قرأ عليه جماعة، وآخر من روى عنه بالإجازة أبو حفص ابن القواس، ثم أبو حفص العقيمي.
واستوزره فروخ شاه.
ثم اتصل بأخيه تقي الدين صاحب حماة، واختص به، وكثرت أمواله، وكتب الخط المنسوب.
وقرأ عليه المعظم عيسى شيئاً كثيراً من النحو ك " كتاب سيبويه " ، و " شرحه " و " الإيضاح " .
وله خزانة كتب بالجامع الأموي فيها كل نفيس.
وله " حواش " على " ديوان المتنبي " و " حواش " على " خطب ابن نباتة " ، أجاب عنها الموفق البغدادي.
وحضر التاج الكندي مرة عند الوزير، وحضر ابن دحية، فأورد ابن دحية حديث الشفاعة، فلما وصل إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: " إنما كُنتُ خَليلاً مِن وراءَ وراءَ " ، فتح ابن دحية الهمزتين، فقال الكندي: " وراء وراء " بضم الهمزتين، فعسر ذلك على ابن دحية، وصنف في المسألة كتاباً سماه " الصارم الهندي، في الرد على الكندي " ، وبلغ ذلك الكندي، فعمل مصنفاً سماه " نتف اللحية، من ابن دحية " .
ورد على الكندي سُؤال في الفرق بين: طلقتك إن دخلت الدار، وبين: إن دخلت الدار طلقتكِ. فألف في الجواب عنه " مؤلفاً " ، فرد عليه محمد بن علي بن غالب الجزري، وسماه " الاعتراض المُبدى، لوهم التاج الكندي " .
وتوفي يوم الإثنين، سادس شوال، سنة عشر وستمائة، وانقطع بموته إسناد عظيم.
وفيه يقول تلميذه الشيخ علم الدين السخاوي وكان يبالغ في وصفه:
لَمْ يَكُنْ في عَصْرِ عَمْرٍو مِثْلُهُ ... وكذا الكنديُّ في آخر عَصْرِ
وهما زَيءدٌ وعَمْرٌو إنَّما ... بُنِيَ النَحْوُ على زيدٍ وعَمْروٍ
وكتب أبو شجاع ابن الدهان الفرضي، إلى الشيخ تاج الدين الكندي، يمدحه:
يا زَيْدُ زادكَ رَيِّي مِن مواهبِهِ ... نُعْمَى يُقَصِّرُ عن إدراكها الأَمَلُ
لا بَدَّلَ اللهُ حالاً قد حَباكَ بها ... ما دارَ بَيْنَ النُّحاةِ الحالُ والْبَدَلُ
النَحْوُ أنتَ أَحَقُّ العالِمينَ بِهِ ... أليس باسمِكَ فيه يُضْرِبُ الَمَثلُ
وذكره ابن شاكر الكتبي، في " عيون التواريخ " ، ونقل عنه أنه قال: كنت في صغري، وقت اشتغالي بالعلم، أبغض إخوتي إلى أبي، لأنه كان يريدني أشتغل بالتجارة، وأنا أشتغل بالعلم، وكان ذلك سعادة منحني الله تعالى بها، فإني اكتسبتُ بالعلم مقدار أربعين ألف دينار، ووهبتها جميعاً لمن يلوذ بي، حتى إن الدار التي كنت مقيماً فيها وهبتها لهم.
قال ابن شاكر: وأقول: إن أحداً ما نال من السعادة ما نال تاج الدين، فإن الملك المعظم بن العادل كان صاحب الشام، وكان يقصد منزل تاج الدين بدرب العجم راجلاً، وكتابه تحت إبطه، يقرأ عليه، ولا يكلفه مشقة المجيء إلى خدمته، وكان على بابه من المماليك الأتراك وغيرهم ما لا يكون إلا على باب ملك، وكان له من الأملاك والبساتين ما لا يحصى.
قال: وكان تاج الدين يُكثر الجلوس على دكان عطار بباب حيرون، فجاءته امرأة طلبت منه حاجة، فأعطاها، وأخرى إلى أن ضجر، فقال لها العطار، في كلام جرى بينهما: أخذتي والله مخي.
فقال له الكندي: لا تلمها، فإنها محتاجة إليه، تريد أن تطعمه لزوجها.
ومن شعر التاج الكندي قوله:
لامَنِيفي اخْتِصَارِ كُتْبِي حَبيبٌ ... فَرَّقَتْ بَيْنَهُ اللَّيالي وبَيْنِي
كيف لي لو أطلتُ لكنَّ عُذري ... فيه أنَّ الْمِدَادَ إِنْسَانُ عَيْنِي
ومنه أيضاً قوله:
أَرَى المرءَ يَهْوَى أنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ ... وفي طُولِهَا إِرْهاقُ ذُلٍّ وإزْهاقُ
تَمَنَّيْتُ في عَصْرِ الشَّبيبَةِ أنَّنِي ... أُعمِّرُ والأَعْمارُ لا شَكَّ أرْزاقُ
فَلَّمَا أتاني ما تَمَنَّيْتُ ساءَني ... مِن العُمْرِ ما قد كنتُ أهْوى وأَشْتاقُ
عَرَتْنِيَ أَعْراضٌ شديدٌ مراسُهَا ... عَلَى وَهَمٌ ليس لي فيه إفْراقُ
وها أنا في إحدى وتسعين حَجَّةً ... لها في إرْعادٌ مخوفٌ وإبراقُ
يُخَيِّلُ لِي فِكْري إذا كنتُ خالياً ... رُكُوبي على الأعْناقِ والسَّيْرُ إِعْناقُ
ويُذْكِرُني مَرُّ النَّسِيم وَرَوْحُهُ ... حفَائِرَ يَعْلُوهَا مِن التُّرْبِ أَطْبَاقُ(1/288)
يقولون دِرْيَاقٌ لِمُثلك نافعٌ ... وماليَ إلا رحمةُ اللهِ دِرْيَاقُ
ومنه أيضاً:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَنْتَابُه الموتُ غِيلَةً ... يَرُوحُ به أو يَغْتدي كيف يَبْخَلُ
وهَبْ أنه مِن فَجْأَةِ الموتِ آمنٌ ... مَسَرَّتُهُ بالعَيْشِ لا تَتَبَدَّلُ
أليسَ يَرَى أن الذي خَلَقَ الورى ... بأرزاقهم ما عُمِّرُوا مُتَكَفِّلُ
ومنه أيضاً:
دَعِ المُنَجِّم يكْبُو في ضَلالَتِهِ ... إذا ادَّعَى عِلْم ما يَجْري به الفلكُ
تَفَرَّدَ اللهُ بالعِلْمِ القديم فَلا ال ... إنسانُ يُشْرِكُهُ فيه ولا المَلَكُ
أعَدَّ لِلْرِزْقِ من أَشْراكِهِ شَرَكاً ... فبِسْتِ العُدتان الشِّرْكُ والشَّرَكُ
ومنه أيضاً:
أنْحَلْتَ جِسْمي السِّنُون إلى أن ... صِرتُ أخْفَى مِن نُقْطَةٍ في كتاب
عَرَّقَتْ أَعْظُمِي فليس عليها ... بين جِلْدِي وبينها منْ حِجابِ
من رآني يقولُ هذا قناةٌ ... كُسرتْ ثم جُمِّعَتْ في جرابِ
لستُ أبكي تحتَ التُّرابِ دَفيناً بعدَ ما قد بَلِيْتُ فوق الترابِ
يَتَناسَى الجَهُولُ غائِلَةَ الشَّيْ ... بِ زمانَ اغتراره بالشبابِ
وله غير ذلك، وقد وقفت له على " ديوان " شعر، في مجلد لطيف.
وبالجملة فقد كان من فضلاء دهره، ومحاسن عصره. رحمه الله تعالى.
892 - زيد بن محمد بن خيثمة بن محمد بن حاتم بن خيثمة
ابن الحسن بن عوف التميمي، أبو سعد
فقيه معروف.
سمع من الخفاف، وطبقته.
وهو من بيت العلم والقضاء.
مات في شهر ربيع الأول، سنة خمس وأربعين وأربعمائة. رحمه الله تعالى.
893 - زيد بن نُعيم
من أصحاب محمد بن الحسن، حدث عنه ببغداد.
روى عنه أبو إسماعيل الفقيه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن منصور.
ذكره الخطيب البغدادي، ولم يؤرخ وفاته.
894 - زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد
المشهور بابن نُجيم
وهو اسم لبعض أجداده.
كان إماماً، عالماً عاملاً، مؤلفاً مُصنفاً، ماله في زمنه نظيرٌ.
واشتغل، ودأب، وحصل، وجمع، وتفرد، وتفنن، وأفتى، ودرس.
وصار زين الإخوان، وإنسان عين الأوان، وساعده الحظ في حياته، وبعد مماته، ورزق السعادة في سائر مؤلفاته ومصنفاته، فما كتب ورقة إلا واجتهد الناسُ في تحصيلها بالمال والجاه، وسارت بها الركبان في سائر البلدان.
وكانت ولادته في سنة ست وعشرين وتسعمائة.
ووفاته في سنة سبعين وتسعمائة، نهار الأربعاء، سابع رجب الفرد، تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته، بمنه وكرمه، ومزيد غُفرانه.
وقد أخبرني أخوه الشيخ الفاضل عمر، الشهير كأخيه بابن نجيم، أن أخاه، صاحب الترجمة، أخذ عن جماعة من علماء الديار المصرية؛ منهم: الشيخ العلامة أمين الدين بن عبد العال الحنفي، والشيخ أبو الفيض، وشيخ الإسلام ابن الحلبي، وغيرهم.
وأخذ العلوم العربية والعقلية عن جماعة كثيرة؛ منهم: الشيخ العلامة نور الدين الديلمي المالكي، وكان من عباد الله الصالحين، وعُلمائه العاملين، والشيخ العلامة شُقير المغربي، أحد تلامذة الإمام العلامة الرحلة الفهامة، عالم الربع المعمور، كما هو في أوصافه مشهور، الشيخ مغوش المغربي، وغيرهم ممن لم يحضرني اسمه، ولا أخبرني به أحد من الثقات.
وله من التصانيف: " البحر الرائق، بشرح كنز الدقائق " ، وهو أكبر مؤلفاته، وأكثرها نفعاً، لكن حصول المنية منعه من بلوغ الأمنية، فما أكمله، ولا بحلية التمام جمله، وقد وصل فيه إلى أثناء الدعاوى والبينات.
و " شرح المنار " ، في أصول الفقه.
وله " الأشباه والنظائر " وهو كتاب رزق السعادة التامة بالقبول عند الخاص والعام، ضمنه كثيراً من القواعد الفقهية، والمسائل الدقيقة والأجوبة الجبلية، والذي يغلب على الظن أنه لا يخلو منه خزانة أحد قدر على تحصيله من العلماء بالديار الرومية.
واختصر " تحرير الإمام ابن الهمام " في أصول الفقه، وسماه " لب الأصول " .
وله رسائل كثيرة، في فنون عديدة، تزيد على أربعين رسالة.(1/289)
وأما تعاليقه على هوامش الكتب وحواشيها، وكتابته على أسئلة المستفيدين، والأوراق التي سودها بالفوائد والأبحاث الرائقة في أكثر الفنون، ومات قبل أن يجمعها ويحررها ويخرجها إلى الوجود فشيءٌ لا يمكن حصره، ولا يوجد عند غالب عُلمائنا في هذا العصر عُشره، ولولا معاجلة الأجل، قبل بلوغ الأمل، لكان في الفقه وأصوله خصوصاً، وفي أكثر الفنون عموماً، أعجوبة الدهر، ونادرة العصر.
وفي الجملة، كان من مفاخر الديار المصرية. رحمه الله تعالى.(1/290)