسمّى بحر طبرستان وعليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر وهم التّركمان ويبدأ من عند آخر هذه القطعة البحريّة في الشّمال جبال يتّصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخامس فتمرّ فيه منعطفة ومحيطة ببلد ميّافارقين ويخرج إلى الإقليم الرّابع عند آمد ويتّصل بجبل السّلسلة في أسافل الشّام ومن هنالك يتّصل بجبل اللّكام كما مرّ وبين هذه الجبال الشّماليّة في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين ففي جنوبيّها بلاد الأبواب متّصلة في الشرق إلى بحر طبرستان وعليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب وتتّصل بلاد الأبواب في(1/94)
الغرب من ناحية جنوبيّها ببلد أرمينيّة وبينهما في الشّرق وبين بلاد أذربيجان الجنوبيّة بلاد الزّاب [1] متّصلة إلى بحر طبرستان وفي شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السّرير في الزّاوية الغربيّة الشّماليّة منها وفي زاوية الجزء كلّه قطعة أيضا من بحر نيطش الّذي يمدّه خليج القسطنطينيّة وقد مرّ ذكره ويحفّ بهذه القطعة من نيطش بلاد السّرير وعليها منها بلد أطرابزيدة بزيدة [2] وتتّصل بلاد السّرير بين جبل الأبواب والجهة الشّماليّة من الجزء إلى أن ينتهي شرقا إلى جبل حاجز بينها وبين أرض الخزر وعند آخرها مدينة صول ووراء هذا الجبل الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة من هذا الجزء من بحر طبرستان وآخر الجزء شمالا. والجزء السّابع من هذا الإقليم غربيّه كله مغمور ببحر طبرستان وخرج من جنوبه في الإقليم الرّابع القطعة الّتي ذكرنا هنالك أنّ عليها بلاد طبرستان وجبال الدّيلم إلى قزوين وفي غربيّ تلك القطعة متّصلة بها القطعة الّتي في الجزء السّادس من الإقليم الرّابع ويتّصل بها من شمالها القطعة الّتي في الجزء السّادس من شرقه أيضا وينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشّماليّة الغربيّة يصبّ فيها نهر أثل [3] في هذا البحر ويبقى من هذا الجزء في ناحية الشّرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات للغزّ من أمم التّرك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثّامن ويذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشّمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتفّ به ذاهبا معه إلى بقيّته في الإقليم السّادس ثمّ ينعطف مع طرفه ويفارقه ويسمّى هنالك جبل سياه ويذهب مغرّبا إلى الجزء السّادس من الإقليم السّادس ثمّ يرجع جنوبا إلى الجزء السّادس من الإقليم الخامس وهذا الطّرف منه وهو الّذي اعترض في هذا الجزء بين
__________
[1] لا بد أن الزاب محرفة فالزاب تقع في الجزائر ولا صلة لها بالمنطقة التي يتكلم عنها ابن خلدون.
[2] كذا في جميع النسخ وفي معجم البلدان. أما اليوم فتسمى طرابزون.
[3] هو نهر أورال.(1/95)
أرض السّرير وأرض الخزر واتّصلت بأرض الخزر في الجزء السّادس والسّابع حافات هذا الجبل المسمّى جبل سياه كما سيأتي. والجزء الثّامن من هذا الإقليم الخامس كلّه مجالات للغزّ من أمم التّرك وفي الجهة الجنوبيّة الغربيّة منه بحيرة خوارزم الّتي يصبّ فيها نهر جيحون دورها ثلاثمائة ميل ويصبّ فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات وفي الجهة الشّماليّة الشّرقيّة منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل وماؤها حلو وفي النّاحية الشّماليّة من هذا الجزء جبل مرغار ومعناه جبل الثّلج لأنّه لا يذوب فيه وهو متّصل بآخر الجزء وفي الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصّلد لا ينبت شيئا يسمّى عرعون وبه سمّيت البحيرة وينجلب منه ومن جبل مرغار شماليّ البحيرة أنهار لا تنحصر عدّتها فتصبّ فيها من الجانبين. وفي الجزء التّاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم التّرك في غرب بلاد الغزّ وشرق بلاد الكيماكيّة ويحفّ به من جهة الشّرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج يعترض هنالك من الجنوب إلى الشّمال حتّى ينعطف أوّل دخوله من الجزء العاشر وقد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرّابع قبله واحتفّ هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشّمال ثمّ انعطف مغرّبا في الجزء العاشر من الإقليم الرّابع إلى ما دون نصفه وأحاط من أوّله إلى هنا ببلاد الكيماكيّة ثمّ خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس فذهب فيه مغرّبا إلى آخره وبقيت في جنوبيّه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكيّة ثمّ خرج إلى الجزء التّاسع في شرقيّه وفي الأعلى منه وانعطف قريبا إلى الشّمال وذهب على سمته إلى الجزء التّاسع من الإقليم السّادس وفيه السّدّ هنالك كما نذكره وبقيت منه القطعة الّتي أحاط بها جبل قوقيا عند الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة من هذا الجزء مستطيلة إلى الجنوب وهي من بلاد يأجوج ومأجوج وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم أرض يأجوج ومأجوج متّصلة فيه كلّه إلّا قطعة من البحر غمرت طرفا في شرقيه من جنوبه إلى شماله إلّا القطعة الّتي يفصلها إلى جهة(1/96)
الجنوب والغرب جبل قوقيا حين مرّ فيه وما سوى ذلك فأرض يأجوج ومأجوج والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإقليم السّادس.
فالجزء الأوّل منه غمر البحر أكثر من نصفه واستدار شرقا مع النّاحية الشّماليّة ثمّ ذهب مع النّاحية الشّرقيّة إلى الجنوب وانتهى قريبا من النّاحية الجنوبيّة فانكشف قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطّرفين وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة من البحر المحيط كالجون فيه وينفسح طولا وعرضا وهي كلّها أرض بريطانية وفي بابها بين الطّرفين وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة من هذا الجزء بلاد صاقس متّصلة ببلاد بنطو الّتي مرّ ذكرها في الجزء الأوّل والثّاني من الإقليم الخامس. والجزء الثّاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربة وشماله فمن غربة قطعة مستطيلة أكبر من نصفه الشّماليّ من شرق أرض بريطانية في الجزء الأوّل واتّصلت بها القطعة الأخرى في الشّمال من غربة إلى شرقه وانفسحت في النّصف الغربيّ منه بعض الشّيء وفيه هنالك قطعة من جزيرة أنكلترّا وهي جزيرة عظيمة مشتملة على مدن وبها ملك ضخم وبقيّتها في الإقليم السّابع وفي جنوب هذه القطعة وجزيرتها في النّصف الغربيّ من هذا الجزء بلاد أرمندية وبلاد أفلادش متّصلين بها ثمّ بلاد إفرنسية جنوبا وغربا من هذا الجزء وبلاد برغونية شرقا عنها وكلها لأمم الافرنجة وبلاد اللّمانيّين في النّصف الشّرقيّ من الجزء فجنوبه بلاد أنكلاية ثمّ بلاد برغونية شمالا ثمّ أرض لهويكة وشطونية وعلى قطعة البحر المحيط في الزّاوية الشّماليّة الشّرقيّة أرض أفريرة وكلّها لأمم اللّمانيّين. وفي الجزء الثّالث من هذا الإقليم في النّاحية الغربيّة بلاد مراتية في الجنوب وبلاد شطونية في الشّمال وفي النّاحية الشّرقيّة بلاد أنكوّيّة في الجنوب وبلاد بلونيّة في الشّمال يعترض بينهما جبل بلواط داخلا من الجزء الرّابع ويمرّ مغرّبا بانحراف إلى الشّمال إلى أن يقف في بلاد شطونيّة آخر النّصف الغربيّ. وفي الجزء الرّابع في ناحية الجنوب أرض جثوليّة وتحتها في الشّمال بلاد(1/97)
الرّوسيّة ويفصل بينهما جبل بلواط من أوّل الجزء غربا إلى أن يقف في النّصف الشّرقيّ وفي شرق أرض جثوليّة بلاد جرمانية وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة أرض القسطنطينيّة ومدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرّوميّ وعند مدفعه في بحر نيطش فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء ويمدّها الخليج وبينهما في الزّاوية بلد مسيناه. وفي الجزء الخامس من الإقليم السّادس ثمّ في النّاحية الجنوبيّة عند بحر نيطش يتّصل من الخليج في آخر الجزء الرّابع ويخرج من سمته مشرّقا فيمرّ في هذا الجزء كلّه وفي بعض السّادس على طول ألف وثلاثمائة ميل من مبدئه في عرض ستّمائة ميل ويبقى وراء هذا البحر في النّاحية الجنوبيّة من هذا الجزء في غربها إلى شرقها برّ مستطيل في غربة هرقليّة على ساحل بحر نيطش متّصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس وفي شرقه بلاد اللّانيّة وقاعدتها سوتلي على بحر نيطش وفي شمال بحر نيطش في هذا الجزء غربا أرض ترخان وشرقا بلاد الرّوسيّة وكلّها على ساحل هذا البحر وبلاد الرّوسيّة محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السّابع ومن غربها في الجزء الرّابع من هذا الإقليم. وفي الجزء السّادس في غربيّه بقيّة بحر نيطش وينحرف قليلا إلى الشّمال ويبقى بينه هنالك وبين آخر الجزء شمالا بلاد قمانيّة وفي جنوبه منفسحا إلى الشّمال بما انحرف هو كذلك بقيّة بلاد اللّانيّة الّتي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس وفي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء متّصل أرض الخزر وفي شرقها أرض برطاس وفي الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة أرض بلغار وفي الزّاوية الشّرقيّة الجنوبيّة أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياكوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السّابع بعده ويذهب بعد مفارقته مغرّبا فيجوز في هذه القطعة ويدخل إلى الجزء السّادس من الإقليم الخامس فيتّصل هنالك بجبل الأبواب وعليه من هنالك ناحية بلاد الخزر. وفي الجزء السّابع من هذا الإقليم في النّاحية الجنوبيّة ما جازه جبل سياه بعد مفارقته(1/98)
بحر طبرستان وهو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غربا وفي شرقها القطعة من بحر طبرستان الّتي يجوزها هذا الجبل من شرقها وشمالها ووراء جبل سياه في النّاحية الغربيّة الشّماليّة أرض برطاس وفي النّاحية الشّرقيّة من الجزء أرض شحرب ويخناك وهم أمم التّرك. وفي الجزء الثّامن والنّاحية الجنوبيّة منه كلّها أرض الجولخ من التّرك في النّاحية الشّماليّة غربا والأرض المنتنة وشرق الأرض الّتي يقال إنّ يأجوج ومأجوج خرباها قبل بناء السّدّ وفي هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم وممرّه في بلاد التّرك ومصبّه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه وهو كثير الانعطاف يخرج من جبل من الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد ويمرّ على سمت الغرب إلى آخر السّابع من هذا الإقليم فينعطف شمالا إلى الجزء السّابع من الإقليم السّابع فيمرّ في طرفه بين الجنوب والمغرب فيخرج في الجزء السّادس من السّابع ويذهب مغرّبا غير بعيد ثمّ ينعطف ثانية إلى الجنوب ويرجع إلى الجزء السّادس من الإقليم السّادس ويخرج منه جدول يذهب مغرّبا ويصبّ في بحر نيطش في ذلك الجزء ويمرّ هو في قطعة بين الشّمال والشّرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السّابع من الإقليم السّادس ثمّ ينعطف ثالثة إلى الجنوب وينفذ في جبل سياه ويمرّ في بلاد الخزر ويخرج إلى الإقليم الخامس في الجزء السّابع منه فيصبّ هنالك في بحر طبرستان في القطعة الّتي انكشفت من الجزء عند الزّاوية الغربيّة الجنوبيّة.
والجزء التّاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربيّ منه بلاد خفشاخ من التّرك وهم قفجاق وبلاد الشّركس منهم أيضا وفي الشّرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط وقد مرّ ذكره يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرّابع ويذهب معه إلى آخر الإقليم في الشّمال ويفارقه مغرّبا وبانحراف إلى الشّمال حتّى يدخل في الجزء التّاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأوّل حتّى يدخل في هذا الجزء التّاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب وفي وسطه هاهنا(1/99)
السّدّ الّذي بناه الإسكندر ثمّ يخرج على سمته إلى الإقليم السّابع وفي الجزء التّاسع منه فيمرّ فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله ثمّ ينعطف معه من هنالك مغرّبا إلى الإقليم السّابع إلى الجزء الخامس منه فيتّصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيّه وفي وسط هذا الجزء التّاسع هو السّدّ الّذي بناه الإسكندر كما قلناه والصّحيح من خبره في القرآن وقد ذكر عبد الله بن خرداذبه في كتابه في الجغرافيا أنّ الواثق رأى في منامه كأنّ السّدّ انفتح فانتبه فزعا وبعث سلّاما التّرجمان فوقف عليه وجاء بخبره ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجوج متّصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه وشماله مستطيلة في الشّمال وعريضة بعض الشّيء في الشّرق.
الإقليم السّابع:
والبحر المحيط قد غمر عامّته من جهة الشّمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتّصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج. فالجزء الأوّل والثّاني مغموران بالماء إلّا ما انكشف من جزيرة أنكلترّا الّتي معظمها في الثّاني وفي الأوّل منها طرف انعطف بانحراف إلى الشّمال وبقيّتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثّاني من الإقليم السّادس وهي مذكورة هناك والمجاز منها إلى البرّ في هذه القطعة سعة اثني عشر ميلا ووراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثّاني جزيرة رسلاندة مستطيلة من الغرب إلى الشّرق. والجزء الثّالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلّا قطعة مستطيلة في جنوبه وتتّسع في شرقها وفيها هنالك متّصل أرض فلونيّة الّتي مرّ ذكرها في الثّالث من الإقليم السّادس وأنّها في شماله وفي القطعة من البحر الّتي تغمر هذا الجزء ثمّ في الجانب الغربيّ منها مستديرة فسيحة وتتّصل بالبرّ من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونيّة وفي شمالها جزيرة برعاقبة (وفي نسخة بوقاعة) مستطيلة مع الشّمال من المغرب إلى المشرق. والجزء الرّابع من هذا الإقليم شماله كلّه مغمور بالبحر(1/100)
المحيط من المغرب إلى المشرق وجنوبه منكشف وفي غربة أرض قيمازك من التّرك وفي شرقها بلاد طست ثمّ أرض رسلان إلى آخر الجزء شرقا وهي دائمة الثّلوج وعمرانها قليل ويتّصل ببلاد الرّوسيّة في الإقليم السّادس وفي الجزء الرّابع والخامس منه وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم في النّاحية الغربيّة منه بلاد الرّوسيّة وينتهي في الشّمال إلى قطعة من البحر المحيط الّتي يتّصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل وفي النّاحية الشّرقيّة منه متّصل أرض القمانية الّتي على قطعة بحر نيطش من الجزء السّادس من الإقليم السّادس وينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء وهي عذبة تنجلب إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب والشّمال وفي شمال النّاحية الشّرقية من هذا الجزء أرض التّتاريّة من التّرك (وفي نسخة التركمان) إلى آخره. وفي الجزء السّادس من النّاحية الغربيّة الجنوبيّة متّصل بلاد القمانيّة وفي وسط النّاحية بحيرة عثور عذبة تنجلب إليها الأنهار من الجبال في النّواحي الشّرقيّة وهي جامدة دائما لشدّة البرد إلّا قليلا في زمن الصّيف وفي شرق بلاد القمانيّة بلاد الرّوسيّة الّتي كان مبدؤها في الإقليم السّادس في النّاحية الشّرقيّة الشّماليّة من الجزء الخامس منه وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة من هذا الجزء بقيّة أرض بلغار الّتي كان مبدؤها في الإقليم السّادس وفي النّاحية الشّرقيّة الشّماليّة من الجزء السّادس منه وفي وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل القطعة الأولى إلى الجنوب كما مرّ وفي آخر هذا الجزء السّادس من شماله جبل قوقيا متّصل من غربة إلى شرقه وفي الجزء السّابع من هذا الإقليم في غربة بقيّة أرض يخناك من أمم الترك وكان مبدؤها من النّاحية الشّماليّة الشّرقيّة من الجزء السّادس قبله وفي النّاحية الجنوبيّة الغربيّة من هذا الجزء ويخرج إلى الإقليم السّادس من فوقه وفي النّاحية الشّرقيّة بقيّة أرض سحرب ثمّ بقيّة الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقا وفي آخر الجزء من جهة الشّمال جبل قوقيا المحيط متّصلا من غربة إلى شرقه. وفي الجزء الثّامن من هذا الإقليم في الجنوبيّة الغربيّة منه متّصل(1/101)
الأرض المنتنة وفي شرقها الأرض المحفورة وهي من العجائب خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدلّ على عمرانه بالدّخان في النّهار والنّيران في اللّيل تضيء وتخفى وربّما رئي فيها نهر يشقّها من الجنوب إلى الشّمال وفي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسّدّ وفي آخر الشّمال منه جبل قوقيا متّصلا من الشّرق إلى الغرب وفي الجزء التّاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربيّ منه بلاد خفشاخ وهم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط ويذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشّرق فيخرج في الجزء التّاسع من الإقليم السّادس ويمرّ معترضا فيه وفي وسطه هنالك سدّ يأجوج ومأجوج وقد ذكرناه وفي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلة أحاطت به من شرقه وشماله. والجزء العاشر غمر البحر جميعه. هذا آخر الكلام على الجغرافيا وأقاليمها السّبعة وفي خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات للعالمين [1] .
__________
[1] جاء في سورة آل عمران الآية 190 قوله تعالى: «إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ 3: 190» وقوله تعالى في سورة الروم الآية 22 «وَمن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ 30: 22» .(1/102)
المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير في أحوالهم
قد بيّنا أنّ المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنّما هو وسطه لإفراط الحرّ في الجنوب منه والبرد في الشّمال. ولمّا كان الجانبان من الشّمال والجنوب متضادّين من الحرّ والبرد وجب أن تتدرّج الكيفيّة من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا فالإقليم الرّابع أعدل [1] العمران والّذي حافاته من الثّالث والخامس أقرب إلى الاعتدال والّذي يليهما والثّاني والسّادس بعيدان من الاعتدال والأوّل والسّابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصّنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثّلاثة المتوسّطة مخصوصة بالاعتدال وسكّانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا حتّى النّبوءات فإنّما توجد في الأكثر فيها ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبيّة ولا الشّماليّة وذلك أن الأنبياء والرّسل إنّما يختصّ بهم أكمل النّوع في خلقهم وأخلاقهم قال تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ 3: 110» وذلك ليتمّ القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجدهم على غاية من التّوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتّخذون البيوت المنجّدة بالحجارة المنمّقة بالصّناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطّبيعيّة من الذّهب والفضّة والحديد
__________
[1] أعدل مشتقة من عدل وليس لها معنى والأصح: أكثر اعتدالا(1/103)
والنحاس والرّصاص والقصدير ويتصرّفون في معاملاتهم بالنّقدين العزيزين ويبعدون عن الانحراف في عامّة أحوالهم وهؤلاء أهل المغرب والشّام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسّند والصّين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والرّوم واليونانيّين ومن كان مع هؤلاء أو قريبا منهم في هذه الأقاليم المعتدلة ولهذا كان العراق والشّام أعدل هذه كلّها لأنّها وسط من جميع الجهات. وأمّا الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأوّل والثّاني والسّادس والسّابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطّين والقصب وأقواتهم من الذّرة والعشب وملابسهم من أوراق الشّجر يخصفونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التّكوين مائلة إلى الانحراف ومعاملاتهم بغير الحجرين الشّريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدّرونها للمعاملات وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم حتّى لينقل عن الكثير من السّودان أهل الإقليم الأوّل أنّهم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنّهم متوحّشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضا وكذا الصّقالبة والسّبب في ذلك أنّهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانيّة بمقدار ذلك وكذلك أحوالهم في الدّيانة أيضا فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلّا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقلّ النّادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدّائنين بالنّصرانيّة فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدّائنين بالإسلام لهذا العهد يقال إنّهم دانوا به في المائة السّابعة ومثل من دان بالنّصرانيّة من أمم الصّقالبة والإفرنجة والتّرك من الشّمال ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا فالدّين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسيّ قريبة من أحوال البهائم «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 16: 8» . ولا يعترض على هذا القول(1/104)
بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما يليها من جزيرة العرب في الإقليم الأوّل والثّاني فإنّ جزيرة العرب كلّها أحاطت بها البحار من الجهات الثّلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس والانحراف الّذي يقتضيه الحرّ وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. وقد توهّم بعض النّسّابين ممّن لا علم لديه بطبائع الكائنات أنّ السّودان هم ولد حام بن نوح اختصّوا بلون السّواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرّقّ في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التّوراة وليس فيه ذكر السّواد وإنّما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير وفي القول بنسبة السّواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحرّ والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكوّن فيه من الحيوانات وذلك أنّ هذا اللّون شمل أهل الإقليم الأوّل والثّاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإنّ الشّمس تسامت رءوسهم مرّتين في كلّ سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول المسامتة عامّة الفصول فيكثر الضّوء لأجلها ويلح القيظ الشّديد عليهم وتسودّ جلودهم لإفراط الحرّ ونظير هذين الإقليمين ممّا يقابلهما من الشّمال الإقليم السّابع والسّادس شمل سكّانهما أيضا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشّمال إذ الشّمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحرّ فيها ويشتدّ البرد عامّة الفصول فتبيضّ ألوان أهلها وتنتهي إلى الزّعورة [1] ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشّعور وتوسّطت بينهما الأقاليم الثّلاثة الخامس والرّابع والثّالث فكان لها في الاعتدال الّذي هو مزاج المتوسّط حظّ وافر والرّابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التّوسّط كما قدّمناه فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم وتبعه من جانبيه الثّالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التّوسّط لميل هذا
__________
[1] كلمة ليست من الفصحى وعنى بها شدة البياض.(1/105)
قليلا إلى الجنوب الحارّ وهذا قليلا إلى الشّمال البارد إلّا أنّهما لم ينتهيا إلى الانحراف وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم فالأوّل والثّاني للحرّ والسّواد والسّابع للبرد والبياض ويسمّى سكّان الجنوب من الإقليمين الأوّل والثّاني باسم الحبشة والزّنج والسّودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيّرة بالسّواد وإن كان اسم الحبشة مختصّا منهم بمن تجاه مكّة واليمن والزّنج بمن تجاه بحر الهند وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدميّ أسود لا حام ولا غيره وقد نجد من السّودان أهل الجنوب من يسكن الرّبع المعتدل أو السّابع المنحرف إلى البياض فتبيضّ ألوان أعقابهم على التّدريج مع الأيّام وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشّمال أو الرّابع بالجنوب فتسودّ ألوان أعقابهم وفي ذلك دليل على أنّ اللّون تابع لمزاج الهواء قال ابن سينا في أرجوزته في الطّبّ
بالزّنج حرّ غير الأجسادا ... حتّى كسا جلودها سوادا
والصّقلب اكتسبت البياضا ... حتّى غدت جلودها بضاضا
وأمّا أهل الشّمال فلم يسمّوا باعتبار ألوانهم لأنّ البياض كان لونا لأهل تلك اللّغة الواضعة للأسماء فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التّسمية لموافقته واعتياده ووجدنا سكّانه من التّرك والصّقالبة والطّغرغر والخزر واللّان والكثير من الإفرنجة ويأجوج ومأجوج أسماء متفرّقة وأجيالا متعدّدة مسمّين بأسماء متنوعة وأمّا أهل الأقاليم الثّلاثة المتوسّطة أهل الاعتدال في خلقهم وسيرهم وكافّة الأحوال الطّبيعيّة للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصّنائع والعلوم والرّئاسات والملك فكانت فيهم النّبوءات والملك والدّول والشّرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصّنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة وأهل هذه الأقاليم الّتي وقفنا على أخبارهم مثل العرب والرّوم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السّند والهند والصّين. ولمّا رأى النّسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها(1/106)
حسبوا ذلك لأجل الأنساب فجعلوا أهل الجنوب كلّهم السّودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم فتكلّفوا نقل تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشّمال كلّهم أو أكثرهم من ولد يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصّنائع والملل والشّرائع والسّياسة والملك من ولد سام وهذا الزّعم وإن صادف الحقّ في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطّرد إنّما هو إخبار عن الواقع لا أنّ تسمية أهل الجنوب بالسّودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. وما أدّاهم إلى هذا الغلط إلّا اعتقادهم أنّ التّمييز بين الأمم إنّما يقع بالأنساب فقط وليس كذلك فإنّ التّمييز للجيل أو الأمّة يكون بالنّسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس ويكون بالجهة والسمة كما للزّنج والحبشة والصّقالبة والسّودان ويكون بالعوائد والشّعار والنّسب كما للعرب. ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصّهم ومميّزاتهم فتعميم القول في أهل جهة معيّنة من جنوب أو شمال بأنّهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنّما هو من الأغاليط الّتي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات وإنّ هذه كلّها تتبدّل في الأعقاب ولا يجب استمرارها سنّة الله في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلا والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم وهو المولى المنعم الرّؤوف الرّحيم.(1/107)
المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر
قد رأينا من خلق السّودان على العموم الخفّة والطّيش وكثرة الطّرب فتجدهم مولعين بالرّقص على كلّ توقيع موصوفين بالحمق في كلّ قطر والسّبب الصّحيح في ذلك أنّه تقرّر في موضعه من الحكمة أنّ طبيعة الفرح والسّرور هي انتشار الرّوح الحيوانيّ وتفشّيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه. وتقرّر أنّ الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميّته ولهذا يجد المنتشي من الفرح والسّرور ما لا يعبّر عنه وذلك بما يداخل بخار الرّوح في القلب من الحرارة العزيزيّة الّتي تبعثها سورة الخمر في الرّوح من مزاجه فيتفشّى الرّوح وتجيء طبيعة الفرح وكذلك نجد المتنعّمين بالحمّامات إذا تنفّسوا في هوائها واتّصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخّنت لذلك حدث لهم فرح وربّما انبعث الكثير منهم بالغناء النّاشئ عن السّرور. ولمّا كان السّودان ساكنين في الإقليم الحارّ واستولى الحرّ على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرّابع أشدّ حرّا فتكون أكثر تفشّيا فتكون أسرع فرحا وسرورا وأكثر انبساطا ويجيء الطّيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحريّة لمّا كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعّته كانت حصّتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفّة موجودة أكثر من بلاد التّلول والجبال الباردة وقد نجد يسيرا من ذلك في أهل البلاد الجزيريّة من الإقليم الثّالث لتوفّر الحرارة فيها وفي(1/108)
هوائها لأنّها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتّلول واعتبر ذلك أيضا بأهل مصر فإنّها مثل عرض البلاد الجزيريّة أو قريبا منها كيف غلب الفرح عليهم والخفّة والغفلة عن العواقب حتّى أنّهم لا يدّخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم وعامّة مأكلهم من أسواقهم. ولمّا كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التّوغّل في التّلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتّى إنّ الرّجل منهم ليدّخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ [1] شيئا من مدّخره وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثرا من كيفيّات الهواء والله الخلّاق العليم وقد تعرّض المسعوديّ للبحث عن السّبب في خفّة السّودان وطيشهم وكثرة الطّرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنّه نقل عن جالينوس ويعقوب بن إسحاق الكنديّ أنّ ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم وهذا كلام لا محصّل له ولا برهان فيه وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم
اعلم أنّ هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلّها يوجد بها الخصب ولا كلّ سكّانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطّينة ووفور العمران وفيها الأرض الحرّة الّتي لا تنبت زرعا ولا عشبا بالجملة فسكّانها في شظف من العيش مثل
__________
[1] أن ينقص.(1/109)
أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل الملثّمين من صنهاجة السّاكنين بصحراء المغرب وأطراف الرّمال فيما بين البربر والسّودان فإنّ هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة وإنّما أغذيتهم وأقواتهم الألبان واللّحوم ومثل العرب أيضا الجائلين في القفار فإنّهم وإن كانوا يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلّا أنّ ذلك في الأحايين وتحت ربقة من حاميتها وعلى الإقلال لقلّة وجدهم فلا يتوصّلون منه إلى سدّ الخلّة [1] أو دونها فضلا عن الرّغد والخصب وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوّضهم من الحنطة أحسن معاض وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التّلول المنغمسين في العيش فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتمّ وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم اثقب في المعارف والإدراكات هذا أمر تشهد له التّجربة في كلّ جيل منهم فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه وبين الملثّمين وأهل التّلول يعرف ذلك من خبره والسّبب في ذلك والله أعلم أنّ كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولّد في الجسم فضلات رديئة تنشأ عنها بعد- أفظارها- في غير نسبة ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللّحم كما قلناه وتغطّي الرّطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدّماغ من أبخرتها الرّديّة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنّعام والمها والزّرافة والحمر الوحشيّة والبقر مع أمثالها من حيوان التّلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بونا بعيدا في صفاء أديمها وحسن رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدّة مداركها فالغزال أخو المعز والزّرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر والبون بينها ما رأيت وما ذاك إلّا لأجل أنّ الخصب في التّلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرّديّة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها
__________
[1] الفقر والحاجة (قاموس)(1/110)
أثره والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء واعتبر ذلك في الآدميّين أيضا فإنّا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزّرع والضّرع والأدم والفواكه يتّصف أهلها غالبا بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم وهذا شان البربر المنغمسين في الأدم والحنطة مع المتقشّفين في عيشهم المقتصرين على الشّعير أو الذرة مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالا في عقولهم وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسين في الأدم والبرّ مع أهل الأندلس المفقود بأرضهم السّمن حملة وغالب عيشهم الذّرة فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول وخفّة الأجسام وقبول التّعليم ما لا يوجد لغيرهم وكذا أهل الضّواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار فإنّ الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلّا أنّ استعمالهم إيّاها بعد العلاج بالطّبخ والتّلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرقّ قوامها وعامّة مآكلهم لحوم الضّأن والدّجاج ولا يغبطون [1] السّمن من بين الأدم لتفاهته فتقلّ الرّطوبات لذلك في أغذيتهم ويخفّ ما تؤدّيه إلى أجسامهم من الفضلات الرّديّة فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم البادية المخشّنين في العيش وكذلك تجد المعوّدين بالجوع من أهل البادية لا فضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة. واعلم أنّ أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتّى في حال الدّين والعبادة فنجد المتقشّفين من أهل البادية أو الحاضرة ممّن يأخذ نفسه بالجوع والتّجافي عن الملاذّ أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل التّرف والخصب بل نجد أهل الدّين قليلين في المدن والأمصار لما يعمّها من القساوة والغفلة المتّصلة بالإكثار من اللّحمان والأدم ولباب البرّ ويختصّ وجود العبّاد والزّهّاد لذلك بالمتقشّفين في غذائهم من أهل البوادي وكذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيّباته من أهل البادية ومن أهل الحواضر
__________
[1] لا يكثرون من استعمال السمن ولا يلتزمونه في أدمهم.(1/111)
والأمصار إذا نزلت بهم السّنون [1] وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر والصّحراء ولا مثل أهل بلاد النّخل الّذين غالب عيشهم التّمر ولا مثل أهل إفريقية لهذا العهد الّذين غالب عيشهم الشّعير والزّيت وأهل الأندلس الّذين غالب عيشهم الذّرة والزّيت فإنّ هؤلاء وإن أخذتهم السّنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك بالجوع بل ولا يندر والسّبب في ذلك والله أعلم أنّ المنغمسين في الخصب المتعوّدين للأدم والسّمن خصوصا تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها الأصليّة المزاجيّة حتّى تجاوز حدّها فإذا خولف بها العادة بقلّة الأقوات وفقدان الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعى اليبس والانكماش وهو ضعيف في الغاية فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنّه من المقاتل فالهالكون في المجاعات إنّما قتلهم الشّبع المعتاد السّابق لا الجوع الحادث اللّاحق. وأمّا المتعوّدون لقلّة الأدم [2] والسّمن فلا تزال رطوبتهم الأصليّة واقفة عند حدّها من غير زيادة وهي قابلة لجميع الأغذية الطّبيعيّة فلا يقع في معاهم بتبدّل الأغذية يبس ولا انحراف فيسلمون في الغالب من الهلاك الّذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل وأصل هذا كلّه أن تعلم أنّ الأغذية وائتلافها أو تركها إنّما هو بالعادة فمن عوّد نفسه غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفا وصار الخروج عنه والتّبدّل به داء ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسّموم واليتّوع [3] وما أفرط في الانحراف فأمّا ما وجد فيه التّغذّي والملاءمة فيصير غذاء مألوفا بالعادة فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللّبن والبقل عوضا عن الحنطة حتّى صار له ديدنا فقد حصل له ذلك
__________
[1] السنون: ج السّنة: الجدب والقحط (قاموس) .
[2] في بعض النسخ: اما المتعودون للعيمة وترك الأدم والعيمة شهوة اللبن (قاموس) .
[3] قال في القاموس اليتّوع كصبور أو تنور كل نبات له لبن دار مسهل محرق مقطع والمشهور منه سبعة الشيرم واللاعية والعرطنيثا والماهودانه والمازريون والفلجلشت والعشر وكل اليتوعات إذا استعملت في غير وجهها أهلكت.(1/112)
غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك وكذا من عوّد نفسه الصّبر على الجوع والاستغناء عن الطّعام كما ينقل عن أهل الرّياضيّات فإنّا نسمع عنهم في ذلك أخبارا غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها والسّبب في ذلك العادة فإنّ النّفس إذا ألفت شيئا صار من جبلتها وطبيعتها لأنّها كثيرة التّلوّن فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتّدريج والرّياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعيّة لها وما يتوهّمه الأطبّاء من أنّ الجوع مهلك فليس على ما يتوهّمونه إلّا إذا حملت النّفس عليه دفعة وقطع عنها الغذاء بالكليّة فإنّه حينئذ ينحسم المعاء ويناله المرض الّذي يخشى معه الهلاك وأمّا إذا كان ذلك القدر تدريجا ورياضة بإقلال الغذاء شيئا فشيئا كما يفعله المتصوّفة فهو بمعزل عن الهلاك وهذا التّدريج ضروريّ حتّى في الرّجوع عن هذه الرّياضة فإنّه إذا رجع به إلى الغذاء الأوّل دفعة خيف عليه الهلاك وإنّما يرجع به كما بدأ في الرّياضة بالتّدريج ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا وأكثر. وحضر أشياخنا بمجلس السّلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصحّ شأنهما واتّصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا ورأينا كثيرا من أصحابنا أيضا من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النّهار أو عند الإفطار ويكون ذلك غذاءه واستدام على ذلك خمس عشرة سنة وغيرهم كثير ولا يستنكر ذلك. واعلم أنّ الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكلّ وجه لمن قدر عليه أو على الإقلال منها وإنّ له أثرا في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه واعتبر ذلك بآثار الأغذية الّتي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذّين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذّون بألبان الإبل ولحومها أيضا مع ما يؤثّر في أخلاقهم من الصّبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضا على نسبة أمعاء الإبل(1/113)
في الصّحّة والغلظ فلا يطرقها الوهن ولا ينالها من مدار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتّوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه والدّرياس والقربيون ولا ينال أمعاءهم منها ضرر وهي لو تناولها أهل الحضر الرّقيقة أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السّمية ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التّجربة أنّ الدّجاج إذا غذّيت بالحبوب المطبوخة في بعر الإبل واتخذ بيضها ثمّ حضنت عليه جاء الدّجاج منها أعظم ما يكون وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضّن فيجيء دجاجها في غاية العظم وأمثال ذلك كثيرة فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شكّ أنّ للجوع أيضا آثارا في الأبدان لأنّ الضّدّين على نسبة واحدة في التّأثير وعدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزّيادات الفاسدة والرّطوبات المختلطة المخلّة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثّرا في وجود ذلك الجسم والله محيط بعلمه.(1/114)
المقدمة السادسة في أصناف المدركين من البشر بالفطرة أو الرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا
اعلم أنّ الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضّلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينهم وبين عباده يعرّفونهم بمصالحهم ويحرّضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النّار ويدلّونهم على طريق النّجاة وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيّبة عن البشر الّتي لا سبيل إلى معرفتها إلّا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلّا بتعليم الله إيّاهم قال صلّى الله عليه وسلّم ألا وإنّي لا أعلم إلّا ما علّمني الله واعلم أنّ خبرهم في ذلك من خاصّيّته وضرورته الصّدق لما يتبيّن لك عند بيان حقيقة النّبوة وعلامة هذا الصّنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنّها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنّما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الرّوحانيّ بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلّيّة ثمّ يتنزّل إلى المدارك البشريّة إمّا بسماع دويّ من الكلام فيتفهّمه أو يتمثّل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثمّ تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما القي إليه قال صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن الوحي «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم [1] عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» ويدركه أثناء ذلك من
__________
[1] يفصم عني: يفارقني(1/115)
الشدّة والغطّ ما لا يعبّر عنه ففي الحديث كان ممّا يعالج من التّنزيل شدّة [1] وقالت عائشة كان ينزّل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا وقال تعالى «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 73: 5» ولأجل هذه الغاية في تنزّل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئيّ أو تابع من الجنّ وإنّما لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال ومن يضلل الله فما له من هاد. ومن علاماتهم أيضا أنّه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزّكاء ومجانبة المذمومات والرّجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنّه مفطور على التّنزّه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنّها منافية لجبلته وفي الصّحيح أنّه حمل الحجارة وهو غلام مع عمّه العبّاس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيّا عليه حتّى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النّوم إلى أن طلعت الشّمس ولم يحضر شيئا من شأنهم بل نزّهه الله عن ذلك كله حتّى إنّه بجبلته يتنزّه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يقرب البصل والثّوم فقيل له في ذلك فقال إنّي أناجي من لا تناجون وانظر لما أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أوّل ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلمّا فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنّه ملك وليس بشيطان ومعناه أنّه لا يقرب النّساء وكذلك سألته عن أحبّ الثّياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنّه الملك يعني أنّ البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسّواد من ألوان الشّرّ والشّياطين وأمثال ذلك. ومن علاماتهم أيضا دعاؤهم إلى الدّين والعبادة من الصّلاة والصّدقة والعفاف وقد استدلّت خديجة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم بذلك وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفي الصّحيح أنّ هرقل حين جاءه كتاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان
__________
[1] الحديث: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل بشدة، رواه ابن عباس.(1/116)
فيما سأل أن قال بم يأمركم فقال أبو سفيان بالصّلاة والزّكاة والصّلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال إن يكن ما تقول حقّا فهو نبيّ وسيملك ما تحت قدميّ هاتين والعفاف الّذي أشار إليه هرقل [1] هو العصمة فانظر كيف أخذ من العصمة والدّعاء إلى الدّين والعبادة دليلا على صحّة نبوته ولم يحتج إلى معجزة فدلّ على أنّ ذلك من علامات النّبوة. ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي حسب في قومهم وفي الصّحيح ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه وفي رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصّحيحين وفي مسألة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصّحيح قال كيف هو فيكم فقال أبو سفيان هو فينا ذو حسب فقال هرقل والرّسل تبعث في أحساب قومها ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفّار حتّى يبلّغ رسالة ربّه ويتمّ مراد الله من إكمال دينه وملّته. ومن علاماتهم أيضا وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسمّيت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنّما تقع في غير محلّ قدرتهم وللنّاس في كيفيّة وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف فالمتكلّمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنّها واقعة بقدرة الله لا بفعل النّبيّ وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلّا أنّ المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم وليس للنّبيّ فيها عند سائر المتكلّمين إلّا التّحدّي بها بإذن الله وهو أن يستدلّ بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل وقوعها على صدقه في مدّعاه فإذا وقعت تنزّلت منزلة القول الصّريح من الله بأنّه صادق وتكون دلالتها حينئذ على الصّدق قطعيّة فالمعجزة الدّالّة بمجموع الخارق والتّحدّي ولذلك كان التّحدّي جزءا منها وعبارة المتكلّمين صفة نفسها وهو واحد لأنّه معنى الذّاتيّ عندهم والتّحدّي هو الفارق بينها وبين الكرامة والسّحر إذ لا حاجة فيهما إلى التّصديق فلا وجود للتّحدّي إلّا إن وجد اتّفاقا وإن وقع التّحدّي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنّما هي على الولاية وهي غير النّبوة ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحاق وغيره وقوع
__________
[1] قوله الّذي أشار إليه هرقل الظاهر أبو سفيان.(1/117)
الخوارق كرامة فرارا من الالتباس بالنّبوءة عند التّحدّي بالولاية وقد أريناك المغايرة بينهما وإنّه يتحدّى بغير ما يتحدّى به النّبيّ فلا لبس على أنّ النّقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحا وربّما حمل على إنكار لأن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه. وأمّا المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أنّ الخوارق ليست من أفعال العباد وأفعالهم معتادة فلا فرق وأمّا وقوعها على يد الكاذب تلبيسا فهو محال أمّا عند الأشعريّة فلأنّ صفة نفس المعجزة التّصديق والهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدّليل شبهة والهداية ضلالة والتّصديق كذبا واستحالت الحقائق وانقلبت صفات النّفس وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكنا وأمّا عند المعتزلة فلأنّ وقوع الدّليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله. وأمّا الحكماء فالخارق عندهم من فعل النّبيّ ولو كان في غير محلّ القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذّاتيّ ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقّف على الأسباب والشّروط الحادثة مستندة أخيرا إلى الواجب الفاعل بالذّات لا بالاختيار وإنّ النّفس النّبويّة عندهم لها خواصّ ذاتيّة منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التّكوين والنبيّ عندهم مجبول على التّصريف [1] في الأكوان مهما توجّه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك والخارق عندهم يقع للنّبيّ سواء كان للتّحدّي أم لم يكن وهو شاهد بصدقة من حيث دلالته على تصرّف النّبيّ في الأكوان الّذي هو من خواصّ النّفس النّبويّة لا بأنّه يتنزّل منزلة القول الصّريح بالتّصديق فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعيّة كما هي عند المتكلّمين ولا يكون التّحدّي جزأ من المعجزة ولم يصحّ فارقا لها عن السّحر والكرامة وفارقها عندهم عن السّحر أنّ النّبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشّرّ فلا يلمّ الشّرّ بخوارقه والسّاحر على الضّدّ فأفعاله كلّها شرّ وفي مقاصد الشّرّ وفارقها عن الكرامة أنّ خوارق النّبيّ مخصوصة
__________
[1] صرفه في الأمر: فوّض الأمر إليه (قاموس)(1/118)
كالصّعود إلى السّماء والنّفوذ في الأجسام الكثيفة وإحياء الموتى وتكليم الملائكة والطّيران في الهواء وخوارق الوليّ دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله ممّا هو قاصر عن تصريف الأنبياء ويأتي النّبيّ بجميع خوارقه ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء وقد قرر ذلك المتصوّفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقّنوه عمّن أخبرهم وإذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزّل على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإنّ الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الّذي يتلقّاه النّبيّ ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقة والقرآن هو بنفسه الوحي المدّعي وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتّحاد الدّليل والمدلول فيه وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «ما من نبيّ من الأنبياء إلّا وأتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحي إليّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» يشير إلى أنّ المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوّة الدّلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصّدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدّق المؤمن وهو التّابع والأمّة.(1/119)
ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شان العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب
فنقول اعلم. أرشدنا الله وإيّاك أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلّها على هيئة من التّرتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسبّبات واتّصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثمانيّ وأوّلا عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعدا من الأرض إلى الماء ثمّ إلى الهواء ثمّ إلى النّار متّصلا بعضها ببعض وكلّ واحد منها مستعدّ إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا وهابطا ويستحيل بعض الأوقات والصّاعد منها ألطف ممّا قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكلّ على طبقات اتّصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحسّ منها إلّا الحركات فقط وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذّوات الّتي لها هذه الآثار فيها ثمّ انظر إلى عالم التّكوين كيف ابتدأ من المعادن ثمّ النّبات ثمّ الحيوان على هيئة بديعة من التّدريج آخر أفق المعادن متّصل بأوّل أفق النّبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النّبات مثل النّخل والكرم متّصل بأوّل أفق الحيوان مثل الحلزون والصّدف ولم يوجد لهما إلّا قوة اللّمس فقط ومعنى الاتّصال في هذه المكوّنات أنّ آخر أفق منها(1/120)
مستعدّ بالاستعداد الغريب [1] لأن يصير أول أفق الّذي بعده واتّسع عالم الحيوان وتعدّدت أنواعه وانتهى في تدريج التّكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرّويّة ترتفع إليه من عالم القدرة [2] الّذي اجتمع فيه الحسّ والإدراك ولم ينته إلى الرّويّة والفكر بالفعل وكان ذلك أوّل أفق من الإنسان بعده وهذا غاية شهودنا ثمّ إنّا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوّعة ففي عالم الحسّ آثار من حركات الأفلاك والعناصر وفي عالم التّكوين آثار من حركة النّموّ والإدراك تشهد كلّها بأنّ لها مؤثّرا مباينا للأجسام فهو روحانيّ ويتّصل بالمكوّنات لوجود اتّصال هذا العالم في وجودها ولذلك هو النّفس المدركة والمحرّكة ولا بدّ فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة ويتّصل بها أيضا ويكون ذاته إدراكا صرفا وتعقّلا محضا وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنّفس استعداد للانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللّمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الرّوحانيّة بالفعل كما نذكره بعد ويكون لها اتّصال بالأفق الّذي بعدها شأن الموجودات المرتّبة كما قدّمناه فلها في الاتّصال جهتا العلوّ والسّفل وهي متّصلة بالبدن من أسفل منها وتكتسب به المدارك الحسّيّة الّتي تستعدّ بها للحصول على التّعقّل بالفعل ومتّصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلميّة والغيبيّة فإنّ عالم الحوادث موجود في تعقّلاتهم من غير زمان وهذا على ما قدّمناه من التّرتيب المحكم في الوجود باتّصال ذواته وقواه بعضها ببعض ثمّ إنّ هذه النّفس الإنسانيّة غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن فكأنّه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنّفس ولقواها أمّا الفاعليّة فالبطش باليد والمشي بالرّجل والكلام باللّسان والحركة الكلّيّة بالبدن متدافعا وأمّا المدركة وإن كانت قوى الإدراك مرتّبة
__________
[1] وفي بعض النسخ: القريب وليس لهما أي معنى هنا. والمرجح أنها محرفة عن كلمة غريزي.
[2] كذا في جميع النسخ ما عدا نسخة لجنة البيان العربيّ: القردة وهي منسجمة مع سياق معنى العبارة هنا.(1/121)
ومرتقيّة إلى القوّة العليا منها ومن المفكّرة الّتي يعبّر عنها بالنّاطقيّة فقوى الحسّ الظّاهرة بآلاته من السّمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن وأوّله الحسّ المشترك وهو قوّة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوّة الحسّ الظّاهر لأنّ المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثمّ يؤدّيه الحسّ المشترك إلى الخيال وهي قوة تمثّل الشّيء المحسوس في النّفس كما هو مجرّد عن الموادّ الخارجة فقط وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأوّل من الدّماغ مقدّمه للأولى ومؤخّره للثّانية ثمّ يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلّقة بالشّخصيّات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذّئب والحافظة لإيداع المدركات كلّها متخيّلة وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخّر من الدّماغ أوّله للأولى ومؤخّره للأخرى ثمّ ترتقي جميعها إلى قوّة الفكر وآلته البطن الأوسط من الدّماغ وهي القوّة الّتي يقع بها حركة الرّؤية والتّوجّه نحو التّعقّل فتحرّك النّفس بها دائما لما ركب فيها من النّزوع للتّخلّص من درك القوّة والاستعداد الّذي للبشريّة وتخرج إلى الفعل في تعقّلها متشبّهة بالملإ الأعلى الرّوحانيّ وتصير في أوّل مراتب الرّوحانيّات في إدراكها بغير الآلات الجسمانيّة فهي متحرّكة دائما ومتوجّهة نحو ذلك وقد تنسلخ بالكلّيّة من البشريّة وروحانيّتها إلى الملكيّة من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك.
أصناف النفوس البشرية
إنّ النّفوس البشريّة على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطّبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السّفلى نحو المدارك الحسّيّة والخياليّة وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاصّ يستفيدون به العلوم التّصوّريّة والتّصديقيّة الّتي للفكر في البدن وكلّها خياليّ منحصر نطاقه إذ(1/122)
هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوّليّات ولا يتجاوزها وإن فسد فسد ما بعدها وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشريّ الجسمانيّ وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم. وصنف متوجّه بتلك الحركة الفكريّة نحو العقل الرّوحانيّ والإدراك الّذي لا يفتقر إلى الآلات البدنيّة بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتّسع نطاق إدراكه عن الأوّليّات الّتي هي نطاق الإدراك الأوّل البشريّ ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنيّة وهي وجدان كلّها نطاق من مبدئها ولا من منتهاها وهذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدّينيّة والمعارف الرّبّانيّة وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السّعادة في البرزخ.
الوحي
وصنف مفطور على الانسلاخ من البشريّة جملة جسمانيّتها وروحانيّتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللّمحات ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النّفسانيّ والخطاب الإلهيّ في تلك اللّمحة وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشريّة في تلك اللّمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صوّرهم فيها ونزّههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشريّة بما ركّب في غرائزهم من القصد والاستقامة الّتي يحاذون بها تلك الوجهة وركّز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها فهم يتوجّهون إلى ذلك الأفق بذلك النّوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة الّتي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة فلذا توجّهوا وانسلخوا عن بشريّتهم وتلقّوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقّونه، وعاجوا به على المدارك البشريّة منزّلا في قواها لحكمة التّبليغ للعباد فتارة يسمع أحدهم دويّا كأنّه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الّذي ألقي إليه فلا ينقضي الدّويّ إلّا وقد وعاه وفهمه وتارة يتمثّل له الملك الّذي يلقي إليه رجلا فيكلّمه ويعي ما يقوله والتّلقّي من الملك والرّجوع إلى المدارك البشريّة وفهمه(1/123)
ما ألقي عليه كلّه كأنّه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنّه ليس في زمان بل كلّها تقع جميعا فيظهر كأنّها سريعة ولذلك سمّيت وحيا لأنّ الوحي في اللّغة الإسراع واعلم أنّ الأولى وهي حالة الدّويّ هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حقّقوه والثّانية وهي حالة تمثّل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى وهذا معنى الحديث الّذي فسّر فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوحي لمّا سأله الحارث بن هشام وقال: كيف يأتيك الوحي؟
فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك فيكلّمني فأعي ما يقول» وإنّما كانت الأولى أشدّ لأنّها مبدأ الخروج في ذلك الاتّصال من القوّة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لمّا عاج فيها على المدارك البشريّة اختصّت بالسّمع وصعب ما سواه وعند ما يتكرّر الوحي ويكثر التّلقّي يسهل ذلك الاتّصال فعند ما يعرّج إلى المدارك البشريّة يأتي على جميعها وخصوصا الأوضح منها وهو إدراك البصر وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثّانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أنّ الكلام جاء مجيء التّمثيل لحالتي الوحي فمثّل الحالة الأولى بالدّويّ الّذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أنّ الفهم والوعي يتبعه غبّ انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثّل الملك في الحالة الثّانية برجل يخاطب ويتكلّم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتّجدّد. واعلم أنّ في حالة الوحي كلّها صعوبة على الجملة وشدّة قد أشار إليها القرآن قال تعالى:
«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 73: 5» وقالت عائشة: «كان ممّا يعاني من التّنزيل شدّة» [1] وقالت: «كان ينزّل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» . ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط
__________
[1] رواه ابن عباس وليست عائشة.(1/124)
ما هو معروف وسبب ذلك أنّ الوحي كما قرّرنا مفارقة البشريّة إلى المدارك الملكيّة وتلقّي كلام النّفس فيحدث عنه شدّة من مفارقة الذّات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر وهذا هو معنى الغطّ الّذي عبّر به في مبدإ الوحي في قوله «فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ وكذا ثانية وثالثة» . كما في الحديث وقد يفضي الاعتياد بالتّدريج فيه شيئا فشيئا إلى بعض السّهولة بالقياس إلى ما قبله ولذلك كان تنزّل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكّة أقصر منها وهو بالمدينة وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنّها نزّلت كلّها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكّة ينزّل عليه بعض السّورة من قصار المفصل في وقت وينزّل الباقي في حين آخر وكذلك كان آخر ما نزّل بالمدينة آية الدّين وهي ما هي في الطّول بعد أن كانت الآية تنزّل بمكّة مثل آيات الرّحمن والذّاريات والمدثّر والضّحى والفلق وأمثالها. واعتبر من ذلك علامة تميّز بها بين المكّيّ والمدنيّ من السّور والآيات والله المرشد إلى الصّواب. هذا محصّل أمر النّبوة.
الكهانة
وأمّا الكهانة فهي أيضا من خواصّ النّفس الإنسانيّة وذلك أنّه قد تقدّم لنا في جميع ما مرّ أنّ للنّفس الإنسانيّة استعدادا للانسلاخ من البشريّة إلى الرّوحانيّة الّتي فوقها وأنّه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرّر أنّه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التّصوّرات ولا من الأفعال البدنيّة كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور إنّما هو انسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجودا في الطّبيعة البشريّة فيعطى التّقسيم العقليّ وإنّ هنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة الصّنف الأوّل نقصان الضّدّ عن ضدّه الكامل لأنّ عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضدّ الاستعانة فيه وشتّان ما بينهما(1/125)
فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفا آخر من البشر مفطورا على أن تتحرّك قوّته العقليّة حركتها الفكريّة بالإرادة عند ما يبعثها النّزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة عند ما يعوّقها العجز عن ذلك تشبّث بأمور جزئيّة محسوسة أو متخيّلة كالأجسام الشّفّافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التّخيّل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الّذي يقصده ويكون كالمشيّع له وهذه القوّة الّتي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النّفوس مفطورة على النّقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيّات أكثر من الكلّيّات ولذلك تكون المخيّلة فيهم في غاية القوّة لأنّها آلة الجزئيّات فتنفذ فيها نفوذا تامّا في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيّلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأنّ وحيه من وحي الشّيطان وأرفع أحوال هذا الصّنف أن يستعين بالكلام الّذي فيه السّجع والموازنة ليشتغل به عن الحواسّ ويقوى بعض الشّيء على ذلك الاتّصال النّاقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والّذي يشيّعها من ذلك الأجنبيّ ما يقذفه على لسانه فربّما صدق ووافق الحقّ وربّما كذب لأنّه يتمّم نقصه بأمر أجنبيّ عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصّدق والكذب جميعا ولا يكون موثوقا به وربّما يفزع إلى الظّنون والتّخمينات حرصا على الظّفر بالإدراك بزعمه وتمويها على السّائلين وأصحاب هذا السّجع هم المخصوصون باسم الكهّان لأنّهم أرفع سائر أصنافهم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في مثله «هذا من سجع الكهّان» فجعل السّجع مختصّا بهم بمقتضى الإضافة وقد قال لابن صيّاد حين سأله كاشفا عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: «يأتيني صادقا وكاذبا» فقال: «خلط عليك الأمر» يعني أنّ النّبوة خاصّتها الصّدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنّها اتّصال من ذات النّبيّ بالملإ الأعلى من غير مشيّع ولا استعانة بأجنبيّ والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى(1/126)
الاستعانة بالتّصوّرات الأجنبيّة كانت داخلة في إدراكه والتبست بالإدراك الّذي توجّه إليه فصار مختلطا بها وطرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة وإنّما قلنا إنّ أرفع مراتب الكهانة حالة السّجع لأنّ معنى السّجع أخفّ من سائر المغيّبات من المرئيّات والمسموعات وتدلّ خفّة المعنى على قرب ذلك الاتّصال والإدراك والبعد فيه عن العجز بعض الشّيء وقد زعم بعض النّاس أنّ هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النّبوة بما وقع من شأن رجم الشّياطين بالشّهب بين يدي البعثة وأنّ ذلك كان لمنعهم من خبر السّماء كما وقع في القرآن والكهّان إنّما يتعرّفون أخبار السّماء من الشّياطين فبطلت الكهانة من يومئذ ولا يقوم من ذلك دليل لأنّ علوم الكهّان كما تكون من الشّياطين تكون من نفوسهم أيضا كما قرّرناه وأيضا فالآية إنّما دلّت على منع الشّياطين من نوع واحد من أخبار السّماء وهو ما يتعلّق بخبر البعثة ولم يمنعوا ممّا سوى ذلك. وأيضا فإنّما كان ذلك الانقطاع بين يدي النّبوة فقط ولعلّها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظّاهر لأنّ هذه المدارك كلّها تخمد في زمن النّبوة كما تخمد الكواكب والسّرج عند وجود الشّمس لأنّ النّبوة هي النّور الأعظم الّذي يخفى معه كلّ نور ويذهب.
وقد زعم بعض الحكماء أنّها إنّما توجد بين يدي النّبوة ثمّ تنقطع وهكذا كلّ نبؤه وقعت لأنّ وجود النّبوة لا بدّ له من وضع فلكيّ يقتضيه وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النّبوة الّتي دلّ عليها ونقص ذلك الوضع عن التّمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النّوع الّذي يقتضيه ناقصة وهو معنى الكاهن على ما قرّرناه فقبل أن يتمّ ذلك الوضع الكامل يقع الوضع النّاقص ويقتضي وجود الكاهن إمّا واحدا أو متعدّدا فإذا تمّ ذلك الوضع تمّ وجود النّبيّ بكماله وانقضت الأوضاع الدّالّة على مثل تلك الطّبيعة فلا يوجد منها شيء بعد وهذا بناء على أنّ بعض الوضع الفلكيّ يقتضي بعض أثره وهو غير مسلّم. فلعلّ الوضع إنّما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئا، لا إنّه يقتضي ذلك الأثر(1/127)
ناقصا كما قالوه. ثمّ إنّ هؤلاء الكهّان إذا عاصروا زمن النّبوة فإنّهم عارفون بصدق النّبيّ ودلالة معجزته لأنّ لهم بعض الوجدان من أمر النّبوة كما لكلّ إنسان من أمر اليوم ومعقوبيّة تلك النّسبة موجودة للكاهن بأشدّ ممّا للنّائم ولا يصدّهم عن ذلك ويوقعهم في التّكذيب إلّا قوّة المطامع في أنّها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأميّة بن أبي الصلت فإنّه كان يطمع أن يتنبّأ وكذا وقع لابن صيّاد ولمسيلمة وغيرهم فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأمانيّ آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسديّ وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلاميّة من الآثار الشّاهدة بحسن الإيمان.
الرؤيا
وأمّا الرّؤيا فحقيقتها مطالعة النّفس النّاطقة في ذاتها الرّوحانيّة لمحة من صور الواقعات فإنّها عند ما تكون روحانيّة تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذّوات الرّوحانيّة كلّها وتصير روحانيّة بأن تتجرّد عن الموادّ الجسمانيّة والمدارك البدنيّة وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النّوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا وغير جليّ بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلّصه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التّعبير وقد يكون الاقتباس قويّا يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسّبب في وقوع هذه اللّمحة للنّفس أنّها ذات روحانيّة بالقوّة مستكملة بالبدن ومداركه [1] حتّى تصير ذاتها تعقّلا محضا ويكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتا روحانيّة مدركة بغير شيء من الآلات البدنيّة إلّا أنّ نوعها في الرّوحانيّات دون نوع
__________
[1] في نسخة لجنة البيان العربيّ عبارة بين قوسين وهي (ولا بد من تخلصها من البدن ومداركه) وهذه الجملة غير واردة في جميع النسخ الأخرى وهي متممة لمعنى الجملة التي قبلها، ولا يستقيم المعنى بدونها.(1/128)
الملائكة أهل الأفق الأعلى على الّذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن ومنه خاصّ كالّذي للأولياء ومنه عامّ للبشر على العموم وهو أمر الرّؤيا. وأمّا الّذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة المحضة الّتي هي أعلى الرّوحانيّات ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرّرا في حالات الوحي وهو عند ما يعرّج على المدارك البدنيّة ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون [1] شبيها بحال النّوم شبها بيّنا وإن كان حال النّوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشّبه عبّر الشّارع عن الرّؤيا بأنّها جزء من ستّة وأربعين جزأ من النّبوة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصودا بالذّات وإنّما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السّبعين في بعض طرقه وهو للتّكثير عند العرب وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستّة وأربعين من أنّ الوحي كان في مبدئه بالرّؤيا ستّة أشهر وهي نصف سنة ومدّة النّبوة كلّها بمكّة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السّنة منها جزء من ستّة وأربعين فكلام بعيد من التّحقيق لأنّه إنّما وقع ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن أين لنا أنّ هذه المدّة وقعت لغيره من الأنبياء مع أنّ ذلك إنّما يعطي نسبة زمن الرّؤيا من زمن النّبوة ولا يعطى حقيقتها من حقيقة النّبوة وإذا تبيّن لك هذا ممّا ذكرناه أوّلا علمت أنّ معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأوّل الشّامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاصّ بصنف الأنبياء الفطريّ لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاما في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل ومن أعظم تلك الموانع الحواسّ الظّاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواسّ بالنّوم الّذي هو جبليّ لهم فتتعرّض النّفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوّف إليه في عالم الحقّ فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظّفر
__________
[1] وردت هذه الكلمة في نسخة. لجنة البيان العربيّ فقط وهي غير موجودة في جميع النسخ ولا يستقيم المعنى بدونها.(1/129)
بالمطلوب ولذلك جعلها الشّارع من المبشّرات فقال لم يبق من النّبوة إلّا المبشّرات قالوا وما المبشّرات يا رسول الله قال الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح أو ترى له وأمّا سبب ارتفاع حجاب الحواسّ بالنّوم فعلى ما أصفه لك وذلك أنّ النّفس النّاطقة إنّما إدراكها وأفعالها بالرّوح الحيوانيّ الجسمانيّ وهو بخار لطيف مركزه بالتّجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التّشريح لجالينوس وغيره وينبعث مع الدّم في الشّريانات والعروق فيعطي الحسّ والحركة وسائر الأفعال البدنيّة ويرتفع لطيفه إلى الدّماغ فيعدّل من برده وتتمّ أفعال القوى الّتي في بطونه فالنّفس النّاطقة إنّما تدرك وتعقل بهذا الرّوح البخاريّ وهي متعلّقة به لما اقتضته حكمة التّكوين في أنّ اللّطيف لا يؤثّر في الكثيف ولمّا لطف هذا الرّوح الحيوانيّ من بين الموادّ البدنيّة صار محلّا لآثار الذّات المباينة له في جسمانيّته وهي النّفس النّاطقة وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته وقد كنّا قدّمنا أنّ إدراكها على نوعين إدراك بالظّاهر وهو الحواسّ الخمس وإدراك بالباطن وهو القوى الدّماغيّة وأنّ هذا الإدراك كلّه صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الرّوحانيّة الّتي هي مستعدّة له بالفطرة ولمّا كانت الحواسّ الظّاهرة جسمانيّة كانت معرّضة للوسن والفشل بما يدركها من التّعب والكلال وتغشى الرّوح بكثرة التّصرّف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرّد الإدراك على الصّورة الكاملة وإنّما يكون ذلك بانخناس [1] الرّوح الحيوانيّ من الحواسّ الظّاهرة كلّها ورجوعه إلى الحسّ الباطن ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد باللّيل فتطلب الحرارة الغريزيّة أعماق البدن وتذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيّعة مركبها وهو الرّوح الحيوانيّ إلى الباطن ولذلك كان النّوم للبشر في الغالب إنّما هو باللّيل فإذا انخنس الرّوح عن الحواسّ الظّاهرة ورجع إلى القوى الباطنة وخفّت عن النّفس شواغل الحسّ وموانعه ورجعت إلى الصّورة الّتي في الحافظة تمثّل منها
__________
[1] انخناس: تأخر وانقباض وتخلف (قاموس) .(1/130)
بالتّركيب والتّحليل صور خياليّة وأكثر ما تكون معتادة لأنّها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا ثمّ ينزّلها الحسّ المشترك الّذي هو جامع الحواسّ الظّاهرة فيدركها على أنحاء الحواسّ الخمس الظّاهرة وربّما التفتت النّفس لفتة إلى ذاتها الرّوحانيّة مع منازعتها القوى الباطنيّة فتدرك بإدراكها الرّوحانيّ لأنّها مفطورة عليه وتقتبس من صور الأشياء الّتي صارت متعلّقة في ذاتها حينئذ ثمّ يأخذ الخيال تلك الصّور المدركة فيمثّلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتّعبير وتصرّفها بالتّركيب والتّحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللّمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. وفي الصّحيح أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرؤيا ثلاث رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشّيطان» وهذا التّفصيل مطابق لما ذكرناه فالجليّ من الله والمحاكاة الدّاعية إلى التّعبير من الملك وأضغاث الأحلام من الشّيطان لأنّها كلّها باطل والشّيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرّؤيا وما يسبّبها ويشيّعها من النّوم وهي خواصّ للنّفس الإنسانيّة موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كلّ واحد من الإنسانيّ رأى في نومه ما صدر له في يقظته مرارا غير واحدة وحصل له على القطع أنّ النّفس مدركة للغيب في النّوم ولا بدّ وإذا جاز ذلك في عالم النّوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال لأنّ الذّات المدركة واحدة وخواصّها عامّة في كلّ حال والله الهادي إلى الحقّ بمنّه وفضله.
فصل:
ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالبا إنّما هو من غير قصد ولا قدرة عليه وإنّما تكون النّفس متشوّقة لذلك الشّيء فيقع بتلك اللّمحة في النّوم لأنّها تقصد إلى ذلك فتراه وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرّياضيّات ذكر أسماء تذكر عند النّوم فتكوّن عنها الرّؤيا فيما يتشوّف إليه ويسمّونها الحالوميّة وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سمّاها حالومة الطّبّاع التّامّ وهو أن يقال عند النّوم بعد فراغ السّرّ وصحّة التّوجّه هذه الكلمات الأعجميّة وهي(1/131)
«تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس» [1] ويذكر حاجته فإنّه يرى الكشف عمّا يسأل عنه في النّوم. وحكي إنّ رجلا فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثّل له شخص يقول له أنا طبّاعك التّامّ فسأله وأخبره عمّا كان يتشوّف إليه وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطّلعت بها على أمور كنت أتشوّف عليها من أحوالي وليس ذلك بدليل على أنّ القصد للرّؤيا يحدثها وإنّما هذه الحالومات تحدث استعدادا في النّفس لوقوع الرّؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعدّ له وللشّخص أن يفعل من الاستعداد ما أحبّ ولا يكون دليلا على إيقاع المستعدّ له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشّيء فاعلم ذلك وتدبّره فيما تجد من أمثاله والله الحكيم الخبير.
فصل:
ثمّ إنّا نجد في النّوع الإنسانيّ أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميّز بها صنفهم عن سائر النّاس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلّون عليه بأثر من النّجوم ولا من غيرها إنّما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم الّتي فطروا عليها وذلك مثل العرّافين والنّاظرين في الأجسام الشّفافة كالمرايا وطساس الماء والنّاظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزّجر في الطّير والسّباع وأهل الطّرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنّوى وهذه كلّها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحدا جحدها ولا إنكارها وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها وكذلك النّائم والميت لأوّل موته أو نومه يتكلّم بالغيب وكذلك أهل الرّياضيّات من المتصوّفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. ونحن الآن نتكلّم عن هذه الإدراكات كلّها ونبتدئ منها بالكهانة ثمّ نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها ونقدّم على ذلك مقدّمة في أنّ النّفس الإنسانيّة كيف تستعدّ لإدراك الغيب في جميع الأصناف الّتي ذكرناها وذلك أنّها ذات روحانيّة موجودة بالقوّة إلى الفعل
__________
[1] ليس لهذه الكلمات أي معنى في اللغات التي نعرفها وربما تكون لأسماء بعض الجن.(1/132)
بالبدن وأحواله وهذا أمر مدرك لكلّ أحد وكلّ ما بالقوّة فله مادّة وصورة وصورة هذه النّفس الّتي بها يتمّ وجودها هو عين الإدراك والتّعقّل فهي توجد أوّلا بالقوّة مستعدّة للإدراك وقبول الصّور الكلّيّة والجزئيّة ثمّ يتمّ نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها وما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلّيّة فتتعقّل الصّور مرّة بعد أخرى حتّى يحصل لها الإدراك والتّعقّل بالفعل فتتمّ ذاتها وتبقى النّفس كالهيولى والصّور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة ولذلك نجد الصّبيّ في أوّل نشأته لا يقدر على الإدراك الّذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف ولا بغيرهما وذلك انّ صورتها الّتي هي عين ذاتها وهي الإدراك والتّعقّل لم تتمّ بعد بل لم يتمّ لها انتزاع الكلّيّات ثمّ إذا تمّت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤدّيه إليها المدارك البدنيّة وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواسّ وبشواغلها لأنّ الحواسّ أبدا جاذبة لها إلى الظّاهر بما فطرت عليه أوّلا من الإدراك الجسمانيّ وربّما تنغمس من الظّاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إمّا بالخاصّيّة الّتي هي للإنسان على الإطلاق مثل النّوم أو بالخاصيّة الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطّرق أو بالرّياضة مثل أهل الكشف من الصّوفيّة فتلتفت حينئذ إلى الذّوات الّتي فوقها من الملا لما بين أفقها وأفقهم من الاتّصال في الوجود كما قرّرنا قبل وتلك الذّوات روحانيّة وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مرّ فيتجلّى فيها شيء من تلك الصّور وتقتبس منها علوما وربّما دفعت تلك الصّور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثمّ يراجع الحسّ بما أدركت إمّا مجرّدا أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النّفس لهذا الإدراك الغيبيّ. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأمّا النّاظرون في الأجسام الشّفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطّرق بالحصى والنّوى(1/133)
فكلّهم من قبيل الكهان إلّا أنّهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأنّ الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحسّ إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسّيّة كلّها في نوع واحد منها وأشرفها البصر فيعكف على المرئيّ البسيط حتّى يبدو له مدركة الّذي يخبر به عنه وربّما يظنّ أنّ مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنّه غمام يتمثّل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجّهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه وأمّا المرآة وما يدرك فيها من الصّور فلا يدركونه في تلك الحال وإنّما ينشأ لهم بها هذا النّوع الآخر من الإدراك وهو نفسانيّ ليس من إدراك البصر بل يتشكّل به المدرك النّفسانيّ للحسّ كما هو معروف ومثل ذلك ما يعرض للنّاظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللنّاظرين في الماء والطّساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحسّ بالبخور فقط ثمّ بالعزائم للاستعداد ثمّ يخبر كما أدرك ويزعمون أنّهم يرون الصّور متشخّصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجّهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة وغيبة هؤلاء عن الحسّ أخفّ من الأوّلين والعالم أبو الغرائب. وأمّا الزّجر وهو ما يحدث من بعض النّاس من التّكلّم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوّة في النّفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئيّ أو مسموع وتكون قوّته المخيّلة كما قدّمناه قويّة فيبعثها في البحث مستعينا بما رآه أو سمعه فيؤدّيه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوّة المتخيّلة في النّوم وعند ركود الحواسّ تتوسّط بين المحسوس المرئيّ في يقظته وتجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرّؤيا. وأمّا المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التّعلّق بالبدن لفساد أمزجتهم غالبا وضعف الرّوح الحيوانيّ فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواسّ ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النّقص ومرضه وربّما زاحمها على(1/134)
التّعلّق به روحانيّة أخرى شيطانيّة تتشبّث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التّخبّط فإذا أصابه ذلك التّخبّط إمّا لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النّفوس الشّيطانيّة في تعلّقه غاب عن حسّه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصّور وصرفها الخيال وربّما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النّطق وإدراك هؤلاء كلّهم مشوب فيه الحقّ بالباطل لأنّه لا يحصل لهم الاتّصال وإن فقدوا الحسّ إلّا بعد الاستعانة بالتّصوّرات الأجنبيّة كما قرّرناه ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأمّا العرّافون فهم المتعلّقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتّصال فيسلّطون الفكر على الأمر الّذي يتوجّهون إليه ويأخذون فيه بالظّنّ والتّخمين بناء على ما يتوهّمونه من مبادئ ذلك الاتّصال والإدراك ويدّعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور وقد تكلّم عليها المسعودي في مروج الذّهب فما صادف تحقيقا ولا إصابة ويظهر من كلام الرّجل أنّه كان بعيدا عن الرّسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله وهذه الإدراكات الّتي ذكرناها موجودة كلّها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهّان في تعرّف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرّفوهم بالحقّ فيها من إدراك غيبهم وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك واشتهر منهم في الجاهليّة شقّ بن أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسّان وكان يدرج كما يدرج الثّوب ولا عظم فيه إلّا الجمجمة ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النّبوة المحمّديّة في قريش ورؤيا الموبذان الّتي أوّلها سطيح لمّا بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النّبوة وخراب ملك فارس وهذه كلّها مشهورة وكذلك العرّافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال
فقلت لعرّاف اليمامة داوني ... فإنّك إن داويتني لطبيب
وقال الآخر:
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ... وعرّاف نجد إن هما شفياني(1/135)
فقالا شفاك الله والله ما لنا ... بما حملت منك الضّلوع يدان
[1] وعرّاف اليمامة هو رباح بن عجلة وعرّاف نجد الأبلق الأسديّ. ومن هذه المدارك الغيبيّة ما يصدر لبعض النّاس عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنّوم من الكلام على الشّيء الّذي يتشوّف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد ولا يقع ذلك إلّا في مبادئ النّوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختبار في الكلام فيتكلّم كأنّه مجبور على النّطق وغايته أن يسمعه ويفهمه وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رءوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظّالمين أنّهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرّفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أنّ آدميّا إذا جعل في دنّ مملوء بدهن السّمسم ومكث فيه أربعين يوما يغذّى بالتّين والجوز حتّى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلّا العروق وشئون رأسه فيخرج من ذلك الدّهن فحين يجفّ عليه الهواء يجيب عن كلّ شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصّة والعامّة وهذا فعل من مناكير أفعال السّحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنسانيّ ومن النّاس. من يحاول حصول هذا المدرك الغيبيّ بالرّياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنيّة ثمّ محو آثارها الّتي تلوّنت بها النّفس ثمّ تغذيتها بالذّكر لتزداد قوّة في نشئها ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع ومن المعلوم على القطع أنّه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحسّ وحجابه واطّلعت النّفس على المغيّبات ومن هؤلاء أهل الرّياضة السّحريّة يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطّلاع على المغيّبات والتّصرّفات في العوالم وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ويسمّون هنالك الحوكيّة ولهم كتب في كيفيّة هذه الرّياضة كثيرة والأخبار عنهم في ذلك غريبة. وأمّا المتصوّفة فرياضتهم دينيّة وعريّة عن هذه المقاصد المذمومة
__________
[1] أي لا نستطيع أن نشفيك من الحب الّذي تحمله ضلوعك(1/136)
وإنّما يقصدون جمع الهمّة والإقبال على الله بالكلّيّة ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتّوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التّغذية بالذّكر فبها تتمّ وجهتهم في هذه الرّياضة لأنّه إذا نشأت النّفس على الذّكر كانت أقرب إلى العرفان باللَّه وإذا عرّيت عن الذّكر كانت شيطانيّة وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتّصرّف لهؤلاء المتصوّفة إنّما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أوّل الأمر لأنّه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنّما هي لقصد التّصرّف والاطّلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنّها في الحقيقة شرك قال بعضهم: «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثّاني [1] » فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم وكثير منهم يفرّ منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنّما يريد الله لذاته لا لغيره وحصول ذلك لهم معروف ويسمّون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا وما يقع لهم من التّصرّف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقّهم وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ وأبو محمّد بن أبي زيد المالكيّ في آخرين [2] فرارا من التباس المعجزة بغيرها والمعوّل عليه عند المتكلّمين حصول التّفرقة بالتحدّي فهو كاف. وقد ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ فيكم محدّثين وإنّ منهم عمر» وقد وقع للصّحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه «يا سارية الجبل» وهو سارية بن زنيم كان قائدا على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيّام الفتوحات وتورّط مع المشتركين في معترك وهمّ بالانهزام وكان بقربة جبل يتحيّز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصّة معروفة ووقع مثله أيضا لأبي بكر في وصيّته
__________
[1] أي أشرك باللَّه بمعنى ان الله له ثان.
[2] استعمال غير صحيح، وقد استعمله ابن خلدون في مواضع متفرقة من كتابه والصحيح: أخرون.(1/137)
عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها [1] من أوسق [2] التّمر من حديقته ثمّ نبّهها على جذاذه لتحوّزه [3] عن الورثة فقال في سياق كلامه «وإنّما هما أخواك وأختاك» فقالت: «إنّما هي أسماء فمن الأخرى؟» فقال: «إنّ ذا بطن بنت خارجة أراها جارية» فكانت جارية وقع في الموطّإ في باب ما لا يجوز من النّحل ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصّالحين وأهل الاقتداء إلّا أنّ أهل التّصوّف يقولون إنّه يقلّ في زمن النّبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النّبيّ حتّى إنّهم يقولون إنّ المريد إذا جاء للمدينة النّبويّة يسلب حاله ما دام فيها حتّى يفارقها والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحقّ.
ومن هؤلاء المريدين من المتصوّفة قوم بهاليل [4] معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحّت لهم مقامات الولاية وأحوال الصّدّيقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذّوق [5] مع أنّهم غير مكلّفين ويقع لهم من الأخبار عن المغيّبات عجائب لأنّهم لا يتقيّدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب وربّما ينكر الفقهاء أنّهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التّكليف عنهم والولاية لا تحصل إلّا بالعبادة وهو غلط فإنّ فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقّف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها وإذا كانت النّفس الإنسانيّة ثابتة الوجود فاللَّه تعالى يخصّها بما شاء من مواهبه وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم النّاطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنّما فقد لهم العقل الّذي يناط به التّكليف وهي صفة خاصّة للنّفس وهي علوم ضروريّة للإنسان يشتدّ بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله وكأنّه إذا ميّز أحوال معاشه واستقامة منزله
__________
[1] نحلة: أعطاه. ولكن هنا تعني خصّها. والأصح أن يقول أنحلها.
[2] أوسق: ج وسق: وهو وزن ستين صاعا أو حمل بعير.
[3] لتختص به.
[4] بهاليل: ج بهلول وهو السيد الجامع لكل خير، والمعنى الشائع لكلمة البهلول هو المعتوه.
[5] أهل الذوق: (الذين يتاح لهم أن يذوقوا حلاوة المعرفة الإلهية) .(1/138)
لم يبق له عذر في قبول التّكاليف لإصلاح معاده وليس من فقد هذه الصّفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التّكليفيّ الّذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقّف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التّكاليف وإذا صحّ ذلك فاعلم أنّه ربّما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الّذين تفسد نفوسهم النّاطقة ويلتحقون بالبهائم ولك في تمييزهم علامات منها أنّ هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلا ومنها أنّهم يخلقون على البله من أوّل نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدّة من العمر لعوارض بدنيّة طبيعيّة فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم النّاطقة ذهبوا بالخيبة ومنها كثرة تصرّفهم في النّاس بالخير والشّرّ لأنّهم لا يتوقّفون على إذن لعدم التّكليف في حقّهم والمجانين لا تصرّف لهم وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصّواب.
وقد يزعم بعض النّاس أنّ هنا مدارك [1] للغيب من دون غيبة عن الحسّ فمنهم المنجّمون القائلون بالدّلالات النّجوميّة ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتّناظر ويتأدّى من ذلك المزاج إلى الهواء وهؤلاء المنجّمون ليسوا من الغيب في شيء إنّما هي ظنون حدسيّة وتخمينات مبنيّة على التّآثير النّجوميّة وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به النّاظر على تفصيله في الشّخصيّات في العالم كما قاله بطليموس ونحن نبيّن بطلان ذلك في محلّه إن شاء الله وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس ممّا ذكرناه في شيء. ومن هؤلاء قوم من العامّة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرّف الكائنات صناعة سمّوها خطّ الرّمل نسبة إلى المادّة الّتي يضعون فيها عملهم ومحصول هذه الصّناعة أنّهم صيّروا من النّقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزّوجيّة والفرديّة واستوائها فيهما فكانت ستّة عشر
__________
[1] كذا في جميع النسخ والكلمة ضعيفة والأصح أن يقال: قد يظن البعض أن هنا من يدرك الغيب.
فتنسجم العبارة كلها.(1/139)
شكلا لأنّها إن كانت أزواجا كلّها أو أفرادا كلّها فشكلان وإن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستّة أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستّة عشر شكلا ميّزوها كلّها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستّة عشر بيتا طبيعيّة بزعمهم وكأنّها البروج الاثنا عشر الّتي للفلك والأوتاد الأربعة وجعلوا لكلّ شكل منها بيتا وخطوطا [1] ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختصّ به واستنبطوا من ذلك فنّا حاذوا به فنّ النّجامة ونوع فضائه إلّا أنّ أحكام النّجامة مستندة إلى أوضاع طبيعيّة كما يزعم بطليموس وهذه إنّما مستندها أوضاع تحكيميّة وأهواء اتفاقيّة ولا دليل يقوم على شيء منها ويزعمون أنّ أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربّما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصّنائع كلّها وربّما يدّعون مشروعيّتها ويحتجّون بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كان نبيّ يخطّ فمن وافق خطّه فذاك» وليس في الحديث دليل على مشروعيّة خطّ الرّمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأنّ معنى الحديث كان نبيّ يخطّ فيأتيه الوحي عند ذلك الخطّ ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطّه ذلك النّبيّ فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخطّ بما عضده من الوحي لذلك النّبيّ الّذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخطّ وأمّا إذا أخذ ذلك من الخطّ مجرّدا من غير موافقة وحي فلا وهذا معنى الحديث والله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيّب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النّقط سطورا على عدد المراتب الأربع ثمّ كرّروا ذلك أربع مرّات فتجيء ستة عشر سطرا ثمّ يطرحون النّقط أزواجا ويضعون ما بقي من كلّ سطر زوجا كان أو فردا في مرتبته على التّرتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثمّ يولّدون منها أربعة أشكال أخرى من جانب العرض باعتبار كلّ مرتبة وما
__________
[1] في بعض النسخ: حظوظا.(1/140)
قابلها من الشّكل الّذي بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثمّ يولّدون من كلّ شكلين شكلا تحتهما باعتبار ما يجتمع في كلّ مرتبة من مراتب الشّكلين أيضا من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثمّ يولّدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشّكلين شكلا كذلك تحتهما ثمّ من هذا الشّكل الخامس عشر مع الشّكل الأوّل شكلا يكون آخر السّتّة عشر ثمّ يحكمون على الخطّ كلّه بما اقتضته أشكاله من السّعودة والنّحوسة بالذّات والنّظر والحلول والامتزاج والدّلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكّما غريبا وكثرت هذه الصّناعة في العمران ووضعت فيها التّآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدّمين والمتأخّرين وهي كما رأيت تحكّم وهوى والتّحقيق الّذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أنّ الغيوب لا تدرك بصناعة البتّة ولا سبيل إلى تعرّفها إلّا للخواصّ من البشر المفطورين على الرّجوع من عالم الحسّ إلى عالم الرّوح ولذلك يسمّي المنجمون هذا الصّنف كلهم بالزّهريّين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزّهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخطّ وغيره من هذه إن كان النّاظر فيه من أهل هذه الخاصّيّة وقصد بهذه الأمور الّتي ينظر فيها من النّقط أو العظام أو غيرها إشغال الحسّ لترجع النّفس إلى عالم الرّوحانيّات لحظة ما، فهو من باب الطّرق بالحصى والنّظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشّفّافة كما ذكرناه. وإن لم يكن كذلك وإنّما قصد معرفة الغيب بهذه الصّناعة وأنّها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل والله يهدي من يشاء. والعلامة لهذه الفطرة الّتي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبيّ أنّهم عند توجّههم إلى تعرّف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطّبيعيّة كالتّثاؤب والتّمطّط ومبادئ الغيبة عن الحسّ ويختلف ذلك بالقوّة والضّعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنّما هو ساع في تنفيق [1] كذبه.
__________
[1] ترويج.(1/141)
فصل
ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطّور الأوّل الّذي هو من مدارك النّفس الرّوحانيّة ولا من الحدس المبنيّ على تأثيرات النّجوم كما زعمه بطليموس ولا من الظّنّ والتّخمين الّذي يحاول عليه العرّافون وإنّما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة ولست أذكر من ذلك إلّا ما ذكره المصنّفون وولع به الخواصّ فمن تلك القوانين الحساب الّذي يسمّونه حساب النّيم وهو مذكور في آخر كتاب السّياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك وهو أن تحسب الحروف الّتي في اسم أحدهما بحساب الجمّل المصطلح عليه في حروف أبجد [1] من الواحد إلى
__________
[1] حساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد هو أن لكل حرف من الحروف الهجائية رقما خاصا على النحو الآتي:
أولا: على طريقة المغاربة وهي الطريقة التي عناها ابن خلدون وسار عليها:
أب ج د هـ ور ح ط ي ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ث ت خ ذ ظ غ ش 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 60 70 80 90 100 200 300 400 500 600 700 800 900 1000 ثانيا: على طريقة المشارقة وهي الطريقة المشهورة في مصر والعراق وسورية وغيرها من البلاد العربية الأخرى:
أب ج د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 60 70 80 90 100 200 300 400 500 600 700 800 900 1000 ويستعمل حساب الجمل هذا المنجمون والذين يتعاطون تاريخ الاحداث التاريخية والوفيات والولادات وما شاكل.(1/142)
الألف آحادا وعشرات ومئين وألوفا فإذا حسبت الاسم وتحصّل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك ثمّ اطرح من كلّ واحد منهما تسعة تسعة واحفظ بقيّة هذا وبقيّة هذا ثمّ انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين فإن كان العددان مختلفين في الكمّيّة وكانا معا زوجين أو فردين معا فصاحب الأقلّ منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجا والآخر فردا فصاحب الأكثر هو الغالب وإن كانا متساويين في الكميّة وهما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معا فردين فالطّالب هو الغالب ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين النّاس وهما:
أرى الزّوج والأفراد يسمو أقلّها ... وأكثرها عند التّحالف غالب
ويغلب مطلوب إذا الزّوج يستوي ... وعند استواء الفرد يغلب طالب
ثمّ وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانونا معروفا عندهم في طرح تسعة وذلك أنّهم جمعوا الحروف الدّالّة على الواحد في المراتب الأربع وهي (أ) الدّالّة على الواحد وهي: (اي) الدّالّة على العشرة وهي واحد في مرتبة العشرات و (ق) الدّالّة على المائة لأنّها واحد في مرتبة المئين و (ش) الدّالّة على الألف لأنّها واحد في مرتبة الآلاف وليس بعد الألف عدد يدلّ عليه بالحروف لأنّ الشّين هي آخر حروف أبجد ثمّ رتّبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعيّة وهي (ايقش) ثمّ فعلوا ذلك بالحروف الدّالّة على اثنين في المراتب الثّلاث وأسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنّها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثّلاث ثلاثة حروف وهي (ب) الدّالّة على اثنين في الآحاد و (ك) الدّالّة على اثنين في العشرات وهي عشرون و (ر) الدّالّة على اثنين في المئين وهي مائتان وصيّروها كلمة واحدة ثلاثيّة على نسق المراتب وهي بكر ثمّ فعلوا ذلك بالحروف الدّالّة على ثلاثة(1/143)
فنشأت عنها كلمة جلس وكذلك إلى آخر حروف أبجد وصارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد وهي ايقش بكر جلس دمت هنث وصخ زعد حفظ طضغ مرتّبة على توالي الأعداد ولكلّ كلمة منها عددها الّذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة ايقش والاثنان لكلمة بكر والثّلاثة لكلمة جلس وكذلك إلى التّاسعة الّتي هي طضغ فتكون لها التّسعة فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كلّ حرف منه في أيّ كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه ثمّ جمعوا الأعداد الّتي يأخذونها بدلا من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التّسعة أخذوا ما فضل عنها وإلّا أخذوه كما هو ثمّ يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدّمناه والسّرّ في هذا بيّن وذلك أنّ الباقي من كلّ عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنّما هو واحد فكأنّه يجمع عدد العقود خاصّة من كلّ مرتبة فصارت أعداد العقود كأنّها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلّها اثنان وكذلك الثّلاثة والثّلاثون والثّلاثمائة والثّلاثة الآلاف كلّها ثلاثة ثلاثة فوضعت الأعداد على التّوالي دالّة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدّالّة على أصناف العقود في كلّ كلمة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف [1] وصار عدد الكلمة الموضوع عليها نائبا عن كلّ حرف فيها سواء دلّ على الآحاد أو العشرات أو المئين فيؤخذ عدد كلّ كلمة عوضا من الحروف الّتي فيها وتجمع كلّها إلى آخرها كما قلناه هذا هو العمل المتداول بين النّاس منذ الأمر القديم وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أنّ الصّحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها ويفعلون بها في الطّرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء وهي هذه ارب يستمك جزلط مدوص هف تحذن عش خع ثضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكلّ كلمة منها
__________
[1] قوله الألوف فيه نظر لأن الحروف ليس فيها ما يزيد عن الألف كما سبق في كلامه (الهوريني في طبعة بولاق) وعلق د. علي عبد الواحد وافي على قول الهوريني: «وقد أورد ابن خلدون كلمة الألوف بالجمع للمشاكلة مع قوله الآحاد والعشرات والمئين. وان لم يكن في الحروف الا ألف واحد» .(1/144)
عددها الّذي في مرتبته فيها الثّلاثيّ والرّباعيّ والثّنائيّ وليست جارية على أصل مطّرد كما تراه لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السّيمياء وأسرار الحروف والنّجامة وهو أبو العبّاس بن البنّاء ويقولون عنه أنّ العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النّيم أصحّ من العمل بكلمات ايقش والله يعلم كيف ذلك وهذه كلّها مدارك للغيب غير معزوّ إلى أرسطو عند المحقّقين لما فيه من الآراء البعيدة عن التّحقيق والبرهان يشهد لك بذلك تصفّحه إن كنت من أهل الرّسوخ 1 هـ-. ومن هذه القوانين الصّناعيّة لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزّايرجة المسمّاة «بزايرجة العالم» المعزوّة إلى أبي العبّاس سيّدي أحمد السّبتيّ من أعلام المتصوّفة بالمغرب كان في آخر المائة السّادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحّدين وهي غريبة العمل صناعة. وكثير من الخواصّ يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرّضون بذلك على حلّ رمزه وكشف غامضه. وصورتها الّتي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكوّنات والرّوحانيّات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم وكلّ دائرة مقسومة بأقسام فلكها إمّا البروج وإمّا العناصر أو غيرهما وخطوط كلّ قسم مارّة إلى المركز ويسمّونها الأوتار وعلى كلّ وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم [1] الزّمام الّتي هي أشكال الأعداد عند أهل الدّواوين والحسّاب بالمغرب لهذا العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزّايرجة وبين الدّوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان وعلى ظاهر الدّوائر جدول متكثّر البيوت المتقاطعة طولا وعرضا يشتمل على خمسة وخمسين بيتا في العرض ومائة وواحد وثلاثين في الطّول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد
__________
[1] قوله برشوم أي موضوعة بضم الراء جمع رشم بالشين المعجمة 1 هـ-: ومعنى رشم: كتب. والرشم الكتابة والشكل. ومعنى رسوم الزمام: أشكال الأعداد المستعملة في الغرب. وبرشوم الغبار: أشكال الأرقام الهندية المصطلح عليها في الشرق.(1/145)
وأخرى بالحروف وجوانب خالية البيوت ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها ولا القسمة الّتي عيّنت البيوت العامرة من الخالية وحافات الزّايرجة أبيات من عروض الطّويل على رويّ اللّام المنصوبة تتضمّن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزّايرجة إلّا أنّها من قبيل الإلغاز في عدم الوضوح والجلاء وفي بعض جوانب الزّايرجة بيت من الشّعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان [1] بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء إشبيليّة كان في الدّولة اللّمتونيّة ونصّ البيت.
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شكّ ضبطه الجدّ مثّلا
وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السّؤال في هذه الزّايرجة وغيرها فإذا أرادوا استخراج الجواب عمّا يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السّؤال وقطّعوه حروفا ثمّ أخذوا الطّالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها وعمدوا إلى الزّايرجة ثمّ إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطّالع من أوّله مارّا إلى المركز ثمّ إلى محيط الدّائرة قبالة الطّالع فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوّله إلى آخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيّرونها حروفا بحساب الجمّل وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم ويضعونها مع حروف السّؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثّالث من الطّالع من الحروف والأعداد من أوّله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأوّل ويضيفونها إلى الحروف الأخرى ثمّ يقطّعون حروف البيت الّذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب المتقدّم ويضعونها ناحية ثمّ يضربون عدد درج الطّالع في أسّ البرج وأسّه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأسّ عند أهل صناعة الحساب فإنّه عندهم البعد عن أوّل المراتب ثمّ
__________
[1] أي إنه من كبار المحدّثين والمخبرين عما يخبئه الغيب من أحداث الدهر وشئون المستقبل.(1/146)
يضربونه في عدد آخر يسمّونه الأسّ الأكبر والدّور الأصليّ ويدخلون بما تجمّع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة ويستخرجون منها حروفا ويسقطون أخرى ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السّؤال وما معها ثمّ يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمّونها الأدوار ويخرجون في كلّ دور الحرف الّذي ينتهي عنده الدّور ويعاودون ذلك بعدد الأدوار المعيّنة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطّعة وتؤلّف على التّوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الّذي يقابل به العمل ورويّه وهو بيت مالك ابن وهيب المتقدّم حسبما نذكر ذلك كلّه في فصل العلوم عند كيفيّة العمل بهذه الزّايرجة وقد رأينا كثيرا من الخواصّ يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أنّ ما وقع من مطابقة الجواب للسّؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع وليس ذلك بصحيح لأنّه قد مرّ لك أنّ الغيب لا يدرك بأمر صناعيّ البتّة وإنّما المطابقة الّتي فيها بين الجواب والسّؤال من حيث الإفهام والتّوافق في الخطاب حتّى يكون الجواب مستقيما أو موافقا للسّؤال ووقوع ذلك في هذه الصّناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السّؤال والأوتار والدّخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح أخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة ومقابلة ذلك كلّه بحروف البيت على التّوالي غير مستنكر وقد يقع الاطّلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول فالتّناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنّفس وطريق لحصوله سيّما من أهل الرّياضة فإنّها تفيد العقل قوّة على القياس وزيادة في الفكر وقد مرّ تعليل ذلك غير مرّة ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزّايرجة في الغالب لأهل الرّياضة فهي منسوبة للسّبتيّ ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله ولعمري إنّها من الأعمال الغريبة(1/147)
والمعاناة [1] العجيبة والجواب الّذي يخرج منها فالسّرّ في خروجه منظوما يظهر لي إنّما هو المقابلة بحروف ذلك البيت ولهذا يكون النّظم على وزنه ورويّه ويدلّ عليه أنّا وجدنا أعمالا أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوما كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه وكثير من النّاس تضيق مداركهم عن التّصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب فينكر صحّتها ويحسب أنّها من التّخيّلات والإيهامات وأنّ صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الّذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السّؤال والأوتار ويفعل تلك الصّناعات على غير نسبة ولا قانون ثمّ يجيء بالبيت ويوهم أنّ العمل جاء على طريقة منضبطة وهذا الحسبان توهّم فاسد حمل عليه القصور عن فهم التّناسب بين الموجودات والمعدومات والتّفاوت بين المدارك والعقول ولكن من شأن كلّ مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه ويكفينا في ردّ ذلك مشاهدة العمل بهذه الصّناعة والحدس القطعيّ فإنّها جاءت بعمل مطّرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممّن له ذكاء وحدس وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الّذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النّسبة فيه وخفائها فما ظنّك بمثل هذا مع خفاء النّسبة فيه وغرابتها فلنذكر مسألة من المعاياة يتّضح لك بها شيء ممّا ذكرنا مثاله لو قيل لك خذ عددا من الدّراهم واجعل بإزاء كلّ درهم ثلاثة من الفلوس ثمّ اجمع الفلوس الّتي أخذت واشتر بها طائرا ثمّ اشتر بالدّراهم كلّها طيورا بسعر ذلك الطّائر فكم الطّيور المشتراة بالدّراهم فجوابه أن تقول هي تسعة لأنّك تعلم أنّ فلوس الدّراهم أربعة وعشرون وأنّ الثّلاثة ثمنها وأنّ عدّة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثّمن من الدّراهم إلى الثّمن الآخر فكان كلّه ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدّة أثمان الواحد وتزيد على الثّمانية طائرا آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أوّلا وعلى سعره اشتريت بالدّراهم فتكون تسعة فأنت ترى
__________
[1] كذا في جميع النسخ. «ولعلها محرّفة عن (المعاياة) وهو الإتيان بكلام لا يهتدى كله هكذا يقتضي سياق الكلام» .(1/148)
كيف خرج لك الجواب المضمر بسرّ التّناسب الّذي بين أعداد المسألة والوهم أوّل ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنّما يجعله من قبيل الغيب الّذي لا يمكن معرفته وظهر أنّ التّناسب بين الأمور هو الّذي يخرج مجهولها من معلومها وهذا إنّما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم وأمّا الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته وإذا تبيّن لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزّايرجة كلّها إنّما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السّؤال لأنّها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسرّ ذلك إنّما هو من تناسب بينهما يطّلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التّناسب تيسّر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين والجواب يدلّ في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السّؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأوّل بل إنّما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثر الله بعلمه وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216.
الباب الثاني في العمران البدويّ والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات
الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
اعلم أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإنّ اجتماعهم إنّما هو للتّعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروريّ منه ونشيط قبل الحاجيّ والكماليّ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزّراعة ومنهم من(1/149)
ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنّحل والدّود لنتاجها واستخراج فضلاتها وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضّرورة ولا بدّ إلى البدو لأنّه متّسع لما لا يتّسع له الحواضر من المزارع والفدن [1] والمسارح للحيوان وغير ذلك فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرا ضروريا لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكنّ والدّفء إنّما هو بالمقدار الّذي يحفظ الحياة ويحصّل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عمّا وراء ذلك ثمّ إذا اتّسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرّفه دعاهم ذلك إلى السّكون والدّعة وتعاونوا في الزّائد على الضّرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتّأنّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتّحضّر ثمّ تزيد أحوال الرّفه والدّعة فتجيء عوائد التّرف البالغة مبالغها في التّأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والدّيباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصّروح وإحكام وضعها في تنجيدها [2] والانتهاء في الصّنائع في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون في استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصّنائع ومنهم من ينتحل التّجارة وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأنّ أحوالهم زائدة على الضّروريّ ومعاشهم على نسبة وجدهم فقد تبيّن أنّ أجيال البدو والحضر طبيعيّة لا بدّ منها كما قلناه.
__________
[1] الفدن: ج فدّان: مزرعة (منجد)
[2] ترتيبها وتزيينها.(1/150)
الفصل الثاني في أن جيل العرب في الخلقة طبيعيّ
قد قدّمنا في الفصل قبله أنّ أهل البدو هم المنتخلون للمعاش الطّبيعيّ من الفلح والقيام على الأنعام وأنّهم مقتصرون على الضّروريّ من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصّرون عمّا فوق ذلك من حاجيّ أو كماليّ يتّخذون البيوت من الشّعر والوبر أو الشّجر أو من الطّين والحجارة غير منجّدة إنّما هو قصد الاستظلال والكنّ لا ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران [1] والكهوف وأمّا أقواتهم فيتناولون بها يسيرا بعلاج أو بغير علاج البتّة إلّا ما مسّته النّار فمن كان معاشه منهم في الزّراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظّعن وهؤلاء سكّان المدر والقرى والجبال وهم عامّة البربر والأعاجم ومن كان معاشه في السّائمة مثل الغنم والبقر فهم ظعّن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتّقلّب في الأرض أصلح بهم ويسمّون شاوية ومعناه القائمون على الشّاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطّيّبة وهؤلاء مثل البربر والتّرك وإخوانهم من التّركمان والصّقالبة وأمّا من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا لأنّ مسارح التّلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشّجر بالقفر وورود مياهه الملحة [2] والتّقلّب فصل الشّتاء في نواحيه فرارا من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلبا لماخض النتاج في رماله إذ الإبل أصعب الحيوان فصالا
__________
[1] الغور: ما انحدر واطمأن من الأرض وجمعها مغاور ومغارات. وهذا مقتضى السياق. وقد استعمل ابن خلدون الغيران بهذا المعنى. والأصح مغاور أو مغارات.
[2] يقال: أملح الماء: صار «ملحا» بعد أن كان عذبا (قاموس) .(1/151)
ومخاضا وأحوجها في ذلك إلى الدّفء فاضطرّوا إلى إبعاد النّجعة وربّما زادتهم الحامية عن التلول أيضا فأوغلوا في القفار نفرة عن الضّعة منهم فكانوا لذلك أشدّ النّاس توحّشا وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتّركمان والتّرك بالمشرق إلّا أنّ العرب أبعد نجعة وأشدّ بداوة لأنّهم مختصّون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشّياه والبقر معها فقد تبيّن لك أنّ جيل العرب طبيعيّ لا بدّ منه في العمران والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وان البادية أصل العمران والأمصار مدد لها
قد ذكرنا أنّ البدو هم المقتصرون على الضّروريّ في أحوالهم العاجزون عمّا فوقه وأنّ الحضر المعتنون بحاجات التّرف والكمال في أحوالهم وعوائدهم ولا شكّ أنّ الضّروريّ أقدم من الحاجيّ والكماليّ وسابق عليه ولأنّ الضّروريّ أصل والكماليّ فرع ناشئ عنه فالبدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما لأنّ أوّل مطالب الإنسان الضّروريّ ولا ينتهي إلى الكمال والتّرف إلّا إذا كان الضّروريّ حاصلا فخشونة البداوة قبل رقّة الحضارة ولهذا نجد التّمدّن غاية للبدويّ يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحة منها ومتى حصل على الرّياش الّذي يحصل له به أحوال التّرف وعوائده عاج إلى الدّعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة وهكذا شأن القبائل المتبدّية كلّهم والحضريّ لا يتشوّف إلى أحوال البادية إلّا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته وممّا يشهد لنا أنّ البدو أصل للحضر(1/152)
ومتقدّم عليه أنّا إذا فتّشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوّليّة أكثرهم من أهل البدو الّذين بناحية ذلك المصر وعدلوا إلى الدّعة والتّرف الّذي في الحضر وذلك يدلّ على أنّ أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنّها أصل لها فتفهّمه. ثمّ إنّ كلّ واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه فربّ حيّ أعظم من حيّ وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمرانا من مدينة فقد تبيّن أنّ وجود البدو متقدّم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أنّ وجود المدن والأمصار من عوائد التّرف والدّعة الّتي هي متأخرة عن عوائد الضّرورة المعاشيّة والله أعلم.
الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
وسببه أنّ النّفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شرّ قال صلّى الله عليه وسلّم «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشّرّ وصعب عليه طريقه وكذا صاحب الشّرّ إذا سبقت إليه أيضا عوائده وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذّ وعوائد التّرف والإقبال على الدّنيا والعكوف على شهواتهم منها وقد تلوّنت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشّرّ وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتّى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدّهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السّوء في التّظاهر بالفواحش قولا وعملا وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدّنيا مثلهم إلّا أنّه في المقدار الضّروريّ لا في(1/153)
التّرف ولا في شيء من أسباب الشّهوات واللّذّات ودواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السّوء ومذمومات الخلق بالنّسبة إلى أهل الحضر أقلّ بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عمّا ينطبع في النّفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر وقد يتوضّح فيما بعد أنّ الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشّرّ والبعد عن الخير فقد تبيّن أنّ أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر والله يحبّ المتّقين ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاريّ من قول الحجّاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنّه خرج إلى سكنى البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعرّبت فقال لا ولكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن لي في البدو فاعلم أنّ الهجرة افترضت أوّل الإسلام على أهل مكّة ليكونوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المظاهرة والحراسة ما لا يمسّ غيرهم من بادية الأعراب وقد كان المهاجرون يستعيذون باللَّه من التّعرّب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة وقال صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعد بن أبي وقّاص عند مرضه بمكّة «اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم» ومعناه أن يوفّقهم لملازمة المدينة وعدم التّحوّل عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم الّتي ابتدءوا بها وهو من باب الرّجوع على العقب في السّعي إلى وجه من الوجوه وقيل أنّ ذلك كان خاصّا بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلّة المسلمين وأمّا بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزّوا وتكفّل الله لنبيّه بالعصمة من النّاس فإنّ الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلّى الله عليه وسلّم «لا هجرة بعد الفتح» وقيل سقط إنشاؤها عمّن يسلم بعد الفتح وقيل سقط وجوبها عمّن أسلم وهاجر قبل الفتح والكلّ مجمعون على أنّها بعد الوفاة ساقطة لأنّ الصّحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم(1/154)
يبق إلّا فضل السّكنى بالمدينة وهو هجرة فقول الحجّاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعرّبت نعى عليه في ترك السّكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدّعاء المأثور الّذي قدمناه وهو قوله لا تردّهم على أعقابهم وقوله تعرّبت إشارة إلى أنّه صار من الأعراب الّذين لا يهاجرون وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن له في البدو ويكون ذلك خاصّا به كشهادة خزيمة [1] وعناق أبي بردة [2] أو يكون الحجّاج إنّما نعى عليه ترك السّكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة بأنّ اغتنامه لإذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى وأفضل فما آثره به واختصّه إلّا لمعنى علمه فيه وعلى كلّ تقدير فليس دليلا على مذمّة البدو الّذي عبّر عنه بالتّعرّب لأنّ مشروعيّة الهجرة إنّما كانت كما علمت لمظاهرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحراسته لا لمذمّة البدو فليس في النّعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمّة التّعرّب والله سبحانه أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر
والسّبب في ذلك أنّ أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة وانغمسوا في النّعيم والتّرف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الّذي يسوسهم والحامية الّتي تولّت حراستهم واستناموا إلى الأسوار الّتي تحوطهم والحرز الّذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة [3] ولا ينفر لهم صيد فهم غارّون [4] آمنون، قد ألقوا السّلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزّلوا منزلة
__________
[1] هو خذيمة بن ثابت الأنصاري من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد جعل شهادته بشهادة رجلين.
[2] العناق: أم الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة. وقد أجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بردة ابن نيار خاصة أن يضحّي بها قصد ابن خلدون فهو استثناء الخصوصيات من عموم الأحكام، لما ورد بشأنها في أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[3] هيعة: الصوت المرعب والمخيف.
[4] غارّون: مطمئنون.(1/155)
النّساء والولدان الّذين هم عيال على أبي مثواهم حتّى صار ذلك خلقا يتنزّل منزلة الطّبيعة وأهل البدو لتفرّدهم عن المجتمع وتوحّشهم في الضّواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السّلاح ويتلفّتون عن كلّ جانب في الطّرق ويتجافون عن الهجوع إلّا غرارا في المجالس وعلى الرّجال وفوق الأقتاب ويتوجّسون للنّبئات [1] والهيعات ويتفرّدون في القفر والبيداء مدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشّجاعة سجيّة يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السّفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم وذلك مشاهد بالعيان حتّى في معرفة النّواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السّبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله أنّ الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه فالّذي ألفه في الأحوال حتّى صار خلقا وملكة وعادة تنزّل منزلة الطّبيعة والجبلة واعتبر ذلك في الآدميّين تجده كثيرا صحيحا والله يخلق ما يشاء.
__________
[1] يتوجسون: يتسمعون. النبآت: الأصوات الخفية.(1/156)
الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم
وذلك أنّه ليس كلّ أحد مالك أمر نفسه إذ الرّؤساء والأمراء المالكون لأمر النّاس قليل بالنّسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، ولا بدّ فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني منها حكم ولا منع وصدّ كان النّاس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتّى صار لهم الإذلال جبلّة لا يعرفون سواها وأمّا إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسّطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التّكاسل في النّفوس المضطهدة كما نبيّنه وقد نهى عمر سعدا رضي الله عنهما عن مثلها لمّا أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفا من الذّهب وكان اتّبع الجالنوس يوم القادسيّة فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له هلّا انتظرت في اتّباعه إذني وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر تعمد إلى مثل زهرة وقد صلّى بما صلّى به [1] وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه [2] وتفسد قلبه وأمضى له عمر سلبه وأمّا إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلّيّة لأنّ وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلّة الّتي تكسر من سورة بأسه بلا شكّ وأمّا إذا كانت الأحكام تأديبيّة وتعليميّة وأخذت من عهد الصّبا أثّرت في ذلك بعض الشّيء لمرباه على المخافة والانقياد
__________
[1] بمعنى قاسي شدائد الحرب.
[2] تثبط همته.(1/157)
فلا يكون مدلّا ببأسه ولهذا نجد المتوحّشين من العرب [1] أهل البدو أشدّ بأسا ممّن تأخذه الأحكام ونجد أيضا الّذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التّأديب والتّعليم في الصّنائع والعلوم والدّيانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمّة الممارسين للتّعليم والتّأديب في مجالس الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصّحابة من أخذهم بأحكام الدّين والشّريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشدّ النّاس بأسا لأنّ الشّارع صلوات الله عليه لمّا أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي عليهم من التّرغيب والتّرهيب ولم يكن بتعليم صناعيّ ولا تأديب تعليميّ إنّما هي أحكام الدّين وآدابه المتلقّاة نقلا يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتّصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التّأديب والحكم قال عمر رضي الله عنه «من لم يؤدّ به الشّرع لا أدّبه الله» حرصا على أن يكون الوازع لكلّ أحد من نفسه ويقينا بأنّ الشّارع أعلم بمصالح العباد ولمّا تناقص الدّين في النّاس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثمّ صار الشّرع علما وصناعة يؤخذ بالتّعليم والتّأديب ورجع النّاس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم فقد تبيّن أنّ الأحكام السّلطانيّة والتّعليميّة مفسدة للبأس لأنّ الوازع فيها ذاتيّ ولهذا كانت هذه الأحكام السّلطانيّة والتّعليميّة ممّا تؤثّر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد [2] الشّوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السّلطان والتّعليم والآداب ولهذا قال محمّد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلّمين والمتعلّمين «أنّه لا ينبغي للمؤدّب أن يضرب أحدا من الصّبيان في التّعليم فوق ثلاثة أسواط» نقله عن شريح القاضي
__________
[1] المتوحشين من العرب: بمعنى البدو أو سكان البادية.
[2] انكسار الشوكة.(1/158)
واحتجّ له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغطّ وأنّه كان ثلاث مرّات وهو ضعيف ولا يصلح شأن الغطّ أن يكون دليلا على ذلك لبعده عن التّعليم المتعارف والله الحكيم الخبير.
الفصل السابع في أن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية
اعلم أنّ الله سبحانه ركّب في طبائع البشر الخير والشّرّ كما قال تعالى «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 90: 10» وقال «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 91: 8» والشّرّ أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذّبه الاقتداء بالدّين وعلى ذلك الجمّ الغفير إلّا من وفّقه الله ومن أخلاق البشر فيهم الظّلم والعدوان بعض على بعض فمن امتدّت عينه إلى متاع أخيه فقد امتدّت يده إلى أخذه إلّا أن يصدّه وازع كما قال:
والظّلم من شيم النّفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
فأمّا المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكّام والدّولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافّة أن يمتدّ بعضهم على بعض أو يعدو عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر والسّلطان عن التّظالم إلّا إذا كان من الحاكم بنفسه وأمّا العدوان الّذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرّة ليلا أو العجز عن المقاومة نهارا أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدّولة عند الاستعداد والمقاومة وأمّا أحياء البدو فيزغ بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وفر في نفوس الكافّة لهم من الوقار والتّجلّة وأمّا حللهم فإنّما يذود عنها من خارج حامية الحيّ من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشّجاعة فيهم ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلّا إذا كانوا عصبيّة وأهل نسب واحد لأنّهم بذلك تشتدّ شوكتهم ويخشى جانبهم إذ نعرة كلّ أحد على نسبه وعصبيّته أهمّ وما جعل الله في قلوب(1/159)
عباده من الشّفقة والنّعرة [1] على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في الطّبائع البشريّة وبها يكون التّعاضد والتّناصر وتعظم رهبة العدوّ لهم واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السّلام حين قالوا لأبيه لئن أكله الذّئب ونحن عصبة إنّا إذا لخاسرون والمعنى أنّه لا يتوهّم العدوان على أحد مع وجود العصبة له وأمّا المتفرّدون في أنسابهم فقلّ أن تصيب أحدا منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجوّ بالشّرّ يوم الحرب تسلّل كلّ واحد منهم يبغي النّجاة لنفسه خيفة واستيحاشا من التّخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنّهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم وإذا تبيّن ذلك في السّكنى الّتي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبيّن لك في كلّ أمر يحمل النّاس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كلّه إنّما يتمّ بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء ولا بدّ في القتال من العصبيّة كما ذكرناه آنفا فاتّخذه إماما تقتدي به فيما نورده عليك بعد والله الموفّق للصّواب.
الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه
وذلك أنّ صلة الرّحم طبيعيّ في البشر إلّا في الأقلّ ومن صلتها النّعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإنّ القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعيّة في البشر مذ كانوا فإذا كان النّسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدّا بحيث حصل به الاتّحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجرّدها ووضوحها وإذا بعد النّسب بعض الشّيء فربّما
__________
[1] النعرة والنعار بالضمّ فيهما والنعير: الصراخ والصياح في حرب أو شر (قاموس) والمعنى هنا التعصب لذوي الأرحام ونجدتهم.(1/160)
تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النّصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة الّتي يتوهّمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كلّ أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة الّتي تلحق النّفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النّسب وذلك لأجل اللّحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النّسب أو قريبا منها ومن هذا تفهم معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم» بمعنى أنّ النّسب إنّما فائدته هذا الالتحام الّذي يوجب صلة الأرحام حتّى تقع المناصرة والنّعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النّسب أمر وهميّ لا حقيقة له ونفعه إنّما هو في هذه الوصلة والالتحام فإذا كان ظاهرا واضحا حمل النّفوس على طبيعتها من النّعرة كما قلناه وإذا كان إنّما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الشّغل به مجّانا [1] ومن أعمال اللهو المنهيّ عنه ومن هذا الاعتبار معنى قولهم النّسب علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ بمعنى أنّ النّسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النّفس وانتفت النّعرة الّتي تحمل عليها العصبيّة فلا منفعة فيه حينئذ والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم
وذلك لما اختصّوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم عليها الضّرورة الّتي عيّنت لهم تلك القسمة وهي لمّا كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التّوحّش في القفر لرعيها من شجره
__________
[1] الأصوب أن يقول مجانة أو مجونا.(1/161)
ونتاجها في رماله كما تقدّم والقفر مكان الشّظف والسّغب [1] فصار لهم إلفا وعادة وربيت فيه أجيالهم حتّى تمكّنت خلقا وجبلّة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم ولا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السّبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة صريحة واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لمّا كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشّام والعراق ومعادن الأدم والحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيها شوب. وأمّا العرب الّذين كانوا بالتّلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسّان وطيّ وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم ففي كلّ واحد من بيوتهم من الخلاف عند النّاس ما تعرف وإنّما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم وهم لا يعتبرون المحافظة على النّسب في بيوتهم وشعوبهم وإنّما هذا للعرب [2] فقط. قال عمر رضى الله تعالى عنه «تعلّموا النّسب ولا تكونوا كنبط السّواد» إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع النّاس على البلد الطّيّب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنّسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم يكن لاطّراح العرب أمر النّسب وإنّما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتّى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النّسب يتميّزون بها عند أمرائهم ثمّ وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم
__________
[1] السغب: الجوع مع التعب.
[2] بمعنى ان المحافظة على النسب محصورة في العرب سكان البادية والأرياف أو كما يعني بهم ابن خلدون (العرب المتوحشون) .(1/162)
وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبيّة فاطرحت ثمّ تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبيّة بدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع
اعلم أنّه من البيّن أنّ بعضا من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدّعي بنسب هؤلاء ويعدّ منهم في ثمراته من النّعرة والقود [1] وحمل الدّيات وسائر الأحوال وإذا وجدت ثمرات النّسب فكأنّه وجد لأنّه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلّا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنّه التحم بهم ثمّ إنّه قد يتناسى النّسب الأوّل بطول الزّمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهليّة والإسلام والعرب والعجم.
وانظر خلاف النّاس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبيّن لك شيء من ذلك ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لمّا ولّاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه وقالوا هو فينا لزيق أي دخيل ولصيق وطلبوا أن يولّي عليهم جريرا فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دما في قومي ولحقت بهم وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتّى ترشّح للرّئاسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه ولو غفلوا عن ذلك وامتدّ الزّمن لتنوسي بالجملة وعدّ منهم بكلّ وجه ومذهب فافهمه واعتبر سرّ الله في خليقته ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود والله الموفّق للصّواب بمنّه وفضله وكرمه.
__________
[1] القود: القصاص في القتل.(1/163)
الفصل الحادي عشر [1] في أن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل العصبية
اعلم أنّ كلّ حيّ أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العامّ ففيهم أيضا عصبيّات أخرى لأنساب خاصّة هي أشدّ التحاما من النّسب العامّ لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد لا مثل بني العمّ الأقربين أو الأبعدين فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النّسب العامّ والنّعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النّسب العامّ إلّا أنّها في النّسب الخاصّ أشدّ لقرب اللّحمة والرّئاسة فيهم إنّما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكلّ ولمّا كانت الرّئاسة إنّما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبيّة ذلك النّصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتمّ الرّئاسة لأهلها فإذا وجب ذلك تعيّن أنّ الرّئاسة عليهم لا تزال في ذلك النّصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الأخرى النّازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمّت لهم الرّئاسة فلا تزال في ذلك النّصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع ولا تنتقل إلّا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سرّ الغلب لأنّ الاجتماع والعصبيّة بمثابة المزاج للمتكوّن والمزاج في المتكوّن لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بدّ من غلبة أحدها وإلّا لم يتمّ التّكوين فهذا هو سرّ اشتراط الغلب في العصبيّة ومنه تعيّن استمرار الرّئاسة في النّصاب المخصوص بها كما قرّرناه.
__________
[1] هذا الفصل ساقط من النسخ الفارسية وموجود في النسخة التونسية وإثباته أولى ليطابق كلام أول الفصل 112 هـ- قاله نصر الهوريني.(1/164)
الفصل الثاني عشر في ان الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم
وذلك أنّ الرّئاسة لا تكون إلّا بالغلب والغلب إنّما يكون بالعصبيّة كما قدّمناه فلا بدّ في الرّئاسة على القوم أن تكون من عصبيّة غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأنّ كلّ عصبيّة منهم إذا أحسّت بغلب عصبيّة الرّئيس لهم أقرّوا بالإذعان والاتّباع والسّاقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبيّة فيهم بالنّسب إنّما هو ملصق لزيق وغاية التّعصّب له بالولاء والحلف وذلك لا يوجب له غلبا عليهم البتّة وإذا فرضنا أنّه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأوّل من الالتصاق ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم فكيف له الرّئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه والرّئاسة على القوم إنّما تكون متناقلة في منبت واحد تعيّن له الغلب بالعصبيّة فالأوّليّة الّتي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شكّ ومنعه ذلك الالتصاق من الرّئاسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه وهو على حال الإلصاق والرّئاسة لا بدّ وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التّغلّب بالعصبيّة وقد يتشوّف كثير من الرّؤساء على القبائل والعصائب إلى أنساب يلهجون بها إمّا لخصوصيّة فضيلة كانت في أهل ذلك النّسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتّفق فينزعون إلى ذلك النّسب ويتورّطون بالدّعوى في شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم والطّعن في شرفهم وهذا كثير في النّاس لهذا العهد فمن ذلك ما يدّعيه زناتة جملة أنّهم من العرب ومنه ادّعاء أولاد ربّاب المعروفين بالحجازيّين من بني عامر أحد شعوب زغبة أنّهم من بني سليم ثمّ من الشّريد(1/165)
منهم لحق جدّهم ببني عامر نجّارا يصنع الحرجان [1] واختلط بهم والتحم بنسبهم حتّى رأس عليهم ويسمّونه الحجازيّ. ومن ذلك ادّعاء بني عبد القويّ بن العبّاس بن توجين أنّهم من ولد العبّاس بن عبد المطّلب رغبة في هذا النّسب الشّريف وغلطا باسم العبّاس بن عطيّة أبي عبد القويّ ولم يعلم دخول أحد من العبّاسيّين إلى المغرب لأنّه كان منذ أوّل دولتهم على دعوة العلويّين أعدائهم من الأدارسة والعبيديّين فكيف يكون من سبط العبّاس أحد من شيعة العلويّين؟
وكذلك ما يدّعيه أبناء زيّان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنّهم من ولد القاسم بن إدريس ذهابا إلى ما اشتهر في نسبهم أنّهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزّناتيّ أنت القاسم أي بنو القاسم ثمّ يدّعون أنّ القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمّد بن إدريس ولو كان ذلك صحيحا فغاية القاسم هذا أنّه فرّ من مكان سلطانه مستجيرا بهم فكيف تتمّ له الرّئاسة عليهم في باديتهم وإنّما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنّه كثير الوجود في الأدارسة فتوهّموا أنّ قاسمهم من ذلك النّسب وهم غير محتاجين لذلك فإنّ منالهم للملك والعزّة إنّما كان بعصبيّتهم ولم يكن بادّعاء علويّة ولا عبّاسيّة ولا شيء من الأنساب وإنّما يحمل على هذا المتقرّبون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتّى يبعد عن الرّدّ ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيّان مؤثّل سلطانهم أنّه لمّا قيل له ذلك أنكره وقال بلغته الزّناتيّة ما معناه أمّا الدّنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النّسب وأمّا نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله وأعرض عن التّقرّب إليهما بذلك. ومن هذا الباب ما يدّعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنّهم من ولد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنّهم من سليم والزّواودة شيوخ رياح أنّهم من أعقاب البرامكة وكذا بنو مهنّا أمراء طيِّئ بالمشرق يدّعون فيما بلغنا أنّهم من أعقابهم وأمثال ذلك كثير ورئاستهم في قومهم مانعة من ادّعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعيّن أن يكونوا من صريح ذلك
__________
[1] قوله الحرجان بكسر الحاء جمع حرج بفتحتين نعش الموتى. 1 هـ-.(1/166)
النّسب وأقوى عصبيّاته فاعتبره واجتنب المغالط فيه ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهديّ الموحّدين بنسب العلويّة فإنّ المهديّ لم يكن من منبت الرّئاسة في هرثمة قومه، وإنّما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدّين ودخول قبائل المصامدة في دعوته وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسّطة فيهم والله عالم الغيب والشّهادة.
الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالاصالة والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه
وذلك أنّ الشّرف والحسب إنّما هو بالخلال ومعنى البيت أن يعدّ الرّجل في آبائه أشرافا مذكورين يكون له بولادتهم إيّاه والانتساب إليهم تجلّة في أهل جلدته لما وقر في نفوسهم من تجلّة سلفه وشرفهم بخلالهم والنّاس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال صلّى الله عليه وسلّم «النّاس معادن خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب وقد بيّنا أنّ ثمرة الأنساب وفائدتها إنّما هي العصبيّة للنّعرة والتّناصر فحيث تكون العصبيّة مرهوبة والمنبت فيها زكيّ محميّ تكون فائدة النّسب أوضح وثمرتها أقوى وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب والشّرف أصليّين في أهل العصبيّة لوجود ثمرة النّسب وتفاوت البيوت في هذا الشّرف بتفاوت العصبيّة لأنّه سرّها ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلّا بالمجاز وإن توهّموه فزخرف من الدّعاوى وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار وجدت معناه أنّ الرّجل منهم يعدّ سلفا في خلال الخير ومخالطة أهله مع الرّكون إلى العافية ما استطاع وهذا مغاير لسرّ العصبيّة الّتي هي ثمرة النّسب وتعديد الآباء لكنّه يطلق عليه حسب وبيت(1/167)
بالمجاز لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير ومسالكه وليس حسبا بالحقيقة وعلى الإطلاق وإن ثبت أنّه حقيقة فيهما بالوضع اللّغويّ فيكون من المشكّك الّذي هو في بعض مواضعه أولى وقد يكون للبيت شرف أوّل بالعصبيّة والخلال ثمّ ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدّم ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدّون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبيّة جملة وكثير من أهل الأمصار النّاشئين في بيوت العرب أو العجم لأوّل عهدهم موسوسون بذلك وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل فإنّه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت أوّلا لما تعدّد في سلفهم من الأنبياء والرّسل من لدن إبراهيم عليه السّلام إلى موسى صاحب ملّتهم وشريعتهم ثمّ بالعصبيّة ثانيا وما أتاهم الله بها من الملك الّذي وعدهم به ثمّ انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافا من السّنين وما زال هذا الوسواس مصاحبا لهم فتجدهم يقولون هذا هارونيّ هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبيّة ورسوخ الذّلّ فيهم منذ أحقاب متطاولة وكثير من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبيّة يذهب إلى هذا الهذيان. وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لمّا ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلّم الأوّل [1] والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة ولم يتعرّض لما ذكرناه وليت شعري ما الّذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه فكأنّه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط مع أنّ الخطابة إنّما هي استمالة من تؤثّر استمالته وهم أهل الحلّ والعقد وأمّا من لا قدرة له البتّة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلّا أنّ ابن رشد ربا في جبل وبلد ولم يمارسوا العصبيّة ولا أنسوا أحوالها فبقي في
__________
[1] المعلم الأول هو أرسطو. أما المعلم الثاني فهو الفارابيّ.(1/168)
أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق ولم يراجع فيه حقيقة العصبيّة وسرّها في الخليفة وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 2: 282.
الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم
وذلك أنّا قدّمنا أنّ الشّرف بالأصالة والحقيقة إنّما هو لأهل العصبيّة فإذا اصطنع أهل العصبيّة قوما من غير نسبهم أو استرقّوا العبدان والموالي والتحموا به كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبيّة ولبسوا جلدتها كأنّها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبيّة مساهمة في نسبها كما قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم مولى القوم منهم وسواء كان مولى رقّ أو مولى اصطناع وحلف [1] وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبيّة إذ هي مباينة لذلك النّسب وعصبيّة ذلك النّسب مفقودة لذهاب سرّها عند التحامه بهذا النّسب الآخر وفقدانه أهل عصبيّتها فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم فإذا تعدّدت له الآباء في هذه العصبيّة كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كلّ حال وهذا شأن الموالي في الدّول والخدمة كلّهم فإنّهم إنّما يشرفون بالرّسوخ في ولاء الدّولة وخدمتها وتعدّد الآباء في ولايتها ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العبّاس وإلى بني برمك من قبلهم وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشّرف وبنوا المجد والأصالة بالرّسوخ في ولاء الدّولة فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم النّاس بيتا وشرفا بالانتساب إلى ولاء الرّشيد وقومه لا بالانتساب في الفرس وكذا موالي كلّ
__________
[1] مولى الرق هو العبد يعتقه سيده فيصبح ولاؤه له، ثم يرثه إذا مات ولم يترك عصبة. ومولى الحلف: الرجل الحر الأصل يتخذ له مولى يعقد صريح، فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه.(1/169)
دولة وخدمها إنّما يكون لهم البيت والحسب بالرّسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها ويضمحلّ نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده وإنّما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سرّ العصبيّة الّتي بها البيت والشّرف فكان شرفه مشتقا من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنّما بنى مجده نسب الولاء في الدّولة ولحمة الاصطناع فيها والتّربية وقد يكون نسبه الأوّل في لحمة عصبيّته ودولته فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيّتها وانتفع بالثّانية لوجودها وهذا حال بني برمك إذ المنقول أنّهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النّار عندهم ولمّا صاروا إلى ولاء بني العبّاس لم يكن بالأوّل اعتبار وإنّما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدّولة واصطناعهم وما سوى هذا فوهم توسوس به النّفوس الجامحة ولا حقيقة له والوجود شاهد بما قلناه «وإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ 49: 13» والله ورسوله أعلم.
الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة اباء
اعلم أنّ العالم العنصريّ بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله والمكوّنات من المعدن والنّبات وجميع الحيوانات الإنسان وغيره كائنة فاسدة بالمعاينة وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصا الإنسانيّة فالعلوم تنشأ ثمّ تدرس وكذا الصّنائع وأمثالها والحسب من العوارض الّتي تعرض للآدميّين فهو كائن فاسد لا محالة وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلّا ما كان من ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كرامة به وحياطة على السّرّ فيه وأوّل كلّ شرف خارجيّة كما قيل، وهي الخروج عن الرّئاسة والشّرف إلى الضّعة(1/170)
والابتذال وعدم الحسب ومعناه أنّ كلّ شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كلّ محدث ثمّ إنّ نهايته في أربعة آباء وذلك أنّ باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال الّتي هي أسباب كونه وبقائه وابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلّا أنّه مقصّر في ذلك تقصير السّامع بالشّيء عن المعاني له ثمّ إذا جاء الثّالث كان حظّه الاقتفاء والتّقليد خاصّة فقصّر عن الثّاني تقصير المقلّد عن المجتهد ثمّ إذا جاء الرّابع قصّر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهّم أنّ ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلّف وإنّما هو أمر وجب لهم منذ أوّل النّشأة بمجرّد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التّجلّة بين النّاس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهّم أنّه النّسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيّته ويرى الفضل له عليهم وثوقا بما ربّي فيه من استتباعهم وجهلا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال الّتي منها التّواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغّصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيّتهم كما قلناه بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأوّل وينهدم بناء بيته هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبيّة أجمع ثمّ في بيوت أهل الأمصار إذا انحطّت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النّسب «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ 14: 19- 20» [1] واشتراط الأربعة في الأحساب إنّما هو في الغالب وإلّا فقد يدّثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم وقد يتّصل أمرها إلى الخامس والسّادس إلّا أنّه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر له ومقلّد وهادم وهو أقلّ ما يمكن وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثّناء قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن
__________
[1] سورة فاطر الآية: 16 و 17.(1/171)
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» إشارة إلى أنّه بلغ الغاية من المجد وفي التّوراة ما معناه إنّ الله ربّك طائق [1] غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثّوالث والرّوابع وهذا يدلّ على أنّ الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب. وفي كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أنّ كسرى قال للنّعمان هل في العرب قبيلة تتشرّف على قبيلة قال نعم قال بأيّ شيء قال من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثمّ اتّصل ذلك بكمال الرّابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلّا في آل حذيفة بن بدر الفزاريّ وهم بيت قيس وآل ذي الجدّين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقريّ من بني تميم فجمع هؤلاء الرّهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكّام والعدول فقام حذيفة بن بدر ثمّ الأشعث بن قيس لقرابته من النّعمان ثمّ بسطام بن قيس بن شيبان ثمّ حاجب بن زرارة ثمّ قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا فقال كسرى كلّهم سيّد يصلح لموضعه وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت بني الذّبيان من بني الحرث بن كعب اليمنيّ وهذا كلّه يدلّ على أنّ الأربعة الآباء نهاية في الحسب والله أعلم.
الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها
اعلم أنّه لمّا كانت البداوة سببا في الشّجاعة كما قلناه في المقدّمة الثّالثة [2] لا جرم كان هذا الجيل الوحشيّ أشدّ شجاعة من الجيل الآخر فهم أقدر على التّغلّب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك
__________
[1] طائق: قادر
[2] ورد هذا العنوان في المقدمة الخامسة.(1/172)
باختلاف الأعصار فكلّما نزلوا الأرياف وتفنّقوا [1] النّعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنّعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحّشهم وبداوتهم واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظّباء والبقر الوحشيّة والحمر إذا زال توحّشها بمخالطة الآدميّين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض [2] والشّدّة حتّى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدميّ المتوحّش إذا أنس وألف وسببه أنّ تكوّن السّجايا والطّبائع إنّما هو عن المألوفات والعوائد وإذا كان الغلب للأمم إنّما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحّشا كان أقرب إلى التّغلّب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافئا في القوّة العصبيّة وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السّابقين إلى الملك والنّعيم ومع ربيعة المتوطّنين أرياف العراق ونعيمه لمّا بقي مضر في بداوتهم وتقدّمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة [3] النّعيم كيف أرهفت البداوة حدّهم في التّغلّب فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم وهذا حال بني طيِّئ وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور ومن بعدهم لمّا تأخّروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبّسوا بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوّة عصبيّتهم ولم تخلفها مذاهب التّرف حتّى صاروا أغلب على الأمر منهم وكذا كلّ حيّ من العرب يلي نعيما وعيشا خصبا دون الحيّ الآخر فإنّ الحيّ المتبدّي [4] يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافئا في القوّة والعدد. سنة الله في خلقه.
__________
[1] تفنقوا: تنعموا
[2] الانتهاض: القيام بالأمر.
[3] الغضارة: النعمة والخصب (قاموس) .
[4] المتبدي: المقيم في البادية.(1/173)
الفصل السابع عشر في ان الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
وذلك لأنّا قدّمنا أنّ العصبيّة بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكلّ أمر يجتمع عليه وقدّمنا أنّ الآدميّين بالطّبيعة الإنسانيّة يحتاجون في كلّ اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بدّ أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبيّة وإلّا لم تتمّ قدرته على ذلك وهذا التّغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرّئاسة لأن الرّئاسة إنّما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه وأمّا الملك فهو التّغلّب والحكم بالقهر وصاحب العصبيّة إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السّؤدد والاتّباع ووجد السّبيل إلى التّغلّب والقهر لا يتركه لأنّه مطلوب للنّفس ولا يتمّ اقتدارها عليه إلّا بالعصبيّة الّتي يكون بها متبوعا فالتّغلّب الملكيّ غاية للعصبيّة كما رأيت ثمّ إنّ القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات مفترقة وعصبيّات متعدّدة فلا بدّ من عصبيّة تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيّات فيها وتصير كأنّها عصبيّة واحدة كبرى وإلّا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتّنازع «وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ 2: 251» [1] ثمّ إذا حصل التّغلّب بتلك العصبيّة على قومها طلبت بطبعها التّغلّب على أهل عصبيّة أخرى بعيدة عنها فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالا وأنظارا ولكلّ واحدة منهما التّغلّب على حوزتها وقومها شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضا وزادت قوّة في التّغلّب
__________
[1] سورة البقرة الآية 251.(1/174)
إلى قوّتها وطلبت غاية من التّغلّب والتّحكّم أعلى من الغاية الأولى وأبعد وهكذا دائما حتّى تكافئ بقوّتها قوّة الدّولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدّولة أهل العصبيّات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها وصار الملك أجمع لها وإن انتهت قوّتها ولم يقارن ذلك هرم الدّولة وإنّما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيّات انتظمتها الدّولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعنّ من مقاصدها وذلك ملك آخر دون الملك المستبدّ وهو كما وقع للتّرك في دولة بني العبّاس ولصنهاجة وزناتة مع كتامة ولبني حمدان مع ملوك الشّيعة من العلويّة والعبّاسيّة فقد ظهر أنّ الملك هو غاية العصبيّة وأنّها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إمّا بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبيّنه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم
وسبب ذلك أنّ القبيل إذا غلبت بعصبيّتها بعض الغلب استولت على النّعمة بمقداره وشاركت أهل النّعم والخصب في نعمتهم وخصبهم وضربت معهم في ذلك بسهم وحصّة بمقدار غلبها واستظهار الدّولة بها فإن كانت الدّولة من القوّة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها والقنوع بما يسوّغون من نعمتها ويشركون [1] فيه من جبايتها ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه إنّما همّتهم النّعيم والكسب وخصب العيش والسّكون في ظلّ الدّولة إلى الدّعة والرّاحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني
__________
[1] شركته في البيع والميراث والأمر، أشركه، إذا صرت له شريكا (قاموس) .(1/175)
والملابس والاستكثار من ذلك والتّأنّق فيه بمقدار ما حصل من الرّياش والتّرف وما يدعو إليه من توابع ذلك فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبيّة والبسالة ويتنعّمون فيما أتاهم الله من البسطة وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من التّرفّع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم ويستنكفون عن سائر الأمور الضّروريّة في العصبيّة حتّى يصير ذلك خلقا لهم وسجيّة فتنقص عصبيّتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبيّة فيأذنون بالانقراض وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلا عن الملك فإنّ عوارض التّرف والغرق في النّعيم كاسر من سورة العصبيّة الّتي بها التّغلّب وإذا انقرضت العصبيّة قصّر القبيل عن المدافعة والحماية فضلا عن المطالبة والتهمتهم الأمم سواهم فقد تبيّن أنّ التّرف من عوائق الملك وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.
الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم
وسبب ذلك أنّ المذلّة والانقياد كاسران لسورة العصبيّة وشدّتها فإنّ انقيادهم ومذلّتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلّة حتّى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة واعتبر ذلك في بني إسرائيل لمّا دعاهم موسى عليه السّلام إلى ملك الشّام وأخبرهم بأنّ الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا: «إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها 5: 22» [1] أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيّتنا وتكون من معجزاتك يا موسى ولمّا عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا 5: 24» [2] وما ذلك إلّا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة
__________
[1] سورة المائدة الآية 22.
[2] سورة المائدة الآية 24.(1/176)
والمطالبة كما تقتضيه الآية [1] وما يؤثّر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذّلّ للقبط أحقابا حتّى ذهبت العصبيّة منهم جملة مع أنّهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى من أنّ الشّام لهم وأنّ العمالقة الّذين كانوا بأريحا فريستهم بحكم من الله قدّره لهم فأقصروا عن ذلك وعجزوا تعويلا على ما في أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلّة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به فعاقبهم الله بالتّيه وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشّام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها العمران ولا نزلوا مصرا ولا خالطوا بشرا كما قصّه القرآن لغلظة العمالقة بالشّام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه ويظهر من مساق الآية ومفهومها أنّ حكمة ذلك التّيه مقصودة وهي فناء الجيل الّذين خرجوا من قبضة الذّلّ والقهر والقوّة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيّتهم حتّى نشأ في ذلك التّيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسأم بالمذلّة فنشأت بذلك عصبيّة أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتّغلّب ويظهر لك من ذلك أنّ الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبيّة وأنّها هي الّتي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كلّه ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلّة للقبيل شأن المغارم والضّرائب فإنّ القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتّى رضوا بالمذلّة فيه لأنّ في المغارم والضّرائب ضيما ومذلّة لا تحتملها النّفوس الأبيّة إلّا إذا استهونته عن القتل والتّلف وأنّ عصبيّتهم حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية ومن كانت عصبيّته لا تدفع عنه الضّيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل له الانقياد للذّلّ والمذلّة عائقة كما قدّمناه. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في شأن الحرث لمّا رأى سكّة المحراث في بعض دور الأنصار «ما دخلت هذه دار قوم إلّا دخلهم الذّلّ»
__________
[1] جاء ختام هذه القصة في القرآن الكريم بقوله تعالى: «قال فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الْأَرْضِ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ 5: 26. (سورة المائدة) .(1/177)
فهو دليل صريح على أنّ المغرم موجب للذّلّة [1] هذا إلى ما يصحب ذلّ المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذّلّ فلا تطمعنّ لها بملك آخر الدّهر ومن هنا يتبيّن لك غلط من يزعم أنّ زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدّون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك وهو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتبّ لهم ملك ولا تمّت لهم دولة وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرّحمن بن ربيعة لمّا أطلّ عليه وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له فقال أنا اليوم منكم يدي في أيديكم وصعري [2] معكم فمرحبا بكم وبارك الله لنا ولكم وجزيتنا إليكم النّصر لكم والقيام بما تحبّون ولا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوّكم فاعتبر هذا فيما قلناه فإنّه كاف.
الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس
لمّا كان الملك طبيعيّا للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشّرّ بأصل فطرته وقوّته النّاطقة العاقلة لأنّ الشّرّ إنّما جاءه من قبل القوى الحيوانيّة الّتي فيه وأمّا من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسّياسة إنّما كانا له من حيث هو إنسان لأنّهما للإنسان خاصّة لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي الّتي تناسب السّياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسّياسة وقد ذكرنا أنّ المجد له أصل يبنى عليه وتتحقّق به حقيقته وهو العصبيّة والعشير وفرع يتمّم وجوده ويكمله وهو الخلال وإذا كان الملك غاية للعصبيّة فهو غاية لفروعها ومتمّماتها وهي الخلال لأنّ وجوده دون
__________
[1] لأن المشتغلين بالزراعة كانوا يدفعون غالبا الخراج للدولة، وهناك حديث شائع على السنة العامة:
«إذا غضب الله على قوم أسكنهم القرى أو المزارع» وهو مثل قديم سببه أن الدولة العثمانية التي كانت تحكم على بلادنا كان جل اعتمادها على الضرائب الزراعية.
[2] صعر: صعرا وجهه: مال إلى أحد الشقين (قاموس) .(1/178)
متمّماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانا بين النّاس وإذا كان وجود العصبيّة فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصا في أهل البيوت والأحساب فما ظنّك بأهل الملك الّذي هو غاية لكلّ مجد ونهاية لكلّ حسب وأيضا فالسّياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة للَّه في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنّما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشّرائع وأحكام البشر إنّما هي من الجهل والشّيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنّه فاعل للخير والشّرّ معا ومقدّرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبيّة الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيّأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصّلاحيّة لذلك. وهذا البرهان أوثق من الأوّل وأصحّ مبنى فقد تبيّن أنّ خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبيّة فإذا نظرنا في أهل العصبيّة ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النّواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزّلّات والاحتمال من غير القادر والقرى للضّيوف وحمل الكلّ [1] وكسب المعدم والصّبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشّريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عند ما يحدّدونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظّنّ بهم واعتقاد أهل الدّين والتّبرّك بهم ورغبة الدّعاء منهم والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحقّ مع الدّاعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتّبذّل [2] في أحوالهم والانقياد للحقّ والتّواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتّديّن بالشّرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك علمنا أنّ هذه خلق السّياسة قد حصلت لديهم واستحقّوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنّه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب
__________
[1] الكل: اليتيم، من لا يقدر على القيام بشئون نفسه (قاموس) .
[2] التبذل: ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنى على جهة التواضع (قاموس) .(1/179)
لعصبيّتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثا منهم والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيّتهم فعلمنا بذلك أنّ الله تأذّن لهم بالملك وساقه إليهم وبالعكس من ذلك إذا تأذّن الله بانقراض الملك من أمّة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرّذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السّياسيّة منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدّل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك وجعل في أيديهم من الخير «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16» [1] واستقرئ ذلك وتتبّعه في الأمم السّابقة تجد كثيرا ممّا قلناه ورسمناه والله يخلق ما يشاء ويختار واعلم أنّ من خلال الكمال الّتي يتنافس فيها القبائل أولو العصبيّة وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء والصّالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التّجار والغرباء وإنزال النّاس منازلهم وذلك أنّ إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشّرف ويجاذ بهم حبل العشير والعصبيّة ويشاركهم في اتّساع الجاه أمر طبيعيّ يحمل عليه في الأكثر الرّغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه وأمّا أمثال هؤلاء ممّن ليس لهم عصبيّة تتّقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشّكّ في شأن كرامتهم ويتمحّض القصد فيهم أنّه للمجد وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السّياسة بالكلّيّة لأنّ إكرام أقتاله [2] وأمثاله ضروريّ في السّياسة الخاصّة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطّارئين من أهل الفضائل والخصوصيّات كمال في السّياسة العامّة فالصّالحون للدّين والعلماء للجائي إليهم في إقامة مراسم الشّريعة والتّجّار للتّرغيب حتّى تعمّ المنفعة بما في أيديهم والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال النّاس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيّته انتماؤهم للسّياسة العامّة وهي الملك وأنّ الله قد تأذّن بوجودها فيهم لوجود علاماتها ولهذا كان أوّل ما يذهب
__________
[1] سورة الاسراء الآية 16.
[2] اقتال: ج قتل بكسر القاف: العدو- الصديق- القرن، النظير وهنا تعني النظير (قاموس) .(1/180)
من القبيل أهل الملك إذا تأذّن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصّنف من الخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمّة من الأمم فاعلم أنّ الفضائل قد أخذت في الذّهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم «وَإِذا أَرادَ الله بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ 13: 11» والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والعشرون في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع
وذلك لأنّهم أقدر على التّغلب والاستبداد كما قلناه واستعباد الطّوائف لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنّهم يتنزّلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم وهؤلاء مثل العرب [1] وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتّركمان وأهل اللّثام من صنهاجة وأيضا فهؤلاء المتوحّشون ليس لهم وطن يرتافون [2] منه ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السّواء فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يظفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلّبون على الأمم النّائية وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضي الله عنه لمّا بويع وقام يحرّض النّاس على العراق فقال: إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلّا على النّجعة ولا يقوى عليه أهله إلّا بذلك أين القرّاء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض الّتي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها، فقال: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 9: 33» [3] واعتبر ذلك أيضا بحال العرب السّالفة من قبل مثل التّبابعة وحمير كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرّة وإلى العراق والهند أخرى ولم يكن ذلك لغير
__________
[1] يعني ابن خلدون العرب المتوحشون الذين ذكرهم في مواضع عدة.
[2] يعتاشون منه.
[3] سورة الصف الآية 9.(1/181)
العرب من الأمم وكذا حال الملثّمين من المغرب لمّا نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأوّل ومجالاتهم منه في جوار السّودان إلى الإقليم الرّابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة وهذا شأن هذه الأمم الوحشيّة فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقا وأبعد من مراكزها نهاية «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» [1] وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 13: 16 لا شريك له.
الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية
والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم فيتعيّن منهم المباشرون للأمر الحاملون سرير الملك ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة الّتي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة الّتي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرّتبة فإذا تعيّن أولئك القائمون بالدّولة انغمسوا في النّعيم وغرقوا في بحر التّرف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل وأنفقوهم في وجوه الدّولة ومذاهبها وبقي الّذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظلّ من عزّ الدّولة الّتي شاركوها بنسبهم وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن التّرف وأسبابه فإذا استولت على الأوّلين الأيّام وأباد غضراءهم الهرم فطبختهم الدّولة وأكل الدّهر عليهم وشرب بما أرهف النّعيم من حدّهم واستقت غريزة التّرف من مائهم وبلغوا غايتهم من طبيعة التّمدّن الإنسانيّ والتّغلّب السّياسيّ (شعر) :
كدود القزّ ينسج ثمّ يفنى ... بمركز نسجه في الانعكاس
__________
[1] سورة المزّمل الآية 20.(1/182)
كانت حينئذ عصبيّة الآخرين موفورة وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسمو آمالهم إلى الملك الّذي كانوا ممنوعين منه بالقوّة الغالبة من جنس عصبيّتهم وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأمر ويصير إليهم وكذا يتّفق فيهم مع من بقي أيضا منتبذا عنه من عشائر أمّتهم فلا يزال الملك ملجئا في الأمّة إلى أن تنكسر سورة العصبيّة منها أو يفنى سائر عشائرها سنّة الله في الحياة الدّنيا «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ 43: 35» [1] واعتبر هذا بما وقع في العرب لمّا انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير أيضا ومن بعدهم إخوانهم التّبابعة من حمير أيضا ومن بعدهم الأذواء كذلك ثمّ جاءت الدّولة لمضر وكذا الفرس لمّا انقرض أمر الكينيّة ملك من بعدهم السّاسانيّة حتّى تأذّن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذا اليونانيّون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الرّوم وكذا البربر بالمغرب لمّا انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأوّل منهم رجع إلى صنهاجة ثمّ الملثّمين من بعدهم ثمّ من بقي من شعوب زناتة وهكذا سنّة الله في عباده وخلقه وأصل هذا كلّه إنّما يكون بالعصبيّة وهي متفاوتة في الأجيال والملك يخلقه التّرف ويذهبه كما سنذكره [2] بعد فإذا انقرضت دولة فإنّما يتناول الأمر منهم من له عصبيّة مشاركة لعصبيّتهم الّتي عرف لها التّسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع العصبيّات وذلك إنّما يوجد في النّسب القريب منهم لأنّ تفاوت العصبيّة بحسب ما قرب من ذلك النّسب الّتي هي فيه أو بعد حتّى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملّة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الّذي يأذن الله بقيامه بذلك التّبديل كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدّول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقابا.
__________
[1] سورة الزخرف آخر الآية 35.
[2] ذكر ابن خلدون هذا في الفصلين 16 و 18 ولعله غير ترتيب الفصول فكان هذا الفصل سابقا للفصلين المذكورين ثم أصبح لاحقا. ولم ينتبه ابن خلدون إلى هذه الكلمة ليحذفها أو يبدلها.(1/183)
الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمّا لنظره بالكمال بما وقر [1] عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأوّل ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبّهين بهم دائما وما ذلك إلّا لاعتقادهم الكمال فيهم وانظر إلى كلّ قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زيّ الحامية وجند السّلطان في الأكثر لأنّهم الغالبون لهم حتّى أنّه إذا كانت أمّة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التّشبّه والاقتداء حظّ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنّك تجدهم يتشبّهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتّى في رسم التّماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتّى لقد يستشعر من ذلك النّاظر بعين الحكمة أنّه من علامات الاستيلاء والأمر للَّه. وتأمّل في هذا سرّ قولهم العامّة على دين الملك
__________
[1] وقر: يوقر وقارة ووقارا الرجل: كان رزينا ذا وقار (المنجد) .(1/184)
فإنّه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرّعيّة مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلّمين بمعلّميهم والله العليم الحكيم وبه سبحانه وتعالى التّوفيق.
الفصل الرابع والعشرون في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء
والسّبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النّفوس من التّكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التّناسل والاعتمار إنّما هو عن جدّة الأمل وما يحدث عنه من النّشاط في القوى الحيوانيّة فإذا ذهب الأمل بالتّكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبيّة ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد [1] الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلّبين لكلّ متغلّب وطعمة لكلّ آكل وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا. وفيه والله أعلم سرّ آخر وهو أنّ الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الّذي خلق له والرّئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزّه تكاسل حتّى عن شبع بطنه وريّ كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسيّ. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنّها لا تسافد إلّا إذا كانت في ملكة الآدميّين فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء للَّه وحده واعتبر ذلك في أمّة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ولمّا فنيت حاميتهم في أيّام العرب بقي منهم كثير وأكثر من الكثير يقال إنّ سعدا أحصى ما وراء المدائن فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين ألفا منهم سبعة وثلاثون
__________
[1] خضد: خضدا العود: كسره ولم يبن.(1/185)
ألفا ربّ بيت ولمّا تحصّلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلّا قليلا ودثروا كأن لم يكونوا ولا تحسبنّ أنّ ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان شملهم فملكة الإسلام في العدل ما علمت وإنّما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره ولهذا إنّما تذعن للرّقّ في الغالب أمم السّودان لنقص الإنسانيّة فيهم وقربهم من عرض الحيوانات العجم كما قلناه أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرّقّ حصول رتبة أو إفادة مال أو عزّ كما يقع لممالك التّرك بالمشرق والعلوج [1] من الجلالقة والإفرنجة فإنّ العادة جارية باستخلاص الدّولة لهم فلا يأنفون من الرّقّ لما يأملونه من الجاه والرّتبة باصطفاء الدّولة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
وذلك أنّهم بطبيعة التّوحّش الّذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرّون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلّا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكلّ معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنّهم لا يتسنّمون إليهم الهضاب ولا يركبون الصّعاب ولا يحاولون الخطر وأمّا البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدّولة فهي نهب لهم وطمعة لآكلهم يردّدون عليها الغارة والنّهب والزّحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثمّ يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السّياسة إلى أن ينقرض عمرانهم والله قادر على خلقه وهو الواحد القهّار لا ربّ غيره.
__________
[1] العلوج: بمعنى كفار العجم.(1/186)
الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب
والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب [1] وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف له فالحجر مثلا إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه ويعدّونه لذلك والخشب أيضا إنّما حاجتهم إليه ليعمّدوا [2] به خيامهم ويتّخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخرّبون السّقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران هذا في حالهم على العموم وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه بل كلّما امتدّت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تمّ اقتدارهم على ذلك بالتّغلب والملك بطلت السّياسة في حفظ أموال النّاس وخرب العمران وأيضا فلأنّهم يكلّفون على أهل الأعمال من الصّنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثّمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعرّ السّاكن وفسد العمران وأيضا فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عن المفاسد ودفاع بعضهم
__________
[1] بمعنى التنقل.
[2] عمد السقف: دعائمه وركائزه.(1/187)
عن بعض إنّما همّهم ما يأخذونه من أموال النّاس نهبا أو غرامة فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم والنّظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وربّما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرّض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى [1] دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أنّ وجود الملك خاصّة طبيعيّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلّا بها وتقدّم ذلك أوّل الفصل وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلّا في الأقلّ وعلى كره من أجل الحياء فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابيّ الوافد على عبد الملك لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثّناء عليه عنده بحسن السّياسة والعمران فقال: «تركته يظلم وحده» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه وأقفر ساكنه وبدّلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قرارهم خراب إلّا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الّذي كان للفرس أجمع والشّام لهذا العهد كذلك وإفريقية والمغرب لمّا جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أوّل المائة الخامسة وتمرّسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السّنين قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلّها بعد أن كان ما بين السّودان والبحر الرّوميّ كلّه عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] ومما يعزى آلى سيدنا علي:
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا(1/188)
الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة
والسّبب في ذلك أنّهم لخلق التّوحّش الّذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرّئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدّين بالنّبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدّين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التّحاسد والتّنافس فإذا كان فيهم النّبيّ أو الوليّ الّذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلّف كلمتهم لإظهار الحقّ تمّ اجتماعهم وحصل لهم التّغلّب والملك وهم مع ذلك أسرع النّاس قبولا للحقّ والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق إلّا ما كان من خلق التّوحّش القريب المعاناة المتهيّئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عمّا ينطبع في النّفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإنّ كلّ مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدّم.
الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التّلول وحبوبها لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتّوحّش ورئيسهم محتاج إليهم(1/189)
غالبا للعصبيّة الّتي بها المدافعة فكان مضطرّا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم [1] لئلّا يختلّ عليه شأن عصبيّته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم وسياسة الملك والسّلطان تقتضي أن يكون السّائس وازعا بالقهر وإلّا لم تستقم سياسته وأيضا فإنّ من طبيعتهم كما قدّمناه أخذ ما في أيدي النّاس خاصّة والتّجافي عمّا سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمّة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم وربّما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصا على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعا وربّما يكون باعثا بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الأمّة كأنّها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا شأن الفوضى كما قدّمناه فبعدت طباع العرب لذلك كلّه عن سياسة الملك وإنّما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدّلها بصبغة دينيّة تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع النّاس بعضهم عن بعض كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملّة لمّا شيّد لهم الدّين أمر السّياسة بالشّريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم.
كان رستم [2] إذا رأى المسلمين يجتمعون للصّلاة يقول أكل عمر كبدي يعلّم الكلاب الآداب ثمّ إنّهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدّولة أجيال نبذوا الدّين فنسوا السّياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيّتهم مع أهل الدّولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النّصفة فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلّا أنّهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولمّا ذهب أمر الخلافة وامّحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك
__________
[1] عدائهم وهجرانهم.
[2] رستم هو قائد جيوش الفرس في معركة القادسية.(1/190)
ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنّهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتّبابعة شاهدة بذلك ثمّ دولة مضر في الإسلام بني أميّة وبني العبّاس لكن بعد عهدهم بالسّياسة لمّا نسوا الدّين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدّول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله وغايته إلّا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدّمناه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.
الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار
قد تقدّم لنا أنّ عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأنّ الأمور الضروريّة في العمران ليس كلّها موجودة لأهل البدو. وإنّما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادّها معدومة ومعظمها الصّنائع فلا توجد لديهم في الكلّيّة من نجّار وخيّاط وحدّاد وأمثال ذلك ممّا يقيم لهم ضروريّات معاشهم في الفلح وغيره وكذا الدّنانير والدّراهم مفقودة لديهم وإنّما بأيديهم أعواضها من مغلّ الزّراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألبانا وأوبارا وأشعارا وإهابا ممّا يحتاج إليه أهل الأمصار فيعوّضونهم عنه بالدّنانير والدّراهم إلّا أنّ حاجتهم إلى الأمصار في الضّروريّ وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجيّ [1] والكماليّ فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرّفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك وطالبوهم به وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك
__________
[1] بمعنى الضروريّ.(1/191)
وإن لم يكن في المصر ملك فلا بدّ فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلّا انتقض عمرانه وذلك الرّئيس يحملهم على طاعته والسّعي في مصالحه إمّا طوعا ببذل المال لهم ثمّ يبدي لهم ما يحتاجون إليه من الضّروريّات في مصره فيستقيم عمرانهم وإمّا كرها إن تمّت قدرته على ذلك ولو بالتّغريب بينهم حتّى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطرّ الباقون إلى طاعته بما يتوقّعون لذلك من فساد عمرانهم وربّما لا يسعهم مفارقة تلك النّواحي إلى جهات أخرى لأنّ كلّ الجهات معمور بالبدو الّذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرها فلا يجد هؤلاء ملجأ إلّا طاعة المصر فهم بالضّرورة مغلوبون لأهل الأمصار والله قاهر فوق عباده وهو الواحد الأحد القهّار.(1/192)
الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات
الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية
وذلك أنّا قرّرنا في الفصل الأوّل أنّ المغالبة والممانعة إنّما تكون بالعصبيّة لما فيها من النّعرة والتّذامر [1] واستماتة كلّ واحد منهم دون صاحبه. ثمّ إنّ الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدّنيويّة والشّهوات البدنيّة والملاذّ النّفسانيّة فيقع فيه التّنافس غالبا وقلّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة كما ذكرناه آنفا وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أوّل الدّولة إنّما يدركون أصحاب الدّولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التّسليم لهم والاستغناء عن العصبيّة في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوّله وما لقي أوّلهم من المتاعب دونه
__________
[1] تذامر القوم: حضّ بعضهم بعضا على القتال.(1/193)
وخصوصا أهل الأندلس في نسيان هذه العصبيّة وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوّة العصبيّة بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب والله قادر على ما يشاء وهو بكلّ شيء عليم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية
والسّبب في ذلك أنّ الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتّسليم وقاتل النّاس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانيّة فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأنّ طاعتها كتاب من الله لا يبدّل ولا يعلم خلافه ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانيّة كأنّه من جملة عقودها ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إمّا بالموالي والمصطنعين الّذين نشئوا في ظلّ العصبيّة وغيرها وإمّا بالعصائب الخارجين عن نسبها الدّاخلين في ولايتها ومثل هذا وقع لبني العبّاس فإنّ عصبيّة العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنّما كان بالموالي من العجم والتّرك والدّيلم والسّلجوقيّة وغيرهم ثمّ تغلّب العجم الأولياء على النّواحي وتقلّص ظلّ الدّولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتّى زحف إليها الدّيلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وملك السّلجوقيّة من بعدهم فصاروا في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وزحف آخر التّتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدّولة وكذا صنهاجة(1/194)
بالمغرب فسدت عصبيّتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرّت لهم الدّولة متقلّصة الظّلّ بالمهديّة وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية وربّما انتزى [1] بتلك الثّغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسّلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتّى تأذّن الله بانقراض الدّولة وجاء الموحّدون بقوّة قويّة من العصبيّة في المصامدة فمحوا آثارهم وكذا دولة بني أميّة بالأندلس لمّا فسدت عصبيّتها من العرب استولى ملوك الطّوائف على أمرها واقتسموا خطّتها وتنافسوا بينهم وتوزّعوا ممالك الدّولة وانتزى كلّ واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم مع الدّولة العبّاسيّة فتلقّبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممّن ينقض ذلك عليهم أو يغيّره لأنّ الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمرّ لهم ذلك كما قال ابن شرف.
ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطّراء [2] على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدّولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبيّة العرب واستبدّ بن أبي عامر على الدّولة فكان لهم دول عظيمة استبدّت كلّ واحدة منها بجانب من الأندلس وحظّ كبير من الملك على نسبة الدّولة الّتي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتّى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبيّة القويّة من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبيّة لديهم فبهذه العصبيّة يكون تمهيد الدّولة وحمايتها من أوّلها وقد ظنّ الطّرطوشيّ أنّ حامية الدّول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الّذي
__________
[1] بمعنى توثب، والأصح تنزى.
[2] بمعنى الذين أتوا من أماكن اخرى.(1/195)
سمّاه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدّول العامّة في أوّلها وإنّما هو مخصوص بالدّول الأخيرة بعد التّمهيد واستقرار الملك في النّصاب واستحكام الصّبغة لأهله فالرّجل إنّما أدرك الدّولة عند هرمها وخلق جدّتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصّنائع ثمّ إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنّه إنّما أدرك دول الطّوائف وذلك عند اختلال بني أميّة وانقراض عصبيّتها من العرب واستبداد كلّ أمير بقطرة وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفّر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبيّة شيء لاستيلاء التّرف على العرب منذ ثلاثمائة من السّنين وهلاكهم ولم ير إلّا سلطانا مستبدّا بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدّولة وبقيّة العصبيّة فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطّرطوشيّ القول في ذلك ولم يتفطّن لكيفيّة الأمر منذ أوّل الدّولة وإنّه لا يتمّ إلّا لأهل العصبيّة فتفطّن أنت له وافهم سرّ الله فيه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.
الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية
وذلك أنّه إذا كان لعصبيّة غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وانقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقرّ ملكه ومنبت عزّه اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه وعنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه وتناوله الأمر من يد أعياصه [1] وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر ولا
__________
[1] اعياص: ج عيص، الأصل بمعنى أنهم يرجون انتقال الملك إليه من أصوله أي من آبائه وأجداده.(1/196)
يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليما لعصبيّته وانقيادا لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانيّة استقرّت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديّين بإفريقيّة ومصر لمّا انتبذ الطّالبيّون من المشرق إلى القاصية وابتعدوا عن مقرّ الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العبّاس بعد أن استحكمت الصّبغة لبني عبد مناف لبني أميّة أوّلا ثمّ لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرّة بعد أخرى فأوربّة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوّارة للعبيديّين فشيّدوا دولتهم ومهّدوا بعصائبهم أمرهم واقتطعوا من ممالك العبّاسيّين المغرب كلّه ثمّ إفريقية ولم يزل ظلّ الدّولة يتقلّص وظلّ العبيديّين يمتدّ إلى أن ملكوا مصر والشّام والحجاز وقاسموهم في الممالك الإسلاميّة شقّ الأبلمة وهؤلاء البرابرة القائمون بالدّولة مع ذلك كلّهم مسلّمون للعبيديّين أمرهم مذعنون لملكهم وإنّما كانوا يتنافسون في الرّتبة عندهم خاصّة تسليما لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41.
الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين اما من نبوة أو دعوة حق
وذلك لأنّ الملك إنّما يحصل بالتّغلّب والتّغلّب إنّما يكون بالعصبيّة واتّفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنّما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى «لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ 8: 63» وسرّه أنّ(1/197)
القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل وأقبلت على الله اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدّولة كما نبيّن لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها
والسّبب في ذلك كما قدّمناه أنّ الصّبغة الدّينيّة تذهب بالتنافس والتّحاسد الّذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأنّ الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه وأهل الدّولة الّتي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقيّة الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من التّرف والذّلّ كما قدّمناه وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسيّة واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كلّ معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسيّة وجموع هرقل على ما قاله الواقديّ أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ [1] عليهم إلّا أنّ الاجتماع الدّينيّ ضاعف قوّة عصبيّتهم بالاستبصار
__________
[1] يشفّ: يزيد.(1/198)
والاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزّائدة القوّة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين لقوّتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأشدّ بداوة واعتبر هذا في الموحّدين مع زناتة لمّا كانت زناتة أبدى [1] من المصامدة وأشدّ توحّشا وكان للمصامدة الدّعوة الدّينيّة باتّباع المهديّ فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوّة عصبيّتهم بها فغلبوا على زناتة أوّلا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبيّة والبداوة أشدّ منهم فلمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
وهذا لما قدّمناه من أنّ كلّ أمر تحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح كما مرّ «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة وقد وقع هذا لابن قسيّ شيخ الصّوفية وصاحب كتاب خلع النّعلين في التّصوّف ثار بالأندلس داعيا إلى الحقّ وسمّي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهديّ فاستتبّ له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحّدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحّدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقلة
__________
[1] أبدى: من البداوة وأبدى أفعل التفضيل من بدا ومعناها أشد بداوة.(1/199)
بحصن أركش [1] وأمكنهم من ثغره وكان أوّل داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمّى ثورة المرابطين ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون [2] بهم من الغوغاء والدّهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل مأزورين [3] غير مأجورين لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأوّل ابتداء هذه النّزعة في الملّة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر [4] وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدّم العراق ثمّ عهد لعليّ بن موسى الرّضى من آل الحسين فكشف بنو العبّاس عن
__________
[1] لم نعثر على حصن اركش في معجم البلدان وكذلك في المراجع التي بين أيدينا وربما هناك تحريف بالاسم وهو حصن اركون، وهو حصن منيع في الأندلس وموقعه ينسجم مع سياق الحديث عن المرابطين بالأندلس.
[2] وفي بعض النسخ المتشبثون.
[3] الأصح موزورين.
[4] هو طاهر بن الحسين، كان قائدا لجيش المأمون زمن الخلاف بين الأخوين الأمين والمأمون وقد خرج أيام الأمين.(1/200)
وجه النّكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهديّ فوقع الهرج [1] ببغداد وانطلقت أيدي الزّعرة [2] بها من الشّطّار [3] والحربيّة [4] على أهل العافية والصّون وقطعوا السّبيل وامتلأت أيديهم من نهاب النّاس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى [5] أهلها الحكّام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين والصّلاح على منع الفسّاق وكفّ عاديتهم وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدّريوش ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزّعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضّرب والتّنكيل ثمّ قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاريّ ويكنى أبا حاتم وعلّق مصحفا في عنقه ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فاتّبعه النّاس كافّة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتّخذ الدّيوان وطاف ببغداد ومنع كلّ من أخاف المارّة ومنع الخفارة [6] لأولئك الشّطّار وقال له خالد الدّريوش أنا لا أعيب على السّلطان فقال له سهل لكني أقاتل كلّ من خالف الكتاب والسّنّة كائنا من كان وذلك سنة إحدى ومائتين وجهّز له إبراهيم بن المهديّ العساكر فغلبه وأسره وانحلّ أمره سريعا وذهب ونجا بنفسه ثمّ اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحقّ ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبيّة ولا يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم والّذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إمّا المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإمّا التّنكيل بالقتل أو الضّرب إن أحدثوا هرجا وإمّا إذاعة السّخريّة منهم وعدّهم من جملة
__________
[1] الفتنة.
[2] الزعرة ج زعر وفي العامية ازعر وزعران وهم ذوي الأخلاق السيئة. (قاموس) .
[3] اللصوص والمجرمين.
[4] هو نهب مال الإنسان بأجمعه. وفي الحديث الحارب الميشلح أي الغاصب الناهب، الّذي يعرّي الناس ثيابهم.
[5] طلب النجدة والعون.
[6] المحافظة أي منع المحافظة عليهم.(1/201)
الصّفّاعين [1] وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطميّ المنتظر إمّا بأنّه هو أو بأنّه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطميّ ولا ما هو وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبّسين يطلبون بمثل هذه الدّعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التّوصّل إليها بشيء من أسبابها العاديّة فيحسبون أنّ هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤمّلونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان لأوّل هذه المائة خرج بالسّوس رجل من المتصوّفة يدعى التّويذريّ عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم أنّه الفاطميّ المنتظر تلبيسا على العامّة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك وأنّ من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامّة البربر تهافت الفراش ثمّ خشي رؤساؤهم اتّساع نطاق الفتنة فدسّ إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السّكسيويّ من قتله في فراشه وكذلك خرج في غماره أيضا لأوّل هذه المائة رجل يعرف بالعبّاس وادّعى مثل هذه الدّعوة واتّبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأعمارهم [2] وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة. ثمّ قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته ومضى في الهالكين الأوّلين وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبيّة في مثلها وأمّا إن كان التّلبيس فأحرى أن لا يتمّ له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك جزاء الظّالمين والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها
والسّبب في ذلك أنّ عصابة الدّولة وقومها القائمين بها الممهّدين لها لا بدّ
__________
[1] الكذابين.
[2] اغمارهم: احداثهم الذين لم يفقهوا الأمور بعد.(1/202)
من توزيعهم حصصا على الممالك والثّغور الّتي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدوّ وإمضاء أحكام الدّولة فيها من جباية وردع وغير ذلك فإذا توزّعت العصائب كلّها على الثّغور والممالك فلا بدّ من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حدّ يكون ثغرا للدّولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها فإن تكفّلت الدّولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدوّ والمجاور ويعود وبال ذلك على الدّولة بما يكون فيه من التّجاسر وخرق سياج الهيبة وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثّغور والنّواحي بقي في الدّولة قوّة على تناول ما وراء الغاية حتّى ينفسح نطاقها إلى غايته والعلّة الطّبيعيّة في ذلك هي قوّة العصبيّة من سائر القوى الطّبيعيّة وكلّ قوّة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها والدّولة في مركزها أشدّ ممّا يكون في الطّرف والنّطاق وإذا انتهت إلى النّطاق الّذي هو الغاية عجزت وأقصرت عمّا وراءه شأن الأشعّة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدّوائر المنفسحة على سطح الماء من النّقر عليه ثمّ إذا أدركها الهرم والضّعف فإنّما تأخذ في التّناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدّولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنّطاق بل تضمحلّ لوقتها فإنّ المركز كالقلب الّذي تنبعث منه الرّوح فإذا غلب على القلب وملك انهزم جميع الأطراف وانظر هذا في الدّولة الفارسيّة كان مركزها المدائن فلمّا غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه وبالعكس من ذلك الدّولة الرّوميّة بالشّام لمّا كان مركزها القسطنطينيّة وغلبهم المسلمون بالشّام تحيّزوا إلى مركزهم بالقسطنطينيّة ولم يضرّهم انتزاع الشّام من أيديهم فلم يزل ملكهم متّصلا بها إلى أن تأذّن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب أوّل الإسلام لمّا كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشّام والعراق(1/203)
ومصر لأسرع وقت ثمّ تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السّند والحبشة وإفريقية والمغرب ثمّ إلى الأندلس فلمّا تفرّقوا حصصا على الممالك والثّغور ونزلوها حامية ونفد عددهم في تلك التّوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر الإسلام ولم يتجاوز تلك الحدود ومنها تراجعت الدّولة حتّى تأذّن الله بانقراضها وكذا كان حال الدّول من بعد ذلك كلّ دولة على نسبة القائمين بها في القلّة والكثرة وعند نفاد عددهم بالتّوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء سنّة الله في خلقه.
الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة
والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما يكون بالعصبيّة وأهل العصبيّة هم الحامية الّذين ينزلون بممالك الدّولة وأقطارها وينقسمون عليها فما كان من الدّولة العامّة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطانا وكان ملكها أوسع لذلك واعتبر ذلك بالدّولة الإسلاميّة لمّا ألّف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فلمّا توجّهوا لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر [1] فاستبيح حمى فارس والرّوم أهل الدّولتين العظيمتين في العالم لعهدهم والتّرك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب والقوط بالأندلس وخطوا من الحجاز إلى السّوس الأقصى ومن اليمن إلى التّرك بأقصى الشّمال واستولوا على الأقاليم السّبعة ثمّ انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحّدين مع العبيديّين قبلهم
__________
[1] المعقل والملجأ (قاموس) .(1/204)
لمّا كان كتامة القائمين بدولة العبيديّين أكثر من صنهاجة ومن المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية والمغرب والشّام ومصر والحجاز ثمّ انظر بعد ذلك دولة زناتة لمّا كان عددهم أقلّ من المصامدة قصّر ملكهم عن ملك الموحّدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ أوّل أمرهم ثمّ اعتبر بعد ذلك حال الدّولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقا وكان لهم عليهم الغلب مرّة بعد أخرى. يقال إنّ عدد بني مرين لأوّل ملكهم كان ثلاثة آلاف وإنّ بني عبد الواد كانوا ألفا إلّا أنّ الدّولة بالرّفه وكثرة التّابع كثّرت من أعدادهم وعلى هذه النّسبة في أعداد المتغلّبين لأوّل الملك يكون اتّساع الدّولة وقوّتها وأمّا طول أمدها أيضا فعلى تلك النّسبة لأنّ عمر الحادث من قوّة مزاجه ومزاج الدّول إنّما هو بالعصبيّة فإذا كانت العصبيّة قويّة كان المزاج تابعا لها وكان أمد العمر طويلا والعصبيّة إنّما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه والسّبب الصّحيح في ذلك أنّ النّقص إنّما يبدو في الدّولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة وكلّ نقص يقع فلا بدّ له من زمن فتكثر أزمان النّقص لكثرة الممالك واختصاص كلّ واحد منها بنقص وزمان فيكون أمدها أطول الدّول لا بنو العبّاس أهل المركز ولا بنو أميّة المستبدون بالأندلس [1] . ولم ينقص أمر جميعهم إلّا بعد الأربعمائة من الهجرة ودولة العبيديّين كان أمدها قريبا من مائتين وثمانين سنة ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معزّ الدّولة أمر إفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة إلى حين استيلاء الموحّدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة ودولة الموحّدين لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين سنة وهكذا نسب الدّول في أعمارها على نسبة القائمين بها سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
__________
[1] هناك تشويش في معنى العبارة وربما تكون العبارة: يتساوى في ذلك بنو العباس أهل المركز وبنوا أمية المستبدون بالأندلس.(1/205)
الفصل التاسع في ان الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة
والسّبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأنّ وراء كلّ رأي منها وهوى عصبيّة تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدّولة والخروج عليها في كلّ وقت وإن كانت ذات عصبيّة لأنّ كلّ عصبيّة ممّن تحت يدها تظنّ في نفسها منعة وقوّة وانظر ما وقع من ذلك بإفريقيّة والمغرب منذ أوّل الإسلام ولهذا العهد فإنّ ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيّات فلم يغن فيهم الغلب الأوّل الّذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئا وعاودوا بعد ذلك الثّورة والرّدّة مرّة بعد أخرى وعظم الإثخان [1] من المسلمين فيهم ولمّا استقرّ الدّين عندهم عادوا إلى الثّورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرّات عديدة قال ابن أبي زيد ارتدّت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرّة ولم تستقرّ كلمة الإسلام فيهم إلّا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده وهذا معنى ما ينقل عن عمر أنّ إفريقة مفرّقة لقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصّفة ولا الشّام إنّما كانت حاميتها من فارس والرّوم والكافّة دهماء أهل مدن وأمصار فلمّا غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع ولا مشاقّ [2] والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى وكلّهم بادية وأهل عصائب وعشائر وكلّما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والرّدّة فطال أمر العرب في تمهيد الدّولة بوطن إفريقية والمغرب وكذلك كان الأمر بالشّام لعهد بني إسرائيل كان فيه من
__________
[1] اثخن في العدو: أكثر في القتل والجرح وورد في الآية 67 من سورة الأنفال «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ 8: 67» .
[2] مخالف وفي الآية 4 من سورة الحشر «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ 59: 4» .(1/206)
قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والرّوم واليونان والعمالقة وأكريكش والنّبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوّعا في العصبيّة فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرّة بعد أخرى وسرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه ولم يكن لهم ملك موطّد سائر أيّامهم إلى أن غلبهم الفرس ثمّ يونان ثمّ الرّوم آخر أمرهم عند الجلاء والله غالب على أمره وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيّات يسهل تمهيد الدّولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلّة الهرج والانتقاض ولا تحتاج الدّولة فيها إلى كثير من العصبيّة كما هو الشّأن في مصر والشّام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيّات كأن لم يكن الشّام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدّعة والرّسوخ لقلّة الخوارج وأهل العصائب إنّما هو سلطان ورعيّة ودولتها قائمة بملوك التّرك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد وينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت والخلافة مسمّاة للعبّاسيّ من أعقاب الخلفاء ببغداد وكذا شأن الأندلس لهذا العهد فإنّ عصبيّة ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأوّل دولتهم بقويّة ولا كانت كرّات [1] إنّما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدّولة الأمويّة بقوا من ذلك القلّة وذلك أنّ أهل الأندلس لمّا انقرضت الدّولة العربيّة منهم وملكهم البربر من لمتونة والموحّدين سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضائهم وأمكن الموحّدون والسّادة في آخر الدّولة كثيرا من الحصون للطّاغية [2] في سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملّك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبيّة القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة والأمصار بعض الشّيء ورسخوا في العصبيّة مثل ابن هود وابن الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم فقام ابن هود بالأمر ودعا بدعوة الخلافة العبّاسيّة بالمشرق وحمل النّاس على الخروج
__________
[1] متتالية ومتتابعة.
[2] الاسم الّذي أطلقه عرب الأندلس على ملك الفرنج في البرتغال وقشتالة.(1/207)
على الموحّدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم واستقلّ ابن هود بالأمر في الأندلس ثمّ سما ابن الأحمر للأمر وخالف ابن هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب إفريقية من الموحّدين وقام بالأمر وتناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا يسمّون الرّؤساء ولم يحتج لأكثر منهم لقلّة العصائب بالأندلس وإنّها سلطان ورعيّة ثمّ استظهر بعد ذلك على الطّاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على المثاغرة والرّبّاط ثمّ سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثّل [1] أمره ورسخ وألفته النّفوس وعجز النّاس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد فلا تظنّ أنّه بغير عصابة فليس كذلك وقد كان مبدؤه بعصابة إلّا أنّها قليلة وعلى قدر الحاجة فإنّ قطر الأندلس لقلّة العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبيّة في التّغلّب عليهم والله غنيّ عن العالمين.
الفصل العاشر في ان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد
وذلك أنّ الملك كما قدّمناه إنّما هو بالعصبيّة والعصبيّة متألّفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلّها فتغلبها وتستولي عليها حتّى تصيّرها جميعا في ضمنها وبذلك يكون الاجتماع والغلب على النّاس والدّول وسرّه أنّ العصبيّة العامّة للقبيل هي مثل المزاج للمتكوّن والمزاج إنّما يكون عن العناصر وقد تبيّن في موضعه أنّ العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلا بل لا بدّ من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكلّ حتّى تجمعها وتؤلّفها وتصيّرها عصبيّة واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها
__________
[1] ترسخ وتأصّل.(1/208)
وتلك العصبيّة الكبرى إنّما تكون لقوم أهل بيت ورئاسة فيهم، ولا بدّ من أن يكون واحد منهم رئيسا لهم غالبا عليهم فيتعيّن رئيسا للعصبيّات كلّها لغلب منبته لجميعها وإذا تعيّن له ذلك فمن الطّبيعة الحيوانيّة خلق الكبر والأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتّحكّم فيهم ويجيء خلق التّألّه الّذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السّياسة من انفراد الحاكم لفساد الكلّ باختلاف الحكّام «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22» [1] فتجدع حينئذ أنوف العصبيّات وتفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التّحكّم وتقرع عصبيّتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتّى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد بكلّيّته ويدفعهم عن مساهمته وقد يتمّ ذلك للأوّل من ملوك الدّولة وقد لا يتمّ إلّا للثّاني والثّالث على قدر ممانعة العصبيّات وقوّتها إلّا أنّه أمر لا بدّ منه في الدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي عشر في ان من طبيعة الملك الترف
وذلك أنّ الأمّة إذا تغلّبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقّته وزينته ويذهبون إلى اتّباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النّوافل عوائد ضروريّة في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقّة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطّيّب ولبس الأنيق وركوب الفاره [2] ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدّولة وعلى قدر ملكهم يكون حظّهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك
__________
[1] سورة الأنبياء الآية 22.
[2] الفارة في الفرس والبرذون والحمار: الجيد السير.(1/209)
الغاية الّتي للدّولة إلى أن تبلغها بحسب قوّتها وعوائد من قبلها سنّة الله في خلقه والله تعالى أعلم.
الفصل الثاني عشر في ان من طبيعة الملك الدعة والسكون
وذلك أنّ الأمّة لا يحصل لها الملك إلّا بالمطالبة والمطالبة غايتها الغلب والملك وإذا حصلت الغاية انقضى السّعي إليها (قال الشاعر)
عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب الّتي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الرّاحة والسّكون والدّعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرّياض ويستمتعون بأحوال الدّنيا ويؤثرون الرّاحة على المتاعب ويتأنّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذّن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم.
الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم
وبيانه من وجوه. الأوّل أنّها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه ومهما كان المجد مشتركا بين العصابة وكان سعيهم له واحدا كانت هممهم في التّغلّب على(1/210)
الغير والذّبّ عن الحوزة [1] أسوة في طموحها وقوّة شكائمها ومرماهم إلى العزّ جميعا يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيّتهم وكبح من أعنّتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ربحهم ورئموا [2] المذلّة والاستعباد ثمّ ربي الجيل الثّاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرا من السّلطان لهم عن الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنا في الدّولة وخضدا من الشّوكة وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبيّة بذهاب البأس من أهلها. والوجه الثّاني أنّ طبيعة الملك تقتضي التّرف كما قدّمناه فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ثمّ يزداد ذلك في أجيالهم المتأخّرة إلى أن يقصر العطاء كلّه عن التّرف وعوائده وتمسّهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب فلا يجدون وليجة [3] عنها فيوقعون بهم العقوبات وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدّولة بضعفهم وأيضا إذا كثر التّرف في الدّولة وصار عطاؤهم مقصّرا عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج صاحب الدّولة الّذي هو السّلطان إلى الزّيادة في أعطياتهم حتّى يسدّ خللهم [4] ويزيح عللهم والجباية مقدارها معلوم ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزّيادة محدودا فإذا وزّعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزّيادة لكلّ واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عمّا كان قبل زيادة الأعطيات ثمّ يعظم
__________
[1] الدفاع عن الناحية.
[2] أحبوا وآلفوا.
[3] الوليجة: البطانة والخاصة ومن يتخذه الإنسان معتمدا عليه من غير أهله (قاموس) .
[4] الخلل: الوهن في الأمر والرقة في الناس (قاموس) ولعل الكلمة محرّفة من كلمة الخلّة وهي الحاجة.(1/211)
التّرف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية وثالثا ورابعا إلى أن يعود العسكر إلى أقلّ الأعداد فتضعف الحماية لذلك وتسقط قوّة الدّولة ويتجاسر عليها من يجاوزها من الدّول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب ويأذن الله فيها بالفناء الّذي كتبه على خليقته وأيضا فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ والسّفسفة [1] وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدّولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها. الوجه الثّالث أنّ طبيعة الملك تقتضي الدّعة كما ذكرناه وإذا اتّخذوا الدّعة والرّاحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة وجبلّة شأن العوائد كلّها وإيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد التّرف والدّعة وينقلب خلق التّوحّش وينسون عوائد البداوة الّتي كان بها الملك من شدّة البأس وتعوّد الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر فلا يفرق بينهم وبين السّوقة من الحضر إلّا في الثّقافة والشّارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بما تلبّس من ثياب الهرم ثمّ لا يزالون يتلوّنون بعوائد التّرف والحضارة والسّكون والدّعة ورقّة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة وينسلخون عنها شيئا فشيئا وينسون خلق البسالة الّتي كانت بها الحماية والمدافعة حتّى يعودوا عيالا على حامية أخرى إن كانت لهم واعتبر ذلك في الدّول الّتي أخبارها في الصّحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحا من غير ريبة وربّما يحدث في الدّولة إذا طرقها هذا الهرم بالتّرف والرّاحة أن يتخيّر صاحب الدّولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممّن تعوّد الخشونة فيتّخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على
__________
[1] الرديء من كل شيء.(1/212)
معاناة الشّدائد من الجوع والشّظف ويكون ذلك دواء للدّولة من الهرم الّذي عساه أن يطرقها حتّى يأذن الله فيها بأمره وهذا كما وقع في دولة التّرك بالمشرق فإنّ غالب جندها الموالي من التّرك فتتخيّر ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرسانا وجندا فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشّظف من أبناء المماليك الّذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النّعيم والسّلطان وظلّه وكذلك في دولة الموحّدين بإفريقيّة فإنّ صاحبها كثيرا ما يتّخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدّولة المتعوّدين للتّرف فتستجدّ الدّولة بذلك عمرا آخر سالما من الهرم والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص
اعلم أنّ العمر الطّبيعيّ للأشخاص على ما زعم الأطبّاء والمنجّمون مائة وعشرون سنة وهي سنو القمر الكبرى عند المنجّمين ويختلف العمر في كلّ جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا وينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامّة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلّة القرانات عند النّاظرين فيها وأعمار هذه الملّة ما بين السّتّين إلى السّبعين كما في الحديث ولا يزيد على العمر الطّبيعيّ الّذي هو مائة وعشرون إلّا في الصّور النّادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السّلام وقليل من قوم عاد وثمود. وأمّا أعمار الدّول أيضا وإن كانت تختلف بحسب القرانات إلّا أنّ الدّولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الّذي هو انتهاء النّموّ والنّشوء إلى غايته قال تعالى «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً 46: 15» [1] ولهذا قلنا إنّ عمر الشّخص الواحد هو عمر الجيل
__________
[1] سورة الأحقاف الآية 15.(1/213)
ويؤيّده ما ذكرناه في حكمة التّيه الّذي وقع في بني إسرائيل وأنّ المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذّلّ ولا عرفوه فدلّ على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الّذي هو عمر الشّخص الواحد وإنّما قلنا إنّ عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبيّة محفوظة فيهم فحدّهم مرهف وجانبهم مرهوب والنّاس لهم مغلوبون والجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة ومن الشّظف إلى التّرف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السّعي فيه ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة فتنكسر سورة العصبيّة بعض الشّيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأوّل وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكليّة وإن ذهب منه ما ذهب ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال الّتي كانت للجيل الأوّل أو على ظنّ من وجودها فيهم وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم التّرف غايته بما تبنّقوه [1] من النّعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالا على الدّولة ومن جملة النّساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وتسقط العصبيّة بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبّسون على النّاس في الشّارة والزّيّ وركوب الخيل وحسن الثّقافة يموّهون بها وهم في الأكثر أجبن من النّسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدّولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النّجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدّولة بعض الغناء حتّى يتأذّن الله بانقراضها فتذهب الدّولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدّولة وتخلّفها ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرّابع
__________
[1] في بعض النسخ تفنقوه: أي تنعموا به (قاموس) وتبنقوه: توصلوا إليه.(1/214)
كما مرّ في أنّ المجد والحسب إنّما هو أربعة آباء وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعيّ كاف ظاهر مبنيّ على ما مهّدناه قبل من المقدّمات فتأمّله فلن تعدو وجه الحقّ إن كنت من أهل الإنصاف وهذه الأجيال الثّلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مرّ ولا تعدو الدّول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلّا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلا مستوليا والطّالب لم يحضرها ولو قد جاء الطّالب لما وجد مدافعا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 7: 34» فهذا العمر للدّولة بمثابة عمر الشّخص من التّزيّد إلى سنّ الوقوف ثمّ إلى سنّ الرّجوع ولهذا يجري على ألسنة النّاس في المشهور أنّ عمر الدّولة مائة سنة وهذا معناه فاعتبره واتّخذ منه قانونا يصحّح لك عدد الآباء في عمود النّسب الّذي تريده من قبل معرفة السّنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم وكانت السّنون الماضية منذ أوّلهم محصّلة لديك فعدّ لكلّ مائة من السّنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود [1] عددهم فهو صحيح وإن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النّسب وإن زادت بمثله فقد سقط واحد وكذلك تأخذ عدد السّنين من عددهم إذا كان محصّلا لديك فتأمّله تجده في الغالب صحيحا «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» .
الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة
اعلم أنّ هذه الأطوار طبيعيّة للدّول فإنّ الغلب الّذي يكون به الملك إنّما هو بالعصبيّة وبما يتبعها من شدّة البأس وتعوّد الافتراس ولا يكون ذلك غالبا إلّا مع البداوة فطور الدّولة من أوّلها بداوة ثمّ إذا حصل الملك تبعه الرّفه واتّساع الأحوال
__________
[1] الأصح أن يقول نفاد عددهم.(1/215)
والحضارة إنّما هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه تختصّ به ويتلو بعضها بعضا وتتكثّر باختلاف ما تنزع إليه النّفوس من الشّهوات والملاذّ والتّنعّم بأحوال التّرف وما تتلوّن به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعيّة الرّفه للملك وأهل الدّول أبدا يقلّدون في طور الحضارة وأحوالها للدّولة السّابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والرّوم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنّه قدّم لهم المرقّق [1] فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا ومثال ذلك كثير فلمّا استعبدوا أهل الدّول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتّفنّن فيه مع ما حصل لهم من اتّساع العيش والتّفنّن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوّروا بطور الحضارة والتّرف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثيّ [2] وكذلك أحوالهم في أيّام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعوديّ والطّبريّ وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصّلح وركب إليها في السّفين وما أنفق في أملاكها [3] وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنه أنّ الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصّنيع الّذي حضره حاشية المأمون فنثر على
__________
[1] الخبز المرقوق.
[2] اردأ المتاع.
[3] أملاكها: زواجها.(1/216)
الطّبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثة على الرّقاع بالضّياع والعقار مسوّغة لمن حصلت في يده يقع لكلّ واحد منهم ما أدّاه إليه الاتّفاق والبخت وفرّق على الطّبقة الثّانية بدر [1] الدّنانير في كلّ بدرة عشرة آلاف وفرّق على الطّبقة الثّالثة بدر الدّراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك ومنه أنّ المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وأوقد شموع العنبر في كلّ واحدة مائة من وهو رطل وثلثان [2] وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذّهب مكلّلا بالدّرّ والياقوت وقال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنّه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر:
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب
وأعدّ بدار الطّبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة وأربعين بغلا مدّة عام كامل ثلاث مرّات في كلّ يوم وفني الحطب لليلتين وأوقدوا الجريد يصبّون عليه الزّيت وأوعز إلى النّواتية بإحضار السّفن لإجازة الخواصّ من النّاس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحرّاقات [3] المعدّة لذلك ثلاثين ألفا أجازوا النّاس فيها أخريات نهارهم وكثير من هذا وأمثاله وكذلك عرس المأمون بن ذي النّون بطليطلة نقله ابن سام في كتاب الذّخيرة وابن حيّان بعد أن كانوا كلّهم في الطّور الأوّل من البداوة عاجزين عن ذلك جملة لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم [4] وسذاجتهم يذكر أنّ الحجّاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدّهاقين [5] يسأله عن ولائم الفرس وقال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيّها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعا أحضر فيه صحاف الذّهب على أخونة الفضّة
__________
[1] بدر: ج بدرة وهي عشرة آلاف درهم.
[2] قوله وثلثان الّذي كتب في اللغة ان المن رطل وقيل رطلان ولم يوجد في النسخة التونسية ثلثان.
[3] الحراقات بالفتح جمع حراقة سفينة فيها مرامي نار يرمي بها العدو 1 هـ- مختار.
[4] نضارتهم.
[5] اسم فارسي يطلق على رئيس القرية وأصحاب العقارات الكبيرة.(1/217)
أربعا على كلّ واحد وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من النّاس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصفائها فقال الحجّاج: «يا غلام انحر الجزر وأطعم النّاس» [1] وعلم أنّه لا يستقلّ بهذه الأبّهة وكذلك كانت. ومن هذا الباب أعطية بني أميّة وجوائزهم فإنّما كان أكثرها الإبل أخذا بمذاهب العرب وبداوتهم ثمّ كانت الجوائز في دولة بني العبّاس والعبيديّين من بعدهم ما علمت من أحمال المال وتخوت الثّياب وإعداد الخيل بمراكبها وهكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بإفريقيّة وكذا بني طفج بمصر وشأن لمتونة مع ملوك الطّوائف بالأندلس والموحّدين كذلك وشأن زناتة مع الموحّدين وهلمّ جرّا تنتقل الحضارة من الدّول السّالفة إلى الدّول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أميّة وبني العبّاس وانتقلت حضارة بني أميّة بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحّدين وزناتة لهذا العهد وانتقلت حضارة بني العبّاس إلى الدّيلم ثمّ إلى التّرك ثمّ إلى السّلجوقيّة ثمّ إلى التّرك المماليك بمصر والتّتر بالعراقين وعلى قدر عظم الدّولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع التّرف والتّرف من توابع الثّروة والنّعمة والثّروة والنّعمة من توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدّولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كلّه فاعتبره وتفهّمه وتأمّله تجده صحيحا في العمران «وَالله وَارِثُ الأَرْضِ وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ» .
الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
والسّبب في ذلك أنّ القبيل إذا حصل لهم الملك والتّرف كثر التّناسل والولد والعموميّة فكثرت العصابة واستكثروا أيضا من الموالي والصّنائع وربيت أجيالهم
__________
[1] ان طبيعة الحجاج البدوية أبت التصنع والتكلف فأمر غلامه بذبح الجزر وإطعام الناس.(1/218)
في جوّ ذلك النّعيم والرّفه فازدادوا به عددا إلى عددهم وقوّة إلى قوّتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد فإذا ذهب الجيل الأوّل والثّاني وأخذت الدّولة في الهرم لم تستقلّ أولئك الصّنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدّولة وتمهيد ملكها لأنّهم ليس لهم من الأمر شيء إنّما كانوا عيالا على أهلها ومعونة لها فإذا ذهب الأصل لم يستقلّ الفرع بالرّسوخ فيذهب ويتلاشى ولا تبقى الدّولة على حالها من القوّة. واعتبر هذا بما وقع في الدّولة العربيّة في الإسلام. كان عدد العرب كما قلنا لعهد النّبوة والخلافة مائة وخمسين ألفا وما يقاربها من مضر وقحطان ولمّا بلغ التّرف مبالغه في الدّولة وتوفّر نموّهم بتوفّر النّعمة واستكثر الخلفاء من الموالي والصّنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه يقال إنّ المعتصم نازل عمّوريّة لمّا افتتحها في تسعمائة ألف ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحا إذا اعتبرت حاميتهم في الثّغور الدّانية والقاصية شرقا وغربا إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين وقال المسعوديّ أحصى بنو العبّاس ابن عبد المطّلب خاصّة أيّام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفا بين ذكران وإناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقلّ من مائتي سنة واعلم أنّ سببه الرّفه والنّعيم الّذي حصل للدّولة وربي فيه أجيالهم وإلّا فعدد العرب لأوّل الفتح لم يبلغ هذا ولا قريبا منه والله الخلّاق العليم.
الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار
اعلم أنّ الدّولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجدّدة ويكتسب القائمون بها في كلّ طور خلقا من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر لأنّ الخلق تابع بالطّبع لمزاج الحال الّذي هو فيه وحالات الدّولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. الطّور الأوّل طور الظّفر بالبغية وغلب المدافع والمانع(1/219)
والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدّولة في هذا الطّور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأنّ ذلك هو مقتضى العصبيّة الّتي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطّور الثّاني طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التّطاول للمساهمة والمشاركة ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور معنيا باصطناع الرّجال واتّخاذ الموالي والصّنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيّته وعشيرته المقاسمين له في نسبة الضّاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر ويصدّهم عن موارده ويردّهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه حتّى يقرّ الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأوّلون في طلب الأمر أو أشدّ لأنّ الأوّلين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبيّة بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم أهل العصبيّة بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلّا الأقلّ من الأباعد فيركب صعبا من الأمر. الطّور الثّالث طور الفراغ والدّعة لتحصيل ثمرات الملك ممّا تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصّيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدّخل والخرج وإحصاء النّفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتّسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبثّ المعروف في أهله هذا مع التّوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه واعتراض [1] جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكلّ هلال حتّى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكّتهم [2] وشاراتهم يوم الزّينة فيباهي بهم الدّول المسالمة ويرهب الدّول المحاربة وهذا الطّور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدّولة لأنّهم في هذه الأطوار كلّها مستقلّون بآرائهم بانون لعزّهم موضحون الطّرق لمن بعدهم. الطّور الرّابع طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدّولة في هذا
__________
[1] بمعنى استعراض جنده.
[2] سلاحهم.(1/220)
قانعا بما بنى أوّلوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلّدا للماضين من سلفه فيتّبع آثارهم حذو النّعل بالنّعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أنّ في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنّهم أبصر بما بنوا من مجده. الطّور الخامس طور الإسراف والتّبذير ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور متلفا لما جمع أوّلوه في سبيل الشّهوات والملاذّ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السّوء وخضراء الدّمن [1] وتقليدهم عظيمات الأمور الّتي لا يستقلّون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتّى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيّعا من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده فيكون مخرّبا لما كان سلفه يؤسّسون وهادما لما كانوا يبنون وفي هذا الطّور تحصل في الدّولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المزمن الّذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبيّنه في الأحوال الّتي نسردها والله خير الوارثين.
الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها
والسّبب في ذلك أنّ الآثار إنّما تحدث عن القوّة الّتي بها كانت أوّلا وعلى قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدّولة وهياكلها العظيمة فإنّما تكون على نسبة قوّة الدّولة في أصلها لأنّها لا تتمّ إلّا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتّعاون فيه فإذا كانت الدّولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرّعايا كان الفعلة كثيرين جدّا وحشروا من آفاق الدّولة وأقطارها فتمّ العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصّه القرآن عنهما.
__________
[1] (بمعنى الجميل في مظهرة، الوضيع في مخبره وفي الحديث: «وإياكم وخضراء الدمن» قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: «المرأة الحسناء في المنبت السوء» ) .(1/221)
وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتّى إنّه عزم الرّشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد [1] عنه وشرع فيه ثمّ أدركه العجز وقصّة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السّهولة. تعرف من ذلك بون ما بين الدّولتين وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أميّة بقرطبة والقنطرة الّتي على واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنّة في القناة الرّاكبة عليها وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلاف الدّول في القوّة والضّعف.
واعلم أنّ تلك الأفعال للأقدمين إنّما كانت بالهندام [2] واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيّدت تلك الهياكل والمصانع ولا تتوهّم ما تتوهّمه العامّة أنّ ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل والآثار ولقد ولع القصّاص بذلك وتغالوا فيه وسطّروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق [3] رجل من العمالقة الّذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشّام زعموا أنّه كان لطوله يتناول السّمك من البحر ويشويه إلى الشّمس ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أنّ للشّمس حرارة وأنّها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون أنّ الحرّ هو الضّوء وأنّ الضّوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعّة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك وإذا تجاوزت مطارح الأشعّة المنعكسة
__________
[1] تكاءد: تكلفه وكابده. والأصح أن يقول تكاءده.
[2] الهندام: التنظيم والإصلاح.
[3] قوله ابن عناق الّذي في القاموس في باب الجيم عوج بن عوق بالواو والمشهور على ألسنة الناس عنق بالنون قاله نصر الهوريني (وهو رجل ولد في منزل آدم. فعاش إلى زمن موسى، وذكر من عظم خلقه ما لا يصدقه العقل) .(1/222)
فلا حرّ هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السّحاب وأنّ الشّمس في نفسها لا حارّة ولا باردة وإنّما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له [1] .
وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيّين الّذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشّام وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنّها وإن خرّبت وجدّدت لم تزل المحافظة على أشكالها ومقادير أبوابها وكيف يكون التّفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار وإنّما مثار غلطهم في هذا أنّهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدّول في الاجتماع والتّعاون وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوّة الأجسام وشدّتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك. وقد زعم المسعوديّ ونقله عن الفلاسفة مزعما لا مستند له إلّا التّحكّم وهو أنّ الطّبيعة الّتي هي جبلة للأجسام لمّا برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة [2] ونهاية القوّة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطّبيعة فإنّ طروء الموت إنّما هو بانحلال القوى الطّبيعيّة فإذا كانت قويّة كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أوّليّة نشأته تامّ الأعمار كامل الأجسام ثمّ لم يزل يتناقص لنقصان المادّة إلى أن بلغ إلى هذه الحال الّتي هو عليها ثمّ لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلّا التّحكّم كما تراه وليس له علّة طبيعيّة ولا سبب برهانيّ ونحن نشاهد مساكن الأوّلين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والدّيار والمساكن كديار ثمود المنحوتة في الصّلد من الصّخر بيوتا صغارا وأبوابها ضيّقة وقد أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى أنّها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق
__________
[1] ثبت للعلم الحديث أن الشمس جسم ملتهب، وأنها محتفظة بالتهابها وحرارتها.
[2] في بعض النسخ المرّة: بمعنى القوة وقال تعالى في آيتي 5 و 6 من سورة النجم: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى 53: 5- 6»(1/223)
وقال «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» .
وكذلك أرض عاد ومصر والشّام وسائر بقاع الأرض شرقا وغربا والحقّ ما قرّرناه ومن آثار الدّول أيضا حالها في الأعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجّاج وابن ذي النّون وقد مرّ ذلك كلّه.
ومن آثارها أيضا عطايا الدّول وأنّها تكون على نسبتها ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم فإنّ الهمم الّتي لأهل الدّولة تكون على نسبة قوّة ملكهم وغلبهم للنّاس والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدّولة واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذّهب والفضّة والأعبد والوصائف عشرا عشرا ومن كرش [1] العنبر واحدة وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطّلب وإنّما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصّة تحت استبداد فارس وإنّما حمله على ذلك همّة نفسه بما كان لقومه التّبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب وكان الصّنهاجيّون بإفريقيّة أيضا إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنّما يعطونهم المال أحمالا والكساء تخوتا مملوءة والحملان [2] جنائب عديدة.
وفي تاريخ ابن الرّقيق من ذلك أخبار كثيرة وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم وكانوا إذا كسبوا معدما فإنّما هو الولاية والنّعمة آخر الدّهر لا العطاء الّذي يستنفده يوم أو بعض يوم وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلّها على نسبة الدّول جارية هذا جوهر الصّقلبيّ الكاتب قائد جيش العبيديّين لمّا ارتحل إلى فتح مصر استعدّ من القيروان بألف حمل من المال ولا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا. وكذلك وجد بخطّ أحمد بن محمّد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيّام المأمون من جميع النّواحي نقلته من جراب
__________
[1] كرش: وعاء الطيب (قاموس) .
[2] الحملان: ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة (قاموس) .(1/224)
الدّولة (غلات السواد) [1] سبع وعشرون ألف ألف درهم مرّتين وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل [2] النّجرانيّة مائتا حلّة ومن طين الختم مائتان وأربعون رطلا (كنكر) [3] أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وستّمائة ألف درهم (كورد جلة) عشرون ألف ألف درهم وثمانيّة دراهم. (حلوان) [4] أربعة آلاف ألف درهم مرّتين وثمانمائة ألف درهم (الأهواز) خمسة وعشرون ألف درهم مرّة ومن السّكّر ثلاثون ألف رطل (فارس) سبعة وعشرون ألف ألف درهم ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة ومن الزّيت الأسود عشرون ألف رطل (كرمان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين ومائتا ألف درهم ومن المتاع اليمانيّ خمسمائة ثوب ومن التّمر عشرون ألف رطل (مكران) أربعمائة ألف درهم مرّة (السند وما يليه) أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وخمسمائة ألف درهم ومن العود الهنديّ مائة وخمسون رطلا (سجستان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين ومن الثّياب المعيّنة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد [5] عشرون رطلا (خراسان) ثمانيّة وعشرون ألف ألف درهم مرّتين ومن نقر [6] الفضّة ألفا نقرة ومن البراذين أربعة آلاف ومن الرّقيق ألف رأس ومن المتاع عشرون ألف ثوب ومن الإهليلج [7] ثلاثون ألف رطل (جرجان) اثنا عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن الإبريسم ألف شقّة. (قومس) ألف ألف مرّتين وثلاثمائة ألف ومن الفرش الطّبريّ ستّمائة قطعة ومن الأكسية مائتان ومن الثّياب خمسمائة ثوب ومن المناديل ثلاثمائة ومن الجامات ثلاثمائة (الري) اثنا عشر
__________
[1] السواد: كان العرب يطلقونها على الأراضي الزراعية (سواد العراق سواد فارس إلخ.) .
[2] الحلل: ج حلة: ثوبان من جنس واحد.
[3] كنلور في معجم البلدان هكذا ذكرها ياقوت الحموي.
[4] حلوان: مقاطعة في العراق وهي غير حلوان مصر وهي في شرقي العراق.
[5] نوع من الحلوى.
[6] القطعة المذابة من الفضة أو الذهب.
[7] ثمر معروف ج اهليلجة.(1/225)
ألف ألف درهم مرّتين ومن العسل عشرون ألف رطل (همذان) أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وثلاثمائة ألف ومن ربّ الرّمّان ألف رطل ومن العسل اثنا عشر ألف رطل (ما بين البصرة والكوفة) عشرة آلاف ألف درهم مرّتين وسبعمائة ألف درهم (ماسبذان والدينار [1] ) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين (شهرزور) ستّة آلاف ألف درهم مرّتين وسبعمائة ألف درهم (الموصل وما يليها) أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرّتين ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل (آذربيجان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين (الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات) أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرّتين ومن الرّقيق ألف راس ومن العسل اثنا عشر ألف زقّ ومن البزاة [2] عشرة ومن الأكسية عشرون (ارمينية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن البسط [3] المحفور عشرون ومن الزّقم خمسمائة وثلاثون رطلا ومن المسايج السّور ما هي عشرة آلاف رطل ومن الصّونج عشرة آلاف رطل ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون (قنسرين) أربعمائة ألف دينار ومن الزّيت ألف حمل (دمشق) أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار (الأردن) سبعة وتسعون ألف دينار (فلسطين) ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار ومن الزّيت ثلاثمائة ألف رطل (مصر) ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار. (برقة) ألف ألف درهم مرّتين. (افريقية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن البسط مائة وعشرون. (اليمن) ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع. (الحجاز) ثلاثمائة ألف دينار انتهى.
وأمّا الأندلس فالّذي ذكره الثّقات من مؤرّخيها أنّ عبد الرّحمن النّاصر خلّف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكرّرة ثلاث مرّات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.
__________
[1] قوله والدينار والظاهر أنها الدينور وفي الترجمة التركية ما سندان وربان انتهى-
[2] قوله ومن البزاة في التركية ومن السكر عشرة صناديق انتهى-
[3] وفي نسخة القسط وهو عود يتداوى به(1/226)
ورأيت في بعض تواريخ الرّشيد أنّ المحمول إلى بيت المال في أيّامه سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كلّ سنة فاعتبر ذلك في نسب الدّول بعضها من بعض ولا تنكرنّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواصّ إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدّول السّالفة بادر بالإنكار وليس ذلك من الصّواب فإنّ أحوال الوجود والعمران متفاوتة ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلّها فيها ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العبّاس وبني أميّة والعبيديّين وناسبنا الصّحيح من ذلك والّذي لا شكّ فيه بالّذي نشاهده من هذه الدّول الّتي هي أقلّ بالنّسبة إليها وجدنا بينها بونا وهو لما بينها من التّفاوت في أصل قوّتها وعمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوّة كما قدّمناه ولا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشّهرة والوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدّول في قوّتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها واعتبر ذلك بما نقصّه عليك من هذه الحكاية المستظرفة.
وذلك أنّه ورد بالمغرب لعهد السّلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة [1] كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلّب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي [2] حاضرة ملك الهند وهو السّلطان محمّد شاه واتّصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله في خطّة القضاء بمذهب المالكيّة في عمله ثمّ انقلب إلى المغرب واتّصل بالسّلطان أبي عنان وكان يحدّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض وأكثر ما كان يحدّث عن دولة صاحب الهند ويأتي من
__________
[1] كان ابتداء رحلة ابن بطوطة سنة 725 وانتهاؤها سنة 754 وهي عجيبة ومختصرها 7 كراريس 1 هـ.
[2] كذا في جميع النسخ وتعرف اليوم باسم دلهي.(1/227)
أحواله بما يستغربه السّامعون مثل أنّ ملك الهند إذا خرج إلى السّفر أحصى أهل مدينته من الرّجال والنّساء والولدان وفرض لهم رزق ستّة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنّه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه النّاس كافّة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظّهر ترمى بها شكائر [1] الدّراهم والدّنانير على النّاس إلى أن يدخل إيوانه وأمثال هذه الحكايات فتناحى النّاس بتكذيبه ولقيت أيّامئذ وزير السّلطان فارس بن وردار البعيد الصّيت ففاوضته في هذا الشّأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرّجل لما استفاض في النّاس من تكذيبه.
فقال لي الوزير فارس إيّاك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدّول بما أنّك لم تره فتكون كابن الوزير النّاشئ في السّجن وذلك أنّ وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السّجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلمّا أدرك وعقل سأل عن اللّحمان الّتي كان يتغذّى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر وكذا في لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلّا الفار فيحسبها كلّها أبناء جنس الفأر ولهذا كثيرا ما يعتري النّاس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزّيادة عند قصد الإغراب كما قدّمناه أوّل الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميّزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه وليس مرادنا الإمكان العقليّ المطلق فإنّ نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدّا بين الواقعات وإنّما مرادنا الإمكان بحسب المادّة الّتي للشّيء فإنّا إذا نظرنا أصل الشّيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوّته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 20: 114 وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] شكائر من شكر: بمعنى الضروع.(1/228)
الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين
اعلم أنّ صاحب الدّولة إنّما يتمّ أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم يقلّد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنّهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهموه في سائر مهمّاته هذا ما دام الطّور الأوّل للدّولة كما قلناه فإذا جاء الطّور الثّاني وظهر الاستبداد عنهم والانفراد بالمجد ودافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدّهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولّاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخصّ به قربا واصطناعا وأولى إيثارا وجاها لما أنّهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الّذي كان لهم والرّتبة الّتي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدّولة ويخصّهم بمزيد التّكرمة والإيثار ويقسم لهم ما للكثير من قومه ويقلّدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختصّ به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنّهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون وذلك حينئذ مؤذن باهتضام [1] الدّولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبيّة الّتي كان بناء الغلب عليها.
ومرض قلوب أهل الدّولة حينئذ من الامتهان وعداوة السّلطان فيضطغنون [2] عليه ويتربّصون به الدّوائر ويعود وبال ذلك على الدّولة ولا يطمع في برئها من
__________
[1] بمعنى رخاوة.
[2] بمعنى يحقدون عليه.(1/229)
هذا الدّاء لأنّه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها واعتبر ذلك في دولة بني أميّة كيف كانوا إنّما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجّاج بن يوسف والمهلّب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسريّ وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ ونصر بن سيّار وأمثالهم من رجالات العرب وكذا صدر من دولة بني العبّاس كان الاستظهار فيها أيضا برجالات العرب فلمّا صارت الدّولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التّطاول للولايات صارت الوزارة للعجم والصّنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر ثمّ بني بويه وموالي التّرك مثل بغا ووصيف وأثلمش وباكناك وابن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدّولة لغير من مهّدها والعزّ لغير من اجتلبه سنّة الله في عباده والله تعالى أعلم.
الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول
اعلم أنّ المصطنعين في الدّول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدّولة بتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها والسّبب في ذلك أنّ المقصود في العصبيّة من المدافعة والمغالبة إنّما يتمّ بالنّسب لأجل التّناصر في ذوي الأرحام والقربى والتّخاذل في الأجانب والبعداء كما قدّمناه والولاية والمخالطة بالرّقّ أو بالحلف تتنزّل منزلة ذلك لأنّ أمر النّسب وإن كان طبيعيّا فإنّما هو وهميّ والمعنى الّذي كان به الالتحام إنّما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصّحبة بالمربى والرّضاع وسائر أحوال الموت والحياة وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النّعرة والتّناصر وهذا مشاهد بين النّاس واعتبر مثله في الاصطناع فإنّه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصّة من الوصلة تتنزّل هذه المنزلة وتؤكّد اللحمة(1/230)
وإن لم يكن نسب فثمرات النّسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج وعقائدها أصحّ ونسبها أصرح لوجهين أحدهما أنّهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميّز النّسب عن الولاية إلّا عند الأقلّ منهم فيتنزّلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم وإذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميّزة للسّيد عن المولى. ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع لما تقتضيه أحوال الرّئاسة والملك من تميّز الرّتب وتفاوتها فتتميّز حالتهم ويتنزّلون منزلة الأجانب ويكون الالتحام بينهم أضعف والتّناصر لذلك أبعد وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك.
الوجه الثّاني أنّ الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدّولة بطول الزّمان ويخفي شأن تلك اللّحمة ويظنّ بها في الأكثر النّسب فيقوى حال العصبيّة وأمّا بعد الملك فيقرب العهد ويستوي في معرفته الأكثر فتتبيّن اللّحمة وتتميّز عن النّسب فتضعف العصبيّة بالنّسبة إلى الولاية الّتي كانت قبل الدّولة واعتبر ذلك في الدّول والرّئاسات تجده فكلّ من كان اصطناعه قبل حصول الرّئاسة والملك لمصطنعه تجده أشدّ التحاما به وأقرب قرابة إليه ويتنزّل منه منزلة أبنائه وإخوانه وذوي رحمه ومن كان اصطناعه بعد حصول الملك والرّئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة واللّحمة ما للأوّلين وهذا مشاهد بالعيان حتّى إنّ الدّولة في آخر عمرها ترجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم ولا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدّولة لقرب العهد حينئذ بأوّليّتهم ومشارفة الدّولة على الانقراض فيكونون منحطّين في مهاوي الضّعة.
وإنّما يحمل صاحب الدّولة على اصطناعهم والعدول إليهم عن أوليائها الأقدمين وصنائعها الأوّلين ما يعتريهم في أنفسهم من العزّة على صاحب الدّولة وقلّة الخضوع له ونظره بما ينظره به قبيله وأهل نسبه لتأكّد اللّحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى والاتّصال بآبائه وسلف قومه والانتظام مع كبراء أهل بيته(1/231)
فيحصل لهم بذلك دالّة عليه واعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدّولة ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم ويكون عهد استخلاصهم واصطناعهم قريبا فلا يبلغون رتب المجد ويبقون على حالهم من الخارجيّة وهكذا شأن الدّول في أواخرها وأكثر ما يطلق اسم الصّنائع والأولياء على الأوّلين وأمّا هؤلاء المحدثون فخدم وأعوان والله وليّ المؤمنين وهو على كلّ شيء وكيل.
الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه
إذا استقرّ الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدّولة وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه وتداوله بنوهم واحدا بعد واحد بحسب التّرشيح فربّما حدث التّغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم وسببه في الأكثر ولاية صبيّ صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعة للملك فيحجب الصّبيّ عن النّاس ويعوّده إليها ترف أحواله ويسيمه في مراعيها متى أمكنه وينسيه النّظر في الأمور السّلطانيّة حتّى يستبدّ عليه وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السّلطان من الملك إنّما هو جلوس السّرير وإعطاء الصّفقة وخطاب التّهويل والقعود مع النّساء خلف الحجاب وأنّ الحلّ والرّبط والأمر والنّهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة وتفقّدها من النّظر في الجيش والمال والثّغور إنّما هو للوزير ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرّئاسة والاستبداد ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبني بويه والتّرك وكافور الإخشيديّ وغيرهم بالمشرق وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس.(1/232)
وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه فيحاول على [1] الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ويرجع الملك إلى نصابه ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه إمّا بقتل أو برفع عن الرّتبة فقط إلّا أنّ ذلك في النّادر الأقلّ لأنّ الدّولة إذا أخذت في تغلّب الوزراء والأولياء استمرّ لها ذلك وقلّ أن تخرج عنه لأنّ ذلك إنّما يوجد في الأكثر عن أحوال التّرف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمه قد نسوا عهد الرّجولة وألفوا أخلاق الدّايات والأظآر [2] وربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة ولا يعرفون استبدادا من تغلّب إنّما همّهم في القنوع بالأبّهة والتّنفّس في اللّذّات وأنواع التّرف وهذا التّغلّب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم وهو عارض للدّولة ضروريّ كما قدّمناه وهذان مرضان لا برء للدّولة منهما إلّا في الأقلّ النّادر وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247 وهو على كلّ شيء قدير.
الفصل الثاني والعشرون في ان المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك
وذلك أنّ الملك والسّلطان حصل لأوّليه مذ أوّل الدّولة بعصبيّة قومه وعصبيّته الّتي استتبعتهم حتّى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب وهي لم تزل باقية وبها انحفظ رسم الدّولة وبقاؤها وهذا المتغلّب وإن كان صاحب عصبيّة من قبيل الملك أو الموالي والصّنائع فعصبيّته مندرجة في عصبيّة أهل الملك وتابعة لها وليس له صبغة في الملك وهو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنّهي والحلّ والعقد والإبرام والنّقص يوهم فيها أهل الدّولة أنّه متصرّف عن
__________
[1] ليس لها معنى وربما تكون زائدة.
[2] أظآر ج ظئر: المرضع. وظئر القصر: ركنه (قاموس)(1/233)
سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقابه جهده ويبعد نفسه عن التّهمة بذلك.
وإن حصل له الاستبداد لأنّه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الّذي ضربه السّلطان وأوّلوه على أنفسهم عن القبيل منذ أوّل الدّولة ومغالط عنه بالنّيابة ولو تعرّض لشيء من ذلك لنفسه [1] عليه أهل العصبيّة وقبيل الملك وحاولوا الاستئثار به دونه لأنّه لم تستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التّسليم له والانقياد فيهلك لأوّل وهلة وقد وقع مثل هذا لعبد الرّحمن بن النّاصر بن منصور بن أبي عامر حين سما إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة ولم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحلّ والعقد والمراسم المتتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش وبايعوا لابن عمّ الخليفة هشام محمّد بن عبد الجبّار بن النّاصر وخرجوا عليهم وكان في ذلك خراب دولة العامريّين وهلاك المؤيّد خليفتهم واستبدل منه سواه من أعياص [2] الدّولة إلى آخرها واختلّت مراسم ملكهم والله خير الوارثين.
الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه
الملك منصب طبيعيّ للإنسان لأنّا قد بيّنا أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلّا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروريّاتهم وإذا اجتمعوا دعت الضّرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كلّ واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطّبيعة الحيوانيّة من الظّلم والعدوان بعضهم على بعض
__________
[1] قوله لنفسه بفتح اللام والنون وكسر الفاء يقال نفس عليه الشيء كفرح لم يره أهلا له كما في القاموس.
[2] اعياص ج عيص: منبت خيار الشجر، ويقال هو من عيص كريم: أي من أصل كريم (قاموس)(1/234)
ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوّة البشريّة في ذلك فيقع التّنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدّي إلى الهرج وسفك الدّماء وإذهاب النّفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النّوع وهو ممّا خصّه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطّبيعة البشريّة الملك القاهر المتحكّم ولا بدّ في ذلك من العصبيّة لما قدّمناه من أنّ المطالبات كلّها والمدافعات لا تتمّ إلّا بالعصبيّة وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجّه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات.
ولا يتمّ شيء من ذلك إلّا بالعصبيّات كما مرّ والعصبيّات متفاوتة وكلّ عصبيّة فلها تحكّم وتغلّب على من يليها من قومها وعشيرها وليس الملك لكلّ عصبيّة وإنّما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرّعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثّغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور فمن قصّرت به عصبيّته عن بعضها مثل حماية الثّغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتمّ حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدّولة العباسيّة.
ومن قصّرت به عصبيّته أيضا عن الاستعلاء على جميع العصبيّات، والضّرب على سائر الأيدي وكان فوقه حكم غيره فهو أيضا ملك ناقص لم تتمّ حقيقته وهؤلاء مثل أمراء النّواحي ورؤساء الجهات الّذين تجمعهم دولة واحدة وكثيرا ما يوجد هذا في الدّولة المتّسعة النّطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النّواحي القاصية يدينون بطاعة الدّولة الّتي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديّين وزناتة مع الأمويّين تارة والعبيديّين تارة أخرى ومثل ملوك العجم في دولة بني العبّاس ومثل ملوك الطّوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيّين وكثير من هؤلاء فاعتبره تجده والله القاهر فوق عباده
.(1/235)
الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضرّ بالملك ومفسد له في الأكثر
اعلم أنّ مصلحة الرّعيّة في السّلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتّساع علمه أو جودة خطّه أو ثقوب ذهنه وإنّما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإنّ الملك والسّلطان من الأمور الإضافيّة وهي نسبة بين منتسبين فحقيقة السّلطان أنّه المالك للرّعيّة القائم في أمورهم عليهم فالسّلطان من له رعيّة والرّعيّة من لها سلطان والصّفة الّتي له من حيث إضافته إليهم هي الّتي تسمّى الملكة وهي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السّلطان على أتمّ الوجوه فإنّها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم وإن كانت سيئة متعسّفة كان ذلك ضررا عليهم وإهلاكا لهم.
ويعود حسن الملكة إلى الرّفق فإنّ الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقّبا عن عورات النّاس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذّلّ ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلّقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربّما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النّيّات وربّما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدّولة ويخرّب السّياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبيّة لما قلناه أوّلا وفسد السّياج من أصله بالعجز عن الحماية وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبّته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كلّ جانب وأمّا توابع حسن الملكة فهي النّعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتمّ حقيقة الملك وأمّا النّعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرّفق بهم والنّظر لهم في معاشهم وهي أصل كبير من التّحبّب إلى الرّعيّة واعلم أنّه(1/236)
قلّما تكون ملكة الرّفق في من يكون يقظا شديد الذّكاء من النّاس وأكثر ما يوجد الرّفق في الغفّل والمتغفّل وأقلّ ما يكون في اليقظ لأنّه يكلّف الرّعيّة فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطّلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعيّة فيهلكون لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «سيروا على سير أضعفكم» ومن هذا الباب اشترط الشّارع في الحاكم قلّة الإفراط في الذّكاء، ومأخذه من قصّة زياد ابن أبي سفيان لمّا عزله عمر عن العراق وقال له: «لم عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة» فقال عمر: «لم أعزلك لواحدة منهما ولكنّي كرهت أن أحمل فضل عقلك عن النّاس» فأخذ من هذا أنّ الحاكم لا يكون مفرط الذّكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التّعسّف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب والله خير المالكين وتقرّر من هذا أنّ الكيس والذّكاء عيب في صاحب السّياسة لأنّه إفراط في الفكر كما أنّ البلادة إفراط في الجمود والطّرفان مذمومان من كلّ صفة إنسانيّة والمحمود هو التّوسّط كما في الكرم مع التّبذير والبخل وكما في الشّجاعة مع الهوج والجبن وغير ذلك من الصّفات الإنسانيّة ولهذا يوصف الشّديد الكيس بصفات الشّيطان فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك والله يخلق ما يشاء وهو العليم القدير.
الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة والإمامة
لمّا كانت حقيقة الملك أنّه الاجتماع الضّروريّ للبشر ومقتضاه التّغلّب والقهر اللّذان هما من آثار الغضب والحيوانيّة كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحقّ مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحملة إيّاهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته ويختلف ذلك باختلاف(1/237)
المقاصد من الخلف والسّلف منهم فتعسر طاعته لذلك وتجيء العصبيّة المفضية إلى الهرج والقتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسيّة مفروضة يسلّمها الكافّة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم وإذا خلت الدّولة من مثل هذه السّياسة لم يستتبّ أمرها ولم يتمّ استيلاؤها «سنّة الله في الّذين خلوا من قبل» . فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدّولة وبصرائها كانت سياسة عقليّة وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقرّرها ويشرّعها كانت سياسة دينيّة نافعة في الحياة الدّنيا وفي الآخرة وذلك أنّ الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنّها كلّها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء، والله يقول «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً 23: 115» فالمقصود بهم إنّما هو دينهم المفضي بهم إلى السّعادة في آخرتهم «صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ 42: 53» فجاءت الشّرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتّى في الملك الّذي هو طبيعيّ للاجتماع الإنسانيّ فأجرته على منهاج الدّين ليكون الكلّ محوطا بنظر الشّارع. فما كان منه بمقتضى القهر والتّغلّب وإهمال القوّة العصبيّة في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السّياسيّة وما كان منه بمقتضى السّياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنّه نظر بغير نور الله «وَمن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ 24: 40» لأنّ الشّارع أعلم بمصالح الكافّة فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلّها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما هي أعمالكم تردّ عليكم» وأحكام السّياسة إنّما تطلع على مصالح الدّنيا فقط «يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا 30: 7» ، ومقصود الشّارع بالنّاس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشّرائع حمل الكافّة على الأحكام الشّرعيّة في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشّريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء فقد تبيّن لك من ذلك معنى الخلافة وأنّ الملك الطّبيعيّ هو حمل الكافّة على مقتضى الغرض والشّهوة والسّياسيّ هو حمل الكافّة على مقتضى(1/238)
النّظر العقليّ في جلب المصالح الدّنيويّة ودفع المضارّ والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعي في مصالحهم الأخرويّة والدّنيويّة الرّاجعة إليها إذ أحوال الدّنيا ترجع كلّها عند الشّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد والله الحكيم العليم.
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه
وإذ قد بيّنّا حقيقة هذا المنصب وأنّه نيابة عن صاحب الشّريعة في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا به تسمّى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما فأمّا تسميته إماما فتشبيها بإمام الصّلاة في اتّباعه والاقتداء به ولهذا يقال الإمامة الكبرى وأمّا تسميته خليفة فلكونه يخلف النّبيّ في أمّته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامّة الّتي للآدميّين في قوله تعالى «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30» وقوله «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ 6: 165» .
ومنع الجمهور منه لأنّ معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لمّا دعي به وقال: «لست خليفة الله ولكنّي خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب وأمّا الحاضر فلا. ثمّ إنّ نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشّرع بإجماع الصّحابة والتّابعين لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النّظر إليه في أمورهم وكذا في كلّ عصر من بعد ذلك ولم تترك النّاس فوضى في عصر من الأعصار واستقرّ ذلك(1/239)
إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض النّاس إلى أنّ مدرك وجوبه العقل، وأنّ الإجماع الّذي وقع إنّما هو قضاء بحكم العقل فيه.
قالوا وإنّما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التّنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أنّ حفظ النّوع من مقاصد الشّرع الضّروريّة وهذا المعنى بعينه هو الّذي لحظه الحكماء في وجوب النّبوءات في البشر وقد نبّهنا على فساده وأنّ إحدى مقدّماته أنّ الوازع إنّما يكون بشرع من الله تسلّم له الكافّة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلّم لأنّ الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشّوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممّن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدّعوة أو نقول يكفي في رفع التّنازع معرفة كلّ واحد بتحريم الظّلم عليه بحكم العقل فادّعاؤهم أنّ ارتفاع التّنازع إنّما يكون بوجود الشّرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرّؤساء أهل الشّوكة أو بامتناع النّاس عن التّنازع والتّظالم فلا ينهض دليلهم العقليّ المبنيّ على هذه المقدّمة فدلّ على أنّ مدرك وجوبه إنّما هو بالشّرع وهو الإجماع الّذي قدّمناه.
وقد شذّ بعض النّاس فقال بعدم وجوب هذا النّصب رأسا لا بالعقل ولا بالشّرع منهم الأصمّ من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنّما هو إمضاء الحكم الشّرع فإذا تواطأت الأمّة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون بالإجماع. والّذي حملهم على هذا المذهب إنّما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتّغلّب والاستمتاع بالدّنيا لمّا رأوا الشّريعة ممتلئة بذمّ ذلك والنّعي على أهله ومرغّبة في رفضه. واعلم أنّ الشّرع لم يذمّ الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنّما ذمّ المفاسد النّاشئة عنه من القهر والظّلم والتّمتّع باللّذات ولا شكّ أنّ في هذه مفاسد محظورة(1/240)
وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنّصفة وإقامة مراسم الدّين والذّبّ عنه وأوجب بإزائها الثّواب وهي كلّها من توابع الملك.
فإذا إنّما وقع الذّمّ للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمّه لذاته ولا طلب تركه كما ذمّ الشّهوة والغضب من المكلّفين وليس مراده تركهما بالكلّيّة لدعاية الضّرورة إليها وأمّا المراد تصريفهما على مقتضى الحقّ وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الّذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده ثمّ نقول لهم إنّ هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النّصب [1] لا يغنيكم شيئا لأنّكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشّريعة وذلك لا يحصل إلّا بالعصبيّة والشّوكة والعصبيّة مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصّب إمام وهو عين ما قرّرتم عنه. وإذا تقرّر أنّ هذا النّصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحلّ فيتعيّن عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» .
وأمّا شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواسّ والأعضاء ممّا يؤثّر في الرّأي والعمل واختلف في شرط خامس وهو النّسب القرشيّ فأمّا اشتراط العلم فظاهر لأنّه إنّما يكون منفّذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها وما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها ولا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا لأنّ التّقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال وأمّا العدالة فلأنّه منصب دينيّ ينظر في سائر المناصب الّتي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه.
ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقاديّة خلاف.
__________
[1] أي نصب الامام.(1/241)
وأمّا الكفاية فهو أن يكون جريئا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا يحمل النّاس عليها عارفا بالعصبيّة وأحوال الدّهاء قويّا على معاناة السّياسة ليصحّ له بذلك ما جعل إليه من حماية الدّين وجهاد العدوّ وإقامة الأحكام وتدبير المصالح.
وأمّا سلامة الحواسّ والأعضاء من النّقص والعطلة [1] كالجنون والعمى والصّمم والخرس وما يؤثّر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرّجلين والأنثيين فتشترط السّلامة منها كلّها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه وإن كان إنّما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السّلامة منه شرط كمال ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التّصرّف وهو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السّلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التّصرّف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقّة فينتقل النّظر في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدّين والعدل وحميد السّياسة جاز قراره وإلّا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علّته حتّى ينفّذ فعل الخليفة.
وأمّا النّسب القرشيّ فلإجماع الصّحابة يوم السّقيفة على ذلك واحتجّت قريش على الأنصار لمّا همّوا يومئذ ببيعة سعد بن عبّادة وقالوا «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأئمّة من قريش» وبأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصيّة بكم فحجّوا الأنصار ورجعوا عن قولهم «منّا أمير ومنكم أمير» وعدلوا عمّا كانوا همّوا به من بيعة سعد لذلك. وثبت أيضا في الصّحيح «لا يزال هذا الأمر في هذا الحيّ من قريش» وأمثال هذه الأدلّة كثيرة إلّا أنّه لمّا ضعف أمر قريش وتلاشت
__________
[1] تعطل الرجل إذا بقي لا عمل له والاسم العطلة وفلان ذو عطلة إذا لم تكن له صنعة يمارسها (لسان العرب) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى فقد الحواس أو تعطيلها.(1/242)
عصبيّتهم بما نالهم من التّرف والنّعيم وبما أنفقتهم الدّولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة وتغلّبت عليهم الأعاجم وصار الحلّ والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشيّة وعوّلوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم «اسمعوا وأطيعوا وإن ولّي عليكم عبد حبشيّ ذو زبيبة» وهذا لا تقوم به حجّة في ذلك فإنّه خرج مخرج التّمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السّمع والطّاعة ومثل قول عمر «لو كان سالم مولى حذيفة حيّا لولّيته أو لما دخلتني فيه الظّنّة» وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أنّ مذهب الصّحابيّ ليس بحجّة وأيضا فمولى القوم منهم وعصبيّة الولاء حاصلة لسالم في قريش وهي الفائدة في اشتراط النّسب ولمّا استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنّها مفقودة في ظنّه عدل إلى سالم لتوفّر شروط الخلافة عنده فيه حتّى من النّسب المفيد للعصبيّة كما نذكر ولم يبق إلّا صراحة النّسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النّسب إنّما هي العصبيّة وهي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضي الله عنه على النّظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة.
ومن القائلين بنفي اشتراط القرشيّة القاضي أبو بكر الباقلانيّ لمّا أدرك عليه عصبيّة قريش من التّلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشيّة وإن كان موافقا لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحّة الإمامة للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين وردّ عليهم سقوط شرط الكفاية الّتي يقوى بها على أمره لأنّه إذا ذهبت الشّوكة بذهاب العصبيّة فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرّق ذلك أيضا إلى العلم والدّين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الاجتماع.
ولنتكلّم الآن في حكمة اشتراط النّسب ليتحقّق به الصّواب في هذه المذاهب(1/243)
فنقول: إنّ الأحكام الشّرعيّة كلّها لا بدّ لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النّسب القرشيّ ومقصد الشّارع منه لم يقتصر فيه على التبرّك بوصلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتّبرّك بها حاصلا لكنّ التّبرّك ليس من المقاصد الشّرعيّة كما علمت فلا بدّ إذن من المصلحة في اشتراط النّسب وهي المقصودة من مشروعيّتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلّا اعتبار العصبيّة الّتي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملّة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها وذلك أنّ قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشّرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردّهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكرّة فتتفرّق الجماعة وتختلف الكلمة.
والشّارع محذّر من ذلك حريص على اتّفاقهم ورفع التّنازع والشّتات بينهم لتحصل اللّحمة والعصبيّة وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنّهم قادرون على سوق النّاس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم ولا فرقة لأنّهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع النّاس منها فاشترط نسبهم القرشيّ في هذا المنصب وهم أهل العصبيّة القويّة ليكون أبلغ في انتظام الملّة واتّفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملّة ووطئت جنودهم قاضية البلاد كما وقع في أيّام الفتوحات واستمرّ بعدها في الدّولتين إلى أن اضمحلّ أمر الخلافة وتلاشت عصبيّة العرب ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتّغلّب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطّن لذلك في أحوالهم.
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السّير وغيره فإذا ثبت أنّ اشتراط(1/244)
القرشيّة إنّما هو لدفع التّنازع بما كان لهم من العصبيّة والغلب وعلمنا أنّ الشّارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمّة علمنا أنّ ذلك إنّما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلّة المشتملة على المقصود من القرشيّة وهي وجود العصبيّة فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبيّة قويّة غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشيّة إذ الدّعوة الإسلاميّة الّتي كانت لهم كانت عامّة وعصبيّة العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنّما يخصّ لهذا العهد كلّ قطر بمن تكون له فيه العصبيّة الغالبة وإذا نظرت سرّ الله في الخلافة لم تعد هذا لأنّه سبحانه إنّما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردّهم عن مضارّهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلّا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب [1] في شأن النّساء وأنّهنّ في كثير من الأحكام الشّرعية جعلن تبعا للرّجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع. وإنّما دخلن عنده بالقياس وذلك لمّا لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرّجال قوّامين عليهنّ اللَّهمّ إلّا في العبادات الّتي كلّ أحد فيها قائم على نفسه فخطابهنّ فيها بالوضع لا بالقياس ثمّ إنّ الوجود شاهد بذلك فإنّه لا يقوم بأمر أمّة أو جيل إلّا من غلب عليهم وقلّ أن يكون الآمر الشّرعيّ مخالفا للأمر الوجوديّ والله تعالى أعلم.
__________
[1] قوله الإمام ابن الخطيب هو الفخر الرازيّ قاله نصر.(1/245)
الفصل السابع والعشرون في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة
اعلم أنّ الشّيعة لغة هم الصّحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلّمين [1] من الخلف والسّلف على اتّباع عليّ وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعا متّفقين عليه أنّ الإمامة ليست من المصالح العامّة الّتي تفوّض إلى نظر الأمّة ويتعيّن القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدّين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبيّ إغفاله ولا تفويضه إلى الأمّة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوما من الكبائر والصّغائر وإنّ عليّا رضي الله عنه هو الّذي عيّنه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤوّلونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السّنّة ولا نقله الشّريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة.
وتنقسم هذه النّصوص عندهم إلى جليّ وخفيّ فالجليّ مثل قوله «من كنت مولاه فعليّ مولاه» قالوا ولم تطّرد هذه الولاية إلّا في عليّ ولهذا قال له عمر «أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ومنها قوله «أقضاكم عليّ» ولا معنى للإمامة إلّا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» والمراد الحكم والقضاء ولهذا كان حكما
__________
[1] هم علماء التوحيد المسمّى بعلم الكلام.(1/246)
في قضيّة الإمام يوم السّقيفة دون غيره ومنها قوله «من يبايعني على روحه وهو وصيّ ووليّ هذا الأمر من بعدي» فلم يبايعه إلّا عليّ.
ومن الخفيّ عندهم بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليّا لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنّه بعث بها أوّلا، أبا بكر ثمّ أوحي إليه ليبلّغه رجل منك أو من قومك فبعث عليّا ليكون القارئ المبلّغ قالوا: وهذا يدلّ على تقديم عليّ. وأيضا فلم يعرف أنّه قدّم أحدا على عليّ. وأمّا أبو بكر وعمر فقدّم عليهما في غزاتين [1] أسامة بن زيد مرّة وعمر بن العاص أخرى وهذه كلّها أدلّة شاهدة بتعيين عليّ للخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم ثمّ منهم من يرى أنّ هذه النّصوص تدلّ على تعيين عليّ وتشخيصه. وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإماميّة ويتبرّءون من الشّيخين حيث لم يقدّموا عليّا ويبايعوه بمقتضى هذه النّصوص ويغمصون [2] في إمامتهما. ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم ومنهم من يقول إنّ هذه الأدلّة إنّما اقتضت تعيين عليّ بالوصف لا بالشّخص والنّاس مقصّرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزّيديّة ولا يتبرّءون من الشّيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأنّ عليّا أفضل منهما لكنّهم يجوّزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
ثمّ اختلفت نقول هؤلاء الشّيعة في مساق الخلافة بعد عليّ فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنّصّ عليهم واحدا بعد واحد على ما يذكر بعد وهؤلاء يسمّون الإماميّة نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشّيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالما زاهدا جوادا شجاعا ويخرج داعيا إلى إمامته وهؤلاء هم
__________
[1] كذا في جميع النسخ والأصح أن يقول غزوتين. مثنى غزوة.
[2] غمص عليه قوله: كذب عليه كلامه، عابه عليه. وغمصه: حقره واستصغره (قاموس) .(1/247)
الزّيديّة نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن عليّ بن الحسين السّبط [1] وقد كان يناظر أخاه محمّدا الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماما لأنّه لم يخرج ولا تعرّض للخروج وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إيّاها عن واصل بن عطاء ولمّا ناظر الإماميّة زيدا في إمامة الشّيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرّأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمّة وبذلك سمّوا رافضة ومنهم من ساقها بعد عليّ وابنيه السّبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمّد بن الحنفيّة ثمّ إلى ولده وهم الكيسانيّة نسبة إلى كيسان مولاه وبين هذه الطّوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصارا ومنهم طوائف يسمّون الغلاة تجاوزوا حدّ العقل والإيمان في القول بألوهيّة هؤلاء الأئمّة. إمّا على أنّهم بشر اتّصفوا بصفات الألوهيّة أو أنّ الإله حلّ في ذاته البشريّة وهو قول بالحلول يوافق مذهب النّصارى في عيسى صلوات الله عليه ولقد حرق عليّ رضي الله عنه بالنّار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخّط [2] محمّد بن الحنفيّة المختار بن أبي عبيد لمّا بلغه مثل ذلك عنه فصرّح بلعنته والبراءة منه وكذلك فعل جعفر الصّادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه ومنهم من يقول إنّ كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتّناسخ ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمّة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعيّن لذلك عندهم وهؤلاء هم الواقفيّة فبعضهم يقول هو حيّ لم يمت إلّا أنّه غائب عن أعين النّاس ويستشهدون لذلك بقصّة الخضر [3] قيل مثل ذلك في عليّ رضي الله عنه وإنّه في السّحاب والرّعد
__________
[1] السبط: ولد البنت، ولذلك يطلق على الحسن والحسين ابني الإمام علي (رضي الله عنهم) من فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكل منهما سبط للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[2] ربما سقط حرف على من الجملة. بحيث تصبح الجملة «وسخط محمد بن الحنفية على المختار..» .
[3] ورد ذكر هذه القصة في القرآن الكريم «سورة الكهف بين الآية 65- 85» .(1/248)
صوته والبرق في صوته وقالوا مثله في محمّد بن الحنفيّة وإنّه في جبل رضوى من أرض الحجاز.
وقال شاعرهم.
ألا إنّ الأئمّة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء
عليّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الجيش يقدمه اللّواء
تغيّب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
وقال مثله غلاة الإماميّة وخصوصا الاثنا عشريّة منهم يزعمون أنّ الثّاني عشر من أئمّتهم وهو محمّد بن الحسن العسكريّ ويلقّبونه المهديّ دخل في سرداب بدارهم في الحلّة [1] وتغيّب حين اعتقل مع أمّه وغاب هنالك وهو يخرج آخر الزّمان فيملأ الأرض عدلا يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب التّرمذيّ في المهديّ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمّونه المنتظر لذلك، ويقفون في كلّ ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السّرداب وقد قدّموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتّى تشتبك النّجوم ثمّ ينفضّون ويرجئون الأمر إلى اللّيلة الآتية وهم على ذلك لهذا العهد وبعض هؤلاء الواقفيّة يقول إنّ الإمام الّذي مات يرجع إلى حياته الدّنيا ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصّة أهل الكهف والّذي مرّ على قرية وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة الّتي أمروا بذبحها ومثل ذلك من الخوارق الّتي وقعت على طريق المعجزة ولا يصحّ الاستشهاد بها في غير مواضعها وكان من هؤلاء السّيّد الحميريّ ومن شعره في ذلك
إذا ما المرء شاب له قذال ... وعلّله المواشط بالخضاب [2]
فقد ذهبت بشاشته وأودى ... فقم يا صاح نبك على الشّباب
__________
[1] المعروف أنه غاب في سامراء ومقامه معروف إلى اليوم.
[2] قذال: ج قذل وأقذلة: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. الخضاب: الحنة.(1/249)
إلى يوم تتوب النّاس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب
فليس بعائد ما فات منه ... إلى أحد إلى يوم الإياب
أدين بأنّ ذلك دين حقّ ... وما أنا في النّشور بذي ارتياب
كذاك الله أخبر عن أناس ... حيوا من بعد درس في التّراب
وقد كفانا مئونة هؤلاء الغلاة أئمّة الشّيعة فإنّهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها وأمّا الكيسانيّة فساقوا الإمامة من بعد محمّد بن الحنفيّة إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم الهاشميّة ثمّ افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه عليّ ثمّ إلى ابنه الحسن بن عليّ وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لمّا مات بأرض السّراة منصرفا من الشّام أوصى إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وأوصى محمّد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثيّة الملقّب بالسّفّاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقّب بالمنصور وانتقلت في ولده بالنّصّ والعهد واحدا بعد واحد إلى آخرهم وهذا مذهب الهاشميّة القائمين بدولة بني العبّاس وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثيّر وأبو سلمة الخلّال وغيرهم من شيعة العبّاسيّة وربّما يعضدون ذلك بأنّ حقّهم في هذا الأمر يصل إليهم من العبّاس لأنّه كان حيّا وقت الوفاة وهو أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة وأمّا الزّيديّة فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وإنّها باختيار أهل الحلّ والعقد لا بالنّصّ فقالوا بإمامة عليّ ثمّ ابنه الحسن ثمّ ابنه الحسن ثمّ أخيه الحسين ثمّ ابنه زيد بن عليّ وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعيا إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة وقال الزّيديّة بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمّد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السّبط ويقال له النّفس الزّكيّة، فخرج بالحجاز وتلقّب بالمهديّ وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن عليّ فوجّه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصّادق(1/250)
أخبرهم بذلك كلّه وهي معدودة في كراماته وذهب آخرون منهم إلى أنّ الإمام بعد محمّد ابن عبد الله النّفس الزّكيّة هو محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر، وعمر هو أخو زيد بن عليّ فخرج محمّد بن القاسم بالطّالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الّذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعيّ الزّنج كما نذكره في أخبارهم وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد محمّد بن عبد الله أخوه إدريس الّذي فرّ إلى المغرب ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختطّ مدينة فاس وكان من بعده عقبه ملوكا بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. وبقي أمر الزّيديّة بعد ذلك غير منتظم وكان منهم الدّاعي الّذي ملك طبرستان وهو الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسين السّبط وأخوه محمّد بن زيد ثمّ قام بهذه الدّعوة في الدّيلم النّاصر الأطروش منهم، وأسلموا على يده وهو الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصّل الدّيلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. وأمّا الإماميّة فساقوا الإمامة من عليّ الرّضى [1] إلى ابنه الحسن بالوصيّة ثمّ إلى أخيه الحسين ثمّ إلى ابنه عليّ زين العابدين ثمّ إلى ابنه محمّد الباقر ثمّ إلى ابنه جعفر الصّادق ومن هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيليّة وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشريّة لوقوفهم عند الثّاني عشر من الأئمّة وقولهم بغيبته إلى آخر الزّمان كما مرّ فأمّا الإسماعيليّة فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنّصّ من أبيه جعفر وفائدة النّصّ عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنّما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصّة هارون مع موسى صلوات الله عليهما قالوا ثمّ انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمّد المكتوم وهو أوّل الأئمّة
__________
[1] يقصد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.(1/251)
المستورين لأنّ الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجّة على الخلق وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته قالوا وبعد محمّد المكتوم ابنه جعفر الصّادق [1] وبعده ابنه محمّد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهديّ الّذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشّيعيّ في كتامة وتتابع النّاس على دعوته ثمّ أخرجه من معتقله بسجلماسة وملك القيروان والمغرب وملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم ويسمّى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل ويسمّون أيضا بالباطنيّة نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمّون أيضا الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمّد الصّبّاح في آخر المائة الخامسة وملك حصونا بالشّام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزّعها الهلاك بين ملوك التّرك بمصر وملوك التّتر بالعراق فانفرضت. ومقالة هذا الصّبّاح في دعوته مذكورة في كتاب «الملل والنّحل» للشّهرستانيّ، وأمّا الاثنا عشريّة فربّما خصّوا باسم الإماميّة عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصّادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنصّ على إمامة موسى هذا، ثمّ ابنه عليّ الرّضا الّذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتمّ له أمر ثمّ ابنه محمّد التّقيّ ثمّ ابنه عليّ الهادي ثمّ ابنه محمّد الحسن العسكري ثمّ ابنه محمّد المهديّ المنتظر الّذي قدّمناه قبل وفي كلّ واحدة من هذه المقالات للشّيعة اختلاف كثير إلّا أنّ هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب الملل والنّحل لابن حزم [2] والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العليّ الكبير.
__________
[1] لقب الإسماعيلية جعفر بن محمد المكتوم بلقب جده الثاني جعفر الصادق.
[2] كتاب ابن حزم اسمه: «الفصل في الملل والنّحل» وكتاب الشهرستاني «الملل والنحل» .(1/252)
الفصل الثامن والعشرون في انقلاب الخلافة إلى الملك
اعلم أنّ الملك غاية طبيعية للعصبيّة ليس وقوعه عنها باختيار إنّما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأنّ الشّرائع والدّيانات وكلّ أمر يحلّ عليه الجمهور فلا بدّ فيه من العصبيّة إذ المطالبة لا تتمّ إلّا بها كما قدّمناه.
فالعصبيّة ضروريّة للملّة وبوجودها يتمّ أمر الله منها وفي الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» ثمّ وجدنا الشّارع قد ذمّ العصبيّة وندب إلى اطّراحها وتركها فقال «إنّ الله أذهب عنكم عبّيّة [1] الجاهليّة وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب» وقال تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ 49: 13» ووجدناه أيضا قد ذمّ الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق [2] والإسراف في غير القصد والتّنكّب عن صراط الله وإنّما حضّ على الألفة في الدّين وحذّر من الخلاف والفرقة، واعلم أنّ الدّنيا كلّها وأحوالها مطيّة للآخرة ومن فقد المطيّة فقد الوصول، وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمّه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكليّة أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى الّتي ينشأ عليها بالكلّيّة إنّما قصده تصريفها في أغراض الحقّ جهد الاستطاعة حتّى تصير المقاصد كلّها حقّا وتتّحد الوجهة كما قال صلّى الله عليه وسلّم «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فلم يذمّ الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنّه لو زالت منه قوّة الغضب لفقد منه الانتصار للحقّ وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله وإنّما يذمّ الغضب
__________
[1] عبة بضم العين وكسرها الموحدة المشددة وتشديد المثناة التحتية الكبر والفخر والنخوة أهـ- قاموس.
[2] الخلاق: النصيب الوافر من الخير، وبكسر الخاء نوع من الطيب أعظم أجزائه الزعفران.(1/253)
للشّيطان وللأغراض الذّميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموما وإذا كان الغضب في الله وللَّه كان ممدوحا وهو من شمائله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ذمّ الشّهوات أيضا ليس المراد إبطالها بالكلّيّة فإنّ من بطلت شهوته كان نقصا في حقّه وإنّما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبدا متصرّفا طوع الأوامر الإلهيّة وكذا العصبيّة حيث ذمّها الشّارع وقال: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ 60: 3» فإنّما مراده حيث تكون العصبيّة على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهليّة وأن يكون لأحد فخر بها أو حقّ على أحد لأنّ ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الآخرة الّتي هي دار القرار فأمّا إذا كانت العصبيّة في الحقّ وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشّرائع إذ لا يتمّ قوامها إلّا بالعصبيّة كما قلناه من قبل وكذا الملك لمّا ذمّه الشّارع لم يذمّ منه الغلب بالحقّ وقهر الكافّة على الدّين ومراعاة المصالح وإنّما ذمّه لما فيه من التّغلّب بالباطل وتصريف الآدميّين طوع الأغراض والشّهوات كما قلناه، فلو كان الملك مخلصا في غلبه للنّاس أنّه للَّه ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوّه لم يكن ذلك مذموما وقد قال سليمان صلوات الله عليه «وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي 38: 35» لما علم من نفسه أنّه بمعزل عن الباطل في النّبوة والملك. ولمّا لقي معاوية عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشّام في أبّهة الملك وزيّه من العديد والعدّة استنكر ذلك وقال: «أكسرويّة يا معاوية؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدوّ وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة» فسكت ولم يخطّئه لما احتجّ عليه بمقصد من مقاصد الحقّ والدّين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب في تلك الكسرويّة وانتحالها بل كان يحرّض على خروجه عنها بالجملة وإنّما أراد عمر بالكسرويّة ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظّلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأنّ القصد بذلك ليس كسرويّة فارس وباطلهم وإنّما قصده بها وجه الله(1/254)
فسكت، وهكذا كان شأن الصّحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذرا من التباسها بالباطل فلمّا استحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على الصّلاة إذ هي أهمّ أمور الدّين وارتضاه النّاس للخلافة وهي حمل الكافّة على أحكام الشّريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنّه مظنّة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدّين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متّبعا سنن صاحبه وقاتل أهل الرّدّة حتّى اجتمع العرب على الإسلام ثمّ عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدّنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثمّ صارت إلى عثمان بن عفّان ثمّ إلى عليّ رضي الله عنهما والكلّ متبرّءون من الملك منكّبون عن طرقه وأكّد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدّنيا وترفها لا من حيث دينهم الّذي يدعوهم إلى الزّهد في النّعيم ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الّذي ألفوه، فلم تكن أمّة من الأمم أسغب عيشا من مضر لمّا كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه [1] بالحجارة في الدّم ويطبخونه وقريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم حتّى إذا اجتمعت عصبيّة العرب على الدّين بما أكرمهم الله من نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم زحفوا إلى أمم فارس والرّوم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصّدق فابتزّوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرّفه لديهم حتّى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفا من الذّهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقّع ثوبه بالجلد وكان عليّ يقول:
__________
[1] أي يضربونه بالحجارة حتى يرق.(1/255)
«يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري» وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدّجاج لأنّه لم يعهدها للعرب لقلّتها يومئذ وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنّما يأكلون الحنطة بنخالها ومكاسبهم مع هذا أتمّ ما كانت لأحد من أهل العالم قال المسعوديّ في أيّام عثمان اقتنى الصّحابة الضّياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائتا ألف [1] دينار وخلّف إبلا وخيلا كثيرة وبلغ الثّمن الواحد من متروك الزّبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلّف ألف فرس وألف أمة وكانت غلّة طلحة من العراق ألف دينار كلّ يوم ومن ناحية السّراة أكثر من ذلك وكان على مربط عبد الرّحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم وبلغ الرّبع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا وخلّف زيد بن ثابت من الفضّة والذّهب ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضّياع بمائة ألف دينار وبنى الزّبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندريّة وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيّد داره بالمدينة وبناها بالجصّ والآجر والسّاج وبنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصّصة الظّاهر والباطن وخلّف يعلى بن منبّه [2] خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم 1 هـ- كلام المسعوديّ. فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعيّا عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنّها غنائم وفيوء ولم يكن تصرّفهم فيها بإسراف إنّما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدّنيا مذموما فإنّما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد وإذا كان حالهم قصدا ونفقاتهم في سبل الحقّ ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عونا لهم على طرق الحقّ واكتساب
__________
[1] وفي بعض النسخ مائة ألف.
[2] يعلى بن منيه أو يعلى بن أميه (أعلام الرجال) .(1/256)
الدّار الآخرة فلمّا تدرّجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة كما قلناه وحصل التّغلّب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرّفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التّغلّب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الدّيانة ومذاهب الحقّ، ولمّا وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية وهي مقتضى العصبيّة كان طريقهم فيها الحقّ والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيويّ أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهّمه متوهّم وينزع إليه ملحد وإنّما اختلف اجتهادهم في الحقّ وسفّه كلّ واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحقّ فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليّا فلم يكن معاويّة قائما فيها بقصد الباطل إنّما قصد الحقّ وأخطأ والكلّ كانوا في مقاصدهم على حق ثمّ اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به ولم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعيّ ساقته العصبيّة بطبيعتها واستشعرته بنو أميّة ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحقّ من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه ولو حملهم معاويّة على غير تلك الطّريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة الّتي كان جمعها وتأليفها أهمّ عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمّد بن أبي بكر «لو كان لي من الأمر شيء لولّيته الخلافة» ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنّه كان يخشى من بني أميّة أهل الحلّ والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحوّل الأمر عنهم لئلّا تقع الفرقة. وهذا كلّه إنّما حمل عليه منازع الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة فالملك إذا حصل وفرضنا أنّ الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحقّ ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به وكانوا ما علمت من النّبوة والحقّ وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى(1/257)
غيره اختلفوا عليه مع أنّ ظنّهم كان به صالحا ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظنّ بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنّما كانوا متحرّين لمقاصد الحقّ جهدهم إلّا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الّذي هو أهمّ لديهم من كلّ مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتّباع والاقتداء وما علم السّلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتجّ مالك في الموطّإ [1] بعمل عبد الملك وأمّا مروان فكان من الطّبقة الأولى من التّابعين وعدالتهم معروفة ثمّ تدرّج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدّين بالمكان الّذي كانوا عليه وتوسّطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصّحابة جهده ولم يهمل. ثمّ جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدّنيويّة ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحرّي القصد فيها واعتماد الحقّ في مذاهبها فكان ذلك ممّا دعا النّاس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدّعوة العبّاسيّة منهم وولّي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرّفوا الملك في وجوه الحقّ ومذاهبه ما استطاعوا حتّى جاء بنو الرّشيد من بعده فكان منهم الصّالح والطّالح ثمّ أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والتّرف حقّه وانغمسوا في الدّنيا وباطلها ونبذوا الدّين وراءهم ظهريّا فتأذّن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم والله لا يظلم مثقال ذرّة. ومن تأمّل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحرّي الحقّ من الباطل علم صحّة ما قلناه وقد حكاه المسعوديّ مثله في أحوال بني أميّة عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أميّة فقال: «أمّا عبد الملك فكان جبّارا لا يبالي بما صنع وأمّا سليمان فكان همّه بطنه وفرجه وأمّا عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام» قال ولم يزل بنو أميّة ضابطين لما مهّد لهم من السّلطان يحوّطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه مع
__________
[1] هو كتاب مشهور في الحديث لمالك بن أنس.(1/258)
تسنّمهم معالي الأمور ورفضهم دنيّاتها حتّى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همّتهم قصد الشّهوات وركوب اللّذّات من معاصي الله جهلا باستدراجه وأمنا لمكره مع اطّراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحقّ الرّئاسة وضعفهم عن السّياسة فسلبهم الله العزّ وألبسهم الذّلّ ونفى عنهم النّعمة ثمّ استحضر عبد الله [1] ابن مروان فقصّ عليه خبره مع ملك النّوبة لمّا دخل أرضهم فارّا أيّام السّفّاح قال أقمت مليّا ثمّ أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا [2] فقال إنّي ملك وحقّ لكلّ ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثمّ قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرّمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا قال: فلم تطئون الزّرع بدوابّكم والفساد محرّم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال:
فلم تلبسون الدّيباج والذّهب والحرير وهو محرّم عليكم في كتابكم؟ قلت: ذهب منّا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منّا، فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثمّ رفع رأسه إليّ وقال: «ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرّم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العزّ وألبسكم الذّلّ بذنوبكم وللَّه نقمة لم تبلغ غايتها فيكم وأنا خائف أن يحلّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم وإنّما الضّيافة ثلاث فتزوّد ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي» فتعجّب المنصور وأطرق فقد تبيّن لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأنّ الأمر كان في أوّله خلافة ووازع كلّ أحد فيها من نفسه وهو الدّين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافّة فهذا عثمان لمّا حصر في الدّار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون
__________
[1] قوله عبد الله كذا في النسخة التونسية وبعض الفارسية وفي بعضها عبد الملك وأظنه تصحيفا (قاله نصر) .
[2] فرشنا.(1/259)
المدافعة عنه فأبى ومنع من سلّ السّيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظا للإلفة الّتي بها حفظ الكلمة ولو أدّى إلى هلاكه. وهذا عليّ أشار عليه المغيرة لأوّل ولايته باستبقاء الزّبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتّى يجتمع النّاس على بيعته وتتّفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فرارا من الغشّ الّذي ينافيه الإسلام وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال:
«لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثمّ عدت إلى نظري فعلمت أنّه ليس من الحقّ والنّصيحة وأنّ الحقّ فيما رأيته أنت» فقال عليّ: «لا والله بل أعلم أنّك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم ولكن منعني ممّا أشرت به زائد الحقّ وهكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحرّي الدّين ومذاهبه والجري على منهاج الحقّ ولم يظهر التّغيّر إلّا في الوازع الّذي كان دينا ثمّ انقلب عصبيّة وسيفا وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصّدر الأوّل من خلفاء بني العبّاس إلى الرّشيد وبعض ولده ثمّ ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلّا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا وجرت طبيعة التّغلّب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتّقلّب في الشّهوات والملاذّ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرّشيد من بني العبّاس واسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبيّة العرب والخلافة والملك في الطّورين ملتبس بعضهما ببعض ثمّ ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشّأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبرّكا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديّين ومغراوة وبني يفرن أيضا مع خلفاء بني أميّة بالأندلس والعبيديّين بالقيروان فقد تبيّن أنّ الخلافة قد(1/260)
وجدت بدون الملك أوّلا ثمّ التبست معانيهما واختلطت ثمّ انفرد الملك حيث افترقت عصبيّته من عصبيّة الخلافة والله مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار
الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
[1] اعلم أنّ البيعة هي العهد على الطّاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشّط والمكره وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمّي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللّغة ومعهود الشّرع وهو المراد في الحديث في بيعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وعند الشّجرة وحيثما ورد هذا اللّفظ ومنه بيعة الخلفاء ومنه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلّها لذلك فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب ولهذا لمّا أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع ما وقع من محنة الإمام رضى الله عنه وأمّا البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحيّة الملوك الكسرويّة من تقبيل الأرض أو اليد أو الرّجل أو الذّيل أطلق عليها اسم البيعة الّتي هي العهد على الطّاعة مجازا لما كان هذا الخضوع في التّحيّة والتزام الآداب من لوازم الطّاعة وتوابعها وغلب فيه حتّى صارت حقيقيّة عرفيّة واستغنى بها عن مصافحة أيدي النّاس الّتي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكلّ أحد من التّنزّل والابتذال المنافيين للرّئاسة وصون المنصب الملوكيّ إلّا في الأقلّ
__________
[1] البيعة بفتح الموحدة أما بكسرها على وزن شيعة بسكون الياء فيها فهي معبد النصارى. 1 هـ-.(1/261)
ممّن يقصد التّواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصّه ومشاهير أهل الدّين من رعيّته فافهم معنى البيعة في العرف فإنّه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حقّ سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثا ومجّانا واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك والله القويّ العزيز.
الفصل الثلاثون في ولاية العهد
اعلم أنّا قدّمنا الكلام في الإمامة ومشروعيّتها لما فيها من المصلحة وأنّ حقيقتها للنّظر في مصالح الأمّة لدينهم ودنياهم فهو وليّهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولّى أمورهم كما كان هو يتولّاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل وقد عرف ذلك من الشّرع بإجماع الأمّة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من الصّحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم وكذلك عهد عمر في الشّورى إلى السّتّة بقيّة العشرة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوّض بعضهم إلى بعض حتّى أفضى ذلك إلى عبد الرّحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متّفقين على عثمان وعلى عليّ فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إيّاه على لزوم الاقتداء بالشّيخين في كلّ ما يعنّ دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته والملأ من الصّحابة حاضرون للأولى والثّانية ولم ينكره أحد منهم فدلّ على أنّهم متّفقون على صحّة هذا العهد عارفون بمشروعيّته.
والإجماع حجّة كما عرف ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنّه مأمون على النّظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته(1/262)
خلافا لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصّص التّهمة بالولد دون الوالد فإنّه بعيد عن الظنّة في ذلك كلّه لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقّع مفسدة فتنتفي الظنّة في ذلك رأسا كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان فعل معاوية مع وفاق النّاس له حجّة في الباب والّذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة إذ بنو أميّة يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملّة أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممّن يظنّ أنّه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصا على الاتّفاق واجتماع الأهواء الّذي شأنه أهمّ عند الشّارع.
وإن كان لا يظنّ بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصّحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الرّيب فيه فليسوا ممّن يأخذهم في الحقّ هوادة وليس معاوية ممّن تأخذه العزّة في قبول الحقّ فإنّهم كلّهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنّما هو محمول على تورّعه من الدّخول في شيء من الأمور مباحا كان أو محظورا كما هو معروف عنه ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الّذي اتّفق عليه الجمهور إلّا ابن الزّبير وندور المخالف معروف ثمّ إنّه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الّذين كانوا يتحرّون الحقّ ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أميّة والسّفّاح والمنصور والمهديّ والرّشيد من بني العبّاس وأمثالهم ممّن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنّظر لهم ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنّهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيّا فعند كلّ أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدّين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كلّ من يسمو إلى ذلك إلى وازعه.
وأمّا من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبيّة قد أشرفت على غايتها من الملك(1/263)
والوازع الدّينيّ قد ضعف واحتيج إلى الوازع السّلطانيّ والعصبانيّ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردّت ذلك العهد وانتفض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
سأل رجل عليّا رضي الله عنه: «ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟» فقال: «لأنّ أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك» يشير إلى وازع الدّين أفلا ترى إلى المأمون لمّا عهد إلى عليّ بن موسى بن جعفر الصّادق وسمّاه الرّضا كيف أنكرت العبّاسيّة ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهديّ وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السّبل وتعدّد الثّوّار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتّى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد وردّ أمرهم لمعاهده فلا بدّ من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيّات وتختلف باختلاف المصالح ولكلّ واحد منها حكم يخصّه لطفا من الله بعباده وأمّا أن يكون القصد بالعهد حفظ التّراث على الأبناء فليس من المقاصد الدّينيّة إذ هو أمر من الله يخصّ به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسّن فيه النيّة ما أمكن خوفا من العبث بالمناصب الدّينيّة والملك للَّه يؤتيه من يشاء،
وعرض هنا أمور تدعو الضّرورة إلى بيان الحقّ فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيّام خلافته
فإيّاك أن تظنّ بمعاوية رضي الله عنه أنّه علم ذلك من يزيد فإنّه أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيّام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقلّ من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة ولمّا حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصّحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما ومن اتّبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأنّ شوكة يزيد يومئذ هي(1/264)
عصابة بني أميّة وجمهور أهل الحلّ والعقد من قريش وتستتبع عصبيّة مضر أجمع وهي أعظم من كلّ شوكة ولا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدّعاء بهدايته والرّاحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكلّ مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البرّ وتحرّي الحقّ معروفة وفّقنا الله للاقتداء بهم.
والأمر الثّاني هو شأن العهد مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما تدّعيه الشّيعة من وصيّته لعليّ رضي الله عنه
وهو أمر لم يصحّ ولا نقله أحد من أئمّة النّقل والّذي وقع في الصّحيح من طلب الدّواة والقرطاس ليكتب الوصيّة وأنّ عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنّه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال: «إن أعهد فقد عهد من هو خير منّي» يعني أبا بكر «وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي» يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يعهد وكذلك قول عليّ للعبّاس رضي الله عنهما حين دعاه للدّخول إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى عليّ من ذلك وقال إنّه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدّهر وهذا دليل على أنّ عليّا علم أنّه لم يوص ولا عهد إلى أحد وشبهة الإماميّة في ذلك إنّما هي كون الإمامة من أركان الدّين كما يزعمون وليس كذلك وإنّما هي من المصالح العامّة المفوّضة إلى نظر الخلق ولو كانت من أركان الدّين لكان شأنها شأن الصّلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصّلاة ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصّلاة واحتجاج الصّحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصّلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أنّ الوصيّة لم تقع.
ويدلّ ذلك أيضا على أنّ أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهمّا كما هو اليوم وشأن العصبيّة المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأنّ أمر الدّين والإسلام كان كلّه بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة النّاس دونه وذلك من أجلّ الأحوال الّتي كانوا يشاهدونها في حضور(1/265)
الملائكة لنصرهم وتردّد خبر السّماء بينهم وتجدّد خطاب الله في كلّ حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبيّة لما شمل النّاس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزّهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهيّة الواقعة والملائكة المتردّدة الّتي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبيّة وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع فلمّا انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثمّ بفناء القرون الّذين شاهدوها فاستحالت تلك الصّبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبيّة ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهمّا من المهمّات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير مهمّة فلم يعهد فيها ثمّ تدرّجت الأهميّة زمان الخلافة بعض الشّيء بما دعت الضّرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الرّدّة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والتّرك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثمّ صارت اليوم من أهمّ الأمور للإلفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبيّة الّتي هي سرّ الوازع عن الفرقة والتّخاذل ومنشأ الاجتماع والتّوافق الكفيل بمقاصد الشّريعة وأحكامها.
والأمر الثّالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصّحابة والتّابعين
فاعلم أنّ اختلافهم إنّما يقع في الأمور الدّينيّة وينشأ عن الاجتهاد في الأدلّة الصّحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إنّ الحقّ في المسائل الاجتهاديّة واحد من الطّرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإنّ جهته لا تتعيّن بإجماع فيبقى الكلّ على احتمال الإصابة ولا يتعيّن المخطئ منها والتأثيم مدفوع عن الكلّ إجماعا وإن قلنا إنّ الكلّ حقّ وإنّ كلّ مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتّأثيم وغاية الخلاف الّذي بين الصّحابة والتّابعين أنّه خلاف اجتهاديّ في مسائل دينيّة ظنّيّة وهذا حكمه والّذي وقع من ذلك في الإسلام إنّما هو(1/266)
واقعة عليّ مع معاوية ومع الزّبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزّبير مع عبد الملك فأمّا واقعة عليّ فإنّ النّاس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة عليّ والّذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقّف حتّى يجتمع النّاس ويتّفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدريّ وكعب بن مالك والنّعمان بن بشير وحسّان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصّحابة والّذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضا إلى الطّلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتّى يكون شورى بين المسلمين لمن يولّونه وظنّوا بعليّ هوادة في السّكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش للَّه من ذلك.
ولقد كان معاوية إذا صرّح بملامته إنّما يوجّهها عليه في سكوته فقط ثمّ اختلفوا بعد ذلك فرأى عليّ أنّ بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخّر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وموطن الصّحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع النّاس واتّفاق الكلمة فيتمكّن حينئذ من ذلك ورأى الآخرون أنّ بيعته لم تنعقد لافتراق الصّحابة أهل الحلّ والعقد بالآفاق ولم يحضر إلّا قليل ولا تكون البيعة إلّا باتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا تلزم بعقد من تولّاها من غيرهم أو من القليل منهم وإنّ المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أوّلا بدم عثمان ثمّ يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأمّ المؤمنين عائشة والزّبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمّد وسعد وسعيد والنّعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصّحابة الّذين تخلّفوا عن بيعة عليّ بالمدينة كما ذكرنا إلّا أنّ أهل العصر الثاني من بعدهم اتّفقوا على انعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصا طلحة والزّبير(1/267)
لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التّأثيم عن كلّ من الفريقين كالشّأن في المجتهدين وصار ذلك إجماعا من أهل العصر الثّاني على أحد قولي أهل العصر الأوّل كما هو معروف.
ولقد سئل عليّ رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفّين فقال: «والّذي نفسي بيده لا يموتنّ أحد من هؤلاء وقلبه نقيّ إلّا دخل الجنّة» يشير إلى الفريقين نقله الطّبريّ وغيره فلا يقعنّ عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنّما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السّنّة إلّا قولا للمعتزلة فيمن قاتل عليّا لم يلتفت إليه أحد من أهل الحقّ ولا عرّج عليه وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت النّاس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان واختلاف الصّحابة من بعد وعلمت أنّها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمّة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوّهم وملّكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشّام ومصر وكان أكثر العرب الّذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهليّة من الجفاء والعصبيّة والتّفاخر والبعد عن سكينة الإيمان وإذا بهم عند استفحال الدّولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السّابقين الأوّلين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغصّوا به لما يرون لأنفسهم من التّقدّم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والرّوم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر فصاروا إلى الغضّ من قريش والأنفة عليهم، والتّمريض في طاعتهم والتّعلّل في ذلك بالتّظلّم منهم والاستعداء عليهم والطّعن فيهم بالعجز عن السّويّة والعدل في القسم عن السّويّة وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.(1/268)
بعث ابن عمر ومحمّد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئا ولا رأوا عليهم طعنا وأدّوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار وما زالت الشّناعات تنمو ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحدّه عثمان وعزله ثمّ جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمّال وشكوا إلى عائشة وعليّ والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمّال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلمّا رجع اعترضوه بالطّريق وردّوه معزولا ثمّ انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصّحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلّا أن يكون على جرحة [1] ثمّ نقلوا النّكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسّك بالاجتهاد وهم أيضا كذلك ثمّ تجمّع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النّصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله وفيهم من البصرة والكوفة ومصر وقام معهم في ذلك عليّ وعائشة والزّبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلا ثمّ رجعوا وقد لبّسوا بكتاب مدلّس يزعمون أنّهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك فقالوا مكّنّا من مروان فإنّه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثمّ بيّتوه على حين غفلة من النّاس وقتلوه وانفتح باب الفتنة فلكلّ من هؤلاء عذر فيما وقع وكلّهم كانوا مهتمّين بأمر الدّين ولا يضيعون شيئا من تعلّقاته.
ثمّ نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا والله مطّلع على أحوالهم وعالم بهم ونحن لا نظنّ بهم إلّا خيرا لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصّادق فيهم وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك وظنّها من نفسه بأهليّته
__________
[1] ما تجرح به شهادة خصمك أو حجته.(1/269)
وشوكته فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادة وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة تعرف ذلك لهم قريش وسائر النّاس ولا ينكرونه وإنّما نسي ذلك أوّل الإسلام لما شغل النّاس من الذّهول بالخوارق وأمر الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها ونسيت ولم يبق إلّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع ينتفع بها في إقامة الدّين وجهاد المشركين والدّين فيها محكم والعادة معزولة حتّى إذا انقطع أمر النّبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشّيء للعوائد فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أميّة من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبيّن لك غلط الحسين إلّا أنّه في أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله.
وأمّا غير الحسين من الصّحابة الّذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقّه ويقول سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدريّ وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك لعلمه أنّه عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحدّ الشّافعيّ والمالكيّ والحنفيّ على شرب النّبيذ واعلم أنّ الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن(1/270)
اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم وإنّما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه ولا تقولنّ إنّ يزيد وإن كان فاسقا ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة واعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعا وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه:
إنّ الحسين قتل بشرع جدّه وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء وأمّا ابن الزّبير فإنّه رأى في منامه ما رآه الحسين وظنّ كما ظنّ وغلطه في أمر الشّوكة أعظم لأنّ بني أسد لا يقاومون بني أميّة في جاهليّة ولا إسلام. والقول بتعيّن الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع عليّ لا سبيل إليه. لأنّ الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده هاهنا. وأمّا يزيد فعيّن خطأه فسقه.
وعبد الملك صاحب ابن الزّبير أعظم النّاس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عبّاس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزّبير وهم معه بالحجاز مع أنّ الكثير [1] من الصّحابة كانوا يرون أنّ بيعة ابن الزّبير لم تنعقد لأنّه لم يحضرها أهل العقد والحلّ كبيعة مروان وابن الزّبير على خلاف ذلك والكلّ مجتهدون محمولون على الحقّ في الظّاهر وإن لم يتعيّن في جهة منهما والقتل الّذي نزل به بعد تقرير ما قرّرناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنّه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحرّيه الحقّ هذا هو الّذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الّذي يختصّ
__________
[1] كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: هذا إلى أن الكثير.(1/271)
بالعدالة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «خير النّاس قرني» [1] ثمّ الّذين يلونهم مرّتين أو ثلاثا ثمّ يفشو الكذب فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحد منهم ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت فهم أولى النّاس بذلك وما اختلفوا إلّا عن بيّنة وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ واعتقد مع ذلك أنّ اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنّه على كلّ شيء قدير وإليه الملجأ والمصير والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لمّا تبيّن أنّ حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشّرع في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا فصاحب الشّرع متصرّف في الأمرين أمّا في الدّين فبمقتضى التّكاليف الشّرعيّة الّذي هو مأمور بتبليغها وحمل النّاس عليها وأمّا سياسة الدّنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشريّ وقد قدّمنا أنّ هذا العمران ضروريّ للبشر وأنّ رعاية مصالحه كذلك لئلّا يفسد إن أهملت وقدّمنا أنّ الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنّما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشّرعيّة لأنّه [2] أعلم بهذه المصالح
__________
[1] (ورد في لسان العرب قول الأزهري: والّذي يقع عندي. والله أعلم. ان القرن) هل كل مدة كان فيها، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت والدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «خيركم قرني، يعني أصحابي ثم الذين يلونهم، يعني التابعين، ثم الذين يلونهم، يعني الذين أخذوا عن التابعين» قال: وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة، وهؤلاء قرون فيها.
[2] الضمير يعود إلى الله تعالى.(1/272)
فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميّا ويكون من توابعها وقد ينفرد إذا كان في غير الملّة وله على كلّ حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعيّن خططا وتتوزّع على رجال الدّولة وظائف فيقوم كلّ واحد بوظيفته حسبما يعيّنه الملك الّذي تكون يده عالية عليهم فيتمّ بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه وأمّا المنصب الخلافيّ وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الّذي ذكرناه فتصرّفه الدّيني يختصّ بخطط ومراتب لا تعرف إلّا للخلفاء الإسلاميّين فلنذكر الآن الخطط الدّينيّة المختصّة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكيّة السّلطانيّة.
فاعلم أنّ الخطط الدّينيّة الشّرعيّة من الصّلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلّها مندرجة تحت الإمامة الكبرى الّتي هي الخلافة فكأنّها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلّها متفرّعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرّفها في سائر أحوال الملّة الدّينيّة والدّنيويّة وتنفيذ أحكام الشّرع فيها على العموم.
فأمّا إمامة الصّلاة
فهي أرفع هذه الخطط كلّها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصّحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصّلاة على استخلافه في السّياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فلولا أنّ الصّلاة أرفع من السّياسة لما صحّ القياس وإذا ثبت ذلك فاعلم أنّ المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية [1] معدّة للصّلوات المشهودة. وأخرى دونها مختصّة بقوم أو محلّة وليست للصّلوات العامّة فأمّا المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوّض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصّلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء وتعيّن ذلك إنّما هو من طريق الأولى
__________
[1] الذين يزورونها للصلاة.(1/273)
والاستحسان ولئلّا يفتات [1] الرّعايا عليه في شيء من النّظر في المصالح العامّة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجبا وأمّا المساجد المختصّة بقوم أو محلّة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولّى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السّلطانيّة للماورديّ وغيره فلا نطوّل بذكرها ولقد كان الخلفاء الأوّلون لا يقلّدونها لغيرهم من النّاس. وانظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصّلاة وترصّدهم لذلك في أوقاتها، يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنّهم لم يكونوا مستخلفين فيها. وكذا كان رجال الدّولة الأمويّة من بعدهم استئثارا بها واستعظاما لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنّه قال لحاجبه «قد جعلت لك حجابة يأبى إلّا عن ثلاثة: صاحب الطّعام فإنّه يفسد بالتّأخير والأذان بالصّلاة فإنّه داع إلى الله والبريد فإنّ في تأخيره فساد القاصية» فلمّا جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والتّرفّع عن مساواة النّاس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصّلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصّلوات العامّة كالعيدين والجمعة إشارة وتنويها فعل ذلك كثير من خلفاء بني العبّاس والعبيديّين صدر دولتهم.
وأمّا الفتيا
فللخليفة تصفّح أهل العلم والتّدريس وردّ الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلا لها وزجره لأنّها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلّا يتعرّض لذلك من ليس له بأهل فيضلّ النّاس.
وللمدرّس الانتصاب لتعليم العلم وبثّه والجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام الّتي للسّلطان الولاية عليها والنّظر في أئمّتها كما مرّ فلا بدّ من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامّة فلا يتوقّف ذلك على إذن. على أنّه ينبغي أن يكون لكلّ أحد من المفتين والمدرّسين زاجر من نفسه يمنعه عن
__________
[1] يخالفه.(1/274)
التّصدّي لما ليس له بأهل فيضلّ [1] به المستهدي ويضلّ به المسترشد وفي الأثر «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنّم» فللسّلطان فيهم لذلك من النّظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو ردّ.
وأمّا القضاء
فهو من الوظائف الدّاخلة تحت الخلافة لأنّه منصب الفصل بين النّاس في الخصومات حسما للتّداعي وقطعا للتّنازع إلّا أنّه بالأحكام الشّرعيّة المتلقّاة من الكتاب والسّنّة، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجا في عمومها وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأوّل من دفعه إلى غيره وفوّضه فيه عمر رضي الله عنه فولّى أبا الدّرداء معه بالمدينة وولّى شريحا بالبصرة وولّى أبا موسى الأشعريّ بالكوفة وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الّذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه يقول أمّا بعد:
«فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنّه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له وآس بين النّاس في وجهك ومجلسك وعدلك حتّى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقّ فإنّ الحقّ قديم ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ممّا ليس في كتاب ولا سنّة ثمّ اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقّه وإلّا استحللت القضاء عليه فإنّ ذلك أنفى للشّكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ أو مجرى [2] عليه
__________
[1] في بعض النسخ: فيدلّ أي يثق به ويعتز.
[2] وفي بعض النسخ: مجرّبا.(1/275)
شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإنّ الله سبحانه عفا عن الإيمان ودرأ بالبيّنات. وإيّاك والقلق والضّجر والتّأفّف بالخصوم فإنّ استقرار الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر ويحسن به الذّكر والسّلام» .
انتهى كتاب عمر وإنّما كانوا يقلّدون القضاء لغيرهم وإن كان ممّا يتعلّق بهم لقيامهم بالسّياسة العامّة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسدّ الثّغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك ممّا يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقّوا القضاء في الواقعات بين النّاس واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفا على أنفسهم وكانوا مع ذلك إنّما يقلّدونه أهل عصبيّتهم بالنّسب أو الولاء ولا يقلّدونه لمن بعد عنهم في ذلك. وأمّا أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصا كتب الأحكام السّلطانيّة. إلّا أنّ القاضي إنّما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثمّ دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التّدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسّياسة الكبرى واستقرّ منصب القضاء آخر الأمر على أنّه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامّة للمسلمين بالنّظر في أموال [1] المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السّفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنّظر في مصالح الطّرقات والأبنية وتصفّح الشّهود والأمناء والنّوّاب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلّها من تعلّقات وظيفته وتوابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النّظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السّلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علوّ يد وعظيم رهبة تقمع الظّالم من الخصمين وتزجر المتعدّي وكأنّه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه ويكون نظره في البيّنات والتّقرير واعتماد الأمارات
__________
[1] وفي بعض النسخ: أمور.(1/276)
والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحقّ وحمل الخصمين على الصّلح واستحلاف الشّهود وذلك أوسع من نظر القاضي.
وكان الخلفاء الأوّلون يباشرونها بأنفسهم إلى أيّام المهتدي من بني العبّاس وربّما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولانيّ وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي داود وربّما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطّوائف [1] وكان يحيى بن أكثم يخرج أيّام المأمون بالطّائفة إلى أرض الرّوم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرّحمن النّاصر من بني أميّة بالأندلس فكانت تولية هذه الوظائف إنّما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوّض أو سلطان متغلّب. وكان أيضا النّظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدّولة العبّاسيّة والأمويّة بالأندلس والعبيديّين بمصر والمغرب راجعا إلى صاحب الشّرطة وهي وظيفة أخرى دينيّة كانت من الوظائف الشّرعيّة في تلك الدّول توسّع النّظر فيها عن أحكام القضاء قليلا فيجعل للتّهمة في الحكم مجالا ويفرض العقوبات الزّاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثّابتة في محالّها ويحكم في القود [2] والقصاص ويقيم التّعزير والتّأديب في حقّ من لم ينته عن الجريمة.
ثمّ تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدّول الّتي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعا إلى السّلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن وانقسمت وظيفة الشّرطة قسمين منها وظيفة التّهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعيّن ونصب لذلك في هذه الدّول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشّرعيّة ويسمّى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشّرطة وبقي قسم التّعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثّابتة شرعا فجمع
__________
[1] ربّما تكون محرّفة من الصوائف: أي الغزو أثناء الصيف.
[2] القود: قتل القاتل بدل القتيل (منجد) .(1/277)
ذلك للقاضي مع ما تقدّم وصار ذلك من توابع وظيفة ولايته واستقرّ الأمر لهذا العهد على ذلك وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبيّة الدّولة لأنّ الأمر لمّا كان خلافة دينيّة وهذه الخطّة من مراسم الدّين فكانوا لا يولّون فيها إلّا من أهل عصبيّتهم من العرب ومواليهم بالحلف أو بالرّقّ أو بالاصطناع ممّن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، ولمّا انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كلّه ملكا أو سلطانا صارت هذه الخطط الدّينيّة بعيدة عنه بعض الشّيء لأنّها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثمّ خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم التّرك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافيّة بعدا عنهم بمنحاها وعصبيّتها. وذلك أنّ العرب كانوا يرون أنّ الشّريعة دينهم وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك إنّما يولّونها جانبا من التّعظيم لما دانوا بالملّة فقط. فصاروا يقلّدونها من غير عصابتهم ممّن كان تأهّل لها في دول الخلفاء السّالفة.
وكان أولئك المتأهّلون بما أخذهم ترف الدّول منذ مئين من السّنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلّة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدّول الملوكيّة من بعد الخلفاء مختصّة بهذا الصّنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العزّ لفقد الأهليّة بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في التّرف والدّعة، البعداء عن عصبيّة الملك الّذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدّولة من أجل قيامها بالملّة وأخذها بأحكام الشّريعة، لما أنّهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدّولة حينئذ إكراما لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التّجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرّتب الشّرعيّة، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسميّ لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليه(1/278)
فمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه. اللَّهمّ إلّا أخذ الأحكام الشّرعيّة عنهم، وتلقّي الفتاوى منهم فنعم والله الموفّق. وربّما يظنّ بعض النّاس أنّ الحقّ فيما وراء ذلك وأنّ فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشّورى مرجوح وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ ذلك ليس كما ظنّه [1] وحكم الملك والسّلطان إنّما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلّا كان بعيدا عن السّياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئا من ذلك لأنّ الشّورى والحلّ والعقد لا تكون إلّا لصاحب عصبيّة يقتدر بها على حلّ أو عقد أو فعل أو ترك، وأمّا من لا عصبيّة له ولا يملك من أمر نفسه شيئا ولا من حمايتها وإنّما هو عيال على غيره فأيّ مدخل له في الشّورى أو أيّ معنى يدعو إلى اعتباره فيها؟ اللَّهمّ إلّا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشّرعيّة فموجودة في الاستفتاء خاصّة. وأمّا شوراه في السّياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبيّة والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها وإنّما إكرامهم من تبرّعات الملوك والأمراء الشّاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدّين وتعظيم من ينتسب إليه بأيّ جهة انتسب وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتفّ به إنّما حمّلوا الشّريعة أقوالا في كيفيّة الأعمال في العبادات وكيفيّة القضاء في المعاملات ينصّونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتّصفون إلّا بالأقلّ منها وفي بعض الأحوال والسّلف رضوان الله عليهم وأهل الدّين والورع من المسلمين حملوا الشّريعة اتّصافا بها وتحقّقا بمذاهبها. فمن حملها اتّصافا وتحقّقا دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيريّ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التّابعين والسّلف والأئمّة الأربعة ومن اقتفى طريقهم وجاء على أثرهم وإذا انفرد واحد من الأمّة بأحد الأمرين فالعابد أحقّ بالوراثة من الفقيه الّذي ليس بعابد لأنّ العابد ورث بصفة والفقيه الّذي ليس بعابد لم يرث
__________
[1] الضمير يعود إلى الناس أو العامة.(1/279)
شيئا إنّما هو صاحب أقوال ينصّها علينا في كيفيّات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ 38: 24» .
العدالة:
وهي وظيفة دينيّة تابعة للقضاء ومن موادّ تصريفه وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشّهادة بين النّاس فيما لهم وعليهم تحمّلا عند الإشهاد وأداء عند التّنازع وكتبا في السّجلّات تحفظ به حقوق النّاس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم وشرط هذه الوظيفة الاتّصاف بالعدالة الشّرعيّة والبراءة من الجرح ثمّ القيام بكتب السّجلّات والعقود من جهة عباراتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشّرعيّة وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلّق بذلك من الفقه ولأجل هذه الشّروط وما يحتاج إليه من المران [1] على ذلك والممارسة له اختصّ ذلك ببعض العدول وصار الصّنف القائمون به كأنّهم مختصّون بالعدالة وليس كذلك وإنّما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة ويجب على القاضي تصفّح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيّن عليه من حفظ حقوق النّاس فالعهدة عليه في ذلك كلّه وهو ضامن دركه وإذا تعيّن هؤلاء لهذه الوظيفة عمّت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتّساع الأمصار واشتباه الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبيّنات الموثوقة فيعوّلون غالبا في الوثوق بها على هذا الصّنف ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصّون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب وصار مدلول هذه اللّفظة مشتركا بين هذه الوظيفة الّتي تبيّن مدلولها وبين العدالة الشّرعيّة الّتي هي أخت الجرح وقد يتواردان ويفترقان والله تعالى أعلم.
الحسبة والسكة
إمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
__________
[1] المران بكسر الميم التمرن والاعتياد على الشيء 1 هـ-.(1/280)
الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
وأمّا السّكّة فهي النّظر في النّقود المتعامل بها بين النّاس وحفظها ممّا يداخلها من الغشّ أو النّقص إن كان يتعامل بها عددا أو ما يتعلّق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثمّ في وضع علامة السّلطان على تلك النّقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتّخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصّة به فيوضع على الدّينار بعد أن يقدّر ويضرب عليه بالمطرقة حتّى ترسم فيه تلك النّقوش وتكون علامة على جودته بحسب الغاية الّتي وقف عندها السّبك والتّخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدّولة الحاكمة فإنّ السّبك والتّخليص(1/281)
في النّقود لا يقف عند غاية وإنّما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التّخليص وقفوا عندها وسمّوها إماما وعيارا يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفا والنّظر في ذلك كلّه لصاحب هذه الوظيفة وهي دينيّة بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثمّ أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافيّة وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانيّة فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانيّة نتكلّم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلّا في قليل من الدّول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالبا في السّلطانيّات وكذا نقابة الأنساب الّتي يتوصّل بها إلى الخلافة أو الحقّ في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسّياسة في سائر الدّول لهذا العهد والله مصرّف الأمور كيف يشاء.
الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين وانه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء
وذلك أنّه لمّا بويع أبو بكر رضي الله عنه وكان الصّحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمّونه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلمّا بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنّهم استثقلوا هذا اللّقب بكثرته وطول إضافته وأنّه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التّمييز بتعدّد الإضافات وكثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللّقب إلى ما سواه ممّا يناسبه ويدعى به مثله(1/282)
وكانوا يسمّون قوّاد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة وقد كان الجاهليّة يدعون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمير مكّة وأمير الحجاز وكان الصّحابة أيضا يدعون سعد بن أبي وقّاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسيّة وهم معظم المسلمين يومئذ واتّفق أن دعا بعض الصّحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه النّاس واستصوبوه ودعوه به.
يقال إنّ أوّل من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل عمرو بن العاصي والمغيرة بن شعبة وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وذهب لقبا له في النّاس وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلّا سائر دولة بني أميّة ثمّ إنّ الشّيعة خصّوا عليّا باسم الإمام نعتا له بالإمامة الّتي هي أخت الخلافة وتعريضا بمذهبهم في أنّه أحقّ بإمامة الصّلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصّوه بهذا اللّقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلّهم يسمّون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتّى إذا يستولون على الدّولة يحوّلون [1] اللّقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العبّاس فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم بالإمام إلى إبراهيم الّذي جهروا بالدّعاء له وعقدوا الرّايات للحرب على أمره فلمّا هلك دعي أخوه السّفّاح بأمير المؤمنين.
وكذا الرّافضة بإفريقيا فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتّى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهديّ وكانوا أيضا يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده فلمّا استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام وابنه إدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم وتوارث الخلفاء هذا اللّقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك
__________
[1] الأصح أن يقول: حتى إذا استولوا على الدولة حولوا اللقب.(1/283)
الحجاز والشّام والعراق والمواطن الّتي هي ديار العرب ومراكز الدّولة وأهل الملّة والفتح وازداد لذلك في عنفوان الدّولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميّز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العبّاس حجابا لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السّوقة وصونا لها عن الابتذال فتلقّبوا بالسّفّاح والمنصور والمهديّ والهادي والرّشيد إلى آخر الدّولة واقتفى أثرهم في ذلك العبيديّون بإفريقيّة ومصر وتجافى بنو أميّة عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة والسّذاجة لأنّ العروبيّة ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحوّل عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة وأمّا بالأندلس فتلقّبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملّة والبعد عن دار الخلافة الّتي هي مركز العصبيّة وأنّهم إنّما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العبّاس حتّى إذا جاء عبد الرحمن الدّاخل الآخر منهم وهو النّاصر بن محمّد بن الأمير عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن الأوسط لأوّل المائة الرّابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسّمل ذهب عبد الرّحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمّى بأمير المؤمنين وتلقّب بالنّاصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهب لقّن عنه ولم يكن لآبائه وسلف قومه. واستمرّ الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبيّة العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلّب الموالي من العجم على بني العبّاس والصّنائع على العبيديّين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطّوائف بالأندلس على أمر بني أميّة واقتسموه وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسمّوا جميعا باسم السّلطان.
فأمّا ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصّونهم بألقاب تشريفيّة حتّى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدّولة وعضد الدّولة(1/284)
وركن الدّولة ومعزّ الدّولة ونصير الدّولة ونظام الملك وبهاء الدّولة وذخيرة الملك وأمثال هذه وكان العبيديّون أيضا يخصّون بها أمراء صنهاجة فلمّا استبدّوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدبا معها وعدولا عن سماتها المختصّة بها شأن المتغلّبين المستبدّين كما قلناه ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدّولة والسّلطان وتلاشت عصبيّة الخلافة واضمحلّت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصّة بالملك مثل النّاصر والمنصور وزيادة على ألقاب يختصّون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدّين فقط فيقولون صلاح الدّين أسد الدّين نور الدّين. وأمّا ملوك الطّوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزّعوها لقوّة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيّتها فتلقّبوا بالنّاصر والمنصور والمعتمد والمظفّر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف [1] ينعى عليهم:
ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد
وأمّا صنهاجة فاقتصروا عن الألقاب الّتي كان الخلفاء العبيديّون يلقّبون بها للتّنويه مثل نصير الدّولة ومعزّ الدّولة واتّصل لهم ذلك لمّا أدالوا من دعوة العبيديّين بدعوة العبّاسيّين ثمّ بعدت الشّقّة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السّلطان وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئا من هذه الألقاب إلّا اسم السّلطان جريا على مذاهب البداوة والغضاضة. ولمّا محي رسم الخلافة وتعطّل دستها [2] وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همّته إلى الدّخول في طاعة الخليفة تكميلا لمراسم دينه
__________
[1] كذا في جميع النسخ واسمه ابن شرف.
[2] الدست كلمة أعجمية لم ترد في لسان العرب ومعناها صدر البيت أو المجلس والدست من الثياب ما يكفي حاجة الإنسان (المنجد) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى المراس.(1/285)
فخاطب المستظهر العبّاسيّ وأوفد عليه بيعته عبد الله بن العربيّ وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيليّة يطلبان توليته إيّاها على المغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه [1] بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيّهم في لبوسه [2] ورتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفا واختصاصا فاتّخذها لقبا ويقال إنّه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدبا مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو وقومه المرابطون من انتحال الدّين واتّباع السّنّة وجاء المهديّ على أثرهم داعيا إلى الحقّ آخذا بمذاهب الأشعريّة ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السّلف في ترك التّأويل لظواهر الشّريعة وما يؤول إليه ذلك من التّجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعريّة وسمّى أتباعه الموحّدين تعريضا بذلك النّكير وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنّه لا بدّ منه في كلّ زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمّي بالإمام لما قلناه أوّلا من مذهب الشّيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام وتنزّه عند اتّباعه عن أمير المؤمنين أخذا بمذاهب المتقدّمين من الشّيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق.
ثمّ انتحل عبد المؤمن وليّ عهده اللّقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثارا به عمّن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهديّ من ذلك وأنّه صاحب الأمر وأولياؤه من بعده كذلك دون كلّ أحد لانتفاء عصبيّة قريش وتلاشيها فكان ذلك دأبهم. ولمّا انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أوّلهم مذاهب البداوة والسّذاجة وأتباع لمتونة في انتحال اللّقب بأمير المؤمنين [3] أدبا مع رتبة الخلافة الّتي كانوا على طاعتها لبني
__________
[1] الأصح أن يقول: فانقلبا إليه.
[2] اللبوس، الثياب والسلاح، قال الله تعالى: «وعلمناه صنعة لبوس لكم» قالوا: هي الدرع تلبس في الحروب (لسان العرب) .
[3] يتضح من سياق الجملة وما يليها أن الأصح أن يقول: في عدم انتحال اللقب بأمير المؤمنين.(1/286)
عبد المؤمن أوّلا ولبني أبي حفص من بعدهم ثمّ نزع المتأخّرون منهم إلى اللّقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغا في منازع الملك وتتميما لمذاهبه وسماته وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود
اعلم أنّ الملّة لا بدّ لها من قائم عند غيبة النّبيّ يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنّبيّ فيما جاء به من التّكاليف والنّوع الإنسانيّ أيضا بما تقدّم من ضرورة السّياسة فيهم للاجتماع البشريّ لا بدّ لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمّى بالملك والملّة الإسلاميّة لمّا كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدّعوة وحمل الكافّة على دين الإسلام طوعا أو كرها اتّخذت فيها الخلافة والملك لتوجّه الشّوكة من القائمين بها إليهما معا. وأمّا ما سوى الملّة الإسلاميّة فلم تكن دعوتهم عامّة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلّا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدّين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنّما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير دينيّ وهو ما اقتضته لهم العصبيّة لما فيها من الطّلب للملك بالطّبع لما قدّمناه لأنّهم غير مكلّفين بالتّغلّب على الأمم كما في الملّة الإسلاميّة وإنّما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصّتهم.
ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنّما همّهم إقامة دينهم فقط وكان القائم به بينهم يسمّى الكوهن كأنّه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر(1/287)
الصّلاة والقربان ويشترطون فيه أن يكون من ذرّية هارون صلوات الله عليه لأنّ موسى لم يعقب ثمّ اختاروا لإقامة السّياسة الّتي هي للبشر بالطّبع سبعين شيخا كانوا يتلون أحكامهم العامّة والكوهن أعظم منهم رتبة في الدّين وأبعد عن شغب الأحكام واتّصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبيّة وتمحّضت الشّوكة للملك فغلبوا الكنعانيّين على الأرض الّتي أورثهم الله بيت المقدس وما جاورها كما بيّن لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيّين والأرمن وأردنّ وعمّان ومأرب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنة ولم تكن لهم صولة الملك وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم، فطلبوا على لسان شمويل [1] من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولّي عليهم طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين. ثمّ ملك بعده داود ثمّ سليمان صلوات الله عليهما واستفحل ملكه وامتدّ إلى الحجاز ثمّ أطراف اليمن ثمّ إلى أطراف بلاد الرّوم ثمّ افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبيّة في الدّول كما قدّمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشّام لبني يهوذا وبنيامين.
ثمّ غلبهم بخت نصّر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أوّلا الأسباط العشرة ثمّ ثانيا بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتّصال ملكهم نحو ألف سنة وخرّب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردّهم بعض ملوك الكيانيّة من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرّسم الأوّل للكهنة فقط والملك للفرس ثمّ غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم ثمّ فشل أمر اليونانيّين فاعتزّ اليهود عليهم بالعصبيّة الطّبيعيّة ودفعوهم عن
__________
[1] هو صموئيل كما في التوراة(1/288)
الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الّذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا يونان حتّى انقرض أمرهم وغلبهم الرّوم فصاروا تحت أمرهم ثمّ رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدّة ثمّ افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتّحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثّاني للمسجد ويسمّيه اليهود بالجلوة [1] الكبرى فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبيّة منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الرّوم من بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرّئيس عليهم المسمّى بالكوهن ثمّ جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدّين والنّسخ لبعض أحكام التّوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من النّاس وآمنوا به وأكثرهم الحواريّون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلا إلى الآفاق داعين إلى ملّته وذلك أيّام أوغسطس أوّل ملوك القياصرة وفي مدّة هيرودس ملك اليهود الّذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره فحسده اليهود وكذّبوه [2] وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره وافترق الحواريّون شيعا ودخل أكثرهم بلاد الرّوم داعين إلى دين النّصرانيّة وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثمّ كتبوا الإنجيل الّذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم فكتب متّى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانيّة ونقله يوحنّا بن زبدي منهم إلى اللّسان اللّاتينيّ وكتب لوقا منهم إنجيله باللّاتينيّ إلى بعض أكابر الرّوم وكتب يوحنّا بن زبدي منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللّاتينيّ ونسبه إلى مرقاص [3] تلميذه واختلفت هذه النّسخ الأربع من الإنجيل مع أنّها ليست كلّها
__________
[1] الجلوة: زفاف العروس وليس لها معنى هنا والأصح أن يقول الجلاء أو الجلو من جلا.
[2] أي حسدوا المسيح وكذبوه.
[3] وهو مرقص الرسول.(1/289)
وحيا صرفا بل مشوبة بكلام عيسى عليه السّلام وبكلام الحواريّين وكلّها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جدا واجتمع الحواريّون الرّسل لذلك العهد برومة ووضعوا قوانين الملّة النّصرانيّة وصيّروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب الّتي يجب قبولها والعمل بها.
فمن شريعة اليهود القديمة التّوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيّين لابن كريون ثلاثة [1] وكتاب عزرا الإمام وكتاب أوشير [2] وقصّة هامان وكتاب أيّوب الصّدّيق ومزامير داود عليه السّلام وكتب ابنه سليمان عليه السّلام خمسة ونبؤات الأنبياء الكبار والصّغار ستّة عشر وكتاب يشوع بن شارخ [3] وزير سليمان. ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقّاة من الحواريّين نسخ الإنجيل الأربع وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الإبريكسيس في قصص الرّسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبو غالمسيس وفيه رؤيا يوحنّا بن زبدي. واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشّريعة تارة وتعظيم أهلها ثمّ تركها أخرى والتّسلّط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمرّوا عليها. وكان صاحب هذا الدّين والمقيم لمراسيمه يسمّونه البطرك وهو رئيس الملّة عندهم وخليفة المسيح فيهم يبعث نوّابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النّصرانيّة ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمّون الإمام الّذي يقيم الصّلوات ويفتيهم في الدّين بالقسّيس ويسمّون المنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالرّاهب.
وأكثر خلواتهم في الصّوامع وكان بطرس الرّسول رأس الحواريّين وكبير
__________
[1] وفي التوراة: سفر المكابيين (بتشديد الميم والكاف) الأول والثاني وليس هناك ثالث. ولم يرد ذكر ابن كريون وربما تكون محرفة عن اسم الرجل الّذي اختصر اسفار المكابيين واسمه (يس الكريوني) نسبة إلى كريان وهي الاسم القديم لمقاطعة برقة في ليبيا.
[2] هو سفر استير (التوراة) .
[3] هو يشوع بن سيراخ (التوراة) .(1/290)
التّلاميذ برومة يقيم بها دين النّصرانيّة إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثمّ قام بخلافته في كرسيّ رومة آريوس [1] وكان مرقاس الإنجيليّ بالإسكندريّة ومصر والمغرب داعيا سبع سنين فقام بعده حنانيّا وتسمّى بالبطرك وهو أوّل البطاركة فيها وجعل معه اثني عشر قسّا على أنّه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحدا مكان ذلك الثّاني عشر فكان أمر البطاركة إلى القسوس ثمّ لمّا وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيّام قسطنطين لتحرير الحقّ في الدّين واتّفق ثلاثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدّين فكتبوه وسمّوه الإمام وصيّروه أصلا يرجعون إليه وكان فيما كتبوه أنّ البطرك القائم بالدّين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسّة كما قرّره حنانيّا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرّأي وإنّما يقدّم عن بلاء واختبار [2] من أئمّة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك.
ثمّ اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدّين وكانت لهم مجتمعات في تقريره ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك واتّصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيما له فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركيّة هرقل بإسكندريّة فأرادوا أن يميّزوا البطرك عن الأسقف في التّعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الآباء وظهر هذا الاسم أوّل ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تأريخه ثمّ نقلوه إلى صاحب الكرسيّ الأعظم عندهم وهو كرسيّ بطرس الرّسول كما قدّمناه فلم يزل سمة عليه حتّى الآن ثمّ اختلفت النّصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح
__________
[1] كذا بالأصل وهو خطأ. لأن اريوس قسيس، ولم يتولّ مطلقا كرسي الباباوية ولا ما يقرب منها. وله مذهب خاص يقول بنفي الطبيعة اللاهوتية للمسيح، ولذلك حكم مجمع نيقية بتجريده من ألقابه الكهونية سنة 325 م.
[2] وفي بعض النسخ ملاء واختبار.(1/291)
وصاروا طوائف وفرقا واستظهروا بملوك النّصرانيّة كلّ على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرّت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفتون إلى غيرها وهم الملكيّة واليعقوبيّة والنّسطوريّة ثمّ اختصّت كلّ فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمّى بالبابا على رأي الملكيّة ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك النّاحية وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبيّة وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك.
واختصّ اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد ولا تسمّي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم وضبط هذه اللّفظة بباءين موحّدتين من أسفل والنّطق بها مفخّمة والثّانية مشدّدة ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنّه يحضّهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرّجا من افتراق الكلمة ويتحرّى به العصبيّة الّتي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمّونه الإنبرذور [1] وحرفه الوسط بين الذّال والظاء المعجمتين ومباشره يضع التّاج على رأسه للتّبرّك فيسمّى المتوّج [2] ، ولعلّه معنى لفظة الإنبرذور وهذا ملخّص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللّذين هما البابا والكوهن والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان والقابها
اعلم أنّ السّلطان في نفسه ضعيف يحمّل أمرا ثقيلا فلا بدّ له من الاستعانة
__________
[1] المشهور قديما إمبراطور بالطاء المهملة والفرنسيس تقول (أمبرور) ومعناها عندهم ملك الملوك.
[2] أي أن البابا يضع التاج على رأس الامبراطور ثم يباركه.(1/292)
بأبناء جنسه وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه [1] فما ظنّك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده وهو محتاج إلى حماية الكافّة من عدوّهم بالمدافعة عنهم وإلى كفّ عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم وكفّ العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم [2] وإلى حملهم على مصالحهم وما تعمّهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقّد المعايش والمكاييل والموازين حذرا من التّطفيف وإلى النّظر في السّكّة بحفظ النّقود الّتي يتعاملون بها من الغشّ وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرّضى بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم فيتحمّل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب قال بعض الأشراف من الحكماء: «لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون عليّ من معاناة قلوب الرّجال» ثمّ إنّ الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النّسب أو التّربية أو الاصطناع القديم للدّولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتمّ المشاكلة في الاستعانة قال تعالى «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ به أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي 20: 29- 32» [3] وهو إمّا أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجّابه عن النّاس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النّظر في مهمّاتهم [4] أو يدفع النّظر في الملك كلّه [5] ويعوّل على كفايته في ذلك واضطلاعه فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص وقد يتفرّع كلّ واحد منها إلى فروع كثيرة كالقلم يتفرّع إلى قلم الرّسائل والمخاطبات وقلم الصّكوك والإقطاعات وإلى قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش وكالسّيف يتفرّع إلى صاحب الحرب وصاحب الشّرطة
__________
[1] المهنة الخدمة وجمعها مهن بكسر الميم.
[2] أبناء السبيل.
[3] سورة طه (الآية 29- 32) .
[4] معنى الجملة: ان الملك يستعين بسيف هذا في شئون الحرب وقلم ذاك في شئون الكتابة. ورأي آخر في شئون السياسة.
[5] الأصح أن يقول «يدفع النظر إليه في الملك كله»(1/293)
وصاحب البريد وولاية الثّغور ثمّ اعلم أنّ الوظائف السّلطانيّة في هذه الملّة الإسلاميّة مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدّين والدّنيا كما قدّمناه فالأحكام الشّرعيّة متعلّقة بجميعها وموجودة لكلّ واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلّق الحكم الشّرعيّ بجميع أفعال العباد والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسّلطان وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة وهو معنى السّلطان أو تعويضا منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السّياسات مطلقا أو مقيّدا وفي موجبات العزل إن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسّلطان وكذا في سائر الوظائف الّتي تحت الملك والسّلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بدّ للفقيه من النّظر في جميع ذلك كما قدّمناه من انسحاب حكم الخلافة الشّرعيّة في الملّة الإسلاميّة على رتبة الملك والسّلطان إلّا أنّ كلامنا في وظائف الملك والسّلطان ورتبته إنّما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصّها من أحكام الشّرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشّرعيّة مع أنّها مستوفاة في كتب الأحكام السّلطانيّة مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماورديّ وغيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك وإنّما تكلّمنا في الوظائف الخلافيّة وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السّلطانيّة فقط لا لتحقيق أحكامها الشّرعيّة فليس من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنسانيّ والله الموفّق.
الوزارة:
وهي أمّ الخطط السّلطانيّة والرّتب الملوكيّة لأنّ اسمها يدلّ على مطلق الإعانة فإنّ الوزارة مأخوذة إمّا من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثّقل كأنّه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة وقد كنّا قدّمنا في أوّل الفصل أنّ أحوال السّلطان وتصرّفاته لا تعدو أربعة لأنّها إمّا أن تكون في أمور حماية الكافّة وأسبابها من النّظر في الجدّ والسّلاح والحروب وسائر أمور(1/294)
الحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدّول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإمّا أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمّى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإمّا أن يكون في مدافعة النّاس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الّذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكلّ خطّة أو رتبة من رتب الملك والسّلطان فإليها ترجع. إلّا أنّ الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامّة فيما تحت يد السّلطان من ذلك الصّنف إذ هو يقتضي مباشرة السّلطان دائما ومشاركته في كلّ صنف من أحوال ملكه وأمّا ما كان خاصّا ببعض النّاس أو ببعض الجهات فيكون دون الرّتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصّة أو النّظر في أمر خاصّ كحسبة الطّعام أو النّظر في السّكّة فإنّ هذه كلّها نظر في أحوال خاصّة فيكون صاحبها تبعا لأهل النّظر العامّ وتكون رتبته مرءوسة لأولئك. وما زال الأمر في الدّول قبل الإسلام هكذا حتّى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلّها بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعيّ من المعاونة بالرّأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بدّ منه فكان صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاته العامّة والخاصّة ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدّول وأحوالها في كسرى وقيصر والنّجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام وكذا عمر مع أبي بكر وعليّ وعثمان مع عمر وأمّا حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأنّ القوم كانوا عربا أميّين لا يحسنون الكتاب [1] والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب [2] أو أفرادا من موالي العجم ممّن يجيده وكان قليلا فيهم
__________
[1] أي الكتابة.
[2] أهل الكتاب: أي النصارى واليهود.(1/295)
وأمّا أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأنّ الأميّة كانت صفتهم الّتي امتازوا بها وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصّة للأمّيّة الّتي كانت فيهم والأمانة العامّة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السّياسة إلى اختياره لأنّ الخلافة إنّما هي دين ليست من السّياسة الملكيّة في شيء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأنّ الكلّ كانوا يعبّرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلّا الخطّ فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عنّ له من يحسنه وأمّا مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظورا بالشّريعة فلم يفعلوه فلمّا انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السّلطان وألقابه كان أوّل شيء بدئ به في الدّولة شأن الباب وسدّه دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعليّ ومعاوية وعمر بن العاصي وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام النّاس عليهم وشغلهم بهم عن المهمّات فاتّخذوا من يقوم لهم بذلك وسمّوه الحاجب وقد جاء أنّ عبد الملك لمّا ولّى حاجبه قال له «قد ولّيتك حجابة بابي إلّا عن ثلاثة المؤذّن للصّلاة فإنّه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطّعام لئلّا يفسد» ثمّ استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير وبقي أمر الحسبان في الموالي والذّمّيّين واتّخذ للسّجلّات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السّلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنّه إنّما احتيج له من حيث الخطّ والكتاب لا من حيث اللّسان الّذي هو الكلام إذ اللّسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أميّة فكان النّظر للوزير عامّا في أحوال التّدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النّظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهليّة وغير ذلك فلمّا جاءت دولة بني العبّاس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت وعظم شأن الوزير وصارت إليه النّيابة في إنفاذ الحلّ والعقد(1/296)
تعيّنت مرتبته في الدّولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرّقاب وجعل لها النّظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطّته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النّظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النّظر فيه ثمّ جعل له النّظر في القلم والتّرسيل لصون أسرار السّلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللّسان قد فسد عند الجمهور وجعل الخاتم لسجلّات السّلطان ليحفظها من الذّياع والشّياع [1] ودفع إليه فصار اسم الوزير جامعا لخطّتي السّيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتّى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسّلطان أيّام الرّشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدّولة ولم يخرج عنه من الرّتب السّلطانيّة كلّها إلّا الحجابة الّتي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثمّ جاء في الدّولة العبّاسيّة شأن الاستبداد على السّلطان [2] وتعاور فيها استبداد الوزارة مرّة والسّلطان أخرى وصار الوزير إذا استبدّ محتاجا إلى استنابة الخليفة إيّاه لذلك لتصحّ الأحكام الشّرعيّة وتجيء على حالها كما تقدّمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السّلطان قائما على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبدّا عليه ثمّ استمرّ الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطّل رسم الخلافة ولم يكن لأولئك المتغلّبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللّقب لأنّهم خول لهم فتسمّوا بالإمارة والسّلطان وكان المستبدّ على الدّولة يسمّى أمير الأمراء أو بالسّلطان إلى ما يحلّيه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولّاها للخليفة في خاصّته ولم يزل هذا الشّأن عندهم إلى آخر دولتهم وفسد اللّسان خلال ذلك كلّه وصارت صناعة ينتحلها بعض النّاس فامتهنت وترفّع الوزراء عنها لذلك ولأنّهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخيّر لها من سائر الطّبقات واختصّت به وصارت خادمة للوزير واختصّ اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية
__________
[1] الذياع والشياع: ليسا من مصادر ذاع وشاع والأصح أن يقول: الذيوع والشيوع.
[2] أي الخليفة كما يتضح من العبارة اللاحقة.(1/297)
على أهل الرّتب وأمره نافذ في الكلّ إمّا نيابة أو استبدادا واستمرّ الأمر على هذا ثمّ جاءت دولة التّرك آخرا بمصر فرأوا أنّ الوزارة قد ابتذلت بترفّع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعقّب بنظر الأمير فصارت مرءوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرّتبة العالية في الدّولة عن اسم الوزارة وصار صاحب الأحكام والنّظر في الجند يسمّى عندهم بالنّائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختصّ اسم الوزير عندهم بالنّظر في الجباية. وأمّا دولة بني أميّة بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أوّل الدّولة ثمّ قسموا خطّته أصنافا وأفردوا لكلّ صنف وزيرا فجعلوا لحسبان المال وزيرا وللتّرسيل وزيرا وللنّظر في حوائج المتظلّمين وزيرا وللنّظر في أحوال أهل الثّغور وزيرا وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم وينفّذون أمر السّلطان هناك كلّ فيما جعل له وأفرد للتّردّد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السّلطان في كلّ وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشّأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطّة الحاجب ومرتبته على سائر الرّتب حتّى صار ملوك الطّوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمّى الحاجب كما نذكره ثمّ جاءت دولة الشّيعة بإفريقيّة والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أوّلا وتنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، ولمّا جاءت دولة الموحّدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أوّلا للبداوة ثمّ صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب وكان اسم الوزير لمن يحجب السّلطان في مجلسه ويقف بالوفود والدّاخلين على السّلطان عند الحدود في تحيّتهم وخطابهم والآداب الّتي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطّة الحجابة عنه ما شاءوا ولم يزل الشّأن ذلك إلى هذا العهد وأمّا في دولة التّرك بالمشرق فيسمّون هذا الّذي يقف بالنّاس على حدود الآداب في اللّقاء والتّحيّة في مجالس السّلطان والتّقدّم بالوفود بين يديه الدّويدار(1/298)
ويضيفون إليه استتباع كاتب السّرّ وأصحاب البريد المتصرّفين في حاجات السّلطان بالقاصية وبالحاضرة وحالهم على ذلك لهذا العهد والله مولّي الأمور لمن يشاء.
الحجابة:
قد قدّمنا أنّ هذا اللّقب كان مخصوصا في الدّولة الأمويّة والعبّاسيّة بمن يحجب السّلطان عن العامّة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته وكانت هذه منزّلة يوما عن الخطط مرءوسة لها إذ الوزير متصرّف فيها بما يراه وهكذا كانت سائر أيّام بني العبّاس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرءوسة لصاحب الخطّة العليا المسمّى بالنّائب. وأمّا في الدّولة الأمويّة بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السّلطان عن الخاصّة والعامّة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجّابهم ثمّ لمّا جاء الاستبداد على الدّولة اختصّ المستبدّ باسم الحجابة لشرفها فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك ولمّا بدوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطّوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدّونه شرفا لهم وكان أعظمهم ملكا بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بدّ له من ذكر الحاجب وذي الوزارتين يعنون به السّيف والقلم ويدلّون بالحجابة على حجابة السّلطان عن العامّة والخاصّة وبذي الوزارتين عن جمعه لخطّتي السّيف والقلم. ثمّ لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة الّتي كانت فيهم وربّما يوجد في دولة العبيديّين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلّا أنّه قليل. ولمّا جاءت دولة الموحّدين لم تستمكن فيها الحضارة الدّاعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلّا آخرا فلم يكن عندهم من الرّتب إلّا الوزير فكانوا أوّلا يخصّون بهذا الاسم الكاتب المتصرّف المشارك للسّلطان في خاصّ أمره كابن عطيّة وعبد السّلام الكوميّ وكان له مع ذلك النّظر في الحساب والأشغال الماليّة ثمّ صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب(1/299)
الدّولة من الموحّدين كابن جامع وغيره ولم يكن اسم الحاجب معروفا في دولتهم يومئذ. وأمّا بنو أبي حفص بإفريقيّة فكانت الرّئاسة في دولتهم أوّلا والتّقدّم لوزير والرّأي والمشورة وكان يخصّ باسم شيخ الموحّدين وكان له النّظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختصّ الحسبان والدّيوان برتبة أخرى ويسمّى متولّيها بصاحب الأشغال ينظر فيها النّظر المطلق في الدّخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التّفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحّدين واختصّ عندهم القلم أيضا بمن يجيد التّرسيل ويؤتمن على الأسرار لأنّ الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا التّرسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النّسب واحتاج السّلطان لاتّساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاصّ بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والإصطبلات وغيرهما وحصر الذّخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصّوه باسم الحاجب وربّما أضافوا إليه كتابة العلامة على السّجلّات إذا اتّفق أنّه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره واستمرّ الأمر على ذلك وحجب السّلطان نفسه عن النّاس فصار هذا الحاجب واسطة بين النّاس وبين أهل الرّتب كلّهم ثمّ جمع له آخر الدّولة السّيف والحرب ثمّ الرأي والمشورة فصارت الخطّة أرفع الرّتب وأوعبها [1] للخطط ثمّ جاء الاستبداد والحجر مدّة من بعد السّلطان الثّاني عشر منهم ثمّ استبدّ بعد ذلك حفيده السّلطان أبو العبّاس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطّة الحجابة الّتي كانت سلّما إليه وباشر أموره كلّها بنفسه من غير استعانة بأحد والأمر على ذلك لهذا العهد.
وأمّا دولة زناتة بالمغرب وأعظمها دولة بني مرين فلا أثر لاسم الحاجب عندهم وأمّا رئاسة الحرب والعساكر فهي للوزير ورتبة القلم في الحسبان والرّسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصّت ببعض البيوت المصطنعين في
__________
[1] بمعنى استيعابها للخطط.(1/300)
دولتهم وقد تجمع عندهم وقد تفرّق وأمّا باب السّلطان وحجبه عن العامّة فهي رتبة عندهم فيسمّى صاحبها عندهم بالمزوار ومعناه المقدّم على الجنادرة المتصرّفين بباب السّلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك فالباب له وأخذ النّاس بالوقوف عند الحدود في دار العامّة راجع إليه فكأنّها وزارة صغرى. وأمّا دولة بني عبد الوادّ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها وإنّما يخصّون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفّذ الخاصّ بالسّلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسّجلّ كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدّولة بما كانوا في تبعتها وقائمين بدعوتها منذ أوّل أمرهم.
وأمّا أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ حال السّلطان وسائر الأمور الماليّة يسمّونه بالوكيل وأمّا الوزير فكالوزير إلّا أنّه يجمع له التّرسيل والسّلطان عندهم يضع خطّه على السّجلّات كلّها فليس هناك خطّة العلامة كما لغيرهم من الدّول. وأمّا دولة التّرك بمصر فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشّوكة وهم التّرك ينفّذ الأحكام بين النّاس في المدينة وهم متعدّدون وهذه الوظيفة عندهم تحت وظيفة النّيابة الّتي لها الحكم في أهل الدّولة وفي العامّة على الإطلاق وللنّائب التّولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويبتها وتنفّذ أوامره كما تنفّذ المراسم السّلطانيّة وكان له النّيابة المطلقة عن السّلطان وللحجّاب الحكم فقط في طبقات العامّة والجند عند التّرافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النّيابة والوزير في دولة التّرك هو صاحب جباية الأموال في الدّولة على اختلاف أصنافها من خراج أو مكس أو جزية ثمّ في تصريفها في الإنفاقات السّلطانيّة أو الجرايات المقدّرة وله مع ذلك التّولية والعزل في سائر العمّال المباشرين لهذه(1/301)
الجباية والتّنفيذ على اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة وقد يولّيها السّلطان بعض الأحيان لأهل الشّوكة من رجالات التّرك أو أبنائهم على حسب الدّاعية لذلك والله مدبّر الأمور ومصرّفها بحكمته لا إله إلّا هو ربّ الأوّلين والآخرين
ديوان الأعمال والجبايات
اعلم أنّ هذه الوظيفة من الوظائف الضّروريّة للملك وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدّولة في الدّخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إبّاناتها والرّجوع في ذلك إلى القوانين الّتي يرتّبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدّولة وهي كلّها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدّخل والخرج مبنيّ على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلّا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمّى ذلك الكتاب بالدّيوان وكذلك مكان جلوس العمّال المباشرين لها. ويقال إنّ أصل هذه التّسمية أنّ كسرى نظر يوما إلى كتّاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنّهم يحادثون فقال ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمّي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان ثمّ نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمّن للقوانين والحسبانات وقيل إنّه اسم للشّياطين بالفارسيّة سمّي الكتّاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجليّ منها والخفيّ وجمعهم لما شذّ وتفرّق ثمّ نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال وعلى هذا فيتناول اسم الدّيوان كتاب الرّسائل ومكان جلوسه بباب السّلطان على ما يأتي بعد وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كلّ صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدّول النّظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدّولة وما(1/302)
قرّره أوّلوها. واعلم أنّ هذه الوظيفة إنّما تحدث في الدّول عند تمكّن الغلب والاستيلاء والنّظر في أعطاف الملك وفنون التّمهيد. وأوّل من وضع الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالدّيوان وقال: «رأيت ملوك الشّام يدوّنون» فقبل منه عمر وقيل بل أشار عليه به الهرمزان لمّا رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإنّ من تخلّف أخلّ بمكانه وإنّما يضبط ذلك الكتاب فأثبت لهم ديوانا وسأل عمر عن اسم الدّيوان فعبّر له ولمّا اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتّاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلاميّة على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما بعدها الأقرب فالأقرب هكذا كان ابتداء ديوان الجيش وروى الزّهريّ بن سعيد بن المسيّب أنّ ذلك كان في المحرّم سنة عشرين وأمّا ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسيّة وديوان الشّام بالرّوميّة وكتّاب الدّواوين من أهل العهد من الفريقين ولمّا جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأميّة إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتّاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد والي الأردنّ لعهده أن ينقل ديوان الشّام إلى العربيّة فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتّاب الرّوم: «اطلبوا العيش في غير هذه الصّناعة فقد قطعها الله عنكم» . وأمّا ديوان العراق فأمر الحجّاج كاتبه صالح بن عبد الرّحمن وكان يكتب بالعربيّة والفارسيّة ولقّن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجّاج قبله ولمّا قتل زادان في حرب عبد الرّحمن بن الأشعث استخلف الحجّاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الدّيوان من الفارسيّة(1/303)
إلى العربيّة ففعل ورغم لذلك كتّاب الفرس وكان عبد الحميد بن يحيى يقول للَّه درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب ثمّ جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العبّاس مضافة إلى من كان له النّظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدّولة. وأمّا ما يتعلّق بهذه الوظيفة من الأحكام الشّرعيّة ممّا يختصّ بالجيش أو بيت المال في الدّخل والخرج وتمييز النّواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط النّاظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السّلطانيّة وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم فيها من حيث طبيعة الملك الّذي نحن بصدد الكلام فيه وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأنّ الملك لا بدّ له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السّيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رئاسة الملك وكذلك كان الأمر في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف بعدهم وأمّا في دولة الموحّدين فكان صاحبها إنّما يكون من الموحّدين يستقلّ بالنّظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقّب نظر الولاة والعمّال فيها ثمّ تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربّما يليها في الجهات غير الموحّدين ممّن يحسنها. ولمّا استبدّ بنو أبي حفص بإفريقيّة وكان شان الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النّظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحّدين ثمّ استقلّ بها أهل الحسبان والكتّاب وخرجت عن الموحّدين ثمّ لمّا استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كلّ شأن من شئون الدّولة تعطّل هذا الرّسم وصار صاحبه مرءوسا للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرّئاسة الّتي كانت له في الدّولة. وأمّا دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان(1/304)
العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرّتبة هو الّذي يصحّح الحسبانات كلّها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقّب بنظر السّلطان أو الوزير وخطّه معتبر في صحّة الحسبان في الخارج والعطاء هذه أصول الرّتب والخطط السّلطانيّة وهي الرّتب العالية الّتي هي عامّة النّظر ومباشرة للسّلطان. وأمّا هذه الرّتبة في دولة التّرك فمتنوّعة وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو النّاظر في ديوان الجباية العامّة للدّولة وهو أعلى رتب النّاظرين في الأموال لأنّ النّظر في الأموال عندهم يتنوّع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتّساع الأموال والجبايات عن أن يستقلّ بضبطها الواحد من الرّجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعيّن للنّظر العامّ منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السّلطان وأهل عصبيّته وأرباب السّيوف في الدّولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمّى عندهم أستاذ الدّولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدّولة من الجند وأرباب السّيوف ويتبع هذه الخطّة خطط عندهم أخرى كلّها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النّظر إلى أمور خاصّة مثل ناظر الخاصّ وهو المباشر لأموال السّلطان الخاصّة به من إقطاعاته أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية ممّا ليس من أموال المسلمين العامّة وهو تحت يد الأمير أستاذ الدّار وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لأستاذ الدّار نظر عليه ونظر الخاصّ تحت يد الخازن لأموال السّلطان من مماليكه المسمّى خازن الدّار لاختصاص وظيفتهما بمال السّلطان الخاصّ. هذا بيان هذه الخطّة بدولة التّرك بالمشرق بعد ما قدّمناه من أمرها بالمغرب والله مصرّف الأمور لا ربّ غيره.
ديوان الرسائل والكتابة
هذه الوظيفة غير ضروريّة في الملك لاستغناء كثير من الدّول عنها رأسا كما(1/305)
في الدّول العريقة في البداوة الّتي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصّنائع وإنّما أكّد الحاجة إليها في الدّولة الإسلاميّة شأن اللّسان العربيّ والبلاغة في العبارة عن المقاصد فصار الكتّاب يؤدّي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللّسانيّة في الأكثر وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصّحابة بالشّام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم فلمّا فسد اللّسان وصار صناعة اختصّ بمن يحسنه وكانت عند بني العبّاس رفيعة وكان الكاتب يصدر السّجلّات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السّلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السّلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمّى طين الختم ويطبع به على طرفي السّجلّ عند طيّه وإلصاقه ثمّ صارت السّجلّات من بعدهم تصدّر باسم السّلطان ويضع الكاتب فيها علامته أوّلا أو آخرا على حسب الاختيار في محلّها وفي لفظها ثمّ قد تنزل هذه الخطّة بارتفاع المكان عند السّلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدّولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرّئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرّئيس كما وقع آخر الدّولة الحفصيّة لمّا ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التّفويض ثمّ الاستبداد صار حكم العلامة الّتي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة إتباعا لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخطّ يصنعه ويتخيّر له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة وقد يختصّ السّلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبدّا بأمره قائما على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته، ومن خطط الكتابة التّوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السّلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقّاة من السّلطان بأوجز لفظ وأبلغه فإمّا أن تصدر كذلك وإمّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سجلّ يكون بيد صاحب القصّة ويحتاج الموقّع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها(1/306)
توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقّع في القصص بين يدي الرّشيد ويرمي بالقصّة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتّى قيل إنّها كانت تباع كلّ قصّة منها بدينار وهكذا كان شأن الدّول، واعلم أنّ صاحب هذه الخطّة لا بدّ من أن يتخيّر أرفع طبقات النّاس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنّه معرّض للنّظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب والتّخلّق بالفضائل مع ما يضطرّ إليه في التّرسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها وقد تكون الرّتبة في بعض الدّول مستندة إلى أرباب السّيوف لما يقتضيه طبع الدّولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبيّة فيختصّ السّلطان أهل عصبيّته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلّد المال والسّيف والكتابة منهم فأمّا رتبة السّيف فتستغني عن معاناة العلم وأمّا المال والكتابة فيضطرّ إلى ذلك البلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطّبقة ما دعت إليه الضّرورة ويقلّدونه إلّا أنّه لا تكون يد آخر من أهل العصبيّة غالبة على يده ويكون نظره منصرفا عن نظره كما هو في دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فإنّ الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الإنشاء إلّا أنّه تحت يد أمير من أهل عصبيّة السّلطان يعرف بالدّويدار وتعويل السّلطان ووثوقه به واستنامته في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها. وأمّا الشّروط المعتبرة في صاحب هذه الرّتبة الّتي يلاحظها السّلطان في اختياره وانتقائه من أصناف النّاس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتّاب وهي: «أمّا بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم فإنّ الله عزّ وجلّ جعل النّاس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرّمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة(1/307)
سواء وصرّفهم في صنوف الصّناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتّاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرّزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلّا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم الّتي بها يسمعون وأبصارهم الّتي بها يبصرون وألسنتهم الّتي بها ينطقون وأيديهم الّتي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النّعمة عليكم وليس أحد من أهل الصّناعات كلّها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيّها الكتّاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإنّ الكاتب يحتاج في نفسه ويحتاج منه صاحبه الّذي يثق به في مهمّات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم مقداما في موضع الإقدام محجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيّا عند الشّدائد عالما بما يأتي من النّوازل يضع الأمور مواضعها والطّوارق في أماكنها قد نظر في كلّ فنّ من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعدّ لكلّ أمر عدّته وعتاده ويهيّئ لكلّ وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتّاب في صنوف الآداب وتفقّهوا في الدّين وابدءوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ والفرائض ثمّ العربيّة فإنّها ثقاف ألسنتكم ثمّ أجيدوا الخطّ فإنّه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النّظر في الحساب فإنّه قوام كتّاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنّها مذلّة للرّقاب مفسدة للكتّاب ونزّهوا صناعتكم عن الدّناءة واربأوا بأنفسكم عن السّعاية والنّميمة وما(1/308)
فيه أهل الجهالات وإيّاكم والكبر والسّخف والعظمة فإنّها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابّوا في الله عزّ وجلّ في صناعتكم وتواصوا عليها بالّذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنّبل من سلفكم وإن نبا الزّمان برجل منكم فاعطفوا عليه وآسوه حتّى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرّجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشّغل محمدة فلا يصفها إلّا إلى صاحبه وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه وليحذر السّقطة والزّلّة والملل عند تغيّر الحال فإنّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى القرّاء وهو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أنّ الرّجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقّه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سرّه وتدبير أمره ما هو جزاء لحقّه ويصدّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك وفّقكم الله من أنفسكم في حالة الرّخاء والشّدّة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسّرّاء والضّرّاء فنعمت السّيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصّناعة الشّريفة وإذا ولّي الرّجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عزّ وجلّ وليؤثر طاعته وليكن على الضّعيف رفيقا وللمظلوم منصفا «فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أرفقهم بعياله» ثمّ ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفّرا وللبلاد عامرا وللرّعيّة متألّفا وعن أذاهم متخلّفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلّات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عمّا يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أنّ سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا [1] لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوبا [2] اتّقاها من بين يديها وإن خاف
__________
[1] كثيرة الرفس.
[2] كثيرة رفع اليدين.(1/309)
منها شرودا توقّاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها [1] فإن استمرّت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السّياسة دلائل لمن ساس النّاس وعاملهم وجرّبهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من النّاس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرّفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة الّتي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلّا بقدر ما يصيّرها إليه صاحبها الرّاكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النّظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الرّويّة والفكر تأمنوا بإذن الله ممّن صحبتموه النّبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشّفقة إن شاء الله. ولا يجاوزنّ الرّجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقّه فإنّكم مع ما فضّلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التّقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التّضييع والتّبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كلّ ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف فإنّهما يعقبان الفقر ويذلّان الرّقاب ويفضحان أهلهما وسيّما الكتّاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلّوا على مؤتنف [2] أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثمّ اسلكوا من مسالك التّدبير أوضحها محجّة وأصدقها حجّة وأحمدها عاقبة واعلموا أنّ للتّدبير آفة متلفة وهو الوصف الشّاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه ورويّته فليقصد الرّجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإنّ ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتّشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضرّ ببدنه وعقله وأدبه فإنّه إن ظنّ منكم ظانّ أو قال قائل إنّ الّذي برز من جميل صنعته وقوّة حركته إنّما هو
__________
[1] بمعنى الضرب.
[2] الجديد الّذي لم تسبق فيه تجربة.(1/310)
بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرّض بظنّه أو مقالته إلى أن يكله الله عزّ وجلّ إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمّله غير خاف ولا يقل أحد منكم إنّه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التّدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإنّ أعقل الرّجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أنّ أصحابه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كلّ واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جلّ ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر [1] على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيرة وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتّواضع لعظمته والتّذلّل لعزّته والتّحدّث بنعمته وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النّصيحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرّة كلامه بعد الّذي فيه من ذكر الله عزّ وجلّ فلذلك جعلته آخره وتمّمته به تولّانا الله وإيّاكم يا معشر الطّلبة والكتبة بما يتولّى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإنّ ذلك إليه وبيده والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .
الشرطة:
ويسمّى صاحبها لهذا العهد بإفريقيّة الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة التّرك الوالي. وهي وظيفة مرءوسة لصاحب السّيف في الدّولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان وكان أصل وضعها في الدّولة العبّاسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلا ثمّ الحدود بعد استيفائها فإنّ التّهم الّتي تعرض في الجرائم لا نظر للشّرع إلّا في استيفاء حدودها وللسّياسة النّظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفّت به القرائن لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك فكان الّذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزّه عنه القاضي يسمّى صاحب الشّرطة وربّما جعلوا إليه النّظر في الحدود والدّماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي ونزّهوا هذه المرتبة وقلّدوها كبار القوّاد وعظماء الخاصّة من مواليهم ولم تكن عامّة التّنفيذ في
__________
[1] يتعاظم أو يفاخر.(1/311)
طبقات النّاس إنّما كان حكمهم على الدّهماء وأهل الرّيب والضّرب على أيدي الرّعاع والفجرة. ثمّ عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوّعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى وجعل حكم الكبرى على الخاصّة والدّهماء وجعل له الحكم على أهل المراتب السّلطانيّة والضّرب على أيديهم في الظّلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه وجعل صاحب الصّغرى مخصوصا بالعامّة ونصب لصاحب الكبرى كرسيّ بباب دار السّلطان ورجال يتبوّءون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلّا في تصريفه وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدّولة حتّى كانت ترشيحا للوزارة والحجابة.
وأمّا في دولة الموحّدين بالمغرب فكان لها حظّ من التّنويه وإن لم يجعلوها عامّة وكان لا يليها إلّا رجالات الموحّدين وكبراؤهم ولم يكن له التّحكّم على أهل المراتب السّلطانيّة ثمّ فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحّدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. وأمّا في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة التّرك بالمشرق في رجالات التّرك أو أعقاب أهل الدّولة قبلهم من التّرك يتخيّرونهم لها في النّظر بما يظهر منهم من الصّلابة والمضاء في الأحكام لقطع موادّ الفساد وحسم أبواب الدّعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشّرعيّة والسّياسيّة كما تقتضيه رعاية المصالح العامّة في المدينة والله مقلّب اللّيل والنّهار وهو العزيز الجبّار والله تعالى أعلم.
قيادة الأساطيل:
وهي من مراتب الدّولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرءوسة لصاحب السّيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمّى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللّام منقولا من لغة الإفرنجة فإنّه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنّما اختصّت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنّهما جميعا على ضفّة البحر الرّوميّ من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبيّة بلاد البربر كلّهم(1/312)
من سبتة إلى الشّام وعلى عدوته الشّماليّة بلاد الأندلس والإفرنجة والصّقالبة والرّوم إلى بلاد الشّام أيضا ويسمّى البحر الرّوميّ والبحر الشّاميّ نسبة إلى أهل عدوته والسّاكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمّة من أمم البحار فقد كانت الرّوم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشّماليّة من هذا البحر الرّوميّ وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السّفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولمّا أسفّ [1] من أسفّ منهم إلى ملك العدوة الجنوبيّة مثل الرّوم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا [2] في الأساطيل وملكوها وتغلّبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنّة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنّة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر السّاكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولمّا ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن صف لي البحر» فكتب إليه: «إنّ البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلّا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزديّ سيّد بجيلة لمّا أغزاه عمّان فبلغه غزوة في البحر فأنكر عليه وعنّفه أنّه ركب البحر للغزو ولم يزل الشّأن ذلك حتّى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التّقلّب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحريّة أمما وتكرّرت ممارستهم للبحر
__________
[1] دنا.
[2] قطعوا.(1/313)
وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشئوا السّفن فيه والشّواني وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشّام وإفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية باتّخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلّيّة أيّام زيادة الله الأوّل ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرّة أيضا في أيّامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلّيّة أيّام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديّين والأمويّين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السّواحل بالإفساد والتّخريب.
وانتهى أسطول الأندلس أيّام عبد الرّحمن النّاصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبا منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس ومرفأها للحطّ والإقلاع بجاية والمرية وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كلّ بلد تتّخذ فيه السّفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النّواتية يدبّر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبّر أمر جريته بالرّيح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطانيّ مهمّ عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السّلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلّهم إليه ثمّ يسرّحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة وكان المسلمون لعهدة الدّولة الإسلاميّة قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النّصرانيّة قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيّامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر(1/314)
الجزائر المنقطعة عن السّواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلّيّة وقوصرّة ومالطة وأقريطش وقبرس وسائر ممالك الرّوم والإفرنج وكان أبو القاسم الشّيعيّ وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهديّة جزيرة جنوة فتنقلب بالظّفر والغنيمة وافتتح مجاهد العامريّ صاحب دانية من ملوك الطّوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النّصارى لوقتها والمسلمون خلال ذلك كلّه قد تغلّبوا على كثير من لجّة هذا البحر وصارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلاميّة تجيز البحر في الأساطيل من صقلّيّة إلى البرّ الكبير المقابل لها من العدوة الشّماليّة فتوقع بملوك الأفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيّام بني الحسين ملوك صقلّيّة القائمين فيها بدعوة العبيديّين وانحازت أمم النّصرانيّة بأساطيلهم إلى الجانب الشّماليّ الشّرقيّ منه من سواحل الإفرنجة والصّقالبة وجزائر الرّومانيّة لا يعدونها وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدّة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا فلم تظهر للنّصرانيّة فيه ألواح حتّى إذا أدرك الدّولة العبيديّة والأمويّة الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مدّ النّصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشّرقيّة مثل صقلّيّة وإقريطش ومالطة فملكوها ثمّ ألحّوا على سواحل الشّام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكّا واستولوا على جميع الثّغور بسواحل الشّام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثمّ على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثمّ ملكوا المهدية مقرّ ملوك العبيديّين من يد أعقاب بلكّين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرّة بهذا البحر وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشّام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدّولة العبيديّة عناية تجاوزت الحدّ كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقيّة والمغرب فصارت مختصّة بها وكان الجانب الغربيّ من هذا(1/315)
البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوّة لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا. ولمّا استفحلت دولة الموحّدين في المائة السّادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطّة هذا الأسطول على أتمّ ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصّقلّيّ أصله من صدّ غيار الموطّنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النّصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلّيّة واستكفاه ثمّ هلك، وولي ابنه فأسخطه ببعض النّزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السّيّد بها من بني عبد المؤمن وأجاز مراكش فتلقّاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرّة والكرامة وأجزل الصّلة وقلّده أمر أساطيله فجلّى في جهاد أمم النّصرانيّة وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحّدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه ولمّا قام صلاح الدّين يوسف بن أيّوب ملك مصر والشّام لعهده باسترجاع ثغور الشّام من يد أمم النّصرانيّة وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثّغور من كلّ ناحية قريبة لبيت المقدس الّذي كانوا قد استولوا عليه فأمدّوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندريّة لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشّرقيّ من البحريّة وتعدّد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدّين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحّدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر، وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النّصرانيّة بثغور الشّام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيسانيّ يقول في افتتاحه(1/316)
«فتح الله لسيّدنا أبواب المناهج والميامن» حسبما نقله العماد الأصفهانيّ في كتاب الفتح القيسيّ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرّها في نفسه وحملهم على مناهج البرّ والكرامة وردّهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنّصرانيّة في الجانب الشّرقيّ من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدّول بمصر والشّام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحريّة والاستعداد منها للدّولة ولمّا هلك أبو يعقوب المنصور واعتلّت دولة الموحّدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر الّتي بالجانب الغربيّ من البحر الرّوميّ قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدّت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوّة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السّلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإنّ أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدّة النّصرانيّة وعديدهم ثمّ تراجعت عن ذلك قوّة المسلمين في الأساطيل لضعف الدّولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدويّة بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسيّة ورجع النّصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدّربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجّته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب إلّا قليلا من أهل البلاد السّاحليّة لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار والأعوان أو قلّة من الدّولة تستجيش لهم أعوانا وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا وبقيت الرّتبة لهذا العهد في الدّولة الغربيّة محفوظة والرّسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والرّكوب معهودا لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السّلطانيّة في البلاد البحريّة والمسلمون يستهبّون الرّيح على الكفر وأهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنّه لا بدّ للمسلمين من الكرّة على النّصرانيّة وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وأنّ ذلك يكون في الأساطيل والله وليّ المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/317)
الفصل الخامس والثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول
اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدّولة حيث تضعف عصبيّتهما كما ذكرناه ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم الّذي قدّمناه فتحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها كما كان الشّأن أوّل الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزيّة على القلم في الحالتين ويكون أرباب السّيف حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا وأمّا في وسط الدّولة فيستغني صاحبها بعض الشّيء عن السّيف لأنّه قد تمهّد أمره ولم يبق همّه إلّا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط ومباهاة الدّول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السّيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلّا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سدّ فرجة [1] وممّا سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السّلطان مجلسا وأكثر إليه تردّدا وفي خلواته نجيّا لأنّه حينئذ آلته الّتي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السّيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السّلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم أمّا بعد فإنّه ممّا حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدّهماء سنّة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] الفرجة: ج فرج: كل منفرج بين شيئين وهنا بمعنى خلل.(1/318)
الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أنّ للسّلطان شارات وأحوالا تقتضيها الأبّهة والبذخ فيختصّ بها ويتميّز بانتحالها عن الرّعيّة والبطانة وسائر الرّؤساء في دولته فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 12: 76» .
الآلة:
فمن شارات الملك اتّخاذ الآلة من نشر الألوية والرّايات وقرع الطّبول والنّفخ في الأبواق والقرون وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السّياسة أنّ السّرّ في ذلك إرهاب العدوّ في الحرب فإنّ الأصوات الهائلة لها تأثير في النّفوس بالرّوعة ولعمري إنّه أمر وجدانيّ في مواطن الحرب يجده كلّ أحد من نفسه وهذا السّبب الّذي ذكره أرسطو إن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. وأمّا الحقّ في ذلك فهو أنّ النّفس عند سماع النّغم والأصوات يدركها الفرح والطّرب بلا شكّ فيصيب مزاج الرّوح نشوة يستسهل بها الصّعب ويستميت في ذلك الوجه الّذي هو فيه وهذا موجود حتّى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصّفير والصّريح كما علمت ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتّخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقيّة [1] لا طبلا ولا بوقا فيحدق المغنّون بالسّلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحرّكون نفوس الشّجعان بضربهم إلى الاستماتة ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنّى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كلّ قرن إلى قرنه وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدّم الشّاعر عندهم أمام الصّفوف ويتغنّى فيحرّك بغنائه الجبال الرّواسي ويبعث على
__________
[1] قوله موسيقية وفي نسخة الموسيقارية وهي صحيحة لأن الموسيقى بكسر القاف بين التحتيتين اسم للنغم والألحان وتوقيعها ويقال فيها موسيقير ويقال لضارب الآلة موسيقار انظر أول سفينة الشيخ محمد شهاب.(1/319)
الاستماتة من لا يظنّ بها ويسمّون ذلك الغناء تاصوكايت وأصله كلّه فرح يحدث في النّفس فتنبعث عنه الشّجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح والله أعلم وأمّا تكثير الرّايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التّهويل لا أكثر وربّما تحدث في النّفوس من التّهويل زيادة في الاقدام وأحوال النّفوس وتلويناتها غريبة والله الخلّاق العليم. ثمّ إنّ الملوك والدّول يختلفون في اتّخاذ هذه الشّارات فمنهم مكثر ومنهم مقلّل بحسب اتّساع الدّولة وعظمها فأمّا الرّايات فإنّها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده من الخلفاء. وأمّا قرع الطّبول والنّفخ في الأبواق فكان المسلمون لأوّل الملّة متجافين عنه تنزّها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله واحتقارا لأبّهته الّتي ليست من الحقّ في شيء حتّى إذا انقلبت الخلافة ملكا وتبجّحوا بزهرة الدّنيا ونعيمها ولا بسهم الموالي من الفرس والرّوم أهل الدّول السّالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والتّرف فكان ممّا استحسنوه اتّخاذ الآلة فأخذوها وأذنوا لعمّالهم في اتّخاذها تنويها بالملك وأهله فكثيرا ما كان العامل صاحب الثّغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العبّاسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرّايات والآلات فلا يميّز بين موكب العامل والخليفة إلّا بكثرة الألوية وقلّتها أو بما اختصّ به الخليفة من الألوان لرأيته كالسّواد في رايات بني العبّاس فإنّ راياتهم كانت سودا حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بني أميّة في قتلهم ولذلك سمّوا المسوّدة، ولمّا افترق أمر الهاشميّين وخرج الطّالبيّون على العبّاسيين من كلّ جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتّخذوا الرّايات بيضا وسمّوا المبيضة لذلك سائر أيّام العبيديّين ومن خرج من الطّالبيّين في ذلك العهد بالمشرق كالدّاعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرّافضة من غيرهم كالقرامطة. ولمّا نزع المأمون عن لبس السّواد(1/320)
وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. وأمّا الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حدّ وقد كانت آلة العبيديين لمّا خرج العزيز إلى فتح الشّام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق. وأمّا ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصّوا بلون واحد بل وشّوها بالذّهب واتّخذوها من الحرير الخالص ملوّنة واستمرّوا على الإذن فيها لعمّالهم حتّى إذا جاءت دولة الموحّدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطّبول والبنود على السّلطان وحظروها على من سواه من عمّاله وجعلوا لها موكبا خاصّا يتبع أثر السّلطان في مسيره يسمّى السّاقة وهم فيه بين مكثر ومقلّ باختلاف مذاهب الدّول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبرّكا بالسّبعة كما هو في دولة الموحّدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة وقد بلغت في أيّام السّلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطّبول ومائة من البنود ملوّنة بالحرير منسوجة بالذّهب ما بين كبير وصغير ويأذنون للولاة والعمّال والقوّاد في اتّخاذ راية واحدة صغيرة من الكتّان بيضاء وطبل صغير أيّام الحرب لا يتجاوزون ذلك وأمّا دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فيتّخذون راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشّعر يسمّونها الشّالش والجتر وهي شعار السّلطان عندهم ثمّ تتعدّد الرّايات ويسمّونها السّناجق واحدها سنجق وهي الرّاية بلسانهم. وأمّا الطّبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمّونها الكوسات ويبيحون لكلّ أمير أو قائد عسكر أن يتّخذ من ذلك ما يشاء إلّا الجتر فإنّه خاصّ بالسلطان. وأمّا الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتّخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجوّ صعدا ومعها قرع الأوتار من الطّنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم وعمّن وراءهم من ملوك العجم ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم «إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ 30: 22»
.(1/321)
السرير:
وأمّا السّرير والمنبر والتّخت والكرسيّ فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضّدة لجلوس السّلطان عليها مرتفعا عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصّعيد ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم وقد كانوا يجلسون على أسرّة الذّهب وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسيّ وسرير من عاج مغشّى بالذّهب إلّا أنّه لا تأخذ به الدّول إلّا بعد الاستفحال والتّرف شأن الأبّهة كلّها كما قلناه وأمّا في أوّل الدّولة عند البداوة فلا يتشوّقون إليه. وأوّل من اتّخذه في الإسلام معاوية واستأذن النّاس فيه وقال لهم إني قد بدنت [1] فأذنوا له فاتّخذه واتّبعه الملوك الإسلاميّون فيه وصار من منازع الأبّهة ولقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذّهب محمولا على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه [2] وفاء له بما عقد معهم من الذّمّة واطّراحا لأبّهة الملك. ثمّ كان بعد ذلك لبني العبّاس والعبيديّين وسائر ملوك الإسلام شرقا وغربا من الأسرّة والمنابر والتّخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة والله مقلّب اللّيل والنّهار.
السكة:
وهي الختم على الدّنانير والدّراهم المتعامل بها بين النّاس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدّينار أو الدّرهم فتخرج رسوم تلك النّقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النّقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسّبك مرّة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدّراهم والدّنانير بوزن معيّن صحيح يصطلح عليه فيكون التّعامل بها عددا وإن لم تقدّر أشخاصها يكون التّعامل بها وزنا ولفظ السّكّة كان اسما للطّابع وهي الحديدة المتّخذة لذلك ثمّ نقل إلى أثرها وهي النّقوش الماثلة على الدّنانير والدّراهم ثمّ نقل إلى القيام على ذلك والنّظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علما
__________
[1] أي سمنت والبدن: عظم بدنه بكثرة لحمه، أصبح جسيما (قاموس)
[2] أي يهجمون على المقوقس.(1/322)
عليها في عرف الدّول وهي وظيفة ضروريّة للملك إذ بها يتميّز الخالص من المغشوش بين النّاس في النّقود عند المعاملات ويتّقون في سلامتها الغشّ بختم السّلطان عليها بتلك النّقوش المعروفة وكان ملوك العجم يتّخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السّلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشّأن عند العجم إلى آخر أمرهم. ولمّا جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدّين وبداوة العرب وكانوا يتعاملون بالذّهب والفضّة وزنا وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم ويردّونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغشّ في الدّنانير والدّراهم لغفلة الدّولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجّاج على ما نقل سعيد بن المسيّب وأبو الزّناد بضرب الدّراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدائنيّ سنة خمس وسبعين ثمّ أمر بصرفها في سائر النّواحي سنة ستّ وسبعين وكتب عليها «الله أحد الله الصّمد» ثمّ ولّي ابن هبيرة العراق أيّام يزيد بن عبد الملك فجوّد السّكّة [1] ثمّ بالغ خالد القسريّ في تجويدها ثمّ يوسف بن عمر بعده وقيل أوّل من ضرب الدّنانير والدّراهم مصعب بن الزّبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لمّا ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين «بركة الله» وفي الآخر «اسم الله» ثمّ غيّرها الحجّاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجّاج وقدّر وزنها على ما كانت استقرّت أيّام عمر وذلك أنّ الدّرهم كان وزنه أوّل الإسلام ستّة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل وكان السّبب في ذلك أنّ أوزان الدّرهم أيّام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطا ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلمّا احتيج إلى تقديره في الزّكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطا فكان المثقال درهما وثلاثة أسباع درهم وقيل كان منها البغليّ بثمانية دوانق والطّبريّ أربعة دوانق والمغربيّ ثمانية دوانق واليمنيّ ستّة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في
__________
[1] وكانت الدنانير تسمى بالهبيرية نسبة إلى ابن هبيرة. واشتهرت بجودتها.(1/323)
التّعامل فكان البغليّ والطّبريّ اثني عشر دانقا وكان الدّرهم ستّة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالا وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهما فلمّا رأى عبد الملك اتّخاذ السّكّة لصيانة النّقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغشّ عيّن مقدارها على هذا الّذي استقرّ لعهد عمر رضي الله عنه. واتّخذ فيه كلمات لا صورا، لأنّ العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أنّ الشّرع ينهى عن الصّور فلمّا فعل ذلك استمرّ بين النّاس في أيّام الملّة كلّها وكان الدّينار والدّرهم على شكلين مدوّرين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلا وتحميدا وصلاة على النّبيّ وآله. وفي الوجه الثّاني التّاريخ واسم الخليفة وهكذا أيّام العبّاسيّين والعبيديّين والأمويّين وأمّا صنهاجة فلم يتّخذوا سكّة إلّا آخر الأمر اتّخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه ولمّا جاءت دولة الموحّدين كان ممّا سنّ لهم المهديّ اتّخاذ سكّة الدّرهم مربّع الشّكل وأن يرسم في دائرة الدّينار شكل مربّع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلا وتحميدا ومن الجانب الآخر كتبا في السّطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحّدون وكانت سكّتهم على هذا الشّكل لهذا العهد ولقد كان المهديّ فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدّرهم المربّع نعته بذلك المتكلّمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته وأمّا أهل المشرق لهذا العهد فسكّتهم غير مقدّرة وإنّما يتعاملون بالدّنانير والدّراهم وزنا بالصّنجات المقدّرة بعدّة منها ولا يطبعون عليها بالسّكّة نقوش الكلمات بالتّهليل والصّلاة واسم السّلطان كما يفعله أهل المغرب «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 6: 96» .
ولنختم الكلام في السّكّة بذكر حقيقة الدّرهم والدّينار الشّرعيّين وبيان حقيقة مقدارهما.
مقدار الدرهم والدينار الشرعيين
وذلك أنّ الدّينار والدّرهم مختلفا السّكّة في المقدار والموازين بالآفاق(1/324)
والأمصار وسائر الأعمال والشّرع قد تعرّض لذكرهما وعلّق كثيرا من الأحكام بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها فلا بدّ لهما عنده من حقيقة ومقدار معيّن في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشّرعيّ منهما فاعلم أنّ الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصّحابة والتّابعين أنّ الدّرهم الشّرعيّ هو الّذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذّهب والأوقيّة منه أربعين درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدّينار ووزن المثقال من الذّهب اثنتان وسبعون حبّة من الشّعير فالدّرهم الّذي هو سبعة أعشاره خمسون حبّة وخمسا حبّة وهذه المقادير كلّها ثابتة بالإجماع فإنّ الدّرهم الجاهليّ كان بينهم على أنواع أجودها الطّبريّ وهو أربعة دوانق والبغليّ وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشّرعيّ بينهما وهو ستّة دوانق فكانوا يوجبون الزّكاة في مائة درهم بغليّة ومائة طبريّة خمسة دراهم وسطا وقد اختلف النّاس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع النّاس بعد عليه كما ذكرناه. ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السّنن والماورديّ في الأحكام السّلطانيّة وأنكره المحقّقون من المتأخّرين لما يلزم عليه أن يكون الدّينار والدّرهم الشّرعيّان مجهولين في عهد الصّحابة ومن بعدهم مع تعلّق الحقوق الشّرعيّة بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه والحقّ أنّهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلّق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مستخصّ في الخارج وإنّما كان متعارفا بينهم بالحكم الشّرعيّ على المقدار في مقدارهما وزنتهما حتّى استفحل الإسلام وعظمت الدّولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشّرع ليستريحوا من كلفة التّقدير وقارن ذلك أيّام عبد الملك [1] فشخّص مقدارهما وعيّنهما في الخارج كما هو في الذّهن ونقش عليهما السّكّة باسمه وتأريخه أثر الشّهادتين الإيمانيّتين وطرح النّقود الجاهليّة رأسا حتّى خلصت ونقش عليها سكّة وتلاشى وجودها فهذا هو
__________
[1] مقتضى السياق «وقارن ذلك عبد الملك ... » .(1/325)
الحقّ الّذي لا محيد عنه ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السّكّة في الدّول على مخالفة المقدار الشّرعيّ في الدّينار والدّرهم واختلفت في كلّ الأقطار والآفاق ورجع النّاس إلى تصوّر مقاديرهما الشّرعيّة ذهنا كما كان في الصّدر الأوّل وصار أهل كلّ أفق يستخرجون الحقوق الشّرعيّة من سكّتهم بمعرفة النّسبة الّتي بينها وبين مقاديرها الشّرعيّة وأمّا وزن الدّينار باثنتين وسبعين حبّة من الشّعير الوسط فهو الّذي نقله المحقّقون وعليه الإجماع إلّا ابن حزم خالف ذلك وزعم أنّ وزنه أربع وثمانون حبّة. نقل ذلك عنه القاضي عبد الحقّ وردّه المحقّقون وعدّوه وهما وغلطا وهو الصّحيح والله يحقّ الحقّ بكلماته وكذلك تعلم أنّ الأوقيّة الشّرعيّة ليست هي المتعارفة بين النّاس لأنّ المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشّرعيّة متّحدة ذهنا لا اختلاف فيها والله خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
الخاتم
وأمّا الخاتم فهو من الخطط السّلطانيّة والوظائف الملوكيّة والختم على الرّسائل والصّكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ثبت في الصّحيحين أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له إنّ العجم لا يقبلون كتابا إلّا أن يكون مختوما فاتّخذ خاتما من فضّة ونقش فيه «محمّد رسول الله» قال البخاريّ جعل الثّلاث الكلمات ثلاثة أسطر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله قال وتختّم به أبو بكر وعمر وعثمان ثمّ سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتمّ عثمان وتطيّر منه وصنع آخر على مثله وفي كيفيّة نقش الخاتم والختم به وجوه وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة الّتي تجعل في الإصبع ومنه تختّم إذا لبسه ويطلق على النّهاية والتّمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النّبيّين وخاتم الأمر ويطلق على السّداد الّذي يسدّ به الأواني والدّنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى «خِتامُهُ مِسْكٌ 83: 26» وقد غلط من فسّر ذلك بالنّهاية والتّمام قال لأنّ آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنّما هو من الختام هو السّداد لأنّ الخمر(1/326)
يجعل لها في الدّنّ سداد الطّين أو القار يحفظها ويطيّب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنّة بأنّ سدادها من المسك وهو أطيب عرفا وذوقا من القار والطّين المعهودين في الدّنيا فإذا صحّ إطلاق الخاتم على هذه كلّها صحّ إطلاقه على أثرها النّاشئ عنها وذلك أنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثمّ غمس في مداف من الطّين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصّفح وكذلك إذا طبع به على جسم ليّن كالشّمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسما فيه وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النّقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النّقش من الجهة اليسرى لأنّ الختم يقلب جهة الخطّ في الصّفح عمّا كان في النّقش من يمين أو يسار فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطّين ووضعه في الصّفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتّمام بمعنى صحّة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتمّ العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام وقد يكون هذا الختم بالخطّ آخر الكتاب أو أوّله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السّلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخطّ علامة على صحّة الكتاب ونفوذه ويسمّى ذلك في المتعارف علامة، ويسمّى ختما تشبيها له بأثر الخاتم الآصفيّ [1] في النّقش ومن هذا خاتم القاضي الّذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطّه الّذي ينفّذ بهما أحكامه ومنه خاتم السّلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرّشيد ليحيى بن خالد لمّا أراد أن يستوزر جعفرا ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى: «يا أبت إني أردت أن أحوّل الخاتم من يميني إلى شمالي» فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرّسائل والصّكوك من وظائف الوزارة لعهدهم ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطّبريّ أنّ معاوية أرسل إلى
__________
[1] نسبة إلى آصف، كاتب النبي سليمان عليه السلام.(1/327)
الحسن عند مراودته إياه في الصّلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصّحيفة الّتي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصّحيفة بخطّه أو غيره ويحتمل أن يختم به في جسم ليّن فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السّداد كما مرّ وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم وأوّل من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنّه أمر لعمر بن الزّبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصيّر المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتّى قضاها عنه أخوه عبد الله واتّخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم. ذكره الطّبريّ وقال آخرون وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السّداد وديوان الختم عبارة عن الكتّاب القائمين على إنفاذ كتب السّلطان والختم عليها إمّا بالعلامة أو بالحزم وقد يطلق الدّيوان على مكان جلوس هؤلاء الكتّاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال والحزم للكتب يكون إمّا بدسّ الورق كما في عرف كتّاب المغرب وإمّا بإلصاق رأس الصّحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق وقد يجعل على مكان الدّسّ أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطّلاع على ما فيه فأهل المغرب يجعلون على مكان الدّسّ قطعة من الشّمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النّقش في الشّمع وكان في المشرق في الدّول القديمة يختم على مكان اللّصق بخاتم منقوش أيضا قد غمس في مداف من الطّين معدّ لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النّقش عليه وكان هذا الطّين في الدّولة العبّاسيّة يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنّه مخصوص بها فهذا الخاتم الّذي هو العلامة المكتوبة أو النّقش للسّداد والحزم للكتب خاصّ بديوان الرّسائل وكان ذلك للوزير في الدّولة العبّاسيّة ثمّ اختلف العرف وصار لمن إليه التّرسيل وديوان الكتّاب في الدّولة ثمّ صاروا في دول المغرب يعدّون من علامات الملك وشاراته الخاتم للإصبع فيستجيدون صوغه من الذّهب(1/328)
ويرصّعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزّمرّد ويلبسه السّلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدّولة العبّاسيّة والمظلّة في الدّولة العبيديّة والله مصرّف الأمور بحكمه.
الطراز:
من أبّهة الملك والسّلطان ومذاهب الدّول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختصّ بهم في طراز أثوابهم المعدّة للباسهم من الحرير أو الدّيباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطّها في نسج الثّوب إلحاما وإسداء بخيط الذّهب أو ما يخالف لون الثّوب من الخيوط الملوّنة من غير الذّهب على ما يحكمه الصّنّاع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثّياب الملوكيّة معلمة بذلك الطّراز قصد التّنويه بلابسها من السّلطان فمن دونه أو التّنويه بمن يختصّه السّلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطّراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معيّنة لذلك ثمّ اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السّجلّات وكان ذلك في الدّولتين من أبّهة الأمور وأفخم الأحوال وكانت الدّور المعدّة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمّى دور الطّراز لذلك وكان القائم على النّظر فيها يسمّى صاحب الطّراز، ينظر في أمور الصّباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم وكانوا يقلّدون ذلك لخواصّ دولتهم وثقات مواليهم وكذلك كان الحال في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف من بعدهم وفي دولة العبيديّين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق ثمّ لمّا ضاق نطاق الدّول عن التّرف والتّفنّن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء وتعدّدت الدّول تعطّلت هذه الوظيفة والولاية عليها من أكثر الدّول بالجملة ولمّا جاءت دولة الموحّدين بالمغرب بعد بني أميّة أوّل المائة السّادسة لم يأخذوا بذلك أوّل دولتهم لما كانوا عليه من منازع الدّيانة والسّذاجة الّتي لقّنوها عن إمامهم محمّد بن تومرت المهديّ وكانوا يتورّعون عن لباس(1/329)
الحرير والذّهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدّولة طرفا لم يكن بتلك النّباهة وأمّا لهذا العهد، فأدركنا بالمغرب في الدّولة المرينيّة لعنفوانها وشموخها رسما جليلا لقّنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتّبع هو في ذلك ملوك الطّوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر. وأمّا دولة التّرك بمصر والشّام لهذا العهد ففيها من الطّراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلّا أنّ ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنّما ينسج ما تطلبه الدّولة من ذلك عند صنّاعه من الحرير ومن الذّهب الخالص ويسمّونه المزركش لفظة أعجميّة ويرسم اسم السّلطان أو الأمير عليه ويعدّه الصّنّاع لهم فيما يعدّونه للدّولة من طرف الصّناعة اللّائقة بها «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالله خَيْرُ الْوَارِثِينَ» .
الفساطيط والسياج
اعلم أنّ من شارات الملك وترفه اتّخاذ الأخبية والفساطيط والفازات [1] من ثياب الكتّان والصّوف والقطن فيباهي بها في الأسفار وتنوّع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدّولة في الثّروة واليسار وإنّما يكون الأمر في أوّل الدّولة في بيوتهم الّتي جرت عادتهم باتّخاذها قبل الملك وكان العرب لعهد الخلفاء الأوّلين من بني أميّة إنّما يسكنون بيوتهم الّتي كانت لهم خياما من الوبر والصّوف ولم تزل العرب لذلك العهد بادين [2] إلّا الأقلّ منهم فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرّقة الأحياء يغيب كلّ واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب ولذلك ما كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد النّاس على أثره وأن يقيموا إذا ظعن.
__________
[1] مظلة بعامودين.
[2] من البداوة.(1/330)
ونقل أنّه استعمل في ذلك الحجّاج حين أشار به روح بن زنباع وقصّتهما في إحراق فساطيط روح وخيامه لأوّل ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصّة مشهورة. ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجّاج بين العرب فإنّه لا يتولّى إرادتهم على الظّعن إلّا من يأمن بوادر السّفهاء من أحيائهم بما له من العصبيّة الحائلة دون ذلك ولذلك اختصّه عبد الملك بهذه الرّتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيّته وصرامته فلمّا تفنّنت الدّولة العربيّة في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخفّ إلى ظهر الحافر اتّخذوا للسّكنى في أسفارهم ثياب الكتّان يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال مقدّرة الأمثال من القوراء [1] والمستطيلة والمربّعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزّينة ويدير الأمير والقائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجا من الكتّان يسمّى في المغرب بلسان البربر الّذي هو لسان أهله أفراك بالكاف والقاف ويختصّ به السّلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. وأمّا في المشرق فيتّخذه كلّ أمير وإن كان دون السّلطان ثمّ جنحت الدّعة بالنّساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخفّ لذلك ظهرهم وتقاربت السّياج بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسّلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهوا أنيقا لاختلاف ألوانه واستمرّ الحال على ذلك في مذاهب الدّول في بذخها وترفها. وكذا كانت دولة الموحّدين وزناتة الّتي أظلّتنا كان سفرهم أوّل أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطين [2] حتّى إذا أخذت الدّولة في مذاهب التّرف وسكنى القصور وعادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط بلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من التّرف بمكان إلّا أنّ العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصّيحة ولخفّتهم من الأهل
__________
[1] القوراء: الواسعة.
[2] القياطين: المخادع.(1/331)
والولد الّذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفّظ آخر والله القويّ العزيز.
المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة
وهما من الأمور الخلافيّة ومن شارات الملك الإسلاميّ ولم يعرف في غير دول الإسلام. فأمّا البيت المقصورة من المسجد لصلاة السّلطان فيتّخذ سياجا على المحراب فيحوزه وما يليه فأوّل من اتّخذها معاويّة بن أبي سفيان حين طعنه الخارجيّ والقصّة معروفة وقيل أوّل من اتّخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليمانيّ ثمّ اتّخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنّة في تمييز السّلطان عن النّاس في الصّلاة وهي إنّما تحدث عند حصول التّرف في الدّول والاستفحال شأن أحوال الأبّهة كلّها وما زال الشّأن ذلك في الدّول الإسلاميّة كلّها وعند افتراق الدّولة العبّاسيّة وتعدّد الدّول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدّولة الأمويّة وتعدّد ملوك الطّوائف وأمّا المغرب فكان بنو الأغلب يتّخذونها بالقيروان ثمّ الخلفاء العبيديّون ثمّ ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة ثمّ ملك الموحّدين سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرّسم على طريقة البداوة الّتي كانت شعارهم ولمّا استفحلت الدّولة وأخذت بحظّها من التّرف وجاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتّخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنّة لملوك المغرب والأندلس وهكذا كان الشّأن في سائر الدّول سنّة الله في عباده.
وأمّا الدّعاء على المنابر في الخطبة فكان الشّأن أوّلا عند الخلفاء ولاية الصّلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والرّضى عن أصحابه وأوّل من اتّخذ المنبر عمرو بن العاص لمّا بنى جامعه بمصر وأوّل من دعا للخليفة على المنبر ابن عبّاس دعا لعليّ رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها فقال اللَّهمّ انصر عليّا على الحقّ واتّصل العمل على ذلك فيما بعد وبعد أخذ(1/332)
عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطّاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطّاب أمّا بعد فقد بلغني أنّك اتّخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائما والمسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك إلّا ما كسرته فلمّا حدثت الأبّهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصّلاة استنابوا فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويها باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأنّ تلك السّاعة مظنّة للإجابة ولما ثبت عن السّلف في قولهم من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السّلطان وكان الخليفة يفرد بذلك فلمّا جاء الحجر والاستبداد صار المتغلّبون على الدّول كثيرا ما يشاركون الخليفة في ذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه وذهب ذلك بذهاب تلك الدّول وصار الأمر إلى اختصاص السّلطان بالدّعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد أو يسمو إليه وكثيرا ما يغفل المعاهدون من أهل الدّول هذا الرّسم عند ما تكون الدّولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التّغافل والخشونة ويقنعون بالدّعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين ويسمّون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عبّاسيّة يعنون بذلك أنّ الدّعاء على الإجمال إنّما يتناول العبّاسيّ تقليدا في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتّصريح باسمه يحكى أنّ يغمراسن بن زيّان عاهد دولة بني عبد الوادّ لمّا غلبه الأمير أبو زكريّا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثمّ بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا وكذلك يعقوب بن عبد الحقّ عاهد دولة بني مرين حضره رسول المنتصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلّف بعض أيّامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرّسول كراهية لخلوّ الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدّعاء له وكان ذلك سببا لأخذهم بدعوته وهكذا شأن الدّول في بدايتها وتمكّنها في الغضاضة والبداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم(1/333)
ونظروا في أعطاف ملكهم واستتمّوا شيات [1] الحضارة ومفاني البذخ والأبّهة انتحلوا جميع هذه السّمات وتفنّنوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلوّ دولتهم من آثارها والعالم بستان والله على كلّ شيء رقيب.
الفصل السابع والثلاثون في الحروب ومذاهب الأمم وترتيبها
اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليفة منذ براها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصّب لكلّ منها أهل عصبيّته فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطّائفتان إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعيّ في البشر لا تخلو عنه أمّة ولا جيل وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة. وإمّا عدوان وإمّا غضب للَّه ولدينه وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده فالأوّل أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة والثّاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشيّة السّاكنين بالقفر كالعرب والتّرك والتّركمان والأكراد وأشباههم لأنّهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب النّاس على ما في أيديهم والثّالث هو المسمّى في الشّريعة بالجهاد والرّابع هو حروب الدّول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب الصّنفان الأوّلان منها حروب بغي وفتنة والصّنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أوّل وجودهم على نوعين نوع بالزّحف
__________
[1] ألوان الحضارة.(1/334)
صفوفا ونوع بالكرّ والفرّ أمّا الّذي بالزّحف فهو قتال العجم كلّهم على تعاقب أجيالهم وأمّا الّذي بالكرّ والفرّ فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب وقتال الزّحف أوثق وأشدّ من قتال الكرّ والفرّ وذلك لأنّ قتال الزّحف ترتّب فيه الصّفوف وتسوّى كما تسوّى القداح أو صفوف الصّلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدوّ قدما، فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدوّ. لأنّه كالحائط الممتدّ والقصر المشيد لا يطمع في إزالته وفي التّنزيل «إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4» أي يشدّ بعضهم بعضا بالثّبات وفي الحديث الكريم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثّبات وتحريم التّولّي في الزّحف فإنّ المقصود من الصّفّ في القتال حفظ النّظام كما قلناه فمن ولّى العدوّ ظهره فقد أخلّ بالمصافّ وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنّه جرّها على المسلمين وأمكن منهم عدوّهم فعظم الذّنب لعموم المفسدة وتعدّيها إلى الدّين بخرق سياجه فعدّ من الكبائر ويظهر من هذه الأدلّة أنّ قتال الزّحف أشدّ عند الشّارع وأمّا قتال الكرّ والفرّ فليس فيه من الشّدّة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزّحف إلّا أنّهم قد يتّخذون وراءهم في القتال مصافّا ثابتا يلجئون إليه في الكرّ والفرّ ويقوم لهم مقام قتال الزّحف كما نذكره بعد. ثمّ إنّ الدّول القديمة الكثيرة الجنود المتّسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساما يسمّونها كراديس ويسوّون في كلّ كردوس صفوفه وسبب ذلك أنّه لمّا كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النّواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضا إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوّهم الطّعن والضّرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النّكراء [1] وجهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعا ويضمّون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتّبونها قريبا من التّرتيب الطّبيعيّ في الجهات الأربع ورئيس العساكر
__________
[1] نكراء الدهر: شدّته، النكر بفتح النون وضمها: الدهاء والفطنة. (المنجد) .(1/335)
كلّها من سلطان أو قائد في القلب ويسمّون هذا التّرتيب التّعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والرّوم والدّولتين وصدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه متميزا بقائده ورايته وشعاره ويسمّونه المقدّمة ثمّ عسكرا آخر ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمّونه الميمنة ثمّ عسكرا آخر من ناحية الشّمال كذلك يسمّونه الميسرة ثمّ عسكرا آخر من وراء العسكر يسمّونه السّاقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمّون موقفه القلب فإذا تمّ لهم هذا التّرتيب المحكم إمّا في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كلّ عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلّة والكثرة فحينئذ يكون الزّحف من بعد هذه التّعبئة وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدّولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلّف عن رحيله لبعد المدى في التّعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعيّن لذلك الحجّاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره وكان في الدّولة الأمويّة بالأندلس أيضا كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنّا إنّما أدركنا دولا قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطّائفتين معا يجمعهم لدينا حلّة [1] أو مدينة ويعرف كلّ واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغنى عن تلك التّعبئة.
ومن مذاهب أهل الكرّ والفرّ في الحروب ضرب المصافّ وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتّخذونها ملجأ للخيّالة في كرّهم وفرّهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب وقد يفعله أهل الزّحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدّة فقد كان الفرس وهم أهل الزّحف يتّخذون الفيلة في الحروب ويحمّلون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصّروح مشحونة بالمقاتلة والسّلاح والرّايات ويصفّونها وراءهم في حومة الحرب كأنّها حصون فتقوى بذلك نفوسهم
__________
[1] الحلة: ج حلل وحلال: كل ثوب جديد أو عموما الثوب الساتر لجميع البدن والحلّة: الزنبيل الكبير من القصب. والحلّة من الشيء جهته (المنجد) .(1/336)
ويزداد وثوقهم وانظر ما وقع من ذلك في القادسيّة وإنّ فارس في اليوم الثّالث اشتدّوا بهم على المسلمين حتّى اشتدّت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسّيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت [1] على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرّابع. وأمّا الرّوم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتّخذون لذلك الأسرّة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحفّ به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرّايات في أركان السّرير ويحدق به سياج آخر من الرّماة والرّجّالة فيعظم هيكل السّرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكرّ والفرّ وجعل ذلك الفرس أيّام القادسيّة وكان رستم [2] جالسا على سرير نصبه لجلوسه حتّى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحوّل عنه إلى الفرات وقتل. وأمّا أهل الكرّ والفرّ من العرب وأكثر الأمم البدويّة الرّحّالة فيصفّون لذلك إبلهم والظهر الّذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمّونها المجبوذة وليس أمّة من الأمم إلّا وهي تفعل في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرّة والهزيمة وهو أمر مشاهد وقد أغفلته الدّول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظّهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف. وكان الحرب أوّل الإسلام كلّه زحفا وكان العرب إنّما يعرفون الكرّ والفرّ لكن حملهم على ذلك أوّل الإسلام أمران أحدهما أنّ أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا فيضطرّون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم.
والثّاني أنّهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصّبر، ولما رسخ فيهم من الإيمان والزّحف إلى الاستماتة أقرب. وأوّل من أبطل الصّفّ في الحروب وصار إلى التّعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضّحّاك الخارجيّ والجبيريّ بعده قال الطّبريّ لمّا ذكر قتال الجبيريّ «فولّى الخوارج عليهم شيبان بن عبد
__________
[1] أحجمت.
[2] هو قائد الجيوش الفارسية في معركة القادسية.(1/337)
العزيز اليشكريّ ويلقّب أبا الذّلفاء قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصّفّ من يومئذ» انتهى. فتنوسي قتال الزّحف بإبطال الصّفّ ثمّ تنوسي الصّفّ وراء المقاتلة بما داخل الدّول من التّرف وذلك أنّها حينما كانت بدويّة وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النّساء والولدان معهم في الأحياء فلمّا حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الإبل والظّعائن وصعب عليهم اتّخاذها فخلّفوا النّساء في الأسفار وحملهم الملك والتّرف على اتّخاذ الفساطيط والأخبيّة فاقتصروا على الظّهر الحامل للأثقال [1] والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب ولا يغني كلّ الغناء لأنّه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال فيخفّ الصّبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات [2] وتخرّم صفوفهم. ولما ذكرناه من ضرب المصافّ وراء العساكر وتأكّده في قتال الكرّ والفرّ صار ملوك المغرب يتّخذون طائفة من الإفرنج في جندهم واختصّوا بذلك لأنّ قتال أهل وطنهم كلّه بالكرّ والفرّ والسّلطان يتأكّد في حقّه ضرب المصافّ ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلا بدّ من أن يكون أهل ذلك الصّفّ من قوم متعوّدين للثّبات في الزّحف وإلّا أجفلوا على طريقة أهل الكرّ والفرّ فانهزم السّلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتّخذوا جندا من هذه الأمّة المتعوّدة الثّبات في الزّحف وهم الإفرنج ويرتّبون مصافّهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. وإنّهم استخفّوا ذلك للضّرورة الّتي أريناكها من تخوّف الإجفال على مصافّ السّلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثّبات في ذلك لأنّ عادتهم في القتال الزّحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أنّ الملوك في المغرب إنّما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطّاعة وأمّا في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين هذا هو
__________
[1] قوله للاثقال والأبنية مراده بالأبنية الخيام كما يدل عليه قوله في فصل الخندق الآتي قريبا إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم 1 هـ-.
[2] الأصوات المخيفة.(1/338)
الواقع لهذا العهد وقد أبدينا سببه والله بكلّ شيء عليم. وبلغنا أنّ أمم التّرك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسّهام وأنّ تعبئة الحرب عندهم بالمصافّ وأنّهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفّا وراء صفّ ويترجّلون عن خيولهم ويفرّغون سهامهم بين أيديهم ثمّ يتناضلون جلوسا وكلّ صف ردء للّذي أمامه أن يكبسهم العدوّ إلى أن يتهيّأ النّصر لإحدى الطّائفتين على الأخرى وهي تعبئة محكمة غريبة. وكان من مذاهب الأوّل في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عند ما يتقاربون للزّحف حذرا من معرّة البيات والهجوم على العسكر باللّيل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النّفوس في الظّلمة سترا من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم [1] ويديرون الحفائر نطاقا عليهم من جميع جهاتهم حرصا أن يخالطهم العدوّ بالبيات فيتخاذلوا. وكانت للدّول في أمثال هذا قوّة وعليه اقتدار باحتشاد الرّجال وجمع الأيدي عليه في كلّ منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك فلمّا خرب العمران وتبعه ضعف الدّول وقلّة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشّأن جملة كأنّه لم يكن والله خير القادرين. وانظر وصيّة علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفّين تجد كثيرا من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: «فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدّموا الدّارع وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام والتووا على أطراف الرّماح فإنّه أصون للأسنّة وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب واخفتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل وأولى بالوقار وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم واستعينوا بالصّدق والصّبر فإنّه بقدر الصّبر ينزل النّصر» وقال الأشتر يومئذ يحرّض الأزد: «عضّوا على النّواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدّوا
__________
[1] خيامهم.(1/339)
شدّة قوم موتورين يثأرون بآبائهم وإخوانهم حناقا على عدوّهم وقد وطّنوا على الموت أنفسهم لئلّا يسبقوا بوتر ولا يلحقهم في الدّنيا عار» وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصّيرفيّ شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن عليّ بن يوسف ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكّره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبّهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها.
يا أيّها الملأ الّذي يتقنّع ... من منكم الملك الهمام الأروع
ومن الّذي غدر العدوّ به دجى ... فانفضّ كلّ وهو لا يتزعزع
تمضي الفوارس والطّعان يصدّها ... عنه ويدمرها الوفاء فترجع
واللّيل من وضح التّرائك إنّه ... صبح على هام الجيوش يلمّع
أنّى فزعتم يا بني صنهاجة ... وإليكم في الرّوع كان المفزع
إنسان عين لم يصبها منكم ... حضن وقلب أسلمته الأضلع
وصددتم عن تاشفين وإنّه ... لعقابه لو شاء فيكم موضع
ما أنتم إلّا أسود خفيّة ... كلّ لكلّ كريهة مستطلع
يا تاشفين أقم لجيشك عذره ... باللّيل والعذر الّذي لا يدفع
ومنها في سياسة الحرب
أهديك من أدب السّياسة ما به ... كانت ملوك الفرس قبلك تولع
لا إنّني أدري بها لكنّها ... ذكرى تحضّ المؤمنين وتنفع
والبس من الحلق المضاعفة الّتي ... وصّى بها صنع الصّنائع تبّع
والهندوانيّ الرّقيق فإنّه ... أمضى على حدّ الدّلاص وأقطع
واركب من الخيل السّوابق عدّة ... حصنا حصينا ليس فيه مدفع
خندق عليك إذا ضربت محلّة ... سيّان تتبع ظافرا أو تتبع
والواد لا تعبره وانزل عنده ... بين العدوّ وبين جيشك يقطع(1/340)
واجعل مناجزة الجيوش عشيّة ... ووراءك الصّدق الّذي هو أمنع
وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ... ضنك فأطراف الرّماح توسّع
واصدمه أوّل وهلة لا تكترث ... شيئا فإظهار النّكول يضعضع
واجعل من الطّلّاع أهل شهامة ... للصّدق فيهم شيمة لا تخدع
لا تسمع الكذّاب جاءك مرجفا ... لا رأي للكذّاب فيما يصنع
قوله واصدمه أوّل وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه النّاس في أمر الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثّقفيّ لمّا ولّاه حرب فارس والعراق فقال له اسمع وأطع من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأشركهم في الأمر ولا تجيبنّ مسرعا حتّى تتبيّن فإنّها الحرب ولا يصلح لها الرّجل المكيث [1] الّذي يعرف الفرصة والكفّ وقال له في أخرى: «إنّه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا سرعته في الحرب وفي التّسرّع في الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا ذلك لأمرته لكنّ الحرب لا يصلحها إلّا الرّجل المكيث» هذا كلام عمر وهو شاهد بأنّ التّثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتّى يتبيّن حال تلك الحرب وذلك عكس ما قاله الصّيرفيّ إلّا أن يريد أنّ الصّدم بعد البيان [2] فله وجه والله تعالى أعلم. ولا وثوق في الحرب بالظّفر وإن حصلت أسبابه من العدّة والعديد وإنّما الظّفر فيها والغلب من قبيل البحث والاتّفاق وبيان ذلك أنّ أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشّجعان وترتيب المصافّ ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك ومن أمور خفيّة وهي إمّا من خداع البشر وحيلهم في الإرجاف والتّشانيع الّتي يقع بها التّخذيل وفي التّقدّم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهّم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض ومطمئنّ الأرض والتّواري بالكدى [3] حول العدوّ حتّى يتداولهم العسكر
__________
[1] المكيث: الرزين المتأني (المنجد) .
[2] كلمة البيان ليس لها معنى في هذه الجملة ولعلها محرفة من كلمة بيات كما يقتضيه سياق المعنى.
[3] يقال: الحافر بلغ الكدية فلا يمكنه أن يحفر، حفر فأكدى أي بلغ الصلب والكدى الأرض الصلبة. (المنجد) .(1/341)
دفعة وقد تورّطوا فيتلفّتون إلى النّجاة وأمثال ذلك وإمّا أن تكون تلك الأسباب الخفيّة أمورا سماويّة لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرّهب عليهم لأجلها فتختلّ مراكزهم فتقع الهزيمة وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفيّة لكثرة ما يعتمل لكلّ واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب فلا بدّ من وقوع التّأثير في ذلك لأحدهما ضرورة ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» ومن أمثال العرب «ربّ حيلة أنفع من قبيلة» فقد تبيّن أنّ وقوع الغلب في الحروب غالبا عن أسباب خفيّة غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفيّة هو معنى البخت كما تقرّر في موضعه فاعتبره وتفهّم من وقوع الغلب عن الأمور السّماويّة كما شرحناه معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «نصرت بالرّعب مسيرة شهر» وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإنّ الله سبحانه وتعالى تكفّل لنبيّه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين حتّى يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فكان الرّعب في قلوبهم سببا للهزائم في الفتوحات الإسلاميّة كلّها أنّه خفيّ عن العيون. وقد ذكر الطّرطوشيّ: أنّ من أسباب الغلب في الحرب أن تفضّل عدّة الفرسان المشاهير من الشّجعان في أحد الجانبين على عدّتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشّجعان المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانيّة أو ستّة عشر فالجانب الزّائد ولو بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجع إلى الأسباب الظّاهرة الّتي قدّمنا وليس بصحيح. وإنّما الصّحيح المعتبر في الغلب حال العصبيّة أن يكون في أحد الجانبين عصبيّة واحدة جامعة لكلّهم وفي الجانب الآخر عصائب متعدّدة لأنّ العصائب إذا كانت متعدّدة يقع بينها من التّخاذل ما يقع في الوحدان المتفرّقين الفاقدين للعصبيّة تنزّل كلّ عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الّذي عصابته متعدّدة لا يقاوم الجانب الّذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهّمه واعلم أنّه أصحّ في الاعتبار ممّا ذهب إليه الطّرطوشيّ ولم(1/342)
يحمله على ذلك إلّا نسيان شأن العصبيّة في حلّة وبلدة وأنّهم إنّما يرون ذلك الدّفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة النّاشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبيّة ولا نسبا وقد بيّنّا ذلك أوّل الكتاب مع أنّ هذا وأمثاله على تقدير صحّته إنّما هو من الأسباب الظّاهرة مثل اتّفاق الجيش في العدّة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلا بالغلب ونحن قد قرّرنا لك الآن أنّ شيئا منها لا يعارض الأسباب الخفيّة من الحيل والخداع ولا الأمور السّماويّة من الرّعب والخذلان الإلهيّ فافهمه وتفهّم أحوال الكون «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» .
ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأنّ أسبابه خفيّة وغير طبيعيّة حال الشّهرة والصّيت فقلّ أن تصادف موضعها في أحد من طبقات النّاس من الملوك والعلماء والصّالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممّن اشتهر بالشّرّ وهو بخلافه وكثير ممّن تجاوزت عنه الشّهرة وهو أحقّ بها وأهلها وقد تصادف موضعها وتكون طبقا على صاحبها والسّبب في ذلك أنّ الشّهرة والصّيت إنّما هما بالإخبار والإخبار يدخلها الذّهول عن المقاصد عند التّناقل ويدخلها التّعصّب والتّشييع ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتّلبيس والتّصنّع أو لجهل النّاقل ويدخلها التّقرّب لأصحاب التّجلّة والمراتب الدّنيويّة بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك والنّفوس مولعة بحبّ الثّناء والنّاس متطاولون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل ولا منافسين في أهلها وأين مطابقة الحقّ مع هذه كلّها فتختلّ الشّهرة عن أسباب خفيّة من هذه وتكون غير مطابقة وكلّ ما حصل بسبب خفيّ فهو الّذي يعبّر عنه بالبخت كما تقرّر والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق
.(1/343)
الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
اعلم أنّ الجباية أوّل الدّولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر الدّولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة والسّبب في ذلك أنّ الدّولة إن كانت على سنن الدّين فليست تقتضي إلّا المغارم الشّرعيّة من الصّدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأنّ مقدار الزّكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشّرعيّة وهي حدود لا تتعدّى وإن كانت على سنن التّغلّب والعصبيّة فلا بدّ من البداوة في أوّلها كما تقدّم والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتّجافي عن أموال النّاس والغفلة عن تحصيل ذلك إلّا في النّادر فيقلّ لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة الّتي تجمع الأموال من مجموعها وإذا قلّت الوزائع والوظائف على الرّعايا نشطو للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد لحصول الاغتباط بقلّة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية الّتي هي جملتها فإذا استمرّت الدّولة واتّصلت وتعاقب ملوكها واحدا بعد واحد واتّصفوا بالكيس وذهب سرّ [1] البداوة والسّذاجة وخلقها من الإغضاء والتّجافي وجاء الملك العضوض [2] والحضارة الدّاعية إلى الكيس وتخلّق أهل الدّولة حينئذ بخلق التّحذلق وتكثّرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النّعيم والتّرف فيكثّرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرّعايا والأكرة [3] والفلّاحين وسائر أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى شرّ ولعلها محرفة من كلمة أثر كما يقتضي معنى السياق.
[2] ج العضّ: الشديد القوي (المنجد) .
[3] الأكرة ج أكار وأكارون: الحراث (المنجد) .(1/344)
المغارم ويزيدون في كلّ وظيفة ووزيعة مقدارا عظيما لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد ثمّ تتدرّج الزّيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرّج عوائد الدّولة في التّرف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتّى تثقل المغارم على الرّعايا وتهضمهم وتصير عادة مفروضة لأنّ تلك الزّيادة تدرّجت قليلا قليلا ولم يشعر أحد بمن زادها على التّعيين ولا من هو واضعها إنّما ثبت على الرّعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلّة النّفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها وربّما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النّقص في الجباية ويحسبونه جبرا لما نقص حتى تنتهي كلّ وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوّة به فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدّولة لأنّ فائدة الاعتمار عائدة إليها وإذا فهمت ذلك علمت أنّ أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النّفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه والله سبحانه وتعالى «مالك الأمور كلها وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ 23: 88» [1]
الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
اعلم أنّ الدّولة تكون في أوّلها بدويّة كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم التّرف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلا فيكون في الجباية حينئذ وفاء
__________
[1] سورة يس من الآية الأخيرة.(1/345)
بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثمّ لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في التّرف وعوائدها وتجري على نهج الدّول السّابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدّولة ويكثر خراج السّلطان خصوصا كثرة بالغة بنفقته في خاصّته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدّولة إلى الزّيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسّلطان من النّفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أوّلا كما قلناه ثمّ يزيد الخراج والحاجات والتّدريج في عوائد التّرف وفي العطاء للحامية ويدرك الدّولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقلّ الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم فيستحدث صاحب الدّولة أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السّلع في أموال المدينة وهو مع هذا مضطرّ لذلك بما دعاه إليه طرق النّاس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية وربّما يزيد ذلك في أواخر الدّولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدّولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ. وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدّولة العبّاسيّة والعبيديّة كثير وفرضت المغارم حتّى على الحاجّ في الموسم وأسقط صلاح الدّين أيّوب تلك الرّسوم جملة وأعاضها بآثار الخير وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطّوائف حتّى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقيّة لهذا العهد حين استبدّ بها رؤساؤها والله تعالى أعلم.
الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية
اعلم أنّ الدّولة إذا ضاقت جبايتها بما قدّمناه من التّرف وكثرة العوائد(1/346)
والنّفقات وقصّر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرّعايا وأسواقهم كما قدّمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزّيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمّال والجباة وامتكاك [1] عظامهم لما يرون أنّهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التّجارة والفلاحة للسّلطان على تسمية الجباية لما يرون التّجّار والفلّاحين يحصلون على الفوائد والغلّات مع يسارة [2] أموالهم وأنّ الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان والنّبات لاستغلاله في شراء البضائع والتّعرّض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد وهو غلط عظيم وإدخال الضّرر على الرّعايا من وجوه متعدّدة فأوّلا مضايقة الفلّاحين والتّجّار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإنّ الرّعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غمّ ونكد ثمّ إنّ السّلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له غضّا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثمّ إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلّها كلّه من زرع أو حرير أو عسل أو سكّر أو غير ذلك من أنواع الغلّات وحصلت بضائع التّجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدّولة فيكلّفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلّاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلّا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناضّ [3] أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة ويمكثون عطلا من الإدارة
__________
[1] متك الشيء حطّمه وكسّره والمعنى هنا مجاز.
[2] قلة.
[3] ناض: الدرهم والدينار ويقال استخلصه منه نضا أي نقدا (المنجد) .(1/347)
الّتي فيها كسبهم ومعاشهم وربّما تدعوهم الضّرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السّلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربّما يتكرّر ذلك على التاجر والفلّاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدّد ذلك ويتكرّر ويدخل به على الرّعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السّعي في ذلك جملة ويؤدّي إلى فساد الجباية فإنّ معظم الجباية إنّما هي من الفلّاحين والتّجّار ولا سيّما بعد وضع المكوس ونموّ الجباية بها فإذا انقبض الفلّاحون عن الفلاحة وقعد التّجّار عن التّجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النّقص المتفاحش وإذا قايس السّلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنّسبة إلى الجباية أقلّ من القليل ثمّ إنّه ولو كان مفيدا فيذهب له بحظّ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنّه من البعيد أن يوجد فيه من المكس ولو كان غيره في تلك الصّفقات لكان تكسّبها كلّها حاصلا من جهة الجباية ثمّ فيه التّعرّض لأهل عمرانه واختلال الدّولة بفسادهم ونقصهم فإنّ الرّعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتّجارة نقصت وتلاشت بالنّفقات وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك [1] وكان الفرس لا يملّكون عليهم إلّا من أهل بيت المملكة ثمّ يختارونه من أهل الفضل والدّين والأدب والسّخاء والشّجاعة والكرم ثمّ يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتّخذ صنعة فيضرّ بجيرانه ولا يتاجر فيحبّ غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنّهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة. واعلم أنّ السّلطان لا ينمي ماله ولا يدرّ موجودة إلّا الجباية وإدرارها إنّما يكون بالعدل في أهل الأموال والنّظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية
__________
[1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على ذلك في نسخة لجنة البيان العربيّ فيقول:
(يتفق ما يراه ابن خلدون في صدد الأضرار المترتبة على دخول الحكومة مشترية في السوق وعلى اشتغالها بالتجارة أو احتكارها لبعض الأصناف واعتبار ذلك ضرائب غير مباشرة على المستهلكين ... يتفق ذلك مع ما يراه كثير من المحدثين من علماء الاقتصاد السياسي. انظر كتابنا في «الاقتصاد السياسي» فصل «المنافسة الحرة» . ص 194- 200 في الطبعة الخامسة) .(1/348)
السّلطان وأمّا غير ذلك من تجارة أو فلج فإنّما هو مضرّة عاجلة للرّعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتّجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلّبين في البلدان أنّهم يتعرّضون لشراء الغلّات والسّلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثّمن ما يشاءون ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرّعايا بما يفرضون من الثّمن وهذه أشدّ من الأولى وأقرب إلى فساد الرّعيّة واختلال أحوالهم وربّما يحمل السّلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التّجّار والفلّاحين لما هي صناعته الّتي نشأ عليها فيحمل السّلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعا ولا سيّما مع ما يحصل له من التّجارة بلا مغرم ولا مكس فإنّها أجدر بنموّ الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على السّلطان من الضّرر بنقص جبايته فينبغي للسّلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرّة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة
والسّبب في ذلك أنّ الجباية في أوّل الدّولة تتوزّع على أهل القبيل والعصبيّة بمقدار غنائهم وعصبيّتهم ولأنّ الحاجة إليهم في تمهيد الدّولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عمّا يسمون إليه من الاستبداد عليهم فله عليهم عزّة وله إليهم حاجة فلا يطيّر [1] في سهمانه من الجباية إلّا الأقلّ من حاجته فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتّاب والموالي متملّقين في الغالب وجاههم متقلّص لأنّه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيّته
__________
[1] طيّر واطار المال: قسّمه.(1/349)
فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدّولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلّا ما يطير لهم بين النّاس في سهمانهم وتقلّ حظوظهم إذ ذاك لقلّة غنائهم في الدّولة بما انكبح من أعنّتهم وصار الموالي والصّنائع مساهمين لهم في القيام بالدّولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدّولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنّفقات في مهمّات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلئ خزائنه ويتّسع نطاق جاهه ويعتزّ على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطيّ ويتّسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثّلونها [1] . ثمّ إذا أخذت الدّولة في الهرم بتلاشي العصبيّة وفناء القليل المعاهدين للدّولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثّوّار وتوهّم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السّيوف وأهل العصبيّات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمّات الدّولة وقلّت مع ذلك الجباية لما قدّمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقلّ الخراج وتشتدّ حاجة الدّولة إلى المال فيتقلّص ظلّ النّعمة والتّرف عن الخواصّ والحجّاب والكتّاب بتقلّص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدّولة ثمّ تشتدّ حاجة صاحب الدّولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثّله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدّولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدّولة أنّه أحقّ بتلك الأموال الّتي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكّر الدّولة لهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثّروة والنّعمة من بطانتها ويتقوّض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه. وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدّولة العبّاسيّة في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم ثمّ في الدّولة الأمويّة بالأندلس عند
__________
[1] تأثل المال: اكتسبه وثمّره.(1/350)
انحلالها أيّام الطّوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حدير وبني برد وأمثالهم وكذا في الدّولة الّتي أدركناها لعهدنا سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
فصل:
ولما يتوقّعه أهل الدّولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرّتب والتّخلّص من ربقة السّلطان بما حصل في أيديهم من مال الدّولة إلى قطر آخر ويرون أنّه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم واعلم أنّ الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإنّ صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكّنه الرّعيّة من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبيّة المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأنّ ربقة الملك يعسر الخلاص منها ولا سيّما عند استفحال الدّولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتّخلّق بالشّرّ وأمّا إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السّلطان وحاشيته وأهل الرّتب في دولته فقلّ أن يخلّى بينه وبين ذلك.
أمّا أوّلا فلما يراه الملوك أنّ ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطّلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحلّ ربقته من الخدمة ضنّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم ولقد كان بنو أميّة بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السّفر لفريضة الحجّ لما يتوهّمونه من وقوعهم بأيدي بني العبّاس فلم يحجّ سائر أيّامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحجّ لأهل الدّول من الأندلس إلّا بعد فراغ شأن الأمويّة ورجوعها إلى الطّوائف وأمّا ثانيا فلأنّهم وإن سمحوا بحلّ ربقته فلا يسمحون بالتّجافي عن ذلك المال لما يرون أنّه جزء من مالهم كما يرون أنّه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلّا بها وفي ظلّ جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدّولة ينتفعون به ثمّ إذا توهّمنا أنّه خلّص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النّادر الأقلّ فتمتدّ إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتّخويف تعريضا أو(1/351)
بالقهر ظاهرا لما يرون أنّه مال الجباية والدّول وأنّه مستحقّ للإنفاق في المصالح وإذا كانت أعينهم تمتدّ إلى أهل الثّروة واليسار المتكسّبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتدّ إلى أموال الجباية والدّول الّتي تجد السّبيل إليه بالشّرع والعادة ولقد حاول السّلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد اللّحيانيّ تاسع أو عاشر ملوك الحفصيّين بإفريقة الخروج عن عهدة الملك واللّحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثّغور الغربيّة لمّا استجمع لغزو تونس فاستعمل اللّحيانيّ الرّحلة إلى ثغر طرابلس يورّي بتمهيده وركب السّفين من هنالك وخلص إلى الإسكندريّة بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصّامت [1] والذّخيرة وباع كلّ ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجوهر حتّى الكتب واحتمل ذلك كلّه إلى مصر ونزل على الملك النّاصر محمّد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثّامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتّعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللّحيانيّ إلّا في جرابته الّتي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الّذي يعتري أهل الدّول لما يتوقّعونه من ملوكهم من المعاطب وإنّما يخلصون إن اتّفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهّمونه من الحاجة فغلط ووهم والّذي حصل لهم من الشّهرة بخدمة الدّول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السّلطانيّة أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التّجارة والفلاحة والدّول أنساب لكن:
النّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
والله سبحانه هو الرّزّاق وهو الموفّق بمنّه وفضله والله أعلم.
__________
[1] الأموال النقدية.(1/352)
الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسّبب في ذلك أنّ الدّولة والسّلطان هي السّوق الأعظم للعالم ومنه مادّة العمران فإذا احتجن السّلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلّت نفقاتهم جملة وهم معظم السّواد ونفقاتهم أكثر مادّة للأسواق ممّن سواهم فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقلّ الخراج لذلك لأنّ الخراج والجباية إنّما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب النّاس للفوائد والأرباح ووبال ذلك عائد على الدّولة بالنّقص لقلّة أموال السّلطان حينئذ بقلّة الخراج فإنّ الدّولة كما قلناه هي السّوق الأعظم أمّ الأسواق كلّها وأصلها ومادّتها في الدّخل والخرج فإن كسدت وقلّت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشدّ منه وأيضا فالمال إنّما هو متردّد بين الرّعيّة والسّلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السّلطان عنده فقدته الرّعيّة سنّة الله في عباده.
الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها(1/353)
لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعرّ [1] النّاس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرّزق فيما خرج عن نطاقها فخفّ ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان لما أنّها صورة للعمران تفسد بفساد مادّتها ضرورة وانظر في ذلك ما حكاه المسعوديّ في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم أيّام بهرام بن بهرام وما عرّض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظّلم والغفلة عن عائدته على الدّولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له: «إنّ بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى وإنّها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيّام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيّام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام» . فتنبّه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن مراده فقال له أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل إلى المال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك وأنت أيّها الملك عمدت إلى الضّياع فانتزعتها من أربابها
__________
[1] بمعنى تفرق.(1/354)
وعمّارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنّظر في العواقب وما يصلح الضّياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمّار الضّياع فانجلوا عن ضياعهم وخلّوا ديارهم وأووا إلى ما تعذّر من الضّياع فسكنوها فقلّت العمارة وخربت الضّياع وقلّت الأموال وهلكت الجنود والرّعيّة وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع الموادّ الّتي لا تستقيم دعائم الملك إلّا بها. فلمّا سمع الملك ذلك أقبل على النّظر في ملكه وانتزعت الضّياع من أيدي الخاصّة وردّت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت موادّ الأعداء وشحنت الثّغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيّامه وانتظم ملكه فتفهّم من هذه الحكاية أنّ الظّلم مخرّب للعمران وأنّ عائدة الخراب في العمران على الدّولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها خراب واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا ينحصر كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا لأنّ النّقص إنّما يقع بالتّدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلّا بعد حين وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل خراب وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان خفيّا فيه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر والمراد من هذا أنّ حصول النّقص في العمران عن الظّلم والعدوان أمر واقع لا بدّ منه لما قدّمناه ووباله عائد على الدّول. ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه(1/355)
حقّا لم يفرضه الشّرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقّها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق النّاس ظلمة وخصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كلّه عائد على الدّولة بخراب العمران الّذي هو مادّتها لإذهابه الآمال من أهله واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشّارع في تحريم الظّلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النّوع البشريّ وهي الحكمة العامّة المراعية للشّرع في جميع مقاصده الضّروريّة الخمسة من حفظ الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال. فلمّا كان الظّلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النّوع لما أدّى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمّا، وأدلّته من القرآن والسّنّة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضّبط والحصر. ولو كان كلّ واحد قادرا على الظّلم لوضع بإزائه من العقوبات الزّاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنّوع الّتي يقدر كلّ أحد على اقترافها من الزّنا والقتل والسّكر إلّا أنّ الظّلم لا يقدر عليه إلّا من يقدر عليه لأنّه إنّما يقع من أهل القدرة والسّلطان فبولغ في ذمّه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 41: 46» ولا تقولنّ إنّ العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشّرع وهي من ظلم القادر لأنّ المحارب زمن حرابته قادر فإنّ في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنّما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأمّا نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة.
الطّريق الثّاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنّا إنّما نعني بقدرة الظّالم اليد المبسوطة الّتي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأمّا قدرة المحارب فإنّما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكلّ موجودة شرعا وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب والله قادر على ما يشاء.(1/356)
فصل:
ومن أشدّ الظّلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرّعايا بغير حقّ وذلك أنّ الأعمال من قبيل المتموّلات كما سنبيّن في باب الرّزق لأنّ الرّزق والكسب إنّما هو قيّم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم وأعمالهم كلّها متموّلات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإنّ الرّعيّة المعتملين في العمارة إنّما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلّفوا العمل في غير شأنهم واتّخذوا سخريّا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متموّلهم فدخل عليهم الضّرر وذهب لهم حظّ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة وإن تكرّر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السّعي فيها جملة فأدّى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق
الاحتكار:
وأعظم من ذلك في الظّلم وإفساد العمران والدّولة التّسلّط على أموال النّاس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثمّ فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشّراء والبيع وربّما تفرض عليهم تلك الأثمان على التّواحي والتّعجيل [1] فيتعلّلون في تلك الخسارة الّتي تلحقهم بما تحدّثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع الّتي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصّفقتين على رءوس أموالهم. وقد يعمّ ذلك أصناف التّجّار المقيمين بالمدينة والواردين من الآفاق في البضائع وسائر السّوقة وأهل الدّكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصّنائع فيما يتّخذ من الآلات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطّبقات وتتوالى على السّاعات وتجحف برءوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلّا القعود عن الأسواق لذهاب رءوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرّعايا لأنّ عامّته من البيع والشّراء وإذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم وتنقص جباية
__________
[1] وفي بعض النسخ: التراخي والتأجيل.(1/357)
السّلطان أو تفسد لأنّ معظمها من أوسط الدّولة وما بعدها إنّما هو من المكوس على البياعات كما قدّمناه ويؤول ذلك إلى تلاشي الدّولة وفساد عمران المدينة ويتطرّق هذا الخلل على التّدريج ولا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذّرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأمّا أخذها مجّانا والعدوان على النّاس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدّولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض ومن أجل هذه المفاسد حظر الشّرع ذلك كلّه وشرع المكايسة في البيع والشّراء وحظر أكل أموال النّاس بالباطل سدّا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أنّ الدّاعي لذلك كلّه إنّما هو حاجة الدّولة والسّلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من التّرف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدّخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقابا ووجوها يوسّعون بها الجباية ليفي لهم الدّخل بالخرج ثمّ لا يزال التّرف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال النّاس تشتدّ ونطاق الدّولة بذلك يزيد إلى أن تمحّي دائرتها ويذهب برسمها ويغلبها طالبها والله أعلم.
الفصل الرابع والأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول وفي أنه يعظم عند الهرم
اعلم أنّ الدّولة في أوّل أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدّمناه لأنّه لا بدّ لها من العصبيّة الّتي بها يتمّ أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبيّة والدّولة إن كان قيامها بالدّين فإنّه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعزّ الغلب فقط فالبداوة الّتي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدّولة في أوّل أمرها بدويّة كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من النّاس وسهولة الإذن فإذا رسخ عزّه وصار إلى الانفراد(1/358)
بنفسه عن النّاس للحديث مع أوليائه في خواصّ شئونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامّة ما استطاع ويتّخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتّخذ حاجبا له عن النّاس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثمّ إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعة استحالت أخلاق صاحب الدّولة إلى أخلاق الملك وهي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها وربّما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا وصاروا إلى حالة الانتقام منه فانفرد بمعرفة هذه الآداب الخواصّ من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصّة عن لقائهم في كلّ وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على النّاس من التّعرّض لعقابهم فصار حجاب آخر أخصّ من الحجاب الأوّل يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة [1] . والحجاب الثّاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة [1] . والحجاب الأوّل يكون في أوّل الدّولة كما ذكرنا كما حدث لأيّام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أميّة وكان القائم على ذلك الحجاب يسمّى عندهم الحاجب جريا على مذهب الاشتقاق الصّحيح. ثمّ لمّا جاءت دولة بني العبّاس وجدت الدّولة من التّرف والعزّ ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثّاني وصار اسم الحاجب أخصّ به وصار بباب الخلفاء داران للعبّاسيّة: دار الخاصّة ودار العامّة كما هو مسطور في أخبارهم. ثمّ حدث في الدّول حجاب ثالث أخصّ من الأوّلين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدّولة وذلك أنّ أهل الدّولة وخواصّ الملك إذا نصبوا الأبناء من
__________
[1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذه العبارة في نسخة لجنة البيان العربيّ» فقال: (هكذا وردت العبارة في جميع النسخ ولا بد أن يكون قد حدث فيها حذف وتكرار والوضع الصحيح للعبارة هو ما يلي «فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من الخاصة والعامة، بينما كان الحجاب الأول يفضي إليهم منه الخاصة ويحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا ... » ) وقد سهّل هذا السقط وهذه الزيادة وجود كلمة «سواهم» في الجملتين.(1/359)
الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأوّل ما يبدأ به ذلك المستبدّ أن يحجب عنه بطانة ابنه وخواصّ أوليائه يوهمه أنّ في مباشرتهم إيّاه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوّده ملابسة أخلاقه هو حتّى لا يتبدّل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلّا أواخر الدّولة كما قدّمناه في الحجر ويكون دليلا على هرم الدّولة ونفاد قوّتها وهو ممّا يخشاه أهل الدّول على أنفسهم لأنّ القائمين بالدّولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدّولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركّب في النّفوس من محبّة الاستبداد بالملك وخصوصا مع التّرشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
الفصل الخامس والأربعون في انقسام الدولة الواحدة بدولتين
اعلم أن أوّل ما يقع من آثار الهرم في الدّولة انقسامها وذلك أنّ الملك عند ما يستفحل ويبلغ من أحوال التّرف والنّعيم إلى غايتها ويستبدّ صاحب الدّولة بالمجد وينفرد به ويأنف حينئذ عن المشاركة يصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشّحين لمنصبه فربّما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاعتزار والاسترابة ويكون نطاق الدّولة قد أخذ في التّضايق ورجع عن القاصية فيستبدّ ذلك النّازع من القرابة فيها ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدّولة حتّى يقاسم الدّولة أو يكاد وانظر ذلك في الدّولة الإسلاميّة العربيّة حين كان أمرها حريزا مجتمعا ونطاقا ممتدّا في الاتّساع وعصبيّة بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر ينبض عرق من الخلافة سائر أيّامه إلّا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتمّ(1/360)
أمرهم لمزاحمتهم العصبيّة القويّة ثمّ لمّا خرج الأمر من بني أميّة واستقلّ بنو العبّاس بالأمر. وكانت الدّولة العربيّة قد بلغت الغاية من الغلب والتّرف وآذنت بالتّقلّص عن القاصية نزع عبد الرّحمن الدّاخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكا واقتطعها عن دولتهم وصيّر الدّولة دولتين ثمّ نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربّة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين ثمّ ازدادت الدّولة تقلّصا فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم ثمّ خرج الشّيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثمّ مصر والشّام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدّولة دولتين أخريين وصارت الدّولة العربيّة ثلاث دول: دولة بني العبّاس مركز العرب وأصلهم ومادّتهم الإسلام، ودولة بني أميّة المجدّدين بالأندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق، ودولة العبيديّين بإفريقيّة ومصر والشّام والحجاز ولم تزل هذه الدّولة إلى أن أصبح انقراضها متقاربا أو جميعا وكذلك انقسمت دولة بني العبّاس بدول أخرى وكان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النّهر وخراسان والعلويّة في الدّيلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الدّيلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء ثمّ جاء السّلجوقيّة فملكوا جميع ذلك ثمّ انقسمت دولتهم أيضا بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لمّا بلغت إلى غايتها أيّام باديس بن المنصور، خرج عليه عمّه حمّاد واقتطع ممالك العرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملويّة واختطّ القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطرى واستحدث ملكا آخر قسيما لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعا. وكذلك دولة الموحّدين، لمّا تقلّص ظلّها ثار بإفريقيّة بنو أبي حفص فاستقلّوا بها واستحدثوا ملكا لأعقابهم بنواحيها ثمّ لمّا استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربيّة من(1/361)
أعقابهم الأمير أبو زكريّا يحيى ابن السّلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكا بجباية وقسنطينة وما إليها، أورثه بنيه وقسموا به الدّولة قسمين ثمّ استولوا على كرسيّ الحضرة بتونس ثمّ انقسم ما بين أعقابهم ثمّ عاد الاستيلاء فيهم وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطّوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقيّة فقد كان لآخر دولتهم في كلّ حصن من حصون إفريقية ثائر مستقلّ بأمره كما تقدّم ذكره وكذا حال الجريد والزّاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره وهكذا شأن كلّ دولة لا بدّ وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالتّرف والدّعة وتقلّص ظلّ الغلب فينقسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر ويتعدّد فيها الدّول والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل السادس والأربعون في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
قد قدّمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحدا بعد واحد وبيّنّا أنّها تحدث للدّولة بالطّبع وأنّها كلّها أمور طبيعيّة لها وإذا كان الهرم طبيعيّا في الدّولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطّبيعيّة كما يحدث الهرم في المزاج الحيوانيّ والهرم من الأمراض المزمنة الّتي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنّه طبيعيّ والأمور الطّبيعيّة لا تتبدّل وقد يتنبّه كثير من أهل الدّول ممّن له يقظة في السّياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظنّ أنّه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدّولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنّه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدّولة وغفلتهم وليس كذلك فإنّها أمور طبيعيّة للدّولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها والعوائد منزلة طبيعيّة أخرى فإنّ من أدرك مثلا أباه وأكثر(1/362)
أهل بيته يلبسون الحرير والدّيباج ويتحلّون بالذّهب في السّلاح والمراكب ويحتجبون عن النّاس في المجالس والصّلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللّباس والزّيّ والاختلاط بالنّاس إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبّح عليه مرتكبه ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التّأييد الإلهيّ والنّصر السّماويّ وربّما تكون العصبيّة قد ذهبت فتكون الأبّهة تعوّض عن موقعها من النّفوس فإذا أزيلت تلك الأبّهة مع ضعف العصبيّة تجاسرت الرّعايا على الدّولة بذهاب أوهام الأبّهة فتتدرّع الدّولة بتلك الأبّهة ما أمكنها حتّى ينقضي الأمر وربّما يحدث عند آخر الدّولة قوّة توهم أنّ الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذّبال المشتعل فإنّه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنّها اشتعال وهي انطفاء فاعتبر ذلك ولا تغفل سرّ الله تعالى وحكمته في اطّراد وجوده على ما قدّر فيه «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 13: 38» .
الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
اعلم أنّ مبنى الملك على أساسين لا بدّ منهما فالأوّل الشّوكة والعصبيّة وهو المعبّر عنه بالجند والثّاني المال الّذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدّولة طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أوّلا طروق الخلل في الشّوكة والعصبيّة ثمّ نرجع إلى طروقه في المال والجباية.
واعلم أنّ تمهيد الدّولة وتأسيسها كما قلناه إنّما يكون بالعصبيّة وأنّه لا بدّ من عصبيّة كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبيّة صاحب الدّولة الخاصّة من عشيرة وقبيلة فإذا جاءت الدّولة طبيعة الملك من التّرف وجدع أنوف أهل(1/363)
العصبيّة كان [1] أوّل ما يجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبدّ في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم لمكانهم من الملك والعزّ والغلب فيحيط بهم هادمان وهما التّرف والقهر ثمّ يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النّعمة والتّرف الّذي تعوّدوا الكثير منه فيهلكون ويقلّون وتفسد عصبيّة صاحب الدّولة منهم وهي العصبيّة الكبرى الّتي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحلّ عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطانة من موالي النّعمة وصنائع الإحسان وتتّخذ منهم عصبيّة إلّا أنّها ليست مثل تلك الشّدّة الشّكيميّة لفقدان الرّحم والقرابة منها وقد كنّا قدّمنا أنّ شأن العصبيّة وقوّتها إنّما هي بالقرابة والرّحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدّولة عن العشير والأنصار الطّبيعيّة ويحسّ بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسرا طبيعيّا فيهلكهم صاحب الدّولة ويتبعهم بالقتل واحدا بعد واحد ويقلّد الآخر من أهل الدّولة في ذلك، الأوّل مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة التّرف الّذي قدّمنا فيستولي عليهم الهلاك بالتّرف والقتل حتّى يخرجوا عن صبغة تلك العصبيّة ويفشوا بعزّتها وثورتها ويصيروا أوجز على الحماية ويقلّون لذلك فتقلّ الحماية الّتي تنزل بالأطراف والثّغور فتتجاسر الرّعايا على بعض الدّعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدّولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم ولا يزال ذلك يتدرّج ونطاق الدّولة يتضايق حتّى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدّولة وربّما انقسمت الدّولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوّتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيّتها لكن إذعانا لأهل عصبيّتها ولغلبهم المعهود واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام كيف انتهت أوّلا إلى الأندلس والهند والصّين
__________
[1] أي صاحب الدولة.(1/364)
وكان أمر بني أميّة نافذا في جميع العرب بعصبيّة بني عبد مناف حتّى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يردّ أمره. ثمّ تلاشت عصبيّة بني أميّة بما أصابهم من التّرف فانقرضوا. وجاء بنو العبّاس فغضّوا من أعنّة بني هاشم وقتلوا الطّالبيّين وشرّدوهم فانحلّت عصبيّة عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبدّ عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقيّة وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدّولة ثمّ خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعانا للعصبيّة الّتي لهم وأمنا أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدّولة. فإذا خرج الدّعاة آخرا فيتغلّبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدّولة وربّما يزيد ذلك متى زادت الدّولة تقلّصا إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها التّرف فتهلك وتضمحلّ وتضعف الدّولة المنقسمة كلّها وربّما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبيّة بما حصل لها من الصّبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتّسليم منذ السّنين الطّويلة الّتي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوّليّتها فلا يعقلون إلّا التّسليم لصاحب الدّولة فيستغني بذلك عن قوّة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جنديّ ومرتزق ويعضد ذلك ما وقع في النّفوس عامّة من التّسليم فلا يكاد أحد يتصوّر عصيانا أو خروجا إلّا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التّصدّي لذلك ولو جهد جهده وربّما كانت الدّولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التّسليم والانقياد لهم فلا تكاد النّفوس تحدّث سرّها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطّاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الّذي يحدث من العصائب والعشائر ثمّ لا يزال أمر الدّولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزيّة في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور ولكلّ أجل كتاب ولكلّ دولة أمد والله يقدّر اللّيل والنّهار وهو(1/365)
الواحد القهّار. وأمّا الخلل الّذي يتطرّق من جهة المال فاعلم أنّ الدّولة في أوّلها تكون بدويّة كما مرّ فيكون خلق الرّفق بالرّعايا والقصد في النّفقات والتّعفّف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتّحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمّال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النّفقة فلا تحتاج الدّولة إلى كثرة المال ثمّ يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى التّرف ويكثر الإنفاق بسببه فتعظم نفقات السّلطان وأهل الدّولة على العموم بل يتعدّى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزّيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدّولة ثمّ يعظم التّرف فيكثر الإسراف في النّفقات وينتشر ذلك في الرّعيّة لأنّ النّاس على دين ملوكها وعوائدها ويحتاج السّلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشّاهد عليهم بالرّفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده ثمّ تزيد عوائد التّرف فلا تفي بها المكوس وتكون الدّولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرّعايا فتمتدّ أيديهم إلى جمع المال من أموال الرّعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة ويكون الجند في ذلك الطّور قد تجاسر على الدّولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبيّة فتتوقّع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة وتكون جباة الأموال في الدّولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطّور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتّسع لذلك من جاههم فيتوجّه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السّعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة والحقد فتعمّهم النّكبات والمصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدّولة من الأبّهة والجمال بهم وإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدّولة إلى أهل الثّروة من الرّعايا سواهم ويكون الوهن في هذا الطّور قد لحق الشّوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدّولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من(1/366)
السّيف لقلّة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النّفقات وأرزاق الجند ولا يغنى فيما يريد ويعظم الهرم بالدّولة ويتجاسر عليها أهل النّواحي والدّولة تنحلّ عراها في كلّ طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعوّض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلّا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحلّ كالذّبال في السّراج إذا فني زيته وطفئ والله مالك الأمور ومدبّر الأكوان لا إله إلّا هو.
الفصل الثامن والأربعين فصل في اتساع الدولة أولا إلى نهايته ثم تضايقه طورا بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها [1]
قد كان تقدّم لنا في فصل الخلافة والملك، وهو الثّالث من هذه المقدّمة أنّ كلّ دولة لها حصّة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها. واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدّولة على حماية أقطارها وجهاتها. فحيث نفد عددهم فالطّرف الّذي انتهى عنده هو الثّغر، ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى، وقد تكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. وهذا كلّه عند ما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس.
فإذا استفحل العزّ والغلب وتوفّرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر التّرف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقّت
__________
[1] تمّ نقل هذا الفصل عن نسخة (لجنة البيان العربيّ) وقد علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذا الفصل بقوله: «هذا الفصل هو أحد الفصول التي تزيد بها طبعة باريس عن الطبعات المتداولة في العالم العربيّ.
وقد وضع هذا الفصل في طبعة باريس بعد الفصل السابع والأربعين من هذا الباب» وقد نقلنا هذا الفصل حرصا على أن لا نترك من المقدمة فصلا لم يذكر برمته، فيحرم قراؤنا من فائدته.(1/367)
حواشيهم، وعاد من ذلك إلى نفوسهم هينات الجبن والكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدّي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجوليّة بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العزّ بالتطاول إلى الرئاسة والتّنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم ببعض، ويكبحهم السّلطان عن ذلك بما يؤدّي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء والكبراء، وتكثر التّابع والمرءوس، فيقلّ ذلك من حدّ الدولة، ويكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأوّل في الدّولة، وهو الّذي من جهة الجند والحامية كما تقدّم. ويساوق ذلك السّرف في النّفقات بما يعتريهم من أبّهة العزّ، وتجاوز الحدود بالبذخ. بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السّلاح وارتباط الخيول، فيقصر دخل الدّولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثّاني في الدّولة وهو الّذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربّما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربّما اعتزّ أهل الثّغور والأطراف بما يحسبون من ضعف الدّولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدّولة عن حملهم على الجادّة فيضيق نطاق الدّولة عمّا كانت انتهت إليه في أوّلها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النّطاق الثّاني ما حدث في الأوّل بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلّة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدّولة إلى تغيير القوانين الّتي كانت عليها سياسة الدّولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدّخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأوّل الدّولة في سائر الأحوال.
والمفاسد مع ذلك متوقّعة من كلّ جهة. فيحدث في هذا الطّور من بعد ما حدث في الأوّل من قبل، ويعتبر صاحب الدّولة ما اعتبره الأوّل، ويقايس(1/368)
بالوزان [1] الأوّل أحوالها الثّانية، يروم دفع مفاسد الخلل الّذي يتجدّد في كل طور ويأخذ من كلّ طرف حتّى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأوّل. فكلّ واحد من هؤلاء المغيّرين للقوانين قبلهم كأنّهم منشئون دولة أخرى، ومجدّدون ملكا. حتّى تنقرض الدّولة، وتتطاول الأمم حولها إلى التّغلّب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدّر الله وقوعه.
واعتبر ذلك في الدّولة الإسلاميّة كيف اتّسع نطاقها بالفتوحات والتّغلّب على الأمم، ثمّ تزايد الحامية وتكاثر عددهم ممّا تخوّلوه من النّعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أميّة وغلب بنو العبّاس. ثمّ تزايد التّرف، ونشأت الحضارة وطرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدّولة الأمويّة المروانيّة والعلويّة، واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلويّة من كلّ جانب، وتمهّدت لهم دول، ثمّ قتل المتوكّل، واستبدّ الأحرار على الخلفاء وحجروهم، واستقلّ الولاة بالعمالات في الأطراف. وانقطع الخراج منها، وتزايد التّرف. وجاء المعتضد فغيّر قوانين الدّولة إلى قانون آخر من السّياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصّغار السّند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب إفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبدّ بنو بويه والدّيلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النّهر، وتطاول الفاطميّون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه. ثمّ قامت الدولة السّلجوقيّة من التّرك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. واستبدّ الخلفاء منذ عهد النّاصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين.
وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن
__________
[1] قايس بين الأمرين: قدّر وازنه: عادله وقابله (قاموس)(1/369)
طولي بن دوشي خان ملك التّتر والمغل حين غلبوا السلجوقيّة وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. وهكذا يتضايق نطاق كلّ دولة على نسبة نطاقها الأوّل. ولا يزال طورا بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. واعتبر ذلك في كلّ دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنّة الله في الدّول إلى أن يأتي ما قدّر الله من الغناء على خلقه. و «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ 28: 88» [1] .
__________
[1] من آية 88 من سورة القصص.(1/370)
الفصل التاسع والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
اعلم أنّ نشأة الدّول وبداءتها إذا أخذت الدّولة المستقرّة في الهرم والانتقاص تكون على نوعين إمّا بأن يستبدّ ولاة الأعمال في الدّولة بالقاصية عند ما يتقلّص ظلّها عنهم فيكون لكلّ واحد منهم دولة يستجدّها لقومه وما يستقرّ في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتّدريج وربّما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوّة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العبّاس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلّص ظلّها عن القاصية واستبدّ بنو ساسان بما وراء النّهر وبنو حمدان بالموصل والشّام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدّولة الأمويّة بالأندلس وافترق ملكها في الطّوائف الّذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولا وملوكا أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم وهذا النّوع لا يكون بينهم وبين الدّولة المستقرّة حربا لأنّهم مستقرّون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدّولة المستقرّة بحرب وإنّما الدّولة أدركها الهرم وتقلّص ظلّها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها والنّوع الثّاني بأن يخرج على الدّولة خارج ممّن يجاورها من الأمم والقبائل إمّا بدعوة يحمل النّاس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبيّة كبيرا في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدّثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدّولة المستقرّة وما نزل بها من الهرم فيتعيّن له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون [1] كما تبين والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] قوله ويزنون وفي نسخة ويرفون من الرفو بالراء والفاء. أهـ(1/371)
الفصل الخمسون في ان الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة
قد ذكرنا أنّ الدّول الحادثة المتجدّدة نوعان نوع من ولاية الأطراف إذا تقلّص ظلّ الدّولة عنهم وانحسر تيّارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدّولة في الأكثر كما قدّمناه لأنّ قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوّتهم والنّوع الثّاني نوع الدّعاة والخوارج على الدّولة وهؤلاء لا بدّ لهم من المطالبة لأنّ قوّتهم وافية بها فإنّ ذلك إنّما يكون في نصاب يكون له من العصبيّة والاعتزاز ما هو كفاء [1] ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدّولة المستقرّة حروب سجال تتكوّر وتتّصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظّفر بالمطلوب ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة والسّبب في ذلك أنّ الظّفر في الحروب إنّما يقع كما قدّمناه بأمور نفسانيّة وهمية وإن كان العدد والسّلاح وصدق القتال كفيلا به لكنّه قاصر مع تلك الأمور الوهميّة كما مرّ ولذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظّفر به وفي الحديث الحرب خدعة والدّولة المستقرّة قد صيّرت العوائد المألوفة طاعتها ضروريّة واجبة كما تقدّم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدّولة المستجدّة ويكثر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون
__________
[1] الأصح كفء أو كفيء أو كفؤ وقد ورد في لسان العرب: «وتقول: الأكفاء له، بالكسر، وهو في الأصل مصدر، أي لا نظير له» .(1/372)
من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلّا أنّ الآخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التّسليم للدّولة المستقرّة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدّولة المستقرّة يرجع إلى الصّبر والمطاولة حتّى يتّضح هرم الدّولة المستقرّة فتضمحلّ عقائد التّسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظّفر والاستيلاء وأيضا فالدّولة المستقرّة كثيرة الرّزق [1] بما استحكم لهم من الملك وتوسّع من النّعيم واللّذّات واختصّوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبّهة الملكيّة ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا واضطرارا فيرهبون بذلك كلّه عدوّهم وأهل الدّولة المستجدّة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة [2] فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرّعب بما يبلغهم من أحوال الدّولة المستقرّة ويحرمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتّى تأخذ المستقرّة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبيّة والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدّولة المستجدّة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة سنّة الله في عباده وأيضا فأهل الدّولة المستجدّة كلّهم مباينون للدّولة المستقرّة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثمّ هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليه فتتمكّن المباعدة بين أهل الدّولتين سرّا وجهرا ولا يصل إلى أهل الدّولة المستجدّة خبر عن أهل الدّولة المستقرّة يصيبون منه غرّة [3] باطنا وظاهرا لانقطاع المداخلة بين الدّولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون [4] عن المناجزة حتّى يأذن الله بزوال الدّولة المستقرّة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها واتّضح لأهل الدّولة المستجدّة مع ما كان يخفى منهم من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوّتهم بما اقتطعوه من
__________
[1] في بعض النسخ «كثيرة الترف» .
[2] الفقر وسوء الحال
[3] قوله غرة بكسر الغين أي غفلة.
[4] يجبنون.(1/373)
أعمالها ونقّصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يدا واحدة للمناجزة ويذهب ما كان بثّ في عزائمهم من التّوهّمات وتنتهي المطاولة إلى حدّها ويقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة واعتبر ذلك في دولة بني العبّاس حين ظهورها حين قام الشّيعة بخراسان بعد انعقاد الدّعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد وحينئذ تمّ لهم الظّفر واستولوا على الدّولة الأمويّة وكذا العلويّة بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الدّيلم كيف كانت مطاولتهم حتّى استولوا على تلك النّاحية ثمّ لمّا انقضى أمر العلويّة وسما الدّيلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتّى اقتطعوا أصبهان ثمّ استولوا على الخليفة ببغداد. وكذا العبيديّون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشّيعيّ ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد تطاول بني الأغلب بإفريقيّة حتّى ظفر بهم واستولوا على المغرب كلّه وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين [1] سنة أو نحوها في طلبها يجهّزون إليها العساكر والأساطيل في كلّ وقت ويجيء المدد لمدافعتهم برّا وبحرا من بغداد والشّام وملكوا الإسكندريّة والفيّوم والصّعيد وتخطّت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين ثمّ نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختطّ القاهرة فجاء الخليفة بعد المعزّ لدين الله فنزلها لستّين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندريّة وكذا السّلجوقيّة ملوك التّرك لمّا استولوا على بني ساسان وأجازوا من وراء النّهر مكثوا نحوا من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتّى استولوا على دولته.
ثمّ زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيّام من الدّهر. وكذا التّتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبعة عشر وستّمائة فلم يتمّ لهم الاستيلاء إلّا بعد أربعين سنة. وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثمّ استولوا عليه. ثمّ خرج الموحّدون بدعوتهم
__________
[1] كذا في الأصل والواضح من المراجع التاريخية ومنها تاريخ ابن خلدون نفسه ان المدة هي ستون سنة وان ثلاثين خطأ.(1/374)
على لمتونة فمكثوا نحوا من ثلاثين سنة يحاربونهم حتّى استولوا على كرسيّهم بمرّاكش وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحّدين فمكثوا يطاولونهم نحوا من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملوكهم ثمّ أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتّى استولوا على كرسيّهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كلّه في تواريخ هذه الدّول فهكذا حال الدّول المستجدّة مع المستقرّة في المطالبة والمطاولة سنّة الله في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلا. ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلاميّة وكيف كان استيلاؤهم على فارس والرّوم لثلاث أو أربع من وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واعلم أنّ ذلك إنّما كان معجزة من معجزات نبيّنا سرّها استماتة المسلمين في جهاد عدوّهم استبعادا بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرّعب والتّخاذل فكان ذلك كلّه خارقا للعادة المقرّرة في مطاولة الدّول المستجدّة للمستقرّة وإذا كان ذلك خارقا فهو من معجزات نبيّنا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملّة الإسلاميّة والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العاديّة ولا يعترض بها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الحادي والخمسون في وفور العمران اخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات
اعلم أنّه قد تقرّر لك فيما سلف أنّ الدّولة في أوّل أمرها لا بدّ لها من الرّفق في ملكتها [1] والاعتدال في إيالتها إمّا من الدّين إن كانت الدّعوة دينيّة أو من المكارمة والمحاسنة الّتي تقتضيها البداوة الطّبيعيّة للدّول وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرّعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفّر ويكثر التّناسل وإذا كان ذلك كلّه بالتّدريج فإنّما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقلّ وفي
__________
[1] بمعنى ملكها.(1/375)
انقضاء الجيلين تشرف الدّولة على نهاية عمرها الطّبيعيّ فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنّماء ولا تقولنّ إنّه قد مرّ لك أنّ أواخر الدّولة يكون فيها الإجحاف بالرّعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأنّ الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلّت الجبايات فإنّما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التّدريج في الأمور الطّبيعيّة ثمّ إنّ المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدّول والسّبب فيه: إمّا المجاعات فلقبض النّاس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدّولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرّعايا وكثرة الخوارج لهرم الدّولة فيقلّ احتكار الزّرع غالبا وليس صلاح الزّرع وثمرته بمستمرّ الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلّتها مختلفة والمطر يقوى ويضعف ويقلّ ويكثر والزّرع والثّمار والضّرع على نسبته إلّا أنّ النّاس واثقون في أقواتهم بالاحتكار فإذا فقد الاحتكار عظم توقّع النّاس للمجاعات فغلا الزّرع وعجز عنه أولو الخصاصة [1] فهلكوا وكان بعض السّنوات الاحتكار مفقودا فشمل النّاس الجوع وأمّا كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدّولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرّطوبات الفاسدة وإذا فسد الهواء وهو غذاء الرّوح الحيوانيّ وملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرّئة وهذه هي الطّواعين وأمراضها مخصوصة بالرّئة وإن كان الفساد دون القويّ والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميّات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرّطوبات الفاسدة في هذا كلّه كثرة العمران ووفوره آخر الدّولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلّة المغرم وهو ظاهر ولهذا تبيّن في موضعه من الحكمة أنّ تخلّل الخلاء والقفر بين العمران ضروريّ ليكون تموّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات
__________
[1] الفقر وسوء الحال (المنجد) .(1/376)
ويأتي بالهواء الصّحيح ولهذا أيضا فإنّ الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب والله يقدّر ما يشاء [1]
الفصل الثاني والخمسون في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره
اعلم أنّه قد تقدّم لنا في غير موضع أنّ الاجتماع للبشر ضروريّ وهو معنى العمران الّذي نتكلّم فيه وأنّه لا بدّ لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثّواب والعقاب عليه الّذي جاء به مبلّغه وتارة إلى سياسة عقليّة يوجب انقيادهم إليها ما يتوقّعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدّنيا والآخرة لعلم الشّارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثّانية إنّما يحصل نفعها في الدّنيا فقط وما تسمعه من السّياسة المدنيّة فليس من هذا الباب وإنّما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كلّ واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتّى يستغنوا عن الحكّام رأسا ويسمّون المجتمع الّذي يحصل فيه ما يسمّى من ذلك «بالمدينة الفاضلة» ، والقوانين المراعاة في ذلك «بالسّياسة المدنيّة» وليس مرادهم السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامّة فإنّ هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنّما يتكلّمون عليها على جهة الفرض والتّقدير ثمّ إنّ السّياسة العقليّة الّتي قدّمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى
__________
[1] بعد الدراسات الحديثة المتعلقة بحياة الإنسان في المدينة والريف، حيث أن متوسط عمر الإنسان في الريف يزيد عن مثله في المدينة كثيرا، وهذا يؤكد نظرية ابن خلدون من هذه الناحية، لان مناخ المدينة المشبع بدخان المصانع والمعامل والسيارات وغيرها غير مناخ الريف النظيف النقي.(1/377)
فيها المصالح على العموم ومصالح السّلطان في استقامة ملكه على الخصوص وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملّة ولعهد الخلافة لأنّ الأحكام الشّرعيّة مغنية عنها في المصالح العامّة والخاصّة وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثّاني أن يراعى فيها مصلحة السّلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامّة في هذه تبعا وهذه السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع الّتي لسائر الملوك في العالم من مسلم وغيره إلّا أنّ ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشّريعة الإسلاميّة بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعيّة وآداب خلقيّة وقوانين في الاجتماع طبيعيّة، وأشياء من مراعاة الشّوكة والعصبيّة ضروريّة والاقتداء فيها بالشّرع أوّلا ثمّ الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة. ونصّ الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة [1] سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل والنّهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه، والعمل في ذلك كلّه بما يعصمك الله عزّ وجلّ وينجّيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرّأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقّه وحدوده عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك
__________
[1] مزايلة: بمعنى الابتعاد عن.(1/378)
وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل، وإنّه رأس أمرك وملاك [1] شأنك وأوّل ما يوقفك الله عليه وليكن أوّل ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزّ وجلّ عليك من الصّلوات الخمس والجماعة عليها بالنّاس قبلك وتوابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزّ وجلّ فيها ورتّل في قراءتك وتمكّن في ركوعك وسجودك وتشهّدك ولتصرف فيه رأيك ونيّتك واحضض عليه جماعة ممّن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنّها كما قال الله عزّ وجلّ تنهى عن الفحشاء والمنكر ثمّ اتّبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السّلف الصّالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عزّ وجلّ وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عزّ وجلّ في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله عزّ وجلّ والعاملين به [2] فإنّ أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في الدّين والطّلب له والحثّ عليه والمعرفة بما يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ فإنّه الدّليل على الخير كلّه والقائد إليه والآمر والنّاهي عن المعاصي والموبقات كلّها ومع توفيق الله عزّ وجلّ يزداد المرء معرفة وإجلالا له ودركا [3] للدّرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للنّاس من التّوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثّقة بعدلك وعليك بالاقتصاد في الأمور كلّها فليس شيء أبين نفعا ولا أخصّ أمنا ولا أجمع فضلا منه. والقصد داعية إلى الرّشد والرّشد دليل على التّوفيق والتّوفيق قائد إلى السّعادة وقوام الدّين والسّنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلّها. ولا تقصّر في طلب
__________
[1] ملاك: ملاك الأمر: قوامه (المنجد) .
[2] صحيح العبارة ومقتضى سياق الجملة: «وآثر الفقه وأهله. والدين والعاملين به، وكتاب الله عز وجل وحملته» .
[3] وصولا.(1/379)
الآخرة والأجر والأعمال الصّالحة والسّنن المعروفة ومعالم الرّشد والإعانة والاستكثار من البرّ والسّعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أنّ القصد في شأن الدّنيا يورث العزّ ويمحّص من الذّنوب وأنّك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتمّ أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامّتك وخاصّتك وأحسن ظنّك باللَّه عزّ وجلّ تستقم لك رعيّتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلّها تستدم به النّعمة عليك ولا تتهمنّ أحدا من النّاس فيما تولّيه من عملك قبل أن تكشف أمره فإنّ إيقاع التّهم بالبراء والظّنون السّيئة بهم آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظّنّ بأصحابك واطرد عنك سوء الظّنّ بهم، وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا يجدنّ عدوّ الله الشّيطان في أمرك مغمزا [1] فإنّه يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغمّ بسوء الظّنّ بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنّك تجد بحسن الظّنّ قوّة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به النّاس إلى محبّتك والاستقامة في الأمور كلّها ولا يمنعك حسن الظّنّ بأصحابك والرّأفة برعيّتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرّعيّة والنّظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم أيسر عندك ممّا سوى ذلك فإنّه أقوم للدّين وأحيا للسّنّة. وأخلص نيّتك في جميع هذا وتفرّد بتقويم نفسك تفرّد من يعلم أنّه مسئول عمّا صنع ومجزيّ بما أحسن ومؤاخذ بما أساء فإنّ الله عزّ وجلّ جعل الدّين حرزا وعزّا ورفع من اتّبعه وعزّزه واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدّين وطريقة الهدى [2] . وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقّوه ولا تعطّل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخّر عقوبة أهل العقوبة فإنّ في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنّك واعتزم على أمرك في ذلك بالسّنن المعروفة وجانب البدع والشّبهات يسلم لك دينك وتقم
__________
[1] وفي بعض النسخ وردت هذه العبارة: «ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمدا» .
[2] وفي بعض النسخ طريقه الأهدى.(1/380)
لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كلّ ذي عيب من رعيّتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزّور، وأبغض أهل النّميمة، فإنّ أوّل فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، لأنّ الكذب رأس المآثم، والزّور والنّميمة خاتمتها، لأنّ النّميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصّلاح. والصّدق، وأعزّ الأشراف بالحقّ، وآس [1] الضّعفاء، وصل الرّحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدّار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيّتك وأنعم بالعدل في سياستهم [2] وقم بالحقّ فيهم، وبالمعرفة الّتي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. وأملك نفسك عند الغضب، وآثر الحلم والوقار، وإيّاك والحدّة والطّيش والغرور فيما أنت بسبيله. وإيّاك أن تقول أنا مسلّط أفعل ما أشاء فإنّ ذلك سريع إلى نقص الرّأي وقلّة اليقين باللَّه [3] عزّ وجلّ وأخلص للَّه وحده النّيّة فيه واليقين به. واعلم أنّ الملك للَّه سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء. ولن تجد تغيّر النّعمة وحلول النّقمة على أحد أسرع منه إلى حملة [4] النّعمة من أصحاب السّلطان والمبسوط لهم في الدّولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عزّ وجلّ من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الّتي تدّخر وتكنز البرّ والتّقوى واستصلاح الرّعيّة وعمارة بلادهم والتّفقّد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أنّ الأموال إذا اكتنزت وادّخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرّعيّة وإعطاء حقوقهم وكفّ الأذيّة عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامّة وترتّبت بها الولاية وطاب بها الزّمان واعتقد فيها العزّ والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق
__________
[1] وفي بعض النسخ وأعن الضعفاء.
[2] وفي بعض النسخ وأنعم بالعدل سياستهم.
[3] وفي بعض النسخ وقلة اليقين للَّه.
[4] وفي بعض النسخ جهلة النعمة.(1/381)
الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفّر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهّد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنّك إذا فعلت ذلك قرّت النّعمة عليك [1] واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيّتك وعملك أقدر [2] وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب أنفسا بكلّ ما أردت [3] وأجهد نفسك فيما حدّدت لك في هذا الباب وليعظم حقّك فيه وإنّما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله واعرف للشّاكرين حقّهم وأثبهم عليه وإيّاك أن تنسيك الدّنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحقّ عليك فإنّ التّهاون يورث التّفريط والتّفريط يورث البوار. وليكن عملك للَّه عزّ وجلّ وارج الثّواب فيه [4] فإنّ الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فإنّ الله عزّ وجلّ يثيب بقدر شكر الشّاكرين وإحسان المحسنين. ولا تحقّرنّ ذنبا ولا تمالئنّ حاسدا ولا ترحمنّ فاجرا ولا تصلنّ كفورا ولا تداهننّ عدوا ولا تصدّقنّ نمّاما ولا تأمننّ غدّارا ولا توالينّ فاسقا ولا تتّبعنّ غاويا ولا تحمدنّ مرائيا ولا تحقّرنّ إنسانا ولا تردّنّ سائلا فقيرا ولا تحسننّ باطلا ولا تلاحظنّ مضحكا ولا تخلفنّ وعدا ولا تزهونّ فخرا ولا تظهرنّ غضبا ولا تبايننّ رجاء ولا تمشينّ مرحا ولا تفرطنّ في طلب الآخرة ولا ترفع [5] للنّمام عينا ولا تغمضنّ عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبنّ ثواب الآخرة في الدّنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التّجارب وذوي العقل والرّأي والحكمة. ولا تدخلنّ في مشورتك أهل الرّفه والبخل ولا تسمعنّ لهم قولا فإنّ ضررهم أكثر من نفعهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيّتك من الشّحّ. واعلم أنّك إذا كنت حريصا كنت
__________
[1] وفي بعض النسخ قرت النعمة بك.
[2] وفي نسخة أخرى: وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر.
[3] وفي نسخة أخرى: وطب نفسا بكل ما أردت.
[4] وفي نسخة أخرى منه.
[5] وفي نسخة أخرى ترفض.(1/382)
كثير الأخذ قليل العطيّة وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك [1] إلّا قليلا فإنّ رعيّتك إنّما تعقد على محبّتك بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عليهم. وابتدئ [2] من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطيّة لهم. واجتنب الشّحّ واعلم أنّه أوّل ما عصى الإنسان به ربّه وإنّ العاصي بمنزلة خزي [3] وهو قول الله عزّ وجلّ «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9» [4] فسهّل طريق الجود بالحقّ واجعل للمسلمين كلّهم من فيئك [5] حظّا ونصيبا وأيقن أنّ الجود أفضل أعمال العباد فأعدّه لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا. وتفقّد الجند في دواوينهم ومكانتهم [6] وأدرّ عليهم أرزاقهم ووسّع عليهم في معايشهم يذهب الله عزّ وجلّ بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السّلطان من السّعادة أن يكون على جنده ورعيّته ذا رحمة في عدله وحيطته [7] وإنصافه وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة [8] الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا وفلاحا. واعلم أنّ القضاء من الله تعالى بالمكان الّذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنّه ميزان الله الّذي تعدّل عليه أحوال النّاس في الأرض. وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرّعيّة وتأمن السّبل وينتصف المظلوم وتأخذ النّاس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدّى حقّ الطّاعة ويرزق الله العافية والسّلامة ويقيم الدّين ويجري السّنن والشّرائع في مجاريها. واشتدّ في أمر الله عزّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى لم يستقم أمرك.
[2] وفي نسخة أخرى ووال.
[3] وفي نسخة أخرى الخزي.
[4] آخر آية 16 من سورة التغابن.
[5] وفي نسخة أخرى «في فيئك» .
[6] وفي نسخة أخرى مكاتبهم
[7] وفي نسخة أخرى وعطيته.
[8] وفي نسخة أخرى فضل.(1/383)
وجلّ وتورّع عن النّطف [1] وامض لإقامة الحدود. وأقلّ [2] العجلة وأبعد عن الضّجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشّبهة وأبلغ في الحجّة ولا يأخذك في أحد من رعيّتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبّت وتأنّ وراقب وانظر وتنكّر وتدبّر واعتبر وتواضع لربّك وارفق بجميع الرّعيّة وسلّط الحقّ على نفسك ولا تسرعنّ إلى سفك دم، فإنّ الدّماء من الله عزّ وجلّ بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقّها. وانظر هذا الخراج الّذي استقامت عليه الرّعيّة وجعله الله للإسلام عزّا ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوّه وعدوّهم [3] كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معاديهم ذلّا وصغارا فوزّعه بين أصحابه بالحقّ والعدل والتّسوية والعموم ولا تدفعنّ شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصّتك ولا حاشيتك ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال له. ولا تكلّف أمرا فيه شطط. واحمل النّاس كلّهم على أمر الحقّ فإنّ ذلك أجمع لأنفسهم [4] وألزم لرضاء العامّة. واعلم أنّك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنّما سمّي أهل عملك رعيّتك لأنّك راعيهم وقيّمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفّذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرّأي والتّدبير والتّجربة والخبرة بالعلم والعمل [5] بالسياسة والعفاف. ووسّع عليهم في الرّزق فإنّ ذلك من الحقوق اللّازمة لك فيما تقلّدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنّك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النّعمة من ربّك وحسن الأحدوثة في عملك واجتررت به المحبّة من رعيّتك وأعنت على الصّلاح فدرّت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفّرت
__________
[1] النطف: التلطخ بالعيب.
[2] وفي نسخة أخرى «وأقلل» .
[3] في بعض النسخ لم ترد هذه الكلمة.
[4] في بعض النسخ «لألفتهم» .
[5] في بعض النسخ «والعدل» .(1/384)
أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامّة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السّياسة مرضيّ العدل في ذلك عند عدوّك وكنت في أمورك كلّها ذا عدل وآلة وقوّة وعدّة. فنافس [1] في ذلك ولا تقدّم عليه شيئا تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى. واجعل في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار [2] عمّالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتّى كأنّك مع كلّ عامل في عمله معاين لأموره كلّها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدّفاع والصّنع فأمضه وإلّا فتوقّف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثمّ خذ فيه عدّته فإنّه ربّما نظر الرّجل في أمره وقدّره وأتاه على ما يهوى [3] فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقص عليه أمره. فاستعمل الحزم في كلّ ما أردت وباشره بعد عون الله عزّ وجلّ بالقوّة. وأكثر من استخارة ربّك في جميع أمورك. وافرغ من يومك ولا تؤخّره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإنّ للغد [4] أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الّذي أخّرت. واعلم أنّ اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك [5] ذلك حتّى تمرض منه. وإذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك وانظر أحرار النّاس وذوي الفضل منهم ممّن بلوت صفاء طويّتهم وشهدتّ مودّتهم لك ومظاهرتهم بالنّصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممّن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مئونتهم وأصلح حالهم حتّى لا يجدوا لخلّتهم مسّا [6] وأفرد نفسك للنّظر [7] في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك
__________
[1] في بعض النسخ «فتنافس» .
[2] في بعض النسخ «خبر» .
[3] في بعض النسخ «وقدّره وأثاه على ما يهوى» .
[4] في بعض النسخ «الغير» .
[5] في بعض النسخ «فيشغلك» .
[6] في بعض النسخ «منافرا» بمعنى مفاخرا.
[7] في بعض النسخ «بالنظر» .(1/385)
والمحتقر الّذي لا علم له بطلب حقّه فسل عنه أحفى مسألة ووكّل بأمثاله أهل الصّلاح من رعيّتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم [1] إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم [2] وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزّه الله تعالى في العطف عليهم والصّلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضرّاء من بيت المال وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقوّاما يرفقون بهم وأطبّاء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدّ ذلك إلى إسراف [3] في بيت المال. واعلم أنّ النّاس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيّهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزّيادة وفضل الرّفق منهم [4] . وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه فيها [5] ما يناله به من مئونة ومشقّة. وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالّذي يستقبل ما يقرّبه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته [6] وأكثر الإذن للنّاس عليك وأبرز لهم [7] وجهك وسكّن لهم حواسّك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنّطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصّنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإنّ العطيّة على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدّنيا ومن مضى قبلك من أهل السّلطان والرّئاسة في القرون الخالية والأمم
__________
[1] في بعض النسخ «وخلالهم» .
[2] في بعض النسخ «ويتماهم» .
[3] في بعض النسخ «مسرف» .
[4] في بعض النسخ «بهم» .
[5] في بعض النسخ «ويشغل ذكره وفكره منها» .
[6] في بعض النسخ «يستقل ما يقرّبه من الله تعالى، وتلتمس به رحمته.
[7] في بعض النسخ «وأرهم» .(1/386)
البائدة. ثمّ اعتصم في أحوالك كلّها باللَّه سبحانه وتعالى والوقوف عند محبّته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عزّ وجلّ. واعرف ما يجمع عمّالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتّباع السّنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصّتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرّك وإعلانك [1] بما فيه من النّقص فإنّ أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك [2] . وانظر عمّالك الّذين بحضرتك وكتّابك فوقّت لكلّ رجل منهم في كلّ يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمّالك وأمور الدّولة ورعيّتك ثمّ فرّغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرّر النّظر فيه والتّدبّر له فما كان موافقا للحقّ والحزم فأمضه واستخر الله عزّ وجلّ فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتّثبّت منه ولا تمننّ على رعيّتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلّا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير [3] المسلمين ولا تضعنّ المعروف إلّا على ذلك. وتفهّم كتابي إليك وأنعم النّظر فيه والعمل به واستعن باللَّه على جميع أمورك واستخره فإنّ الله عزّ وجلّ مع الصّلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان للَّه عزّ وجلّ رضى ولدينه نظاما ولأهله عزّا وتمكينا وللملّة والذّمّة [4] عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسّلام. وحدّث الأخباريّون أنّ هذا الكتاب لمّا ظهر وشاع أمره أعجب به النّاس واتّصل بالمأمون فلمّا قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطّيّب يعني طاهرا شيئا من أمور الدّنيا والدّين والتّدبير والرّأي والسّياسة وصلاح الملك والرّعيّة وحفظ
__________
[1] في بعض النسخ «في ستر، وإعلامك ... »
[2] في بعض النسخ «ومظاهريك» .
[3] لم ترد هذه الكلمة في بعض النسخ.
[4] الملة: الإسلام، وأهل الذمة: أهل الكتاب من يهود ونصارى وقد دخلوا في ذمة الإسلام وحمايتهم.(1/387)
السّلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلّا وقد أحكمه وأوصى به ثمّ أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمّال في النّواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السّياسة والله أعلم.
الفصل الثالث والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
اعلم أنّ في المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار أنّه لا بدّ في آخر الزّمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدّين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلاميّة ويسمّى بالمهديّ ويكون خروج الدّجّال وما بعده من أشراط [1] السّاعة الثّابتة في الصّحيح على أثره وأنّ عيسى ينزل من بعده فيقتل الدّجّال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتمّ بالمهديّ في صلاته ويحتجّون في الشّأن بأحاديث خرّجها الأئمّة وتكلّم فيها المنكرون لذلك وربّما عارضوها ببعض الأخبار وللمتصوّفة المتأخّرين في أمر هذا الفاطميّ طريقة أخرى ونوع من الاستدلال وربّما يعتمدون في ذلك على الكشف الّذي هو أصل طرائقهم. ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشّأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثمّ نتبعه بذكر كلام المتصوّفة ورأيهم ليتبيّن لك الصّحيح من ذلك إن شاء الله تعالى فنقول إنّ جماعة من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهديّ منهم التّرمذيّ وأبو داود والبزّاز وابن ماجة والحاكم والطّبرانيّ وأبو يعلى الموصليّ وأسندوها إلى جماعة من الصّحابة مثل عليّ وابن عبّاس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدريّ وأمّ حبيبة وأمّ سلمة وثوبان وقرّة بن إياس وعليّ الهلاليّ وعبد الله بن الحارث بن
__________
[1] علامات.(1/388)
جزء بأسانيد ربّما يعرّض لها المنكرون كما نذكره إلّا أنّ المعروف عند أهل الحديث أنّ الجرح مقدّم على التّعديل فإذا وجدنا طعنا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرّق ذلك إلى صحّة الحديث وأوهن منها ولا تقولنّ مثل ذلك ربّما يتطرّق إلى رجال الصّحيحين فإنّ الإجماع قد اتّصل في الأمّة على تلقّيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعا وليس غير الصّحيحين بمثابتهما في ذلك فقد تجد مجالا للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمّة الحديث في ذلك.
ولقد توغّل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيليّ عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهديّ فقال ومن أغربها إسنادا ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مستندا إلى مالك بن أنس عن محمّد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كذّب بالمهديّ فقد كفر ومن كذّب بالدّجال فقد كذب [1] وقال في طلوع الشّمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب وحسبك هذا غلوّا. والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس على أنّ أبا بكر الإسكاف عندهم متّهم وضّاع.
وأمّا التّرمذيّ فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عبّاس من طريق عاصم بن أبي النّجود أحد القرّاء السّبعة إلى زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو لم يبق من الدّنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله فيه رجلا منّي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. هذا لفظ أبي داود وسكت عليه وقال في رسالته المشهورة إنّ ما سكت عليه في كتابه فهو صالح ولفظ التّرمذيّ لا تذهب الدّنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وفي لفظ آخر حتّى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح ورواه أيضا من طريق موقوفا على أبي هريرة وقال
__________
[1] في بعض النسخ «فقد كفر» .(1/389)
الحاكم رواه الثّوريّ وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمّة المسلمين عن عاصم قال:
وطرق عاصم عن زرّ عن عبد الله كلّها صحيحة على ما أصّلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمّة المسلمين (انتهى) إلّا أنّ عاصما قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلا صالحا قارئا للقرآن خيّرا ثقة والأعمش أحفظ منه وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث وقال العجليّ كان يختلف عليه في زرّ وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما وقال محمّد بن سعد كان ثقة إلّا أنّه كثير الخطإ في حديثه وقال يعقوب بن سفيان في حديثه اضطراب وقال عبد الرّحمن بن أبي حاتم قلت لأبي إنّ أبا زرعة يقول عاصم ثقة فقال ليس محلّه هذا وقد تكلّم فيه ابن عليّة فقال كلّ من اسمه عاصم سيّئ الحفظ وقال أبو حاتم محلّه عندي محلّ الصّدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ واختلف فيه قول النّسائيّ وقال ابن حرّاش في حديثه نكرة وقال أبو جعفر العقيليّ لم يكن فيه إلّا سوء الحفظ وقال الدّارقطنيّ في حفظه شيء وقال يحيى القطّان ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلّا وجدته رديء الحفظ وقال أيضا سمعت شعبة يقول حدّثنا عاصم بن أبي النّجود وفي النّاس ما فيها وقال الذّهبيّ ثبت في القراءة وهو حسن الحديث. وإن احتجّ أحد بأنّ الشّيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقرونا بغيره لا أصلا والله أعلم.
وخرّج أبو داود في الباب عن عليّ رضي الله عنه من رواية قطن بن خليفة عن القاسم بن أبي مرّة عن أبي الطّفيل عن عليّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو لم يبق من الدّهر إلّا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا» وقطن [1] بن خليفة وإن وثقه أحمد ويحيى بن القطّان وابن معين والنّسائيّ وغيرهم إلّا أنّ العجليّ قال: حسن الحديث وفيه تشيّع قليل: وقال ابن معين مرّة: ثقة شيعيّ. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنّا نمرّ على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه. وقال مرّة: كنت أمرّ به وأدعه مثل الكلب. وقال
__________
[1] وفي نسخ نسخة أخرى فطر بن خليفة.(1/390)
الدّارقطنيّ: لا يحتجّ به. وقال أبو بكر بن عيّاش: ما تركت الرّواية عنه إلّا لسوء مذهبه. وقال الجرجانيّ: زائغ غير ثقة انتهى. وخرّج أبو داود أيضا بسنده إلى عليّ رضي الله عنه عن مروان بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق النّسفيّ قال: قال عليّ ونظر إلى ابنه الحسن إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيخرج من صلبه رجل يسمّى باسم نبيّكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلا وقال هارون حدّثنا عمر بن أبي قيس عن مطرّف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت عليّا يقول: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «يخرج رجل من وراء النّهر يقال له الحارث على مقدّمته رجل يقال له منصور يوطّئ أو يمكن لآل محمّد كما مكّنت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجب على كلّ مؤمن نصره أو قال إجابته» سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هارون: هو من ولد الشّيعة. وقال السّليمانيّ: فيه نظر. وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس في حديثه خطأ. وقال الذّهبي: صدق له أوهام. وأمّا أبو إسحاق الشّيعيّ وإن خرّج عنه في الصّحيحين فقد ثبت أنّه اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة. وأمّا السّند الثّاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلّا من رواية مطرّف بن طريف عنه انتهى. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ سلمة قالت سمعت في المستدرك [1] من طريق عليّ بن نفيل عن سعيد بن المسيّب عن أمّ سلمة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المهديّ من ولد فاطمة» ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر المهديّ فقال: «نعم هو حقّ وهو من بني فاطمة» ولم يتكلّم عليه بالصّحيح ولا غيره وقد ضعّفه أبو جعفر العقيليّ وقال: لا يتابع عليّ بن نفيل عليه ولا يعرف إلّا به. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ سلمة من رواية صالح
__________
[1] وردت هذه الجملة في نسخة أخرى كما يلي: «وخرّج أبو داود أيضا عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك ... »(1/391)
أبي الخليل [1] عن صاحب له عن أمّ سلمة قال: يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكّة فيأتيه ناس من أهل مكّة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الرّكن والمقام فيبعث إليه بعث من الشّام فيخسف بهم بالبيداء بين مكّة والمدينة فإذا رأى النّاس ذلك أتاه أبدال [2] أهل الشّام وعصائب أهل العراق فيبايعونه ثمّ ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال ويعمل في النّاس بسنّة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين وقال بعضهم تسع سنين ثمّ رواه أبو داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أمّ سلمة فتبيّن بذلك المبهم في الإسناد الأوّل ورجاله رجال الصّحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز وقد يقال إنّه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلّس وقد عنعنه والمدلّس لا يقبل من حديثه إلّا ما صرّح فيه بالسّماع، مع أنّ الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه.
وخرّج أبو داود أيضا وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّي أجلى الجبهة اقنى [3] الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يملك سبع سنين» هذا لفظ أبي داود وسكت عليه ولفظ الحاكم: «المهديّ منّا أهل البيت أشمّ الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يعيش هكذا ويبسط يساره وإصبعين من يمينه السّبّابة والإبهام وعقد ثلاث [4] » قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه. 1 هـ-. وعمران القطّان مختلف في الاحتجاج به إنّما أخرج له البخاريّ استشهادا لا أصلا وكان يحيى القطّان لا يحدّث عنه وقال يحيى بن معين: ليس بالقويّ وقال مرّة: ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل
__________
[1] وفي نسخة أخرى صالح بن الخليل.
[2] الابدال: الأولياء.
[3] اجلى الجبهة: واسع الجبهة. اقنى الأنف: مرتفع أعلاه. محدوب في الوسط.
[4] وفي نسخة أخرى: «وعقد ثلاثة» .(1/392)
أرجو أن يكون صالح الحديث وقال يزيد بن زريع كان حروريّا [1] وكان يرى السّيف على أهل القبلة وقال النّسائيّ ضعيف وقال أبو عبيد الآجريّ: سألت أبا داود عنه، فقال من أصحاب الحسن وما سمعت إلّا خيرا. وسمعته مرّة أخرى ذكره فقال: ضعيف أفتى في إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدّماء. وخرّج التّرمذيّ وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدريّ من طريق زيد العميّ عن أبي صديق النّاجيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ في أمّتي المهديّ يخرج ويعيش خمسا أو سبعا أو تسعا» زيد الشّاكّ قال قلنا: وما ذاك؟ قال سنين! قال: «فيجيء إليه الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني» قال: «فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله» لفظ التّرمذيّ وقال: هذا حديث حسن وقد روى من غير وجه عن أبي سعيد عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولفظ ابن ماجة والحاكم: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فتسع فتنعم أمّتي فيه نعمة لم يسمعوا بمثلها قطّ تؤتى الأرض أكلها ولا يدّخر منه شيء والمال يومئذ كدوس فيقوم الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني فيقول خذ.» انتهى. وزيد العميّ وإن قال فيه الدّارقطنيّ وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنّه صالح وزاد أحمد إنّه فوق يزيد الرّقاشيّ وفضل بن عيسى إلّا أنّه قال فيه أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال يحيى بن معين في رواية أخرى: لا شيء. وقال مرّة يكتب حديثه وهو ضعيف. وقال الجرجانيّ: متماسك وقال أبو زرعة ليس:
بقويّ واهي الحديث ضعيفا وقال أبو حاتم ليس بذاك وقد حدّث عنه شعبة.
وقال النّسائيّ: ضعيف وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه ومن يروى عنهم ضعفاء على أنّ شعبة قد روى عنه ولعلّ شعبة لم يرو عن أضعف منه.
وقد يقال إنّ حديث التّرمذيّ وقع تفسيرا لما رواه مسلم في صحيحه من
__________
[1] نسبة إلى حروراء بلدة قرب الكوفة والحرورية فرقة من الخوارج.(1/393)
حديث جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون في آخر أمّتي خليفة يحثو المال حثوا لا يعدّه عدّا» ومن حديث أبي سعيد قال: «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثوا» ومن طريق أخرى عنهما قال: «يكون في آخر الزّمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه» انتهى. وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهديّ ولا دليل يقوم على أنّه المراد منها. ورواه الحاكم أيضا من طريق عوف الأعرابيّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم السّاعة حتّى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا ثمّ يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا» وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه. ورواه الحاكم أيضا عن طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«يخرج في آخر أمّتي المهديّ يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمّة يعيش سبعا أو ثمانيا» يعني حججا وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. مع أنّ سليمان بن عبيد لم يخرّج له أحد من السّتّة لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات ولم يرد أنّ أحدا تكلّم فيه ثمّ رواه الحاكم أيضا من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الورّاق وأبي هارون العبديّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تملأ الأرض جورا وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا أو تسعا فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما» وقال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم لأنّه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الورّاق. وأمّا شيخه الآخر وهو أبو هارون العبديّ فلم يخرّج له. وهو ضعيف جدّا متّهم بالكذب ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمّة في تضعيفه. وأمّا الرّاوي له عن حماد بن سلمة فهو أسد بن موسى يلقّب أسد السّنّة وإن قال البخاريّ: مشهور الحديث واستشهد به في صحيحه. واحتجّ به أبو داود والنّسائيّ(1/394)
إلّا أنّه قال مرّة أخرى: ثقة لو لم يصنّف كان خيرا له. وقال فيه محمّد بن حزم:
منكر الحديث. ورواه الطّبرانيّ في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصّدّيق النّاجي عن الحسن بن يزيد السعديّ أحد بني بهذلة عن أبي سعيد الخدريّ قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرج رجل من أمّتي يقول بسنّتي ينزل الله عزّ وجلّ له القطر من السّماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يعمل على هذه الأمّة سبع سنين وينزل على بيت المقدس» وقال الطّبرانيّ: فيه رواه جماعة عن أبي الصّدّيق ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحدا إلّا أبا الواصل فإنّه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد انتهى. وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرّفه بأكثر ممّا في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصّدّيق عنه وقال الذّهبيّ في الميزان: إنّه مجهول. لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات وأمّا أبو الواصل الّذي رواه عن أبي الصّدّيق فلم يخرّج له أحد من السّتّة. وذكره ابن حبّان في الثّقات في الطّبقة الثّانية وقال فيه: يروى عن أنس روى عنه شعبة وعتاب بن بشر وخرّج ابن ماجة في كتاب السّنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلمّا رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذرفت عيناه وتغيّر لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال: «إنّا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا حتّى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخبر فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتّى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤها جورا فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثّلج» انتهى.
وهذا الحديث يعرف عند المحدّثين بحديث الرّايات. ويزيد بن أبي(1/395)
زياد راويه قال فيه شعبة: كان رفّاعا يعني يرفع الأحاديث الّتي لا تعرف مرفوعة. وقال محمّد بن الفضيل: من كبار أئمّة الشّيعة. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ وقال مرّة: حديثه ليس بذلك. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجليّ: جائز الحديث، وكان بآخره يلقّن. وقال أبو زرعة: ليّن يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ. وقال الجرجانيّ: سمعتهم يضعّفون حديثه. وقال أبو داود: لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحبّ إليّ منه. وقال ابن عديّ هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه. وروى له مسلم لكن مقرونا بغيره. وبالجملة فالأكثرون على ضعفه.
وقد صرّح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الّذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وهو حديث الرّايات. وقال وكيع بن الجرّاح فيه: ليس بشيء. وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرّايات لو حلف عندي خمسين يمينا أسامة [1] ما صدّقته أهذا مذهب إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ وأورد العقيليّ هذا الحديث في الضّعفاء وقال الذّهبيّ ليس بصحيح. وخرّج ابن ماجة عن عليّ رضي الله عنه من رواية ياسين العجليّ عن إبراهيم بن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّا أهل البيت يصلح الله به في ليلة» . وياسين العجليّ وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاريّ فيه نظر. وهذه اللّفظة من اصطلاحه قويّة في التّضعيف جدّا. وأورد له ابن عديّ في الكامل والذّهبيّ في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف به. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أمنّا المهديّ أم من غيرنا يا رسول الله؟» فقال: «بل منّا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من الشّرك وبنا يؤلّف الله قلوبهم بعد
__________
[1] في نسخة أخرى: قسامة.(1/396)
عداوة بيّنة كما بنا ألّف بين قلوبهم بعد عداوة الشّرك» . قال عليّ: «أمؤمنون أم كافرون؟» قال: «مفتون وكافر» . انتهى. وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. وفيه عمر بن جابر الحضرميّ وهو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكير وبلغني أنّه كان يكذب وقال النّسائيّ:
ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخا أحمق ضعيف العقل وكان يقول: «عليّ في السّحاب» وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: «هذا عليّ قد مرّ في السّحاب» وخرّج الطّبرانيّ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في آخر الزّمان فتنة يحصل النّاس فيها كما يحصل الذّهب في المعدن فلا تسبّوا أهل الشّام ولكن سبّوا أشرارهم فإنّ فيهم الابدال [1] يوشك أن يرسل على أهل الشّام صيّب من السّماء فيفرّق جماعتهم حتّى لو قاتلتهم الثّعالب غلبتهم فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول بهم خمسة عشر ألفا والمقلّ يقول بهم اثنا عشر ألفا وأمارتهم «أمت أمت» [2] يلقون سبع رايات تحت كلّ راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعا ويردّ الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورأيهم [3] هـ-.
وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرّجاه في روايته ثمّ يظهر الهاشميّ فيردّ الله النّاس إلى ألفتهم إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر.
وخرّج الحاكم في المستدرك عن عليّ رضي الله عنه من رواية أبي الطّفيل عن محمّد بن الحنفيّة قال: «كنّا عند عليّ رضي الله عنه فسأله رجل عن المهديّ فقال له: هيهات ثمّ عقد بيده سبعا فقال ذلك يخرج في آخر الزّمان إذا قال الرّجل الله الله قتل ويجمع الله له قوما قزعا [4] كقزع السّحاب يؤلّف الله بين قلوبهم فلا
__________
[1] الأولياء.
[2] هذه الكلمة كانت كلمة السر بين أفراد المسلمين في غزوة بدر.
[3] في نسخة أخرى: «رايتهم» .
[4] أي أفواجا.(1/397)
يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم عدّتهم على عدّة أهل بدر لم يسبقهم الأوّلون ولا يدركهم الآخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الّذين جاوزوا معه النّهر. قال أبو الطّفيل قال ابن الحنفيّة: أتريده؟ قلت: نعم. قال: فإنّه يخرج من بين هذين الأخشبين [1] قلت لا جرم والله ولا أدعها حتّى أموت» ومات بها يعني مكّة قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين» .
وإنّما هو على شرط مسلم فقط فإنّ فيه عمّارا الذّهبيّ [2] ويونس بن أبي إسحاق ولم يخرّج لهما البخاريّ وفيه عمرو بن محمّد العبقريّ ولم يخرّج له البخاريّ احتجاجا بل استشهادا مع ما ينضمّ إلى ذلك من تشيّع عمّار الذّهبيّ وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم النسائيّ وغيرهم فقد قال عليّ بن المدنيّ [3] عن سفيان أنّ بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في أيّ شيء؟ قال: في التّشيّع.
وخرّج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن عليّ بن زياد اليماميّ عن عكرمة بن عمّار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن ولد عبد المطّلب سادات أهل الجنّة أنا وحمزة وعليّ وجعفر والحسن والحسين والمهديّ» . انتهى.
وعكرمة بن عمّار وإن أخرج له مسلم فإنّما أخرج له متابعة. وقد ضعّفه بعض ووثّقه آخرون وقال أبو حاتم الرّازيّ: هو مدلّس فلا يقبل إلى أن يصرّح بالسّماع عليّ بن زياد. قال الذّهبيّ في الميزان: لا ندري من هو، ثمّ قال الصّواب فيه: عبد الله بن زياد وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلّم فيه الثّوريّ قالوا لأنّه رآه يفتي في مسائل ويخطئ فيها. وقال ابن حبّان: كان ممّن فحش عطاؤه فلا يحتجّ فيه. وقال أحمد بن حنبل: سعيد [4] بن عبد الحميد يدّعي أنّه سمع عرض
__________
[1] «الجبلان المطيفان بمكة وهما: أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقان» .
[2] وفي نسخة أخرى «عمّارا الدّهني» .
[3] وفي نسخة أخرى «علي بن المديني» .
[4] وفي نسخة أخرى «سعد بن عبد الحميد» .(1/398)
كتب مالك والنّاس ينكرون عليه ذلك وهو هاهنا ببغداد لم يحتجّ [1] فكيف سمعها؟ وجعله الذّهبيّ ممّن لم يقدح فيه كلام من تكلّم فيه وخرّج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عبّاس موقوفا عليه قال مجاهد قال لي ابن عبّاس: لو لم أسمع أنّك مثل أهل البيت ما حدّثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد: فإنّه في ستر لا أذكره لمن يكره قال فقال ابن عبّاس: «منّا أهل البيت أربعة منّا السّفّاح ومنّا المنذر ومنّا المنصور ومنّا المهديّ» قال فقال مجاهد: بيّن لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عبّاس: «أمّا السّفّاح فربّما قتل أنصاره وعفا عن عدوّه، وأمّا المنذر أراه قال فإنّه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه ويمسك القليل من حقّه وأمّا المنصور فإنّه يعطى النّصر على عدوّه الشّطر ممّا كان يعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرهب منه عدوّه على مسيرة شهرين والمنصور يرهب منه عدوّه على مسيرة شهر وأمّا المهديّ الّذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وتأمن البهائم السّباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» . قال: «قلت وما أفلاذ كبدها؟» قال: «أمثال الأسطوانة من الذّهب والفضّة» . وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه وإن خرّج له مسلّم فالأكثرون على تضعيفه.
وخرّج ابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقتتل عند كبركم [2] ثلاثة كلّهم ابن خليفة ثمّ لا يصير إلى واحد منهم ثمّ تطلع الرّايات السّود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلا لم يقتله قوم» ثمّ ذكر شيئا لا أحفظه قال:
«فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثّلج فإنّه خليفة الله المهديّ» . 1 هـ-.
ورجاله رجال الصّحيحين إلّا أنّ فيه أبا قلابة الجرميّ وذكر الذّهبيّ وغيره أنّه مدلس وفيه سفيان الثّوريّ وهو مشهور بالتّدليس وكلّ واحد منهما عنعن ولم يصرّح بالسّماع فلا يقبل وفيه عبد الرّزاق بن همّام وكان مشهورا بالتّشيّع وعمي
__________
[1] وفي نسخة أخرى «لم يحجّ» .
[2] وفي نسخة أخرى «كنزكم» .(1/399)
في آخر وقته فخلّط قال ابن عديّ: «حدّث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد» ونسبوه إلى التّشيّع. انتهى. وخرّج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزّيديّ من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرميّ عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يخرج ناس من المشرق فيوطّئون للمهديّ» . يعني سلطانه. قال الطّبرانيّ: تفرّد به ابن لهيعة وقد تقدّم لنا في حديث عليّ الّذي خرّجه الطّبراني في معجمه الأوسط أنّ ابن لهيعة ضعيف وأنّ شيخه عمر بن جابر أضعف منه وخرّج البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه الأوسط واللّفظ للطّبرانيّ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فثمان وإلّا فتسع تنعم فيها أمّتي نعمة لم ينعموا بمثلها ترسل السّماء عليهم مدرارا ولا تدّخر الأرض شيئا من النّبات والمال كدوس يقوم الرّجل يقول يا مهديّ أعطني فيقول خذ» . قال الطّبرانيّ والبزّار تفرّد به محمّد بن مروان العجليّ زاد البزّار: ولا نعلم أنّه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبّان أيضا بما ذكره في الثّقات وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال مرّة ليس به بأس فقد اختلفوا فيه وقال أبو زرعة: ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت محمّد بن مروان العجليّ حدّث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها تركتها على عمد وكتب بعض أصحابنا عنه كأنّه ضعّفه. وخرّجه أبو يعلى الموصليّ في مسندة عن أبي هريرة وقال: «حدّثني خليلي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تقوم السّاعة حتّى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتّى يرجعوا إلى الحقّ قال قلت:
وكم يملك؟ قال: خمسا واثنتين قال قلت وما خمسا واثنتين قال لا أدري» . وهذا السّند غير محتجّ به وإن قال فيه بشير بن نهيك وقال فيه أبو حاتم لا يحتجّ به فقد احتجّ به الشّيخان ووثقه النّاس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتجّ به إلّا أنّه قال فيه رجاء [1] ابن أبي رجاء اليشكريّ وهو مختلف فيه قال
__________
[1] وفي نسخة أخرى: «إلا أن فيه رجاء» .(1/400)
أبو زرعة ثقة وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرّة: صالح. وعلّق له البخاريّ في صحيحه حديثا واحدا. وخرّج أبو بكر البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه الكبير والأوسط عن قرّة بن إياس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لتملأنّ الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما بعث الله رجلا من أمّتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما فلا تمنع السّماء من قطرها شيئا ولا تدّخر الأرض من نباتها يلبث فيكم سبعا أو ثمانيا أو تسعا» . يعني سنين. 1 هـ-. وفيه داود بن المحبّي بن المحرم [1] عن أبيه وهما ضعيفان جدّا. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المهاجرين والأنصار وعليّ بن أبي طالب عن يساره والعبّاس عن يمينه إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار فأغلظ الأنصاريّ للعبّاس فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد العبّاس وبيد عليّ» وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التّميميّ فإنّه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهديّ» . انتهى. وفيه عبد الله بن عمر وعبد الله بن لهيعة وهما ضعيفان. 1 هـ-.
وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون فتنة لا يسكن منها جانب إلّا تشاجر جانب حتّى ينادي مناد من السّماء إنّ أميركم فلان. 1 هـ-. وفيه المثنّى بن الصّباح وهو ضعيف جدّا. وليس في الحديث تصريح بذكر المهديّ وإنّما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناسا. فهذه جملة الأحاديث الّتي خرّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزّمان. وهي كما رأيت لم يخلص منها من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه. وربّما تمسّك المنكرون لشأنه بما رواه محمّد بن خالد الجنديّ عن أبان بن صالح بن أبي عيّاش عن الحسن البصريّ عن أنس بن مالك عن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: داود بن المجبّر بن قحدم.(1/401)
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا مهديّ إلّا عيسى بن مريم» وقال يحيى بن معين في محمّد بن خالد الجندي: إنّه ثقة. وقال البيهقيّ: تفرّد به محمّد بن خالد.
وقال الحاكم فيه: إنّه رجل مجهول واختلف عليه في إسناده فمرّة يروونه [1] كما تقدّم وينسب ذلك لمحمّد بن إدريس الشّافعيّ ومرّة يروونه [1] عن محمّد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. قال البيهقيّ: فرجع إلى رواية محمّد بن خالد وهو مجهول عن أبان بن أبي عيّاش وهو متروك عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو منقطع وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. وقد قيل «أن لا مهديّ إلّا عيسى» أي لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى يحاولون بهذا التّأويل ردّ الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريج ومثله من الخوارق. وأمّا المتصوّفة فلم يكن المتقدّمون منهم يخوضون في شيء من هذا وإنّما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال وكان كلام الإماميّة والرافضة من الشّيعة في تفضيل عليّ رضي الله عنه والقول بإمامته وادّعاء الوصيّة له بذلك من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والتّبرّي من الشّيخين كما ذكرناه في مذاهبهم ثمّ حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم وكثرت التّآليف في مذاهبهم. وجاء الإسماعيليّة منهم يدّعون الوهيّة الإمام بنوع من الحلول وآخرون يدّعون رجعة من مات من الأئمّة بنوع التّناسخ، وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلّين على ذلك بما قدّمناه من الأحاديث في المهديّ وغيرها. ثمّ حدث أيضا عند المتأخّرين من الصّوفيّة الكلام في الكشف وفيما وراء الحسّ وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها الإماميّة والرّافضة لقولهم بألوهيّة الأئمّة وحلول الإله فيهم.
وظهر منهم أيضا القول بالقطب والإبدال وكأنّه يحاكي مذهب الرّافضة في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يروى.(1/402)
الإمام والنّقباء. وأشربوا أقوال الشّيعة وتوغّلوا في الدّيانة بمذاهبهم، حتّى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أنّ عليّا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصريّ وأخذ عليه العهد بالتزام الطّريقة. واتّصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن عليّ من وجه صحيح. ولم تكن هذه الطّريقة خاصّة بعليّ كرّم الله وجهه بل الصّحابة كلّهم أسوة في طريق الهدى وفي تخصيص هذا بعليّ دونهم رائحة من التّشيّع قويّة يفهم منها ومن غيرها من القوم دخلهم [1] في التّشيّع وانخراطهم في سلكه. وظهر منهم أيضا القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيليّة من الرّافضة وكتب المتأخرين من المتصوّفة بمثل ذلك في الفاطميّ المنتظر. وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقّنه بعضهم عن بعض وكأنّه مبنيّ على أصول واهية من الفريقين وربّما يستدلّ بعضهم بكلام المنجّمين في القرانات وهو من نوع الكلام في الملاحم ويأتي الكلام عليها في الباب الّذي يلي هذا. وأكثر من تكلّم من هؤلاء المتصوّفة المتأخّرين في شأن الفاطميّ، ابن العربيّ، الحاتميّ في كتاب (عنقاء مغرب) وابن قسيّ في كتاب (خلع النّعلين) وعبد الحقّ بن سبعين وابن أبي واصل [2] تلميذه في شرحه لكتاب (خلع النّعلين) . وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال وربّما يصرّحون في الأقلّ أو يصرّح مفسّرو كلامهم. وحاصل مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أبي واصل أنّ النّبوة بها ظهر الحقّ والهدى بعد الضّلال والعمى وأنّها تعقبها الخلافة ثمّ يعقب الخلافة الملك ثمّ يعود تجبّرا وتكبّرا وباطلا.
قالوا: ولمّا كان في المعهود من سنّة الله رجوع الأمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النّبوة والحقّ بالولاية ثمّ بخلافتها ثمّ يعقبها الدّجل مكان الملك والتّسلّط ثمّ يعود الكفر بحاله. يشيرون بهذا لما وقع من شأن النّبوة والخلافة بعدها والملك بعد الخلافة. هذه ثلاث مراتب. وكذلك الولاية الّتي هي لهذا الفاطميّ والدّجل بعدها كناية عن خروج الدّجّال على أثره والكفر من بعد ذلك. فهي ثلاث
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن أبي واطيل.(1/403)
مراتب على نسبة الثّلاث المراتب الأولى. قالوا: ولمّا كان أمر الخلافة لقريش حكما شرعيّا بالإجماع الّذي لا يوهنه إنكار من يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخصّ من قريش بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إمّا ظاهرا كبني عبد المطّلب وإمّا باطنا ممّن كان من حقيقة الآل، والآل من إذا حضر لم يلقّب [1] من هو آله.
وابن العربيّ الحاتميّ سمّاه في كتابه «عنقاء مغرب» من تأليفه: خاتم الأولياء وكنى عنه بلبنة الفضّة إشارة إلى حديث البخاريّ في باب خاتم النّبيّين قال صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتا وأكمله حتّى إذا لم يبق منه إلّا موضع لبنة فأنا تلك اللّبنة» فيفسّرون خاتم النّبيّين باللّبنة حتّى أكملت البنيان ومعناه النّبيّ الّذي حصلت له النّبوة الكاملة. ويمثّلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنّبوءة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرّتبة الّتي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزا للمرتبة التي هي خاتمة النّبوة. فكنى الشّارح [2] عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور.
وهما على نسبة واحدة فيهما. فهي لبنة واحدة في التّمثيل. ففي النّبوة لبنة ذهب وفي الولاية لبنة فضّة للتّفاوت بين الرّتبتين كما بين الذّهب والفضّة.
فيجعلون لبنة الذّهب كناية عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولبنة الفضّة كناية عن هذا الوليّ الفاطميّ المنتظر وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء. وقال ابن العربيّ فيما نقل ابن أبي واصل عنه وهذا الإمام المنتظر هو من أهل البيت من ولد فاطمة وظهوره يكون من بعد مضيّ (خ ف ج) من الهجرة ورسم حروفا ثلاثة يريد عددها بحساب الجمّل وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستّمائة والفاء أخت القاف بثمانين والجيم المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة وذلك ستّمائة وثلاث وثمانون سنة وهي آخر القرن السّابع ولمّا انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لم يغب.
[2] وفي نسخة أخرى: الشارع.(1/404)
بعض المقلّدين لهم على أنّ المراد بتلك المدّة مولده وعبّر بظهوره عن مولده وأنّ خروجه يكون بعد العشر السبعمائة فإنّه الإمام النّاجم من ناحية المغرب. قال:
«وإذا كان مولده كما زعم ابن العربيّ سنة ثلاث وثمانين وستّمائة فيكون عمره عند خروجه ستّا وعشرين سنة» قال وزعموا أنّ خروج الدّجّال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمّديّ وابتداء اليوم المحمّديّ عندهم من يوم وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تمام ألف سنة» قال ابن أبيّ واصل في شرحه كتاب (خلع النّعلين) الوليّ المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمّد المهديّ وخاتم الأولياء وليس هو بنبيّ وإنّما هو وليّ ابتعثه روحه وحبيبه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «العالم في قومه كالنّبيّ في أمّته» . وقال: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل ولم تزل البشرى تتابع به من أوّل اليوم المحمّديّ إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكّدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلمّ جرّا» قال وذكر الكنديّ: «أنّ هذا الوليّ هو الّذي يصلّي بالنّاس صلاة الظّهر ويجدّد الإسلام ويظهر العدل ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه ويفتح القسطنطينيّة ويصير له ملك الأرض فيتقوّى المسلمون ويعلو الإسلام ويطّهّر دين الحنفيّة فإنّ من صلاة الظّهر إلى صلاة العصر وقت صلاة» قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما بين هذين وقت» وقال الكنديّ أيضا: «الحروف العربيّة غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون وسبع دجّاليّة [1] ثمّ ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدّنيا وتمشي الشّاة مع الذّئب ثمّ مبلغ [2] ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستّون عاما عدد حروف المعجم وهي (ق ي ن) دولة العدل منها أربعون عاما قال ابن أبي واصل وما ورد من قوله لا مهديّ إلّا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته وقيل لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى وهذا
__________
[1] نسبة إلى دجال.
[2] وفي نسخة أخرى: ثم يبقى.(1/405)
مدفوع بحديث جريج وغيره. وقد جاء في الصّحيح أنّه قال: «لا يزال هذا الأمر قائما حتّى تقوم السّاعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشيّا» . وقد أعطى الوجود أنّ منهم من كان في أوّل الإسلام ومنهم من سيكون في آخره. وقال: «الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستّ وثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن وأوّل أمر معاوية فيكون أوّل أمر معاوية خلافة أخذا بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء وأمّا سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز.
والباقون خمسة من أهل البيت من ذرّيّة عليّ يؤيّده قوله: «إنّك لذو قرنيها» يريد الأمّة أي إنّك لخليفة في أوّلها وذرّيّتك في آخرها. وربّما استدلّ بهذا الحديث القائلون بالرّجعة، فالأوّل هو المشار إليه عندهم بطلوع الشّمس من مغربها. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والّذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله وقد أنفق عمر بن الخطّاب كنوز كسرى في سبيل الله والّذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حين يفتح القسطنطينيّة: فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش. كذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومدّة حكمه بضع» والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر وجاء ذكر أربعين وفي بعض الرّوايات سبعين. وأمّا الأربعون فإنّها مدّته ومدّة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السّلام قال وذكر أصحاب النّجوم والقرانات أنّ مدّة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاما فيكون الأمر على هذا جاريا على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين ثمّ تختلف الأحوال فتكون ملكا» انتهى كلام ابن أبي واصل. وقال في موضع آخر: «نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمّديّ حين تمضي ثلاثة أرباعه» قال وذكر الكنديّ يعقوب بن إسحاق في كتاب الجفر الّذي(1/406)
ذكر فيه القرانات: «أنّه إذا وصل القرآن إلى الثّور على رأس ضحّ بحرفين الضّاد [1] المعجمة والحاء المهملة» يريد ثمانية وتسعين وستّمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى قال وقد ورد في الحديث أنّ عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلّتين مزعفرتين صفراوين ممصّرتين واضعا كفّيه على أجنحة الملكين له لمّة كأنّما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللّؤلؤ كثير خيلان الوجه وفي حديث آخر مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة. وفي آخر: أنّه يتزوّج في الغرب. والغرب دلو البادية يريد أنّه يتزوّج منها وتلد زوجته. وذكر وفاته بعد أربعين عاما. وجاء أنّ عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطّاب. وجاء أنّ أبا بكر وعمر يحشران بين نبيّين قال ابن أبي واطيل:
«والشّيعة تقول إنّه هو المسيح مسيح المسائح من آل محمّد قلت وعليه حمل بعض المتصوّفة حديث لا مهديّ إلّا عيسى أي لا يكون مهديّ إلّا المهديّ الّذي نسبته إلى الشّريعة المحمّديّة نسبة عيسى إلى الشّريعة الموسويّة في الاتباع وعدم النّسخ إلى كلام من أمثال هذا يعيّنون فيه الوقت والرّجل والمكان بأدلّة واهية وتحكّمات مختلفة فينقضي الزّمان ولا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغويّة وأشياء تخييليّة وأحكام نجوميّة في هذا انقضت أعمار الأوّل منهم والآخر.
وأمّا المتصوّفة الّذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدّد لأحكام الملّة ومراسم الحقّ ويتحيّنون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم يقول من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسيّ كبير الأولياء بالمغرب كان في أوّل هذه المائة الثّامنة وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريّا عن أبيه أبي محمّد عبد الله عن أبيه الوليّ أبي
__________
[1] الضاد عند المغاربة بتسعين والصاد بستين. 1 هـ-. قاله نصر.(1/407)
يعقوب المذكور هذا آخر ما اطّلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوّفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهديّ قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا والحقّ الّذي ينبغي أن يتقرّر لديك أنّه لا تتمّ دعوة من الدّين والملك إلّا بوجود شوكة عصبيّة تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتّى يتمّ أمر الله فيه. وقد قرّرنا ذلك من قبل بالبراهين القطعيّة الّتي أريناك هناك وعصبيّة الفاطميّين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيّتهم على عصبيّة قريش إلّا ما بقي بالحجاز في مكّة وينبع بالمدينة من الطّالبين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدويّة متفرّقون في مواطنهم وإماراتهم يبلغون آلافا من الكثرة فإن صحّ ظهور هذا المهديّ فلا وجه لظهور دعوته إلّا بأن يكون منهم ويؤلّف الله بين قلوبهم في اتّباعه حتّى تتمّ له شوكة وعصبيّة وافية بإظهار كلمته وحمل النّاس عليها وأمّا على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطميّ منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبيّة ولا شوكة إلّا مجرّد نسبة في أهل البيت فلا يتمّ ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصّحيحة. وأمّا ما تدّعيه العامّة والأغمار من الدّهماء ممّن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يفيده فيجيبون [1] ذلك على غير نسبة وفي غير مكان، تقليدا لما اشتهر من ظهور فاطمي ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيّنّاه وأكثر ما يجيبون [2] في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران مثل الزّاب بإفريقيّة والسّوس من المغرب. ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطا بماسة لما كان ذلك الرّباط بالمغرب من الملثّمين من كدالة واعتقادهم أنّه منهم أو قائمون بدعوته زعما لا مستند لهم إلّا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلّة أو ضعف أو قوّة ولبعد القاصية عن منال الدّولة وخروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن ربقة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ولا علم يقيده، فيتحينون.
[2] وفي نسخة أخرى: يتحينون.(1/408)
الدّولة ومنال الأحكام والقهر ولا محصول لديهم في ذلك إلّا هذا. وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتّلبيس بدعوة يمييه [1] تمامها وسواسا وحمقا، وقتل كثير منهم. اخبرني شيخنا محمّد بن إبراهيم الأبلّيّ قال خرج برباط ماسة لأوّل المائة الثّامنة وعصر السّلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التّصوّف يعرف بالتّويزريّ نسبة إلى توزر مصغّرا وادّعى أنّه الفاطميّ المنتظر واتّبعه الكثير من أهل السّوس من ضالّة وكزولة وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدسّ عليه السّكسيويّ من قتله بياتا وانحلّ أمره. وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السّابعة وعشر التّسعين منها رجل يعرف بالعبّاس وادّعى أنّه الفاطميّ واتّبعه الدّهماء من غمارة ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتمّ أمره. وكثير من هذا النّمط. وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا وهو أنّه صحب في حجّة في رباط العباد وهو مدفن الشّيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطلّ عليها رجلا من أهل البيت من سكّان كربلاء كان متبوعا معظّما كثير التّلميذ والخادم. قال وكان الرّجال من موطنه يتلقّونه بالنّفقات في أكثر البلدان. قال وتأكّدت الصّحبة بيننا في ذلك الطّريق فانكشف لي أمرهم وأنّهم إنّما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطميّ بالمغرب. فلمّا عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. ويدلّ هذا القول من هذا الرّجل على أنّه مستبصر في أنّ الأمر لا يتمّ إلّا بالعصبيّة المكافئة لأهل الوقت فلمّا علم أنّه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له وأنّ عصبيّة بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان ورجع إلى الحقّ وأقصر عن مطامعه. وبقي عليه أن يستيقن أنّ عصبيّة الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيّما في المغرب إلّا أنّ التّعصّب لشأنه لم
__________
[1] كذا في جميع النسخ وهو تحريف ولا معنى لكلمة يميه، ومقتضى السياق أن تكون العبارة:
«بدعوة يكون تمامها وسواسا وحمقا» وفي نسخة لجنة البيان العربيّ «بدعوة تمنيه النفس تمامها» .(1/409)
يتركه لهذا القول والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدّعاة إلى الحقّ والقيام بالسّنّة لا ينتحلون فيها دعوة فاطميّ ولا غيره وإنّما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السّنّة وتغيير المنكر ويعني بذلك ويكثر تابعه. وأكثر ما يعنون بإصلاح السّابلة لما أنّ أكثر فساد الأعراب فيها لما قدّمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا إلّا أنّ الصبغة الدّينيّة فيهم لم تستحكم لما أنّ توبة العرب ورجوعهم إلى الدّين إنّما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنّهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الدّيانة غير ذلك لأنّها المعصية الّتي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم، فتجد ذلك المنتحل للدّعوة والقائم بزعمه بالسّنّة غير متعمّقين في فروع الاقتداء والاتّباع إنّما دينهم الإعراض عن النّهب والبغي وإفساد السّابلة ثمّ الإقبال على طلب الدّنيا والمعاش بأقصى جهدهم. وشتّان بين طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق ومن طلب الدّنيا فاتّفاقهما ممتنع لا تستحكم له صبغة في الدّين ولا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة ولا يكثرون. ويختلف حال صاحب الدّعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه فإذا هلك انحلّ أمرهم وتلاشت عصبيّتهم وقد وقع ذلك بإفريقيّة لرجل من كعب من سليم يسمّى قاسم بن مرّة بن أحمد في المائة السّابعة ثمّ من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلّم وكان يسمّى سعادة وكان أشدّ دينا من الأوّل وأقوم طريقة في نفسه ومع ذلك فلم يستتبّ أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدّعوة يتشبّهون بمثل ذلك ويلبّسون فيها وينتحلون اسم السّنّة وليسوا عليها إلّا الأقلّ فلا يتمّ لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى
.(1/410)
الفصل الرابع والخمسون في ابتداء الدول والأمم وفي الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر
اعلم أنّ من خواصّ النّفوس البشريّة التّشوّق إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشرّ سيّما الحوادث العامّة كمعرفة ما بقي من الدّنيا ومعرفة مدد الدّول أو تفاوتها والتّطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها ولذلك تجد الكثير من النّاس يتشوّقون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهّان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسّوقة معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من النّاس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص النّاس عليه فينتصبون لهم في الطّرقات والدّكاكين يتعرّضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خطّ في الرّمل ويسمّونه المنجّم وطرق بالحصى والحبوب ويسمّونه الحاسب ونظر في المرايا والمياه ويسمّونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرّر في الشّريعة من ذمّ ذلك وإنّ البشر محجوبون عن الغيب إلّا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية. وأكثر ما يعتني [1] بذلك ويتطلّع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكلّ أمّة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجّم أو وليّ في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدّثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدّة بقاء الدّولة وعدد الملوك فيها والتّعرّض لأسمائهم ويسمّى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهّان
__________
[1] الأصح أن يقول: وأكثر من يعتني.(1/411)
والعرّافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدّولة كما وقع لشقّ وسطيح في تاويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثمّ رجوعها إليهم ثمّ ظهر الملك والدّولة للعرب من بعد ذلك وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حيث بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة العرب. وكذا كان في جيل البربر كهّان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن ويقال من غمرة له كلمات حدثانيّة على طريقة الشّعر برطانتهم وفيها حدثان كثير ومعظمه فيما يكون. لزناتة من الملك والدّولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل وهم يزعمون تارة أنّه وليّ وتارة أنّه كاهن وقد يزعم بعض مزاعمهم أنّه كان نبيّا لأنّ تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير والله أعلم. وقد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإنّ أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عند ما يعنونهم في السّؤال عنه. وأمّا في الدّولة الإسلاميّة فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدّنيا ومدّتها على العموم وفيما يرجع إلى الدّولة وأعمارها على الخصوص وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام لآثار منقولة عن الصّحابة وخصوصا مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأخبار ووهب بن منبّه وأمثالهما وربّما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة. ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ فيكم محدّثين» فهم أولى النّاس بهذه الرّتب الشّريفة والكرامات الموهوبة. وأمّا بعد صدر الملّة وحين علق النّاس على العلوم والاصطلاحات وترجمت كتب الحكماء إلى اللّسان العربيّ. فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجّمين في الملك والدّول وسائر الأمور العامّة من القرانات وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصّة من الطّوالع لها وهي شكل الفلك عند حدوثها فلنذكر الآن ما وقع لأهل(1/412)
الأثر في ذلك ثمّ نرجع إلى كلام المنجّمين. أمّا أهل الأثر فلهم في مدّة الملل وبقاء الدّنيا على ما وقع في كتاب السّهيليّ فإنّه نقل عن الطّبريّ ما يقتضي أنّ مدّة بقاء الدّنيا منذ الملّة خمسمائة سنة ونقض ذلك بظهور كذبه ومستند الطّبريّ في ذلك أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّ الدّنيا جمعة من جمع الآخرة ولم يذكر لذلك دليلا.
وسرّه والله أعلم تقدير الدّنيا بأيّام خلق السّماوات والأرض وهي سبعة ثمّ اليوم بألف سنة لقوله: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 22: 47 وقد ثبت في الصّحيحين: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشّمس» وقال: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار بالسّبّابة والوسطى وقدّر ما بين صلاة العصر وغروب الشّمس حين صيرورة ظلّ كلّ شيء مثليه يكون على التّقريب نصف سبع، وكذلك وصل الوسطى على السّبّابة فتكون هذه المدّة نصف سبع الجمعة كلّها وهو خمسمائة سنة ويؤيّده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فدلّ ذلك على أنّ مدّة الدّنيا قبل الملّة خمسة آلاف وخمسمائة سنة وعن وهب بن منبّه أنّها خمسة آلاف وستّمائة سنة أعني الماضي وعن كعب أنّ مدّة الدّنيا كلّها ستّة آلاف سنة قال السّهيليّ: «وليس في الحديثين ما يشهد لشيء ممّا ذكره مع وقوع الوجود بخلافه» . فأمّا قوله: «لن يعجز الله ان يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فلا يقتضي نفي الزّيادة على النّصف وأمّا قوله: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» فإنّما فيه الإشارة إلى القرب وأنّه ليس بينه وبين السّاعة نبيّ غيره ولا شرع غير شرعه ثمّ رجع السّهيليّ إلى تعيين أمد الملّة من مدرك آخر لو ساعده التّحقيق وهو أنّه جمع الحروف المقطّعة في أوائل السّور بعد حذف المكرّر قال وهي أربعة عشر حرفا يجمعها قولك (ألم يسطع نص حق كره) فأخذ عددها بحساب الجمّل فكان سبعمائة وثلاثة [1] أضافه إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثته فهذه هي مدّة
__________
[1] هذا العدد غير مطابق كما أن المترجم التركي لم يطابق في قوله 930 وإنما المطابق للحروف المذكورة 692(1/413)
الملّة قال ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها قلت:
وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التّعويل عليه. والّذي حمل السّهيليّ على ذلك إنّما هو ما وقع في كتاب السّير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أخبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حيّ حين سمعا من الأحرف المقطّعة (الم 2: 1) وتأوّلاها على بيان المدّة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين فاستقلّا المدّة وجاء حيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله: هل مع هذا غيره؟ فقال (المصّ) ثمّ استزاد (الرّثم) ثمّ استزاد (المرّ) فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدّة وقال:
قد لبّس علينا أمرك يا محمّد حتّى لا ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثمّ ذهبوا عنه وقال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعلّه أعطى عددها كلّها تسعمائة وأربع سنين قال ابن إسحاق فنزل قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» 3: 7. 1 هـ-. ولا يقوم من القصّة دليل على تقدير الملّة بهذا العدد لأنّ دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعيّة ولا عقليّة وإنّما هي بالتّواضع والاصطلاح الّذي يسمّونه حساب الجمّل نعم إنّه قديم مشهور وقدم الاصطلاح لا يصير حجّة وليس أبو ياسر وأخوه حيّ ممّن يؤخذ رأيه في ذلك دليلا ولا من علماء اليهود لأنّهم كانوا بادية بالحجاز غفلا عن الصّنائع والعلوم حتّى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملّتهم وإنّما يتلقّفون مثل هذا الحساب كما تتلقّفه العوامّ في كلّ ملّة فلا ينهض للسّهيليّ دليل على ما ادّعاه من ذلك. ووقع في الملّة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجماليّ في حديث خرّجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمّد بن يحيى الذّهبيّ عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد اللّيثيّ عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال قال حذيفة بن اليمان: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قائد فئة إلى أن تنقضي الدّنيا لا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته وسكت عليه أبو(1/414)
داود وقد تقدّم أنّه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحا فهو مجمل ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجوّد أسانيدها. وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السّنن على غير هذا الوجه فوقع في الصّحيحين من حديث حذيفة أيضا قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فما ترك شيئا يكون في مقامه ذاك إلى قيام السّاعة إلّا حدّث عنه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علّمه أصحابه هؤلاء. 1 هـ-. ولفظ البخاريّ: ما ترك شيئا إلى قيام السّاعة إلّا ذكره وفي كتاب التّرمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ قال صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما صلاة العصر بنهار ثمّ قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام السّاعة إلّا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه 1 هـ- وهذه الأحاديث كلّها محمولة على ما ثبت في الصّحيحين من أحاديث الفتن والاشتراط لا غير لأنّه المعهود من الشّارع صلوات الله وسلامه عليه في أمثال هذه العمومات وهذه الزّيادة الّتي تفرّد بها أبو داود في هذه الطّريق شاذّة منكرة مع أنّ الأئمّة اختلفوا في رجاله فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثه مناكير. وقال البخاريّ يعرف منه وينكر وقال ابن عديّ أحاديثه غير محفوظة وأسامة بن زيد وإن خرّج له في الصّحيحين ووثّقه ابن معين فإنّما خرّج له البخاريّ استشهادا وضعّفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وقال ابن حاتم يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وأبو قبيصة ابن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزّيادة الّتي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مرّ. وقد يستندون في حدثان الدّول على الخصوص إلى كتاب الجفر ويزعمون أنّ فيه علم ذلك كلّه من طريق الآثار والنّجوم لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده واعلم أنّ كتاب الجفر كان أصله أنّ هارون بن سعيد العجليّ وهو رأس الزّيديّة كان له كتاب يرويه عن جعفر الصّادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر ونظائره(1/415)
من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الّذي يقع لمثلهم من الأولياء وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون العجليّ وكتبه وسمّاه الجفر باسم الجلد الّذي كتب فيه لأنّ الجفر في اللّغة هو الصّغير وصار هذا الاسم علما على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مرويّة عن جعفر الصّادق. وهذا الكتاب لم تتّصل روايته ولا عرف عينه وإنّما يظهر منه شواذّ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صحّ السّند إلى جعفر الصّادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات وقد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول وقد حذّر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف.
وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك بهم علما ودينا وآثارا من النّبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطّيّبة وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد وفي أخبار دولة العبيديّين كثير منه وانظر ما حكاه ابن الرّقيق في لقاء أبي عبد الله الشّيعيّ لعبيد الله المهديّ مع ابنه محمّد الحبيب وما حدّثاه به وكيف بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبثّ الدّعوة فيه على علم لقّنه أنّ دعوته تتمّ هناك وأنّ عبيد الله لمّا بنى المهديّة بعد استفحال دولتهم بإفريقيّة قال: «بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار» وأراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالهديّة وكان يسأل عن منتهى موقفه حتّى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الّذي عيّنه جدّه أبو عبيد الله فأيقن بالظّفر وبرز من البلد فهزمه واتّبعه إلى ناحية الزّاب فظفر به وقتله ومثل هذه الأخبار كثيرة.
وأمّا المنجّمون فيستندون في حدثان الدّول إلى الأحكام النّجوميّة أمّا في الأمور العامّة مثل الملك والدّول فمن القرانات وخصوصا بين العلويّين وذلك أنّ العلويّين زحل والمشتري يقترنان في كلّ عشرين سنة مرّة ثمّ يعود القران إلى(1/416)
برج آخر في تلك المثلّثة من التّثليث الأيمن ثمّ بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرّر في المثلّثة الواحدة اثنتي عشرة مرّة تستوي بروجه الثّلاثة في ستّين سنة ثمّ يعود فيستوي بها في ستين سنة ثمّ يعود ثالثة ثمّ رابعة فيستوي في المثلّثة باثنتي عشرة مرّة وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كلّ برج على التّثليث الأيمن وينتقل من المثلّثة إلى المثلّثة الّتي تليها أعني البرج الّذي يلي البرج الأخير من القران الّذي قبله في المثلّثة وهذا القران الّذي هو قران العلويّين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط فالكبير هو اجتماع العلويّين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستّين سنة مرّة واحدة والوسط هو اقتران العلويّين في كلّ مثلّثة اثنتي عشرة مرّة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلّثة أخرى والصّغير هو اقتران العلويّين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجة أو دقائقه مثال ذلك وقع القران يكون أوّل دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أوّل دقيقة من الأسد وهذه كلها ناريّة وهذا كلّه قران صغير ثمّ يعود إلى أوّل الحمل بعد ستّين سنة ويسمّى دور القران وعود القران وبعد مائتين وأربعين ينتقل من النّاريّة إلى التّرابيّة لأنّها بعدها وهذا قران وسط ثمّ ينتقل إلى الهوائيّة ثمّ المائيّة ثمّ يرجع إلى أوّل الحمل في تسعمائة وستّين سنة وهو الكبير والقران الكبير يدلّ على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدّولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلّبين والطّالبين للملك والصّغير على ظهور الخوارج والدّعاة وخراب المدن أو عمرانها ويقع في أثناء هذه القرانات قران النّحسين في برج السّرطان في كلّ ثلاثين سنة مرّة ويسمّى الرّابع وبرج السّرطان هو طالع العالم وفيه وبال زحل وهبوط المرّيخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب وسفك الدّماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السّعادة والنّحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدّليل فيه. قال جراس بن(1/417)
أحمد الحاسب في الكتاب الّذي ألّفه لنظام الملك ورجوع المرّيخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملّة الإسلاميّة لأنّه كان دليلها فالمولد النّبويّ كان عند قران العلويّين ببرج العقرب فلمّا رجع هنالك حدث التّشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدّين ونقصت أحوالهم وربّما انهدم بعض بيوت العبادة وقد يقال إنّه كان عند قتل عليّ رضي الله عنه ومروان من بني أميّة والمتوكّل من بني العبّاس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام وذكر شاذان البلخيّ: أنّ الملّة تنتهي إلى ثلاثمائة وعشرين. وقد ظهر كذب هذا القول. وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير ولم يصحّ ذلك. وقال خراش: رأيت في كتب القدماء أنّ المنجّمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النّبوة فيهم. وأنّ دليلهم الزّهرة وكانت في شرفها فيبقى الملك فيهم أربعين سنة وقال أبو معشر في كتاب القرانات القسمة إذا انتهت إلى السّابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزّهرة ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبيّ ويكون قوّة ملكه ومدّته على ما بقي من درجات شرف الزّهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدّة ذلك ستّمائة وعشر سنين وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزّهرة ووقوع القسمة أوّل الحمل وصاحب الجدّ المشتري. وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ إنّ مدّة الملّة تنتهي إلى ستّمائة وثلاث وتسعين سنة. قال: لأنّ الزّهرة كانت عند قران الملّة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة من الحوت فالباقي إحدى عشرة درجة وثمان عشرة دقيقة ودقائقها ستّون فيكون ستّمائة وثلاثا وتسعين سنة. قال: وهذه مدّة الملّة باتّفاق الحكماء ويعضده الحروف الواقعة في أوّل السّور بحذف المكرّر واعتباره بحساب الجمّل. قلت وهذا هو الّذي ذكره السّهيليّ والغالب أنّ الأوّل هو مستند السّهيليّ فيما نقلناه عنه. قال خراش [1] :
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جراس.(1/418)
«سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدّة أردشير وولده ملوك السّاسانيّة» فقال:
«دليل ملكه المشتري» وكان في شرفه فيعطى أطول السّنين وأجودها أربعمائة وسبعا وعشرين سنة ثمّ تزيد الزّهرة وتكون في شرفها وهي دليل العرب فيملكون لأنّ طالع القران الميزان وصاحبه الزّهرة وكانت عند القران في شرفها فدلّ أنّهم يملكون ألف سنة وستّين سنة. وسأل كسرى أنوشروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره: أنّ القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته ويملك المشرق والمغرب والمشتري يغوص إلى الزّهرة وينتقل القران من الهوائيّة إلى العقرب وهو مائيّ وهو دليل العرب فهذه الأدلّة تفضي للملّة بمدة دور الزّهرة وهي ألف وستّون سنة. وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر. وقال توفيل الرّوميّ المنجّم في أيّام بني أميّة: إنّ ملّة الإسلام تبقى مدّة القران الكبير تسعمائة وستّين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملّة وتغيّر وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملّة فحينئذ إمّا أن يفتر العمل به أو يتجدّد من الأحكام ما يوجب خلاف الظّنّ. قال خراش: واتّفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنّار حتّى تهلك سائر المكوّنات وذلك عند ما يقطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة وهي حدّ المرّيخ، وذلك بعد مضيّ تسعمائة وستّين سنة. وذكر خراش: أنّ ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هديّة وأنّه تصرّف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه وبعقد اللّواء لطاهر وأنّ المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدّة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتّصاله في ولد أخيه وأنّ العجم يتغلّبون على الخلافة من الدّيلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثمّ يسوء حالهم ثمّ تظهر الترك من شمال المشرق فيملكون إلى الشّام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الرّوم ويكون ما يريده الله فقال له المأمون:
من أين لك هذا؟ فقال: من كتب الحكماء ومن أحكام صصّة بن داهر الهنديّ(1/419)
الّذي وضع الشّطرنج. قلت والتّرك الّذين أشار إلى ظهورهم بعد الدّيلم هم السّلجوقيّة وقد انقضت دولتهم أوّل القرن السّابع. قال خراش: وانتقال القران إلى المثلّثة المائيّة من برج الحوت يكون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ليزدجرد وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملّة سنة ثلاث وخمسين. قال: والّذي في الحوت هو أوّل الانتقال والّذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملّة. قال:
وتحويل السّنة الأولى من القران الأوّل في المثلّثات المائيّة في ثاني رجب سنة ثمان وستّين وثمانمائة ولم يستوف الكلام على ذلك. وأمّا مستند المنجّمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه لأنّ له دلالة عندهم على حدوث الدّولة وجهاتها من العمران والقائمين بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات وقد توجد هذه الدّلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالّا عليه فمن يوجد الكلام في الدّول وقد كان يعقوب بن إسحاق الكنديّ منجّم الرّشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملّة كتابا سمّاه الشّيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصّادق وذكر فيه فيما يقال حدثان: دولة بني العبّاس وأنّها نهايته وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنّها تقع في انتصاف المائة السّابعة وأنّه بانقراضها يكون انقراض الملّة ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولا رأينا من وقف عليه ولعلّه غرق في كتبهم الّتي طرحها هلاكو ملك التّتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمّونه الجفر الصّغير والظّاهر أنّه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأوّلين من ملوك الموحّدين فيه على التّفصيل ومطابقة من تقدّم عن ذلك من حدثانه وكذّب ما بعده وكان في دولة بني العبّاس من بعد الكنديّ منجّمون وكتب في الحدثان وانظر ما نقله الطّبريّ في أخبار المهديّ عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدّولة قال بعث إليّ الرّبيع والحسن في غزاتهما مع(1/420)
الرّشيد أيّام أبيه فجئتهما جوف اللّيل فإذا عندهما كتاب من كتب الدّولة يعني الحدثان وإذا مدّة المهديّ فيه عشر سنين فقلت: هذا الكتاب لا يخفى على المهديّ وقد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه.
قالا: فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الورّاق مولى آل بديل وقلت له انسخ هذه الورقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشكّ أنّها هي ثمّ كتب النّاس من بعد ذلك في حدثان الدّول منظوما ومنثورا ورجزا ما شاء الله أن يكتبوه وبأيدي النّاس متفرّقة كثير منها وتسمّى الملاحم. وبعضها في حدثان الملّة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص وكلّها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرّانة من بحر الطّويل على رويّ الرّاء وهي متداولة بين النّاس وتحسب العامّة أنّها من الحدثان العامّ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل والّذي سمعناه من شيوخنا أنّها مخصوصة بدولة لمتونة لأنّ الرّجل كان قبيل دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمّود وملكهم لعدوة الأندلس ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضا قصيدة تسمّى التّبعيّة أوّلها:
طربت وما ذاك منّي طرب ... وقد يطرب الطّائر المغتصب
وما ذاك منّي للهو أراه ... ولكن لتذكار بعض السّبب
قريبا من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيرا من دولة الموحّدين وأشار فيها إلى الفاطميّ وغيره والظّاهر أنّها مصنوعة ومن الملاحم بالمغرب أيضا ملعّبة من الشّعر الزّجليّ منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويّين والنّحسين وغيرهما وذكر ميتته قتيلا بفاس وكان كذلك فيما زعموه وأوّله:
في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا ... فافهموا يا قوم هذي الاشارا(1/421)
نجم زحل أخبر بذي العلاما ... وبدّل الشكلا وهي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما ... وشاش أزرق بدل الغرارا
يقول في آخره
قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي ... يصلب في بلدة فاس في يوم عيد
حتى يجيه الناس من البوادي ... وقتله يا قوم على الفراد
وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات الّتي دلّت على دولة الموحّدين ومن ملاحم المغرب أيضا قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار. وقال لي قاضي قسنطينيّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس وكان بصيرا بما يقوله وله قدم في التّنجيم فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ الأندلسيّ الكاتب مقتول المستنصر وإنّما هو رجل خيّاط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها:
عذيري من زمن قلّب ... يغرّ ببارقه الأشنب
ومنها.
ويبعث من جيشه قائدا ... ويبقى هناك على مرقب
فتأتي إلى الشّيخ أخباره ... فيقبل كالجمل الأجرب
ويظهر من عدله سيرة ... وتلك سياسة مستجلب
ومنها في ذكر أحوال تونس على العموم.
فإمّا [1] رأيت الرّسوم امّحت ... ولم يرع حقّ لذي منصب
__________
[1] قوله فإما رأيت أصله فان رأيت زيدت ما وأدغمت في إن الشرطية المحذوف نونها خطأ وفي نسخة فلما رأيت والأولى هي الموجودة في النسخة التونسية. 1 هـ-. قاله نصر.(1/422)
فخذ في التّرحّل عن تونس ... وودّع معالمها واذهب
فسوف تكون بها فتنة ... تضيف البريء إلى المذنب
ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس فيها بعد السّلطان أبي يحيى الشّهير عاشر ملوكهم ذكر محمّد أخيه من بعده يقول فيها:
وبعد أبي عبد الإله شقيقه ... ويعرف بالوثّاب في نسخة الأصل
إلّا أنّ هذا الرّجل لم يملكها بعد أخيه وكان يمنيّ بذلك نفسه إلى أن هلك ومن الملاحم في المغرب أيضا الملعّبة المنسوبة إلى الهوثنيّ [1] على لغة العامّة في عروض البلد:
دعني بدمعي الهتان ... فترت الأمطار ولم تفتر
واستقت كلها الويدان ... وانى تملى وتغدر
البلاد كلّها تروي ... فأولى بها ميل ما تدري
ما بين الصيف والشتوي ... والعام والربيع تجري
قال حين صحّت الدعوى: ... دعني نبكي ومن عذر
أنادي من ذي الأزمان ... ذا القرن اشتد وتمري
وهي طويلة ومحفوظة بين عامّة المغرب الأقصى والغالب عليها الوضع لأنّه لم يصحّ منها قول إلّا على تأويل تحرّفه العامّة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصّة ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربيّ الحاتميّ في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلّا الله لتحلّله إلى أوفاق عدديّة ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامّة ورءوس مقطّعة وتماثيل من حيوانات غريبة. وفي آخرها قصيدة على رويّ اللّام والغالب أنّها كلّها غير صحيحة لأنّها لم تنشأ عن أصل علميّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى الهوشنى.(1/423)
من نجامة ولا غيرها وسمعت أيضا أنّ هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سيناء وابن عقاب وليس في شيء منها دليل على الصّحّة لأنّ ذلك إنّما يؤخذ من القرانات ووقفت بالمشرق أيضا على ملحمة من حدثان دولة التّرك منسوبة إلى رجل من الصّوفيّة يسمّى الباجربقيّ وكلّها إلغاز بالحروف أوّلها.
إن شئت تكسف سرّ الجفر يا سائلي ... من علم جفر وصيّ والد الحسن
فافهم وكن واعيا حرفا وجملته ... والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن
أمّا الّذي قبل عصري لست أذكره ... لكنّني أذكر الآتي من الزّمن
بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها ... بحاء ميم بطيش نام في الكنن
شين له أثر من تحت سرّته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر والشّام مع أرض العراق له ... وأذربيجان في ملك إلى اليمن
ومنها:
وآل بوران لما نال طاهرهم ... الفاتك الباتك المعنيّ بالسمن
لخلع سين ضعيف السّن سين أتى ... لا لوفاق ونوت ذي قرن
قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن
ومنها:
من بعد باء من الأعوام قتلته ... يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن
ومنها:
هذا هو الأعرج الكلبيّ فأعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدّمهم ... عار عن القاف قاف جدّ بالفتن
بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من ... الزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلّهم حبسوا ... هلكا وينفق أموالا بلا ثمن(1/424)
يسير القاف قافا عند جمعهم هوّن به إنّ ذاك الحصن في سكن وينصبون أخاه وهو صالحهم لا سلّم الألف سين لذاك بني تمّت ولايتهم بالحاء لا أحد من السنين يداني الملك في الزمن
ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هجرته ... وطول غيبته والشّظف والرزن
وأبياتها كثيرة والغالب أنّها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثير ومعروف الانتحال.
حكى المؤرّخون لأخبار بغداد أنّه كان بها أيّام المقتدر ورّاق ذكيّ يعرف بالدّاناليّ [1] يبلّ الأوراق ويكتب فيها بخطّ عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدّولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرّفعة والجاه كأنّها ملاحم ويحصل على ما يريده منهم من الدّنيا وإنّه وضع في بعض دفاتره ميما مكرّرة ثلاث مرّات وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر. فقال له: هذا كناية عنك وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدّولة ونصب لذلك علامات يموّه بها عليه فبذل له ما أغناه به ثمّ وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولا فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها وأنّه يلي الوزارة للثّاني عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدّنيا في أيّامه وأوقف مفلحا هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النّوع ممّا وقع وممّا لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح. ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب وكان ذلك سببا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز والظّاهر أنّ هذه الملحمة الّتي ينسبونها إلى
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الدنيالي.(1/425)
الباجربقيّ من هذا النّوع. ولقد سألت أكمل الدّين ابن شيخ الحنفيّة من العجم بالدّيار المصريّة عن هذه الملحمة وعن هذا الرّجل الّذي تنسب إليه من الصّوفيّة وهو الباجربقيّ وكان عارفا بطرائقهم فقال كان من القلندريّة المبتدعة في حلق اللّحية وكان يتحدّث عمّا يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معيّنين عنده ويلغز عليهم بحروف يعيّنها في ضمنها لمن يراه منهم وربّما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع النّاس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخرّاصون من ذلك الجنس في كلّ عصر وشغل العامّة بفكّ رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرّمز إنّما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأمّا مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النّظم لا يتجاوزوه فرأيت من كلام هذا الرّجل الفاضل شفاء لما كان في النّفس من أمر هذه الملحمة «وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق
الفصل الأول في أن الدول من المدن والأمصار وأنها إنما توجد ثانية عن الملك
وبيانه أنّ البناء واختطاط المنازل إنّما من منازع الحضارة الّتي يدعو إليها التّرف والدّعة كما قدّمناه وذلك متأخّر عن البداوة ومنازعها وأيضا فالمدن(1/426)
والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التّعاون وليست من الأمور الضّروريّة للنّاس الّتي تعمّ بها البلوى حتّى يكون نزوعهم إليها اضطرارا بل لا بدّ من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغّبين في الثّواب والأجر الّذي لا يفي بكثرته إلّا الملك والدّولة. فلا بدّ في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدّولة والملك. ثمّ إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيّدها وبما اقتضته الأحوال السّماويّة والأرضيّة فيها فعمر الدّولة حينئذ عمر لها فإن كان عمر الدّولة قصيرا وقف الحل فيها عند انتهاء الدّولة وتراجع عمرانها وخربت وإن كان أمد الدّولة طويلا ومدّتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرّحيبة تكثر وتتعدّد ونطاق الأسواق يتباعد وينفسح إلى أن تتّسع الخطّة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها. ذكر الخطيب في تأريخه أنّ الحمّامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستّين ألف حمّام وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران وكذا حال القيروان وقرطبة والمهديّة في الملّة الإسلاميّة وحال مصر القاهرة بعدها فيما بلغنا لهذا العهد وأمّا بعد انقراض الدّولة المشيّدة للمدينة فإمّا أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدّها العمران دائما فيكون ذلك حافظا لوجودها ويستمرّ عمرها بعد الدّولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأنّ أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرّفه والكسب تدعو إلى الدّعة والسّكون الّذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهّلون وأمّا إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسّسة مادّة تفيدها العمران بترادف السّاكن من بدوها فيكون انقراض الدّولة خرقا لسياجها فيزول حفظها ويتناقص عمرانها شيئا فشيئا إلى أن يبذعرّ [1]
__________
[1] يتفرق.(1/427)
ساكنها وتخرب كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهديّة وقلعة بني حمّاد بالمغرب وأمثالها فتفهّمه وربّما ينزل المدينة بعد انقراض مختطّيها الأوّلين ملك آخر ودولة ثانية يتّخذها قرارا وكرسيّا يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها فتحفظ تلك الدّولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد أحوال الدّولة الثّانية وترفها وتستجدّ بعمرانها عمرا آخر كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار
وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطرّوا للاستيلاء على الأمصار لأمرين أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدّعة والرّاحة وحطّ الأثقال واستكمال ما كان ناقصا من أمور العمران في البدو والثّاني دفع ما يتوقّع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين لأنّ المصر الّذي يكون في نواحيهم ربّما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم والخروج عليهم وانتزاع ذلك الملك الّذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم ومغالبة المصر على نهاية من الصّعوبة والمشقّة والمصر يقوم مقام العساكر المتعدّدة لما فيه من الامتناع ونكاية [1] الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة لأنّ الشّوكة والعصابة إنّما احتيج إليهما في الحرب للثّبات لما يقع من بعد كرّة القوم بعضهم على بعض عند الجولة وثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرّون إلى كبير عصابة ولا عدد فيكون حال هذا الحصن ومن يعتصم به من المنازعين ممّا يفتّ في عضد [2] الأمّة الّتي تروم الاستيلاء ويخضد شوكة استيلائها فإذا كانت بين
__________
[1] نكيت في العدو: أي هزمته وغلبته (لسان العرب) .
[2] فت في عضده: كسر قوته وفرق عنه أعدائه (قاموس) .(1/428)
أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الانخرام وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أوّلا وحطّ أثقالهم وليكون شجا في حلق من يروم العزّة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم فتعيّن أنّ الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل الثالث في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير
قد قدّمنا ذلك في آثار الدّولة من المباني وغيرها وأنّها تكون على نسبتها وذلك أنّ تشييد المدن إنّما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم فإذا كانت الدّولة عظيمة متّسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها وجمعت أيديهم على عملها وربّما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الّذي يضاعف القويّ والقدر في حمل أثقال البناء لعجز القوّة البشريّة وضعفها عن ذلك كالمخّال [1] وغيره وربّما يتوهّم كثير من النّاس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلّقة وشرشال بالمغرب إنّما كانت بقدرهم متفرّقين أو مجتمعين فيتخيّل لهم أجساما تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر الّتي صدرت تلك المباني عنها ويغفل عن شأن الهندام والمخّال وما اقتضته في ذلك الصّناعة الهندسيّة وكثير من المتغلّبين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدّولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عيانا وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسمّيها
__________
[1] لم نعثر على هذه الكلمة في القاموس ولا في لسان العرب. والمعروف المخل وهو آلة حديدية تستعمل لرفع الحجارة.(1/429)
العامّة عاديّة نسبة إلى قوم عاد لتوهّمهم أنّ مباني عاد ومصانعهم إنّما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم. وليس كذلك، فقد نجد آثارا كثيرة من آثار الّذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى ومباني العبيديّين من الشّيعة بإفريقيّة والصّنهاجيّين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حمّاد وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحّدين في رباط الفتح ورباط السّلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان وكذلك الحنايا الّتي جلب إليها أهل قرطاجنّة الماء في القناة الرّاكبة عليها ماثلة لهذا العهد وغير ذلك من المباني والهياكل الّتي نقلت إلينا أخبار أهلها قريبا وبعيدا وتيقّنا أنّهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم وإنّما هذا رأي ولع به القصّاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة. ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد وقد ثبت في الحديث الصّحيح أنّها بيوتهم يمرّ بها الرّكب الحجازيّ أكثر السّنين ويشاهدونها لا تزيد في جوّها ومساحتها وسمكها على المتعاهد وإنّهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتّى إنّهم ليزعمون أنّ عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السّمك من البحر طريئا فيشويه في الشّمس يزعمون بذلك أنّ الشّمس حارّة فيما قرب منها ولا يعلمون أنّ الحرّ فيما لدينا هو الضّوء لانعكاس الشّعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء وأمّا الشّمس في نفسها فغير حارّة ولا باردة وإنّما هي كوكب مضيء لا مزاج له وقد تقدّم شيء من هذا في الفصل الثّاني حيث ذكرنا أنّ آثار الدّولة على نسبة قوّتها في أصلها. والله يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد
.(1/430)
الفصل الرابع في أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة
والسّبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التّعاون ومضاعفة القدر البشريّة وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتمّ.
فيبتدئ الأوّل منهم بالبناء، ويعقبه الثّاني والثّالث، وكلّ واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتّى يتمّ القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلا للعيان يظنّه من يراه من الآخرين أنّه بناء دولة واحدة. وانظر في ذلك ما نقله المؤرّخون في بناء سدّ مأرب وأنّ الّذي بناه سبأ بن يشجب وساق إليه سبعين واديا وعاقه الموت عن إتمامه فأتمّه ملوك حمير من بعده ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنّة وقناتها الرّاكبة على الحنايا العاديّة وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها ويشهد لذلك أنّ المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسيسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها. ويشهد لذلك أيضا أنّا نجد آثارا كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدّول عن هدمها وتخريبها مع أنّ الهدم أيسر من البناء بكثير لأنّ الهدم رجوع إلى الأصل الّذي هو العدم والبناء على خلاف الأصل.
فإذا وجدنا بناء تضعف قوّتنا البشريّة عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أنّ القدرة الّتي أسّسته مفرطة القوّة وأنّها ليست أثر دولة واحدة وهذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لمّا اعتزم الرّشيد على هدمه وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في محبسه يستشيره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل واتركه ماثلا يستدلّ به(1/431)
على عظم ملك آبائك الّذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتّهمه في النّصيحة وقال أخذته النّعرة للعجم والله لأصرعنّه وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتّخذ له الفؤوس وحماه بالنّار وصبّ عليه الخلّ حتّى إذا أدركه العجز بعد ذلك كلّه وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانيا في التّجافي عن الهدم فقال لا تفعل واستمرّ على ذلك لئلّا يقال عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فعرفها الرّشيد وأقصر عن هدمه وكذلك اتّفق للمأمون في هدم الأهرام الّتي بمصر وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جوّ بين الحائط والظّاهر وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر ويزعم الزّاعمون أنّه وجد ركازا بين تلك الحيطان والله أعلم. وكذلك حنايا المعلّقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصّنّاع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيّام العديدة ولا يسقط الصّغير من جدرانها إلّا بعد عصب الرّيق وتجتمع له المحافل المشهورة شهدت منها في أيّام صباي كثيرا «وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 37: 96» .
الفصل الخامس فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن المراعاة
اعلم أنّ المدن قرار يتّخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من التّرف ودواعيه فتؤثر الدّعة والسّكون وتتوجّه إلى اتّخاذ المنازل للقرار ولمّا كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضارّ بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها فأمّا الحماية من المضارّ فيراعى لها أن يدار على(1/432)
منازلها جميعا سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في متمنّع من الأمكنة إمّا على هضبة متوعّرة من الجبل وإمّا باستدارة بحر أو نهر بها حتّى لا يوصل إليها إلّا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدوّ ويتضاعف امتناعها وحصنها. وممّا يراعى في ذلك للحماية من الآفات السّماويّة طيب الهواء للسّلامة من الأمراض. فإنّ الهواء إذا كان راكدا خبيثا أو مجاورا للمياه الفاسدة أو منافع [1] متعفّنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة وهذا مشاهد. والمدن الّتي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقيّة فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمّى العفن بوجه. ولقد يقال إنّ ذلك حادث فيها ولم تكن كذلك من قبل ونقل البكريّ في سبب حدوثه أنّه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرّصاص. فلمّا فضّ ختامه صعد منه دخان إلى الجوّ وانقطع. وكان ذلك مبدأ أمراض الحميّات فيه وأراد بذلك أنّ الإناء كان مشتملا على بعض أعمال الطّلسمات لوبائه وأنّه ذهب سرّه بذهابه فرجع إليها العفن والوباء. وهذه الحكاية من مذاهب العامّة ومباحثهم الرّكيكة والبكريّ لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبيّن خرفه فنقله كما سمعه. والّذي يكشف لك الحقّ في ذلك أنّ هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيّئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميّات ركودها. فإذا تخلّلتها الرّيح وتفشّت وذهبت بها يمينا وشمالا خفّ شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات. والبلد إذا كان كثير السّاكن وكثرت حركات أهله فيتموّج الهواء ضرورة وتحدث الرّيح المتخلّلة للهواء الرّاكد ويكون ذلك معينا له على الحركة والتّموّج وإذا خفّ السّاكن لم يجد الهواء معينا على حركته وتموّجه وبقي ساكنا راكدا وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه كانت عند ما كانت إفريقية
__________
[1] جمع منقع: موضع منخفض قليلا تتجمع فيه المياه فتتحول إلى مستنقع.(1/433)
مستجدّة العمران كثيرة السّاكن تموج بأهلها موجا فكان ذلك معينا على تموّج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض وعند ما خفّ ساكنها ركد هواؤها المتعفّن بفساد مياهها فكثير العفن والمرض. فهذا وجهه لا غير. وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء وكانت أوّلا قليلة السّاكن فكانت أمراضها كثيرة فلمّا كثر سكّانها انتقل حالها عن ذلك وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمّى بالبلد الجديد وكثير من ذلك في العالم فتفهّمه تجد ما قلته لك. وأمّا جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرّة فإنّ وجود الماء قريبا من البلد يسهّل على السّاكن حاجة الماء وهي ضروريّة فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامّة. وممّا يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كلّ قرار لا بدّ له من دواجن الحيوان للنّتاج والضّرع والرّكوب ولا بدّ لها من المرعى فإذا كان قريبا طيّبا كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقّة في بعده وممّا يراعى أيضا المزارع فإنّ الزّروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتّخاذه وأقرب في تحصيله ومن ذلك الشّجر للحطب والبناء فإنّ الحطب ممّا تعمّ البلوى في اتّخاذه لوقود النّيران للاصطلاء والطّبخ. والخشب أيضا ضروريّ لسقفهم وكثير ممّا يستعمل فيه الخشب من ضروريّاتهم وقد يراعى أيضا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النّائية إلّا أنّ ذلك ليس بمثابة الأوّل وهذه كلّها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة السّاكن. وقد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطّبيعيّ أو إنّما يراعي ما هو أهمّ على نفسه وقومه، ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأوّل الإسلام في المدن الّتي اختطّوها بالعراق وإفريقية فإنّهم لم يراعوا فيها إلّا الأهمّ عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشّجر والماء الملح ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السّائمة من ذوات الظّلف ولا غير ذلك(1/434)
كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ولهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطّبيعيّة.
وممّا يراعى في البلاد السّاحليّة الّتي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمّة من الأمم موفورة العدد تكون صريخا للمدينة متى طرقها طارق من العدوّ والسّبب في ذلك أنّ المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيّات ولا موضعها متوعّر من الجبل كانت في غرّة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحريّة على عدوّها وتحيّفه لها لما يأمن من وجود الصّريخ لها. وأنّ الحضر المتعوّدين للدّعة قد صاروا عيالا وخرجوا عن حكم المقاتلة. وهذه كالإسكندريّة من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا.
ومتى كانت القبائل والعصائب موطّنين بقربها بحيث يبلغهم الصّريخ والنّعير وكانت متوعّرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدوّ ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقّعونه من إجابة صريخها كما في سبتة وبجاية وبلد القلّ على صغرها فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الإسكندريّة باسم الثّغر من لدن الدّولة العبّاسيّة مع أنّ الدّعوة من ورائها ببرقة وإفريقية. وإنّما اعتبر في ذلك المخافة المتوقّعة فيها من البحر لسهولة وضعها ولذلك والله أعلم كان طروق العدوّ للاسكندريّة وطرابلس في الملّة مرّات متعدّدة والله تعالى أعلم.
الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم
اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى فضّل من الأرض بقاعا اختصّها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثّواب وينمو بها الأجور وأخبرنا بذلك على ألسن(1/435)
رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السّعادة لهم. وكانت المساجد الثّلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصّحيحين وهي مكّة والمدينة وبيت المقدس. أمّا البيت الحرام الّذي بمكّة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. أمره الله ببنائه وأن يؤذن في النّاس بالحجّ إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصّه القرآن وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر [1] منه. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السّلام. أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق عليه السّلام حواليه. والمدينة مهاجر نبيّنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشّريف في تربتها فهذه المساجد الثّلاثة قرّة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثّواب في مجاورتها والصّلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أوّليّة هذه المساجد الثّلاثة وكيف تدرّجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم. فأمّا مكّة فأوّليّتها فيما يقال أنّ آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثمّ هدمها الطّوفان بعد ذلك وليس فيه خبر صحيح يعوّل عليه. وإنّما اقتبسوه من محمل الآية في قوله «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ من الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ 2: 127» ثمّ بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ما هو معروف وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمّه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما وكيف جعل الله لهما من اللّطف في نبع ماء زمزم ومرور الرّفقة من جرهم بها حتّى احتملوهما وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتّخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتا يأوي إليه وأدار عليه سياجا من الرّدم وجعله زربا [2] لغنمه وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مرارا لزيارته من الشّام
__________
[1] الكعبة. وقال ابن الأثير لمن الحجر هو الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي.
[2] زريبة المواشي.(1/436)
أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزّرب فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل ودعا النّاس إلى حجّه وبقي إسماعيل ساكنا به ولمّا قبضت أمّه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثمّ العماليق من بعدهم واستمرّ الحال على ذلك والنّاس يهرعون إليها من كلّ أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممّن دنا أو نأى فقد نقل أنّ التّبابعة كانت تحجّ البيت وتعظّمه وأنّ تبّعا كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعل لها مفتاحا.
ونقل أيضا أنّ الفرس كانت تحجّه وتقرّب إليه وأنّ غزالي الذّهب اللّذين وجدهما عبد المطّلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم. ولم يزلّ لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتّى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله. ثمّ كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعّبوا إلى كنانة ثمّ كنانة إلى قريش وغيرهم وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره وأخرجوهم من البيت وملّكوا عليهم يومئذ قصيّ بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدّوم وجريد النّخل وقال الأعشى:
خلفت بثوبي راهب الدّور والّتي ... بناها قصيّ والمضاض بن جرهم
ثمّ أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدّم وأعادوا بناءه وجمعوا النّفقة لذلك من أموالهم وانكسرت سفينة بساحل جدّة فاشتروا خشبها للسّقف وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعا وكان الباب لاصقا بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلّا تدخله السّيول وقصّرت بهم النّفقة عن إتمامه فقصّروا عن قواعده وتركوا منه ستّ أذرع وشبرا أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه وهو الحجر وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصّن ابن الزّبير بمكّة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السّكونيّ. ورمى البيت سنة أربع وستّين فأصابه حريق، يقال من النّفط الّذي رموا به على ابن الزّبير فتصدّعت حيطانه فهدمه ابن الزّبير فأعاد بناءه أحسن ممّا كان بعد أن اختلفت عليه(1/437)
الصّحابة في بنائه. واحتجّ عليهم بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين شرقيّا وغربيّا» فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السّلام وجمع الوجوه والأكابر حتّى عاينوه وأشار عليه ابن عبّاس بالتّحري في حفظ القبلة على النّاس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار [1] حفظا للقبلة وبعث إلى صنعاء في الفضّة [2] والكلس فحملها. وسأل عن مقطع الحجارة الأوّل فجمع منها ما احتاج إليه ثمّ شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السّلام ورفع جدرانها سبعا وعشرين ذراعا وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه وجعل فرشها وإزرها بالرّخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذّهب. ثمّ جاء الحجّاج لحصاره أيّام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدّعت حيطانها. ثمّ لمّا ظفر بابن الزّبير شاور عبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه وردّ البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. ويقال: إنّه ندم على ذلك حين علم صحّة رواية ابن الزّبير لحديث عائشة، وقال: «وددت أنّي كنت حمّلت أبا حبيب في أمر البيت وبنائه ما تحمّل» فهدم الحجّاج منها ستّ أذرع وشبرا مكان الحجر وبناها على أساس قريش وسدّ الباب الغربيّ وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشّرقيّ. وترك سائرها لم يغيّر منه شيئا فكلّ البناء الّذي فيه اليوم بناء ابن الزّبير وبناء الحجّاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين. والبناء متميّز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصّدع وقد لحم.
ويعرض هاهنا إشكال قويّ لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطّواف ويحذّر الطّائف أن يميل على الشّاذروان الدّائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أنّ الجدر إنّما قامت على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشّاذروان وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لا بدّ من رجوع الطّائف من
__________
[1] في النسخة الباريسية: الستور.
[2] وفي النسخة الباريسية: القصّة ومعناها الجصة وهو الأصح.(1/438)
التّقبيل حتّى يستوي قائما لئلّا يقع بعض طوافه داخل البيت وإذا كانت الجدران كلّها من بناء ابن الزّبير وهو إنّما بني على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الّذي قالوه ولا مخلص من هذا إلّا بأحد أمرين أحدهما أن يكون الحجّاج هدم جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلّا أنّ العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشّقّين من أعلاه على الآخر في الصّناعة يردّ ذلك وإمّا أن يكون ابن الزّبير لم يردّ البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته وإنّما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزّبير ليست على قواعد إبراهيم وهذا بعيد ولا محيص من هذين والله تعالى أعلم. ثمّ إنّ مساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطّائفين ولم يكن عليه جدر أيّام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر من بعده. ثمّ كثر النّاس فاشترى عمر رضي الله عنه دورا هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جدارا دون القامة وفعل مثل ذلك عثمان ثمّ ابن الزّبير ثمّ الوليد بن عبد الملك وبناه بعمد الرّخام ثمّ زاد فيه المنصور وابنه المهديّ من بعده ووقفت الزّيادة واستقرّت على ذلك لعهدنا.
وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر [1] من أن يحاط به وكفى بذلك أن جعله مهبطا للوحي والملائكة ومكانا للعبادة وفرض شرائع الحجّ ومناسكه وأوجب لحرمة من سائر نواحيه من حقوق التّعظيم والحقّ ما لم يوجبه لغيره فمنع كلّ من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم وأوجب على داخله أن يتجرّد من المخيط إلّا إزارا يستره وحمى العائذ به والرّاتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر. وحدّ الحرم الّذي يختصّ بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التّنعيم [2] ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثّنيّة من جبل المنقطع ومن طريق الطّائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدّة سبعة أميال إلى منقطع العشائر. هذا شأن مكّة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أعظم.
[2] التنعيم: مكان بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل أربعة. وبه مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكيون بالعمرة (معجم البلدان) .(1/439)
وخبرها وتسمّى أمّ القرى وتسمّى الكعبة لعلوّها من اسم الكعب. ويقال لها أيضا بكّة قال الأصمعيّ: لأنّ النّاس يبكّ بعضهم بعضا إليها أي يدفع وقال مجاهد باء بكّة أبدلوها ميما كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين. وقال النّخعيّ بالباء وبالميم البلد وقال الزّهريّ بالباء للمسجد كلّه وبالميم للحرم وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهليّة تعظّمه والملوك تبعث إليه بالأموال والذّخائر مثل كسرى وغيره وقصّة الأسياف وغزالي الذّهب اللّذين وجدهما عبد المطّلب حين احتفر زمزم معروفة وقد وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح مكّة في الجبّ الّذي كان فيها سبعين ألف أوقيّة من الذّهب ممّا كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكرّرة مرّتين بمائتي قنطار وزنا وقال له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك» فلم يفعل. ثمّ ذكر لأبي بكر فلم يحرّكه. هكذا قال الأزرقيّ. وفي البخاريّ يسنده إلى أبي وائل قال:
جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إليّ عمر بن الخطّاب فقال: «هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلّا قسمتها بين المسلمين» قلت: ما أنت بفاعل؟
قال: ولم؟ قلت: فلم يفعله صاحباك فقال هما اللّذان يقتدى بهما. وخرّجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين [1] بن عليّ بن عليّ زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة حين غلب مكّة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعا فيها لا ينتفع به نحن أحقّ به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرّف فيه وبطلت الذّخيرة من الكعبة من يومئذ. (وأما بيت المقدس) وهو المسجد الأقصى فكان أوّل أمره أيّام الصّابئة موضع الزّهرة وكانوا يقرّبون إليه الزّيت فيما يقرّبونه يصبّونه على الصّخرة الّتي هناك ثمّ دثر ذلك الهيكل واتّخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أنّ موسى صلوات الله عليه لمّا خرج
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الحسين بن الحسين.(1/440)
ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم [1] بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التّيه أمره الله باتّخاذ قبّة من خشب السّنط عيّن بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وأن يكون فيها التّابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يصنع مذبحا للقربان وصف ذلك كلّه في التّوراة أكمل وصف فصنع القبّة ووضع فيها تابوت العهد وهو التّابوت الّذي فيه الألواح المصنوعة عوضا عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لمّا تكسّرت ووضع المذبح عندها. وعهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان ونصبوا تلك القبّة بين خيامهم في التّيه يصلّون إليها ويتقرّبون في المذبح أمامها ويتعرّضون [2] للوحي عندها.
ولمّا ملكوا أرض الشام أنزلوها (بكلكال) من بلاد الأرض المقدّسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم. وبقيت هنالك أربع عشرة سنة: سبعا مدّة الحرب، وسبعا بعد الفتح أيّام قسمة البلاد. ولمّا توفي يوشع عليه السّلام نقلوها إلى بلد شيلو قريبا من كلكال، وأداروا عليها الحيطان. وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مرّ، وتغلبوا عليهم. ثمّ ردّوا عليهم القبّة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثمّ نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين. ولمّا ملك داود عليه السّلام نقل القبة والتّابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصّا ووضعها على الصّخرة ...
وبقيت تلك القبّة قبلتهم ووضعوها على الصّخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السّلام بناء مسجده على الصّخرة مكانها فلم يتمّ له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السّلام.
واتّخذ عمده من الصّفر وجعل به صرح الزّجاج وغشّى أبوابه وحيطانه بالذّهب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ليملكهم.
[2] وفي النسخة الباريسية: ويقربون في المذبح أمامها ويتوجهون.(1/441)
وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذّهب وجعل في ظهره قبرا ليضع [1] فيه تابوت العهد وهو التّابوت الّذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيّام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتيّة حتّى وضعه في القبر ووضعت القبّة والأوعية والمذبح كلّ واحد حيث أعدّ له من المسجد. وأقام كذلك ما شاء الله. ثمّ خرّبه بخت نصّر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التّوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار. ثمّ لمّا أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز نبيّ بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الّذي كانت الولادة [2] لبني إسرائيل عليه من سبي بخت نصّر وحدّ لهم في بنيانه حدودا دون بناء سليمان بن داود عليهما السّلام فلم يتجاوزوها.
وأمّا الأواوين الّتي تحت المسجد، يركب بعضها بعضا، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. ويتوهّم كثير من النّاس أنّها إصطبلات سليمان عليه السّلام، وليس كذلك. وإنّما بناها تنزيها للبيت المقدّس عمّا يتوهّم من النّجاسة، لأنّ النّجاسات في شريعتهم وإن كانت في باطن الأرض، وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشوا بالتراب، بحيث يصل ما بينها وبين الظّاهر خطّ مستقيم ينجّس ذلك الظّاهر بالتّوهّم. والمتوهّم عندهم كالمحقق، فبنوا هذه الأواوين على هذه الصّورة بعمود الأواوين السّفليّة تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطّه، فلا تتّصل النّجاسة بالأعلى على خط مستقيم. وتنزّه البيت عن هذه النّجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطّهارة والتّقديس.
ثمّ تداونتهم ملوك يونان والفرس والرّوم واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدّة ثمّ لبني حشمناي من كهنتهم ثمّ لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده.
وبنى هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السّلام وتأنّق فيه حتّى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ليودع.
[2] وفي نسخة أخرى: الولاية.(1/442)
أكمله في ستّ سنين فلمّا جاء طيطش من ملوك الرّوم وغلبهم وملك أمرهم خرّب بيت المقدّس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه ثمّ أخذ الرّوم بدين المسيح عليه السّلام ودانوا بتعظيمه ثمّ اختلف حال ملوك الرّوم في الأخذ بدين النّصارى تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصّرت أمّه هيلانة وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة الّتي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنّه رمى بخشبته على الأرض وألقى عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة [1] كأنّها على قبره بزعمهم وهرّبت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزّبل والقمامات على الصّخرة حتّى غطّاها وخفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثمّ بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الّذي ولد فيه عيسى عليه السّلام وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصّخرة فأري مكانها وقد علاها الزّبل والتّراب فكشف عنها وبنى عليها مسجدا على طريق البداوة وعظّم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أمّ الكتاب في فضله حسبما ثبت ثمّ احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسمّيه بلاط الوليد وألزم ملك الرّوم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمّقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتمّ بناؤها على ما اقترحه. ثمّ لمّا ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديّين خلفاء القاهر من الشّيعة واختلّ أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامّة ثغور الشّام وبنوا على الصّخرة المقدّسة منه كنيسة كانوا يعظّمونها ويفتخرون ببنائها حتّى إذا استقلّ صلاح الدّين بن أيّوب الكرديّ بملك مصر والشّام ومحا أثر العبيديّين وبدعهم زحف إلى الشّام
__________
[1] كذا في جميع النسخ وكذا أوردها ابن الأثير والطبري وتعرف اليوم بكنيسة القيامة.(1/443)
وجاهد من كان به من الفرنجة حتّى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشّام وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصّخرة وبنى المسجد على النّحو الّذي هو عليه اليوم لهذا العهد.
ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أوّل بيت وضع فقال: «بين مكّة وبين بناء بيت المقدس» قيل فكم بينهما؟
قال: «أربعون سنة» فإنّ المدّة بين بناء مكّة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان لأنّ سليمان بإنية وهو ينيف على الألف بكثير. واعلم أنّ المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنّما المراد أوّل بيت عيّن للعبادة ولا يبعد أن يكون بيت المقدس عيّن للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدّة وقد نقل أنّ الصّابئة بنوا على الصّخرة هيكل الزّهرة فلعلّ ذلك أنّها كانت مكانا للعبادة كما كانت الجاهليّة تضع الأصنام والتّماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها والصّابئة الّذين بنوا هيكل الزّهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السّلام فلا تبعد مدّة الأربعين سنة بين وضع مكّة للعبادة ووضع بيت المقدس وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف وأنّ أوّل من بنى بيت المقدس سليمان عليه السّلام فتفهّمه ففيه حلّ هذا الإشكال. وأمّا المدينة وهي المسمّاة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثمّ جاورهم بنو قيلة من غسّان وغلبوهم عليها وعلى حصونها. ثمّ أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الّذي كان الله قد أعدّه لذلك وشرّفه في سابق أزله وأواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سمّوا الأنصار وتمّت كلمة الإسلام من المدينة حتّى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكّة وملكها وظنّ الأنصار أنّه يتحوّل عنهم إلى بلده فأهمّهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبرهم أنّه غير متحوّل حتّى إذا قبض صلّى الله عليه وسلّم كان ملحده الشّريف(1/444)
بها وجاء في فضلها من الأحاديث الصّحيحة ما لا خفاء به ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكّة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النّصّ الصّريح عن رفيع بن مخدج أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال المدينة خير من مكّة نقل ذلك أبو الوهّاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدلّ بظاهرها على ذلك وخالف أبو حنيفة والشّافعيّ. وأصبحت على كلّ حال ثانية المسجد الحرام وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كلّ أوب فانظر كيف تدرّجت الفضيلة في هذه المساجد المعظّمة لما سبق من عناية الله لها وتفهّم سرّ الله في الكون وتدريجه على ترتيب محكم في أمور الدّين والدّنيا. وأمّا غير هذه المساجد الثّلاثة فلا نعلمه في الأرض إلّا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السّلام بسرنديب من جزائر الهند لكنّه لم يثبت فيه شيء يعوّل عليه وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظّمونها على جهة الدّيانة بزعمهم منها بيوت النّار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز الّتي أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهدمها في غزواته وقد ذكر المسعوديّ منها بيوتا لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق دينيّ ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في التّواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها والله يهدي من يشاء سبحانه
.(1/445)
الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة
والسّبب في ذلك أنّ هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السّنين قبل الإسلام وكان عمرانها كلّه بدويّا ولم تستمرّ فيهم الحضارة حتّى تستكمل أحوالها والدّول الّتي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتّى ترسخ الحضارة منها فلم تزل عوائد البداوة وشئونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم وأيضا فالصّنائع بعيدة عن البربر لأنّهم أعرق في البدو والصّنائع من توابع الحضارة وإنّما تتمّ المباني بها فلا بدّ من الحذق في تعلّمها فلمّا لم يكن للبربر انتحال لها لم يكن لهم تشوّق [1] إلى المباني فضلا عن المدن. وأيضا فهم أهل عصبيّات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم والأنساب والعصبيّة أجنح إلى البدو وإنّما يدعو إلى المدن الدّعة والسكون ويصير ساكنها عيالا على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها فلا يدعو إلى ذلك إلّا التّرف والغنى وقليل ما هو في النّاس فلذلك كان عمران إفريقية والمغرب كلّه أو أكثره بدويّا أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال وكان عمران بلاد العجم كلّه أو أكثره قرى وأمصارا ورساتيق من بلاد الأندلس والشّام ومصر وعراق العجم وأمثالها لأنّ العجم ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتباهون في صراحتها والتحامها إلّا في الأقلّ وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأنّ لحمة النّسب أقرب وأشدّ فتكون عصبيّته كذلك وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتّجافي عن المصر الّذي يذهب بالبسالة ويصيّره عيالا على غيره فافهمه وقس عليه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
__________
[1] وفي نسخة أخرى تشوف. وتشوف إلى الشيء: تطلع إليه.(1/446)
الفصل الثامن في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول
والسّبب في ذلك ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضا أعرق في البدو وأبعد عن الصّنائع وأيضا فكانوا أجانب من الممالك الّتي استولوا عليها قبل الإسلام ولمّا تملّكوها لم ينفسح الأمد حتّى تستوفي رسوم الحضارة مع أنّهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم وأيضا فكان الدّين أوّل الأمر مانعا من المغالاة أو البنيان والإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة وقد وقع الحريق في القصب الّذي كانوا بنوا به من قبل فقال افعلوا ولا يزيدنّ أحد على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان والزموا السّنّة تلزمكم الدّولة وعهد إلى الوفد وتقدّم إلى النّاس أن لا يرفعوا بنيانا فوق القدر قالوا: وما القدر؟ قال: «لا يقرّبكم من السّرف ولا يخرجكم عن القصد» .
فلمّا بعد العهد بالدّين والتّحرّج في أمثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملك والتّرف واستخدم العرب أمّة الفرس وأخذوا عنهم الصّنائع والمباني ودعتهم إليها أحوال الدّعة والتّرف فحينئذ شيّدوا المباني والمصانع وكان عهد ذلك قريبا بانقراض الدّولة ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلّا قليلا وليس كذلك غيرهم من الأمم فالفرس طالت مدّتهم آلافا من السّنين وكذلك القبط والنّبط والرّوم وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتّبابعة طالت آمادهم ورسخت الصّنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عددا وأبقى على الأيّام أثرا واستبصر في هذا تجده كما قلت والله وارث الأرض ومن عليها
.(1/447)
الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل
والسّبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصّنائع كما قدّمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها وله والله أعلم وجه آخر وهو أمسّ به وذلك قلّة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنّه بالتّفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطّبيعيّ والعرب بمعزل عن هذا وإنّما يراعون مراعي إبلهم خاصّة لا يبالون بالماء طاب أو خبث ولا قلّ أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض ونقلهم الحبوب من البلد البعيد وأمّا الرّياح فالقفر مختلف للمهابّ كلّها والظّعن كفيل لهم بطيبها لأنّ الرّياح إنّما تخبث مع القرار والسّكنى وكثرة الفضلات وانظر لمّا اختطّوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلّا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظّعن فكانت بعيدة عن الوضع الطّبيعيّ للمدن ولم تكن لها مادّة تمدّ عمرانها من بعدهم كما قدّمنا أنّه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعيّة للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمّرها النّاس فلأوّل وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيّتهم الّتي كانت سياجا لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن. «وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41»
.(1/448)
الفصل العاشر في مبادي الخراب في الأمصار
اعلم أنّ الأمصار إذا اختطّت أوّلا تكون قليلة المساكن وقليلة آلات البناء من الحجر والجير وغيرهما ممّا يعالى على الحيطان عند التّأنّق كالزّلج [1] والرّخام والرّبج [2] والزّجاج والفسيفساء والصّدف فيكون بناؤها يومئذ بدويّا وآلاتها فاسدة فإذا عظم عمران المدينة وكثر ساكنها كثرت الآلات بكثرة الأعمال حينئذ وكثرت الصّنّاع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها فإذا تراجع عمرانها وخفّ ساكنها قلّت الصّنائع لأجل ذلك وفقدت الإجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتّنميق ثمّ تقلّ الأعمال لعدم السّاكن فيقلّ جلب الآلات من الحجر والرّخام وغيرهما فتفقد ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات الّتي في مبانيهم فينقلونها من مصنع إلى مصنع لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل بقلّة العمران وقصوره عمّا كان أوّلا ثمّ لا تزال تنقل من قصر إلى قصر ومن دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة فيعودون إلى البداوة في البناء واتّخاذ الطّوب عوضا عن الحجارة والقصور عن التّنميق بالكلّيّة فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر وتظهر عليها سيماء البداوة ثمّ تمرّ في التّناقص إلى غايتها من الخراب إن قدّر لها به سنّة الله في خلقه.
__________
[1] الزلج: الصخور الملس (لسان العرب) .
[2] الربج: الدرهم الصغير (لسان العرب) وفي النسخة الباريسية السبج: الخرز الأسود (لسان العرب)(1/449)
الفصل الحادي عشر في ان تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة
والسّبب في ذلك أنّه قد عرف وثبت أنّ الواحد من البشر غير مستقلّ بتحصيل حاجاته في معاشه وأنّهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك والحاجة الّتي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتدّ ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا. فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصّته منه. وإذا انتدب لتحصيله السّتّة أو العشرة من حدّاد ونجّار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السّنبل وسائر مؤن الفلح وتوزّعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنّه حينئذ قوت لأضعافهم مرّات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو مصر إذا وزّعت أعمالهم كلّها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقلّ من تلك الأعمال وبقيت الأعمال كلّها زائدة على الضّرورات فتصرف في حالات التّرف وعوائده وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه فيكون لهم بذلك حظّ من الغنى وقد تبيّن لك في الفصل الخامس في باب الكسب والرّزق أنّ المكاسب إنّما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة ودعتهم أحوال الرّفه والغنى إلى التّرف وحاجاته من التّأنق في المساكن والملابس واستجادة الآنية والماعون واتّخاذ الخدم والمراكب وهذه كلّها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصّنائع ويكثر دخل المصر وخرجه ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية ثمّ زاد التّرف تابعا للكسب(1/450)
وزادت عوائده وحاجاته. واستنبطت الصّنائع لتحصيلها فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأوّل. وكذا في الزّيادة الثّانية والثّالثة لأنّ الأعمال الزّائدة كلّها تختصّ بالتّرف والغنى بخلاف الأعمال الأصليّة الّتي تختصّ بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه بعوائد من التّرف لا توجد في الآخر فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في التّرف أبلغ من حال المصر الّذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف. القاضي مع القاضي والتّاجر مع التّاجر والصّانع مع الصّانع والسّوقيّ مع السّوقيّ والأمير مع الأمير والشّرطيّ مع الشّرطيّ. واعتبر ذلك في المغرب مثلا بحال فاس مع غيرها من أمصاره مثل بجاية وتلمسان وسبتة تجد بينهما بونا كثيرا على الجملة. ثمّ على الخصوصيّات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان وهكذا كلّ صنف مع صنف أهله. وكذا أيضا حال تلمسان مع وهران أو الجزائر وحال وهران والجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر [1] الّذين اعتمالهم في ضروريّات [2] معاشهم فقط ويقصّرون عنها. وما ذلك إلّا لتفاوت الأعمال فيها فكأنّها كلّها أسواق للأعمال. والخرج في كلّ سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه وكذا القاضي بتلمسان وحيث الدّخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم وهما بفاس أكثر لنفاق سوق [3] الأعمال بما يدعو إليه التّرف فالأحوال أضخم. ثمّ هكذا حال وهران وقسنطينيّة والجزائر وبسكرة حتّى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار الّتي لا توفّي [4] أعمالها بضروراتها ولا تعدّ في الأمصار إذ هي من قبيل القرى والمدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصّغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة لما أنّ أعمالهم لا تفي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المداثر
[2] وفي النسخة الباريسية: ضرورات.
[3] وفي النسخة الباريسية: سائر الأعمال.
[4] وفي النسخة الباريسية: تفي.(1/451)
بضروراتهم ولا يفضل ما يتأثّلونه كسبا فلا تنمو مكاسبهم. وهم لذلك مساكين محاويج إلّا في الأقلّ النّادر. واعتبر ذلك حتّى في أحوال الفقراء والسّؤّال فإنّ السّائل بفاس أحسن حالا من السّائل بتلمسان أو وهران. ولقد شاهدت بفاس السّؤّال يسألون أيّام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيرا من أحوال التّرف واقتراح المآكل مثل سؤال اللحم والسّمن وعلاج الطّبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية. ولو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنّف وزجر. ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من التّرف والغنى في عوائدهم ما يقضى [1] منه العجب حتّى أنّ كثيرا من الفقراء بالمغرب ينزعون من الثّقلة إلى مصر لذلك ولما يبلغهم من شأن الرّفه بمصر أعظم من غيرها. ويعتقد العامّة من النّاس أنّ ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم [2] . وأنّهم أكثر صدقة وإيثارا من جميع أهل الأمصار وليس كذلك وإنّما هو لما تعرفه من أنّ عمران مصر والقاهرة أكثر من عمران هذه الأمصار الّتي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. وأمّا حال الدّخل والخرج فمتكافئ في جميع الأمصار ومتى عظم الدّخل عظم الخرج وبالعكس ومتى عظم الدّخل والخرج اتّسعت أحوال السّاكن ووسع المصر. كلّ شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسبة الّتي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه ومثّله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها فإنّ بيوت أهل النّعم والثّروة والموائد الخصبة [3] منها تكثر بساحتها وأقنيتها بنثر الحبوب وسواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النّمل والخشاش ويلحق فوقها عصائب الطّيور حتّى تروح بطانا وتمتلئ شبعا وريّا وبيوت أهل الخصاصة والفقراء الكاسدة أرزاقهم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ما نقضي.
[2] وفي النسخة الباريسية: لطموا الأموال في تلك الآفاق، وإن الأموال مختزنة لديهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: الخصيبة.(1/452)
لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلّق بجوّها طائر ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فارة ولا هرّة [1] كما قال الشّاعر:
تسقط الطّير حيث تلتقط الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء
[2] فتأمّل سرّ الله تعالى في ذلك واعتبر غاشية الأناسيّ بغاشية العجم من الحيوانات وفتات الموائد بفضلات الرّزق والتّرف وسهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم واعلم أنّ اتّساع الأحوال وكثرة النّعم في العمران تابع لكثرته والله سبحانه وتعالى أعلم وهو غنيّ عن العالمين
الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
اعلم أنّ الأسواق كلّها تشتمل على حاجات النّاس فمنها الضّروريّ وهي الأقوات من الحنطة وما معناها كالباقلاء والبصل والثّوم وأشباهه ومنها الحاجيّ والكماليّ مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضّروريّ من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكماليّ من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قلّ ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. والسّبب في ذلك أنّ الحبوب من ضرورات القوت فتتوفّر الدّواعي على اتّخاذها إذ كلّ أحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعمّ اتّخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بدّ من ذلك. وكلّ متّخذ لقوته فتفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كبيرة تسدّ خلّة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية وردت هذه العبارة: «يأوي إلى أسراب بيوتها فأرة ولا هر» .
[2] وفي النسخة الباريسية: يسقط الطير حيث يلتقط الحب ويغشى منازل الكرماء.(1/453)
المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلّا ما يصيبها في بعض السّنين من الآفات السّماويّة ولولا احتكار النّاس لها لما يتوقّع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران. وأمّا سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها لا تعمّ بها البلوى ولا يستغرق اتّخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم ثمّ إنّ المصر إذا كان مستبحرا موفور العمران كثير حاجات التّرف توفّرت حينئذ الدّواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كلّ بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصورا بالغا ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهل الرّفه والتّرف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. وأمّا الصّنائع والأعمال أيضا في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة: الأوّل كثرة الحاجة لمكان التّرف في المصر بكثرة عمرانه، والثّاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم [1] وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثّالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصّنّاع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتزّ العمّال والصّنّاع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك. وأمّا الأمصار الصّغيرة والقليلة السّاكن فأقواتهم قليلة لقلّة العمل فيها وما يتوقّعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسّكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيعزّ وجوده لديهم ويغلو ثمنه على مستامه. وأمّا مرافقهم فلا تدعو إليها أيضا حاجة بقلّة [2] السّاكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختصّ بالرّخص في سعره. وقد يدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض [3] عليها من المكوس والمغارم للسّلطان في الأسواق وباب الحفر والحياة في منافع وصولها
__________
[1] وفي نسخة أخرى بخدمتهم.
[2] وفي نسخة أخرى: لقلة.
[3] وفي نسخة أخرى: يفرض.(1/454)
عن البيوعات لما يمسّهم [1] . وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. وكثرتها [2] في الأنصار لا سيّما في آخر الدّولة وقد تدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. وذلك أنّهم لمّا ألجأهم النّصارى إلى سيف البحر وبلاده المتوعّرة الخبيثة الزّارعة النّكدة النّبات وملكوا عليهم الأرض الزّاكية والبلد الطّيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم وموادّ من الزّبل وغيره لها مؤنة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. واختصّ قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرّهم النّصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. ويحسب النّاس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنّها لقلّة الأقوات والحبوب في أرضهم وليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحا فيما علمناه وأقومهم عليه وقلّ أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدّان أو مزرعة أو فلح إلّا قليلا من أهل الصّناعات والمهن أو الطّراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. ولهذا يختصّهم السّلطان في عطائهم بالعولة وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزّرع. وإنّما السّبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. ولمّا كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومته [3] فصار ذلك سببا لرخص الأقوات ببلدهم «والله مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار لا ربّ سواه» .
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وأبواب أخرى: وأبواب المصر وللجباه في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم.
[2] وفي نسخة أخرى: وبالعكس كثيرة.
[3] وفي نسخة أخرى: عمومه.(1/455)
الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسّبب في ذلك أنّ المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدّمناه وتكثر حاجات ساكنه من أجل التّرف. وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات وتصير فيه الأعمال كلّها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية بازدحام الأعراض عليها من أجل التّرف وبالمغارم السّلطانيّة الّتي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأوقات [1] والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. ويعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنّفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مئونتهم [2] . والبدويّ لم يكن دخله كثيرا ساكنا بمكان كاسد الأسواق في الأعمال الّتي هي سبب الكسب فلم يتأثّل كسبا ولا مالا فيتعذّر عليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه وعزّة حاجاته. وهو في بدوه يسدّ خلّته بأقلّ الأعمال لأنّه قليل عوائد التّرف في معاشه وسائر مئونته [2] فلا يضطرّ إلى المال وكلّ من يتشوّف إلى المصر وسكناه من البادية [3] فسريعا ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه إلّا من يقدّم [4] منهم تأثّل المال ويحصل له منه فوق الحاجة ويجري إلى الغاية الطّبيعيّة لأهل العمران من الدّعة والتّرف فحينئذ ينتقل إلى المصر وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداءة عمران الأمصار. والله بكلّ شيء محيط.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الأقوات.
[2] وفي نسخة أخرى: مؤنهم.
[3] وفي نسخة أخرى: من أهل البادية.
[4] وفي نسخة أخرى: تقدم.(1/456)
الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار
اعلم أنّ ما توفّر عمرانه من الأقطار وتعدّدت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتّسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسّبب في ذلك كلّه ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما سيأتي ذكره من أنّها سبب للثّروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضّروريّات في حاجات السّاكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على النّاس كسبا يتأثّلونه حسبما نذكر ذلك في فضل المعاش وبيان الرّزق والكسب فيتزيّد الرّفه لذلك وتتّسع الأحوال ويجيء التّرف والغنى وتكثر الجباية للدّولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها وتتفنّن في اتّخاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن وتشييد الأمصار. واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشّام وعراق العجم والهند والصّين وناحية الشّمال كلّها وأقطارها وراء البحر الرّوميّ لمّا كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم [1] وتعدّدت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالّذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجّار الأمم النّصرانيّة الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتّساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجّار أهل المشرق وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصّين فإنّه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرّفه غرائب تسير الرّكبان بحديثها وربّما تتلقّى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها من العامّة أنّ ذلك لزيادة في أموالهم أو لأنّ المعادن الذّهبيّة والفضّيّة أكثر بأرضهم أو لأنّ ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك فمعدن الذّهب
__________
[1] وفي بعض النسخ: دولهم.(1/457)
الّذي نعرفه في هذه الأقطار إنّما هو من بلاد [1] السّودان وهي إلى المغرب أقرب.
وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنّما يجلبونه إلى غير بلادهم للتّجارة. فلو كان المال عتيدا موفورا لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال ولا استغنوا [2] عن أموال النّاس بالجملة. ولقد ذهب المنجّمون لمّا رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتّساعها ووفور أموالها فقالوا بأنّ عطايا الكواكب والسّهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصا في مواليد أهل المغرب وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النّجوميّة والأحوال الأرضيّة كما قلناه وهم إنّما أعطوا في ذلك السّبب النّجوميّ وبقي عليهم أن يعطوا السّبب الأرضيّ وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال الّتي هي سببه فلذلك اختصّ المشرق بالرّفه من بين الآفاق لا إنّ ذلك لمجرّد الأثر النّجوميّ. فقد فهمت ممّا أشرنا لك أوّلا أنّه لا يستقبل بذلك وأنّ المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمر لا بدّ منه. واعتبر حال هذا الرّفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة لمّا خفّ سكنها [3] وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها فقلّت أموال دولها بعد أن كانت دول الشّيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرّفه وكثرة الجبايات واتّساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتّى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته وكانت أموال الدّولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعدّ بها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة. وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك وكانت أحواله في دول الموحّدين متّسعة وجباياته موفورة وهو لهذا العهد
__________
[1] وفي بعض النسخ: ببلاد.
[2] وفي بعض النسخ: ولاستغنوا.
[3] وفي بعض النسخ: ساكنها.(1/458)
قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه وتناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره ونقص عن معهوده نقصا ظاهرا محسوسا، وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال إفريقية بعد أن كان عمرانه متّصلا من البحر الرّوميّ إلى بلاد السّودان في طول ما بين السّوس الأقصى وبرقة. وهي اليوم كلّها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى إلّا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التّلول والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الأمصار وحال فوائدها ومستغلاتها
اعلم أنّ تأثّل العقار والضّياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن لا يكون دفعة واحدة ولا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثّروة ما يملك به الأملاك الّتي تخرج قيمتها عن الحدّ ولو بلغت أحوالهم في الرّفه ما عسى أن تبلغ.
وإنّما يكون ملكهم وتأثّلهم لها تدريجا إمّا بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتّى تتأدّى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر لذلك [1] أو أن يكون بحوالة الأسواق فإنّ العقار في آخر الدّولة وأوّل الأخرى عند فناء الحامية وخرق السّياج وتداعي المصر إلى الخراب تقلّ الغبطة به لقلّة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخص قيمها وتتملّك بالأثمان اليسيرة وتتخطّى بالميراث إلى ملك آخر وقد استجدّ المصر شبابه باستفحال الدّولة الثانية وانتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها ويكون لها خطر لم يكن في الأوّل. وهذا معنى الحوالة فيها ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر وليس ذلك بسعيه واكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. وأمّا فوائد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كذلك.(1/459)
العقار والضّياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بعوائد التّرف وأسبابه وإنّما هي في الغالب لسدّ الخلّة وضرورة المعاش. والّذي سمعناه من مشيخة البلدان أنّ القصد باقتناء الملك من العقار والضّياع إنّما هو الخشية على من يترك خلفه من الذّرّيّة الضّعفاء [1] ليكون مرباهم به ورزقه فيه ونشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم وربّما يكون من الولد من يعجز عن التّكسّب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشيّ فيكون ذلك العقار قواما لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه.
وأمّا التّموّل منه وإجراء أحوال المترفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النّادر بحوالة الأسواق وحصول الكثرة البالغة منه والعالي [2] في جنسه وقيمته في المصر إلّا أنّ ذلك إذا حصل ربّما امتدّت إليه أعين الأمراء والولاة واغتصبوه في الغالب أو أرادوه على بيعه منهم ونالت أصحابه منه مضارّ ومعاطب والله غالب على أمره وهو ربّ العرش العظيم.
الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة
وذلك أنّ الحضريّ إذا عظم تموّله وكثر للعقار والضّياع تأثّله وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك وانفسحت أحواله في التّرف والعوائد زاحم عليها الأمراء والملوك وغصّوا به. ولما في طباع البشر من العدوان تمتدّ أعينهم إلى تملّك ما بيده وينافسونه فيه ويتحيّلون على ذلك بكلّ ممكن حتّى يحصّلوه [3] في ربقة حكم سلطانيّ وسبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله وأكثر الأحكام
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الضعاف.
[2] وفي النسخة الباريسية: والتغالي. وفي نسخة أخرى المغالي.
[3] وفي النسخة الباريسية: حتى بحصوله وفي بعض النسخ: حتى يحصلونها- وحتى محصولة والربقة:
العروة في الحبل.(1/460)
السّلطانيّة جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنّما هو في الخلافة الشّرعيّة وهي قليلة اللّبث قال صلّى الله عليه وسلّم: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تعود ملكا عضوضا» . فلا بدّ حينئذ لصاحب المال والثّروة الشّهيرة في العمران من حامية تذود عنه وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبيّة يتحاماها السّلطان فيستظلّ هو بظلّها ويرتع في أمنها من طوارق التّعدّي. وإن لم يكن له ذلك أصبح نهبا بوجوه التّخيّلات وأسباب الحكّام [1] . وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41.
الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها
والسّبب في ذلك أنّ الحضارة هي أحوال عاديّة زائدة على الضّروريّ من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرّفه وتفاوت الأمم [2] في القلّة والكثرة تفاوتا غير منحصر وتقع فيها عند كثرة التّفنّن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصّنائع ويحتاج كلّ صنف منها إلى القومة عليه والمهرة فيه وبقدر ما يتزيّد من أصنافها تتزيّد أهل صناعتها ويتلوّن ذلك الجيل بها ومتى اتّصلت الأيّام وتعاقبت تلك الصّناعات [3] حذق أولئك الصّنّاع في صناعتهم ومهروا في معرفتها والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاما ورسوخا وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجار العمران وكثرة الرّفه في أهلها. وذلك كلّه إنّما يجيء من قبل الدّولة لأنّ الدّولة تجمع أموال الرّعيّة وتنفقها في بطانتها ورجالها وتتّسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتّساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرّعايا وخرجها في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الحكم.
[2] وفي النسخة الباريسية: تفاوت الأمر.
[3] وفي النسخة الباريسية: الصبغات.(1/461)
أهل الدّولة ثمّ في من تعلّق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيّد عوائد التّرف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصّنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة. ولهذا تجد الأمصار الّتي في القاصية ولو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسّطة في الأقطار الّتي هي مركز الدّولة ومقرّها وما ذاك إلّا لمجاورة السّلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضرّ ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد وقد قدّمنا أنّ السّلطان والدّولة سوق للعالم.
فالبضائع كلّها موجودة في السّوق وما قرب منه وإذا أبعدت عن السّوق افتقدت البضائع جملة ثمّ إنّه إذا اتّصلت تلك الدّولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واعتبر ذلك في اليهود لمّا طال ملكهم بالشّام نحوا من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتّفنّن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل حتّى إنّها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضا وعوائدها في الشّام منهم ومن دولة الرّوم بعدهم ستّمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السّنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والرّوم ثمّ ملك الإسلام النّاسخ للكلّ. فلم تزل عوائد الحضارة بها متّصلة وكذلك أيضا رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتّصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتّبابعة آلافا من السّنين وأعقبهم ملك مصر. وكذلك الحضارة بالعراق لاتّصال دولة النّبط والفرس بها من لدن الكلدانيّين والكيانيّة [1] والكسرويّة والعرب بعدهم آلافا من السّنين فلم يكن على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الكينية.(1/462)
وجه الأرض لهذا العهد أحضر [1] من أهل الشّام والعراق ومصر. وكذا أيضا رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس لاتّصال الدّولة العظيمة فيها للقوط ثمّ ما أعقبها من ملك بني أميّة آلافا من السّنين وكلتا الدّولتين عظيمة فاتّصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت. وأمّا إفريقية والمغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنّما قطع الإفرنجة إلى إفريقية البحر وملكوا السّاحل وكانت طاعة البربر أهل الضّاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة وأوفاز [2] وأهل المغرب لم تجاورهم دولة وإنّما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر ولمّا جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب لم يلبث فيهم ملك العرب إلّا قليلا أوّل الإسلام وكانوا لذلك العهد في طور البداوة ومن استقرّ منهم بإفريقيّة والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلّد فيه من سلفه إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة ثمّ انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطغريّ أيّام هشام بن عبد الملك ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلّوا بأمر أنفسهم وإن بايعوا لإدريس فلا تعدّ دولته فيهم عربيّة لأنّ البرابر هم الّذين تولّوها ولم يكن من العرب فيها كثير عدد وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشّيء بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه وكثرة عمران القيروان وورث ذلك عنهم كتامة ثمّ صنهاجة من بعدهم وذلك كلّه قليل لم يبلغ أربعمائة سنة وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة وتغلّب بدو العرب الهلاليّين عليها وخرّبوها وبقي أثر خفيّ من حضارة العمران فيها وإلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهديّة سلف فتجد له من الحضارة في شئون منزله وعوائد أحواله آثارا ملتبسة بغيرها يميّزها الحضريّ البصير بها وكذا في أكثر أمصار إفريقية وليس كذلك في
__________
[1] الأصح أن يقول: أكثر حضارة.
[2] في النسخة الباريسية: وأوفاز. وفي نسخة أخرى: قلعة وافان وفي نسخة غيرها: قلعة واوفار. وفاز جمع فازة: بناء من خرق وغيرها تبنى في العساكر.(1/463)
المغرب وأمصاره لرسوخ الدّولة بإفريقيّة أكثر أمدا منذ عهد الأغالبة والشّيعة وصنهاجة وأمّا المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحّدين من الأندلس حظّ كبير من الحضارة واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعا وكرها وكانت من اتّساع النّطاق ما علمت فكان فيها حظّ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس ثمّ انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النّصارى إلى إفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثارا ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظّ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء ورجع إلى أعقابه وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة وعلى كلّ حال فآثار الحضارة بإفريقيّة أكثر منها بالمغرب وأمصاره لما تداول فيها من الدّول السّالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المتردّدين بينهم. فتفطّن لهذا السّرّ فإنّه خفيّ عن النّاس. واعلم أنّها أمور متناسبة وهي حال الدّولة في القوّة والضّعف وكثرة الأمّة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النّعمة واليسار وذلك أنّ الدّولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادّة لها من الرّعايا والأمصار وسائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم وإذا أفاض السّلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثّت فيهم ورجعت إليه ثمّ إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدّولة يكون يسار الرّعايا وعلى يسار الرّعايا وكثرتهم يكون مال الدّولة وأصله كلّه العمران وكثرته فاعتبره وتأمّله في الدّول تجده والله يحكم ولا معقّب لحكمه
.(1/464)
الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وانها مؤذنة بفساده
قد بيّنّا لك فيما سلف أنّ الملك والدّولة غاية للعصبيّة وأنّ الحضارة غاية للبداوة وأنّ العمران كلّه من بداوة وحضارة وملك وسوقة [1] له عمر محسوس كما أنّ للشّخص الواحد من أشخاص المكوّنات عمرا محسوسا وتبيّن في المعقول والمنقول أنّ الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموّها وأنّه إذا بلغ سنّ الأربعين وقفت الطّبيعة عن أثر النشوء والنّموّ برهة ثمّ تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أنّ الحضارة في العمران أيضا كذلك لأنّه غاية لا مزيد وراءها وذلك أنّ التّرف والنّعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتّخلّق بعوائدها والحضارة كما علمت هي التّفنّن في التّرف واستجادة أحواله والكلف بالصّنائع الّتي تؤنّق من أصنافه وسائر فنونه من الصّنائع المهيّئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتّأنّق في كلّ واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التّأنّق فيها.
وإذا بلغ التّأنّق في هذه الأحوال المنزليّة الغاية تبعه طاعة الشّهوات فتتلوّن النّفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أمّا دينها فلاستحكام صبغة العوائد الّتي يعسر نزعها وأمّا دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات الّتي تطالب بها العوائد ويعجز وينكّب [2] عن الوفاء بها. وبيانه أنّ المصر بالتّفنّن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنّا قدّمنا أنّ المصر الكثير العمران يختصّ بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته. ثمّ تزيدها المكوس غلاء لأنّ الحضارة إنّما تكون عند انتهاء الدّولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدّول لكثرة
__________
[1] الرعية.
[2] وفي نسخة اخرى: الكسب.(1/465)
خرجها حينئذ كما تقدّم. والمكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأنّ السّوقة والتّجّار كلّهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتّى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلا في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلّها في النّفقات ويتتابعون [1] في الإملاق والخاصّة [2] ويغلب عليهم الفقر ويقلّ المستامون للمبايع [3] فتكسد الأسواق ويفسد حال المدينة وداعية ذلك كلّه إفراط الحضارة والتّرف. وهذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق والعمران. وأمّا فساد أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص فمن الكدّ والتّعب في حاجات العوائد والتّلوّن بألوان الشّرّ في تحصيلها وما يعود على النّفس من الضّرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشّرّ والسّفسفة والتّحيّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النّفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغشّ والخلابة والسّرقة والفجور في الأيمان والرّبا في البياعات ثمّ تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ النّاشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبداوعيه واطّراح الحشمة في الخوض فيه حتّى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الّذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضا أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر وما يتوقّعونه من العقاب على تلك القبائح حتّى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم إلّا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسّفلة من أهل الأخلاق الذّميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدّولة وولدانهم ممّن أهمل عن التّأديب وأهملته الدولة من عدادها وغلب عليه خلق
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ويتبالغون.
[2] وفي نسخة أخرى: الخصاصة.
[3] وفي نسخة أخرى: البضائع.(1/466)
الجوار وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات [1] وذلك أنّ النّاس بشر متماثلون وإنّما تفاضلوا وتميّزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرّذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرّذيلة بأيّ وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدّول منطرحين في الغمار [2] منتحلين للحرف الدّنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلوّنوا به من صبغة الشّرّ والسّفسفة وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمّة تأذّن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16» [3] . ووجهه حينئذ إنّ مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النّفس بها فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحدا واحدا اختلّ نظام المدينة وخربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص [4] أنّ المدينة إذا كثر فيها غرس النّارنج تأذّنت بالخراب حتّى أنّ كثيرا من العامّة يتحامى غرس النّارنج بالدّور تطيرا به. وليس المراد ذلك ولا أنّه خاصّيّة [5] في النّارنج وإنّما معناه أنّ البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثمّ إنّ النّارنج واللّيّة [6] والسّرو وأمثال ذلك ممّا لا طعم فيه ولا منفعة هو من غاية [7] الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلّا أشكالها فقط ولا تغرس إلّا بعد التّفنّن في مذاهب التّرف. وهذا هو الطّور الّذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدّفلى وهو من هذا الباب إذ الدّفلى لا يقصد بها إلّا تلوّن البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب التّرف. ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشّهوات والاسترسال
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأبواب.
[2] جماعة من الناس.
[3] سورة الإسراء الآية 16.
[4] وفي نسخة أخرى: أهل الحواضر.
[5] وفي نسخة أخرى: خاصة. وفي النسخة الباريسية: طيرة.
[6] وفي نسخة أخرى: اللّيم.
[7] وفي نسخة أخرى: غايات.(1/467)
فيها لكثرة التّرف فيقع التّفنّن في شهوات البطن من المآكل والملاذّ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التّفنّن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزّنا واللّواط، فيفضي ذلك إلى فساد النّوع. إمّا بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزّنا، فيجهل كلّ واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأنّ المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشّفقة الطّبيعيّة على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدّي ذلك إلى انقطاع النّوع، أو يكون فساد النّوع بغير واسطة، كما في اللّواط المؤدّي إلى عدم النسل رأسا وهو أشدّ في فساد النّوع. والزّنا يؤدّي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللّواط أظهر من مذهب غيره، ودلّ على أنّه أبصر بمقاصد الشّريعة واعتبارها للمصالح.
فافهم ذلك واعتبر به أنّ غاية العمران هي الحضارة والتّرف وأنّه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطّبيعيّة للحيوانات. بل نقول إنّ الأخلاق الحاصلة من الحضارة والتّرف هي عين الفساد لأنّ الإنسان إنّما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضارّه واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ لا يقدر على مباشرته حاجاته إمّا عجزا لما حصل له من الدّعة أو ترفّعا لما حصل من المربى في النّعيم والتّرف وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضارّ واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ بما قد فقد من خلق الإنسان بالتّرف والنّعيم [1] في قهر التّأديب والتعلم فهو بذلك عيال على الحامية الّتي تدافع عنه. ثمّ هو فاسد أيضا غالبا بما فسدت [2] منه العوائد وطاعتها وما تلوّنت به النّفس من مكانتها [3] كما قرّرناه إلّا في الأقلّ النّادر. وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخا على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الّذين يتقرّبون من جند السّلطان إلى البداوة والخشونة أنفع من الّذين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى.
[2] وفي نسخة أخرى: أفسدت.
[3] وفي نسخة أخرى: وملكاتها.(1/468)
يتربّون على الحضارة وخلقها. موجودون [1] في كلّ دولة. فقد تبيّن أنّ الحضارة هي سنّ الوقوف لعمر العالم في العمران والدّولة [2] والله سبحانه وتعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ 55: 29 لا يشغله شأن عن شأن.
الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها
قد استقرينا في العمران أنّ الدّولة إذا اختلّت وانتقضت فإنّ المصر الّذي يكون كرسيّا لسلطانها ينتقض عمرانه وربّما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب ولا يكاد ذلك يتخلّف. والسّبب فيه أمور: الأوّل أنّ الدّولة لا بدّ في أوّلها من البداوة المقتضية للتّجافي عن أموال النّاس والبعد عن التّحذلق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم الّتي منها مادّة الدّولة فتقلّ النّفقات ويقل [3] التّرف فإذا صار المصر الّذي كان كرسيّا للملك في ملكة هذه الدّولة المتجدّدة ونقصت أحوال التّرف فيها نقص التّرف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأنّ الرّعايا تبع للدّولة فيرجعون إلى خلق الدّولة إمّا طوعا لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرها لما يدعو إليه خلق الدّولة من الانقباض عن التّرف في جميع الأحوال وقلّة الفوائد الّتي هي مادّة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر ويذهب منه كثير من عوائد التّرف. وهو معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثّاني أنّ الدّولة إنّما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب، وإنّما يكون بعد العداوة والحروب. والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدّولتين، وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الآخر فتكون أحوال الدّولة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وهذا موجود.
[2] وفي نسخة أخرى: من العمران والدول.
[3] وفي نسخة أخرى: يقصر.(1/469)
السّابقة منكرة عند أهل الدّولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة. وخصوصا أحوال التّرف فتفقد في عرفهم بنكير الدّولة لها حتّى تنشأ لهم بالتّدريج عوائد أخرى من التّرف فتكون عنها حضارة مستأنفة. وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصها وهو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثّالث أنّ كلّ أمّة لا بدّ لهم من وطن وهو منشأهم ومنه أوّليّة ملكهم. وإذا ملكوا ملكا آخر صار تبعا للأوّل وأمصاره تابعة لأمصار الأوّل. واتّسع نطاق الملك عليهم. ولا بدّ من توسّط الكرسيّ بين تخوم الممالك الّتي للدّولة لأنّه شبه المركز للنّطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسيّ الأوّل وتهوى أفئدة النّاس من أجل الدّولة والسّلطان فينتقل إليه العمران ويخفّ من مصر الكرسيّ الأوّل. والحضارة إنّما هي توفّر [1] العمران كما قدّمناه فتنقص حضارته وتمدّنه وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسّلجوقيّة في عدولهم بكرسيّهم عن بغداد إلى أصبهان وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ولبني العبّاس في العدول عن دمشق إلى بغداد ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مرّاكش إلى فاس. وبالجملة فاتّخاذ الدّولة الكرسيّ في مصر يخلّ بعمران الكرسيّ الأوّل. الأمر الرّابع أنّ الدّولة الثّانية لا بدّ فيها من تبع [2] أهل الدّولة السّابقة وأشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر يؤمن فيه غائلتهم على الدّولة وأكثر أهل المصر الكرسيّ أشياع الدّولة. إمّا من الحامية الّذين نزلوا به أوّل الدّولة أو أعيان المصر لأنّ لهم في الغالب مخالطة للدّولة على طبقاتهم وتنوّع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدّولة فهم شيعة لها. وإن لم يكونوا بالشّوكة والعصبيّة فهم بالميل والمحبّة والعقيدة. وطبيعة الدّولة المتجدّدة محو آثار الدّولة السّابقة فينقلهم من مصر الكرسيّ إلى وطنها المتمكّن في ملكتها. فبعضهم على نوع التّغريب والحبس وبعضهم على نوع الكرامة والتّلطّف بحيث لا يؤدّي إلى النّفرة حتّى لا يبقى في مصر الكرسيّ إلّا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بوفور.
[2] وفي نسخة أخرى: تتبع.(1/470)
وسواد العامّة وينزل مكانهم حاميتها وأشياعها من يشتدّ به المصر وإذا ذهب من المصر أعيانهم على طبقاتهم نقص ساكنه وهو معنى اختلال عمرانه. ثمّ لا بدّ من أن يستجدّ عمران آخر في ظلّ الدّولة الجديدة وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدّولة. وإنّما ذلك بمثابة (من له بيت على أوصاف مخصوصة فأظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصاف) [1] وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرّب ذلك البيت ثمّ يعيد بناءه ثانيا. وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار الّتي هي كراسيّ للملك وشاهدناه وعلمناه «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» . والسّبب الطّبيعيّ الأوّل في ذلك على الجملة أنّ الدّولة والملك للعمران بمثابة الصّورة للمادّة وهو الشّكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرّر في علوم الحكمة أنّه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدّولة دون العمران لا تتصوّر والعمران دون الدّولة والملك متعذّر لما في طباع البشر من العدوان [2] الدّاعي إلى الوازع فتتعيّن السّياسة لذلك إمّا الشّرعيّة أو الملكيّة وهو معنى الدّولة وإذا كانا لا ينفكّان فاختلال أحدهما مؤثّر في اختلال الآخر كما أنّ عدمه مؤثّر في عدمه والخلل العظيم إنّما يكون من خلل الدّولة الكلّيّة مثل دولة الرّوم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أميّة أو بني العبّاس كذلك. وأمّا الدّولة الشّخصيّة مثل دولة أنوشروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرّشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده وبقائه وقريبة الشّبه بعضها من بعض فلا تؤثّر كثير اختلال لأنّ الدّولة بالحقيقة الفاعلة في مادّة العمران إنّما هي العصبيّة والشّوكة وهي مستمرّة على أشخاص الدّولة فإذا ذهبت تلك العصبيّة ودفعتها عصبيّة أخرى مؤثّرة في العمران ذهبت أهل الشّوكة بأجمعهم وعظم الخلل كما قرّرناه أوّلا «والله سبحانه وتعالى أعلم» [3]
__________
[1] وفي نسخة أخرى وردت الجملة كما يلي: «من يملك بيتا داخلة البلى. والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحة وله قدرة على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع» .
[2] وفي النسخة الباريسية (من التعاون
[3] وفي نسخة أخرى: والله قادر على ما يشاء. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ 14: 19- 20.(1/471)
الفصل العشرون في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض
وذلك أنّه من البيّن أنّ أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضا لما في طبيعة العمران من التّعاون وما يستدعي من الأعمال يختصّ ببعض أهل المصر فيقومون عليه ويستبصرون في صناعته ويختصّون بوظيفته ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه. وما لا تستدعي في المصر يكون غفلا إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به. وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كلّ مصر كالخيّاط والحدّاد والنّجّار وأمثالها وما يستدعي لعوائد التّرف وأحواله فإنّما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد التّرف والحضارة مثل الزّجّاج والصّائغ والدّهّان والطّبّاخ والصّفّار والسّفّاج والفرّاش والذّبّاح وأمثال هذه وهي متفاوتة. وبقدر ما تزيد الحضارة وتستدعي أحوال التّرف تحدث صنائع لذلك النّوع فتوجد بذلك المصر دون غيره ومن هذا الباب الحمّامات لأنّها إنّما توجد في الأمصار المستحضرة المستبحرة العمران لما يدعو إليه التّرف والغنى من التّنعّم ولذلك لا تكون في المدن المتوسّطة. وإن نزع بعض الملوك والرّؤساء إليها فيختطّها ويجري أحوالها. إلّا أنّها إذا لم تكن لها داعية من كافّة النّاس فسرعان ما تهجر وتخرب وتفرّ عنها القومة لقلّة فائدتهم ومعاشهم منها. والله يقبض ويبسط.
الفصل الحادي والعشرون في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض
من البيّن أنّ الالتحام والاتّصال موجود في طباع البشر وإن لم يكونوا أهل نسب واحد إلّا أنّه كما قدّمناه أضعف ممّا يكون بالنّسب وأنّه تحصل به العصبيّة(1/472)
بعضا ممّا تحصل بالنّسب. وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصّهر يجذب بعضهم بعضا إلى أن يكونوا لحما لحما وقرابة قرابة وتجد بينهم من العداوة والصّداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعا [1] وعصائب فإذا نزل الهرم بالدّولة وتقلّص ظلّ الدّولة [2] عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنّظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشّورى وتميّز العلية عن السّفلة والنّفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب والرّئاسة فتطمح المشيخة لخلاء الجوّ من السّلطان والدّولة القاهرة إلى الاستبداد وينازع كلّ صاحبه ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشّيع والأحلاف ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب فيعصوصب كلّ لصاحبه ويتعيّن الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليقصّ من أعنّتهم ويتتبّعهم بالقتل أو التّغريب حتّى يخضد منهم الشّوكات النّافذة ويقلّم الأظفار الخادشة ويستبدّ بمصره أجمع ويرى أنّه قد استحدث ملكا يورثه عقبه فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم من عوارض الجدّة والهرم وربّما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر والعصبيّات والزّحوف والحروب والأقطار والممالك فينتحلون بها من الجلوس على السّرير واتّخاذ الآلة وإعداد المواكب للسّير في أقطار البلد والتّختّم والتّحيّة والخطاب بالتّهويل ما يسخر منه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك الّتي ليسوا لها بأهل. إنّما دفعهم إلى ذلك تقلّص الدّولة والتحام بعض القرابات حتّى صارت عصبيّة. وقد يتنزّه بعضهم عن ذلك ويجري على مذهب [3] السّذاجة فرارا من التّعريض بنفسه للسّخريّة والعبث. وقد وقع هذا بإفريقيّة لهذا العهد في آخر الدّولة الحفصيّة لأهل بلاد الجريد من طرابلس وقابس وتؤزّر ونفطة وقفصة وبسكرة والزّاب وما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: شعبا.
[2] وفي النسخة الباريسية: وتقلص الملك عن القاصية.
[3] وفي نسخة أخرى: مذاهب.(1/473)
تقلّص ظلّ الدّولة عنهم منذ عقود من السّنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدّوا بأمرها على الدّولة في الأحكام والجباية. وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرّضة وأقطعوها جانبا من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلفهم [1] من الغلظة والتّجبّر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم ونظّموا أنفسهم في عداد السّلاطين على قرب عهدهم بالسّوقة حتّى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العبّاس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدّولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدّولة الصّنهاجيّة واستقلّ بأمصار الجريد أهلها واستبدّوا على الدّولة حتّى انتزع ذلك منهم شيخ الموحّدين وملكهم عبد المؤمن بن عليّ ونقلهم من إماراتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن.
وهذا التّغلّب يكون غالبا في أهل السّروات والبيوتات المرشّحين للمشيخة والرّئاسة في المصر، وقد يحدث التّغلّب لبعض السّفلة من الغوغاء والدّهماء. وإذا حصلت له العصبيّة والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرّها له المقدار فيتغلّب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة والله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار
اعلم أنّ لغات أهل الأمصار إنّما تكون بلسان الأمّة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطّين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلاميّة كلّها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربيّة وإن كان اللّسان العربيّ المضريّ قد فسدت ملكته وتغيّر إعرابه والسّبب في ذلك ما وقع للدّولة الإسلاميّة من الغلب على الأمم والدّين والملّة صورة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: خلقهم.(1/474)
للوجود وللملك. وكلّها موادّ له والصّورة مقدّمة على المادّة والدّين إنّما يستفاد من الشّريعة وهي بلسان العرب لما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عربيّ فوجب هجر ما سوى اللّسان العربيّ من الألسن في جميع ممالكها. واعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطانة [1] الأعاجم وقال إنّها خبّ. أي مكر وخديعة. فلمّا هجر الدّين اللّغات الأعجميّة وكان لسان القائمين بالدّولة الإسلاميّة عربيّا هجرت كلّها في جميع ممالكها لأنّ النّاس تبع للسّلطان وعلى دينه فصار استعمال اللّسان العربيّ من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللّسان العربيّ لسانهم حتّى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجميّة دخيلة فيها وغريبة. ثمّ فسد اللّسان العربيّ بمخالطتها في بعض أحكامه وتغيّر أواخره وإن كان بقي في الدّلالات على أصله وسمّي لسانا حضريّا في جميع أمصار الإسلام. وأيضا فأكثر أهل الأمصار في الملّة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها، الهالكين في ترفها بما كثّروا العجم الّذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللّغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئا فشيئا. وسمّيت لغتهم حضريّة منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنّها كانت أعرق في العروبيّة ولمّا تملّك العجم من الدّيلم والسّلجوقيّة بعدهم بالمشرق، وزناتة والبربر بالمغرب، وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلاميّة فسد اللّسان العربيّ لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسّنّة اللّذين بهما حفظ الدّين وسار ذلك مرجّحا لبقاء اللّغة العربيّة المضريّة من الشّعر والكلام إلّا قليلا بالأمصار فلمّا ملك التّتر والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجّح وفسدت اللّغة العربيّة على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلاميّة بالعراق وخراسان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رطانة (وهي الأصح مع مقتضى سياق الجملة) .(1/475)
وبلاد فارس وأرض الهند والسّند وما وراء النّهر وبلاد الشّمال وبلاد الرّوم وذهبت أساليب اللّغة العربيّة من الشّعر والكلام إلّا قليلا يقع تعليمه صناعيّا بالقوانين المتدارسة من كلام [1] العرب وحفظ كلامهم لمن يسّره الله تعالى لذلك. وربّما بقيت اللّغة العربيّة المضريّة بمصر والشّام والأندلس وبالمغرب لبقاء الدّين طلبا لها فانحفظت ببعض الشّيء وأمّا في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتّى إنّ كتب العلوم صارت تكتب باللّسان العجميّ وكذا تدريسه في المجالس والله أعلم بالصّواب. والله مقدّر اللّيل والنّهار. صلى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدّين والحمد للَّه ربّ العالمين.
الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل
الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وان الكسب هو قيمة الأعمال البشرية
اعلم أنّ الإنسان مفتقر بالطّبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوءه إلى أشدّه إلى كبره «وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ 47: 38» والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتنّ به عليه في غير ما آية من كتابه فقال:
__________
[1] وفي نسخة: علوم.(1/476)
«وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ 45: 13» [1] وسخّر لكم البحر وسخّر لكم الفلك وسخّر لكم الأنعام. وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلّا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضّعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ 29: 17» وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزّراعة وأمثاله. إلّا أنّها إنّما تكون معينة ولا بدّ من سعيه معها كما يأتي فتكون له تلك المكاسب معاشا إن كانت بمقدار الضّرورة والحاجة ورياشا ومتموّلا إن زادت على ذلك. ثمّ إنّ ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمّي ذلك رزقا. قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت» وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمّى بالنّسبة إلى المالك رزقا والمتملّك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته يسمّى كسبا. وهذا مثل التّراث فإنّه يسمّى بالنّسبة إلى الهالك كسبا ولا يسمّى رزقا إذ لم يحصل به منتفع وبالنّسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمّى رزقا. هذا حقيقة مسمّى الرّزق عند أهل السّنّة وقد اشترط المعتزل في تسميته رزقا أن يكون بحيث يصحّ تملّكه وما لا يتملّك عندهم لا يسمّى رزقا وأخرجوا الغصوبات [2] والحرام كلّه عن أن يسمّى شيء منها رزقا والله تعالى يرزق الغاصب والظّالم والمؤمن والكافر برحمته وهدايته من يشاء.
ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها. ثمّ اعلم أنّ الكسب إنّما يكون بالسّعي في الاقتناء والقصد إلى التّحصيل فلا بدّ في الرّزق من سعي وعمل ولو في
__________
[1] من الآية 13 من سورة الجاثية.
[2] في النسخة الباريسية: الغصوبات. ولم ترد بلسان العرب الغصوبات. لذلك من الأصح أن يقول المغصوبة.(1/477)
تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ 29: 17» والسّعي إليه إنّما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكلّ من عند الله. فلا بدّ من الأعمال الإنسانيّة في كلّ مكسوب ومتموّل. لأنّه إن كان عملا بنفسه مثل الصّنائع فظاهر وإن كان مقتنى من الحيوان والنّبات والمعدن فلا بدّ فيه من العمل الإنسانيّ كما تراه وإلّا لم يحصل ولم يقع به انتفاع. ثمّ إنّ الله تعالى خلق الحجرين المعدنيّين من الذّهب والفضّة قيمة لكلّ متموّل، وهما الذّخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنّما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق الّتي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذّخيرة. وإذا تقرّر هذا كلّه فاعلم أنّ ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتموّلات إن كان من الصّنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هناك إلّا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصّنائع في بعضها غيرها مثل التّجارة والحياكة معهما الخشب والغزل إلّا أنّ العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر وإن كان من غير الصّنائع فلا بدّ من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الّذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصّة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين النّاس فإنّ اعتبار الأعمال والنّفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدّمناه لكنّه خفيّ في الأقطار الّتي علاج الفلح فيها ومؤنته يسيرة فلا يشعر به إلّا القليل من أهل الفلح. فقد تبيّن أنّ المفادات والمكتسبات كلّها أو أكثرها إنّما هي قيم الأعمال الإنسانيّة وتبيّن مسمّى الرّزق وأنّه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرّزق وشرح مسمّاهما. واعلم أنّه إذا فقدت الأعمال أو قلّت بانتقاص العمران تأذّن الله برفع الكسب أترى إلى الأمصار القليلة السّاكن كيف يقلّ الرّزق والكسب فيها أو يفقد لقلّة الأعمال الإنسانيّة وكذلك الأمصار الّتي يكون عمرانها [1] أكثر يكون أهلها أوسع أحوالا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تكون اعمالها.(1/478)
وأشدّ رفاهية كما قدّمناه قبل ومن هذا الباب تقول العامّة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنّها قد ذهب رزقها حتّى أنّ الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر لما أنّ فور العيون إنّما يكون بالأنباط والامتراء الّذي هو بالعمل الإنسانيّ كالحال في ضروع الأنعام فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة كما يجفّ الضّرع إذا ترك امتراؤه. وأنظره في البلاد الّتي تعهد فيها العيون لأيّام عمرانها ثمّ يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنّها لم تكن «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار» .
الفصل الثاني في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه
اعلم أنّ المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرّزق والسّعي في تحصيله وهو مغفل من العيش. كأنّه لمّا كان العيش الّذي هو الحياة لا يحصل إلّا بهذه جعلت موضعا له على طريق المبالغة ثمّ إنّ تحصيل الرّزق وكسبه: إمّا أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمّى مغرما وجباية وإمّا أن يكون من الحيوان الوحشيّ بافتراسه [1] وأخذه برميه من البرّ أو البحر ويسمّى اصطيادا وإمّا أن يكون من الحيوان الدّاجن باستخراج فضوله المنصرفة بين النّاس في منافعهم كاللّبن من الأنعام والحرير من دوده والعسل من نحلة أو يكون من النّبات في الزّرع والشّجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته ويسمّى هذا كلّه فلحا وإمّا أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانيّة إمّا في موادّ معيّنة وتسمّى الصّنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسيّة وأمثال ذلك أو في موادّ غير معيّنة وهي جميع الامتهانات والتّصرّفات وإمّا أن يكون الكسب من البضائع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: باقتناصه.(1/479)
وإعدادها للأعواض إمّا بالتّغلّب بها في البلاد واحتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها. ويسمّى هذا تجارة. فهذه وجوه المعاش وأصنافه وهي معنى ما ذكره المحقّقون من أهل الأدب والحكمة كالحريريّ وغيره فإنّهم قالوا: «المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة» . فأمّا الإمارة فليست بمذهب طبيعيّ للمعاش فلا حاجة بنا إلى ذكرها وقد تقدّم شيء من أحوال الجبايات السّلطانيّة وأهلها في الفصل الثّاني. وأمّا الفلاحة والصّناعة والتّجارة فهي وجوه طبيعيّة للمعاش أمّا الفلاحة فهي متقدّمة عليها كلّها بالذّات إذ هي بسيطة وطبيعيّة فطريّة لا تحتاج إلى نظر ولا علم ولهذا تنسب في الخليقة إلى آدم أبي البشر وأنّه معلّمها والقائم عليها إشارة إلى أنّها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطّبيعة. وأمّا الصّنائع فهي ثانيتها ومتأخّرة عنها لأنّها مركّبة وعلميّة تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا يوجد غالبا إلّا في أهل الحضر الّذي هو متأخّر عن البدو وثان عنه. ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثّاني للخليقة فإنّه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. وأمّا التّجارة وإن كانت طبيعة في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنّما هي تحيّلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشّراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشّرع فيه المكاسبة [1] لما أنّه من باب المقامرة إلّا أنّه ليس أخذ المال الغير مجّانا فلهذا اختصّ بالمشروعيّة. والله أعلم.
الفصل الثالث في أن الخدمة ليست من الطبيعي
اعلم أنّ السّلطان لا بدّ له من اتّخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الّذي هو بسبيله من الجنديّ والشّرطيّ والكاتب. ويستكفي في كلّ باب بمن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المكايسة.(1/480)
المضيّع ولو كان مأمونا فضرره بالتّضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك واتّخذه قانونا في الاستكفاء بالخدمة. والله سبحانه وتعالى قادر على كلّ شيء.
الفصل الرابع في ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي
اعلم أنّ كثيرا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك. ويعتقدون أنّ أموال الأمم السّالفة مختزنة كلّها تحت الأرض مختوم عليها كلّها بطلاسم سحريّة، لا يفضّ ختامها ذلك إلّا من عثر على علمه واستحضر ما يحلّه من البخور والدّعاء والقربان. فأهل الأمصار بإفريقيّة يرون أنّ الإفرنجة الّذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك وأودعوها في الصّحف بالكتاب إلى أن يجدوا السّبيل إلى استخراجها. وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والرّوم والفرس. ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطّالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممّن لم يعرف طلّسمه ولا خبره فيجدونه خاليا أو معمورا بالدّيدان. أو يشاهد الأموال والجواهر موضوعة والحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الأرض حتّى يظنّه خسفا أو مثل ذلك من الهذر. ونجد كثيرا من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطّبيعيّ وأسبابه يتقرّبون إلى أهل الدّنيا بالأوراق المتخرّمة [1] الحواشي إمّا بخطوط عجميّة أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدّفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرّزق منهم بما يبعثونه على الحفر والطّلب ويموّهون عليهم بأنّهم إنّما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكّام والعقوبات. وربّما تكون عند
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المخترمة.(1/481)
يعلم غناءه فيه ويتكفّل بأرزاقهم من بيت ماله. وهذا كلّه مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلّهم ينسحب [1] عليهم حكم الإمارة والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. وأمّا ما دون ذلك من الخدمة فسببها أنّ أكثر المترفين يترفّع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزا عنها لما ربّي عليه من خلق التّنعّم والتّرف فيتّخذ من يتولّى ذلك له ويقطعه عليه أجرا من ماله. وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرّجوليّة الطّبيعيّة للإنسان إذ الثّقة بكلّ أحد عجز، ولأنّها تزيد في الوظائف والخرج وتدلّ على العجز والخنث الّذي ينبغي في مذاهب الرّجوليّة التّنزّه عنهما.
إلّا أنّ العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. ومع ذلك فالخديم الّذي يستكفى به ويوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إمّا مضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده وإمّا بالعكس فيهما، وهو أن يكون غير مضطلع بأمره ولا موثوق فيها يحصل بيده وإمّا بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعا غير موثوق أو موثوقا غير مضطلع. فأمّا الأوّل وهو المضطلع الموثوق فلا يمكن أحدا استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه وثقته غنيّ عن أهل الرّتب الدّنيئة ومحتقر لمثال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلّا الأمراء أهل الجاه العريض لعموم الحاجة إلى الجاه. وأمّا الصّنف الثّاني وهو ممّن ليس بمضطلع ولا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنّه يحجف بمخدومه في الأمرين معا فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة ويذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كلّ حال كلّ على مولاه.
فهذان الصّنفان لا يطمع أحد في استعمالهما. ولم يبق إلّا استعمال الصّنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع ومضطلع غير موثوق وللنّاس في التّرجيح بينهما مذهبان، ولكلّ من التّرجيحين وجه. إلّا أنّ المضطلع ولو كان غير موثوق أرجح لأنّه يؤمن من تضييعه ويحاول على التّحرّز من خيانته جهد الاستطاعة وأمّا
__________
[1] بمعنى ينطبق عليهم. وقد استعملت على المجاز.(1/482)
بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السّحريّة يموّه بها على تصديق ما بقي من دعواه وهو بمعزل عن السّحر وطرقه فتولّع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار والتّستّر فيه بظلمات اللّيل مخافة الرّقباء وعيون أهل الدّول، فإذا لم يعثروا على شيء ردّوا ذلك إلى الجهل بالطّلّسم الّذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. والّذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنّما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطّبيعيّة للكسب من التّجارة والفلح والصّناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى [1] الطّبيعيّ من هذا وأمثاله عجزا عن السّعي في المكاسب وركونا إلى تناول الرّزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه ولا يعلمون أنّهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب ومتاعب وجهد شديد أشدّ من الأوّل ويعرّضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. وربّما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة التّرف وعوائده وخروجها عن حدّ النّهاية حتّى تقصّر عنها وجوه الكسب ومذاهبه ولا تفي بمطالبها. فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطّبيعيّ لم يجد وليجة في نفسه إلّا التّمنّي لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد الّتي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدّولة ومن سكّان الأمصار الكثيرة التّرف المتّسعة الأحوال مثل مصر وما في معناها فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله ومساءلة الرّكبان عن شواذّه كما يحرصون على الكيمياء. هكذا بلغني [2] عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلّهم يعثرون منه على دفين أو كنز ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أنّ غالب هذه الأموال الدّفينة كلّها في مجاري النّيل وأنّه أعظم ما يستر دفينا أو مختزنا في تلك الآفاق ويموّه عليهم أصحاب تلك الدّفاتر المفتعلة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الوجه.
[2] وفي نسخة أخرى: يبلغنا.(1/483)
في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النّيل تستّرا بذلك من الكذب حتّى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السّحريّة لتحصيل مبتغاه من هذه كلفا بشأن السّحر متوارثا في ذلك القطر عن أوّليه فعلومهم السّحريّة وآثارها باقية بأرضهم في البراري [1] وغيرها. وقصّة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفيّة العمل بالتّغوير بصناعة سحريّة حسبما تراه فيها وهي هذه:
يا طالبا للسّرّ في التّغوير ... اسمع كلام الصّدق من خبير
دع عنك ما قد صنّفوا في كتبهم ... من قول بهتان ولفظ غرور
واسمع لصدق مقالتي ونصيحتي ... إن كنت ممّن لا يرى بالزّور
فإذا أردت تغوّر البئر الّتي ... حارت لها الأوهام في التّدبير
صوّر كصورتك الّتي أوقفتها ... والرّأس رأس الشّبل في التّقوير
ويداه ماسكتان للحبل الّذي ... في الدّلو ينشل من قرار البير
وبصدره هاء كما عاينتها ... عدد الطّلاق احذر من التّكرير
ويطا على الطّاءات غير ملامس ... مشي اللّبيب الكيّس النّحرير
ويكون حول الكلّ [2] خطّ دائر ... تربيعه أولى من التّكوير
واذبح عليه الطّير والطخه به ... واقصده عقب [3] الذّبح بالتّبخير
بالسّندروس وباللّبان وميعة ... والقسط وألبسه بثوب حرير
من أحمر أو أصفر لا [4] أزرق ... لا أخضر فيه ولا تكدير
ويشدّه خيطان صوف أبيض ... أو أحمر من خالص التّحمير
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: البرابي.
[2] ونسخة أخرى: والشكل.
[3] وفي النسخة الباريسية: واقصد عقب.
[4] وفي النسخة الباريسية: أصفر أو.(1/484)
والطّالع الأسد الّذي قد بيّنوا ... ويكون بدء [1] الشّهر غير منير
والبدر متّصل بسعد عطارد ... في يوم سبت ساعة التّدبير
يعني أن تكون الطّاءات بين قدميه كأنّه يمشي عليها وعندي أنّ هذه القصيدة من تمويهات المتخرّفين [2] فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة وتنتهي التّخرفة [3] والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدّور المعروفة لمثل هذه ويحتفرون الحفر ويضعون المطابق فيها والشّواهد الّتي يكتبونها في صحائف كذبهم ثمّ يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصّحائف (ويعثون على كبراء) [4] ذلك المنزل وسكناه ويوهمون أنّ به دفينا من المال لا يعبّر عن كثرته ويطالبون بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحلّ الطّلاسم ويعدونه بظهور الشّواهد الّتي قد أعدّوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم يلبّسون به عليهم ليخفى عند محاورتهم فيما يتلونه [5] من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك. وأمّا الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم ولا خبر واعلم أنّ الكنوز وإن كانت توجد لكنّها في حكم النّادر وعلى وجه الاتّفاق لا على وجه القصد إليها. وليس ذلك بأمر تعمّ به البلوى حتّى يدّخر النّاس أموالهم تحت الأرض ويختمون عليها بالطّلاسم لا في القديم ولا في الحديث. والرّكاز الّذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء وهو دفين الجاهليّة إنّما يوجد بالعثور والاتّفاق لا بالقصد والطّلب وأيضا فمن اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السّحريّة فقد بالغ في إخفائه فكيف ينصب عليه الأدلّة والأمارات لمن يبتغيه. ويكتب ذلك في الصّحائف حتّى يطّلع على ذخيرته أهل الأمصار
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بدر.
[2] وفي النسخة الباريسية: المخرفين.
[3] وفي النسخة الباريسية: المخرفة.
[4] وفي نسخة أخرى: ويبعثونه على اكتراء.
[5] وفي نسخة أخرى: يتناولونه.(1/485)
والآفاق؟ هذا يناقض قصد الإخفاء. وأيضا فأفعال العقلاء لا بدّ وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. ومن اختزن المال فإنّه يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. وأمّا أن يقصد إخفاءه بالكليّة عن كلّ أحد وإنّما هو للبلاء والهلاك أو لمن لا يعرفه بالكليّة ممّن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه. وأمّا قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا وما علم فيها من الكثرة والوفور؟ فاعلم أنّ الأموال من الذّهب والفضّة والجواهر والأمتعة إنّما هي معادن ومكاسب مثل الحديد والنّحاس والرّصاص وسائر العقارات والمعادن. والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانيّة ويزيد فيها أو ينقصها وما يوجد منها بأيدي النّاس فهو متناقل متوارث وربّما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى أخرى بحسب أغراضه [1] . والعمران الّذي يستدعي له فإن نقص المال في المغرب وإفريقية فلم ينقص ببلاد الصّقالبة والإفرنج وإن نقص في مصر والشّام فلم ينقص في الهند والصّين. وإنّما هي الآلات والمكاسب والعمران يوفّرها أو ينقصها، مع أنّ المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات ويسرع إلى اللّؤلؤ والجوهر أعظم ممّا يسرع إلى غيره. وكذا الذّهب والفضّة والنّحاس والحديد والرّصاص والقصدير ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت. وأمّا ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز فسببه أنّ مصر في ملكة القبط منذ آلاف [2] أو يزيد من السّنين وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذّهب والفضّة والجواهر واللّئالئ على مذهب من تقدّم من أهل الدّول فلمّا انقضت دولة القبط وملك الفرس بلادهم نقّروا على ذلك في قبورهم فكشفوا عنه فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف:
كالأهرام من قبور الملوك وغيرها. وكذا فعل اليونانيّون من بعدهم وصارت قبورهم مظنّة لذلك لهذا العهد. ويعثر على الدّفين فيها كثيرا من الأوقات. أمّا ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرّمون به موتاهم في الدّفن من أوعية وتوابيت من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أعواضه.
[2] وفي النسخة الباريسية: منذ ألفين اثنين وفي نسخة أخرى منذ ألف.(1/486)
الذّهب والفضّة معدّة لذلك فصارت قبور القبط منذ آلاف من السّنين مظنّة لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها واستخراجها. حتّى إنّهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدّولة ضربت على أهل المطالب. وصدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمهوّسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذّريعة إلى الكشف عنه والذّرع [1] باستخراجه وما حصلوا إلّا على الخيبة في جميع مساعيهم نعوذ باللَّه من الخسران فيحتاج من وقع له شيء [2] من هذا الوسواس وابتلي به أن يتعوّذ باللَّه من العجز والكسل في طلب معاشه كما تعوّذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وينصرف عن طرق الشّيطان ووسواسه ولا يشغل بالمحالات والمكاذب من الحكايات «وَالله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 2: 212» .
الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال
وذلك أنّا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يسارا وثروة من فاقد الجاه. والسّبب في ذلك أنّ صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرّب بها إليه في سبيل التّزلّف والحاجة إلى جاهه فالنّاس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروريّ أو حاجيّ أو كماليّ فتحصل قيم تلك الأعمال كلّها من كسبه وجميع معاشاته أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها النّاس من غير عوض فتتوفّر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضّرورة إلى إخراجها فتتوفّر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد مع الأيّام يسارا وثروة. ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدّمناه وفاقد الجاه بالكلّيّة ولو كان صاحب مال فلا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: والزعم.
[2] وفي النسخة الباريسية: من دفع إلى شيء.(1/487)
يكون يساره إلّا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه وهؤلاء هم أكثر التّجّار. ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. وممّا يشهد لذلك أنّا نجد كثيرا من الفقهاء وأهل الدّين والعبادة إذا اشتهروا حسن الظّنّ بهم واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم فأخلص النّاس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم وأسرعت إليهم الثّروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلّا ما يحصل لهم من قيم الأعمال الّتي وقعت المعونة بها من النّاس لهم. رأينا من ذلك أعدادا في الأمصار والمدن. وفي البدو يسعى لهم النّاس في الفلح والتّجر وكلّ هو قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبه ويتأثّل الغنيّ من غير سعي ويعجب من لا يفطن لهذا السّرّ في حال ثروته وأسباب غناه ويساره والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالبا لأهل الخضوع والتملق وان هذا الخلق من أسباب السعادة
قد سلف لنا فيما سبق أنّ الكسب الّذي يستفيده البشر إنّما هو قيم أعمالهم ولو قدّر أحد عطل [1] عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلّيّة. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة النّاس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نموّ كسبه أو نقصانه. وقد بيّنا آنفا أنّ الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرّب النّاس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضارّ وجلب المنافع. وكان ما يتقرّبون به من عمل أو مال عوضا عمّا يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض [2] في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت. ثمّ إنّ الجاه متوزّع في النّاس ومترتّب فيهم طبقة بعد طبقة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عاطل.
[2] وفي النسخة الباريسية: من كثير الاعراض.(1/488)
ينتهي في العلوّ إلى الملوك الّذين ليس فوقهم يد عالية [1] وفي السّفل إلى من لا يملك ضرّا ولا نفعا بين أبناء جنسه وبين ذلك طبقات متعدّدة حكمة الله في خلقه بما ينتظم معاشهم وتتيسّر مصالحهم ويتمّ بقاؤهم لأنّ النّوع الإنسانيّ لا يتمّ وجوده وبقاؤه إلّا بالتّعاون بين أبنائه على مصالحهم، لأنّه قد تقرّر أنّ الواحد منهم لا يتمّ وجوده وإنّه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصحّ بقاؤه.
ثمّ إنّ هذا التّعاون لا يحصل إلّا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النّوع ولما جعل لهم من الاختيار وأنّ أفعالهم إنّما تصدر بالفكر والرّويّة لا بالطّبع.
وقد يمتنع من المعاونة فيتعيّن حمله عليها فلا بدّ من حامل يكره أبناء النّوع على مصالحهم لتتمّ الحكمة الإلهيّة في بقاء هذا النّوع. وهذا معنى قوله تعالى «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 43: 32» فقد تبيّن أنّ الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التّصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتّسلّط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارّهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسّياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكنّ الأوّل مقصود في العناية الرّبّانيّة بالذّات والثّاني داخل فيها بالعرض كسائر الشّرور الدّاخلة في القضاء الإلهيّ، لأنّه قد لا يتمّ وجود الخير الكثير إلّا بوجود شرّ يسير من أجل الموادّ فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشّرّ اليسير. وهذا معنى وقوع الظّلم في الخليقة فتفهّم. ثمّ إنّ كلّ طبقة من طباق [2] أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطّباق وكلّ واحدة من الطّبقة السّفلى يستمدّ بذي الجاه من أهل الطّبقة الّتي فوقه ويزداد كسبه تصرّفا فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه والجاه على ذلك داخل على النّاس في جميع أبواب المعاش ويتّسع ويضيق بحسب الطّبقة والطّور
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: غالبة.
[2] ورد في لسان العرب: «السماوات طباق بعضها على بعض. وكل واحد من الطباق طبقة. والطبق والطبقة: الفقرة حيث كانت. قيل: هي ما بين الفقرتين وجمعها طباق.(1/489)
الّذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متّسعا كان الكسب النّاشئ عنه كذلك وإن كان ضيّقا قليلا فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلّا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهبا وآئبا في تنميته كأكثر التّجّار وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصّنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنّهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنّما يرمّقون العيش ترميقا ويدافعون [1] ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرّر ذلك وأنّ الجاه متفرّع [2] وأنّ السّعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أنّ بذله وإفادته من أعظم النّعم وأجلّها وأنّ باذله من أجلّ المنعمين وإنّما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعزّة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملّق كما يسأل أهل العزّ والملوك وإلّا فيتعذّر حصوله. فلذلك قلنا إنّ الخضوع والتّملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصّل للسّعادة والكسب وإنّ أكثر أهل الثّروة والسّعادة بهذا التّملّق ولهذا نجد الكثير ممّن يتخلّق بالتّرفّع والشّمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التّكسّب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. واعلم أنّ هذا الكبر والتّرفّع من الأخلاق المذمومة إنّما يحصل من توهّم الكمال وأنّ النّاس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبحّر في علمه والكاتب المجيد في كتابته أو الشّاعر البليغ في شعره وكلّ محسن في صناعته يتوهّم أنّ النّاس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفّع عليهم بذلك وكذا يتوهّم أهل الأنساب ممّن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبّرون [3] به بما رأوه أو سمعوه من رجال آبائهم في المدينة ويتوهّمون أنّهم استحقّوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسّكون في الحاضر بالأمر المعدوم وكذلك أهل الحيلة والبصر والتّجارب بالأمور [4] قد يتوهّم بعضهم كمالا في نفسه بذلك واحتياجا إليه. وتجد هؤلاء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يدفعون.
[2] وفي النسخة الباريسية: متوزع.
[3] وفي النسخة الباريسية: يغترون. وفي نسخة أخرى يعثرون
[4] وفي النسخة الباريسية: أهل الحنكة والتجارب والبصر بالأمور.(1/490)
الأصناف كلّهم مترفّعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملّقون لمن هو أعلى منهم ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على النّاس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعدّه مذلّة وهوانا وسفها. ويحاسب النّاس في معاملتهم إيّاه بمقدار ما يتوهّم في نفسه ويحقد على من قصّر له في شيء ممّا يتوهّمه من ذلك. وربّما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمرّ في عناء عظيم من إيجاب الحقّ لنفسه أو إباية النّاس له من ذلك. ويحصل له المقت من النّاس لما في طباع البشر من التّألّه، وقلّ أن يسلّم أحد منهم لأحد في الكمال والتّرفّع عليه إلّا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كلّه في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبيّن لك مقته النّاس بهذا التّرفّع ولم يحصل له حظّ من إحسانهم وفقد الجاه لذلك من أهل الطّبقة الّتي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود عن تعاهدهم وغشيان [1] منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأمّا الثّروة فلا تحصل له أصلا. ومن هذا اشتهر بين النّاس أنّ الكامل في المعرفة محروم من الحظّ وأنّه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظّ وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسّر له. والله المقدّر لا ربّ سواه. ولقد يقع في الدّول أضراب في المراتب من أهل [2] الخلق ويرتفع فيها كثير من السّلفة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك وذلك أنّ الدّول إذا بلغت نهايتها [3] من التّغلّب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك وإنّما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السّلطان وكأنّهم خول له. فإذا استمرّت الدّولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السّلطان كلّ من انتمى إلى خدمته وتقرّب إليه بنصيحة واصطنعه السّلطان لغنائه في كثير من مهمّاته.
__________
[1] غشي المكان: أتاه.
[2] وفي النسخة الباريسية: من أجل.
[3] وفي النسخة الباريسية: غايتها.(1/491)
فتجد كثيرا من السّوقة يسعى في التّقرّب من السّلطان بجدّه ونصحه ويتزلّف إليه بوجوه خدمته ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتّملّق له ولحاشيته وأهل نسبه، حتّى يرسّخ قدمه معهم وينظّمه السّلطان في جملته فيحصل له بذلك حظّ عظيم من السّعادة وينتظم في عدد أهل الدّولة وناشئة الدّولة حينئذ من أبناء قومها الّذين ذلّلوا أضغانهم [1] ومهّدوا أكنافهم مغترّين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار لم تسمح [2] به نفوسهم على السّلطان ويعتدّون بآثاره ويجرون في مضمار الدّولة بسببه فيمقتهم السّلطان لذلك ويباعدهم. ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الّذين لا يعتدّون بقديم ولا يذهبون إلى دالّة ولا ترفّع. إنّما دأبهم الخضوع له والتّملّق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتّسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر [3] بما يحصل لهم من قبل [4] السّلطان والمكانة عنده ويبقى ناشئة الدّولة [5] فيما هم فيه من التّرفّع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلّا بعدا من السّلطان ومقتا وإيثارا لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدّولة. وهذا أمر طبيعيّ في الدّولة ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب
والسّبب لذلك أنّ الكسب كما قدّمناه قيمة الأعمال وأنّها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضروريّة في العمران عامّة البلوى به كانت قيمتها أعظم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: صعابها.
[2] وفي نسخة أخرى: تشمخ.
[3] وفي نسخة أخرى: الخواص.
[4] وفي نسخة أخرى: من ميل.
[5] وفي النسخة الباريسية: ناشئة السلطان.(1/492)
وكانت الحاجة إليها أشدّ. وأهل هذه الصّنائع الدّينيّة لا تضطرّ إليهم عامّة الخلق وإنّما يحتاج إلى ما عندهم الخواصّ ممّن أقبل على دينه. وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار والعموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر. وإنّما يهتمّ بإقامة مراسمهم صاحب الدّولة بما ناله [1] من النّظر في المصالح فيقسم لهم حظّا من الرّزق على نسبة الحاجة إليهم على النّحو الّذي قرّرناه. لا يساويهم بأهل الشّوكة ولا بأهل الصّنائع من حيث الدّين والمراسم الشّرعيّة لكنّه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران فلا يصحّ في قسمهم [2] إلّا القليل. وهم أيضا لشرف بضائعهم أعزّة على الخلق وعند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتّى ينالوا منه حظّا يستدرّون به الرّزق بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشّغل بهذه البضائع [3] الشّريفة المشتملة على إعمال الفكر والبدن [4] . بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدّنيا لشرف بضائعهم فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك عليّ فوقع بيدي أوراق مخرّقة من حسابات [5] الدّواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدّخل والخرج وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمّة والمؤذّنين فوقفته عليه وعلم منه صحّة ما قلته ورجع إليه وقضينا العجب من أسرار الله في خلقه وحكمته في عوالمه والله الخالق القادر لا ربّ سواه.
الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المتضعين وأهل العافية من البدو
وذلك لأنّه أصيل [6] في الطّبيعة وبسيط في منحاه ولذلك لا تجده ينتحله أحد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بما له.
[2] وفي نسخة أخرى: قسمتهم.
[3] وفي نسخة أخرى: الصنائع.
[4] وفي نسخة أخرى: التدبير.
[5] وفي النسخة الباريسية: حسبانات.
[6] وفي النسخة الباريسية: أصل.(1/493)
من أهل الحضر في الغالب ولا من المترفين. ويختصّ منتحله بالمذلّة قال صلّى الله عليه وسلّم وقد رأى السّكّة ببعض دور الأنصار: «ما دخلت هذه دار قوم إلّا دخله الذّلّ» وحمله البخاريّ على الاستكثار منه. وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزّرع أو تجاوز الحدّ الّذي أمر به. والسّبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التّحكّم واليد العالية [1] فيكون الغارم ذليلا بائسا بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم السّاعة حتّى تعود الزّكاة مغرما» إشارة إلى الملك العضوض القاهر للنّاس الّذي معه التّسلّط والجور ونسيان حقوق الله تعالى في المتموّلات واعتبار الحقوق كلّها مغرم للملوك والدّول. والله قادر على ما يشاء. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل التاسع في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها
اعلم أنّ التّجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السّلع بالرّخص وبيعها بالغلاء أيّام كانت السّلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. وذلك القدر النّامي يسمّى ربحا. فالمحاول لذلك الرّبح إمّا أن يختزن السّلعة ويتحيّن بها حوالة الأسواق من الرّخص إلى الغلاء فيعظم ربحه وإمّا بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السّلعة أكثر من بلده الّذي اشتراها فيه فيعظم ربحه. ولذلك قال بعض الشّيوخ من التّجّار لطلب الكشف عن حقيقة التّجارة أنا أعلّمها لك في كلمتين: اشتراء الرّخيص وبيع الغالي. فقد حصلت التّجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الّذي قرّرناه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الغالية.(1/494)
الفصل العاشر في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها
قد قدّمنا [1] أنّ معنى التّجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشّراء إمّا بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الرّبح بالنّسبة إلى أصل المال يسير إلّا أنّ المال إذا كان كثيرا عظم الرّبح لأنّ القليل في الكثير كثير. ثمّ لا بدّ في محاولة هذه التّنمية الّذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع وبيعها، ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. وأهل النّصفة قليل، فلا بدّ من الغشّ والتّطفيف المجحف بالبضائع ومن المطل في الأثمان المجحف بالرّبح.
كتعطيل المحاولة في تلك المدّة وبها نماؤه. ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيّد بالكتاب والشّهادة، وغنى الحكّام في ذلك قليل لأنّ الحكم إنّما هو على الظّاهر، فيعاني التّاجر من ذلك أحوالا صعبة. ولا يكاد يحصل على ذلك التّافه من الرّبح إلّا بعظم العناء والمشقّة، أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئا على الخصومة بصيرا بالحسبان شديد المماحكة مقداما على الحكّام كان ذلك أقرب له إلى النّصفة بجراءته منهم ومماحكته وإلّا فلا بدّ له من جاه يدّرع به، يوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكّام على إنصافه من معامليه [2] فيحصل له بذلك النّصفة في ماله طوعا [3] في الأوّل وكرها في الثّاني وأمّا من كان فاقدا للجراءة والإقدام من نفسه فاقد الجاه من الحكّام فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتّجارة لأنّه يعرّض ماله للضّياع والذّهاب ويصير مأكلة للباعة ولا يكاد ينتصف منهم (لأنّ الغالب في النّاس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قد تقدم لنا.
[2] وفي نسخة أخرى: غرمائه.
[3] وفي نسخة أخرى: واستخلاص ماله منهم طوعا.(1/495)
وخصوصا الرّعاع والباعة شرهون إلى ما في أيدي النّاس سواهم متوثّبون عليه.
ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال النّاس نهبا) [1] «وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 2: 251» .
الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك
وذلك أنّ التّجّار في غالب أحوالهم إنّما يعانون البيع والشّراء ولا بدّ فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المروءة الّتي تتخلّق بها الملوك والأشراف. وأمّا إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطّبقة السّفلى منهم من المماحكة والغشّ والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان ردّا وقبولا فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلّة لما هو معروف. ولذلك تجد أهل الرّئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق. وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم جلاله إلّا أنّه في النّادر بين الوجود والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه وهو ربّ الأوّلين والآخرين.
الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع
التّاجر البصير بالتّجارة لا ينقل من السّلع إلّا ما تعمّ الحاجة إليه من الغنيّ والفقير والسّلطان والسّوقة إذ في ذلك نفاق سلعته. وأمّا إذا اختصّ نقله بما يحتاج
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: «لأن الناس في الغالب متطلعون إلى ما في أيدي الناس. ولولا وازع أحكام ما سلم لأحد شيء مما في يده. خصوصا الباعة وسفلة الناس ورعاعهم» .(1/496)
إليه البعض فقط فقد يتعذّر نفاق سلعته حينئذ بإعواز الشّراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد أرباحه. وكذلك إذا نقل السّلعة المحتاج إليها فإنّما ينقل الوسط من صنفها فإنّ العالي من كلّ صنف من السّلع إنّما يختصّ به أهل الثّروة وحاشية الدّولة وهم الأقلّ. وإنّما يكون النّاس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كلّ صنف فليتحرّ ذلك جهده ففيه نفاق سلعة [1] أو كسادها وكذلك نقل السّلع من البلد البعيد المسافة أو في شدّة الخطر في الطّرقات يكون أكثر فائدة للتّجّار وأعظم أرباحا وأكفل بحوالة الأسواق لأنّ السّلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدّة الغرر في طريقها فيقلّ حاملوها ويعزّ وجودها وإذا قلّت وعزّت غلت أثمانها. وأمّا إذا كان البلد قريب المسافة والطّريق سابل بالأمن فإنّه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر وترخص أثمانها ولهذا تجد التّجّار الّذين يولعون بالدّخول إلى بلاد السّودان أرفه النّاس وأكثرهم أموالا لبعد طريقهم ومشقّته واعتراض المفازة الصّعبة المخطرة بالخوف والعطش.
لا يوجد فيها الماء إلّا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلّاء الرّكبان فلا يرتكب خطر هذا الطّريق وبعده إلّا الأقلّ من النّاس فتجد سلع بلاد السّودان قليلة لدينا فتختصّ بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التّجّار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثّروة من أجل ذلك. وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشّقّة أيضا. وأمّا المتردّدون في أفق واحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة لكثرة السّلع وكثرة ناقليها «وَالله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»
الفصل الثالث عشر في الاحتكار
وممّا اشتهر عند ذوي البصر والتّجربة في الأمصار أنّ احتكار الزّرع لتحيّن أوقات الغلاء مشئوم. وأنّه يعود على فائدته بالتّلف والخسران. وسببه والله أعلم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سلعته.(1/497)
أنّ النّاس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرّون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطرارا فتبقى النّفوس متعلّقة به وفي تعلّق النّفوس بما لها سرّ [1] كبير في وباله على من يأخذه مجّانا ولعلّه الّذي اعتبره الشّارع في أخذ أموال النّاس بالباطل وهذا وإن لم يكن مجّانا فالنّفوس متعلّقة به لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للنّاس إليها وإنّما يبعثهم عليها التّفنّن في الشّهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلّا باختيار وحرص. ولا يبقى لهم تعلّق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النّفسانيّة على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. والله تعالى أعلم.
وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبليّ قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السّلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليليّ وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنيّة لجرايته قال فأطرق مليّا ثمّ قال: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلّها حراما فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه والخمر قلّ أن يبذل فيها أحد ماله إلّا وهو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه ولا متعلّقة به نفسه وهذه ملاحظة غريبة والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكنّ الصّدور.
الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص
وذلك أنّ الكسب والمعاش كما قدّمناه إنّما هو بالصّنائع أو التّجارة.
والتّجارة هي شراء البضائع والسّلع وادّخارها. يتحيّن بها حوالة الأسواق بالزّيادة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: شر.(1/498)
في أثمانها ويسمّى ربحا. ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتّجارة دائما فإذا استديم الرّخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متموّل على الجملة ولم يحصل للتّاجر حوالة الأسواق فسد الرّبح والنماء بطول تلك المدّة وكسدت سوق ذلك الصّنف ولم يحصل التّاجر إلّا على العناء فقعد التّجّار عن السّعي فيها وفسدت رءوس أموالهم. واعتبر ذلك أوّلا بالزّرع فإنّه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين [1] بسائر أطواره من الفلح والزّراعة لقلّة الرّبح فيه وندارته [2] أو فقده. فيفقدون النّماء في أموالهم أو يجدونه على قلّة ويعودون بالإنفاق على رءوس أموالهم وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة.
ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضا بالطّحن والخبز وسائر ما يتعلّق بالزّراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولا. وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السّلطان على [3] أهل الفلح زرعا فإنّها تقلّ جبايتهم من ذلك ويعجزون عن إقامة الجنديّة الّتي (هي بسببها ومطالبون بها ومنقطعون لها) [4] فتفسد أحوالهم وكذا إذا استديم الرّخص في السّكّر أو العسل فسد جميع ما يتعلّق به وقعد المحترفون عن التّجارة فيه وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرّخص أيضا فإذا الرّخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصّنف الرّخيص وكذا الغلاء المفرط أيضا. وإنّما معاش النّاس وكسبهم في التّوسّط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقرّرة بين أهل العمران. وإنّما يحمد الرّخص في الزّرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه واضطرار النّاس إلى الأقوات من بين الغنيّ والفقير. والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعمّ الرّفق بذلك ويرجّح جانب القوت على جانب التّجارة في هذا الصّنف الخاصّ «وَالله الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» والله سبحانه وتعالى ربّ العرش العظيم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فإذا استديم رخصه كيف تفسر أحوال المحترفين به.
[2] وفي نسخة أخرى: ونزارته.
[3] وفي نسخة أخرى: عند.
[4] وفي نسخة أخرى: هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها ويقطع عنهم الرزق.(1/499)
الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة
قد قدّمنا في الفصل قبله أنّ التّاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشّراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بدّ في ذلك من المكايسة والمماحكة والتّحذلق وممارسة الخصومات واللّجاج وهي عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف نقص [1] من الذّكاء والمروءة وتجرّح [2] فيها لأنّ الأفعال لا بدّ من عود آثارها على النّفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذّكاء وأفعال الشّرّ والسّفسفة تعود بضدّ ذلك فتتمكّن وترسخ إن سبقت وتكرّرت وتنقص خلال الخير إن تأخّرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النّفس شأن الملكات النّاشئة عن الأفعال. وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التّجّار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطّور محالفا لأشرار الباعة أهل الغشّ والخلابة والخديعة والفجور في الأثمان [3] إقرارا وإنكارا، كانت رداءة تلك الخلق عنه أشدّ وغلبت عليه السّفسفة وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة. وإلّا فلا بدّ له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته، وفقدان ذلك منهم في الجملة. ووجود الصّنف الثّانيّ منهم الّذي قدّمناه في الفصل قبله أنّهم يدّرعون بالجاه ويعوّض لهم من مباشرة ذلك، فهم [4] نادر وأقلّ من النّادر.
وذلك أن يكون المال قد يوجد [5] عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتّصال بأهل الدّولة وتكسبه ظهورا وشهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه ويدفعه إلى من يقوم له به من وكلائه وحشمه. ويسهّل له الحكّام النّصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من برّه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تفضّ.
[2] وفي نسخة أخرى: تخدج.
[3] وفي نسخة أخرى: الإيمان.
[4] وفي نسخة أخرى: فيهم.
[5] وفي نسخة أخرى: توفر.(1/500)
وإتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مرّ.
فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن تلك المحاجاة [1] إلّا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنّهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ورفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك إلّا أنّه قليل ولا يكاد يظهر أثره «وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 37: 96» .
الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم [2]
اعلم أنّ الصّناعة هي ملكة في أمر عمليّ فكريّ وبكونه عمليّا هو جسمانيّ محسوس. والأحوال الجسمانيّة المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل، لأنّ المباشرة في الأحوال الجسمانيّة المحسوسة أتمّ فائدة والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرّره مرّة بعد أخرى حتّى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أوعب وأتمّ من نقل الخبر والعلم.
فالملكة الحاصلة عن الخبر. وعلى قدر جودة التّعليم وملكة المعلّم يكون حذق المتعلّم في الصّناعة وحصول ملكته. ثمّ إنّ الصّنائع منها البسيط ومنها المركّب.
والبسيط هو الّذي يختصّ بالضّروريّات والمركّب هو الّذي يكون للكماليّات.
والمتقدّم منها في التّعليم هو البسيط لبساطته أوّلا، ولأنّه مختصّ بالضّروريّ الّذي تتوفّر الدّواعي على نقله فيكون سابقا في التّعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصا. ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركّباتها من القوّة إلى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التّدريج حتّى تكمل. ولا يحصل ذلك دفعة وإنّما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياء من القوّة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيّما في الأمور الصّناعيّة فلا بدّ له إذن من زمان. ولهذا تجد الصّنائع في الأمصار الصّغيرة ناقصة ولا يوجد منها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المحرجات.
[2] وفي النسخة الباريسية: المعلم.(1/501)
إلّا البسيط فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور التّرف فيها إلى استعمال الصّنائع خرجت من القوّة إلى الفعل. وتنقسم الصّنائع أيضا إلى ما يختصّ بأمر المعاش ضروريّا كان أو غير ضروريّ وإلى ما يختصّ بالأفكار الّتي هي خاصيّة الإنسان من العلوم والصّنائع والسّياسة. ومن الأوّل الحياكة والجزارة والنّجارة والحدادة وأمثالها. ومن الثّاني الوراقة وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتّجليد والغناء والشّعر وتعليم العلم وأمثال ذلك. ومن الثّالث الجنديّة وأمثالها. والله أعلم.
الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته
والسّبب في ذلك أنّ النّاس ما لم يستوف العمران الحضريّ وتتمدّن المدينة إنّما همّهم في الضّروريّ من المعاش وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدّنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضّروريّ وزادت عليه صرف الزّائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش. ثمّ إنّ الصّنائع والعلوم إنّما هي للإنسان من حيث فكره الّذي يتميّز به عن الحيوانات والقوت له من حيث الحيوانيّة والغذائيّة فهو مقدّم لضروريّته على العلوم والصّنائع وهي متأخّرة عن الضّروريّ.
وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصّنائع للتّأنّق فيها حينئذ واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفّر دواعي التّرف والثّروة. وأمّا العمران البدويّ أو القليل فلا يحتاج من الصّنائع إلّا البسيط خاصّة المستعمل في الضّروريّات من نجّار أو حدّاد أو خيّاط أو حائك أو جزّار. وإذا وجدت هذه بعد فلا توجد فيه كاملة ولا مستجادة وإنّما يوجد منها بمقدار الضّرورة إذ هي كلّها وسائل إلى غيرها وليست مقصودة لذاتها. وإذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات كان من جملتها التّأنّق في الصّنائع واستجادتها فكملت بجميع متمّماتها وتزايدت صنائع(1/502)
أخرى معها ممّا تدعو إليه عوائد التّرف وأحواله من جزّار ودبّاغ وخرّاز وصائغ وأمثال ذلك. وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات والتّأنّق فيها في الغاية وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها.
بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه التّرف في المدينة مثل الدّهّان والصّفّار والحمّاميّ والطّبّاخ والشّمّاع [1] والهرّاس ومعلّم الغناء والرّقص وقرع الطّبول على التّوقيع. ومثل الورّاقين الّذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها فإنّ هذه الصّناعة إنّما يدعو إليها التّرف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكريّة وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحدّ إذا كان العمران خارجا عن الحدّ كما بلغنا عن أهل مصر أنّ فيهم من يعلّم الطّيور العجم والحمر الإنسيّة ويتخيّل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرّقص والمشي على الخيوط في الهواء ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلك من الصّنائع الّتي لا توجد عندنا بالمغرب. لأنّ عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. والله الحكيم العليم.
الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمده
والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ هذه كلّها عوائد للعمران والأوان [2] . والعوائد إنّما ترسخ بكثرة التّكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال.
وإذا استحكمت الصّبغة عسر نزعها. ولهذا نجد في الأمصار الّتي كانت استبحرت في الحضارة لمّا تراجع عمرانها وتناقص بقيت فيها آثار من هذه الصّنائع ليست في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: السفاح.
[2] وفي نسخة أخرى: الوأم أي البيت الدافئ.(1/503)
غيرها من الأمصار المستحدثة العمران ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة وما ذاك إلّا لأنّ أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكرّرها وهذه لم تبلغ الغاية بعد. وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنّا نجد فيها رسوم الصّنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطّبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرّقص وتنضيد الفرش في القصور، وحسن التّرتيب والأوضاع في البناء وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وإقامة الولائم والأعراس وسائر الصّنائع الّتي يدعو إليها التّرف وعوائده. فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها. ونجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصّة موفورة من ذلك وحظّ متميّز بين جميع الأمصار. وإن كان عمرانها قد تناقص. والكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. وما ذاك إلّا لما قدّمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدّولة الأمويّة وما قبلها من دولة القوط وما بعدها من دولة الطّوائف وهلمّ جرّا. فبلغت الحضارة فيها مبلغا لم تبلغه في قطر إلّا ما ينقل عن العراق والشّام ومصر أيضا لطول آماد الدّول فيها فاستحكمت فيها الصّنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتّنميق. وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلّيّة حال الصّبغ إذا رسخ في الثّوب. وكذا أيضا حال تونس فيما حصل فيها بالحضارة من الدّول الصّنهاجيّة والموحّدين من بعدهم وما استكمل لها في ذلك من الصّنائع في سائر الأحوال وإن كان ذلك دون الأندلس. إلّا أنّه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما وتردّد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كلّ سنة وربّما سكن أهلها هناك عصورا فينقلون من عوائد ترفهم ومحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه ومن أحوال الأندلس لما أنّ أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السّابعة. ورسخ فيها من ذلك أحوال وإن(1/504)
كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد. إلّا أنّ الصّبغة إذا استحكمت فقليلا ما تحول إلّا بزوال محلّها. وكذا نجد بالقيروان ومرّاكش وقلعة ابن حمّاد أثرا باقيا من ذلك وإن كانت هذه كلّها اليوم خرابا أو في حكم الخراب. ولا يتفطّن لها إلّا البصير من النّاس فيجد من هذه الصّنائع آثارا تدلّه على ما كان بها كأثر الخطّ الممحوّ في الكتاب «وَالله الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .
الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها
والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجّانا لأنّه كسبه ومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء ممّا سواه فلا يصرفه إلّا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنّفع. وإن كانت الصّناعة مطلوبة وتوجّه إليها النّفاق كانت حينئذ الصّناعة بمثابة السّلعة الّتي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد النّاس في المدينة لتعلّم تلك الصّناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصّناعة مطلوبة لم تنفق سوقها ولا يوجّه قصد إلى تعلّمها، فاختصّت بالتّرك وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عن عليّ رضي الله عنه: «قيمة كلّ امرئ ما يحسن» بمعنى أنّ صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الّذي هو معاشه. وأيضا فهنا سرّ آخر وهو أنّ الصّنائع وإجادتها إنّما تطلبها الدّولة فهي الّتي تنفق سوقها وتوجّه الطّالبات إليها. وما لم تطلبه الدّولة وإنّما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأنّ الدّولة هي السّوق الأعظم وفيها نفاق كلّ شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق منها كان أكثريّا ضرورة. والسّوقة وإن طلبوا الصّناعة فليس طلبهم بعامّ ولا سوقهم بنافقة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء
.(1/505)
الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقضت منها الصنائع
وذلك لما بيّنّا أنّ الصّنائع إنّما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها. وإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلّة ساكنه تناقص فيه التّرف ورجعوا إلى الاقتصار على الضّروريّ من أحوالهم فتقلّ الصّنائع الّتي كانت من توابع التّرف لأنّ صاحبها حينئذ لا يصحّ له بها معاشه فيفرّ إلى غيرها، أو يموت ولا يكون خلف منه، فيذهب رسم تلك الصّنائع جملة، كما يذهب النّقّاشون والصّوّاغ [1] والكتّاب والنّسّاخ وأمثالهم من الصّنائع [2] لحاجات التّرف.
ولا تزال الصّناعات في التّناقص إلى أن تضمحلّ. والله الخلّاق العليم وسبحانه وتعالى.
الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع
والسّبب في ذلك أنّهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضريّ، وما يدعو إليه من الصّنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأمم النّصرانيّة عدوة البحر الرّوميّ أقوم النّاس عليها، لأنّهم أعرق في العمران الحضريّ وأبعد عن البدو وعمرانه. حتّى إنّ الإبل الّتي أعانت العرب على التّوحّش في القفر، والإعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، ومفقودة مراعيها، والرّمال المهيّئة لنتاجها.
ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصّنائع بالجملة، حتّى تجلب إليه من قطر آخر. وانظر بلاد العجم من الصّين والهند وأرض التّرك وأمم
__________
[1] وفي نسخة الصواغون.
[2] وفي نسخة أخرى: الصنّاع.(1/506)
النّصرانيّة، كيف استكثرت فيهم الصّنائع واستجلبها الأمم من عندهم. وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. ويشهد لك بذلك قلّة الأمصار بقطرهم كما قدّمناه. فالصّنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة الأماكن [1] من صناعة الصّوف من نسجه، والجلد في خرزه ودبغه. فإنّهم لمّا استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم البلوى بها وكون هذين أغلب السّلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. وأمّا المشرق فقد رسخت الصّنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس والنّبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والرّوم أحقابا متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة، ومن جملتها الصّنائع كما قدّمناه، فلم يمح رسمها. وأمّا اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العرب إلّا أنّهم تداولوا ملكه آلافا من السّنين في أمم كثيرين [2] منهم. واختطّوا أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية من الحضارة والتّرف مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم. والتّبابعة والأذواء فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفّرت الصّنائع ورسخت، فلم تبل ببلى الدّولة كما قدّمناه.
فبقيت مستجدّة حتّى الآن. واختصّت بذلك للوطن، كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثّياب والحرير فيها والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الفصل الثاني والعشرون فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى
ومثال ذلك الخيّاط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكة النّجارة أو البناء إلّا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسّبب في ذلك أنّ الملكات صفات للنّفس وألوان فلا تزدحم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: إلّا ما كان.
[2] وفي نسخة أخرى: في أمم كثيرة.(1/507)
دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادا لحصولها. فإذا تلوّنت النّفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللّون الحاصل من هذه الملكة فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف.
وهذا بيّن يشهد له الوجود. فقلّ أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثمّ يحكم من بعدها أخرى ويكون فيهما معا على رتبة واحدة من الإجادة. حتّى أنّ أهل العلم الّذين ملكتهم فكريّة فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية فقلّ أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكون مقصّرا فيه إن طلبه إلّا في الأقلّ النّادر من الأحوال. ومبنيّ سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النّفس. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع
اعلم أنّ الصّنائع في النّوع الإنسانيّ كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذّ عن الحصر ولا يأخذها العدّ. إلّا أنّ منها ما هو ضروريّ في العمران أو شريف بالموضع [1] فنخصّها بالذّكر ونترك ما سواها. فأمّا الضّروريّ فالفلاحة والبناء والخياطة والنّجارة والحياكة، وأمّا الشّريفة بالموضع [1] فكالتّوليد والكتابة والوراقة والغناء والطّبّ. فأمّا التّوليد فإنّها ضروريّة في العمران وعامّة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود وتتمّ غالبا.
وموضوعها مع ذلك المولودون وأمّهاتهم. وأمّا الطّبّ فهو حفظ الصّحّة للإنسان ودفع المرض عنه ويتفرّع عن علم الطّبيعة، وموضوعة مع ذلك بدن الإنسان.
وأمّا الكتابة وما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته ومقيّدة لها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الموضوع.(1/508)
عن النّسيان ومبلغة ضمائر النّفس إلى البعيد الغائب ومخلّدة نتائج الأفكار والعلوم في الصّحف ورافعة رتب الوجود للمعاني. وأمّا الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع. وكلّ هذه الصّنائع الثّلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها. وما سوى ذلك من الصّنائع فتابعة وممتهنة في الغالب. وقد يختلف ذلك باختلاف الأغراض والدّواعي، والله أعلم بالصّواب.
الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة
هذه الصّناعة ثمرتها اتّخاذ الأقوات والحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها ازدراعها وعلاج نباتها وتعهّده بالسّقي والتّنمية إلى بلوغ غايته ثمّ حصاد سنبله واستخراج حبّه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك، وتحصيل أسبابه ودواعيه.
وهي أقدم الصّنائع لما أنّها محصّلة للقوت المكمّل لحياة الإنسان غالبا إذ يمكن وجوده من دون القوت. ولهذا اختصّت هذه الصّناعة بالبدو. إذ قدّمنا أنّه أقدم من الحضر وسابق عليه فكانت هذه الصّناعة لذلك بدويّة لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها لأنّ أحوالهم كلّها ثانية على البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعها وتابعة لها. والله سبحانه وتعالى مقيم العباد فيما أراد.
الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء
هذه الصّناعة أوّل صنائع العمران الحضريّ وأقدمها وهي معرفة العمل في اتّخاذ البيوت والمنازل للكنّ [1] والمأوى للأبدان في المدن. وذلك أنّ الإنسان لما
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: للسكن.(1/509)
جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله، لا بدّ أن يفكّر فيما يدفع عنه الأذى من الحرّ والبرد كاتّخاذ البيوت المكتنفة بالسّقف والحيطان من سائر جهاتها [1] والبشر مختلف في هذه الجبلّة الفكريّة فمنهم المعتدلون فيها فيتّخذون ذلك باعتدال أهالي [2] الثّاني والثّالث والرّابع والخامس والسّادس وأمّا أهل البدو فيبعدون عن اتّخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصّنائع البشريّة فيبادرون للغيران والكهوف المعدّة من غير علاج [3] . ثمّ المعتدلون والمتّخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون في البسيط الواحد بحيث يتناكرون ولا يتعارفون فيخشون طرق [4] بعضهم بعضا بياتا فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم [5] ويصير جميعا مدينة واحدة ومصرا واحدا ويحوطهم الحكم من داخل يدفع [6] بعضهم عن بعض وقد يحتاجون إلى الانتصاف [7] ويتّخذون المعاقل والحصون لهم ولمن تحت أيديهم وهؤلاء مثل الملوك ومن في معناهم من الأمراء وكبار القبائل. ثمّ تختلف أحوال البناء في المدن كلّ مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه ويناسب مزاج هوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر. وكذا حال أهل المدينة الواحدة فمنهم من يتّخذ القصور والمصانع العظيمة السّاحة المشتملة على عدّة الدّور والبيوت والغرف الكبيرة لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه ويؤسّس جدرانها بالحجارة ويلحم بينها بالكلس ويعالي عليها بالأصبغة والجصّ ويبالغ في كلّ ذلك بالتّنجيد والتّنميق إظهارا للبسطة بالعناية في شأن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: «لا بد له أن يفكر في موانع أذية الحر والبرد عنه باتخاذ البيوت ذوات الحيطان والسقف الماثلة دونه من جهاتها» .
[2] وفي نسخة أخرى: «والبشر مختلفون في هذه الجبلّة الفكرية التي هي معنى الإنسانية. فالمقيّدون فيها. ولو على التفاوت. يتخذون ذلك باعتدال كأهل الإقليم ... » .
[3] وفي النسخة الباريسية: «وأما أهل الأول والسابع فيبعدون عن اتخاذ ذلك لانحرافهم وقصور أفكارهم عن كيفية العمل في الصنائع الإنسانية. فيأوون إلى الغيران والكهوف. كما يتناولون الأغذية من غير علاج ولا نضج» .
[4] وفي نسخة أخرى: ويخشى من طروق.
[5] وفي نسخة أخرى: بإدارة سياج الأسوار التي تحيطهم.
[6] وفي نسخة أخرى: يحوطهم فيها الحكام بدفاع ...
[7] وفي نسخة أخرى: إلى الاعتصام من العدو ...(1/510)
المأوى. ويهيّئ مع ذلك الأسراب والمطامير للاختزان لأقواته والإسطبلات لربط مقرّباته إذا كان من أهل الجنود وكثرة التّابع والحاشية [1] كالأمراء ومن في معناهم ومنهم من يبني الدّويرة والبيوت [2] لنفسه وسكنه وولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه واقتصاره على الكنّ [3] الطّبيعيّ للبشر وبين ذلك مراتب غير منحصرة وقد يحتاج لهذه الصّناعة أيضا عند تأسيس الملوك وأهل الدّول المدن العظيمة والهياكل المرتفعة ويبالغون في إتقان الأوضاع وعلوّ الأجرام مع الإحكام بتبلغ الصّناعة مبالغها. وهذه الصّناعة هي الّتي تحصّل الدّواعي لذلك كلّه وأكثر ما تكون هذه الصّناعة في الأقاليم المعتدلة من الرّابع وما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها. وإنّما يتّخذون البيوت حظائر من القصب والطّين أو يأوون إلى الكهوف والغيران. وأهل هذه الصّناعة القائمون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر ومنهم القاصر. ثمّ هي تتنوّع أنواعا كثيرة فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقا بعضها إلى بعض بالطّين والكلس الّذي يعقد معها ويلتحم كأنّها جسم واحد ومنها البناء بالتّراب خاصّة تقام منه حيطان يتّخذ لها لوحان من الخشب مقدّران طولا وعرضا باختلاف العادات في التّقدير. وأوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس وقد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر [4] . ويسدّ الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثمّ يوضع فيه التّراب مخلّطا [5] بالكلس ويركز بالمراكز المعدّة حتّى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس ثمّ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: والغاشية.
[2] وفي النسخة الباريسية: والبويت.
[3] الكنّ: وقاء كل شيء وستره.
[4] وفي نسخة أخرى: الجدل.
[5] وفي نسخة أخرى: مختلطا.(1/511)
يزاد التّراب ثانيا وثالثا إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللّوحين وقد تداخلت أجزاء الكلس والتّراب وصارت جسما واحدا. ثمّ يعاد نصب اللّوحين على صورة [1] ويركز كذلك إلى أن يتمّ وينظّم الألواح كلّها سطرا من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كلّه ملتحما كأنّه قطعة واحدة ويسمّى الطّابية وصانعه الطّوّاب. ومن صنائع البناء أيضا أن تجلّل الحيطان بالكلس بعد أن يحلّ بالماء ويخمّر أسبوعا أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النّاريّة المفسدة للإلحام. فإذا تمّ له ما يرضاه من ذلك علاه [2] من فوق الحائط وذلك إلى أن يلتحم. ومن صنائع البناء عمل السّقف بأن يمدّ الخشب المحكمة النّجارة أو السّاذجة على حائطي البيت ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدّسائر ويصبّ عليها التّراب والكلس ويبسط [3] بالمراكز حتّى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط. ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التّنميق والتّزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسّمة من الجصّ يخمّر بالماء ثمّ يرجع جسدا [4] وفيه بقيّة البلل، فيشكّل على التّناسب تخريما بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورواء. وربّما عولي على الحيطان أيضا بقطع الرّخام أو الآجرّ أو الخزف أو بالصّدف أو السّبج يفصّل أجزاء متجانسة أو مختلفة وتوضع في الكلس على نسب وأوضاع مقدّرة عندهم يبدو به الحائط للعيان، كأنّه قطع الرّياض المنمنمة. إلى غير ذلك من بناء الجباب والصّهاريج لسفح [5] الماء بعد أن تعدّ في البيوت قصاع الرّخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصّهريج يجلب إليه من خارج القنوات المفضية إلى البيوت وأمثال ذلك من أنواع البناء. وتختلف الصّنّاع في جميع ذلك باختلاف الحذق والبصر ويعظم عمران
__________
[1] وفي نسخة أخرى: على الصورة الأولى.
[2] وفي نسخة أخرى: عالاه.
[3] وفي نسخة أخرى: ويبلط.
[4] وفي النسخة الباريسية: ثم يرفع مجسدا.
[5] وفي نسخة أخرى: لسبح.(1/512)
المدينة ويتّسع فيكثرون. وربّما يرجع الحكّام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. وذلك أنّ النّاس في المدن لكثرة [1] الازدحام والعمران يتشاحّون حتّى في الفضاء والهواء الأعلى والأسفل ومن الانتفاع بظاهر البناء ممّا يتوقّع معه حصول الضّرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلك إلّا ما كان له فيه حقّ. ويختلفون أيضا في استحقاق الطّرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات وربّما يدّعي بعضهم حقّ بعض في حائطه أو علوّه أو قناته لتضايق الجوار أو يدّعي بعضهم على جاره اختلال [2] حائطه خشية سقوطه ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدّار ولا إهمال لمنفعتها. وأمثال ذلك. ويخفى جميع ذلك إلّا على أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله المستدلّين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضرّ بما مرّت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك. فلهم بهذا كلّه البصر والخبرة الّتي ليست لغيرهم. وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصور في الأجيال باعتبار الدّول وقوّتها. فإنّا قدّمنا أنّ الصّنائع وكمالها، إنّما هو بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطّالب لها. فلذلك عند ما تكون الدّولة بدويّة في أوّل أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشّام. فبعث إلى ملك الرّوم بالقسطنطينيّة في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصّل [3] له غرضه من تلك المساجد وقد يعرف صاحب هذه الصّناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الكثيرة.
[2] وفي نسخة أخرى: اعتلال.
[3] وفي النسخة الباريسية: بمن كمل له غرضه.(1/513)
وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. وكذلك في جرّ الأثقال بالهندام فإنّ الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدّر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيّل لذلك بمضاعفة قوّة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدّرة على نسب هندسيّة تصيّر الثّقيل عند معاناة الرّفع خفيفا فيتمّ المراد من ذلك بغير كلفة وهذا إنّما يتمّ بأصول هندسيّة معروفة متداولة بين البشر وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد الّتي يحسب أنّها من بناء الجاهليّة.
وأنّ أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسمانيّ وليس كذلك وإنّما تمّ لهم ذلك بالحيل الهندسيّة كما ذكرناه. فتفهّم ذلك. والله يخلق ما يشاء سبحانه.
الفصل السادس والعشرون في صناعة النجارة
هذه الصّناعة من ضروريّات العمران ومادّتها الخشب وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى جعل للآدميّ في كلّ مكوّن من المكوّنات منافع تكمل بها ضروراته وكان منها الشّجر فإنّ له فيه من المنافع ما لا ينحصر ممّا هو معروف لكلّ أحد. ومن منافعها اتّخاذها خشبا إذا يبست وأوّل منافعه أن يكون وقودا للنّيران في معاشهم وعصيّا للاتكاء والذّود وغيرهما من ضروريّاتهم ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثمّ بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو والحضر فأمّا أهل البدو فيتّخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرّماح والقسيّ والسّهام لسلاحهم وأمّا أهل الحضر فالسّقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسيّ لجلوسهم. وكلّ واحدة من هذه فالخشبة مادّة لها ولا تصير إلى الصّورة الخاصّة بها إلّا بالصّناعة.
والصّناعة المتكفّلة بذلك المحصّلة لكلّ واحد من صورها هي النّجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أوّلا: إمّا بخشب أصغر منه أو ألواح.(1/514)
ثمّ تركّب تلك الفضائل بحسب الصّور المطلوبة. وهو في كلّ ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلك الشّكل المخصوص. والقائم على هذه الصّناعة هو النّجّار وهو ضروريّ في العمران. ثمّ إذا عظمت الحضارة وجاء التّرف وتأنّق النّاس فيما يتّخذونه من كلّ صنف من سقف أو باب أو كرسيّ أو ماعون، حدث التّأنّق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصّناعة كماليّة ليست من الضّروريّ في شيء مثل التّخطيط في الأبواب والكراسيّ ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها ثمّ تؤلّف على نسب مقدّرة وتلحم بالدّسائر فتبدو لرأي [1] العين ملتحمة وقد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كلّ شيء يتّخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتّخذة من الخشب من أيّ نوع كان. وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصّناعة في إنشاء المراكب البحريّة ذات الألواح والدّسر وهي أجرام هندسيّة صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله ليكون ذلك الشّكل أعون لها في مصادمة الماء وجعل لها عوض الحركة الحيوانيّة الّتي للسّمك تحريك الرّياح. وربّما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل. وهذه الصّناعة من أصلها محتاجة إلى أصل [2] كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأنّ إخراج الصّور من القوّة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التّناسب في المقادير إمّا عموما أو خصوصا وتناسب المقادير لا بدّ فيه من الرّجوع إلى المهندس. ولهذا كانت أئمّة الهندسة اليونانيّون كلّهم أئمّة في هذه الصّناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجّارا وبها كان يعرف. وكذلك أبلّونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش وغيرهم. وفيما يقال: أنّ معلّم هذه الصّناعة في الخليقة هو نوح عليه السّلام وبها أنشأ سفينة النّجاة الّتي كانت بها معجزته عند الطّوفان. وهذا الخبر وإن كان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بالدساتر فتبدو لمرأى.
[2] وفي نسخة أخرى: جزء.(1/515)
ممكنا أعني كونه نجّارا إلّا أنّ كونه أوّل من علّمها أو تعلّمها لا يقوم دليل من النّقل عليه لبعد الآماد. وإنّما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النّجارة لأنّه لم يصحّ حكاية عنها قبل خبر نوح عليه السّلام فجعل كأنّه أوّل من تعلّمها. فتفهّم أسرار الصّنائع في الخليقة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة والخياطة
اعلم أنّ المعتدلين من البشر في معنى الإنسانيّة لا بدّ لهم من الفكر في الدّفء كالفكر في الكنّ. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحرّ والبرد. ولا بدّ لذلك من إلحام الغزل حتّى يصير ثوبا واحدا، وهو النّسج والحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، وإن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعا يقدّرون منها ثوبا على البدن بشكله وتعدّد أعضائه واختلاف نواحيها. ثمّ يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتّى تصير ثوبا واحدا على البدن ويلبسونها.
والصّناعة المحصّلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.
هاتان الصّناعتان ضروريّتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرّفه [1] فالأولى لنسج الغزل من الصّوف والكتّان والقطن إسداء في الطّول وإلحاما في العرض وإحكاما لذلك النّسج بالالتحام الشّديد، فيتمّ منها قطع مقدّرة: فمنها الأكسية من الصّوف للاشتمال، ومنها الثّياب من القطن والكتّان للباس.
والصّناعة الثّانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد، تفصّل بالمقراض قطعا مناسبة للأعضاء البدنيّة ثمّ تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلا أو تنبيتا أو تفسّحا [2] على حسب نوع الصّناعة. وهذه الصّناعة مختصّة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من الدفء.
[2] وفي نسخة أخرى: أو تفتيحا.(1/516)
بالعمران الحضريّ لما أنّ أهل البدو يستغنون عنها وإنّما يشتملون الأثواب اشتمالا. وإنّما تفصيل الثّياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهّم هذه في سرّ تحريم المخيط في الحجّ لما أنّ مشروعيّة الحجّ مشتملة على نبذ العلائق الدّنيويّة كلّها والرّجوع إلى الله تعالى «كما خلقنا أوّل مرّة، حتّى لا يعلّق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيبا ولا نساء ولا مخيطا ولا خفّا، ولا يتعرّض لصيد ولا لشيء من عوائده الّتي تلوّنت [1] بها نفسه وخلقه، مع أنّه يفقدها بالموت ضرورة. وإنّما يجيء كأنّه وارد إلى المحشر ضارعا بقلبه مخلصا لربّه. وكان جزاؤه إن تمّ له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. سبحانك ما أرفقك بعبادك وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك. وهاتان الصّنعتان قديمتان في الخليقة لما أنّ الدّفء ضروريّ للبشر في العمران المعتدل. وأمّا المنحرف إلى الحرّ فلا يحتاج أهله إلى دفء.
ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأوّل من السّودان أنّهم عراة في الغالب. ولقدم هذه الصّنائع ينسبها العامّة إلى إدريس عليه السّلام وهو أقدم الأنبياء. وربّما ينسبونها إلى هرمس وقد يقال إنّ هرمس هو إدريس. والله سبحانه وتعالى هو الخلّاق العليم.
الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد
وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدميّ من بطن أمّه من الرّفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثمّ ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. وهي مختصّة بالنّساء في غالب الأمر لما أنّهنّ الظّاهرات بعضهنّ على عورات بعض. وتسمّى القائمة على ذلك منهنّ القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تكونت.(1/517)
والقبول كأنّ النّفساء تعطيها الجنين وكأنّها تقبله. وذلك أنّ الجنين إذا استكمل خلقه في الرّحم وأطواره وبلغ إلى غايته والمدّة الّتي قدّرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النّزوع لذلك ويضيق عليه المنفذ فيعسر. وربّما مزّق بعض جوانب الفرج بالضّغط وربّما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرّحم. وهذه كلّها آلام يشتدّ لها الوجع وهو معنى الطّلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشّيء بغمز الظّهر والوركين وما يحاذي الرّحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدّافعة في إخراج الجنين وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسرة. ثمّ إن أخرج الجنين بقيت بينه وبين الرّحم الوصلة حيث كان يتغذّى منها متّصلة من سرّته بمعاه. وتلك الوصلة عضو فضليّ لتغذية المولود خاصّة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدّى مكان الفضلة ولا تضرّ بمعاه ولا برحم أمّه ثمّ تدمل مكان الجراحة منه بالكيّ أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثمّ إنّ الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضّيق وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء فربّما تتغيّر أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التّكوين ورطوبة الموادّ فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح حتّى يرجع كلّ عضو إلى شكله الطّبيعيّ ووضعه المقدّر له ويرتدّ خلقه سويّا. ثمّ بعد ذلك تراجع النّفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين لأنّها ربّما تتأخّر عن خروجه قليلا. ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطّبيعيّة قبل استكمال خروج الأغشية وهي فضلات فتتعفّن ويسري عفنها إلى الرّحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدّفع إلى أن تخرج تلك الأغشية الّتي كانت قد تأخّرت ثمّ ترجع إلى المولود فتمرّخ [1] أعضاءه بالأدهان والذّرورات [2] القابضة لتشدّه وتجفّف رطوبات الرّحم وتحنّكه لرفع لهاته وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه وتغرغره باللّعوق لدفع السّدد من معاه وتجويفها عن
__________
[1] تمرّخ: تدهن (قاموس) .
[2] الذرورات: ج اذرة وهو ما يذر في العين أو الجرح من دواء.(1/518)
الالتصاق. ثمّ تداوي النّفساء بعد ذلك من الوهن الّذي أصابها بالطّلق وما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكن عضوا طبيعيّا فحالة التّكوين في الرّحم صيّرته بالالتحام كالعضو المتّصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التّمزيق عند الضّغط في الخروج. وهذه كلّها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض للمولود مدّة الرّضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهنّ أبصر بها من الطّبيب الماهر. وما ذاك إلّا لأنّ بدن الإنسان في تلك الحالة إنّما هو بدن إنسانيّ بالقوّة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدنا إنسانيّا بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطّبيب أشدّ. فهذه الصّناعة كما تراه ضروريّة في العمران للنّوع الإنسانيّ، لا يتمّ كون أشخاصه في الغالب دونها. وقد يعرض لبعض أشخاص النّوع الاستغناء عن هذه الصّناعة، إمّا بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقا للعادة كما في حقّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أو بإلهام وهداية يلهم لها المولود ويفطر عليها فيتمّ وجودهم من دون هذه الصّناعة. فأمّا شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيرا. ومنه ما روي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولد مسرورا مختونا واضعا يديه على الأرض شاخصا ببصره إلى السّماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك. وأمّا شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختصّ بغرائب الإلهامات كالنّحل وغيرها فما ظنّك بالإنسان المفضّل عليها. وخصوصا بمن اختصّ بكرامة الله. ثمّ الإلهام العامّ للمولودين في الإقبال على الثّدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العامّ لهم. فشأن العناية الإلهيّة أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي الفارابيّ وحكماء الأندلس فيما احتجّوا به لعدم انقراض الأنواع واستحالة انقطاع المكوّنات. وخصوصا في النّوع الإنسانيّ، وقالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقّفه على وجود هذه الصّناعة الّتي لا يتمّ كون الإنسان إلّا بها. إذ لو قدّرنا مولودا دون هذه الصّناعة وكفالتها إلى حين(1/519)
الفصال [1] لم يتمّ بقاؤه أصلا. ووجود الصّنائع دون الفكر ممتنع لأنّها ثمرته وتابعة له. وتكلّف ابن سينا في الرّدّ على هذا الرّأي لمخالفته إيّاه وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع وخراب عالم التّكوين ثمّ عوده ثانيا لاقتضاءات فلكيّة وأوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتمّ كونه إنسانا ثمّ يقيّض له حيوان يخلق فيه إلهاما لتربيته والحنوّ عليه إلى أن يتمّ وجوده وفصاله. وأطنب في بيان ذلك في الرّسالة الّتي سمّاها رسالة حيّ بن يقظان. وهذا الاستدلال غير صحيح وإن كنّا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدلّ به. فإنّ دليله مبنيّ على إسناد الأفعال إلى العلّة الموجبة. ودليل القول بالفاعل المختار يردّ عليه ولا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة ولا حاجة إلى هذا التّكلّف. ثمّ لو سلّمناه جدلا فغاية ما يبنى عليه اطّراد وجود هذا الشّخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. وما الضّرورة الدّاعية لذلك؟ وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قرّرناه أوّلا. وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قرّرته لك والله تعالى أعلم.
الفصل التاسع والعشرون في صناعة الطب وانها محتاج إليها في الحواضر والأمصار دون البادية
هذه الصّناعة ضروريّة في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها فإنّ ثمرتها حفظ الصّحّة للأصحّاء ودفع المرض عن المرضى بالمداواة حتّى يحصل لهم البرء من أمراضهم. واعلم أنّ أصل الأمراض كلّها إنّما هو من الأغذية كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الجامع للطّبّ وهو قوله: «المعدة بيت الدّاء والحمية
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الانفصال.(1/520)
رأس الدّواء وأصل كلّ داء البردة» فأمّا قوله المعدة بيت الدّاء فهو ظاهر وأمّا قوله الحمية راس الدّواء فالحمية الجوع وهو الاحتماء من الطّعام. والمعنى أنّ الجوع هو الدّواء العظيم الّذي هو أصل الأدوية وأمّا قوله أصل كلّ داء البردة [1] » فمعنى البردة إدخال الطّعام على الطّعام في المعدة قبل أن يتمّ هضم الأوّل. وشرح هذا أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وحفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل وينفذ فيه القوى الهاضمة والغاذية إلى أن يصير دما ملائما لأجزاء البدن من اللّحم والعظم، ثمّ تأخذه النّامية فينقلب لحما وعظما. ومعنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزيّة طورا بعد طور حتّى يصير جزءا بالفعل من البدن وتفسيره أنّ الغذاء إذا حصل في الفم ولاكته الأشداق أثّرت فيه حرارة الفم طبخا يسيرا وقلبت مزاجه بعض الشّيء، كما تراه في اللّقمة إذا تناولتها طعاما ثمّ أجدتها مضغا فترى مزاجها غير مزاج الطّعام ثمّ يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموسا وهو صفو ذلك المطبوخ وترسله إلى الكبد وترسل ما رسب منه في المعى ثقلا ينفذ إلى المخرجين. ثمّ تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دما عبيطا [2] وتطفو عليه رغوة من الطّبخ هي الصّفراء. وترسب منه أجزاء يابسة هي السّوداء ويقصر الحارّ الغريزيّ بعض الشّيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثمّ ترسلها الكبد كلّها في العروق والجداول، ويأخذها طبخ الحال [3] الغريزيّ هناك فيكون عن الدّم الخالص بخار حارّ رطب يمدّ الرّوح الحيوانيّ وتأخذ النّامية مأخذها في الدّم فيكون لحما ثمّ غليظة عظاما. ثمّ يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق واللّعاب والمخاط والدّمع. هذه صورة الغذاء وخروجه من القوّة إلى الفعل لحما. ثمّ إنّ أصل الأمراض ومعظمها هي الحميّات.
وسببها أنّ الحارّ الغريزيّ قد يضعف عن تمام [4] النّضج في طبخه في كلّ طور من
__________
[1] التخمة.
[2] الخالص الطري (قاموس) .
[3] وفي نسخة أخرى: الحار.
[4] وفي نسخة أخرى: إتمام.(1/521)
هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج، وسببه غالبا كثرة الغذاء في المعدة حتّى يكون أغلب على الحارّ الغريزيّ أو إدخال الطّعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأوّل فيستقلّ [1] به الحارّ الغريزيّ ويترك الأوّل بحالة أو يتوزّع عليهما فيقصر عن تمام الطّبخ والنّضج. وترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضا على إنضاجه. وربّما بقي في الكبد من الغذاء الأوّل فضلة غير ناضجة.
وترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق والدّمع واللّعاب إن اقتدر على ذلك. وربّما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق والكبد والمعدة وتتزايد مع الأيّام. وكلّ ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطّبخ والنّضج يعفّن فيتعفّن ذلك الغذاء غير النّاضج وهو المسمّى بالخلط. وكلّ متعفّن ففيه حرارة غريبة وتلك هي المسمّاة في بدن الإنسان بالحمّى. واختبر [2] ذلك بالطّعام إذا ترك حتّى يتعفّن وفي الزّبل إذا تعفّن أيضا، كيف تنبعث فيه الحرارة وتأخذ مأخذها. فهذا معنى الحمّيات في الأبدان وهي رأس الأمراض وأصلها كما وقع في الحديث. وهذه الحميّات علاجها [3] بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثمّ يتناول [4] الأغذية الملائمة حتّى يتمّ برؤه. وذلك في حال الصّحّة له علاج في التّحفّظ من هذا المرض وغيره وأصله كما وقع في الحديث وقد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولّد عنه مرض في ذلك العضو ويحدث جراحات في البدن:
إمّا في الأعضاء الرّئيسيّة أو في غيرها. وقد يمرض العضو ويحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلّها جمّاع الأمراض، وأصلها في الغالب من الأغذية وهذا كلّه مرفوع إلى الطّبيب. ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر، لخصب عيشهم وكثرة مأكلهم وقلّة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية وعدم توقيتهم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فيشتغل.
[2] وفي نسخة أخرى: واعتبر.
[3] وفي نسخة أخرى: علاجات.
[4] وفي نسخة أخرى: ثم تناوله.(1/522)
لتناولها. وكثيرا ما يخلطون بالأغذية من التّوابل والبقول والفواكه، رطبا ويابسا في سبيل العلاج بالطّبخ ولا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربّما عدّدنا في اليوم [1] الواحد من ألوان الطّبخ أربعين نوعا من النّبات والحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. وربّما يكون غريبا [2] عن ملاءمة البدن وأجزائه. ثمّ إنّ الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات. والأهوية منشّطة للأرواح ومقوّية بنشاطها الأثر الحارّ الغريزيّ في الهضم. ثمّ الرّياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرّياضة شيئا ولا تؤثّر فيهم أثرا، فكان وقوع الأمراض كثيرا في المدن والأمصار وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصّناعة. وأمّا أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب والجوع أغلب عليهم لقلّة الحبوب حتّى صار لهم ذلك عادة. وربّما يظنّ أنّها جبلّة لاستمرارها. ثمّ الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة. وعلاج الطّبخ بالتّوابل والفواكه إنّما يدعو إلى ترف الحضارة الّذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عمّا يخالطها ويقرّب مزاجها من ملاءمة البدن. وأمّا أهويتهم فقليلة العفن لقلّة الرّطوبات والعفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثمّ إنّ الرّياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصّيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كلّه الهضم ويجود ويفقد إدخال الطّعام على الطّعام فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض فتقلّ حاجتهم إلى الطّبّ. ولهذا لا يوجد الطّبيب في البادية بوجه. وما ذاك إلّا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد، لأنّه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه «سنة الله في عباده وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا 33: 62» .
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اللوث.
[2] وفي نسخة أخرى: بعيدا.(1/523)
الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية
وهو رسوم وأشكال حرفيّة تدلّ على الكلمات المسموعة الدّالّة على ما في النّفس. فهو ثاني رتبة من الدّلالة اللّغويّة وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواصّ الإنسان الّتي يميّز بها عن الحيوان. وأيضا فهي تطلع على ما في الضّمائر وتتأدّى بها الأغراض إلى البلاد [1] البعيدة فتقضي الحاجات وقد دفعت مؤنة المباشرة لها ويطّلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأوّلين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع. وخروجها في الإنسان من القوّة إلى الفعل إنّما يكون بالتّعليم وعلى قدر الاجتماع والعمران والتّناغي في الكمالات والطّلب لذلك تكون جودة الخطّ في المدينة إذ هو من جملة الصّنائع.
وقد قدّمنا أنّ هذا شأنها وأنّها تابعة للعمران ولهذا نجد أكثر البدو أمّيّين لا يكتبون ولا يقرءون ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطّه قاصرا أو قراءته غير نافذة. ونجد تعليم الخطّ في الأمصار الخارج عمرانها عن الحدّ أبلغ وأحسن وأسهل طريقا لاستحكام الصّنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد وأنّ بها معلّمين منتصبين لتعليم الخطّ يلقون على المتعلّم قوانين وأحكاما في وضع كلّ حرف ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم والحسّ في التّعليم وتأتي ملكته على أتمّ الوجوه. وإنّما أتى هذا من كمال الصّنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال وقد كان الخطّ العربيّ بالغا مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التّبابعة لما بلغت من الحضارة والتّرف وهو المسمّى بالخطّ الحميريّ. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التّبابعة في العصبيّة والمجدّدين لملك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخطّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: البلد.(1/524)
عندهم من الإجادة كما كان عند التّبابعة لقصور ما بين الدّولتين. وكانت الحضارة وتوابعها من الصّنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطّائف وقريش فيما ذكر. ويقال إنّ الّذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أميّة ويقال حرب بن أميّة وأخذها من أسلم بن سدرة. وهو قول ممكن وأقرب ممّن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخطّ والقلم
وهو قول بعيد لأنّ إيادا وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. والخط من الصّنائع الحضريّة. وإنّما معنى قول الشّاعر أنّهم أقرب إلى الخطّ والقلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها فالقول بأنّ أهل الحجاز إنّما لقّنوها من الحيرة ولقّنها أهل الحيرة من التّبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال ورأيت في كتاب التّكملة لابن الأبّار عند التعريف بابن فرّوخ الفيرواني القاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه واسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عبّاس: يا معشر قريش، خبّروني عن هذا الكتاب العربيّ، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم تجمعون منه ما أجتمع وتفرّقون منه ما افترق مثل الألف واللام والميم والنّون؟ قال: نعم. قلت: وممّن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أميّة. قلت! وممّن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان.
قلت: وممّن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار. قلت: وممّن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت وممّن أخذه ذلك لطارئ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبيّ عليه السّلام. وهو الّذي يقول:
أفي كلّ عام سنّة تحدثونها ... ورأي على غير الطّريق يعبّر
والموت خير من حياة تسبّنا ... بها جرهم فيمن يسبّ وحمير(1/525)
انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التّكملة. وزاد في آخره: حدّثني بذلك أبو بكر بن أبي حميره في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلعنكي بن أبي عبد الله بن مفرح. ومن خطّه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمّد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمّد بن حشيش بن عمر بن أيوب المغافري التّونسي عن بهلول بن عبيدة الحمّي عن عبد الله بن فرّوخ. انتهى.
وكان لحمير كتابة تسمّى المسند حروفها منفصلة وكانوا يمنعون من تعلّمها إلّا بإذنهم. ومن حمير تعلّمت مضر الكتابة العربيّة إلّا أنّهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصّنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتّنميق لبون ما بين البدو والصّناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر. وكانت كتابة العرب بدويّة مثل كتابتهم أو قريبا من كتابتهم لهذا العهد أو نقول إنّ كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأنّ هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدّول. وأمّا مضر فكانوا أعرق في البدو وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشّام ومصر فكان الخطّ العربيّ لأوّل الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التّوسّط لمكان العرب من البداوة والتوحّش وبعدهم عن الصّنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصّحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخطّ عند أهلها. ثمّ اقتفى التّابعون من السّلف رسمهم فيها تبرّكا بما رسمه أصحاب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وخير الخلق من بعده المتلقّون لوحيه من كتاب الله وكلامه. كما يقتفي لهذا العهد خطّ وليّ أو عالم تبرّكا ويتبع رسمه خطأ أو صوابا. وأين نسبة ذلك من الصّحابة فيما كتبوه فاتّبع ذلك وأثبت رسما ونبّه العلماء بالرّسم على مواضعه. ولا تلتفتنّ في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفّلين من أنّهم كانوا محكمين لصناعة الخطّ وأنّ ما يتخيّل(1/526)
من مخالفة خطوطهم لأصول الرّسم ليس كما يتخيّل بل لكلّها وجه. يقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنّه: إنّه تنبيه على أنّ الذّبح لم يقع وفي زيادة الياء في بأييد إنّه تنبيه على كمال القدرة الرّبّانيّة وأمثال ذلك ممّا لا أصل له إلّا التّحكّم المحض. وما حملهم على ذلك إلّا اعتقادهم أنّ في ذلك تنزيها للصّحابة عن توهّم النّقص في قلّة إجادة الخطّ. وحسبوا أنّ الخطّ كمال فنزّهوهم عن نقصه ونسبوا إليهم الكمال بإجادته وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح. واعلم أنّ الخطّ ليس بكمال في حقّهم إذ الخطّ من جملة الصّنائع المدنيّة المعاشيّة كما رأيته فيما مرّ. والكمال في الصّنائع إضافيّ وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذّات في الدّين ولا في الخلال وإنّما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتّعاون عليه لأجل دلالته على ما في النّفوس. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أمّيّا وكان ذلك كمالا في حقّه وبالنّسبة إلى مقامه لشرفه وتنزّهه عن الصّنائع العمليّة الّتي هي أسباب المعاش والعمران كلّها. وليست الأمّيّة كمالا في حقّنا نحن إذ هو منقطع إلى ربّه ونحن متعاونون على الحياة الدّنيا شأن الصّنائع كلّها حتّى العلوم الاصطلاحيّة فإنّ الكمال في حقّه هو تنزّهه عنها جملة بخلافنا.
ثمّ لمّا جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدّولة إلى الكتابة استعملوا الخطّ وطلبوا صناعته وتعلّموه وتداولوه فترقّت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان إلّا أنّها كانت دون الغاية. والخطّ الكوفيّ معروف الرّسم لهذا العهد. ثمّ انتشر العرب في الأقطار والممالك وافتتحوا إفريقية والأندلس واختطّ بنو العبّاس بغداد وترقّت الخطوط فيها إلى الغاية لمّا استبحرت في العمران وكانت دار الإسلام ومركز الدّولة العربيّة وخالفت أوضاع الخطّ ببغداد أوضاعه بالكوفة، في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الرّونق وحسن الرواء. واستحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد عليّ بن مقلة الوزير. ثمّ تلاه في ذلك عليّ بن هلال، الكاتب(1/527)
الشهير بابن البوّاب. ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها.
وبعدت رسوم الخطّ البغداديّ وأوضاعه عن الكوفة، حتّى انتهى إلى المباينة. ثمّ ازدادت المخالفة بعد تلك القصور بتفنّن الجهابذة في إحكام رسومه وأوضاعه، حتّى انتهت إلى المتأخّرين مثل ياقوت والوليّ عليّ العجمي. ووقف سند تعليم الخطّ عليهم وانتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشّيء ولقّنها العجم لك، وظهرت مخالفة لخطّ أهل مصر أو مباينة.
وكان الخطّ البغداديّ معروف الرّسم وتبعه الإفريقيّ المعروف رسمه القديم لهذا العهد. ويقرب من أوضاع الخطّ المشرقيّ وتحيّز [1] ملك الأندلس بالأمويّين فتميّزوا بأحوالهم من الحضارة والصّنائع والخطوط فتميّز صنف خطّهم الأندلسيّ كما هو معروف الرّسم لهذا العهد. وطما بحر العمران والحضارة في الدّول الإسلاميّة في كلّ قطر. وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها [2] وملئت بها القصور والخزائن الملوكيّة بما لا كفاء له وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه. ثمّ لمّا انحلّ نظام الدّولة الإسلاميّة وتناقص ذلك أجمع ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخطّ والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد وله [3] بها معلّمون يرسمون لتعليم [4] الحروف بقوانين في وضعها وأشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلّم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع وقد لقّنها حسنا وحذق فيها دربة وكتابا وأخذها قوانين علميّة [5] فتجيء أحسن ما يكون. وأمّا أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر، وتغلّبت عليهم أمم النّصرانيّة فانتشروا في عدوة المغرب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وتميز.
[2] وفي نسخة أخرى: تخليدها.
[3] وفي نسخة أخرى: للخط.
[4] وفي نسخة أخرى: للمتعلم.
[5] وفي نسخة أخرى: عملية.(1/528)
وإفريقية من لدن الدّولة اللّمتونيّة إلى هذا العهد. وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصّنائع وتعلّقوا بأذيال الدّولة فغلب خطّهم على الخطّ الإفريقيّ وعفى عليه ونسي خطّ القيروان والمهديّة بنسيان عوائدهما وصنائعهما. وصارت خطوط أهل إفريقية كلّها على الرّسم الأندلسيّ بتونس وما إليها لتوفّر أهل الأندلس بها عند الحالية من شرق الأندلس. وبقي منه رسم ببلاد الجريد الّذين لم يخالطوا كتّاب الأندلس ولا تمرّسوا بجوارهم. إنّما كانوا يغدون على دار الملك بتونس فصار خطّ أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتّى إذا تقلّص ظلّ الدّولة الموحّديّة بعض الشّيء وتراجع أمر الحضارة والتّرف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخطّ وفسدت رسومه وجهل فيه وجه التّعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران. وبقيت فيه آثار الخطّ الأندلسيّ تشهد بما كان لهم من ذلك لما قدّمناه من أنّ الصّنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخطّ الأندلسيّ لقرب جرارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريبا واستعمالهم إيّاهم سائر الدّولة. ونسي عهد الخطّ فيما بعد عن سدّة الملك وداره. كأنّه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقيّة والمغربيّين مائلة إلى الرّداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفّحها منها إلّا العناء والمشقّة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتّصحيف وتغيير الأشكال الخطّيّة عن الجودة حتّى لا تكاد تقرأ إلّا بعد عسر ووقع فيه ما وقع في سائر الصّنائع بنقص الحضارة وفساد الدّول والله يحكم لا معقّب لحكمه.
وللأستاذ أبي الحسن عليّ بن هلال الكاتب البغداديّ الشّهير بابن البوّاب قصيدة من بحر البسيط [1] على رويّ الرّاء يذكر فيها صناعة الخطّ وقواعدها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلّم هذه الصّناعة. وأوّلها:
__________
[1] هذه القصيدة من بحر الكامل وليس من بحر البسيط.(1/529)
يا من يريد إجادة التّحرير ... ويروم حسن الخطّ والتّصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقا ... فارغب إلى مولاك في التّيسير
أعدد من الأقلام كلّ مثقّف ... صلب يصوغ صناعة التحبير
وإذا عمدت لبرية فتوخّه ... عند القياس بأوسط التّقدير
انظر إلى طرفيه فاجعل بريه ... من جانب التّدقيق والتّحضير
واجعل لجلفته قواما عادلا ... خلوا عن التّطويل والتّقصير
والشّق وسطه ليبقى بريه ... من جانبيه مشاكل التقدير
حتّى إذا أيقنت ذلك كله ... فالقطّ فيه جملة التدبير
لا تطمعن في أن أبوح بسرّه ... إني أضنّ بسرّه المستور
لكنّ جملة ما أقول بأنّه ... ما بين تحريف إلى تدوير
وألق دواتك بالدّخان مدبّرا ... بالخلّ أو بالحصرم المعصور
وأضف إليه قفرة قد صوّلت ... مع أصغر الزّرنيخ والكافور
حتّى إذا ما خمرت فاعمد إلى ... الورق النّقيّ الناعم المخبور
فاكسبه بعد القطع بالمعصار كي ... ينأى عن التّشعيث والتّغيير
ثمّ اجعل التمثيل دأبك صابرا ... ما أدرك المأمول مثل صبور
ابدأ به في اللّوح منتفيا له ... غرما تجرّده عن التشمير
لا تخجلنّ من الردى تختطّه ... في أوّل التمثيل والشطير
فالأمر يصعب ثمّ يرجع هيّنا ... ولربّ سهل جاء بعد عسير
حتّى إذا أدركت ما أمّلته ... أضحيت ربّ مسرّة وحبور
فاشكر إلهك واتّبع رضوانه ... إنّ الإله يجيب كلّ شكور
وارغب لكفّك أن تخطّ بنانها ... خيّرا يخلّفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غدا ... عند الشّقاء كتابه المنشور
واعلم بأنّ الخطّ بيان عن القول والكلام، كما أنّ القول والكلام بيان عمّا في(1/530)
النّفس والضّمير من المعاني، فلا بدّ لكل منهما أن يكون واضح الدّلالة.
قال الله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ 55: 3- 4» [1] وهو يشتمل بيان الأدلّة كلّها. فالخطّ المجوّد كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة وإجادة وضعها ورسمها كلّ واحد على حدة متميّز عن الآخر. إلّا ما اصطلح عليه الكتّاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض. سوى حروف اصطلحوا على قطعها، مثل الألف المتقدّمة في الكلمة، وكذا الراء والزاي والدال والذال وغيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة، وهكذا إلى آخرها. ثمّ إنّ المتأخرين من الكتّاب اصطلحوا على وصل كلمات، بعضها ببعض، وحذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلّا أهل مصطلحهم فتستعجم على غيرهم وهؤلاء كتّاب دواوين السّلطان وسجلّات القضاة، كأنّهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم، لكثرة موارد الكتابة عليهم، وشهرة كتابتهم وإحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم فإن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوه، وإلّا كان بمثابة الخطّ الأعجميّ، لأنّهما بمنزلة واحدة من عدم التواضع عليه. وليس بعذر في هذا القدر، إلّا كتاب الأعمال السّلطانيّة في الأموال والجيوش، لأنّهم مطلوبون بكتمان ذلك عن النّاس فإنّه من الأسرار السّلطانيّة الّتي يجب إخفاؤها، فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم، ويصير بمثابة المعمّى. وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطّيور والأزاهير، ووضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتأدية ما في ضمائرهم بالكتابة. وربّما وضع الكتاب للعثور على ذلك، وإن لم يضعوه أوّلا، قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسمّونها فكّ المعمّى. وللنّاس في ذلك دواوين مشهورة. والله العليم الحكيم.
__________
[1] آية 3 و 4 من سورة الرحمن.(1/531)
الفصل الحادي والثلاثون في صناعة الوراقة
كانت العناية قديما بالدّواوين العلميّة والسّجلّات في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرّواية والضّبط. وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدّولة وتوابع الحضارة. وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدّولة وتناقص العمران بعد أن كان منه في الملّة الإسلاميّة بحر زاخر بالعراق والأندلس إذ هو كله من توابع العمران واتّساع نطاق الدّولة ونفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التّآليف العلميّة والدّواوين وحرص النّاس على تناقلهما في الآفاق والأعصار فانتسخت وجلّدت.
وجاءت صناعة الورّاقين المعانين للانتساخ والتّصحيح والتّجليد وسائر الأمور الكتبيّة والدّواوين واختصّت بالأمصار العظيمة العمران. وكانت السّجلّات أوّلا:
لانتساخ العلوم وكتب الرّسائل السّلطانيّة والإقطاعات، والصّكوك في الرّقوق المهيّأة بالصّناعة من الجلد لكثرة الرّفه وقلّة التّآليف صدر الملّة كما نذكره، وقلّة الرّسائل السّلطانيّة والصّكوك مع ذلك فاقتصروا على الكتاب في الرّقّ تشريفا للمكتوبات وميلا بها إلى الصّحّة والإتقان. ثمّ طما بحر التّآليف والتّدوين وكثر ترسيل السّلطان وصكوكه وضاق الرّقّ عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد وصنعه وكتب فيه رسائل السّلطان وصكوكه. واتّخذه النّاس من بعده صحفا لمكتوباتهم السّلطانيّة والعلميّة. وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت. ثمّ وقفت عناية أهل العلوم وهمم أهل الدّول على ضبط الدّواوين العلميّة وتصحيحها بالرّواية المسندة إلى مؤلّفيها وواضعيها لأنّه الشّأن الأهمّ من التّصحيح والضّبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. وما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدوّنها فلا يصحّ إسناد قول لهم ولا فتيا. وهكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق.(1/532)
حتّى لقد قصرت فائدة الصّناعة الحديثيّة في الرّواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحسنها ومسندها ومرسلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها قد ذهبت وتمخّضت زبدة في ذلك [1] الأمّهات المتلقّاة بالقبول عند الأمّة. وصار القصد إلى ذلك لغوا من العمل. ولم تبق ثمرة الرّواية والاشتغال بها إلّا في تصحيح تلك الأمّهات الحديثيّة وسواها من كتب الفقه للفتيا، وغير ذلك من الدّواوين والتّآليف العلميّة، واتّصال سندها بمؤلّفيها ليصحّ النّقل عنهم، والإسناد إليهم. وكانت هذه الرّسوم بالمشرق والأندلس معبّدة الطّرق واضحة المسالك. ولهذا نجد الدّواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصّحّة. ومنها لهذا العهد بأيدي النّاس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. وأهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن ويشدّون عليها يد الضّنانة ولقد ذهبت هذه الرّسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله لانقطاع صناعة الخطّ والضّبط والرّواية منه بانتقاص عمرانه وبداوة أهله وصارت الأمّهات والدّواوين تنسخ بالخطوط اليدويّة تنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخطّ وكثرة الفساد والتّصحيف فتستغلق على متصفّحها ولا يحصل منها فائدة إلّا في الأقلّ النّادر. وأيضا فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإنّ غالب الأقوال المعزوّة غير مرويّة عن أئمّة المذهب وإنّما تتلقّى من تلك الدّواوين على ما هي عليه. وتبع ذلك أيضا ما يتصدّى إليه بعض أئمّتهم من التّآليف لقلّة بصرهم بصناعته وعدم الصّنائع الوافية بمقاصده. ولم يبق من هذا الرّسم بالأندلس إلّا إثارة خفيّة بالامّحاء [2] وهي الاضمحلال فقد كاد العلم ينقطع بالكلّيّة من المغرب. والله غالب على أمره. ويبلغنا لهذا العهد أنّ صناعة الرّواية قائمة بالمشرق وتصحيح الدّواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه لنفاق أسواق العلوم والصّنائع كما نذكره بعد. إلّا أنّ الخطّ الّذي بقي من الإجادة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تلك.
[2] وفي نسخة أخرى: الأنحاء.(1/533)
في الانتساخ هنالك إنّما هو للعجم وفي خطوطهم. وأمّا النّسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشدّ. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء
هذه الصّناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع كلّ صوت منها توقيعا عند قطعه فيكون نغمة. ثمّ تؤلّف تلك النّغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذّ سماعها لأجل ذلك التّناسب وما يحدث عنه من الكيفيّة في تلك الأصوات. وذلك أنّه تبيّن في علم الموسيقى أنّ الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزء من أحد عشر من آخر واختلاف هذه النّسب عند تأديتها إلى السّمع بخروجها [1] من البساطة إلى التّركيب وليس كلّ تركيب منها ملذوذا عند السّماع بل للملذوذ تراكيب خاصّة وهي الّتي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلّموا عليها كما هو مذكور في موضعه وقد يساوق ذلك التّلحين في النّغمات الغنائيّة بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إمّا بالقرع أو بالنّفخ في الآلات تتّخذ لذلك فترى لها [2] لذّة عند السّماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف منها المزمار ويسمّونه الشّبّابة وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوّت. فيخرج الصّوت من جوفها على سداده من تلك الأبخاش ويقطّع الصّوت بوضع الأصابع من اليدين جميعا على تلك الأبخاش وضعا متعارفا حتّى تحدث النّسب بين الأصوات فيه وتتّصل كذلك متناسبة فيلتذّ السّمع بإدراكها للتّناسب الّذي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يخرجها.
[2] وفي نسخة أخرى: فتزيدها.(1/534)
ذكرناه. ومن جنس هذه الآلة المزمار الّذي يسمّى الزّلاميّ وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين [1] كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النّفخ بواسطتها إليها وتصوّت بنغمة حادّة يجرى فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشّبّابة. ومن أحسن آلات الزّمر لهذا العهد البوق وهو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذّراع يتّسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكفّ في شكل بري القلم. وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدّي الرّيح من الفم إليه فيخرج الصّوت ثخينا دويّا وفيه أبخاش أيضا معدودة. وتقطّع نغمة منها كذلك بالأصابع على التّناسب فيكون ملذوذا. ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلّها إمّا على شكل قطعة من الكرة مثل المربط [2] والرّباب أو على شكل مربّع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليأتي شدّ الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثمّ تقرع الأوتار إمّا بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمرّ عليها بعد أن يطلى بالشّمع والكندر. ويقطّع الصّوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقّع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحكّ بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. وقد يكون القرع في الطّسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع مناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع. ولنبيّن لك السّبب في اللّذّة النّاشئة عن الغناء. وذلك أنّ اللّذّة كما تقرّر في موضعه هي إدراك الملائم والمحسوس إنّما تدرك منه كيفيّة. فإذا كانت مناسبة للمدرك وملاءمة كانت ملذوذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطّعوم ما ناسبت كيفيّته حاسّة الذّوق في مزاجها وكذا الملائم من الملموسات وفي الرّوائح ما ناسب مزاج الرّوح القلبيّ البخاريّ لأنّه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متفوذتين.
[2] وفي نسخة أخرى: البربط.(1/535)
المدرك وإليه تؤدّيه الحاسّة. ولهذا كانت الرّياحين والأزهار العطريّات أحسن رائحة وأشدّ ملاءمة للرّوح لغلبة الحرارة فيها الّتي هي مزاج الرّوح القلبيّ. وأمّا المرئيّات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفيّاتها فهو أنسب عند النّفس وأشدّ ملاءمة لها. فإذا كان المرئيّ متناسبا في أشكاله وتخاطيطه الّتي له بحسب مادّته بحيث لا يخرج عمّا تقتضيه مادّته الخاصّة من كمال المناسبة والوضع وذلك هو معنى الجمال والحسن في كلّ مدرك، كان ذلك حينئذ مناسبا للنّفس المدركة فتلتذّ بإدراك ملائمها، ولهذا تجد العاشقين المستهترين [1] في المحبّة يعبّرون عن غاية محبّتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا شرّ تفهمه إن كنت من أهله وهو اتّحاد المبدإ وإن كان ما سواك إذا نظرته وتأمّلته رأيت بينك وبينه اتّحادا في البداءة. يشهد لك به اتّحاد كما في الكون ومعناه من وجه آخر أنّ الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتودّ أن يمتزج بمشاهدات [2] فيه الكمال لتتّحد به، بل تروم النّفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة الّتي هي اتّحاد المبدإ والكون. ولمّا كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك [3] الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنسانيّ فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك الّتي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كلّ إنسان بالحسن من المرئيّ أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أنّ الأصوات لها كيفيّات من الهمس والجهر والرّخاوة والشّدّة والقلقلة والضّغط وغير ذلك. والتّناسب فيها هو الّذي يوجب لها الحسن.
فأوّلا: أن لا يخرج من الصّوت إلى مدّه دفعة بل بتدريج، ثمّ يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل، بل لا بدّ من توسّط المغاير بين الصّوتين. وتأمّل هذا من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المشتهرين.
[2] وفي نسخة أخرى: بما شاهدت.
[3] وفي نسخة أخرى: مدرك.(1/536)
افتتاح [1] أهل اللّسان التّراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنّه من بابه. وثانيا: تناسبها في الأجزاء كما مرّ أوّل الباب فيخرج من الصّوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه، على حسب ما يكون التّنقّل متناسبا على ما حصره أهل الصّناعة [2] . فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيّات كما ذكره أهل تلك الصّناعة كانت ملاءمة ملذوذة. ومن هذا التّناسب ما يكون بسيطا ويكون الكثير من النّاس مطبوعا عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة كما نجد المطبوعين على الموازين الشّعريّة وتوقيع الرّقص وأمثال ذلك.
وتسمّي العامّة هذه القابليّة بالمضمار. وكثير من القرّاء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنّها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم. ومن هذا التّناسب ما يحدث بالتّركيب وليس كلّ النّاس يستوي في معرفته ولا كلّ الطّباع [3] توافق صاحبها في العمل به إذا علم. وهذا هو التّلحين الّذي يتكفّل به علم الموسيقى كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم. وقد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتّلحين وأجازها الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه. وليس المراد تلحين الموسيقى الصّناعيّ فإنّه لا ينبغي أن يختلف في حظره إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكلّ وجه لأنّ القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصّوت لتعيّن أداء الحروف لا من حيث اتّباع الحركات في مواضعها ومقدار المدّ عند من يطلقه أو يقصّره، وأمثال ذلك. والتّلحين أيضا يتعيّن له مقدار من الصّوت لا تتمّ إلّا به من أجل التّناسب الّذي قلناه في حقيقة التّلحين. واعتبار أحدهما قد يخلّ بالآخر إذا تعارضا. وتقديم الرّواية [4] متعيّن فرارا من تغيير الرّواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التّلحين والأداء المعتبر في القرآن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: استقباح.
[2] أي أهل صناعة الموسيقى.
[3] وفي نسخة أخرى: الطبائع.
[4] وفي نسخة أخرى: التلاوة.(1/537)
بوجه وإنّما مرادهم التّلحين البسيط الّذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدّمناه فيردّد أصواته ترديدا على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره ولا ينبغي ذلك بوجه وإنّما المراد من اختلافهم التّلحين البسيط الّذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدّمناه، فيردّد أصواته ترديدا على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره، ولا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك. هذا هو محلّ الخلاف. والظّاهر تنزيه القرآن عن هذا كلّه كما ذهب إليه الإمام رحمه الله تعالى لأنّ القرآن محلّ خشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات. وهكذا كانت قراءة الصّحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم. وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود» فليس المراد به التّرديد والتّلحين إنّما معناه حسن الصّوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنّطق بها. وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنّه يحدث في العمران إذا توفّر وتجاوز حدّ الضّروريّ إلى الحاجيّ، ثمّ إلى الكماليّ، وتفنّنوا فيه، فتحدث هذه الصّناعة، لأنّه لا يستدعيها إلّا من فرغ من جميع حاجاته الضّروريّة والمهمّة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلّا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنّنا في مذاهب الملذوذات. وكان في سلطان العجم قبل الملّة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم. وكان ملوكهم يتّخذون ذلك ويولعون به، حتّى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصّناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنّون فيها. وهذا شأن العجم لهذا العهد في كلّ أفق من آفاقهم، ومملكة من ممالكهم. وأمّا العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشّعر يؤلّفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدّة حروفها المتحرّكة والسّاكنة. ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كلّ جزء منها مستقلا بالإفادة، لا ينعطف على الآخر. ويسمّونه البيت. فتلائم الطّبع بالتّجزئة أوّلا، ثمّ يتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثمّ بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا(1/538)
به فامتاز من بين كلامهم بخطّ من الشّرف ليس لغيره لأجل اختصاصه. بهذا التّناسب. وجعلوه ديوانا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. واستمرّوا على ذلك. وهذا التّناسب الّذي من أجل الأجزاء والمتحرّك والسّاكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلّا أنّهم لم يشعروا بما سواه لأنّهم حينئذ لم ينتحلوا علما ولا عرفوا صناعة. وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثمّ تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم والفتيان في فضاء خلواتهم فرجّعوا الأصوات وترنّموا. وكانوا يسمّون التّرنّم إذا كان بالشّعر غناء وإذا كان بالتّهليل أو نوع القراءة تغييرا بالغين المعجمة والباء الموحّدة. وعلّلها أبو إسحاق الزّجّاج بأنّها تذكر بالغابر وهو الباقي أي بأحوال الآخرة. وربّما ناسبوا في غنائهم بين النّغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره. وكانوا يسمّونه السّناد. وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الّذي يرقص عليه ويمشى بالدّفّ والمزمار فيضطرب ويستخفّ الحلوم. وكانوا يسمّون هذا الهزج وهذا البسيط كلّه من التّلاحين هو من أوائلها ولا يبعد أن تتفطّن له الطّباع من غير تعليم شأن البسائط كلّها من الصّنائع. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليّتهم. فلمّا جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدّنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال الّتي عرفت لهم مع غضارة الدّين وشدّته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئا ما. ولم يكن الملذوذ عندهم إلّا ترجيع القراءة [1] والتّرنّم بالشّعر الّذي هو ديدنهم ومذهبهم.
فلمّا جاءهم التّرف وغلب عليهم الرّفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقّة الحاشية واستحلاء الفراغ. وافترق المغنّون من الفرس والرّوم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنّوا جميعا بالعيدان والطّنابير
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ترجيع القرآن.(1/539)
والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحّنوا عليها أشعارهم. وظهر بالمدينة نشيط الفارسيّ وطويس وسائب بن جابر [1] مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحّنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر. ثمّ أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح [2] وأنظاره. وما زالت صناعة الغناء تتدرّج إلى أن كملت أيّام بني العبّاس عند إبراهيم بن المهديّ وإبراهيم الموصليّ وابنه إسحاق وابنه حمّاد.
وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد وأمعنوا في اللهو واللّعب واتّخذت آلات الرّقص في الملبس والقضبان والأشعار الّتي يترنّم بها عليه. وجعل صنفا وحده واتّخذت آلات أخرى للرّقص تسمّى بالكرج [3] وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلّقة بأطراف أقبية يلبسها النّسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرّون ويفرّون ويتثاقفون [4] وأمثال ذلك من اللّعب المعدّ للولائم والأعراس وأيّام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو. وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها. وكان للموصليّين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرّحمن الدّاخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات وأحلّه من دولته وندمائه بمكان.
فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطّوائف. وطما منها بأشبيليّة بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيّة والمغرب. وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصّناعة آخر ما يحصل في العمران من الصّنائع لأنّها كماليّة في غير وظيفة من الوظائف إلّا وظيفة الفراغ والفرح. وهو أيضا أوّل ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سائب وحائر. وفي النسخة الباريسية خاثر مولى عبد الله بن جعفر.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن سريج.
[3] وفي نسخة أخرى: الكرح.
[4] أي يلعبون بالسلاح.(1/540)
الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب
قد ذكرنا في الكتاب أنّ النّفس النّاطقة للإنسان إنّما توجد فيه بالقوّة. وأنّ خروجها من القوّة إلى الفعل إنّما هو بتجدّد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أوّلا، ثمّ ما يكتسب بعدها بالقوّة النّظريّة إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانيّة ويستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كلّ نوع من العلم والنّظر يفيدها عقلا فريدا [1] والصّنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علميّ مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التّجربة تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا لأنّها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثمّ القيام بأمور الدّين واعتبار آدابها وشرائطها. وهذه كلّها قوانين تنتظم علوما فيحصل منها زيادة عقل. والكتابة من بين الصّنائع أكثر إفادة لذلك لأنّها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصّنائع. وبيانه أنّ في الكتابة انتقالا من الحروف الخطّيّة إلى الكلمات اللّفظيّة في الخيال ومن الكلمات اللّفظيّة في الخيال إلى المعاني الّتي في النّفس فهو ينتقل أبدا من دليل إلى دليل، ما دام ملتبسا بالكتابة وتتعوّد النّفس ذلك دائما. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلّة إلى المدلولات وهو معنى النّظر العقليّ الّذي يكسب [2] العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التّعقّل تكون زيادة عقل ويحصل به قوّة [3] فطنة وكيس في الأمور لما تعوّدوه من ذلك الانتقال. ولذلك قال كسرى في كتابه لمّا رآهم بتلك الفطنة والكيس فقال:
«ديوانه أي شياطين وجنون. قالوا: وذلك أصل اشتقاق الدّيوان لأهل الكتابة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عقلا مزيدا.
[2] وفي نسخة أخرى: يكتب به.
[3] وفي نسخة أخرى: مزيد.(1/541)
ويلحق بذلك الحسّاب فإنّ في صناعة الحسّاب نوع تصرّف في العدد بالضّمّ والتّفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعوّدا للاستدلال والنّظر وهو معنى العقل. وَالله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 16: 78.
الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق
فالمقدّمة في الفكر الإنسانيّ،
الّذي تميّز به البشر عن الحيوانات واهتدى به لتحصيل معاشه والتّعاون عليه بأبناء جنسه والنّظر في معبوده، وما جاءت به الرسل من عنده، فصار جميع الحيوانات في طاعته وملك قدرته وفضله به على كثير خلقه.
الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري
وذلك أنّ الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيّته من الحسّ والحركة والغذاء والكنّ وغير ذلك. وإنّما تميّز عنها بالفكر الّذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتّعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيّء لذلك التّعاون(1/542)
وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتّباع صلاح أخراه. فهو منكّر في ذلك كلّه دائما لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدّمناه من الصّنائع. ثمّ لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطّباع فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممّن تقدّمه من الأنبياء الّذين يبلّغونه لمن تلقّاه فيلقّن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه. ثمّ إنّ فكره ونظره يتوجّه إلى واحد واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد آخر ويتمرّن على ذلك حتّى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا. وتتشوّف نفوس أهل الجيل النّاشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التّعليم من هذا. فقد تبيّن بذلك أنّ العلم والتّعليم طبيعيّ في البشر. والله أعلم.
الفصل الثاني في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع
وذلك أنّ الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه إنّما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله.
وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنّا نجد فهم المسألة الواحدة من الفنّ الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفنّ وبين من هو مبتدئ فيه وبين العاميّ الّذي لم يعرف [1] علما وبين العالم النّحرير. والملكة إنّما هي للعالم أو الشّادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على أنّ هذه الملكة غير الفهم والوعي. والملكات
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يحصّل.(1/543)
كلّها جسمانيّة سواء كانت في البدن أو في الدّماغ من الفكر وغيره كالحساب.
والجسمانيّات كلّها محسوسة فتفتقر إلى التّعليم. ولهذا كان السّند في التّعليم في كلّ علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلّمين فيها معتبرا عند كلّ أهل أفق وجيل.
ويدلّ أيضا على أنّ تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكلّ إمام من الأئمّة المشاهير اصطلاح في التّعليم يختصّ به شأن الصّنائع كلّها فدلّ على أنّ ذلك الاصطلاح ليس من العلم، وإذ لو كان من العلم لكان واحدا عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدّمين والمتأخّرين وكذا أصول الفقه وكذا العربيّة وكذا كلّ علم يتوجّه [1] إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدلّ على أنّها صناعات في التّعليم. والعلم واحد في نفسه. وإذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدّول فيه. وما يحدث عن ذلك من نقص الصّنائع وفقدانها كما مرّ. وذلك أنّ القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصّنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التّعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة. فلمّا خربتا انقطع التّعليم من [2] المغرب إلّا قليلا كان في دولة الموحّدين بمراكش مستفادا منها.
ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدّولة الموحّديّة في أوّلها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتّصل أحوال الحضارة فيها إلّا في الأقلّ. وبعد انقراض الدّولة بمرّاكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السّابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقّن تعليمهم.
وحذق في العقليّات والنّقليّات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن. وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدّكّاليّ. كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقرّ بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يحتاج.
[2] وفي النسخة الباريسية: عن المغرب.(1/544)
أهل تونس. واتّصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتّى انتهى إلى القاضي محمّد بن عبد السّلام. شارح بن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه. فإنّه قرأ مع ابن عبد السّلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السّلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلّا أنّهم من القلّة بحيث يخشى انقطاع سندهم. ثمّ ارتحل من زواوة في آخر المائة السّابعة أبو عليّ ناصر الدّين المشداليّ وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقّن تعليمهم. وقرأ مع شهاب الدّين القرافيّ في مجالس واحدة وحذق في العقليّات والنّقليّات. ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد. ونزل ببجاية واتّصل سند تعليمه في طلبتها. وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشداليّ [1] من تلميذه وأوطنها وبثّ طريقته فيها. وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقلّ من القليل. وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التّعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتّصل سند التّعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة فتق [2] اللّسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة فهو الّذي يقرّب شأنها ويحصّل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التّصرّف في العلم والتّعليم. ثمّ بعد تحصيل من يرى منهم أنّه قد حصّل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علّم وما أتاهم القصور إلّا من قبل التّعليم وانقطاع سنده. وإلّا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدّة عنايتهم به، وظنّهم أنّه المقصود من الملكة العلميّة وليس كذلك. وممّا يشهد بذلك في المغرب أنّ المدّة المعيّنة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ستّ عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدّة بالمدارس على المتعارف
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المشدّالي وهو تحريف والمشدالي نسبة إلى مشدالة من قبائل زواوة في المغرب.
[2] وفي نسخة أخرى: قوّة.(1/545)
هي أقلّ ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلميّة أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدّة لأجل عسرها من قلّة الجودة في التّعليم خاصّة لا ممّا سوى ذلك. وأمّا أهل الأندلس فذهب رسم التّعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السّنين. ولم يبق من رسم العلم فيهم إلّا فنّ العربيّة والأدب. اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. وأمّا الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين. وأمّا العقليّات فلا أثر ولا عين. وما ذاك إلّا لانقطاع سند التّعليم فيها بتناقص العمران وتغلّب العدوّ على عامّتها إلّا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها.
والله غالب على أمره. وأمّا المشرق فلم ينقطع سند التّعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتّصال العمران الموفور واتّصال السّند فيه. وإن كانت الأمصار العظيمة الّتي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلّا أنّ الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، وما وراء النّهر من المشرق، ثمّ إلى القاهرة وما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة وعمرانها متّصلا وسند التّعليم بها قائما. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصّنائع. حتّى إنّه ليظنّ كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أنّ عقولهم [1] على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب وأنّهم أشدّ نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى. وأنّ نفوسهم النّاطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التّفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانيّة ويتشيّعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصّنائع وليس كذلك. وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الّذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللَّهمّ إلّا الأقاليم المنحرفة مثل الأوّل والسّابع فإنّ الأمزجة فيها منحرفة والنّفوس على نسبتها كما مرّ وإنّما الّذي فضل به أهل
__________
[1] أي عقول أهل المشرق.(1/546)
المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النّفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدّم في الصّنائع، ونزيده الآن شرحا وتحقيقا. وذلك أنّ الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدّين والدّنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرّفاتهم. فلهم في ذلك كلّه آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبّسون [1] به من أخذ وترك حتّى كأنّها حدود لا تتعدّى.
وهي مع ذلك صنائع يتلقّاها الآخر عن الأوّل منهم. ولا شكّ أنّ كلّ صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النّفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعدّ به لقبول صناعة أخرى ويتهيّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. ولقد بلغنا في تعليم الصّنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنّهم يعلّمون الحمر الإنسيّة والحيوانات العجم من الماشي والطّائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلا عن تعليمها وحسن الملكات في التّعليم والصّنائع وسائر الأحوال العاديّة يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنّفس. إذ قدّمنا أنّ النّفس إنّما تنشأ بالإدراكات. وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النّفس من الآثار العلميّة فيظنّه العاميّ تفاوتا في الحقيقة الإنسانيّة وليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضريّ متحلّيا بالذّكاء ممتلئا من الكيس حتّى إنّ البدويّ ليظنّه أنّه قد فاته في حقيقة إنسانيّته وعقله وليس كذلك. وما ذاك إلّا لإجادته في ملكات الصّنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضريّة ما لا يعرفه البدويّ. فلمّا امتلأ الحضريّ من الصّنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظنّ كلّ من قصّر عن تلك الملكات أنّها لكمال في عقله وأنّ نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلّتها عن فطرته وليس كذلك. فإنّا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنّما الّذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق
__________
[1] وفي نسخة أخرى يتكسبون.(1/547)
الصّنائع والتّعليم فإنّ لهما آثارا ترجع إلى النّفس كما قدّمناه. وكذا أهل المشرق لمّا كانوا في التّعليم والصّنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدّمناه في الفصل قبل هذا ظنّ المغفّلون في بادئ الرّأي أنّه لكمال في حقيقة الإنسانيّة اختصّوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهّمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السّماوات والأرض.
الفصل الثالث في ان العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة
والسّبب في ذلك أنّ تعليم العلم كما قدّمناه من جملة الصّنائع. وقد كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع إنّما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلّة والحضارة والتّرف تكون نسبة الصّنائع في الجودة والكثرة لأنّه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التّصرّف في خاصيّة الإنسان وهي العلوم والصّنائع. ومن تشوّف بفطرته إلى العلم ممّن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدّنة فلا يجد فيها التّعليم الّذي هو صناعيّ لفقدان الصّنائع في أهل البدو. كما قدّمناه ولا بدّ له من الرّحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصّنائع كلّها. واعتبر ما قرّرناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لمّا كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم وتفنّنوا في اصطلاحات التّعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتّى أربوا على المتقدّمين وفاتوا المتأخّرين. ولمّا تناقص عمرانها وابذعرّ سكّانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتّعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أنّ العلم والتّعليم إنّما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أنّ عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السّنين، فاستحكمت فيها الصّنائع وتفنّنت ومن جملتها(1/548)
تعليم العلم. وأكّد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السّنين في دولة التّرك من أيّام صلاح الدّين بن أيّوب وهلمّ جرّا. وذلك أنّ أمراء التّرك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلّفونه من ذرّيّتهم لما له عليهم من الرّقّ أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته. فاستكثروا من بناء المدارس والزّوايا والرّبط [1] ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة يجعلون فيها شركا [2] لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلّات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلّمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها النّاس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها. والله يخلق ما يشاء.
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد
اعلم أنّ العلوم الّتي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعيّ للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقليّ يأخذه عمّن وضعه. والأوّل هي العلوم الحكميّة الفلسفيّة وهي الّتي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشريّة إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتّى يقفه [3] نظره ويحثّه [4] على الصّواب من الخطإ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النّقليّة الوضعيّة وهي كلّها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشّرعيّ. ولا مجال فيها للعقل
__________
[1] جمع رباط: الحصن أو المكان الّذي يرابط فيه الجيش، والأنسب كلمة رباطات وهي المعاهد المبنية والموقوفة للفقراء.
[2] الشرك: الحصة.
[3] قوله: حتى يقفه نظره. يستعمل وقف متعديا فتقول: وقفته على كذا أي اطلعته عليه. قاله نصر.
[4] وفي نسخة أخرى: بحثه.(1/549)
إلّا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأنّ الجزئيّات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النّقل الكلّيّ بمجرّد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسيّ. إلّا أنّ هذا القياس يتفرّع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقليّ فرجع هذا القياس إلى النّقل لتفرّعه عنه. وأصل هذه العلوم النّقلية كلّها هي الشّرعيّات من الكتاب والسّنّة الّتي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلّق بذلك من العلوم الّتي تهيّئوها للإفادة. ثمّ يستتبع ذلك علوم اللّسان العربيّ الّذي هو لسان الملّة وبه نزّل القرآن. وأصناف هذه العلوم النّقليّة كثيرة لأنّ المكلّف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسّنّة بالنّصّ أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بدّ من النّظر بالكتاب ببيان ألفاظه أوّلا وهذا هو علم التّفسير ثمّ بإسناد نقله وروايته إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القرّاء في قراءته وهذا هو علم القراءات ثمّ بإسناد السّنّة إلى صاحبها والكلام في الرّواة النّاقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم [1] ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذه هي علوم الحديث. ثمّ لا بدّ في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانونيّ يفيد العلم بكيفيّة هذا الاستنباط وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثّمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين وهذا هو الفقه. ثمّ إنّ التّكاليف منها بدنيّ، ومنها قلبي، وهو المختصّ بالإيمان وما يجب أن يعتقد ممّا لا يعتقد.
وهذه هي العقائد الإيمانيّة في الذّات والصّفات وأمور الحشر والنّعيم والعذاب والقدر. والحجاج عن هذه بالأدلّة العقليّة هو علم الكلام. ثمّ النّظر في القرآن والحديث لا بدّ أن تتقدّمه العلوم اللّسانيّة لأنّه متوقّف عليها وهي أصناف. فمنها علم اللّغة وعلم النّحو وعلم البيان وعلم الآداب حسبما نتكلّم عليها. وهذه العلوم النّقليّة كلّها مختصّة بالملّة الإسلاميّة وأهلها وإن كانت كلّ ملّة على الجملة لا بدّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ويعمل.(1/550)
فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث إنّها العلوم الشّرعيّة [1] المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشّرعية المبلغ لها. وأمّا على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنّها ناسخة لها. وكلّ ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنّظر فيها محظور. فقد نهى الشّرع عن النّظر في الكتب المنزلة غير القرآن. قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالّذي أنزل علينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد» ورأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التّوراة فغضب حتّى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ قال: «ألم آتكم بها بيضاء نقيّة؟ والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا أتباعي. ثمّ إنّ هذه العلوم الشّرعيّة قد نفقت أسواقها في هذه الملّة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك النّاظرين إلى الغاية الّتي لا شيء فوقها وهذّبت الاصطلاحات ورتّبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتّنميق. وكان لكلّ فنّ رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التّعليم. واختصّ المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتّعليم كما قدّمناه في الفصل قبله. وما أدري ما فعل الله بالمشرق والظّنّ به نفاق العلم فيه واتّصال التّعليم في العلوم وفي سائر الصّنائع الضّروريّة والكماليّة لكثرة عمرانه والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف الّتي اتّسعت بها أرزاقهم. والله سبحانه وتعالى هو الفعّال لما يريد وبيده التّوفيق والإعانة.
الفصل الخامس في علوم القرآن من التفسير والقراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيّه المكتوب بين دفّتي المصحف. وهو متواتر بين الأمّة إلّا أنّ الصّحابة رووه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على طرق مختلفة في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علوم الشريعة.(1/551)
بعض ألفاظه وكيفيّات الحروف في أدائها. وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرّت منها سبع طرق معيّنة تواتر نقلها أيضا بأدائها واختصّت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجمّ الغفير فصارت هذه القراءات السّبع أصولا للقراءة. وربّما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسّبع إلّا أنّها عند أئمة القراءة لا تقوى قوّتها في النّقل. وهذه القراءات السّبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض النّاس في تواتر طرقها لأنّها عندهم كيفيّات للأداء وهو غير منضبط. وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمدّ والتّسهيل [1] لعدم الوقوف على كيفيّته بالسّمع وهو الصّحيح. ولم يزل القرّاء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كتبت العلوم ودوّنت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلما منفردا وتناقله النّاس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريّين وكان معتنيا بهذا الفنّ من بين فنون القرآن لمّا أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمّة القرّاء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافرا. واختصّ مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشّرقيّة فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمّتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموما وبالقراءات خصوصا. فظهر لعهده أبو عمرو الدّانيّ وبلغ الغاية فيها ووقفت عليه معرفتها. وانتهت إلى روايته أسانيدها وتعدّدت تآليفه فيها. وعوّل النّاس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب التّيسير له. ثمّ ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيرّه [2] من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دوّنه أبو عمرو وتلخيصه فنظم ذلك كلّه في قصيدة لغز فيها أسماء القرّاء بحروف (أب ج د) ترتيبا أحكمه ليتيسّر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والتمهيل.
[2] ورد ذكره في كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي وهو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعينيّ أبو محمد الشاطبي إمام القراء وكان ضريرا.(1/552)
عليه ما قصده من الاختصار وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفنّ استيعابا حسنا وعني النّاس بحفظها وتلقينها للولدان [1] المتعلّمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس. وربّما أضيف إلى فنّ القراءات فنّ الرّسم أيضا وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطّيّة لأنّ فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخطّ كزيادة الياء في بأييد وزيادة الألف في لا أذبحنّه ولا أوضعوا والواو في جزاء الظّالمين وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التّاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك وقد مرّ تعليل هذا الرّسم المصحفيّ عند الكلام في الخطّ.
فلمّا جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخطّ وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب النّاس فيها أيضا عند كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمر الدّانيّ المذكور فكتب فيها كتبا من أشهرها: كتاب المقنع وأخذ به النّاس وعوّلوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشّاطبيّ في قصيدته المشهورة على رويّ الرّاء وولع النّاس بحفظها. ثمّ كثر الخلاف في الرّسم في كلمات وحروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ [2] أبي عمرو الدّانيّ والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه ثمّ نقل بعده خلاف آخر فنظم الخرّاز من المتأخّرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا، وعزاه لناقليه، واشتهرت بالمغرب، واقتصر النّاس على حفظها. وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشّاطبيّ في الرّسم.
وأمّا التفسير.
فاعلم أنّ القرآن نزّل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزّل جملا جملا وآيات آيات لبيان التّوحيد والفروض الدّينيّة بحسب الوقائع. ومنها ما هو
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: للولد.
[2] وفي النسخة الباريسية: وهو تلميذ.(1/553)
في العقائد الإيمانيّة، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدّم ومنها ما يتأخّر ويكون ناسخا له. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المبيّن لذلك كما قال تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ 16: 44» [1] فكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيّن المجمل ويميّز النّاسخ من المنسوخ ويعرّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه. كما علم من قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ 110: 1» إنّها نعي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التّابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم. ولم يزل متناقلا بين الصّدر الأوّل والسّلف حتّى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصّحابة والتّابعين وانتهى ذلك إلى الطّبريّ والواقديّ والثّعالبيّ وأمثال ذلك من المفسّرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثمّ صارت علوم اللّسان صناعيّة [2] من الكلام في موضوعات اللّغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التّراكيب فوضعت الدّواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقّى من كتب أهل اللّسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنّه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التّفسير على صنفين: تفسير نقليّ مسند إلى الآثار المنقولة عن السّلف وهي معرفة النّاسخ والمنسوخ وأسباب النّزول ومقاصد الآي.
وكلّ ذلك لا يعرف إلّا بالنّقل عن الصّحابة والتّابعين. وقد جمع المتقدّمون في ذلك وأوعوا، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسّمين والمقبول والمردود. والسّبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة. وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النّفوس البشريّة [3] في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التّوراة من اليهود ومن تبع دينهم
__________
[1] سورة النحل (من الآية 44) .
[2] وفي نسخة أخرى: صناعة.
[3] وفي النسخة الباريسية: النفوس الإنسانية.(1/554)
من النّصارى. وأهل التّوراة الّذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الّذين أخذوا بدين اليهوديّة. فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشّرعيّة الّتي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التّفاسير من المنقولات عندهم [1] في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست ممّا يرجع إلى الأحكام فيتحرّى في الصّحّة الّتي يجب بها العمل. وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملئوا كتب التّفسير بهذه المنقولات.
وأصلها كما قلناه عن أهل التّوراة الّذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلّا أنّهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدّين والملّة، فتلقّيت بالقبول من يومئذ. فلمّا رجع النّاس إلى التّحقيق والتّمحيص وجاء أبو محمّد بن عطيّة من المتأخرين بالمغرب فلخّص تلك التّفاسير كلّها وتحرّى ما هو أقرب إلى الصّحّة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبيّ في تلك الطّريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
والصّنف الآخر من التّفسير وهو ما يرجع إلى اللّسان من معرفة اللّغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصّنف من التّفسير قلّ أن ينفرد عن الأوّل إذ الأوّل هو المقصود بالذّات. وإنّما جاء هذا بعد أن صار اللّسان وعلومه صناعة [2] . نعم قد يكون في بعض التّفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفنّ من التّفاسير كتاب الكشّاف للزّمخشريّ [3] من أهل خوارزم العراق إلّا أنّ مؤلّفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من المنقولات عنهم.
[2] وفي نسخة أخرى: صناعات.
[3] (ورد في معجم البلدان: خوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم للناحية بجملتها وورد في كتاب الأعلام للزركلي، الزمخشريّ ولد في زمخشر من قرى خوارزم) .(1/555)
مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار ذلك للمحقّقين من أهل السّنّة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلّق باللّسان والبلاغة وإذا كان النّاظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السّنّيّة محسنا للحجاج عنها فلا جرم إنّه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللّسان. ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيّين وهو شرف الدّين الطّيبيّ من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزّمخشريّ هذا وتتبّع ألفاظه وتعرّض لمذاهبه في الاعتزال بأدلّة تزيّفها [1] ويبيّن أنّ البلاغة إنّما تقع في الآية على ما يراه أهل السّنّة لا على ما يراه [2] المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 12: 76.
الفصل السادس في علوم الحديث
وأمّا علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوّعة لأنّ منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النّسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم الّتي تكفّل الله لهم بها. قال تعالى: «ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها 2: 106» [3] (ومعرفة الناسخ والمنسوخ وإن كان عاقا للقرآن والحديث إلّا أنّ الّذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره وبقي ما كان خاصّا بالحديث راجعا إلى علومه. فإذا تعارض الخبران بالنّفي والإثبات وتعذّر الجمع بينهما ببعض التّأويل وعلم تقدّم أحدهما تعيّن أنّ المتأخّر ناسخ) .
ومعرفة النّاسخ والمنسوخ من أهمّ علوم الحديث وأصعبها. قال الزّهريّ: «أعيا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأدلته يزيفها.
[2] وفي النسخة الباريسية: لا على مذهب المعتزلة.
[3] سورة البقرة الآية 106(1/556)
الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منسوخه» .
وكان للشّافعيّ رضي الله عنه فيه قدم راسخة. (ومن علوم الأحاديث [1] النّظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السّند الكامل الشّروط لأنّ العمل إنّما وجب بما يغلب على الظّنّ صدقه من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد في الطّريق الّتي تحصّل ذلك الظّنّ وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضّبط. وإنّما يثبت ذلك بالنّقل عن أعلام الدّين لتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو التّرك. وكذلك مراتب هؤلاء النّقلة من الصّحابة والتّابعين وتفاوتهم في ذلك وتميّزهم فيه واحدا واحدا.
وكذلك الأسانيد تتفاوت باتّصالها وانقطاعها بأن يكون الرّاوي لم يلق الرّاوي الّذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم [2] بقبول الأعلى وردّ الأسفل. ويختلف في المتوسّط بحسب المنقول عن أئمّة الشّأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتّبة. مثل الصّحيح والحسن والضّعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشّاذّ والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوّبوا على كلّ واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمّة اللّسان أو الوفاق. ثمّ النّظر في كيفيّة أخذ الرّواية [3] بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرّدّ. ثمّ اتّبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبة وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السّلف من الصّحابة والتّابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشّام ومصر والجميع معروفون مشهورون في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحديث.
[2] وفي النسخة الباريسية: إلى طريقتين يحكم..
[3] وفي نسخة أخرى: الرواة.(1/557)
أعصارهم وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممّن سواهم وأمتن في الصّحّة لاستبدادهم [1] في شروط النّقل من العدالة والضّبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك) [2] وسند [3] الطّريقة الحجازيّة بعد السّلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه ثمّ أصحابه مثل الإمام محمّد بن إدريس الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه، وابن وهب وابن بكير والقضبي ومحمّد بن الحسن ومن بعدهم الإمام أحمد بن حنبل وفي آخرين من أمثالهم. وكان علم الشّريعة في مبدإ هذا الأمر نقلا صرفا شمّر لها السّلف وتحرّوا الصّحيح حتّى أكملوها. وكتب مالك رحمه الله كتاب الموطّإ أودعه أصول الأحكام من الصّحيح المتّفق عليه ورتّبه على أبواب الفقه. ثمّ عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لاشتدادهم.
[2] إن المحصور بين () ورد في النسخة الباريسية على شكلين: ورد في الشرح كما في نسختنا هذه.
وورد في المتن على الوجه التالي: ومن علوم الحديث معرفة القوانين التي وضعها أئمة المحدثين لمعرفة الأسانيد والرواة وأسمائهم وكيفية أخذ بعضهم عن بعض وأحوالهم وطبقاتهم واختلاف اصطلاحاتهم. وتحصيل ذلك ان الإجماع واقع على وجود العمل بالخير الثابت عن رسول الله وذلك بشرط أن يغلب على الظن صدقه.
فيجب على المجتهد تحقيق الطرق التي تحصل ذلك الظن. وذلك بالنظر في أسانيد الحديث بمعرفة رواته بالعدالة والضبط والإتقان والبراءة من السهو والغفلة. بوصف عدول الأمة لهم بذلك. ثم تفاوت مراتبهم فيه. ثم كيفية رواية بعضهم عن بعض. بسماع الراويّ من الشيخ أو قراءته عليه أو سماعه يقرأ عليه. وكتابة الشيخ له أو مناولته أو أجازته في الصحة والقبول منقول عنهم. وأعلى مراتب المقبول عندهم الصحيح ثم الحسن. وأدون مراتبها الضعيف. وتشتمل على المرسل والمنقطع والفصل والعلل والشاذ والغريب والمنكر: فمنها ما اختلفوا في رده ومنها ما اجتمعوا عليه. وذلك شأنهم في الصحيح: فمنه ما اجتمعوا على قبوله وصحته. ومنه ما اختلفوا فيه. وبينهم في تفسير هذه الألقاب اختلاف كثير ثم اتبعوا ذلك بالكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق. ووضعوا لهذه الفصول كلها قانونا كفيلا ببيان تلك المراتب والألقاب وسلامة الطرق عن دخول النقص فيها. وأول من وضع في هذا القانون من فحول أئمة الحديث أبو عبد الله الحاكم وهو الّذي هذبه وأظهر محاسنه. وتواليفه فيه مشهورة. ثم كتب أئمتهم فيه من بعده. واشتهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمر بن الصلاح. كان في أوائل المائة السابعة وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة حتى يتعين قبولها أو ردها. واعلم أن رواة السنة من الصحابة والتابعين معروفون في أوصار الإسلام. منهم بالحجاز وبالكوفة والبصرة ثم بالشام ومصر. والجميع معروفون ومشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة. لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط. بتجافيهم عن قبول المستورين المجهولة أحوالهم.
[3] وفي نسخة أخرى: وسيّد.(1/558)
وأسانيدها المختلفة. وربّما يقع إسناد الحديث من طرق متعدّدة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب متعدّدة باختلاف المعاني الّتي اشتمل عليها. وجاء محمّد بن إسماعيل البخاريّ إمام المحدّثين في عصره فخرّج أحاديث السّنّة على أبوابها في مسندة الصّحيح بجميع الطّرق الّتي للحجازيّين والعراقيّين والشّاميّين. واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرّر الأحاديث يسوقها في كلّ باب بمعنى ذلك الباب الّذي تضمّنه الحديث فتكرّرت لذلك أحاديثه حتّى يقال: إنّه اشتمل على تسعة [1] آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكرّرة وفرق الطّرق والأسانيد عليها مختلفة في كلّ باب. ثمّ جاء الإمام مسلم بن الحجّاج القشيريّ رحمه الله تعالى فألّف مسندة الصّحيح. حذا فيه حذو البخاريّ في نقل المجمع عليه وحذف المتكرّر منها وجمع الطّرق والأسانيد وبوّبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصّحيح كلّه. وقد استدرك النّاس عليهما في ذلك. ثمّ كتب أبو داود السّجستانيّ وأبو عيسى التّرمذيّ وأبو عبد الرّحمن النّسائيّ في السّنن بأوسع من الصّحيح وقصدوا ما توفّرت فيه شروط العمل إمّا من الرّتبة العالية في الأسانيد وهو الصّحيح كما هو معرف وإمّا من الّذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسّنّة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملّة وهي أمّهات كتب الحديث في السّنّة فإنّها وإن تعدّدت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشّروط والاصطلاحات كلّها هي علم الحديث وربّما يفرد عنها النّاسخ والمنسوخ فيجعل فنّا برأسه وكذا الغريب. وللنّاس فيه تآليف مشهورة ثمّ المؤتلف والمختلف. وقد ألّف النّاس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمّتهم أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الّذي هذّبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب للمتأخّرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصّلاح كان لعهد أوائل المائة السّابعة وتلاه
__________
[1] قوله تسعة الّذي في النووي على مسلم انها سبعة بتقديم السين فحرره نصر.(1/559)
محيي الدّين النّوويّ بمثل ذلك. والفنّ شريف في مغزاه لأنّه معرفة ما يحفظ به السّنن المنقولة عن صاحب الشّريعة. وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدّمين إذ العادة تشهد بأنّ هؤلاء الأئمّة على تعدّدهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السّنّة أو يتركوه حتّى يعثر عليه المتأخّر، هذا بعيد عنهم وإنّما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمّهات المكتوبة وضبطها بالرّواية عن مصنّفيها والنّظر في أسانيدها إلى مؤلّفها وعرض ذلك على ما تقرّر في علم الحديث من الشّروط والأحكام لتتّصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمّهات الخمس إلّا في القليل. فأمّا البخاريّ وهو أعلاها رتبة فاستصعب النّاس شرحه واستغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطّرق المتعدّدة ورجالها من أهل الحجاز والشّام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف النّاس فيهم.
ولذلك يحتاج إلى إمعان النّظر في التّفقه في تراجمه لأنّه يترجم التّرجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثمّ يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمّنه من المعنى الّذي ترجم به الباب. وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرّر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوفّ حقّ الشّرح كابن بطّال وابن المهلّب وابن التّين ونحوهم. ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاريّ دين على الأمّة يعنون أنّ أحدا من علماء الأمّة لم يوفّ ما يجب له من الشّرح بهذا الاعتبار. وأمّا صحيح مسلّم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبّوا عليه وأجمعوا على تفصيله على كتاب البخاريّ من غير الصّحيح ممّا لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التّراجم. وأملى الإمام المارزيّ من فقهاء المالكيّة عليه شرحا وسمّاه (المعلّم بفوائد مسلم) اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه ثمّ أكمله القاضي عيّاض من بعده وتمّمه وسمّاه إكمال المعلّم وتلاهما محيي(1/560)
الدّين النّوويّ بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحا وافيا. وأمّا كتب السّنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلّا ما يختصّ بعلم الحديث فكتب النّاس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها والأسانيد الّتي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السّنّة. واعلم أنّ الأحاديث قد تميّزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزّلها أئمّة الحديث وجهابذته وعرّفوها. ولم يبق طريق في تصحيح ما يصحّ من قبل. ولقد كان الأئمّة في الحديث يعرّفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنّه قلب عن وضعه ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمّد بن إسماعيل البخاريّ حين ورد على بغداد وقصد المحدّثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: «لا أعرف هذه ولكن حدّثني فلان» . ثمّ أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصّحيح وردّ كلّ متن إلى سنده وأقرّوا له بالإمامة. واعلم أيضا أنّ الأئمّة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصّناعة والإقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها ومالك رحمه الله إنّما صحّ عنده ما في كتاب الموطّإ [1] وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها. وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسندة خمسون ألف حديث ولكلّ ما أدّاه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقوّل بعض المبغضين المتعسّفين إلى أنّ منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلّت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمّة لأنّ الشّريعة إنّما تؤخذ من الكتاب والسّنّة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعيّن عليه طلبه وروايته والجدّ والتّشمير في ذلك ليأخذ الدّين عن أصول صحيحة ويتلقّى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنّما قلّل منهم من قلّل
__________
[1] الّذي في شرح الزرقاني على الموطأ حكاية أقوال خمسة في عدة أحاديثه أولها 500 ثانيها 700 ثالثها ألف ونيف رابعها 1720 خامسها 666 وليس فيه قول بما في هذه النسخة قاله نصر الهوريني.(1/561)
الرّواية لأجل المطاعن الّتي تعترضه فيها والعلل الّتي تعرض في طرقها سيّما والجرح مقدّم عند الأكثر فيؤدّيه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد ويكثر ذلك فتقلّ روايته لضعف في الطّرق.
هذا مع أنّ أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأنّ المدينة دار الهجرة ومأوى الصّحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر.
والإمام أبو حنيفة إنّما قلّت روايته لما شدّد في شروط الرّواية والتّحمّل وضعف رواية الحديث اليقينيّ إذا عارضها الفعل النّفسيّ. وقلّت من أجلها رواية فقلّ حديثه. لأنّه ترك رواية الحديث متعمّدا فحاشاه من ذلك. ويدلّ على أنّه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتّعويل عليه واعتباره ردّا وقبولا. وأمّا غيره من المحدّثين وهم الجمهور فتوسّعوا في الشّروط وكثر حديثهم والكلّ عن اجتهاد وقد توسّع أصحابه من بعده في الشّروط وكثرت روايتهم.
وروى الطّحطاوي [1] فأكثر وكتب مسندة وهو جليل القدر إلّا أنّه لا يعدل الصّحيحين لأنّ الشّروط الّتي اعتمدها البخاريّ ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمّة كما قالوه. وشروط الطّحطاويّ غير متّفق عليها كالرّواية عن المستور الحال وغيره فلهذا قدّم الصّحيحان بل وكتب السّنن المعروفة عليه لتأخّر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصّحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحّة ما فيهما من الشّروط المتّفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحقّ النّاس بالظّنّ الجميل بهم والتماس المخارج الصّحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الأمور.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطحاوي.(1/562)
الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من الفرائض
الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين بالوجوب والحذر [1] والنّدب والكراهة والإباحة وهي متلقّاة من الكتاب والسّنّة وما نصبه الشّارع لمعرفتها من الأدلّة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلّة قيل لها فقه. وكان السّلف يستخرجونها من تلك الأدلّة على اختلاف فيما بينهم. ولا بدّ من وقوعه ضرورة.
فإنّ الأدلّة غالبها من النّصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها وخصوصا الأحكام الشرعيّة اختلاف بينهم معروف. وأيضا فالسّنّة مختلفة الطّرق في الثّبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى التّرجيح وهو مختلف أيضا. فالأدلّة من غير النّصوص مختلف فيها وأيضا فالوقائع المتجدّدة لا توفّى بها النّصوص. وما كان منها غير ظاهر في المنصوص [2] فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما وهذه كلّها إشارات [3] للخلاف ضروريّة الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمّة من بعدهم. ثمّ إنّ الصّحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدّين يؤخذ عن جميعهم. وإنّما كان ذلك مختصّا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقّوه من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو ممّن سمعه منهم ومن عليتهم. وكانوا يسمّون لذلك القرّاء أي الّذين يقرءون الكتاب لأنّ العرب كانوا أمّة أمّيّة، فاختصّ من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملّة. ثمّ عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمّيّة من العرب بممارسة الكتاب وتمكّن الاستنباط
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والحظر.
[2] وفي نسخة أخرى: النصوص.
[3] وفي نسخة أخرى: مثارات.(1/563)
وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلما فبدّلوا باسم الفقهاء والعلماء من القرّاء. وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرّأي والقياس وهم أهل العراق وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلا في أهل العراق لما قدّمناه فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرّأي. ومقدّم جماعتهم الّذي استقرّ المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشّافعيّ من بعده. ثمّ أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به وهم الظّاهريّة. وجعلوا المدارك [1] كلّها منحصرة في النّصوص والإجماع وردّوا القياس الجليّ والعلّة المنصوصة إلى النّصّ، لأنّ النّصّ على العلّة نصّ على الحكم في جميع محالّها. وكان إمام هذا المذهب داود بن عليّ وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثّلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمّة. وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصّحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلّها أصول واهية وشذّ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل [2] الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح. فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم. فكتب الشّيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم [3] قائمة في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك. ولكلّ منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. ثمّ درس مذهب أهل الظّاهر اليوم بدروس أئمّته وإنكار الجمهور على منتحله ولم يبق إلّا في الكتب المجلّدة [4] وربّما يعكف كثير من الطّالبين ممّن تكلّف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم فلا يخلو بطائل ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه وربّما عدّ بهذه النّحلة من أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مدارك الشرع.
[2] وفي نسخة أخرى: ولم يحفل.
[3] وفي نسخة أخرى: دولهم.
[4] وفي النسخة الباريسية: في الكتب المخلدة.(1/564)
البدع بنقله [1] العلم من الكتب من غير مفتاح المعلّمين. وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علوّ رتبته في حفظ الحديث وصار إلى مذهب أهل الظّاهر ومهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم. وخالف إمامهم داود وتعرّض للكثير من الأئمّة المسلمين فنقم النّاس ذلك عليه وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا، وتلقّوا كتبه بالإغفال والتّرك حتّى إنّها ليحصر بيعها بالأسواق وربّما تمزّق في بعض الأحيان. ولم يبق إلا مذهب أهل الرّأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز.
فأمّا أهل العراق فإمامهم الّذي استقرّت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النّعمان بن ثابت ومقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصا مالك والشّافعيّ. وأمّا أهل الحجاز فكان إمامهم مالك ابن أنس الأصبحيّ إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى واختصّ بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة لأنّه رأى أنّهم فيما ينفسون [2] عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الآخذين ذلك عنه. وصار ذلك عنده من أصول الأدلّة الشّرعيّة. وظنّ كثير أنّ ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأنّ دليل الإجماع لا يخصّ أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمّة. واعلم أنّ الإجماع إنّما هو الاتّفاق على الأمر الدّينيّ عن اجتهاد. ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى وإنّما اعتبره من حيث اتّباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشّارع صلوات الله وسلامه عليه.
وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعمّ الملّة [3] ذكرت في باب الإجماع والأبواب بها من حيث ما فيها من الاتّفاق الجامع بينها وبين الإجماع. إلّا أنّ اتّفاق أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بتلقيه.
[2] وفي نسخة أخرى: يتفقون.
[3] وفي النسخة الباريسية: (تعين ذلك نعم المسألة) وهو تحريف.(1/565)
الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلّة واتّفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. ولو ذكرت المسألة في باب فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتقريره أو مع الأدلّة المختلف فيها مثل مذهب الصّحابيّ وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها ثمّ كان من بعد مالك بن أنس محمّد بن إدريس المطّلبيّ الشّافعيّ رحمهما الله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختصّ بمذهب، وخالف مالكا رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. وكان من علية المحدّثين وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصّوا بمذهب آخر. ووقف التّقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلّدون لمن سواهم. وسدّ النّاس باب الخلاف وطرقه لمّا كثر تشعّب الاصطلاحات في العلوم. ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ولمّا خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه فصرّحوا بالعجز والإعواز وردّوا النّاس إلى تقليد هؤلاء كلّ من اختصّ به من المقلّدين. وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التّلاعب ولم يبق إلّا نقل مذاهبهم. وعمل كلّ مقلّد بمذهب من قلّده منهم بعد تصحيح الأصول واتّصال سندها بالرّواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدّعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمّة الأربعة. فأمّا أحمد بن حنبل فمقلّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرّواية وللأخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشّام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر النّاس حفظا للسّنّة ورواية الحديث وميلا بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن. وكان لهم ببغداد صولة وكثرة حتّى كانوا يتواقعون مع الشّيعة في نواحيها. وعظمت الفتنة من أجل ذلك ثمّ انقطع ذلك عند استيلاء التّتر عليها. ولم يراجع وصارت كثرتهم بالشّام. وأمّا أبو حنيفة فقلّده(1/566)
اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصّين وما وراء النّهر وبلاد العجم كلّها. ولمّا كان مذهبه أخصّ بالعراق ودار السّلام وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العبّاس فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشّافعيّة وحسنت مباحثهم في الخلافيّات، وجاءوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي النّاس. وبالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربيّ وأبو الوليد الباجيّ في رحلتهما.
وأمّا الشّافعيّ فمقلّدوه بمصر أكثر ممّا سواها وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النّهر وقاسموا الحنفيّة في الفتوى والتّدريس في جميع الأمصار.
وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيّات بأنواع استدلالاتهم. ثمّ درس ذلك كلّه بدروس المشرق وأقطاره. وكان الإمام محمّد بن إدريس الشّافعيّ لمّا نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. وكان من تلميذه بها: البويطيّ والمزنيّ وغيرهم، وكان بها من المالكيّة جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم ثمّ الحارس بن مسكين وبنوه ثمّ القاضي أبو إسحاق بن شعبان وأولاده. ثمّ انقرض فقه أهل السّنّة من مصر بظهور دولة الرّافضة وتداول بها فقه أهل البيت وتلاشى من سواهم [1] وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد، آخر المائة الرابعة على ما أعلم، من الحاجة والتقليب في المعاش. فتأذّن خلفاء العبيديّين بإكرامه، وإظهار فضله نعيا على بني العبّاس في اطّراح مثل هذا الإمام، والاغتباط به.
فنفقت سوق المالكيّة بمصر قليلا، إلى أن ذهبت دولة العبيديّين من الرّافضة على يد صلاح الدّين يوسف بن أيّوب فذهب منها فقه أهل البيت وعاد فقه الجماعة إلى الظّهور بينهم ورجع إليهم فقه الشّافعيّ وأصحابه من أهل العراق والشّام فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه واشتهر منهم محيي الدّين النّوويّ من الحلبة الّتي ربيت في ظلّ الدّولة الأيّوبيّة بالشّام وعزّ الدّين بن عبد السّلام أيضا. ثمّ ابن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكاد من سواهم يتلاشوا ويذهبوا.(1/567)
الرّقعة بمصر وتقيّ الدّين بن دقيق العيد ثمّ تقيّ الدّين السّبكيّ بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدّين البلقينيّ فهو اليوم أكبر الشّافعيّة بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر [1] . وأمّا مالك رحمه الله تعالى فاختصّ بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وإن كان يوجد في غيرهم إلّا أنّهم لم يقلّدوا غيره إلّا في القليل لما أنّ رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة. وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلّدوه دون غيره ممّن لم تصل إليهم طريقته. وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة الّتي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكيّ غضّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولمّا صار مذهب كلّ إمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقرّرة من مذاهب إمامهم. وصار ذلك كلّه يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النّوع من التّنظير أو التّفرقة واتّباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. وأهل المغرب جميعا مقلّدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللّبّان [2] والقاضي وأبي بكر الأبهريّ والقاضي أبي حسين [3] بن القصّار والقاضي عبد الوهّاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء من أهل العصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: ابن المنتاب.
[3] وفي النسخة الباريسية: أبو الحسن.(1/568)
والحارث بن مسكين وطبقتهم ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى اللّيثي، ولقي مالكا. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم وطبقته وبثّ مذهب مالك في الأندلس ودوّن فيه كتاب الواضحة. ثمّ دوّن العتبيّ من تلامذته كتاب العتبيّة.
ورحل من إفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أوّلا، ثمّ انتقل إلى مذهب مالك. وكتب على ابن القاسم [1] في سائر أبواب الفقه وجاء إلى القيروان بكتابه وسمّي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثمّ ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه وعارضه بمسائل الأسديّة فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودوّنها وأثبت ما رجع عنه منها وكتب لأسد [2] وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك النّاس كتابه واتّبعوا مدوّنة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمّى المدوّنة والمختلطة. وعكف أهل القيروان على هذه المدوّنة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبيّة. ثمّ اختصر ابن أبي زيد المدوّنة والمختلطة في كتابه المسمّى بالمختصر ولخّصه أيضا أبو سعيد البرادعيّ من فقهاء القيروان في كتابه المسمّى بالتّهذيب وأعتمده المشيخة من أهل إفريقية وأخذوا به وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبيّة وهجروا الواضحة وما سواها. ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمّهات بالشّرح والإيضاح والجمع فكتب أهل إفريقية على المدوّنة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللّخميّ وابن محرز التّونسيّ وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبيّة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمّهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النّوادر فاشتمل على جميع أقوال المذاهب وفرّع الأمّهات كلّها في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وكتب عن ابن القاسم.
[2] وفي نسخة أخرى: وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه.(1/569)
هذا الكتاب ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدوّنة وزخرت بحار المذهب المالكيّ في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان. ثمّ تمسّك بهما أهل المغرب بعد ذلك (إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخّص فيه طرق أهل المذهب في كلّ باب وتعديد أقوالهم في كلّ مسألة فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطّريقة المالكيّة بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشّر وابن اللهيث وابن الرّشيق وابن شاس. وكانت بالإسكندريّة في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم أدر عمّن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنّه جاء بعد انقراض دولة العبيديّين وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السّنّة من الشّافعيّة والمالكيّة ولمّا جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السّابعة) [1] عكف عليه الكثير من طلبة المغرب وخصوصا أهل بجاية لما كان
__________
[1] الموجود بين القوسين ورد في النسخة الباريسية كما يلي:
وتميزت للمذهب المالكي ثلاث طرق: للقرويين وكبيرهم سحنون الآخذ عن أبي القاسم، وللقرطبيين وكبيرهم ابن حبيب. الآخذ عن مالك ومطرف وابن الماجشون وأصبغ. وللعراقيين وكبيرهم القاضي إسماعيل وأصحابه. وكانت طريقة المصريين تابعة العراقيين وان القاضي عبد الوهاب انتقل إليها من بغداد آخر المائة الرابعة وأخذ أهلها عنه، وكانت للطريقة المالكية بمصر من لدن الحارث بن مسكين وابن ميسر وابن اللهيب وابن رشيق وكانت خافية بسبب ظهور الرافضة وفقه أهل البيت. وأما طريقة العراقيين. فكانت مهجورة عند أهل القيروان والأندلس لبعدها وخفاء مدركها وقلة اطلاعهم على مآخذهم فيها. والقوم أهل اجتهاد. وان كان خاصا. لا يرون التقليد ولا يرضونه طريقا. وكذلك نجد أهل المغرب والأندلس لا يأخذون برأي العراقيين فيما لا يجدون فيه رواية عن الإمام أو أحد من أصحابه. ثم امتزجت الطرق بعد ذلك ورحل أبو بكر الطرطوشي من الأندلس في المائة السادسة. ونزل البيت المقدس وأوطنه. وأخذ عنه أهل مصر والإسكندرية ومزجوا طريقة الأندلسية بطريقتهم المصرية. وكان من جملة أصحابه الفقيه سند صاحب الطراز وأصحابه. وأخذ عنهم جماعة.
كان منهم بنو عوف وأصحابه. وأخذ عنهم أبو عمر بن الحاجب وبعده شهاب الدين القرافي. واتصل ذلك في تلك الأمصار. وكان فقه الشافعية أيضا قد انقرض بمصر منذ دولة العبيديين من أهل البيت. فظهر بعدهم في الفقهاء الذين جددوه: الرافعي فقيه خراسان منهم. وظهر بالشام محيي الدين النووي من تلك الحلبة ثم امتزجت طريقة المغاربة من المالكية أيضا بطريقة العراقيين، من لدن الشرمساحي. كان بالإسكندرية ظاهرا في الطريقة المغربية والمصرية. فبنى المستنصر العباسي أبو المعتصم وابن الظاهر مدرسته ببغداد واستدعاه لها من خلفاء العبيديين الذين كانوا يومئذ بالقاهرة فأذنوا له في الرحيل إليه. فلما قدم بغداد ولاه تدريس المستنصرية، وأقام هنالك إلى أن استولى هولاكو على بغداد سنة ست وخمسين من المائة السابعة. وخلص من تيار تلك النكبة وخلا سبيله.
فعاش لك إلى أن مات في أيام ابنه أحمد ابغا. وتلخصت طرق هؤلاء المصريين ممتزجة بطرق المغاربة كما(1/570)
كبير مشيختهم أبو عليّ ناصر الدّين الزّواويّ هو الّذي جلبه إلى المغرب. فإنّه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربيّة وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه لما يؤثر عن الشّيخ ناصر الدّين من التّرغيب فيه.
وقد شرحه جماعة من شيوخهم: كابن عبد السّلام وابن رشد [1] وابن هارون وكلّهم من مشيخة أهل تونس وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السّلام وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التّهذيب في دروسهم. وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
الفصل الثامن في علم الفرائض
وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة ممّا تصحّ باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها. وذلك إذا هلك أحد الورثة وانكسرت سهامه على فروض ورثته فإنّه حينئذ يحتاج إلى حسب تصحيح [2] الفريضة الأولى حتّى يصل أهل الفروض جميعا في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدّد لذلك بعدد أكثر. وبقدر ما تحتاج إلى الحسبان وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقرّ بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحّح على الوجهين حينئذ. وينظر مبلغ السّهام ثمّ تقسم التّركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. وكلّ ذلك يحتاج إلى الحسبان وكان
__________
[ () ] ذكرناه في مختصر أبي عمر ماجب، بذكر فقه الباب في مسائل المتفرقة، وبذكر الأقوال في كل مسألة على تعدادها فجاء كالبرنامج للمذهب. ولما ظهر بالمغرب آخر المائة السابعة.
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن راشد.
[2] وفي نسخة أخرى: حسبان يصحّح.(1/571)
غالبا فيه وجعلوه فنّا مفردا. وللنّاس فيه تآليف كثيرة أشهر ما عند المالكيّة من متأخّري الأندلس كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ ثمّ الجعديّ ومن متأخّري إفريقية ابن النّمر [1] الطّرابلسيّ وأمثالهم. وأمّا الشّافعيّة والحنفيّة والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتّساع الباع في الفقه والحساب وخصوصا أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله من أهل المذاهب وهو فنّ شريف لجمعه بين المعقول والمنقول والوصول به إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينيّة عند ما تجهل الحظوظ وتشكل على القاسمين. وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية. ومن المصنّفين من يحتاج فيها إلى الغلوّ في الحساب وفرض المسائل الّتي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب كالجبر والمقابلة والتّصرّف في الجذور وأمثال ذلك فيملئون بها تآليفهم. وهو وإن لم يكن متداولا بين النّاس ولا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلّة وقوعه فهو يفيد المران وتحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه. وقد يحتجّ الأكثر من أهل هذا الفنّ على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ الفرائض ثلث العلم وأنّها أوّل ما ينسى وفي رواية نصف العلم خرّجه أبو نعيم الحافظ واحتجّ به أهل الفرائض بناء على أنّ المراد بالفرائض فروض الوراثة. والّذي يظهر أنّ هذا المحلّ [2] بعيد وأنّ المراد بالفرائض إنّما هي الفرائض التّكليفيّة في العبادات والعادات والمواريث وغيرها.
وبهذا المعنى يصحّ فيها النّصفيّة والثّلثيّة. وأمّا فروض الوراثة فهي أقلّ من ذلك كلّه بالنّسبة إلى علم [3] الشّريعة كلّها يعني هذا المراد أنّ حمل لفظ الفرائض على هذا الفنّ المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنّما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن المنمر.
[2] وفي نسخة أخرى: المحمل
[3] وفي نسخة أخرى: علوم.(1/572)
عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا إلّا على عمومه مشتقّا من الفرض الّذي هو لغة التّقدير أو القطع. وما كان المراد به في إطلاقه إلّا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشّرعيّة فلا ينبغي أن يحمل إلّا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل التاسع في أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات
اعلم أنّ أصول الفقه من أعظم العلوم الشّرعيّة وأجلّها قدرا وأكثرها فائدة وهو النّظر في الأدلّة الشّرعيّة من حيث تؤخذ منها الأحكام والتّآليف [1] . وأصول الأدلّة الشّرعيّة هي الكتاب الّذي هو القرآن ثمّ السّنّة المبنيّة له. فعلى عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانت الأحكام تتلقّى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبيّنه بقوله وفعله بخطاب شفاهيّ لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذّر الخطاب الشّفاهيّ وانحفظ القرآن بالتّواتر. وأمّا السّنّة فأجمع الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولا أو فعلا بالنّقل الصّحيح الّذي يغلب على الظّنّ صدقه. وتعيّنت دلالة الشّرع في الكتاب والسّنّة بهذا الاعتبار ثمّ ينزّل الإجماع منزلتهما لإجماع الصّحابة على النّكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلّا عن مستند لأنّ مثلهم لا يتّفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلّة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشّرعيّات. ثمّ نظرنا في طرق استدلال الصّحابة والسّلف بالكتاب والسّنّة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التكاليف.(1/573)
وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإنّ كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النّصوص الثّابتة فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نصّ عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصحّح تلك المساواة بين الشّبيهين أو المثلين. حتّى يغلب على الظّنّ أنّ حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه، وهو القياس وهو رابع الأدلّة. واتّفق جمهور العلماء على أنّ هذه هي أصول الأدلّة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلّا أنّه شذوذ. وألحق بعضهم بهذه الأدلّة الأربعة أدلّة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أوّل مباحث هذا الفنّ النّظر في كون هذه أدلّة. فأمّا الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه والتّواتر في نقله، فلم يبق فيه مجال للاحتمال.
وأمّا السّنّة وما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصحّ منها كما قلناه، معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه من إنفاذ الكتب والرّسل إلى النّواحي بالأحكام والشّرائع آمرا وناهيا. وأمّا الإجماع فلاتّفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثّابتة للأمّة.
وأمّا القياس فبإجماع الصّحابة رضي الله عنهم عليه كما قدّمناه. هذه أصول الأدلّة. ثمّ إنّ المنقول من السّنّة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنّظر في طرق النّقل وعدالة النّاقلين لتتميّز الحالة المحصّلة للظّنّ بصدقة الّذي هو مناط وجوب العمل بالخير. وهذه أيضا من قواعد الفنّ. ويلحق بذلك عند التّعارض بين الخبرين وطلب المتقدّم منها معرفة النّاسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه. ثمّ بعد ذلك يتعيّن النّظر في دلالة [1] الألفاظ وذلك أنّ استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقّف على معرفة الدّلالات الوضعيّة مفردة ومركّبة. والقوانين اللّسانيّة في ذلك هي علوم النّحو والتّصريف والبيان. وحين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: دلالات.(1/574)
كان الكلام [1] ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنّها جبلّة وملكة. فلمّا فسدت الملكة في لسان العرب قيّدها الجهابذة المتجرّدون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثمّ إنّ هناك استفادات أخرى خاصّة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشّرعيّة بين المعاني من أدلّتها الخاصّة من تراكيب الكلام وهو الفقه. ولا يكفي فيه معرفة الدّلالات الوضعيّة على الأطلاق بل لا بدّ من معرفة أمور أخرى تتوقّف عليها تلك الدّلالات الخاصّة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصّل أهل الشّرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أنّ اللّغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معناه معا والواو لا تقتضي التّرتيب والعامّ إذا أخرجت أفراد الخاصّ منه هل يبقى حجّة فيما عداها؟ والأمر للوجوب أو النّدب وللفور أو التّراخي والنّهي يقتضي الفساد أو الصّحّة والمطلق هل يحمل على المقيّد؟ والنّصّ على العلّة كاف في التّعدّد أم لا [2] ؟ وأمثال هذه. فكانت كلّها من قواعد هذا الفنّ. ولكونها من مباحث الدّلالة كانت لغويّة. ثمّ إنّ النّظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفنّ لأنّ فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح [3] الوصف الّذي يغلب على الظّنّ أنّ الحكم علق به في الأصل من تبيّن أوصاف ذلك المحلّ أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلّها قواعد لهذا الفنّ. (واعلم) أنّ هذا الفنّ من الفنون المستحدثة في الملّة وكان السّلف في غنية عنه بما أنّ استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللّسانيّة. وأمّا القوانين الّتي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها. وأمّا الأسانيد فلم يكونوا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: اللسان.
[2] وفي النسخة الباريسية: في التعدي أو لا.
[3] وفي نسخة أخرى: وتنقيح.(1/575)
يحتاجون إلى النّظر فيها لقرب العصر وممارسة النّقلة وخبرتهم بهم. فلمّا انقرض السّلف وذهب الصّدر الأوّل وانقلبت العلوم كلّها صناعة كما قرّرناه من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلّة فكتبوها فنا قائما برأسه سمّوه أصول الفقه. وكان أوّل من كتب فيه الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلّم فيها في الأوامر والنّواهي والبيان والخبر والنّسخ وحكم العلّة المنصوصة من القياس. ثمّ كتب فقهاء الحنفيّة فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلّمون أيضا كذلك إلّا أنّ كتابة الفقهاء فيها أمسّ بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشّواهد وبناء المسائل فيها على النّكت الفقهيّة. والمتكلّمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقليّ ما أمكن لأنّه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفيّة فيها اليد الطولى من الغوص على النّكت الفقهيّة والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدّبّوسيّ من أئمّتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمّم الأبحاث والشّروط الّتي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذّبت مسائله وتمهّدت قواعده وعني النّاس بطريقة المتكلّمين فيه. وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلّمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزاليّ وهما من الأشعريّة وكتاب العهد [1] لعبد الجبّار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصريّ وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة قواعد هذا الفنّ وأركانه. ثمّ لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلّمين المتأخّرين وهما الإمام فخر الدّين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدّين الآمديّ في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفنّ بين التّحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلّة والاحتجاج والآمديّ مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأمّا كتاب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: كتاب العمد.(1/576)
المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدّين الأرمويّ في كتاب التّحصيل وتاج الدّين الأرمويّ في كتاب الحاصل واقتطف شهاب الدّين القرافيّ منهما مقدّمات وقواعد في كتاب صغير سمّاه التّنقيحات. وكذلك فعل البيضاويّ في كتاب المنهاج. وعني المبتدءون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من النّاس. وأمّا كتاب الإحكام للآمديّ وهو أكثر تحقيقا في المسائل فلخّصه أبو عمر بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثمّ اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلّمين في هذا الفنّ في هذه المختصرات. وأمّا طريقة الحنفيّة فكتبوا فيها كثيرا وكان من أحسن كتابة فيها، للمتقدّمين تأليف أبي زيد الدّبّوسيّ وأحسن كتابة المتأخّرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمّتهم وهو مستوعب وجاء ابن السّاعاتيّ من فقهاء الحنفيّة فجمع بين كتاب الإحكام وكتاب البزدويّ في الطّريقتين وسمّي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمّة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه.
والحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفنّ وتعيين موضوعاته وتعديد التّآليف المشهورة لهذا العهد فيه. والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنّه وكرمه إنّه على كلّ شيء قدير.
وأما الخلافات.
فاعلم أنّ هذا الفقه المستنبط من الأدلّة الشّرعيّة كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بدّ من وقوعه لما قدّمناه. واتّسع ذلك في الملّة اتّساعا عظيما وكان للمقلّدين أن يقلّدوا من شاءوا منهم ثمّ لمّا انتهى ذلك إلى الأئمّة الأربعة من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظّنّ بهم اقتصر النّاس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعّب العلوم الّتي هي موادّه باتّصال الزّمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فأقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملّة(1/577)
وأجري الخلاف بين المتمسّكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النّصوص الشّرعيّة والأصول الفقهيّة. وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كلّ منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتجّ بها كلّ على صحّة مذهبه الّذي قلّده وتمسّك به وأجريت في مسائل الشّريعة كلّها وفي كلّ باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشّافعيّ ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما وتارة بين مالك وأبي حنيفة والشّافعيّ يوافق أحدهما وتارة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمّة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصّنف من العلم يسمّى بالخلافيّات. ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد الّتي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلّا أنّ المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيّات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلّته. وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمّة وأدلّتهم ومران [1] المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه.
وتآليف الحنفيّة والشّافعيّة فيه أكثر من تآليف المالكيّة لأنّ القياس عند الحنفيّة أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النّظر والبحث. وأمّا المالكيّة فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر وأيضا فأكثرهم أهل الغرب وهم بادية غفل من الصّنائع إلّا في الأقلّ. وللغزاليّ رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ ولأبي بكر العربيّ من المالكيّة كتاب التّلخيص جلبه من المشرق. ولأبي زيد الدّبّوسيّ كتاب التّعليقة ولابن القصّار من شيوخ المالكيّة عيون الأدلّة وقد جمع ابن السّاعاتيّ في مختصره في أصول الفقه جميع ما يبنى عليها من الفقه الخلافيّ مدرجا في كلّ مسألة ما يبنى عليها من الخلافيّات.
وأما الجدال
وهو معرفة آداب المناظرة الّتي تجري بين أهل المذاهب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وميزات.(1/578)
الفقهيّة وغيرهم فإنّه لمّا كان باب المناظرة في الرّدّ والقبول متّسعا وكلّ واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمّة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرّدّ والقبول وكيف يكون حال المستدلّ والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا وكيف يكون مخصوصا [1] منقطعا ومحلّ اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السّكوت ولخصمه الكلام والاستدلال.
ولذلك قيل فيه إنّه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال الّتي يتوصّل بها إلى حفظ رأي وهدمه سواء كان ذلك الرّأي من الفقه أو غيره. وهي طريقتان طريقة البزدويّ وهي خاصّة بالأدلّة الشّرعيّة من النّصّ والإجماع والاستدلال وطريقة العميديّ وهي عامّة في كلّ دليل يستدلّ به من أيّ علم كان وأكثره استدلال. وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرنا النّظر المنطقيّ كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطيّ والسّوفسطائيّ.
إلّا أنّ صور الأدلّة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرّى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميديّ هو أوّل من كتب فيها ونسبت الطّريقة إليه. وضع الكتاب المسمّى بالإرشاد مختصرا وتبعه من بعده من المتأخّرين كالنّسفيّ وغيره جاءوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطّريقة التّآليف. وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتّعليم في الأمصار الإسلاميّة. وهي مع ذلك كماليّة وليست ضروريّة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مخصوصا.(1/579)
الفصل العاشر في علم الكلام
هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة. وسرّ هذه العقائد الإيمانيّة هو التّوحيد. فلنقدّم هنا لطيفة في برهان عقليّ يكشف لنا عن التّوحيد على أقرب الطّرق والمآخذ ثمّ نرجع إلى تحقيق علمه [1] وفيما ينظر ويشير إلى حدوثه في الملّة وما دعا إلى وضعه فنقول: اعلم أنّ الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذّوات أو من الأفعال البشريّة أو الحيوانيّة فلا بدّ لها من أسباب متقدّمة عليها بها تقع في مستقرّ العادة وعنها يتمّ كونه. وكلّ واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلا بدّ له من أسباب أخرى ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتّى تنتهي إلى مسبّب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلّا هو. وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسّح وتتضاعف [2] طولا وعرضا ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلّا العلم المحيط سيّما الأفعال البشريّة والحيوانيّة فإنّ من جملة أسبابها في الشّاهد القصود والإرادات إذ لا يتمّ كون الفعل إلّا بإرادته والقصد إليه. والقصود والإرادات أمور نفسانيّة ناشئة في الغالب عن تصوّرات سابقة يتلو بعضها بعضا. وتلك التّصوّرات هي أسباب قصد الفعل وقد تكون أسباب تلك التّصوّرات تصوّرات أخرى وكلّ ما يقع في النّفس من التّصوّرات مجهول سببه، إذ لا يطّلع أحد على مبادئ الأمور النّفسانيّة ولا على ترتيبها. إنّما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنّما يحيط علما في الغالب بالأسباب الّتي هي طبيعة ظاهرة
__________
[1] أي علم الكلام.
[2] وفي نسخة أخرى: تتضاعف فتنفسخ.(1/580)
ويقع في مداركها على نظام وترتيب لأنّ الطّبيعة محصورة للنّفس وتحت طورها.
وأمّا التّصوّرات فنطاقها أوسع من النّفس لأنّها للعقل الّذي هو فوق طور النّفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة. وتأمّل من ذلك حكمة الشّارع في نهيه عن النّظر إلى الأسباب والوقوف معها فإنّه واد يهيم فيه الفكر ولا يحلو [1] منه بطائل ولا يظفر بحقيقة. قال الله: «ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 6: 91» . وربّما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلّت قدمه وأصبح من الضّالين الهالكين نعوذ باللَّه من الحرمان والخسران المبين. ولا تحسبنّ أنّ هذا الوقوف أو الرّجوع عنه في قدرتك واختيارك بل هو لون يحصل للنّفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرّزنا منها. فلنتحرّز من ذلك بقطع النّظر عنها جملة. وأيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبّباتها مجهول لأنّها إنّما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشّاهد بالاستناد إلى الظّاهر.
وحقيقة التّأثير وكيفيّته مجهولة، «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . فلذلك أمرنا بقطع النّظر عنها وإلغائها جملة والتّوجّه إلى مسبّب الأسباب كلّها وفاعلها وموجدها لترسخ صفة التّوحيد في النّفس على ما علّمنا الشّارع الّذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا لاطّلاعه على ما وراء الحسّ. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من مات يشهد أن لا إله إلّا الله دخل الجنّة» . فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقّت عليه كلمة الكفر وأن سبح في بحر النّظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فأنا الضّامن له أن لا يعود إلّا بالخيبة. فلذلك نهانا الشّارع عن النّظر في الأسباب وأمرنا بالتّوحيد المطلق «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 1- 4» [2] ولا تثقنّ بما يزعم لك الفكر من أنّه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كلّه
__________
[1] لم يحل بطائل: أي لم يظفر ولم يستفد منه (لسان العرب)
[2] سورة الإخلاص.(1/581)
وسفه رأيه في ذلك. واعلم أنّ الوجود عند كلّ مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحقّ من ورائه. ألا ترى الأصمّ كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيّات ولولا ما يردّهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافّة لما أقرّوا به لكنّهم يتّبعون الكافّة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلّيّة فإذا علمت هذا فلعلّ هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأنّ إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق النّاس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط. فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشّارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنّه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها.
غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التّوحيد والآخرة وحقيقة النّبوة وحقائق الصّفات الإلهيّة وكلّ ما وراء طوره فإنّ ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الّذي يوزن به الذّهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك. على أنّ الميزان في أحكامه غير صادق لكنّ العقل قد يقف عنده ولا يتعدّى طوره حتّى يكون له أن يحيط باللَّه وبصفاته فإنّه ذرّة من ذرّات الوجود الحاصل منه. وتفطّن في هذا الغلط ومن يقدّم العقل على السّمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبيّن لك الحقّ من ذلك وإذ تبيّن ذلك فلعلّ الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضلّ العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذا التّوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيّات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها(1/582)
إذ لا فاعل غيره وكلّها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنّما هو من حيث صدورنا عنه لا غير وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصّدّيقين: «العجز عن الإدراك إدراك» . ثمّ إنّ المعتبر في هذا التّوحيد ليس هو الإيمان فقط الّذي هو تصديق حكميّ فإنّ ذلك من حديث النّفس وإنّما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيّف بها النّفس كما أنّ المطلوب من الأعمال والعبادات أيضا حصول ملكة الطّاعة والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتّى ينقلب المريد السّالك ربّانيّا. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتّصاف. وشرحه أنّ كثيرا من النّاس يعلم أنّ رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشّريعة وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرّ عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التّمسّح عليه للرّحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنوّ والصّدقة. فهذا إنّما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتّصاف.
ومن النّاس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأنّ رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأوّل وهو الاتّصاف بالرّحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه والتمس الثّواب في الشّفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه. ثمّ يتصدّق عليه بما حضره من ذات يده وكذا علمك بالتّوحيد مع اتّصافك به والعلم حاصل عن الاتّصاف ضرورة وهو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتّصاف. وليس الاتّصاف بحاصل عن مجرّد العلم حتّى يقع العمل ويتكرّر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتّصاف والتّحقيق ويجيء العلم الثّاني النّافع في الآخرة. فإنّ العلم الأوّل المجرّد عن الاتّصاف قليل الجدوى والنّفع وهذا علم أكثر النّظّار والمطلوب إنّما هو العلم الحاليّ النّاشئ عن العادة. واعلم أنّ الكمال عند الشّارع في كلّ ما كلف به إنّما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثّاني الحاصل عن الاتّصاف وما طلب عمله من(1/583)
العبادات فالكمال فيها في حصول الاتّصاف والتّحقّق بها. ثمّ إنّ الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصّل لهذه الثّمرة الشّريفة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «في رأس العبادات جعلت قرّة عيني في الصّلاة» فإنّ الصّلاة صارت له صفة وحالا يجد فيها منتهى لذّاته وقرّة عينه وأين هذا من صلاة النّاس ومن لهم بها؟ «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ 107: 4- 5» [1] اللَّهمّ وفّقنا «واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 1: 6- 7» [2] فقد تبيّن لك من جميع ما قرّرناه أنّ المطلوب في التّكاليف كلّها حصول ملكة راسخة في النّفس يحصل [3] عنها علم اضطراريّ للنّفس هو التّوحيد وهو العقيدة الإيمانيّة وهو الّذي تحصّل به السّعادة وأنّ ذلك سواء في التّكاليف القلبيّة والبدنيّة. ويتفهّم منه أنّ الإيمان الّذي هو أصل التّكاليف وينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب. أوّلها التّصديق القلبيّ الموافق للسان وأعلاها حصول كيفيّة من ذلك الاعتقاد القلبيّ وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التّصرّفات حتّى تنخرط الأفعال كلّها في طاعة ذلك التّصديق الإيمانيّ. وهذا أرفع مراتب الإيمان وهو الإيمان الكامل الّذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» وفي حديث هرقل لمّا سأل أبا سفيان بن حرب عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأحواله فقال في أصحابه: «هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا! قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أنّ ملكة الإيمان إذا استقرّت عسر على النّفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرّت فإنّها تحصل بمثابة الجبلّة والفطرة وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان وهي في المرتبة الثّانية من العصمة.
__________
[1] سورة الماعون: الآية 4 و 5.
[2] سورة الفاتحة: الآية 5 و 6.
[3] وفي نسخة أخرى: ينشأ.(1/584)
لأنّ العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا وهذه حاصلة للمؤمنيّة حصولا تابعا لأعمالهم وتصديقهم. وبهذه الملكة ورسوخها يقع التّفاوت في الإيمان كالّذي يتلى عليك من أقاويل السّلف. وفي تراجم البخاريّ رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه. مثل أنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وأنّ الصّلاة والصّيام من الإيمان وأنّ تطوّع رمضان من الإيمان والحياء من الإيمان. والمراد بهذا كلّه الإيمان الكامل الّذي أشرنا إليه وإلى ملكته وهو فعليّ. وأمّا التّصديق الّذي هو أوّل مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء وحمله على التّصديق منع من التّفاوت كما قال أئمّة المتكلّمين ومن اعتبر أواخر الأسماء وحمله على هذه الملكة الّتي هي الإيمان الكامل ظهر له التّفاوت. وليس ذلك بقادح في اتّحاد حقيقته الأولى الّتي هي التّصديق إذ التّصديق موجود في جميع رتبه لأنّه أقلّ ما يطلق عليه اسم الإيمان وهو المخلّص من عهدة الكفر والفيصل [1] بين الكافر والمسلم فلا يجزي أقلّ منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت وإنّما التّفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. واعلم أنّ الشّارع وصف لنا هذا الإيمان الّذي في المرتبة الأولى الّذي هو تصديق وعيّن أمورا مخصوصة كلّفنا التّصديق بها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا وهي العقائد الّتي تقرّرت في الدّين. قال صلّى الله عليه وسلّم حين سئل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» وهذه هي العقائد الإيمانيّة المقرّرة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبيّن لك حقيقة هذا الفنّ وكيفيّة حدوثه فنقول. اعلم أنّ الشّارع لمّا أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الّذي ردّ الأفعال كلّها إليه وأفرده به كما قدّمناه وعرفنا أنّ في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرّفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود وهو إذ ذاك متعذّر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلّفنا أوّلا: اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الفاصل.(1/585)
المخلوقين وإلّا لما صحّ أنّه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التّقدير ثمّ تنزيهه عن صفات النّقص وإلّا لشابه المخلوقين ثمّ توحيده بالاتّحاد وإلّا لم يتمّ الخلق للتّمانع ثمّ اعتقاد أنّه عالم قادر فبذلك تتمّ الأفعال شاهد قضيّته لكمال الاتّحاد [1] والخلق ومريد وإلّا لم يخصص شيء من المخلوقات ومقدّر لكلّ كائن وإلّا فالإرادة حادثة. وأنّه يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته بالإيجاد ولو كان لأمر فإن [2] كان عبثا فهو للبقاء السّرمديّ بعد الموت. ثمّ اعتقاد بعثة الرّسل للنّجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشّقاء والسّعادة وعدم معرفتنا بذلك وتمام لطفه بنا في الإيتاء [3] بذلك وبيان الطّريقين. وأنّ الجنّة للنّعيم وجهنّم للعذاب. هذه أمّهات العقائد الإيمانيّة معلّلة بأدلّتها العقليّة وأدلّتها من الكتاب والسّنّة كثيرة.
وعن تلك الأدلّة أخذها السّلف وأرشد إليها العلماء وحقّقها الأئمّة إلّا أنّه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتّناظر والاستدلال بالعقل وزيادة إلى النّقل. فحدث بذلك علم الكلام. ولنبيّن لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أنّ القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتّنزيه المطلق الظّاهر الدّلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب [4] كلّها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشّارع صلوات الله عليه وكلام الصّحابة والتّابعين تفسيرها على ظاهرها. ثمّ وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التّشبيه مرّة في الذات وأخرى في الصّفات. فأمّا السلف فغلبوا أدلّة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأنّ الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرّضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الإيجاد.
[2] وفي نسخة أخرى: ولو كان للغناء الصرف.
[3] وفي نسخة أخرى: الإنباء.
[4] السلوب من النوق: التي القت ولدها لغير تمام. وظبيه سلوب وسلب أي سلبت ولدها (لسان العرب) وهنا بمعنى ينقصها التأويل.(1/586)
الكثير منهم: اقرءوها كما جاءت أي آمنوا بأنّها من عند الله. ولا تتعرّضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. وشذّ لعصرهم مبتدعة اتّبعوا ما تشابه من الآيات وتوغّلوا في التّشبيه. ففريق أشبهوا [1] في الذّات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التّجسيم الصّريح ومخالفة آي التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأنّ معقوليّة الجسم تقتضي النّقص والافتقار. وتغليب آيات السّلوب في التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التّعلّق بظواهر هذه الّتي لنا عنها غنية وجمع بين الدّليلين بتأويلها ثمّ يفرّون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم لأنّه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كانا بالمعقوليّة واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقوليّة المتعارفة فقد وافقونا في التّنزيه ولم يبق إلّا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه.
ويتوقّف مثله على الأذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التّشبيه في الصّفات كإثبات الجهة والاستواء والنّزول والصّوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التّجسيم فنزعوا مثل الأوّلين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنّزول يعنون من الأجسام. واندفع ذلك بما اندفع به الأوّل، ولم يبق في هذه الظّواهر إلّا اعتقادات السّلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلّا يكرّ [2] النّفي على معانيها بنفيها مع أنّها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرّسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ ابن عبد البرّ وغيرهم فإنّهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدّالّة على ذلك في غضون كلامهم. ثمّ لمّا كثرت العلوم والصّنائع وولع النّاس بالتّدوين والبحث في سائر الأنحاء وألّف المتكلّمون في التّنزيه حدثت بدعة المعتزلة في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شبّهوا.
[2] يعود.(1/587)
تعميم هذا التّنزيه في آي السّلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدّد القديم بزعمهم وهو مردود بأنّ الصّفات ليست عين الذّات ولا غيرها وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأنّ معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السّمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللّفظ وإنّما هو إدراك المسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السّمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام الّتي تقوم بالنّفس فقضوا بأنّ القرآن مخلوق وذلك بدعة صرّح السّلف بخلافها. وعظم ضرر هذه البدعة ولقّنها بعض الخلفاء عن أئمّتهم فحمل النّاس عليها وخالفهم أئمّة السّلف فاستحلّ لخلافهم إيسار [1] كثير منهم ودماؤهم، وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السّنّة بالأدلّة العقليّة على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع وقام بذلك الشّيخ أبو الحسن الأشعريّ إمام المتكلّمين فتوسّط بين الطّرق ونفى التّشبيه وأثبت الصّفات المعنويّة وقصر التّنزيه على ما قصره عليه السّلف. وشهدت له الأدلّة المخصّصة لعمومه فأثبت الصّفات الأربع المعنويّة والسّمع والبصر والكلام القائم بالنّفس بطريق النّقل والعقل. وردّ على المبتدعة في ذلك كلّه وتكلّم معهم فيما مهّدوه لهذه البدع من القول بالصّلاح والأصلح والتّحسين والتّقبيح وكمّل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنّار والثّواب والعقاب. وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإماميّة من قولهم إنّها من عقائد الإيمان [2] وإنّه يجب على النّبيّ تعيينها والخروج
__________
[1] بمعنى أموال وفي نسخة أخرى ابشار.
[2] وفي كتاب الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي (أصل الشيعة وأصولها) ما يلي:
الإمامة: قد أنبأناك ان هذا هو الأصل الّذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين. وهو فرق جوهري أصلي. وما عداه من الفروق فرعية عرضية. كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعيّ وغيرهما. وعرفت أن مرادهم بالإمامة كونها منصبا إلهيا يختاره الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي. ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمرهم باتباعه. ويعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علي وينصبه علما للناس من بعده. وكان النبي يعلم أن الناس ذلك اليوم وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد(1/588)
عن العهدة في ذلك لمن هي له، وكذلك على الأمّة. وقصارى أمر الإمامة أنّها قضيّة مصلحيّة إجماعيّة ولا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفنّ وسمّوا مجموعه علم الكلام: إمّا لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإمّا لأنّ سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النّفسيّ. وكثر أتباع الشّيخ أبي الحسن الأشعريّ واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلانيّ فتصدّر للإمامة في طريقتهم وهذّبها ووضع المقدّمات العقليّة الّتي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء. وأنّ العرض لا يقوم بالعرض وأنّه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك ممّا تتوقّف عليه أدلّتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانيّة في وجوب اعتقادها لتوقّف تلك الأدلّة عليها وأنّ بطلان الدّليل يؤذن ببطلان المدلول. وجملت [1] هذه الطّريقة وجاءت من أحسن الفنون النّظريّة والعلوم الدّينيّة. إلّا أنّ صور الأدلّة فيها بعض الأحيان، على غير الوجه الصّناعيّ لسذاجة القوم ولأنّ صناعة المنطق الّتي تسير بها الأدلّة وتعتبر بها الأقيسة ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملّة، ولو ظهر منها بعض الشّيء فلم يأخذ به المتكلّمون لملابستها للعلوم الفلسفيّة المباينة للعقائد الشّرعيّة بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثمّ جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلّانيّ من أئمّة الأشعريّة إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطّريقة كتاب الشّامل وأوسع القول فيه. ثمّ لخّصه في كتاب الإرشاد واتّخذه النّاس إماما لعقائدهم. ثمّ انتشرت من بعد ذلك
__________
[ () ] من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والعرض. ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فأوحى إليه، «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ 5: 67» . فلم بدا من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غديرهم فنادى وجلهم يسمعون: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا اللَّهمّ نعم» فقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» إلى آخر ما قال. ثم أكّد ذلك في مواطن أخرى تلويحا وتصريحا، واشارة ونصحا حتى أدى الوظيفة وبلغ عند الله المعذرة (ص 107- 108) (طبعة دار البحار- بيروت) .
[1] وفي نسخة أخرى: كملت.(1/589)
علوم [1] المنطق في الملّة وقرأه النّاس وفرّقوا بينه وبين العلوم الفلسفيّة بأنّه قانون ومعيار للأدلّة فقط يسبر به الأدلّة منها كما يسبر من سواها. ثمّ نظروا في تلك القواعد والمقدّمات في فنّ الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين الّتي أدلّت إلى ذلك وربّما أنّ كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطّبيعيّات والإلهيّات. فلمّا سبروها بمعيار المنطق ردّهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطّريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمّى طريقة المتأخّرين وربّما أدخلوا فيها الرّدّ على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانيّة وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأوّل من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزاليّ رحمه الله وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم ثمّ توغّل المتأخّرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. واعلم أنّ المتكلّمين لمّا كانوا يستدلّون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود البارئ وصفاته وهو نوع استدلالهم غالبا. والجسم الطّبيعيّ الّذي ينظر فيه الفيلسوف في الطّبيعيّات وهو بعض من هذه الكائنات. إلّا أنّ نظره فيها مخالف لنظر المتكلّم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرّك ويسكن والمتكلّم ينظر فيه من حيث يدلّ على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيّات إنّما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ونظر المتكلّم في الوجود من حيث إنّه يدلّ على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنّما هو العقائد الإيمانيّة بعد فرضها صحيحة من الشّرع من حيث يمكن أن يستدلّ عليها بالأدلّة العقليّة فترفع البدع وتزول الشّكوك والشّبيه [2] عن تلك العقائد وإذا تأمّلت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علم.
[2] وفي نسخة أخرى: الشبه.(1/590)
حال الفنّ في حدوثه وكيف تدرّج كلام النّاس فيه صدرا بعد صدر وكلّهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلّة علمت حينئذ ما قرّرناه لك في موضوع الفنّ وأنّه لا يعدوه. ولقد اختلطت الطّريقتان عند هؤلاء المتأخّرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميّز أحد الفنّين من الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاويّ في الطّوالع ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلّا أنّ هذه الطّريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطّلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. وأمّا محاذاة طريقة السّلف بعقائد علم الكلام فإنّما هو في الطّريقة القديمة للمتكلّمين وأصلها كتاب الإرشاد وما حذا حذوه. ومن أراد إدخال الرّدّ على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزاليّ والإمام ابن الخطيب فإنّها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخّرين من بعدهم وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أنّ هذا العلم الّذي هو علم الكلام غير ضروريّ لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمّة، من أهل السّنّة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودوّنوا والأدلّة العقليّة إنّما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأمّا الآن فلم يبق منها إلّا كلام تنزّه البارئ عن كثير إيهاماته وإطلاقه ولقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مرّ بهم بعض المتكلّمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزّهون الله بالأدلّة عن صفات الحدوث وسمات النّقص. فقال: «نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب» لكنّ فائدته في آحاد النّاس وطلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السّنّة الجهل بالحجج النّظريّة على عقائدها. والله وليّ المؤمنين
.(1/591)
الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر
[1] اعلم أنّ عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر وآثارها والمكوّنات الثّلاثة عنها، الّتي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلّها متعلّقات القدرة الإلهيّة وعلى أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلّقة بالقدرة الّتي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتّب، وهي الأفعال البشريّة، ومنها غير منتظم ولا مرتّب، وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطّبع أو بالوضع، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بدّ من التفطّن بسببه أو علّته أو شرطه، وهي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلّا ثانيا عنها ولا يمكن إيقاع المتقدّم متأخّرا ولا المتأخر متقدّما. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلّا متأخّرا عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وشرع في العمل الّذي يوجد به ذلك الشّيء بدأ بالمبدإ الأخير الّذي انتهى إليه الفكر، فكان أوّل عمله. ثمّ تابع ما بعده إلى آخر المسبّبات الّتي كانت أوّل فكرته. مثلا: لو فكّر في إيجاد سقف يكنّه انتقل بذهنه إلى الحائط الّذي يدعمه، ثمّ إلى الأساس الّذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر. ثمّ يبدأ في العمل بالأساس، ثمّ بالحائط، ثمّ بالسّقف.
وهو آخر العمل.
وهذا معنى قولهم: (أوّل العمل آخر الفكرة، وأوّل الفكرة آخر العمل) ، فلا يتمّ فعل الإنسان في الخارج إلّا بالفكر في هذه المرتّبات لتوقّف بعضها على
__________
[1] هذا الفصل غير موجود في طبعة بولاق وبعض الطبعات الأخرى. نقلناه عن الطبعة الباريسية تحقيق وردت بعد: «فصل في الفكر الإنساني» .(1/592)
بعض. ثمّ يشرع في فعلها. وأوّل هذا الفكر هو المسبّب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأوّلها في العمل هو المسبّب الأوّل وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشريّة.
وأمّا الأفعال الحيوانيّة لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الّذي يعثر به الفاعل على التّرتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنّما تدرك بالحواسّ ومدركاتها متفرّقة خليّة من الرّبط لأنّه لا يكون إلّا بالفكر. ولمّا كانت الحواسّ المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنّما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخّرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كلّه في طاعته وتسخّره. وهذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30 [1] » فهذا الفكر هو الخاصّة البشريّة الّتي تميّز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسبّبات في الفكر مرتّبة تكون إنسانيّته. فمن النّاس من تتوالى له السببيّة في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيّته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشّطرنج: فإنّ في اللاعبين من يتصوّر الثّلاث حركات والخمس الّذي ترتيبها وضعيّ، ومنهم من يقصّر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأنّ لعب الشّطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسبّبات بالطبع، لكنّه مثال يحتذي به الناظر في تعقّل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا.
__________
[1] من آية (30) من سورة البقرة.(1/593)
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه [1]
إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم أنّ الإنسان هو مدنيّ الطبع، يذكرونه في إثبات النّبوّات وغيرها. والنسبة فيه إلى المدينة، وهي عندهم كناية عن الاجتماع البشريّ. ومعنى هذا القول، أنّه لا تمكّن حياة المنفرد من البشر، ولا يتمّ وجوده إلّا مع أبناء جنسه. وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه. وتلك المعاونة لا بدّ فيها من المفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة وما بعدها. وربّما تفضي المعاملة عند اتّحاد الأعراض إلى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة، والصداقة والعداوة. ويؤول إلى الحرب والسّلم بين الأمم والقبائل. وليس ذلك على أيّ وجه اتّفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر، كما تقدّم. جعل منتظما فيهم، ويسرّهم لإيقاعه على وجوه سياسيّة وقوانين حكميّة، ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، وعن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميّزوا القبائح والمفسدة، بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، وعوائد معروفة بينهم: فيفارقون الهمل من الحيوان، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد.
هذه المعاني الّتي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحسّ كلّ البعد ولا يتعمّق فيها الناظر، بل كلّها تدرك بالتجربة وبها يستفاد، لأنّها معان جزئيّة تتعلّق بالمحسوسات وصدقها وكذبها، يظهر قريبا في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. ويستفيد كلّ واحد من البشر القدر الّذي يسّر له منها مقتنصا له بالتّجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه، حتّى يتعيّن له ما يجب
__________
[1] نقل هذا الفصل أيضا عن الطبعة الباريسية.(1/594)
وينبغي، فعلا وتركا. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبّع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كلّ قضيّة. ولا بدّ بما تسعه التجربة من الزّمن. وقد يسهّل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلّد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقّن عنهم ووعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبّع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتّباعه، طال عناؤه في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه ومعاملاته سيّئة الأوضاع بادية الخلل، ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور: «من لم يؤدّبه والده أدّبه الزّمان» . أي من لم يلقّن الآداب في معاملة البشر من والديه- وفي معناهما المشيخة والأكابر- ويتعلّم ذلك منهم، رجع إلى تعلّمه بالطّبع من الواقعات على توالي الأيّام، فيكون الزمان معلّمه ومؤدّبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة الّتي في طبعه.
وهذا هو العقل التجريبيّ، وهو يحصل بعد العقل التمييزيّ الّذي تقع به الأفعال كما بيّناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظريّ الّذي تكفّل بتفسيره أهل العلوم، فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
الفصل الثالث عشر في علوم البشر وعلوم الملائكة
إنّا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصّحيح وجود ثلاثة عوالم: أوّلها: عالم الحسّ، ونعتبره بمدارك الحسّ الّذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك، ثمّ نعتبر الفكر الّذي اختصّ به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانيّة علما ضروريّا بما بين جنبينا من مدارك العلميّة الّتي هي فوق مدارك الحسّ، فتراه عالما آخر فوق(1/595)
عالم الحسّ. ثمّ نستدلّ على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره الّتي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعليّة، فنعلم أنّ هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربّما يستدلّ على هذا العالم الأعلى الروحانيّ وذواته بالرّؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور الّتي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصّحيحة منها، فنعلم أنّها حقّ ومن عالم الحقّ. وأمّا أضغاث الأحلام فصور خياليّة يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ. ولا نجد على هذا العالم الروحانيّ برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلا.
وما يزعمه الحكماء الإلهيّون في تفصيل ذواته وترتيبها، المسمّاة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقينيّ لاختلال شرط البرهان النّظريّ فيه، كما هو مقرّر في كلامهم في المنطق. لأنّ من شرطه أن تكون قضاياه أوّليّة ذاتيّة.
وهذه الذوات الروحانيّة مجهولة الذاتيّات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلّا ما نقتبسه من الشّرعيّات الّتي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنّه وجدانيّ مشهود في مداركنا الجسمانيّة والروحانيّة. ويشترك في عالم الحسّ مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الّذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجرّدة عن الجسمانيّة والمادّة، وعقل صرف يتّحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنّه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتّة.
وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كلّه مكتسب، والذات الّتي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادّة هيولانيّة تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا شيئا، حتّى(1/596)
تستكمل، ويصحّ وجودها بالموت في مادّتها وصورتها. فالمطلوبات فيها متردّدة بين النفي والإثبات دائما، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطّرفين. فإذا حصل وصار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة، وربّما أوضحها البرهان الصّناعيّ، لكنّه من وراء الحجاب. وليس كالمعاينة الّتي في علوم الملائكة. وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكيّ. فقد تبيّن أنّ البشر جاهل بالطبع للتردّد في علمه، وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعيّة. وكشف الحجاب الّذي أشرنا إليه إنّما هو بالرّياضة بالأذكار الّتي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء والمنكر، وبالتنزّه عن المتناولات المهمّة ورأسها الصوم، وبالوجهة إلى الله بجميع قواه. والله علّم الإنسان ما لم يعلم.
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
إنّا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهيّة خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانيّة فيهم على البشريّة في القوى الإدراكيّة والنزوعيّة من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنيّة، فتجدهم متنزّهين عن الأحوال الربّانيّة، من العبادة والذكر للَّه بما يقتضي معرفتهم به، مخبرين عنه بما يوحى إليهم في تلك الحالة، من هداية الأمّة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدّل فيهم كأنّه جبلّة فطرهم الله عليها. وقد تقدّم لنا الكلام في الوحي أوّل الكتاب في فصل المدركين للغيب. وبيّنّا لك أنّ الوجود كلّه في عوالمه البسيطة والمركّبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متّصلة كلّها اتّصالا لا ينخرم. وأنّ الذوات الّتي في آخر كلّ أفق من العوالم مستعدّة لأن تنقلب إلى الذات الّتي تجاوزها من الأسفل والأعلى، استعدادا طبيعيا، كما في العناصر(1/597)
الجسمانيّة البسيطة، وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة الّتي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والرويّة. وهذا الاستعداد الّذي في جانبي كلّ أفق من العوالم هو معنى الاتّصال فيها.
وفوق العالم البشريّ عالم روحانيّ، شهدت لنا به الآثار الّتي فينا منه، بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقّل محض، وهو عالم الملائكة، فوجب من ذلك كلّه أن يكون للنفس الإنسانيّة استعداد للانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات، وفي لمحة من اللّمحات. ثمّ تراجع بشريّتها وقد تلقّت في عالم الملكيّة ما كلّفت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر. وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة. والأنبياء كلّهم مفطورون عليه، كأنّه جبلّة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدّة والغطيط ما هو معروف عنهم. وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان، لا يلحقه الخطأ والزلل، ولا يقع فيه الغلط والوهم، بل المطابقة فيه ذاتيّة لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشريّة، لا يفارق علمهم الوضوح، استصحابا له من تلك الحالة الأولى، ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها، يتردّد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمّة الّتي بعثوا لها، كما في قوله تعالى: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ 41: 6» . فافهم ذلك وراجع ما قدّمناه لك أوّل الكتاب، في أصناف المدركين للغيب، يتّضح لك شرحه وبيانه، فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا. والله الموفّق
.(1/598)
الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بيّنا أوّل هذه الفصول أنّ الإنسان من جنس الحيوانات، وأنّ الله تعالى ميّزه عنها بالفكر الّذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزيّ أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه، وهو العقل التجريبيّ، أو يحصل به في تصوّر الموجودات غائبا وشاهدا، على ما هي عليه، وهو العقل النظريّ. وهذا الفكر إنّما يحصل له بعد كمال الحيوانيّة فيه، ويبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة والعلقة والمضغة. وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحسّ والأفئدة الّتي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ 16: 78» فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولى فقط، لجهله بجميع المعارف. ثمّ تستكمل صورته بالعلم الّذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانيّة في وجودها. وانظر إلى قوله تعالى مبدإ الوحي على نبيّه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ من عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5» أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتيّ والعلم الكسبيّ وأشارت إليه الآية الكريمة تقرّر فيه الامتنان عليه بأوّل مراتب وجوده، وهي الإنسانيّة. وحالتاه الفطريّة والكسبيّة في أوّل التنزيل ومبدإ الوحي. وكان الله عليما حكيما
.(1/599)
الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنّية والمبتدعة في الاعتقادات
اعلم أنّ الله سبحانه بعث إلينا نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنّعيم، وأنزل عليه الكتاب الكريم باللّسان العربيّ المبين، يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب، ومن ضروراته، ذكر صفاته سبحانه وأسمائه، ليعرّفنا بذاته، وذكر الروح المتعلّقة بنا، وذكر الوحي والملائكة، الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعيّن لنا الوقت في شيء منه. وثبّت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطّعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. وسمّى هذه الأنواع كلّها من الكتاب متشابها. وذمّ على اتباعها فقال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله، وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 3: 7 [1] » وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أنّ المحكمات هي المبيّنات الثابتة الأحكام. ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم:
المحكم المتّضح المعنى. وأمّا المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي الّتي تفتقر إلى نظر وتفسير يصحّح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. وعلى هذا قال ابن عبّاس: «المتشابه يؤمن به ولا يعمل به» وقال مجاهد وعكرمة: «كلّما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه»
__________
[1] الآية من سورة آل عمران.(1/600)
وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين. وقال الثّوريّ والشّعبيّ وجماعة من علماء السلف: «المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط السّاعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السّور، وقوله في الآية «هذه أم الكتاب» أي معظمه وغالبة والمتشابه أقلّه، وقد يردّ إلى المحكم. ثمّ ذمّ المتّبعين للمتشابه بالتّأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الّذي خوطبنا به.
وسمّاهم أهل زيغ، أي ميل عن الحقّ من الكفّار والزّنادقة وجهلة أهل البدع. وأنّ فعلهم ذلك قصد الفتنة الّتي هي الشّرك أو اللّبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم.
ثمّ أخبر سبحانه بأنّه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلّا هو فقال: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله 3: 7. ثمّ أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط. فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به. ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفا، ورجّحوه على العطف لأنّ الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنّما يكون إيمانا بالشاهد، لأنّهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا. ويعضد ذلك قوله: «كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنا 3: 7» ويدلّ على أنّ التأويل فيها غير معلوم للبشر. إنّ الألفاظ اللغويّة إنّما يفهم. منها المعاني الّتي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ، وإن جاءنا من عند الله فوّضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «إذا رأيتم الّذين يجادلون في القرآن، فهم الّذين عنى الله» ، فاحذروهم.
هذا مذهب السّلف في الآيات المتشابهة. وجاء في السّنّة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأنّ المنبع واحد.
وإذا تقرّرت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأمّا ما يرجع منها على ما ذكروه إلى السّاعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه، لأنّه لم يرد فيه(1/601)
لفظ مجمل ولا غيره وإنّما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصّه [1] في كتابه وعلى لسان نبيّه. وقال: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ الله 7: 187» . والعجب ممّن عدّدا من المتشابه. وأمّا الحروف المقطّعة في أوائل السّور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة. وقد قال الزمخشريّ: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأنّ القرآن المنزل مؤلّف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الّذي يتضمّن الدلالة على الحقيقة فإنّما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنّه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك. والنقل الصّحيح متعذّر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. وأمّا الوحي والملائكة والرّوح والجنّ، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقيّة لأنّها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كلّ ما في معناها من أحوال القيامة والجنّة والدّجّال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد، إلّا أنّ الجمهور لا يوافقونهم عليه. وسيّما المتكلّمون فقد عيّنوا محاملها على ما تراه في كتبهم، ولم يبق من المتشابه إلّا الصفات الّتي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيّه، ممّا يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا.
وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السّلف الّذين قرّرنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرّقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصّحيح منه على الفاسد فنقول، «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ 11: 88» : اعلم أنّ الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنّه عالم، قادر، مريد، حيّ، سميع، بصير، متكلّم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقدم واللّسان، إلى غير ذلك من الصّفات: فمنها ما يقتضي صحّة ألوهيّة، مثل العلم والقدرة والإرادة، ثمّ الحياة الّتي هي شرط جميعها، ومنها ما هي صفة كمال، كالسمع والبصر والكلام، ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء،
__________
[1] كذا. وفي نسخة. بنعته.(1/602)
وكالوجه واليدين والعينين الّتي هي صفات المحدثات. ثمّ أخبر الشارع أنّا نرى ربّنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصّحيح.
فأمّا السّلف من الصحابة والتابعين فأثبتوا له صفات الألوهيّة والكمال وفوّضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثمّ اختلف الناس من بعدهم، وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنيّة مجرّدة، ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته، وسمّوا ذلك توحيدا، وجعلوا الإنسان خالقا لأفعاله، ولا تتعلّق بها قدرة الله تعالى، سيّما الشرور والمعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها. وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسمّوا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أوّلا يقولون بنفي القدر، وأنّ الأمر كلّه مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصّحيح. وأنّ عبد الله بن عمر تبرّأ من معبد الجهنيّ وأصحابه القائلين بذلك. وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصريّ، لعهد عبد الملك بن مروان. ثمّ آخرا إلى معمّر السّلميّ، ورجعوا عن القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلّاف، وهو شيخ المعتزلة. أخذ الطّريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من نفات القدر، واتّبع رأي الفلاسفة في نفي الصّفات الوجوديّة لظهور مذاهبهم يومئذ.
ثمّ جاء إبراهيم النظّام، وقال بالقدر، واتّبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدّد في نفي الصّفات وقرّر قواعد الاعتزال. ثمّ جاء الجاحظ والكعبيّ والجبائيّ، وكانت طريقتهم تسمّى علم الكلام: إمّا لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الّذي يسمّى كلاما، وإمّا أنّ أصل طريقتهم نفي صفة الكلام. فلهذا كان الشافعيّ يقول: حقّهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم. وقرّر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردّوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعريّ وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العبّاس القلانسيّ والحرث ابن أسد المحاسبيّ من أتباع(1/603)
السلف وعلى طريقة السّنّة. فأيّد مقالاتهم بالحجج الكلاميّة وأثبت الصّفات لي قائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة الّتي يتم بها دليل التمانع وتصحّ المعجزات للأنبياء. وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسّمع والبصر لأنّها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت والحرف الجسمانيّين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأوّل، فأثبتوها للَّه تعالى وانتفى إيهام النقص. وأثبتوا هذه الصّفة قديمة عامّة التعلّق بشأن الصّفات الأخرى. وصار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى، وهو الكلام النفسيّ والمحدث الّذي هو الحروف المؤلّفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم، فالمراد الأوّل، وإذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة والكتابة عليه. وتورّع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنّه لم يسمع من السّلف قبله: لا إنّه يقول أنّ المصاحف المكتوبة قديمة، ولا أنّ القراءة الجارية على السنّة قديمة، وهو شاهدها محدثة. وإنّما منعه من ذلك الورع الّذي كان عليه. وأمّا غير ذلك فإنكار للضروريّات، وحاشاه منه. وأمّا السّمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة، فهو يدلّ أيضا لغة على إدراك المسموع والبصر، وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنّه حقيقة لغويّة فيهما.
وأمّا لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللّغويّة لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذّر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة.
وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفا لمذهب السّلف في التّفويض أنّ جماعة من أتباع السّلف وهم المحدّثون والمتأخّرون من الحنابلة ارتكبوا [1] في محمل هذه الصّفات فحملوها على صفات ثابتة للَّه تعالى، مجهولة الكيفيّة. فيقولون في
__________
[1] كذا. ومقتضى سياق العبارة: ارتبكوا.(1/604)
«اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ 7: 54» تثبت له استواء، بحيث مدلول اللّفظة، فرارا من تعطيله. ولا نقول بكيفيّته فرارا من القول بالتشبيه الّذي تنفيه آيات السلوب، من قوله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11، سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ 23: 91، تعالى الله عما يقول الظالمون، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 112: 3» ولا يعلمون مع ذلك أنّهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللّغة إنّما موضوعة الاستقرار والتمكّن، وهو جسمانيّ. وأمّا التعطيل الّذي يشنّعون بإلزامه، وهو تعطيل اللّفظ، فلا محذور فيه. وإنّما المحذور في تعطيل الآلة. وكذلك يشنّعون بإلزام التكليف بما لا يطاق، وهو تمويه. لأنّ التشابه لم يقع في التكاليف. ثمّ يدّعون أنّ هذا مذهب السّلف، وحاشا للَّه من ذلك. وإنّما مذهب السّلف ما قرّرناه أوّلا من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجّون لإثبات الاستواء للَّه بقول مالك: «إنّ الاستواء معلوم الثبوت للَّه» وحاشاه من ذلك، لأنّه يعلم مدلول الاستواء. وإنّما أراد أنّ الاستواء معلوم من اللّغة، وهو الجسمانيّ، وكيفيّته أي حقيقته. لأنّ حقائق الصّفات كلّها كيفيّات، وهي مجهولة الثبوت للَّه.
وكذلك يحتجّون على إثبات المكان بحديث السوداء، وأنّها لمّا قال لها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. أين الله؟ وقالت في السّماء، فقال أعتقها فإنّها مؤمنة. 53 قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان للَّه، بل لأنّها آمنت بما جاء به من ظواهر، أنّ الله في السّماء، فدخلت في جملة الراسخين الّذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النّافي للافتقار. ومن أدلّة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11» وأشباهه. ومن قوله: «وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَفي الْأَرْضِ 6: 3» ، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، والمراد غيره. ثمّ طردوا ذلك المحمل الّذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعمّ من الجسمانيّة وينزّهونه عن مدلول الجسمانيّ(1/605)
منها. وهذا شيء لا يعرف في اللّغة. وقد درج على ذلك الأوّل والآخر منهم ونافرهم أهل السنّة من المتكلّمين الأشعريّة والحنفيّة. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلّمي الحنفيّة ببخارى وبين الإمام محمّد بن إسماعيل البخاريّ ما هو معروف. وأمّا المجسّمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسميّة، وأنّها لا كالأجسام. ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيّات. وإنّما جرّأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغّلوا وأثبتوا الجسميّة، يزعمون فيها مثل ذلك وينزّهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم: «جسم لا كالأجسام» . والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التّفسير من أنّه القائم بالذات أو المركّب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلّمين يريدون بها غير المدلول اللّغويّ. فلهذا كان المجسّمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا للَّه وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه، ولا كلام نبيّه. فقد تبيّن لك الفرق بين مذاهب السّلف والمتكلّمين السنّية والمحدّثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسّمة بما أطلعناك عليه. وفي المحدّثين غلاة يسمّون المشبّه لتصريحهم بالتشبيه، حتّى إنّه يحكى عن بعضهم أنّه قال: اعفوني من اللّحية والفرج وسلوا عمّا بدا لكم من سواهما. وإن لم يتأوّل ذلك لهم، بأنّهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة، وحملها على ذلك المحمل الّذي لأئمّتهم، وإلّا فهو كفر صريح والعياذ باللَّه. وكتب أهل السنّة مشحونة بالحجاج على هذه البدع، وبسط الردّ عليهم بالأدلّة الصّحيحة. وإنّما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميّز به فصول المقالات وجملها. «والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» .
وأمّا الظواهر الخفيّة الأدلّة والدّلالة، كالوحي والملائكة والرّوح والجنّ والبرزخ وأحوال القيامة والدجّال والفتن والشروط، وسائر ما هو متعذّر على الفهم أو مخالف للعادات، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعريّة في تفاصيله، وهم(1/606)
أهل السنّة، فلا تشابه، وإن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أنّ العالم البشريّ أشرف العوالم من الموجودات، وأرفعها. وهو وإن اتّحدت حقيقة الإنسانيّة فيه فله أطوار يخالف كلّ واحد منها الآخر بأحوال تختصّ به حتّى كأنّ الحقائق فيها مختلفة.
فالطّور الأوّل: عالمه الجسمانيّ بحسّه الظاهر وفكره المعاشيّ وسائر تصرّفاته الّتي أعطاه إيّاها وجوده الحاضر.
الطّور الثاني: عالم النوم، وهو تصوّر الخيال بإنفاذ تصوّراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسّه الظاهرة مجرّدة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانيّة، ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه. ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقّب من مسرّاته الدنيويّة والأخرويّة، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه.
وهذان الطوران عامّان في جميع أشخاص البشر، وهما مختلفان في المدارك كما تراه.
الطور الثالث: طور النبوّة، وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصّهم الله به من معرفته وتوحيده، وتنزّل ملائكته عليهم بوحيه، وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلّها مغايرة للأحوال البشريّة الظاهرة.
الطور الرابع: طور الموت الّذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمّى البرزخ يتنعّمون فيه ويعذّبون على حسب أعمالهم ثمّ يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، وهي دار الجزاء الأكبر نعيما وعذابا في الجنّة أو في النار.
والطوران الأوّلان شاهدهما وجدانيّ، والطور الثالث النبويّ شاهده المعجزة والأحوال المختصّة بالأنبياء، والطور الرابع شاهده ما تنزّل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة، مع أنّ العقل يقتضي به،(1/607)
كما نبّهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحّتها أنّ أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقّى فيه أحوالا تليق به، لكان إيجاده الأوّل عبثا. إذ الموت إذا كان عدما كان مال الشخص إلى العدم، فلا يكون لوجوده الأوّل حكمة. والعبث على الحكيم محال.
وإذا تقرّرت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بيّنا يكشف لك غور المتشابه. فأمّا مداركه في الطور الأوّل فواضحة جليّة. قال الله تعالى: «وَالله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ 16: 78 [1] » . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانيّة ويوفي حقّ العبادة المفضية به إلى النّجاة.
وأمّا مداركه في الطور الثاني، وهو طور النوم، فهي المدارك الّتي في الحسّ الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكنّ الرأي يتيقّن كلّ شيء أدركه في نومه لا يشكّ فيه ولا يرتاب، مع خلوّ الجوارح عن الاستعمال العاديّ لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، ويزعمون أنّ الصور الخياليّة يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحسّ المشترك الّذي هو الفصل المشترك بين الحسّ الظاهر والحسّ الباطن، فتصوّر محسوسه بالظاهر في الحواسّ كلّها. ويشكّل عليهم هذا بأنّ المرائي الصادقة الّتي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخياليّة الشيطانيّة، مع أنّ الخيال فيها على ما قرّروه واحد.
الفريق الثاني: المتكلّمون، أجملوا فيها القول، وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسّة فيقع كما يقع في اليقظة، وهذا أليق، وإن كنّا لا نتصوّر كيفيّته.
__________
[1] آية 78 من سورة النحل.(1/608)
وهذا الإدراك النوميّ أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسيّة في الأطوار.
وأمّا الطور الثالث، وهو طور الأنبياء، فالمدارك الحسيّة فيها مجهولة الكيفيّة عند وجدانيّته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النّبيّ الله والملائكة، ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة، ويرى الجنّة والنار، والعرش والكرسيّ، ويخترق السّماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها، ويلقى النّبيّين لك، ويصلّي بهم، ويدرك أنواع المدارك الحسيّة، كما يدرك في طوره الجسمانيّ والنوميّ، بعلم ضروريّ يخلقه الله له، لا بالإدراك العاديّ للبشر في الجوارح، ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النّبوّة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحسّ المشترك. فإنّ الكلام عليهم هنا أشدّ من الكلام في النوم، لأنّ هذا التّنزيل طبيعة واحدة كما قرّرناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي والرّؤيا من النّبيّ واحدة في يقينها وحقيقتها، وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الوحي ستة أشهر وأنّها كانت بمدّة الوحي ومقدّمته، ويشعر ذلك بأنّه رؤية [1] في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدّة كما هي في الصّحيح، حتّى كان القرآن يتنزّل عليه آيات مقطّعات. وبعد ذلك نزل عليه (براءة) [2] في غزوة (تبوك) جملة واحدة، وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزّل الفكر إلى الخيال فقط، ومن الخيال إلى الحسّ المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأمّا الطور الرابع، وهو طور الأموات في برزخهم الّذي أوّله القبر. وهم مجرّدون عن البدن، أو في بعثتهم عند ما يرجعون إلى الأجسام، فمداركهم الحسيّة موجودة، فيرى الميت في قبره المكان يسائلانه، ويرى مقعده من الجنّة أو النار بعيني رأسه،
__________
[1] كذا. وفي نسخة: دونه.
[2] هي السورة التاسعة من القرآن الكريم. وهي سورة (التوبة) .(1/609)
ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه، ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، وغير ذلك. وفي الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على قليب بدر [1] ، وفيه قتلى المشركين من قريش، وناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله! أتكلّم هؤلاء الجيف؟
فقال صلّى الله عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول. ثمّ في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم- كما كانوا يعاينون في الحياة- من نعيم الجنّة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه، ويرون الملائكة ويرون ربّهم، كما ورد في الصحيح: إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدّنيا وهي حسيّة مثلها، وتقع في الجوارح بالعلم الضّروريّ الّذي يخلقه الله كما قلناه. وسرّ هذا أن تعلم أنّ النّفس الإنسانيّة هي تنشأ بالبدن وبمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النّبيّ حالة الوحي من المدارك البشريّة إلى المدارك الملكيّة، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشريّة مجرّدة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أيّ إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، وهي في الجسد. قاله الغزاليّ رحمه الله، وزاد على ذلك أنّ النفس الإنسانيّة صورة تبقى لها، ب عد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالا لها، كان في البدن وصورا.
وأنا أقول: إنّما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطّنت لهذا كلّه علمت أنّ هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة، لكن ليس على ما كانت في الحياة الدّنيا، وإنّما هي تختلف بالقوّة والضّعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلّمون إلى ذلك إشارة مجملة بأنّ الله يخلق فيها علما ضروريّا بتلك المدارك، أيّ
__________
[1] كان ذلك أثر انتهاء وقعة بدر الكبرى التي أظهر الله بها دين الإسلام على المشركين. انظر ابن خلدون ط دار الكتاب اللبناني- بيروت م 2 ص 744- 746.(1/610)
مدرك كان، ويعنون به هذا القدر الّذي أوضحناه. وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه.
فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه، بما يحصل به الحقّ في توحيدنا، والظفر بنجاتنا وَالله يَهْدِي من يَشاءُ 2: 213.
الفصل السابع عشر في علم التصوّف
هذا العلم من العلوم الشّرعيّة الحادثة في الملّة وأصله أنّ طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمّة وكبارها من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدّنيا وزينتها، والزّهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عامّا في الصّحابة والسّلف. فلمّا فشا الإقبال على الدّنيا في القرن الثّاني وما بعده وجنح النّاس إلى مخالطة الدّنيا اختصّ المقبلون على العبادة باسم الصّوفيّة والمتصوّفة. وقال القشيريّ رحمه الله:
ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربيّة ولا قياس. والظّاهر أنّه لقب. ومن قال اشتقاقه من الصّفاء أو من الصّفة فبعيد من جهة القياس اللّغويّ، قال: وكذلك من الصّوف لأنّهم لم يختصّوا بلبسه. قلت: والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنّه من الصّوف وهم في الغالب مختصّون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة النّاس في لبس فاخر الثّياب إلى لبس الصّوف فلمّا اختصّ هؤلاء بمذهب الزّهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصّوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أنّ الإنسان بما هو إنسان إنّما يتميّز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظّنّ والشّكّ والوهم وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض(1/611)
والبسط والرّضى والغضب والصّبر والشّكر وأمثال ذلك. فالرّوح العاقل والمتصرّف في البدن تنشأ [1] من إدراكات وإرادات وأحوال وهي الّتي يميّز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلّة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذّذ به والنشاط عن الحمّام والكسل عن الإعياء. وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بدّ وأن ينشأ له عن كلّ مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحال إمّا أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وإمّا أن لا تكون عبادة وإنّما تكون صفة حاصلة للنّفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقّى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التّوحيد والمعرفة الّتي هي الغاية المطلوبة للسّعادة. قال صلّى الله عليه وسلّم «من مات يشهد أنّ لا إله إلّا الله دخل الجنّة» فالمريد لا بدّ له من التّرقّي في هذه الأطوار وأصلها كلّها الطّاعة والإخلاص ويتقدّمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصّفات نتائج وثمرات. ثمّ تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التّوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير في النّتيجة أو خلل فنعلم أنّه إنّما أتى من قبل التّقصير في الّذي قبله. وكذلك في الخواطر النّفسانيّة والواردات القلبيّة. فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأنّ حصول النّتائج عن الأعمال ضروريّ وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلّا القليل من النّاس لأنّ الغفلة عن هذا كأنّها شاملة. وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النّوع أنّهم يأتون بالطّاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطّلعوا على أنّها خالصة من التّقصير أو لا، فظهر أنّ أصل طريقتهم كلّها محاسبة النّفس على الأفعال والتّروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد الّتي تحصل عن المجاهدات ثمّ تستقرّ للمريد مقاما يترقّى منها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فالمعنى العاقل والمتصرف في البدن ينشأ.(1/612)
إلى غيرها ثمّ لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللّغويّة إنّما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التّعبير عنه بلفظ يتيسّر فهمه منه. فلهذا اختصّ هؤلاء بهذا النّوع من العلم الّذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشّريعة الكلام فيه. وصار علم الشّريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامّة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النّفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفيّة التّرقّي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات الّتي تدور بينهم في ذلك. فلمّا كتبت العلوم ودوّنت وألّف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتّفسير وغير ذلك. كتب رجال من أهل هذه الطّرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النّفس على الاقتداء في الأخذ والتّرك كما فعله القشيريّ في كتاب الرّسالة والسّهرورديّ في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزاليّ رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدوّن فيه أحكام الورع والاقتداء ثمّ بيّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم وصار علم التّصوّف في الملّة علما مدوّنا بعد أن كانت الطّريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنّما تتلقّى من صدور الرّجال كما وقع في سائر العلوم الّتي دوّنت بالكتاب من التّفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك. ثمّ إنّ هذه المجاهدة والخلوة والذّكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحسّ والاطّلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحسّ إدراك شيء منها. والرّوح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أنّ الرّوح إذا رجع عن الحسّ الظّاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحسّ وقويت أحوال الرّوح وغلب سلطانه وتجدّد نشؤه وأعان على ذلك الذّكر فإنّه كالغذاء لتنمية الرّوح ولا يزال في نموّ وتزيّد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما، ويكشف حجاب الحسّ، ويتمّ وجود النّفس الّذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرّض حينئذ للمواهب(1/613)
الرّبّانيّة والعلوم اللّدنّيّة والفتح الإلهيّ وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرّفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السّفليّة وتصير طوع إرادتهم.
فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرّفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتّكلّم فيه بل يعدّون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوّذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصّحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظّهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنّهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطّريقة ممّن اشتملت رسالة القشيريّ على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
ثمّ إنّ قوما من المتأخّرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك الّتي وراءه واختلفت طرق الرّياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسّيّة وتغذية الرّوح العاقل بالذّكر حتّى يحصل للنّفس إدراكها الّذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أنّ الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنّهم كشفوا ذوات الوجود وتصوّروا حقائقها كلّها من العرش إلى الطّشّ. هكذا قال الغزاليّ رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرّياضة. ثمّ إنّ هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلّا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأنّ الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالسّحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلّا الكشف النّاشئ عن الاستقامة ومثاله أنّ المرآة الصّقيلة إذا كانت محدّبة أو مقعّرة وحوذي بها جهة المرئي فإنّه يتشكّل فيه معوجّا على غير صورته. وإن كانت مسطّحة تشكّل فيها المرئيّ صحيحا. فالاستقامة للنّفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولمّا عنّي المتأخّرون بهذا النّوع من الكشف تكلّموا في حقائق(1/614)
الموجودات العلويّة والسّفليّة وحقائق الملك والرّوح والعرش والكرسيّ وأمثال ذلك. وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك. وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلّم لهم. وليس البرهان والدّليل بنافع في هذا الطّريق ردّا وقبولا إذ هي من قبيل الوجدانيّات.
تفصيل وتحقيق: يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أنّ الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلّمين أنّه لا مباين ولا متّصل. ويقع للفلاسفة أنّه لا داخل العالم ولا خارجة. ويقع للمتأخّرين من المتصوّفة أنّه متّحد بالمخلوقات: إمّا بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى إنّه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلا. فلنبيّن تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كلّ واحد منها، حتّى تتّضح معانيها فنقول، إنّ المباينة تقال لمعنيين:
أحدهما المباينة في الحيّز والجهة، ويقابله الاتّصال. ونشعر هذه المقابلة على هذه التّقيّد بالمكان إمّا صريحا وهو تجسيم، أو لزوما وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التّصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. ومن أجل ذلك أنكر المتكلّمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارئ أنّه مباين مخلوقاته، ولا متّصل بها، لأنّ ذلك إنّما يكون للمتحيّزات. وما يقال من أنّ المحلّ لا يخلو عن الاتّصاف بالمعنى وضدّه، فهو مشروط بصحّة الاتّصاف أوّلا، وأمّا مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلوّ عن المعنى وضدّه، كما يقال في الجماد، لا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمّي. وصحّة الاتّصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرّر من مدلولها. والبارئ سبحانه منزّه عن ذلك. ذكره ابن التّلمسانيّ في شرح اللّمع لإمام الحرمين وقال: «ولا يقال في البارئ مباين للعالم ولا متّصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنّه لا داخل العالم ولا خارجة، بناء على وجود الجواهر غير المتحيّزة. وأنكرها(1/615)
المتكلّمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخصّ الصّفات، وهو مبسوط في علم الكلام.
وأمّا المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويّته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتّحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هي مذهب أهل الحقّ كلّهم من جمهور السّلف وعلماء الشّرائع والمتكلّمين والمتصوّفة الأقدمين كأهل الرّسالة ومن نحا منحاهم. وذهب جماعة من المتصوّفة المتأخّرين الّذين صيّروا المدارك الوجدانيّة علميّة نظريّة، إلى أنّ البارئ تعالى متّحد بمخلوقاته في هويّته ووجوده وصفاته. وربّما زعموا أنّه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط، وهو الّذي يقيّنه المتكلّمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوّفة ويحاولون الردّ عليه لأنّه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء، فإنّ تلك مغايرة صريحة، ولا يقولون بذلك. وهذا الاتّحاد هو الحلول الّذي تدّعيه النصارى في المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنّه حلول قديم في محدث أو اتّحاده به. وهو أيضا عين ما تقوله الإماميّة من الشيعة في الأئمّة. وتقرير هذا الاتّحاد في كلامهم على طريقين:
الأولى: أنّ ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها، متّحدة بها في المتصوّرين، وهي كلّها مظاهر له، وهو القائم عليها، أي المقدّم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدما وهو رأي أهل الحلول.
الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنّهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيريّة المنافيّة لمعقول الاتّحاد، فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصّفات. وغالطوا في غيريّة المظاهر المدركة بالحسّ والعقل بأنّ ذلك من المدارك البشريّة، وهي أوهام. ولا يريدون الوهم الّذي هو قسيم العلم والظّنّ والشكّ، إنّما يريدون أنّها كلّها عدم في الحقيقة، ووجود في المدرك(1/616)
البشريّ فقط. ولا وجود بالحقيقة إلّا للقديم، لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرّره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما في المدارك البشريّة، غير مفيد، لأنّ ذلك إنّما ينقل من المدارك الملكيّة، وإنّما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلميّة ضلال. وربّما قصد بعض المصنّفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض.
وربّما قصد بعض المصنّفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنّسبة إلى أهل النّظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغانيّ شارح قصيدة ابن الفارض في الدّيباجة الّتي كتبها في صدر ذلك الشّرح فإنّه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أنّ الوجود كلّه صادر عن صفة الوحدانيّة الّتي هي مظهر [1] الأحديّة وهما معا صادران عن الذّات الكريمة الّتي هي عين الوحدة لا غير. ويسمّون هذا الصّدور بالتّجلّي. وأوّل مراتب التّجليّات عندهم تجلّي الذّات على نفسه وهو يتضمّن الكمال بإفاضة الإيجاد والظّهور لقوله في الحديث الّذي يتناقلونه: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني» وهذا الكمال في الإيجاد المتنزّل [2] في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكماليّة [3] والحقيقة المحمّديّة وفيها حقائق الصّفات واللّوح والقلم وحقائق الأنبياء والرّسل أجمعين والكمّل من أهل الملّة المحمّديّة. وهذا كلّه تفصيل الحقيقة المحمّديّة. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائيّة وهي مرتبة المثال ثمّ عنها العرش ثمّ الكرسيّ ثمّ الأفلاك، ثمّ عالم العناصر، ثمّ عالم التّركيب. هذا في عالم الرّتق فإذا تجلّت فهي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مصدر.
[2] وفي نسخة أخرى: المشترك.
[3] وفي نسخة أخرى: والحضرة العماديّة وفي النسخة الباريسية: والحضرة العمائية.(1/617)
في عالم الفتق. ويسمّى هذا المذهب مذهب أهل التّجلّي والمظاهر والحضرات وهو كلام لا يقتدر [1] أهل النّظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة [2] والوجدان وصاحب الدّليل. وربّما أنكر بظاهر الشّرع. هذا التّرتيب وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأوّل في تعقّله وتفاريعه، يزعمون فيه أنّ الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادّها. والعناصر إنّما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادّتها لها في نفسها قوّة بها كان وجودها. ثمّ إنّ المركّبات فيها تلك القوى متضمّنة في القوّة الّتي كان بها التّركيب، كالقوّة المعدنيّة فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوّة المعدنيّة ثمّ القوّة الحيوانيّة تتضمّن القوّة المعدنيّة وزيادة قوّتها في نفسها وكذا القوّة الإنسانيّة مع الحيوانيّة ثمّ الفلك يتضمّن القوّة الإنسانيّة وزيادة. وكذا الذّوات الرّوحانيّة والقوّة الجامعة للكلّ من غير تفصيل هي القوّة الإلهيّة الّتي انبثّت في جميع الموجودات كلّيّة وجزئيّة وجمعتها وأحاطت بها من كلّ وجه، لا من جهة الظّهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصّورة ولا من جهة المادّة فالكلّ واحد وهو نفس الذّات الإلهيّة وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفصّل لها كالإنسانيّة مع الحيوانيّة. ألا ترى أنّها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثّلونها بالجنس مع النّوع، في كلّ موجود كما ذكرناه وتارة بالكلّ مع الجزء على طريقة المثال. وهم في هذا كلّه يفرّون من التّركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنّما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والّذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أنّ حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أنّ وجودها مشروط بالضّوء فإذا عدم الضّوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلّها مشروطة بوجود المدرك الحسيّ، بل والموجودات
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يقدر.
[2] وفي النسخة الباريسية: صاحب المشاهد.(1/618)
المعقولة والمتوهّمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقليّ فإذا الوجود المفصّل كلّه مشروط بوجود المدرك البشريّ. فلو فرضنا عدم المدرك البشريّ جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحرّ والبرد والصّلابة واللّين بل والأرض والماء والنّار والسّماء والكواكب، إنّما وجدت لوجود الحواسّ المدركة لها لما جعل في المدرك من التّفصيل الّذي ليس في الموجود وإنّما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصّلة فلا تفصيل إنّما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النّائم فإنّه إذا نام وفقد الحسّ الظّاهر فقد كلّ محسوس وهو في تلك الحالة إلّا ما يفصّله له الخيال. قالوا: فكذا اليقظان إنّما يعتبر تلك المدركات كلّها على التّفصيل بنوع مدركة البشريّ ولو قدّر فقد مدركة فقد التّفصيل وهذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الّذي هو من جملة المدارك البشريّة. هذا ملخّص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السّقوط لأنّا نقطع بوجود البلد الّذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السّماء المظلّة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنّا. والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أنّ المحقّقين من المتصوّفة المتأخّرين يقولون إنّ المريد عند الكشف ربّما يعرض له توهّم هذه الوحدة ويسمّى ذلك عندهم مقام الجمع ثمّ يترقّى عنه إلى التّمييز بين الموجودات ويعبّرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقّق ولا بدّ للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنّه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبيّنت مراتب أهل هذه الطّريقة ثمّ إنّ هؤلاء المتأخّرين من المتصوّفة المتكلّمين في الكشف وفيما وراء الحسّ توغّلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملئوا الصّحف منه مثل الهرويّ في كتاب المقامات له وغيره. وتبعهم ابن العربيّ وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنّجم الإسرائيليّ في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيليّة(1/619)