الطب النبوي
وبآخره فصل في السماع
للحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي
(ت 748 هـ)
تحقيق
الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي
أستاذ في جامعة الأوزاعي والمعهد العالي للدراسات الإسلامية - بيروت
دار النفائس
الطبعة الأولى
1425 هـ - 2004 م(/)
الطب النبوي وبآخره فصل في السماع
للحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ)
تحقيق الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي أستاذ في جامعة الأوزاعي والمعهد العالي للدراسات الإسلامية - بيروت(1/61)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله الذي أعطى كل نفس خلقها وهداها وألهمها فجورها وتقواها؛ وأعلمها منافعها ومضارها وابتلاها وعافاها، وأماتها وأحياها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمةً لمن زكاها، ونقمةً على من دساها، لقوله تعالى:
{قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها} الآية.
صلى الله عليه وسلم، وعلى آله صلاة دائمة إلى يوم نشرها وبشراها.
قال الشيخ الإمام العالم العامل المحدث الحافظ، أبو عبد الله، محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي:
وبعد، إن الواجب على كل مسلم أن يتقرب إلى الله تعالى بكل ما يمكنه من القربات، ويستفرغ وسعه في القيام بالأوامر والطاعات، وأنفع الوسائل وأنجح القربات، بعد امتثال الطاعات واجتناب المنهيات، ما يعود نفعه على الناس من حفظ صحتهم، ومداواة أمراضهم، إذ العافية أمر مطلوب في الأدعية الشرعية والعبادات.
وقد استخرت الله تعالى في جمع شيءٍ من الأحاديث النبوية الطبية، والآثار(1/63)
الطبيعية الحكيمة، ما الحاجة إليه ضرورية، في حفظ الصحة الموجودة، ورد المفقودة، مستعيناً بالله سبحانه وتعالى، مبتغياً وجه الله تعالى ورضوانه، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم:
إن تجد عيباً فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا(1/64)
تفسير رموز الكتاب
البخاري: خ، ومسلم: م، والترمذي: ت، وأبو داود: د. والنسائي: س، وابن ماجه: ق. وقد رتبت هذا الكتاب على ثلاثة فنون:
الأول: في قواعد الطب، علمه وعمله.
والثاني: في الأدوية والأغذية.
والثالث: في علاج الأمراض.
[الفن الأول: في قواعد الطب علمه وعمله]
فالأول يشتمل على جملتين:
[الجملة الأولى]: في قواعد الجزء العلمي، وتشتمل على أربعة أجزاء:
الجزء الأول من أجزاء الجزء العلمي في الأمور الطبيعية
فالطب ينقسم إلى جزء علمي وجزء عملي.
فالعلمي أجزاؤه أربعة: العلم بالأمور الطبيعية، والعلم بأحوال بدن الإنسان، والعلم بالأسباب، والعلم بالعلامات.
فالأمور الطبيعية سبعة:
أحدها: الأركان، وهي أربعة: النار، وهي حارة يابسة، والهواء، وهو رطب حار، والماء، وهو بارد رطب، والأرض، وهي يابسةٌ باردة.
وثانيها: المزاج، وأقسامه تسعة: واحد معتدل وغير معتدل، إما مفرد، وهو(1/65)
أربعة: حار وبارد ورطب ويابس، وإما مركب، وهو أربعة: حار يابس، وحار رطب، وبارد يابس، وبارد رطب.
فأعدل أمزجة الحيوان مزاجاً: مزاج الإنسان، وأعدل أمزجة الإنسان [مزاجاً] مزاج المؤمنين، وأعدل المؤمنين مزاجاً مزاج الأنبياء عليهم السلام، وأعدل الأنبياء مزاجاً مزاج الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، وأعدل الرسل مزاجاً مزاج أولي العزم، وأعدل أولي العزم مزاجاً مزاج سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحيه وسلم أجمعين.
قلت: والسبب الذي به صار رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق مزاجاً: أن [من] قواعد الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن، فكلما كانت أخلاق النفس أحسن كان مزاج البدن أعدل، وكلما كان مزاج البدن أعدل، كانت أخلاق النفس أحسن.
إذا علم ذلك، والحق سبحانه وتعالى قد شهد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه على خلقٍ عظيم. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن)، فلزم من ذلك أن مزاجه أعدل الأمزجة، وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق.
روى البخاري في صحيحه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً).
وقال أنس: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف قط، ولا لشيءٍ(1/66)
صنعته لم صنعته، ولا لشيءٍ تركته لم تركته) رواه ت.
وقال ابن عمرو: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً).
وكان يقول: (خياركم أحسنكم أخلاقاً).
وروى البخاري: أن أعرابياً جبذ الرداء عن عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم جبذةً شديدةً حتى أثر ذلك في عنقه، ثم قال: يا محمد: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاءٍ)).
فهو النبي الطاهر المطهر، أحسن الناس خلقاً وخلقاً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله صلاة دائمةً لا منتهى لها ولا آخر.
لم يخلق الرحمن مثل محمدٍ ... أبداً وعلمي أنه لا يخلق
شمسٌ ضحاها هلال ليلتها ... در مقاصيرها زبرجدها
وفيه أيضاً قال:
فله مقام لم ينله مرسلٌ ... وله عليهم رتبةٌ علياء
والشباب أعدل، والصبيان أرطب، والكهل والشيخ أبرد.
وأعدل الأعضاء مزاجاً جلد أنملة السبابة ثم جلد الأنامل.
وأحر الأعضاء القلب ثم الكبد ثم اللحم، وأبردها العظم ثم العصب ثم النخاع ثم الدماغ، وأيبسها العظم، وأرطبها السمين.(1/67)
وثالثها: الأخلاط الأربعة: الدم، وهو أفضلها، وهو رطب حار. فائدته تغذية البدن، والطبيعي منه حلو لا نتن به.
ثم البلغم، وهو رطبٌ باردٌ، فائدته أن يستحيل دماً إذا فقد البدن الغذاء، وأن يرطب الأعضاء لئلا تجففها الحركة، والطبيعي منه ما قارب الاستحالة إلى الدموية، وغير الطبيعي منه المالح، ويميل إلى الحرارة، والحامض يميل إلى البرد، والمخ وهو خالص البرد.
ثم الصفراء، وهي حارة يابسة، وعلوها المرارة، وهي تلطف الدم وتنفذه في المجاري الضيقة، وينصب جزء منها إلى الأمعاء فينبه على خروج النجو. والطبيعي منها أحمر خفيف، وغير الطبيعي فالمخي والكراني والزنجاري والاحتراقي. وهو في الزنجاري أقوى من الكراني، فلذلك ينذر بالموت، وتسمى المرة الصفراء، وينصب جزء منها إلى فم المعدة.
ثم السوداء وهي يابسة باردة، وهي تغلظ الدم وتغذي الطحال والعظام، وينصب جزءٌ منها إلى فم المعدة فينبه على الجوع لحموضتها، والطبيعي منها دردي الدم، وغير الطبيعي يحدث عن احتراق أي خلطٍ كان يسمى المرة السوداء.
ورابعها: الأعضاء الأصلية، وهي تتولد من المني.
وخامسها: الأرواح.
وسادسها: القوى، وهي ثلاثة: الطبيعية والحيوانية والنفسانية.
وسابعها: الأفعال، وهي الجذب والدفع.
الجزء الثاني من أجزاء الجزء العلمي في أحوال بدن الإنسان
وأحوال بدن الإنسان ثلاثة: الصحة والمرض، وحالة لا صحة ولا مرض: كالناقه والشيخ.(1/68)
فالصحة هيئة بدنية تكون الأفعال معها سليمة، فالعافية أفضل ما أنعم الله به على الإنسان بعد الإسلام، إذ لا يتمكن من حسن تصرفه والقيام بطاعة ربه إلا بوجودها ولا مثل لها.
فليشكرها العبد ولا يكفرها.
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله عباداً يضن بهم عن القتل والسقم، فيحييهم في عافيةٍ، ويتوفاهم في عافيةٍ، ويعطيهم منازل الشهداء).
وقال أبو الدرداء: قلت: يا رسول الله لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ([ورسول] الله يحب معك العافية).
وروى الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا).(1/69)
وروى الترمذي أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(أول ما يسأل عنه العبد من النعم يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح لك جسمك وأروك من الماء البارد).
وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يا عباس، سل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة) رواه البزار.
وقال صلى الله عليه وسلم :
(سلوا الله العفو والعافية، فإنه ما أوتي أحدٌ بعد يقينٍ خيراً من معافاةٍ) رواه النسائي.
وعنه: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أحب إليه من العافية) رواه الترمذي.
(وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما أسأل الله تعالى بعد الصلاة؟ قال: (سل الله العافية).
وفي حكمة داود عليه السلام: العافية ملك خفي، وغم ساعةٍ، وهرم سنةٍ.
وقيل: العافية تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يبصرها إلا المرضى.
وقيل: العافية نعمة مغفول عنها.(1/70)
وكان بعض السلف يقول: كم لله من نعمةٍ تحت كل عرقٍ ساكن.
اللهم ارزقنا العافية في الدين والدنيا والآخرة.
والمرض حالةٌ مضادةٌ لها، وكل مرض له ابتداء فيزيد، وانحطاط وانتهاء.
الجزء الثالث من أجزاء الجزء النظري في الأسباب
والأسباب ستة:
أحدها: الهواء، ويضطر إليه لتعديل الروح، فما دام صافياً لا يخالطه نتنٌ و[لا] ريحٌ خبيثةٌ كان حافظاً للصحة، فإن تغير تغير حكمه، وكل فصلٍ فإنه يورث الأمراض المناسبة له ويزيل المضادة، فالصيف يثير الصفراء، ويوجب أمراضها ويبرئ الأمراض الباردة، وعلى هذا [القياس] فقس في سائر الفصول.
والهواء البارد يشد البدن ويقويه ويجيد الهضم، والحار بالضد، وعند تغير الهواء يكون الوباء، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما يؤكل ويشرب، فإن كان حاراً أثر في البدن حرارة، وبالضد.
والثالث: الحركة والسكون البدنيان، فالحركة تؤثر في البدن تسخيناً، والسكون بالضد.
والرابع: الحركة والسكون النفسانيان، كما في الغضب والفرح، والهم والغم، والخجل، فإن هذه الأحوال تحصل بحركة الروح، إما إلى داخل البدن، وإما إلى خارج، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
والخامس: النوم واليقظة؛ فالنوم يغور الروح إلى داخل البدن فيبرد البدن، ولذلك يحتاج النائم إلى الدثار، واليقظة بالضد.
والسادس: الاستفراغ والاحتباس، فالمعتدل منها نافع، حافظ للصحة.(1/71)
الجزء الرابع من أجزاء الجزء النظري في العلامات
فسواد الشعر والبدن دالان على الحرارة، وضد ذلك للبرودة.
وكذلك سمن البدن وفظاظته، وكثرة اللحم دالٌ على الحرارة والرطوبة، وكثرة الشحم دالٌ على الرطوبة والبرد.
وكذلك كثرة النوم للرطوبة، وقلته لليبس، واعتدالهما للاعتدال، وكذلك هيئة الأعضاء؛ فسعة الأعضاء للحرارة وبالضد.
وكذلك الأحلام؛ فرؤية الألوان الصفر والحمر والنيران تدل على الحرارة وبالضد.
وكذلك أحوال النبض، فعظمه وسرعته للحرارة وبالضد.
وكذلك أحوال البول والبراز؛ فحدته وحمرته وناريته للحرارة وبالضد، وكذلك [حدة] رائحته للحرارة، وعدم رائحته للبرد.
الجملة الثانية في قواعد الجزء العملي
والجزء العملي ينقسم إلى حفظ الصحة ومداواة المرض.
ولنبدأ بحفظ الصحة فنقول:
اعلم أن أخذ الغذاء في وقت الحاجة سبب لدوام الصحة، وعلامة الحاجة أن تزكى حاسة الشم، ويقل الريق في الفم، وينصبغ البول، ويحتد ريحه، ويتزايد الطلب، فعند ذلك يجب استعمال الغذاء. والمدافعة به منهكة للبدن مجففة [له]، محرقة لمزاجه، وكذلك أخذ الغذاء من غير حاجةٍ إليه يورث البلادة، وهو أحد الأسباب في حدوث الأمراض.
قال الموفق عبد اللطيف: كان من سنة الهند أنهم إذا أرادوا تناول الغذاء(1/72)
اغتسلوا ولبسوا الثوب النظيف وشموا الطيب وأمسكوا عن الحركات، وهجروا الرفث ثم أقبلوا على الطعام، وسيأتي الكلام على ما تيسر من هذا الكلام كله. [ليؤكل في الصيف: البارد، وفي الشتاء: الحار.
إدخال طعام على طعام آخر رديء. وكذلك الحركة بعده. قال الأطباء: الحركة قبل الطعام خير كله، كما أنها بعده شر كله].
وينبغي أن يصلح حاره ببارده، وحلوه بحامضه، ودسمه بمالحه، وقابضه بدسمه وتكثير الألوان محير للطبيعة، واللذيذ أحمد لولا الإكثار منه.
وملازمة الطعام التفه تسقط الشهوة وتوجب الكسل، وكثرة الحامض تسرع الهرم وإدمان الحلو يرخي الشهوة ويحمي البدن، والمالح يجفف البدن ويهزله.
وينبغي أن يترك الطعام وفي النفس منه بقية، وملازمة الحمية تنهك البدن وتهزله، بل هي في الصحة كالتخليط في المرض، ومراعاة العادة جيدة إلا أن تكون عادةً رديئةً فينتقل منها بتدريج، ومن اعتاد استمرار أغذية [رديئة] فلا يغيرها، وليحذر الطعام الخم والفاكهة العفنة.
ولحس الإناء يعين على الهضم ويفتق الشهوة، وكان صلى الله عليه وسلم يلعق أصابعه في الطعام [ثلاثاً].
وقال: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها) متفق عليه.
وقال: (من لحس الإناء استغفر له).(1/73)
وقد نهى عن الجمع بين اللبن والسمك، وبين الخل واللبن، وبين الفاكهة واللبن، وبين الجبن والسمك، وبين الثوم والبصل، وبين قديد وطري، وبين حامض وحريف، وبين سماق وخل، وبين خل وأرز، وبين العنب والرؤس المغمومة، وبين رمانٍ وهريسةٍ، وبين غداءين باردين أو حارين أو منفخين.
وينبغي أن يجتنب الخل والدهن إذا باتا تحت إناء نحاس، وكذلك الجبن والشواء، والطعام الحار إذا كمن في خبز أو غيره، وهذا هو أحد الأسباب في تحريم الميتة.
[وكذلك] يجتنب الطعام المكشوف، والماء المكشوف، لئلا يسقط فيه حيوان سمي فيتقل آكله وشاربه، ولنهيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
(غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، فإن بالسنة ليلة ينزل فيها وباءٌ من السماء لا يصادف إناءً مكشوفاً إلا وقع فيه من ذلك الوباء). رواه مسلم.
فكان في نهيه ما قالته الأطباء وزيادة خبر السماء [عن ذلك].
ومن أكل البصل أربعين يوماً فكلف وجهه فلا يلومن إلا نفسه.
ومن اقتصد فأكل مالحاً فأصابه بهق أو جرب فلا يلومن إلا نفسه.
ومن أكل السمك والبيض معاً ففلج فلا يلومن إلا نفسه.
ومن شبع ودخل الحمام ففلج فلا يلومن إلا نفسه.
ومن احتلم فلم يغتسل حتى جامع فولد له مجنون أو مختل فلا يلومن إلا نفسه.
[ومن أكل الأترج ليلاً فانحول، فلا يلومن إلا نفسه].
ومن نظر في المرآة ليلاً فأصابته لقوةٌ فلا يلومن إلا نفسه.(1/74)
وروي عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أصل كل داء البردة). وروي أيضاً عن ابن مسعود.
والبردة التخمة، لأنها تبرد حرارة الشهوة، فينبغي الاقتصار على الموافق الشهي بلا إكثار [منه].
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، يحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه).
هذا رواه النسائي والترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ؛ وأكلات جمع أكلة، وهي اللقمة، وهذا باب من أبواب حفظ الصحة.
قال علي بن الحسن بن واقد: وقد جمع الله سبحانه وتعالى الطب كله في نصف آية فقال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}.
وقال عمر رضي الله عنه: ((إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للجسم، مورثة(1/75)
للسقم، مكسلةٌ عن الصلاة، وعليكم بالقصد، فإنه أصلح للجسد، وأبعد عن السرف، وإن الله ليبغض الحبر السمين)). رواه أبو نعيم.
قال أبقراط: استدامة الصحبة بعب الماء، ويترك الامتلاء من الطعام والشراب.
وقال: الإقلال من الضار خيرٌ من الإكثار من النافع.
قال الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل): أبقراط هذا واضع الطب، قال بفضله الأوائل والأواخر. أرسل إليه ملك من ملوك اليونان بقناطير من الذهب حتى يسير إليه فأبى، وكان لا يأخذ على المعالجة أجراً من الفقراء وأوساط الناس، وقد شرط أن يأخذ من الأغنياء أحد ثلاثة أشياء: طوقاً أو إكليلاً أو سواراً من الذهب.
وقيل له: أي العيش خير؟ قال: الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف.
وقال: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه.
ولما حضرته الوفاة قال: خذوا جامع العلم مني: من كثر نومه، ولانت طبيعته، ونديت جلدته طال عمره.
وقال: لو خلق الإنسان من طبيعةٍ واحدةٍ لما مرض، لأنه لم يكن هناك شيءٌ يضادها فيمرض.
ودخل على عليلٍ فقال: [له]: أنا وأنت والعلة ثلاثة، فإن أعنتني عليها بالقبول مني صرنا اثنين وانفردت العلة فقوينا عليها، والإثنان إذا اجتمعا على واحد غلباه.
وقيل لأبقراط: لم ثقل الميت؟ قال: لأنه: كان اثنين، خفيفٌ رافعٌ وثقيلٌ واضعٌ، فلما انصرف أحدهما وهو الخفيف الرافع، ثقل الواضع.
وقال لتلميذ له: ليكن أفضل وسيلتك للناس، محبتك لهم، والتفقد لأمورهم، ومعرفة حالهم، واصطناع المعروف إليهم.(1/76)
قال: كل كثير فهو مضاد للطبيعة، فلتكن الأطعمة والأشربة والجماع قصداً.
وقال: من سقى السم من الأطباء، وألقى الجنين، ومنع الحبل، واجترأ على المريض فليس من شيعتي. وله أيمانٌ معروفة على هذه الشرائط المذكورة ستأتي [فيما] بعد إن شاء الله تعالى.
وكتبه كثيرة في الطب، من جملتها كتاب ((الفصول))، وكتاب ((تقدمة المعرفة))، وكتاب ((قبر أبقراط))، وهذا الكتاب يشهد منه العجب. فإنه كان قد دفنه في قبره فجاء بعض ملوك اليونان ففتح القبر فوجد هذا الكتاب معه في القبر.
وسئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ما الدواء؟ قال اللازم: يعني الجوع. وقيل: فما الداء؟ قال: إدخال طعام على طعام.
قال ابن سينا: احذر طعاماً قبل هضم طعام.
واعلم أن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(المؤمن يأكل في معىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ).(1/77)
ولا تدخل الحكمة معدةً ملئت طعاماً، فمن قل طعامه قل شربه، ومن قل شربه خف منامه، ومن خف منامه ظهرت بركة عمره. ومن امتلأ بطنه كثر شربه، ومن كثر شربه ثقل نومه، ومن ثقل نومه محقت بركة عمره.
فإذا اكتفى بدون الشبع، حسن اغتذاء بدنه، وصلح حال نفسه وقلبه. ومن تملى من الطعام شيئاً، غذا بدنه، وأشرت نفسه، وقسا قلبه. فإياكم وفضول المطعم، فإنه يسم القلب بالقسوة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصم الأذان عن السماع للموعظة، والطعام السخن مذموم، ونهى عنه صلى الله عليه وسلم .
وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل متكئاً، رواه البخاري. قال أبي بن كعبٍ: لأن هذا فعل الجبابرة.
وكان عليه السلام لا ينفخ في طعامٍ ولا شرابٍ ولا يتنفس في الإناء. والتمشي بعد العشاء نافع، وتجزئ عنه الصلاة ليستقر الغذاء بقعر المعدة، فيجود هضمه.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أذيبوا طعامكم بذكر الله تعالى والصلاة، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم ولا تكثروا من الحركة عليه فتضروا، ولا تتركوا العشاء فتهرموا). رواه أبو نعيم.(1/78)
يروى عن أنس مرفوعاً:
(تعشوا ولو بكف من حشفٍ، فإن ترك العشاء مهرمةٌ) رواه الترمذي.
وعن جابر مرفوعاً: (لا تدعوا العشاء ولو بكف من تمرٍ، فإن تركه يهرم). رواه ابن ماجه.
وينبغي أن يغسل اليدين من الذفر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا بات أحدكم وفي يده غمرٌ فأصابه شيءٌ فلا يلومن إلا نفسه).
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام:
(الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي الهم).
قال أفلاطون: ((من عرض نفسه على الخلاء قبل النوم دام له حسن صورته)).
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث البراء بن عازب بقوله:
(إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة) الحديث صحيح.(1/79)
فصل [في شرب الماء]
ولا يشرب الماء عقيب أخذ الطعام ولا في خلاله، وليشرب نصف ما يرويه فهو أهضم لطعامه، وليجتنب الشديد البرد فإنه مؤذ لآلات النفس، ولا سيما بعد الطعام الحار، وعلى الحلو، وعقيب الفاكهة، والحلوى، والحمام، والجماع، ولا يجمع بين ماء البئر وماء النهر.
(ولا تعب الماء عباً، فإن الكباد من العب) رواه البيهقي.
الكباد: وجع في الكبد. والعب: جرع الماء جرعاً كبيراً.
وروي عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثاً ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ. قال أنس رضي الله عنه: وأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً) هكذا أخرجه مسلم.
وروى أبو نعيم: (أنه كان إذا شرب صلى الله عليه وسلم قطع ثلاثة أنفاسٍ، يسمي الله إذا بدأ، ويحمده إذا قطع).
والشراب هنا هو الماء، لأن الشراب في اصطلاح الأطباء هو الخمر.(1/80)
وفي رواية الترمذي: (كان صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً ويشرب مصاً).
والمراد بالنفس، في هذا الحديث، الشرب بثلاثة أنفاسٍ، يفصل فاه عن الإناء.
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء فالمراد به لمن يشرب وهو يتنفس في الإناء من غير إبانة عن فيه، فربما يخرج من الريق شيءٌ في المشروب، وقد ينتن الإناء مع تكرر ذلك، فلا معارضة إذاً بين تنفسه وبين نهيه.
وأما تقسيمه الماء، فإن فيه مصلحة عظيمة، وذلك أن الحاجة قد تدعو إلى تناول الكثير من الماء لشدة العطش، فلا يؤمن من تناوله دفعة انطفاء الحرارة، وتقسيمه أمان من ذلك.
وأما فائدة التنفس، فإن التنفس يبطل في زمن الازدراد، والحاجة تشتد إلى الماء والنفس، فإذا تنفس ولج شيءٌ من الماء في مجرى النفس فكانت سبباً للاختناق أو الشرق، فإذا تنفس الشارب في خلال شربه أمن من ذلك.
وأما كونه ثلاثة أنفاس، فإنه لا حاجة إلى أكثر من ذلك. وينبغي لكل شارب أن يتنفس ثلاثة أنفاس اقتداءً بفعل نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأما كونه أروى: أي أشد رياً من تناوله دفعة.
وأما أبرأ فهو من برأ من مرضه إذا صح، أي أشد في البراء لما يشرب من أجله. وأما أمرأ أي أخف لأنه من مرئ الطعام أي أشهى. فهذه دقائق حكمية، وحقائق نظرية، يعجز عن جزالتها غير ذوي البصائر، ويقتصر عليها حكماء الأوائل والأواخر، فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الطيب الطاهر، صلاةً دائمةً لا نهاية لها ولا آخر.
وقال أنسٌ رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً).
قال الخطابي: هذا نهي تنزيه وتأديب.(1/81)
وأجاز الشرب قائماً عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وجمهور الفقهاء وكرهه قوم. وقد شرب صلى الله عليه وسلم قائماً.
(وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية).
معناه أن يثني رأسها ويشرب منها. رواه البخاري.
وقال ابن عباس: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء). رواه البخاري.
وعلة ذلك أنه لا يدري ما يأتي إلى فيه، لأنه قد يكون في الماء علقة أو غيرها فتقف في حلقه، وقد حكي مثل هذا.
وقد روى ابن ماجه عن ابن عباس قال:
(كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدحٌ من قوارير يشرب فيه).
قال الموفق عبد اللطيف: الزجاج فاضل للشرب، والهنود تفضله، وملوكها تشرب فيه وتختاره على الذهب والياقوت، لأنه قل ما يقبل الوضر، ويرجع بالغسل جديداً. ويرى فيه كدر الماء وكدر المشروب، وقل ما يقدر الساقي أن يدس فيه السم، وهذا أشرف الخلال التي دعت ملوك الهند إلى اتخاذه.
فصل تدبير الحركة والسكون البدنيين
اعلم أن الحركة المعتدلة أقوى الأسباب في حفظ الصحة، فإنها تسخن(1/82)
الأعضاء، وتحلل فضلاتها، وتجعل البدن خفيفاً نشيطاً. ووقتها بعد انحدار الغذاء عن المعدة، ويقدر ذلك بخمس أو ست ساعات أو أقل أو أكثر، بحسب أمزجة الناس، وبحسب الغذاء.
والحركة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة وتربو وتبدي العرق، فعند ذلك ينبغي القطع.
وأما التي يكثر فيها سيلان العرق فمفرطة، وأي عضوٍ كثرت رياضته قوي ونشط، وكذلك في القوى الباطنة. فإن أراد أن يقوى حافظته فليكثر من الحفظ، وكذلك الذكر والفكر، وقد قال تعالى: {لعلكم تذكرون} و {لعلكم تتفكرون}.
ولكل عضو رياضة تخصه، فللصدر القراءة، ويبتدئ فيها من الخفية إلى الجهرية، وللبصر الخط الدقيق، وللسمع الأصوات الرقيقة الطيبة، وركوب الخيل باعتدال رياضة البدن كله.
وقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رياضة تصلح أبداننا وقلوبنا كقوله صلى الله عليه وسلم :
(اغزوا تغنموا، وسافروا تصحوا).
وقوله: (الصوم صحةٌ).
وقد تقدم [قوله]: (أذيبوا طعامكم [بالذكر والصلاة].
وأما تدبير النوم، فأفضله بعد هضم الغذاء. وينبغي أن يبتدئ بالنوم على اليمين(1/83)
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، صح ذلك عن عائشة أنه كان يبتدئ بالنوم مستقبل القبلة.
ونوم النهار مضر، يفسد اللون، ويورث الأمراض ويكسل فيحذر، إلا في هاجرة الحر، لقوله صلى الله عليه وسلم : (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).
وقال صلى الله عليه وسلم : (استعينوا على قيام الليل بقيلولة النهار).
ويروى عنه: (نومة الصبح تمنع الرزق).
وروى جابرٌ أنه صلى الله عليه وسلم : (نهى أن ينام الرجل بعضه في الشمس وبعضه في الظل).(1/84)
وفي رواية: (أن يجلس الرجل بعضه في الظل وبعضه في الشمس).
رواهما الحافظ أبو نعيم، وقد ذكره أبو داود أيضاً في (سننه).
وقالت عائشة: من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه.
وقال الإمام أحمد: أكره للرجل أن ينام بعد العصر، أخاف على عقله.
ويكره النوم بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وقبل العشاء الآخرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها، [إلا في خيرٍ]، فإن كان في علمٍ، أو ذكرٍ، أو محادثة أهله فلا يكره.
ويكره النوم على الوجه، فإنها نومة جهنمية. ويستحب النوم على طهارة، لما تقدم من حديث البراء.
فصل وأما تدبير الاستفراغ
فتليين الطبيعة إذا احتسبت بمثل طبيخ القرطم والزبيب المربى بالورد، وبمثل الحقن اللينة. ومن الاستفراغات المعتادة في حال الصحة الحمام، والجماع، والجوع.(1/85)
قال أبقراط في فصوله: من كان لحمه رطباً فينبغي أن يجوع، فإن الجوع يخفف الأبدان، وقد شرع لنا الصوم.
وينبغي أن يجتنب الدواء المسهل إلا لضرورةٍ لا سيما لمن لم يعتده.
سئل طبيب كسرى عن [الدواء] المسهل؟ فقال: سهمٌ ترمي به في جوفك أصاب أم أخطأ، فذره إلا لحاجةٍ.
وقد قال أبقراط: من كان بدنه صحيحاً فاستعمل الدواء فيه تعسر، فإن احتيج إليه استعمله بشرطه.
روت أسماء بنت عميس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها: بم تستمشين؟ قالت: بالشبرم، قال: دواءٌ حار باردٌ. ثم استمشت بالسنا، فقال: لو أن شيئاً فيه شفاءٌ من الموت لكان بالسنا) رواه الترمذي.
وفي رواية قال: (أين أنت من السنا).
وفي رواية: (عليك بالسنا).
وهذا الفعل كان منها، والسؤال منه صلى الله عليه وسلم وهي في حال الصحة، وهذا الفعل عند الأطباء يسمى التقدم بالحفظ، وهو أن يوجد سبب المرض في البدن غير نامٍ فيتدارك بالدواء قبل تمامه.
وهذا الحديث دال على أن النبي صلى الله عليه وسلم عارف بقوى الأدوية وتفاوتها في الدرج واشتراكها في الأفعال، فإن الشبرم دواء حار مقرح، والسنا دواء جيد مبارك. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
وأما تدبير الاحتباس: فمتى لانت الطبيعة استعمل لها الأدوية القابضة والأشربة القابضة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.(1/86)
فصل في الحمام
قال الأطباء: أفضله ما كان قديم البناء، واسع الفناء، عذب الماء، قريب الخطا معتدل الحرارة. والبيت الأول مبرد رطب، والثاني مسخن مرطب، والثالث مسخن مجفف.
قال أبو هريرة مرفوعاً:
(نعم البيت الحمام يدخله المسلم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار).
وعن ابن عمر مرفوعاً:
(ستفتح لكم أرض الأعاجم، وستجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمامات، فلا تدخلها الرجال إلا بإزارٍ، وامنعوا منها النساء إلا مريضةً أو نفساء) رواه ابن ماجه.
وستر العورة مجمعٌ عليه لا سيما في الحمام.
روى جابرٌ مرفوعاً:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزرٍ) رواه النسائي.
وينبغي أن لا يدخله إلا بتدريج وكذا الخروج منه، وطول المقام فيه يورث الجفاف والغشي، ويابس المزاج يستعمل الماء أكثر من الهواء، ورطبه بالعكس وما دام الجلد يربو فلا إفراط، فإذا أخذ في الضمور فقد أفرط ووجب الخروج منه، وليزاد الدثار بعده خصوصاً في الشتاء.(1/87)
والاغتسال بالماء البارد يقوي البدن ويجمع القوى.
وينبغي أن يستعمل وقت الظهيرة في قوة الحر للحار المزاج المعتدل اللحم الشاب، ويمنع منه الصبي والشيخ، ومن به إسهال أو نزلة.
والاغتسال بالمياه الكبريتية يزيل الجرب والحكة، وينفع الأمراض الباردة. وقد جاء عن عمر رضي الله عنه قال: الشمس حمام العرب. وقد كره الشافعي الوضوء بالماء المشمس، والحديث فيه لا يصح، ولا أعلم أحداً من الأطباء كرهه.
فصل في الجماع
من أراد الولد فليمسك مدةً عن الجماع ثم يطأ في أول الطهر بعد طول ملاعبة، كما قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر، قال:
(فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك).
وقال جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقاع قبل الملاعبة).
والنكاح من سنن المرسلين، وأفضله [ما وقع] بعد هضم الغذاء، وعند اعتدال البدن في حره وبرده، وخلائه وامتلائه، فإن وقع خطأ فضرره عند(1/88)
الامتلاء أقل، وقد جاء عن ابن عمر أنه كان يفطر على الجماع.
وينبغي أن يجتنب عقيب التعب، والهم، والغم، وعقيب استعمال الدواء، ولا ينبغي أن يستعمل إلا إذا قويت الشهوة التامة، التي ليست عن تكلفٍ ولا فكرةٍ ولا نظرٍ، وإنما أهاجه كثرة المني. والمعتدل منه ينعش الحرارة، ويفرح النفس، ويهيئ البدن للاغتذاء، ويزيل الفكر الرديء، والوسواس السوداوي.
وربما وقع تارك الجماع في أمراض، وهو حينئذٍ أحد الأسباب الحافظة للصحة. والإفراط منه يورث الرعشة والفالج، ويضعف القوة والبصر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم.
وليجتنب جماع العجوز، والصغيرة جداً، والحائض، وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض}.
أي لا تجامعوهن وهن في المحيض، لأن هذا الدم هو دمٌ فاسدٌ، فيضر بذكر الرجل ويقرحه، وقد رأيت ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيءٍ إلا واجتنبوا الفرج. و[وفي رواية: ((إلا النكاح))]، ومن أتى حائضاً فليتصدق بدينارٍ أو نصف دينار). وقيل: ليس عليه إلا التوبة.
وسبب هذا الحديث أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة عندهم امتنعوا عنها وعزلوها في المبيت وفي الأكل والشرب، فلما أخبر عليه الصلاة والسلام بذلك(1/89)
قال: (اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح)، خلافاً لليهود عليهم اللعنة والغضب.
وليحذر التي لم تجامع منذ مدة، [والمتروكة سنين]، والمريضة، والقبيحة المنظر، وجماع المحبوب يسر.
ومما يهيج الجماع حلق العانة، وقد وردت به السنة.
وقال علي رضي الله عنه: (شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قلة الولد، فأمره بأكل البيض).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام قلة الجماع، فقال: أين أنت من أكل الهريسة فإن فيها قوة أربعين رجلاً).
وعن أبي رافع قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالساً إذ مسح يده على رأسه وقال: عليكم بسيد الخضاب الحناء، فإنه يطيب البشرة، ويزيد في الجماع).
وفي رواية أنسٍ: اختضبوا بالحناء فإنه يزيد في شبابكم وجماعكم ونكاحكم).
وفي رواية: (جز الشعر يزيد في الجماع) ذكر هذه الأحاديث أبو نعيم.
ومن الأغذية الجيدة لذلك: أكل الحمص، والبصل، والبيض، والديوك، والعصافير، وشرب اللبن الحليب بعدها، والراحة، والدعة، وكذلك أكل لب(1/90)
حب الصنوبر واللوبيا، واللفت، والجزر، والعنب، والهليون، وقلب الفستق، واللوز، والبندق وما شاكل ذلك، واجتناب الحوامض والموالح.
وسيأتي ذلك في باب الأدوية المفردة إن شاء الله تعالى.
ومن أراد المعاودة فليتوضأ، وقد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ).
ويستحب التسمية عنده، قال عليه الصلاة والسلام:
(لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال:
بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يمسه الشيطان) رواه خ.
ويستحب له أن لا ينام حتى يتوضأ، وقد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها، وكذلك إذا أراد أن يأكل أو يشرب، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب. وقد يموت فلا تشهد الملائكة تغسيله،(1/91)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد النكاح ويأمر به، وقال:
(حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة). رواه س.
فالطيب هو غذاء الروح، والروح مطية القوى، ولا شيء أنفع من ذلك بعد الجماع.
وأما ذكره الصلاة بعد هذين الوصفين، فإن الجماع يستوعب مادة الشبق، المعمى عليه عين العقل، المكدر بصر البصيرة، الساد على الفكر بابه، القاطع على الرأي طريقه، وعلى الدين أسلوبه، ولذلك تسميه الأطباء جنوناً.
ولعمر الله، هو أشد من الجنون، وأغلب للإنسان من كل غالب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : (ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن).
وإنما ذهب لب الرجل بسبب شدة شبقه. وإذا كان كذلك فقد يفقد العبد شمل النية التي لا تصح الصلاة إلا بها، واختلاف الفقهاء في بطلان الصلاة مع كثرة حديث النفس والوسواس معروف، فلذلك أمر به صلى الله عليه وسلم ، وحث عليه، وجعله من سنن المرسلين، وقرنه بذكر الصلاة، ليحضر العبد في الصلاة خالي السر من الأفكار والوساوس الرديئة، فتكون صلاته تامة كاملة، وأوجب الغسل بعده. والله أعلم.
قال الأطباء: والاستمناء باليد يوجب الغم، ويضعف الشهوة والانتشار، وقد كرهه الشارع.(1/92)
فصل في الفصد والحجامة
وهما من حوافظ الصحة، وقد بوب عليه البخاري في ((باب الحجامة من الداء)) وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجامة فقال:(1/93)
(إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط) رواه خ.
وفي رواية: (ما كان أحدٌ يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً في رأسه إلا قال له: احتجم، ولا وجعاً في رجليه إلا قال اخضبهما بالحناء) رواه أبو داود.
والأحاديث فيها كثيرة، ومنافعها جمة. وفي كراهة فصد العروق روايتان: أظهرهما عدم الكراهة، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً فكواه وفصد العروق.
وفي رواية:
(خير الدواء الحجامة والفصد).
والحجامة تنقي سطح البدن، والفصد لأعماقه.
والحجامة تستعمل في البلاد الحارة، والفصد في البلاد الباردة.
وينبغي أن يستعمل الحجامة في زيادة القمر، لأن الرطوبة تكثر في ظاهر الأبدان، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بصيام أيام البيض.
وينبغي أن يجتنب الحجامة بعد الحمام إلا من غلظ دمه، فيستحب أن(1/95)
يستحم وبعد ساعة يحتجم ويكره على الشبع.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم : (الحجامة على الريق دواءٌ، وعلى الشبع داءٌ).
وروى ابن ماجه أن ابن عمر قال لنافع: يا نافع قد تبيغ بي الدم، فالتمس لي حجاماً رفيقاً، ولا تجعله شيخاً كبيراً ولا صبياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(الحجامة على الريق أمثل، فيه شفاءٌ وبركةٌ، تزيد في الحفظ وفي العقل).
وهي تحت الذقن تنفع وجع الأسنان والوجه، وعلى الساقين تنفع من دماميل الفخذ والنقرس، والبواسير، وحكة الظهر. ومنافع الحجامة أضعاف ما ذكرناه. والحجامة على النقرة تورث النسيان.
وظاهر مذهب أحمد كراهية أجرة الحجام.
وقال ابن عباس: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره).
ولو علمه خبيثاً لم يعطه، أخرجه البخاري.
وأما مواضعها، فقال ابن عباس: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأسه من وجعٍ كان به).(1/96)
وفي رواية: (من شقيقةٍ كانت به) رواه خ.
وقال أنسٌ: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخدعين والكاهل). رواه ت.
والأخدعان: عرقان في جانبي العنق، والكاهل: مقدم أعلى الظهر.
وقال أبو هريرة: (إن أبا هندٍ حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ) رواه د.
وقال أنس: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر قدمه) رواه ت وس.
وأما الأيام التي تستحب فيها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة، وإحدى وعشرين كان شفاءً من كل داءٍ). رواه أبو داود. وهو على شرط مسلم.
وقوله: (شفاءٌ من كل داءٍ) سببه غلبة الدم. وعن أنس نحوه، رواه الترمذي.
وإذا احتاجت المرأة إلى الحجامة فينبغي أن يحجمها ذو محرمٍ لها، لحديث أم سلمة قالت: (استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها، وكان أخاها من الرضاعة أو غلاماً لم يحتلم). رواه م.
وكان أبو بكرة ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (وفيه ساعةٌ لا يرقأ فيها الدم) رواد د.(1/97)
قلت: هذا النهي كله إذا احتجم في حال الصحة. وأما في وقت المرض وعند الضرورة، فعندها سواء كان سبع عشرة أو عشرين.
قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم في أي وقتٍ هاج به الدم وأي ساعةٍ كانت.
وروى البخاري أن أبا موسى احتجم ليلاً، وأول ما خرجت الحجامة من أصبهان.
وقالت الأطباء: ينبغي أن تكون الحجامة في نقصان القمر، والفصد في زيادته.
واعلم أن الفصد إذا وقع في غير مكانه أو لعدم حاجةٍ إليه أضعف القوة، وأخرج الخلط الصالح، إلى غير ذلك من المضار.
وليجتنب الفصد والحجامة من حصل له هيضة، والناقه، والشيخ الفاني، والضعيف الكبد والمعدة، ومتزيل الوجه والأقدام، والحامل، والنفساء، والحائض.
وأفضل أوقات الفصد والحجامة الثانية والثالثة من النهار.
[فصل]:تدبير الفصول
وليتلق الربيع بالفصد، والاستفراغ، ومسكنات المواد وكثرة الجماع.
والصيف: بالأغذية الباردة القامعة للصفراء، وتقليل النكاح.
وليجتنب إخراج الدم، وليكثر الاستحمام.
وليحترز في الخريف، من برد الغدوات، وحر الظهائر.(1/98)
وليجتنب كل ما يولد السوداء وليكثر من الحمام.
وليستقبل الشتاء بالدثار، والأغذية القوية الغليظة، والثرائد. وقد ورد النص بفضلها، روى البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وقال: (البركة في الثريد).
وليكثر فيه من اللحوم، وليتوق الإسهال، وإخراج الدم والقيء، وليكثر فيه من الحركة والجماع.
فصل في الأعراض النفسانية
البدن يتغير من جهة الأعراض النفسانية، وهي: الغضب، والفرح، والهم، والغم، والخجل.
أما الغضب فإنه يسخن البدن ويجففه، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى البخاري: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني، قال: لا تغضب) الحديث.
معناه أنك لا تفعل بموجب الغضب، وشاهد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: ليس بذاك، لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب).(1/99)
[ولذلك يجب على من كان يسرع إليه الغضب] أو كان سيء الأخلاق ينبغي أن يريض نفسه حتى لا يغلبه الغضب فيفعل بموجبه، وهذا معنى قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ}.
أثبت لهم الغيظ، ومدحهم على كظمه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب حتى يعرف ذلك في وجهه.
وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) ذكره د.
وفي رواية ت: (ألا إن الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟).
وفي رواية: (وإني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجده: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) رواه مسلم.
وأما الفرح، فمن شأنه تقوية النفس والحرارة، ومتى أسرف قتل بتحليله الروح، وقد ذكر ذلك عن غير واحدٍ أنهم ماتوا من شدة الفرح، وقد نهى عنه بقوله عز وجل: {إن الله لا يحب الفرحين}.
وأما الفرح الإيماني فمحمودٌ مستحبٌ، لقوله سبحانه وتعالى: {فرحين بما آتاهم الله من فضله}، وقوله: {قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا}.
والهم والغم يحدثان الحميات اليومية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الهم والغم، وفي رواية: (من كثر غمه سقم بدنه). ذكره أبو نعيم.(1/100)
فالهم: لأمر ينتظر وقوعه أو ذهابه، والغم: لأمرٍ واقع أو لخيرٍ فات؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الهم والحزن في دبر كل صلاة. وقال ابن عباس مرفوعاً:
(من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
فالحوقلة كلمة تفويض وتسليم، والحزن مقترنٌ بالحال.
وينبغي لمن كثر همه أن يتشاغل بما ينسيه ذلك، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما على أحدكم أنه إذا ألح به همه أن يتقلد قوسه).
وقد خرج الترمذي عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا همه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم).
وعن عبد الله بن مسعود مرفوعاً قال: (ما أصاب عبداً هم ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا(1/101)
من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً).
ذكره أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه.
وأما الخجل، فهو فعل ما يستحيى منه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم).
فصل في مراعاة العادة
قال الأطباء: العادة طبيعة ثانية.
وقال أنسٌ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعشى بعد العشاء الآخيرة).
ذكره أبو نعيم.
وروت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم : (أنه دخل عليها وهي تشتكي، فقال لها: الأزم دواءٌ، والمعدة بيت الداء، وعودوا كل بدنٍ ما اعتاد).(1/102)
وقال علي رضي الله عنه: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الطب، والعادة طبع ثان. رواهما القاضي أبو يعلى.
الأزم: ترك الأكل، فإن الجوع شفاءٌ من الامتلاء.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (المعدة بيت الداء) يشير إلى تقليل الغذاء وترك الشهوات.
وأما العادة فإنها كالطبيعة للمرء، كما قيل العادة طبع ثانٍ، وهي قوة عظيمة في البدن، وهي ركنٌ في حفظ الصحة، فلذلك أمر عليه الصلاة والسلام بأن يجري كل إنسان على عادته.
وروى أبو نعيم عن عائشة قالت: (كان النبي إذا دخل البيت في الشتاء استحب أن يدخل ليلة الجمعة، وإذا ظهر في الصيف استحب أن يظهر ليلة الجمعة).
وعند الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن كما تقدم، فمتى كان البدن معتدلاً بين الجوع والشبع، والنوم واليقظة، واعتاد ذلك كانت النفس نشيطة خفيفة راغبة في الخيرات، ومتى حصل إفراطٌ أو تفريطٌ كانت النفس منحرفة بحسبه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : (أنا أنام وأقوم وأصوم وأفطر) الحديث.
الجزء الثاني من جزءي الجزء العملي في معالجة المرضى
ينبغي أن يراعى من العلاج السن والعادة والفضل والصناعة، ولا يسهل بالدواء شيخ كبير، ولا طفل صغير، ولا من به ذرب البطن، ولا صاحب كد وتعبٍ، ولا قيم حمام، ولا ضعيف القوة، ولا ضعيف البدن جداً، ولا سمين جداً، ولا أسود، ولا من به قرحة، ولا من شدة الحر والبرد، ولا من يعتاد الدواء، وقد تقدم هذا.(1/103)
ولا ينبغي أن يستعمل الدواء إلا [من] بعد النضج التام، والحمام قبل الدواء يعين عليه، والنوم على الدواء الضعيف يقطعه ويضعفه، وعلى القوي يقوى فعله.
وليجتنب الأكل على الدواء إلى أن يقطعه.
ومن عاف الدواء فليمضع قبله الطرخون أو ورق العناب، وليشم البصل.
وإذا خاف القيء فليشد أطرافه شداً قوياً، وليمتص الرمان المر والريباس والتفاح، وإن كان الدواء مطبوخاً فلا يتجاوز مقدار مائة وعشرين درهماً.
ومن وجد مغصاً فليتجرع ماءً حاراً ويتمشى خطوات، وعند قطع الدواء يتقايأ بالماء الحار، وبعد القيء فليأخذ بذر قطونا بشراب التفاح، وبعد ساعةٍ فليتناول الأمراق الساذجة ولا يجمع بين مسهلين في يومٍ واحدٍ، وإنما فصد العروق: القيفال للدماغ، والباسليق للصدر والأكحل مشترك بينهما؛ والأسيلم الأيمن لأوجاع الكبد، والأيسر لأوجاع الطحال، وعرق النسا لأوجاع عرق النسا والنقرس، والصافن لإدرار الحيض، والحجامة على الساقين تقارب الفصد وتدر الطمث، وعلى القفا للرمد والبخر والصداع.(1/104)
والحقنة جيدة للقولنج ووجع المعدة، ووقتها الأبردان.
وحيث أمكن التدبير بالدواء الخفيف فلا يعدل عنه، وتدرج من الأضعف إلى الأقوى إذا لم يغن الأضعف، ولا يقيم العلاج على دواءٍ واحدٍ فتألفه الطبيعة ويقل نفعه.
وإذا أشكل عليك المرض فلا تهجم بالدواء حتى يتضح لك الأمر، وحيث أمكن التدبير بالأغذية فلا يعدل إلى الأدوية.
فصل [في صفات الطبيب]
قال أبقراط: وعلى الطبيب تقوى الله، وطاعته، ونصحه، وحفظ سر المرضى، وأن لا يعطي دواءً قتالاً، ولا يدل عليه، ولا يشير إليه، ولا يعطي للنساء دواء يقتل الأجنة، وأن يكون متباعداً عن كل نجسٍ ودنسٍ، ولا ينظر إلى أمةٍ ولا صبيٍ بشيءٍ من الفحش، غير مشتغل بأمور التلذذ والتنعم واللهو واللعب، حريصاً على مداواة الفقراء وأهل المسكنة، رقيق اللسان، لطيف الكلام، قريباً من الله تعالى.
هذا قوله وهو كافر!
قلت: أبقراط هذا هو شيخ الصناعة وإمامها من حكماء اليونان وأئمتهم، وهو المذهب على الصحيح في صناعة الطب.
ويقال: إن قبره إلى الآن يزار، وقد تقدم الكلام عليه.(1/105)
الفن الثاني يشتمل على جملتين الجملة الأولى: في أحكام الأغذية والأدوية وتشتمل على بابين
الباب الأول في الأدوية المفردة بوب عليه البخاري في كتاب الطب والأدوية
قال الأطباء: الدواء إن لم يؤثر في البدن أثراً محسوساً فهو في الدرجة الأولى.
فإن أثر ولم يضر فهو في الدرجة الثانية.
وإن ضر ولم يبلغ أن يقتل فهو في الدرجة الثالثة.
وإن بلغ ذلك فهو في الدرجة الرابعة ويسمى الدواء السمي.(1/107)
وتعرف قوى الأدوية بالتجربة والقياس، وتركيب الأدوية: إما صناعي كالترياق، وإما طبيعي كاللبن، فإنه مركب من مائية وجبنية وزبدية.
وإذا كان الدواء حاد الرائحة دل على حرارته، وإذا عدم الرائحة دل على برده، والمتوسط متوسط، وعلى هذا فقس.
والحلو حار، والمالح حاد، والحامض بارد، والدسم معتدل.
الباب الثاني في أحكام الأدوية والأغذية
وقد رتبته على حروف المعجم.
قال الله تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوجٍ بهيج. تبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب}.
وقال الله تعالى: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوجٍ كريمٍ}.
فالكريم: الكثير المنافع. والبهيج: الحسن اللون.
وعن قتادة، عن الحسن قال: إن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء البيت دخل المسجد، فإذا أمامه شجرة خضراء، فلما فرغ من صلاته قالت الشجرة: ألا تسألني ما أنا؟ قال: ما أنت؟ قالت: أنا شجرة كذا وكذا، دواءٌ لكذا وكذا، من داء كذا وكذا، فأمر سليمان عليه الصلاة والسلام بقطعها فإذا مثلها، فلما كان من الغد إذا مثلها، فكان في كل يوم إذا دخل المسجد يرى شجرة فتخبره، فوضع عند ذلك كتاب الطب وكتبوا الأدوية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً قال: (كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتةً بين بيديه فيقول: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيءٍ أنت؟ فإن كان لغرسٍ غرست، وإن كانت لدواء كتبت)) رواه أبو نعيم.(1/108)
حرف الألف
أترج: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب النظر إلى الأترج، وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمن كمثل الأترجة طعمها طيبٌ، وريحها طيبٌ). صحيح خ.
أما حمض الأترج فباردٌ يابس، ومنه يعمل شراب الحامض، ينفع المعدة الحارة، ويقوي القلب ويفرحه، ويشهي الطعام، ويسكن العطش، ويفتق شهوة الطعام، ويقطع الإسهال المري، والقيء الصفراوي، والخفقان، ويزيل الغم.
والحمض نفسه يقلع الحبر من الثياب والكلف من الوجه، ويضر العصب والصدر.
وأما لحمه الأبيض فبارد رطب، عسر الهضم، رديء للمعدة، أكله يولد القولنج.
وأما بزره وقشره وورقه وفقاحه فحار يابس، وفي بزره قوة ترياقية؛ إذا دق منه وزن مثقالين ووضع على لدغة العقرب نفعها، وإن شرب منه مثقالان نفع جميع السموم.
وأما قشره الأصفر، فمنه يعمل معجون الأترج. ينفع القولنج، ويقوي الشهوة، ويشهي الطعام، ويحل النفخة، وفقاحه أقوى وألطف، ورائحة الأترج تصلح الوباء، وفساد الهواء.
وقال مسروقٌ: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعندها رجلٌ مكفوفٌ، تقطع له(1/109)
الأترج وتطعمه إياه بالعسل، فقلت لها: ماذا؟ قالت: هذا ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم .
أثلٌ: هو شجرٌ عظيمٌ، له ورقٌ يشبه ورق الطرفاء، ويثمر حباً كالحمص يسمونه العذبة.
وقوة العذبا تشبه قوة العفص، بادرة يابسة في الثالثة، وهي تقبض البطن، وتقطع الدم، وذكر الله تعالى في القرآن الأثل.
إثمدٌ: هو الكحل الأصبهاني، مزاجه باردٌ يابسٌ يقوي عصب العين، ويحفظ صحتها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر، وينبت الشعر). أخرجه د، [ت].
وقوله: (إن خير أكحالكم الإثمد)؛ أي في حفظ صحة العين لا في أمراضها.
وروى الترمذي قال: (كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلةٌ يكتحل منها كل ليلةٍ ثلاثةً في هذه وثلاثةً في هذه).(1/110)
وروى أنسٌ نحوه والمروح منه الممسك.
وقال عبد اللطيف: الإثمد ينبت الهدب، ويحسن العين، ويحبب إلى القلوب.
إجاصٌ: وهو الخوخ، باردٌ رطبٌ، مرخ للمعدة، ملين للبطن، وأكله قبل الطعام أنفع منه بعده، ومنه يعمل شرابه، وينفع الحمى الصفراوية، ويلين الطبع، ويقطع العطش، ويدخل في النقوعات المسهلة، والمطابيخ المسهلة.
إذخرٌ: حار، يابسٌ، لطيف، يدر البول والطمث، ويحلل الأورام الباردة ضماداً، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
أرز: أغذى الحبوب بعد الحنطة، وأحمدها خلطاً؛ قيل: حار يابسٌ، وقيل باردٌ يابسٌ، يعقل البطن، وإن طبخ باللبن قل عقله، وإذا أخذ بالسكر سهل انحداره، وخصب البدن، وزاد في المني.
وآكله يرى أحلاماً حسنة، ودقيقه مع شحم كلى الماعز نافعٌ من إفراط الدواء المسهل، وهذا من أسرار الطب. وقد روي: (إن سيد طعامكم اللحم ثم الأرز).
وعن علي رضي الله عنه مرفوعاً: (الأرز شفاءٌ لا داء فيه).
أراكٌ: هو عود السواك، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو أفضل ما استيك به، لأنه(1/111)
يفصح الكلام، ويطلق اللسان، ويطيب النكهة، ويشهي الطعام، وينقي الدماغ، وأجوده ما استعمل مبلولاً بماء الورد.
ويروى عن ابن عباس مرفوعاً: (في السواك عشرة خصال: يطيب الفم، ويشد اللثة، ويذهب البلغم، ويذهب الحفر، ويفتح المعدة، ويوافق السنة، ويرضي الرب، ويزيد في الحسنات، ويفرح الملائكة).
وقال حذيفة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) خ.
ويروى: (السواك يزيد الرجل فصاحةً).
ذكره أبو نعيم. والأحاديث فيه كثيرة مشهورة.
(ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التخلل بعود الرمان والريحان).
ونهى عمر رضي الله عنه عن التخلل بالقصب.
أرنبٌ: لحمها يولد السوداء، وأطيب ما فيها المتن والوركان، وزعموا أنها تحيض. وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكلها.(1/112)
وقال أنسٌ: ((أنفجنا أرنباً فبعث أبو طلحة بوركيها وفخذيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها)) متفق عليه.
إسفاناخٌ: باردٌ رطبٌ؛ جيدٌ لخشونة الحلق والصدر، ملينٌ للبطن.
أسطوخودس: حار يابس، يسهل السوداء، والبلغم، وينفع بارد الدماغ وضعيفه، ومنه يعمل شرابه، وينفع في المغالي الحارة.
آسٌ: باردٌ يابسٌ في الثانية، يقطع الإسهال، وإشمامه يسكن الصداع الحاد ومدقوقه على القروح والبثور ضماداً، ويقوي الأعضاء ضماداً أيضاً.
وإذا جلس في طبيخه نفع من خروج المقعدة والرحم، ودهنه يسود الشعر.
والعرب تسمي الآس: الريحان.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده، فإنه من الجنة).
إلا أنه لا يتخلل به. وماؤه ينفع حرق النار، ومنه يعمل شرابه، وليس في الأشربة ما ينفع السعال ويقطع الإسهال إلا هو وشراب السفرجل.
ومن حب الآس يعمل معجونه.
وعن ابن عباسٍ: (أن نوحاً عليه السلام لما هبط من السفينة أول ما غرس الآس).(1/113)
وعنه قال: (هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة، وهي سيدة ريحان الدنيا، وبالسنبلة، وهي سيدة طعام الدنيا، وبالعجوة، وهي سيدة ثمار الدنيا) رواهما أبو نعيم.
أطريةٌ: حارةٌ رطوبتها مفرطة، تنفع السعال وخشونة الحلق، وهي بطيئة الهضم، وإذا انهضمت غذت غداء كثيراً.
أليةٌ: حارةٌ رطبةٌ، تضر المعدة، وتلين العصب.
وقال أنسٌ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف من عرق النسا: آلية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاءٍ ثم تشرب على الريق كل يومٍ جزءً) أخرجه ابن ماجة.
وقال أنسٌ: (لقد نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثر من ثلثمائةٍ كلهم يبرؤون).
قلت: هذا إذا كان الوجع من يبس، فالألية تلينه وتنضجه، والأعرابية أنفع لرعيها الشيح والقيصوم، فإن الشيح والقيصوم ينفعان من وجع عرق النسا.
أمير باريس: باردٌ يابسٌ، قامعٌ للصفراء، قاطعٌ للعطش، مقوٍ للكبد، وعصارته تطهر اللون، ويقع في النقوعات والأقراص، وفي شراب الديناري.
إنجيار: باردٌ يابسٌ، شرابه يقطع الدم، ولا يمسك الطبع، وتلك خاصيته.(1/114)
أنيسون: حارٌ يابسٌ، يسكن وجع الجوف، ويحلل النفخ، ويدر الحيض واللبن والمني، ويدفع ضرر السموم.
والاكتحال بمائه يجلو البصر، ولذلك تقصد الحيات نبته في أوائل الربيع فتكتحل به، لأنها في الشتاء يضعف بصرها، ويقع في المغالي والمطابيخ.
أوز: حرارته قوية، وفيه رطوبةٌ، وغذاؤه متوسط بين المحمود والمذموم.
حرف الباء
بابونج: حار يابسٌ في الأولى، ملطف، منفخ، ملين، محلل بلا جذب، وتلك خاصيته.
ويدر البول والحيض شرباً وجلوساً في طبيخه. ويخرج الجنين والمشيمة، ويقع في الضمادات والحقن الحارة.
باقلا: فيه بردٌ ويبسٌ ونفخٌ كثيرٌ، عسر الغذاء.
وإذا أكله الدجاج قطع بيضهن، وإذا ضمد به عانة صبي منع نبات الشعر فيها.
وأما مسلوقه فينفع للسعال، وأكله يري أحلاماً مشوشة. ويوهن الفكر، ويورث النسيان، وقد قضى أبقراط بجودة غذائه وانحفاظ الصحة به.
إصلاحه: أكله بالصعتر والزيت والملح.
باذنجان: الأسود منه يولد السوداء، وسحيق أقماعه نافع للبواسير.
وإصلاحه: قليه في الدهن، وأبيضه صالح الغذاء.
برديٌ: باردٌ يابسٌ، يقطع الدم من الجراحة ذروراً. ومضغه يقطع رائحة الثوم(1/115)
والبصل، وإذا نفخ رماده في أنف الراعف: قطع دمه.
وقال ابن سينا: ينفع من النزف، ويدمل الجرح.
وروى البخاري ومسلم: ((أنه لما كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم عمدت فاطمة ابنته إلى حصيرٍ فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته على جرحه فرقأ الدم)).
قلت: المراد بالحصير هنا البردي، لأن في رماده تجفيفاً، فيقطع الدم بذلك، وبوب عليه البخاري في باب دواء الجرح بإحراق الحصير.
برقوقٌ: فعله قريبٌ من فعل الخوخ، وتقدم الكلام عليه.
بزر قطونا: باردٌ رطبٌ، ينفع الزحير والسحج، ويسكن العطش، ويلين الطبيعة.
والمقلو منه يعقل، ولا ينبغي أن يستعمل إلا صحاحاً.
بسفانخٌ: حار يابسٌ، يسهل السوداء، والبلغم، ويقع في المطابيخ والحقن، والفتل.
بسرٌ وبلحٌ: البسر حار، والبلح باردٌ، وكلاهما يدبغان المعدة. وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(1/116)
(كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان يقول: بقي ابن آدم حتى يأكل الجديد بالعتيق).(1/117)
وفي رواية: (إن الشيطان يحزن). رواه النسائي أيضاً، قال: هذا منكر.
بصلٌ: حار، وفيه رطوبةٌ فضلية، أكله ينفع من تغيير المياه، ويشهي الطعام، ويهيج الباه، ويقطع البلغم. وشمه لشارب الدواء يمنع القيء، ومع اللحم يقطع زهومته.
وعن معاوية أنه قرب طعاماً ببصلٍ لوفدٍ، وقال: كلوا من هذا الفحا، فإنه قلما أكل قومٌ من فحا الأرض فضرهم ماؤها.
وأما ضرره، فإنه يصدع، ويظلم البصر، والإكثار منه يفسد العقل، وينسي، وهذه المضار في نيئه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أكل هذه البقلة)، وفي رواية: (من البصل والثوم فلا يقربنا في مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). رواه خ، ونهيه نهي تنزيه.
بصاقٌ: قيل إن الصائم إذا تفل على عقربٍ قتلها.
بطيخٌ: الأخضر منه باردٌ رطبٌ، والأصفر أميل إلى الحرارة.
والعبدلي منسوبٌ إلى عبد الله، وتكثر حرارته بزيادة حلاوته.(1/118)
وكله جلاءً، مدر للبول، سريع الهضم. ودلوك الأصفر مذهبٌ لنمشة الوجه لا سيما بزره.
ويذيب حصى الكلى والمثانة، وهو يستحيل إلى أي خلط صادف المعدة.
وقشر الأصفر إذا طبخ مع اللحم الغليظ أنضجه.
ويجب لآكل البطيخ أن يتبعه طعاماً، فإن لم يفعل غثا، وربما قيأ، ومتى فسد ينبغي أن يخرج من البدن، فإنه يستحيل إلى كيفية رديئة سمية، وليتبعه المحرور سكنجبيناً، والمبرود زنجبيلاً.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : (أنه كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقول: يدفع حر هذا برد هذا، وبرد هذا حر هذا) رواه ت ود.(1/119)
(وكان صلى الله عليه وسلم يحب من الفاكهة العنب والبطيخ).
وقال أبو مسهر الغساني: كان أبي إذا اشترى البطيخ قال: يا بني، عدد الخطوط التي فيها، فإن تكن بالفرد فخليقٌ أن تكون حلوة.
وعن ابن عباس مرفوعاً:
(البطيخ طعامٌ وشرابٌ وريحانٌ، يغسل المثانة، وينظف البطن، ويكثر ماء الظهر، ويعين على الجماع، وينقي البشرة، ويقطع الأبردة).
قلت: لا شبهة أن تكون هذه الخصال في الأصفر منه.
وينبغي أن يؤكل على الجوع المفرط.
بط: هو أحر من لحوم الدجاج.
بقلةٌ حمقاء: وهي الرجلة والفرفج والفرحين، باردةٌ رطبةٌ تنفع المواد الصفراوية. خاصيتها بالخل أكلاً وضماداً، وتنفع الضرس، وتقطع الباه، وتضعف شهوة الطعام، ومن رماها في فراشه لم ير مناماً ولا حلماً. وروي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في رحله قرحةٌ فمرتها فعصر على رجله منها فبرأ، فقال: بارك الله فيك، انبتي حيث شئت).
بلوطٌ: باردٌ يابسٌ، أكله ينفع لمن يبول في الفراش.(1/120)
بندقٌ: فيه حرارةٌ ويبسٌ، بطيء الهضم، ويولد المرارة، ويهيج القيء والصداع ويزيد في الدماغ، وينفع من السموم.
بنفسجٌ: باردٌ رطبٌ في الأولى، وقيل: فيه حرارةٌ، يسكن الصداع الدموي شماً وضماداً وجلوساً في طبيخه وشرابه، ينفع النزلات، ويسكن الأوجاع الباطنية ويستعمل في الحقن، والنقوعات، والمطابيخ، والأقراص، والفتايل، والضمادات.
بورقٌ: حار يابسٌ، يلين الطبيعة، ويدخل في أنواع الحقن، وفي معجون الكمون.
بيضٌ: أفضله بيض الدجاج، والنيمبرشت أفضل من الصلب، وفيه اعتدال، والصلب من مشويه يستحيل إلى الدخانية، ومخه أميل إلى الحرارة، وبياضه إلى البرودة، وإذا طلي الوجه ببياضه منع تأثير الشمس [فيه].
وينفع من حرق النار ضماداً، ويمنعه التنفيط، ويسكن أوجاع العين.
والبيض النيمبرشت ينفع السعال، وخشونة الصدر، وبحة الصوت، ونفث الدم، وهو جيد الكيموس، كثير الغذاء، ويزيد في الباه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أن نبياً شكا إلى الله ضعفاً فأمره بأكل البيض). رواه البيهقي في شعب الإيمان.(1/121)
حرف التاء
ترابٌ: ذكره الله تعالى فقال:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ}.
مزاجه بارد يابس، مجفف للرطوبات. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب).
ترمسٌ: حار يابسٌ، أكله مع العسل يقتل الدود، وكذلك ضماده على السرة، ودقيقه يذهب الآثار من الوجه، وماؤه يقتل البق.
ترنجبين: فيه حرارة تسهل برفق، وهو من أدوية الأطفال، وهو من المن.
تربدٌ، حار يابسٌ، يسهل البلغم الرقيق، فإذا أضيف إليه الزنجبيل أسهل الغليط، ويقع في المطابيخ والحقن والحبوب.
تفاحٌ: فيه رطوبةٌ فضلية، والحامض منه أبرد، والذي يدعى منه الفتحي يقوي القلب. وقد روي مرفوعاً أنه يقوي القلب، ومنه يعمل شراب تفاح يقوي القلب، وينفع الوسواس.
ومن النبطي يعمل ربه، وأكل الحامض منه يورث النسيان.(1/122)
توتٌ: أما الشامي منه فهو باردٌ قابضٌ، والفج منه يشبه السماق في أفعاله. ومنه يعمل ربه، نافعٌ لأوجاع الحلق، والأبيض منه أقل غذاء وأردأ للمعدة. وينبغي أن يؤكل قبل الطعام، ويشرب عليه الماء البارد.
تمرٌ: قال علي رضي الله عنه: خيره البرني.
وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير تمراتكم البرني يذهب الداء).(1/123)
وفي رواية أبي هريرة: (البرني دواءٌ ليس فيه داءٌ).
وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام: (أطعموا نساءكم التمر، فإن من كان طعامها التمر خرج ولدها حليماً).
وأما الرطب فكان طعام مريم، ولو علم الله طعامً خيراً منه لأطعمها إياه، قال الله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا. فكلي} الآية.
(وكان ينقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيشربه الغد وبعد الغد، ثم يأمر به فيسقى أو يهراق).
وفي رواية: (أكل التمر أمانٌ من القولنج).
وقال ابن عباس: كان أحب التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العجوة.
قال المؤلف: لأن العجوة غذاءٌ فاضلٌ كافٍ، وإذا أضيف إليه السمن تمت كفايتها.
وفي رواية: (العجوة من فاكهة الجنة).(1/124)
ذكر هذه الأحاديث أبو نعيم في كتاب (الطب) له.
وعن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) أخرجه خ وم.
وفي رواية مسلم: (من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي).
قال المؤلف: يصبح: أكل صبيحة كل يومٍ، والعجوة: نوعٌ من تمر المدينة أكبر من الصيحاني، يضرب إلى سواد، من غرس النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنما صار فيها هذه المنافع ببركة غرسه صلى الله عليه وسلم .
وهذا مثل وضعه الجريدتين على قبور المعذبين في قبروهما، فكان ببركة وضعه لهما تخفيف العذاب عنهما ما لم ييبسا.
وروى الترمذي أيضاً قال: (العجوة من الجنة وفيها شفاءٌ من السم).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن في العجوة العالية شفاءً) أخرجه مسلم.
ومن السنة للصائم الفطر على العجوة أو التمر.
قال عليه الصلاة والسلام: (من وجد تمراً فليفطر عليه، ومن لا، فليفطر على الماء، فإنه طهورٌ) رواه س.(1/125)
واعلم أن الفطر على التمر أو الزبيب أو الأشياء الحلوة يقوي قوى الصائم، ويعينه على الصوم. وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه كان يفطر على الزبيب. وقال عليه الصلاة والسلام: (بيتٌ لا تمر فيه جياعٌ أهله).
والتمر حار يابسٌ، يزيد في الباه لا سيما مع قلب الصنوبر، لكنه فيه تصديع وضرر لصاحب الرمد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم علياً لما كان أرمد عن أكل التمر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(ونهى صلى الله عليه وسلم عن نقعه مع الزبيب).
وكذلك: (نهى عن نقع الرطب مع العنب).
ويدفع ضرره بقلب اللوز والخشخاش.
تمرٌ هندي: بارد يابسٌ في الثانية، يسهل الصفراء، ويقطع القيء، ويضر الصدر، ويقع في النقوعات والمطابيخ والسكنجبين، ومنه يعمل شرابه، وهو قاطعٌ للعطش.(1/126)
تينٌ: أجوده الأبيض النضيج المقشر، والرطب أجود من اليابس، وفيه حرارة، وهو كثير الغذاء، سريع الانحدار، وهو أغذى من جميع الفواكه، وفيه تليينٌ للطبع وتسكينٌ للعطش الكائن عن بلغمٍ. وينفع السعال المزمن، ويدر البول، ويفتح السدد.
ولأكله على الريق منفعة عظيمة في تفتيح مجاري الغذاء خصوصاً مع اللوز والجوز. وقال أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لو قلت إن فاكهةً نزلت من الجنة لقلت: التين، لأن فاكهة الجنة بلا عجمٍ، كلوا منه فإنه يقطع البواسير، وينفع النقرس).
وقال الأطباء: إدمان أكله يقمل البدن، والجميز رديءٌ للمعدة، قليل الغذاء.
حرف الثاء
ثومٌ: حار يابسٌ في الثالثة، يحلل النفخ، وضماده يقرح الجلد وأكله ينفع من تغيير المياه، ويدر الطمث، ويخرج المشيمة، ويصدع، ويضر البصر.
وقد روي: (يا علي، كل الثوم، فلولا أن الملك يأتيني لأكلته).
وقال علي رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم إلا مطبوخاً).(1/127)
وهو جيد للمبرودين وأصحاب البلغم والمفلوجين، ويجفف المني، ويحلل الرياح، ويقوم في الأوجاع الباردة واللسع مقام الترياق.
وإذا ضمد به لسع الحية والعقرب نفع، ويخرج العلقة من الحلق. وله منافع كثيرة.
روى أنسٌ: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا). رواه خ.
ويذهب ريحه مضغ السذاب.
ثلجٌ وجليدٌ: يضران المعدة والكبد وخصوصاً للضعفاء، وقد يعطش الثلج لجمعه الحرارة ولشدة يبسه.
حرف الجيم
جبنٌ: الرطب منه بارد رطب، والعتيق حار يابسٌ، وأفضله المتوسط، والطري جيد الغذاء، مسمن، والمالح مهزل، ولكنه يزيد الشهوة.
وروت أم سلمة: (أنها قدمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جنباً مشوياً فأكل منه ثم صلى ولم يتوضأ).
رواه الترمذي في (الشمائل)، وعن المغيرة نحوه.
والمشوي نافعٌ لقروح الأمعاء، مانع للإسهال.(1/128)
جرجيرٌ: يسميه الأطباء بقلة عائشة، حار رطب، يحرك شهوة الجماع.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجرجير بقلةٌ خبيثةٌ كأني أراها تنبت في النار).
جرادٌ: حار يابس، قليل الغذاء، الإكثار منه يورث الهزال. وقال ابن أبي أوفى: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزواتٍ نأكل الجراد). رواه خ وم.
وقال عمر: أشتهي جراداً مقلواً.
وقال أنسٌ: (كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد بينهن).
جزرٌ: فيه نفخٌ وحرارة، يهيج شهوة الجماع، وبزره يدر الطمث والبول.
جمارٌ: لب النخل، وهو قلب النخل، أبيض بارد يابس، ينفع للإسهال، بطيء الهضم.
وعن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجمار نخلةٍ، فقال: إن من الشجر شجرةً لها بركةٌ كبركة المسلم).
يعني النخلة. رواه خ وم.(1/129)
جوز الطيب: حار يابس، حابس للطبع، مطيب للنكهة، فيه تخدير للذهن، وهو يحسن، وفعله قريب من فعل الحشيشة، والبطالون يضيفون إليه الزعفران والسكر لكي يطيب الوقت، ويهضم لهم الطعام، ويعينهم على الفساد.
جوز الهند: فيه حرارة ورطوبة، يعين على الباه، وفعله قريبٌ من فعل حب الصنوبر.
جوزٌ: حار يابسٌ، يصدع، وهو عسر الهضم، رديءٌ للمعدة، والطري خيرٌ من اليابس، والمربا بالعسل ينفع أوجاع الحلق.
قال ابن سينا: أكل التين والجوز والسذاب دواء لجميع السموم.
وكذلك [قال] ديسقوريدوس: إن أخذ قبل الأشياء القتالة وبعدها كان بادزهر لها.
ويروى عن المهدي قال: دخلت على المنصور فرأيته يأكل الجوز والجبن، فقلت: ما هذا؟ فقال: حدثني أبي عن جدي، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الجبن والجوز فسأله فقال: (الجبن داءٌ، والجوز داءٌ، فإذا اجتمعا صارا دواءً) رواه صاحب الوسيلة.(1/130)
حرف الحاء
حبة سوداء: وهو الشونيز، قاله البخاري. حار يابسة في الثانية، وقيل: في الثالثة.
أبو هريرة مرفوعاً: (عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داءٍ إلا السام، والسام الموت) رواه خ وم.
الحبة السوداء: بالعربية هي الشونيز بالفارسية. ونقل الجرمي عن الحسن أنها الخردل. ونقل الهروي أنها ثمرة البطم وليس بشيء.
قال عبد اللطيف: الشونيز هو الكمون السود ويسمى الكمون الهندي. ومنافعها جمة، ولذلك شاع إطلاق أنها شفاء من كل داءٍ، فيكون إطلاق كل ويراد به الأكثر مبالغةً. قال الله تعالى: {وأوتيت من كل شيءٍ}.
ويجوز أن يكون لهذا الدواء هذه الصلاحية، وهو في علم الله تعالى وفي علم رسوله كذلك، وامتنع علم ذلك لنا. وإخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هو مثل إخباره أنه (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر).
ومن إخباره بأن في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر شفاء، ومثل هذا كثير. وهذا الإخبار من معجزاته صلى الله عليه وسلم .
فالشونيز نافع من جميع الأمراض الباردة الرطبة، وينفع من الحارة مع غيره ليسرع تنفيذها، وهذا مثل تركيب الأطباء للزعفران في قرص الكافور.(1/131)
والشونيز مذهب للنفخ والبرص وحمى الربع البلغمية، مفتح للسدد، محلل للرياح، مجفف للمعدةالرطبة، مدر للبول والحيض واللبن مع المداومة، وإن سحق بخل وضمد به البطن: قتل الدود الذي يسمى حب القرع، ويشفي من الزكام.
إذا قلي، وشم دهنه نافع من داء الحية، والثآليل، والخيلان.
وإذا دهن به أسرع نبات الشعر واللحية، ومنع الشيب.
وشرب مثقالٍ منه نافعٌ من ضيق النفس ولسع الرتيلاء.
وإذا نعم [وسحق] وسف منه كل يومٍ درهمان بماءٍ: نفع من عضة الكلب وأمن من الهلاك، ودخانه يطرد الهوام، وهو مع الخبز يذهب نفخه، وينفع الصداع، والفالج، اللقوة والشقيقة، والنبضة، والسلبة، والسبات، والنسيان، والدوار، والسدد.
ومنافعه كثيرة، من أرادها كلها فعليه بكتب الأطباء المطولات، فإنهم قد ذكروا لها من المنافع ما لا يتسع له هذا المختصر.
فإذا كان الأطباء قد علموا فيها هذه المنافع، فما ظنك بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!
وأين علم الأذلين الأقلين من علم سيد المرسلين، سيد الأولين والآخرين؟ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم الدين.
حب الصنوبر: حار رطبٌ. يزيد في المني، وترياقه الرمان المز، ويدخل في معجون الفلاسفة.
حرفٌ: هو حب الرشاد، حار يابسٌ، ينفع الزحير عن بردٍ، ويحرك الباه، ودخانه يطرد الهوام، ويحلل الرياح، والقولنج، وفعله كفعل الخردل. ويروى عن(1/132)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماذا في الأمرين من الشفاء: الصبر والثفاء).
قال أبو عبد الله: الثفاء الحرف.
حصرمٌ: باردٌ يابسٌ، قامعٌ للصفراء. وماؤه يقطع الإسهال والقيء، وينبه الشهوة. وشراب الحصرم المنعنع يقطع الغثيان.
حريرٌ: حار يابسٌ، أفضله الخام، وهو من المفرحات، ولبسه يمنع تولد القمل خلافاً لما قاله ابن سينا، فإنه زعم أن لبسه يولد القمل.
وقد روى البخاري ومسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في لبس الحرير لابن عوفٍ والزبير لحكةٍ كانت بهما).
وفي لفظ: (أنهما شكيا القمل في غزاةٍ، فرخص لهما في قمص الحرير).
ولبسه ينفع من غلبة السوداء، مقو للقلب، ولبسه محرمٌ على الرجال.
وفي الحديث دليلٌ على جواز التداوي بالمحرم، والصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله جوازه للحكة ونحوها، ومنعه مالك، والحجة على مالك.
وعن أبي موسى مرفوعاً: (إن الله أحل لإناث أمتي الذهب والحرير، وحرمه على ذكورها) الحديث صحيح.(1/133)
وعن أبي الدرداء مرفوعاً: (إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتداووا ولا تتداووا بمحرمٍ) رواه د.
قوله عليه الصلاة والسلام: (تداووا) أمر، وأقل رتب الأمر: الندب، والنهي فيه دال على التحريم.
فإن قيل: الأمر هنا للإباحة، قلنا: إنما يكون ذلك إذا تقدمـ[ـه] حظر كقوله تعالى:
{وإذا حللتم فاصطادوا} و{فاسعوا إلى ذكر الله} ثم قال {فانتشروا}.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتداوى.
وروى أبو هريرة مرفوعاً: (من تداوى بالحلال كان له شفاء، ومن تداوى بحرامٍ لم يجعل الله فيه شفاءً).
وفي حديث آخر: (وسئل عليه الصلاة والسلام عن الخمر يجعل في الدواء؟ قال: إنها داءٌ وليست بدواءٍ) رواه م. د. ت.
وعن أبي هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالخبث).(1/134)
قال وكيع: يعني السم. رواه ق.
قال ابن الأعرابي: الخبث في كلام العرب: المكروه، فإن كان من الكلام: فهو الشتم، وإن كان من الملل: فهو الكفر، وإن كان من الطعام: فهو الحرام، وإن كان من الشراب: فهو الضار.
وعن عثمان بن عبد الرحمن: (أن طبيباً ذكر ضفدعاً في دواءٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن قتلها) د س.
وعن طارق بن سويد:
(قلت: يا رسول الله، إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها، فقال لا، فراجعته، قلت: إنا نستشفي بها المريض، قال: إن ذلك ليس بشفاءٍ ولكنه داءٌ).
م وأبو داود والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ [صحيح].
قال الخطابي: سماها داء لما في شربها من الإثم. والصحيح أنه لا منفعة فيها، لأن السائل لما سأله كان يعلم أن فيها الإثم، وإنما سأله عن نفعها الطبيعي فيها ونفاه، والله أعلم.
ومعلوم أنها دواء لبعض الأمراض، ولكنه عليه الصلاة والسلام نقلها من باب الدنيا إلى باب الآخرة، ومن الطبيعة إلى الشريعة.
والخمر يذكر ويؤنث كتمرٍ وتمرةٍ.
وقال غيره: ويجوز أن يكون الله تعالى سلبها المنفعة لما حرمها، والله أعلم.(1/135)
قلت: وقد بالغ أهل الكفر والفسوق والعصيان في مدحها حتى قال قائلهم:
رقت فصفت فهي الهوا والماء ... أحيت قتلت فهي الدوا والداء
من حسن صفاتها لها أسماءٌ ... القرقف والرحيق والصهباء
وكان من أعظم نعم الله علينا، بعد أن هدانا للإسلام، تحريمها علينا، فإن تحريمها كان من إكمال ديننا ورحمة ربنا بنا، فإن شربه يذهب بأكمل ما خلق الله فينا، وهو العقل، الذي لو كان يشترى لبذلت فيه الأرواح فضلاً عن الأموال.
ومن شربها علم مفاسدها ومضارها، فإن شاربها يستبيح القبائح والمحرمات من الفروج الحرام، حتى ولو وقعت له ذات محرم لاستحلها وافترشها، مع ما فيها من القبائح، من البول في الثياب، والقيء على الفراش والقماش، وغير ذلك من المحرمات، ومن قتل النفس التي حرم الله وغير ذلك.
ومن أسرف في شربها قد تقتله ويبقى أياماً محموماً منها لا يأكل الطعام، ولا يصحو من رقدة المنام، عافانا الله ما ابتلى به كثيراً من العباد بمنه وفضله.
فإن كنت في شك مما تلي عليك، فاسأل به أهل الكتاب.
حلبةٌ:حارةٌ يابسةٌ. إذا شرب طبيخها أدر الحيض، ونفع من القولنج، ويقع في الحقن [الحارة] والمغالي المنضجة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو تعلم أمتي ما في الحلبة لاشتروها ولو بوزنها ذهباً). نقله صاحب الوسيلة.
ومن خاصيتها أنها تطيب رائحة الرجيع، ونتن ريح العرق والبول.
حلواء: ما كان منها من السكر فهو إلى الحرارة والرطوبة، وهي تملس خشونة الحلق، وتنفع السعال، وغذاؤها صالحٌ، وما كان منها من العسل فهو أحد، وأرفق لأصحاب البلغم.(1/136)
وقالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل) خ.
وحلاوة الخبيصة تنفع أصحاب السوداء والمسلولين، ومن به أرقٌ.
حمصٌ: حار رطبٌ، وفعل الأسود أقوى من الأحمر، وفعل الأحمر أقوى من الأبيض.
فيه نفخ، ويحرك شهوة الباه، ويزيد في المني واللبن، ويحسن اللون، ويفعل في البدن ما يفعله الخمير في العجين.
قال الأطباء: الجماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء هي موجودة في الحمص.
حمامٌ: وحشية اقل رطوبةً، وفرخه أرطب، وأكله يعين على الجماع، ويأكله المحرور بالحصرم.
وأكل حمام الأبراج شفاءٌ من الجدر، والاسترخاء، والرعشة.
وعن الحسين قال: لا تطرقوا الطير في أوكارها بالليل، فإن الليل أمانٌ لها.
حمار وحشٍ: حار يابسٌ، يولد دماً غليظاً، وشحمه ينفع [من] وجع الظهر والكلى، [والبرد].(1/137)
وحديث أبي قتادة في صيده مشهورٌ، ورواه خ.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية مشهورٌ أيضاً، رواه خ.
حنطةٌ: حارة، معتدلة في الرطوبة واليبس، إذا أكلت نيئةً ولدت دود البطن ونفخت.
وينبغي أن يؤخر الدقيق بعد طحنه أياماً ثم يعجن.
حنظلٌ: حار يابسٌ في الثالثة. وينبغي أن يجتنب حبه وقشره، ويستعمل شحمه مفروكاً بلب الفستق. والمفرد منه على الشجر قاتل، وهو يسهل البلغم بعنفٍ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المنافق كالحنظلة لا ريح لها وطعمها مر).
حناءٌ: باردٌ يابسٌ، وقيل: فيه حرارةٌ تنفع من قروح الفم، ومن القلاع، ومن الأورام الحارة.
وماؤه مطبوخاً ينفع حرق النار، وخضابه يحمر الشعر ويحسنه، وينفع تقصف الأظفار.(1/138)
وإذا خضب به رجلا المجدور في ابتدائه: لم يقرب الجدري عينه، مجربٌ.
وقد روت أم سلمة قالت: (كان لا يصيب رسول الله قرحةٌ ولا شوكةٌ إلا وضع عليها الحناء) رواه ت ق.
وفي تاريخ البخاري: (ما شكا أحدٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً في رأسه إلا قال: احتجم، ولا وجعاً في رجليه إلا قال: اختضب بالحناء) وأخرجه د.
وروي: (ما من شجرةٍ أحب إلى الله من الحناء).
وروى أبو هريرة [قال]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)، أخرجاه.
وقال أحمد بن حنبل: ما أحب لأحدٍ إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (غيروا الشيب ولا تتشبهوا بأهل الكتاب)، قال ت: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقال أحمد: اخضب لو مرةً واحدةً، أحب لك أن تخضب ولا تشبه باليهود.
وعن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أحسن ما غيرتم به الشيب: الحناء(1/139)
والكتم) ويكره السواد.
وعن أبي رافع قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا مسح يده على رأسه ثم قال: عليكم بسيد الخضاب الحناء، يطيب البشرة، ويزيد في الجماع).
وروى أنسٌ: (اخضبوا بالحناء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم). رواهما أبو نعيم.
قال الموفق عبد اللطيف: لون الحناء ناري محبوبٌ، بهيجٌ، قوي المحبة، وفي رائحته عطرية.
وقد كان يخضب بالحناء عامة السلف مثل محمد ابن الحنفية وابن سيرين وخلقٌ كثير.
وخضب أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة وخلقٌ.
وكان ابن عمر يصفر لحيته وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته).(1/140)
وفي البخاري: (أن أم سلمة أخرجت إليهم من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مخضوبٌ بالحناء والكتم).
وقال أنسٌ: (رأيت شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً).
وأما قول أم سلمة: (إنه كان لا يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرحةٌ ولا شوكةٌ إلا وضع عليها الحناء)، فإن القرحة علاجها بما يجفف عنها الرطوبة كي تتمكن القوة من إنبات اللحم فيها، والحناء تفعل ذلك، لتجفيفه تلك الرطوبة الفضلية التي تمنع نبات اللحم في القرحة.
وأما الشوكة فإن في الحناء قوة محللة ترخي العضو، فتعين على خروج الشوكة.
ومنه نور الحناء إذا وضع في الثياب الصوف طيبها، ومنعها العثة.
وقال بعض المجربين إن نقع ورقه ثم عصره وشرب منه عشرين يوماً كل يوم زنة أربعين درهماً بعشرة دراهم سكر، نفع من ابتداء الجذام، ويغتدي عليه بلحم خروف، فإن لم يبرأ، لم يبق فيه برءٌ.(1/141)
حرف الخاء
خبازى: باردٌ رطبٌ، يلين الطبع، والحلق، وينفع من السعال، وبذرها يدخل في الحقن اللينة وغيرها، وطبيخها ينفع من حكة المقعدة.
خبزٌ: قال الله تعالى:
{فابعثوا أحدثكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزقٍ منه وليتلطف}.
قال الأطباء: أفضله التنوري، النضج، النقي، ومزاجه حار، فيه يبسٌ، ولا ينبغي أن يؤكل حتى يبرد، فإن الحار منه معطشٌ، وأحمد أوقات أكله يوم خبزه، واليابس والفطير يعقلان البطن ويتلوه الفرني، وما عدا ذلك فرديء.
ومهما قلت نخالته أبطأ هضمه لكنه أكثر تغذية.
واللين منه أغذى وأهضم، والمتخذ فتيتاً نفاخٌ، بطيء الهضم.
وخبز القطائف يولد خلطاً غليظاً، والمعمول باللبن مسدد، كثير الغذاء، بطيء الانحدار.
وخبز الشعير: مبردٌ منفخٌ.
وخبز الحمص: بطيء الهضم فينبغي أن يكثر ملحه.
ويروى عن عائشة مرفوعاً: (أكرموا الخبز فإن الله سخر له السموات والأرض).(1/142)
وإذا كان في دقيق الخبز ترابٌ: ولد لآكله الحصى في المثانة والكلى.
خرنوبٌ: باردٌ قابضٌ عاقلٌ للبطن، رديءً للمعدة، وربه مائل إلى حرارة، يطلق البطن.
وروي أن عصا سليمان عليه السلام كانت من شجر الخرنوب.
خردلٌ: حار يابسٌ في الرابعة، يقطع البلغم، والإكثار منه يورث العمى، وفيه تفتيح لسدد الدماغ.
خس: بارد رطب منومٌ، أغذى من جميع البقول، وأكله يزيد في اللبن، وينفع من الهذيان، ويجفف المني، ويسكن شهوة الباه، وإدمان أكله يضعف البصر.
خشخاشٌ: باردٌ يابسٌ في الثانية، مخدر منومٌ.
خطمي: حار باعتدالٍ، وطبيخ أصله ينفع من الزحير، وبزره يقع في الحقن اللينة.(1/143)
خل: مركب من حار وباردٍ، والبارد أغلب، يابسٌ في الثالثة.
ينفع التهاب المعدة، ويضر السوداء وأيضاً البلغم. وينفع الجمرة، والنملة، والجرب، وحرق النار، ومع دهن الورد والماء للصداع آية. ويتمضمض به لوجع الأسنان، يسكنها سواء كانت حارة أو باردة، وهو يوقد نار المعدة، ويعين على الهضم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نعم الإدام الخل) م.
وروي مرفوعاً: (اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي).
وفي رواية: (ما اقفر بيتٍ فيه الخل) ق.
وبه يعمل شراب السكنجبين وعقيده، ويسمى بالعراق: الخل.
يحفظ صحة المحرورين، وينفع الحميات العفنة، ويقلل المني، والفطر عليه يقلل الولد.
خمرٌ: هو المتخذ من العنب خاصةً.
قال المؤلف: هذا قول الحنفي.
وأما جمهور الأئمة، فعندهم كل مسكر خمر، كما دلت عليه النصوص، وقد تقدم الكلام عليه في باب الحرير.
خلالٌ: تقدم ذكره في الأراك.(1/144)
خمطٌ: قال أبو عبيدة: الخمط كل شجرةٍ لها شوكٌ [تسمى خمطٌ].
وقال غيره: الخمط شجر الأراك، وقد ذكر في الأراك، وقد ذكر الله تعالى الخمط.
خيارٌ: أبرد وأغلظ من القثاء. أجوده ما كان متلزز الجسم، صغير الحب، وينبغي أن يؤكل بالعسل، وأفضله لبه.
خيار شنبر: فيه حرارةٌ تسهل السوداء والصفراء، ويتغرغر به لأورام الحلق مع اللبن الحليب، ويسهل به الحبالى، ويصلح بدهن اللوز، ويدخل في أنواع المطابيخ والحقن واللعوقات.
حرف الدال
دار صيني: حار يابسٌ في الثالثة، فيه لطف، يقوي المعدة. ومضغه على الريق ينفع غشاوة البصر، ويقوي الذهن.
دبسٌ: حار رطبٌ، يولد دماً عكراً، ويصلحه اللوز والخشخاش والشيرج.
ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام وجدهم يصنعون الدبس، فسألهم عنه فأخبروه أنه يعمل من عصير العنب: يطبخ حتى يذهب ثلثاه، فقال: يذهب حرامه ويبقى حلاله، ويذهب شدته وريح جنونه، مروا أجناد المسلمين أن يشربوه ويتقووا به.
وذكره ابن الخليلي في (مختصر فتوح الشام).
دجاجٌ: وهو أفضل لحم الطير، حار رطبٌ في الأولى، خفيفٌ في المعدة، سريع الهضم، جيد الخلط، يزيد في الدماغ والمني، ويحسن اللون، ويقوي العقل، لكن(1/145)
مداومة أكله تورث النقرس، وأفضله ما لم يبض.
والديك أسخن وأقل رطوبة.
والعتيق منه دواء للقولنج، والخصي سريع الهضم محمود الغذاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا سمعتم صوت الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً).
وفي الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحم الدجاج).
ومرق الفراريج يسكن لهيب المعدة، ذكره ابن البيطار، ولحمها سريع الهضم، ملين للطبع، يولد دماً جيداً.
دقيقٌ: قد ذكر مع الخبز.
حرف الذال
ذبابٌ: لم يذكر الأطباء فيه، غير أنه إن دلك به لسعة زنبور أو عقرب: نفع نفعاً بيناً. وإن دلك به ورم الجفن أبرأه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) رواه م.(1/146)
وقال خ: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم). وبوب عليه (باب إذا وقع الذباب في الإناء) وفي رواية ابن ماجه وأبي داود: (وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء).
ونقل الخطابي أن بعض من لا خلاق له تكلم على هذا الحديث وقال: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي ذبابة؟ وكيف يعلم حتى يقدم جناح الداء ويؤخر جناح الشفاء؟ قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي كيفيات متضادة، ثم إن الله قد ألف بينها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزءين من حيوانٍ واحدٍ، وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت من الشمع وتعسل فيه، وألهم الذرة أن تتخذ قوتها لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية أن تؤخر جناحاً وتقدم جناحاً.
وفي كل شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنه الواحد
قلت: وقد نقل الأطباء أن الذباب الذي يسمى الذراريح في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء.
ذهبٌ: معتدلٌ، فيه حرارةٌ لطيفةٌ تدخل في المفرحات، ويقوي القلب، وينفع الفم. وإمساكه في الفم يزيل البخر، ويكوى به فلا ينفط ويبرأ سريعاً.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استعمال آنية الذهب والفضة، وجوز التداوي بهما.(1/147)
حرف الراء
راوندٌ: قيل: حار، وقيل: باردٌ. أجوده الطري السالم من السوس، يفتح سدد الكبد، وينفع الحميات المزمنة وأصحاب الاستسقاء.
رازيانجٌ: حار يابسٌ في الثالثة. ماؤه يجلو البصر ويدر البول والطمث، وأكله يكثر اللبن، ويقع في المغالي المنضجة والمطابيخ والسفوفات.
رطبٌ: تقدم ذكره في حرف التاء مع التمر، وهو حار رطبٌ، يولد نفخاً، ويصلحه المحرور بالسكنجبين والرمان المز، وقد: (نهى عليه الصلاة والسلام أن يجمع بين نقعه مع الرطب).
رمانٌ: قال تعالى: {فيها فاكهةٌ ونخلٌ ورمانٌ}.
والحلو منه حار رطبٌ، شربه يقطع السعال، وأكله على الطعام يمنع فساده في المعدة، وأفضله الإمليسي.
والحامض منه باردٌ يابسٌ يقمع الصفراء، ومنه يعمل شراب الرمان المنعنع، يمنع القيء ويقوي المعدة، والمز بينهما.
وجميع أصناف الرمان يسكن الخفقان. وروى أبو نعيم عن أنسٍ:(1/148)
(أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرمان، فقال: ما من رمانةٍ إلا وفيها حبةٌ من رمان الجنة).
وفي رواية: (ما لقحت رمانةٌ إلا بقطرةٍ من ماء الجنة).
وفي رواية: (ما أكل رجلٌ رمانةً إلا ارتد قلبه إليه، وهرب الشيطان منه).
وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: (من أكل رمانة نور الله قلبه).
وكان ابن عباس إذا وجد الحبة من الرمان أخذها فأكلها، فقيل له في ذلك، فقال: إنه بلغني أنه ليس في الأرض رمانة تلقح إلا بحبةٍ من حب الجنة، فلعلها هذه.
وفي بعض الأثر: (عليكم بالرمان، وكلوه بشحمه فإنه دباغ المعدة).
وحكى الآمدي عن ابن بطلان أنه قال: من أكل ثلاثة أيام من أقماع الرمان أمن [من] رمد عينيه سنة.
وقيل: من ابتلع ثلاثةٌ من حب الرمان في العام أمن رمد العام.(1/149)
رملٌ: ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اندفن فيه صاحب الاستقساء خففه ونفعه.
ريحانٌ: حار، اشتمامه يقوي القلب، والمرشوش منه بالماء ينوم.
وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عرض عليه الريحان فلا يرده، فإنه خفيف الحمل، طيب الرائحة).
حرف الزاي
زبدٌ: حار رطبٌ في الأولى منضج، محلل، أجوده الطري.
ينفع من اليبس والسعال اليابس، ويضعف شهوة الطعام، ويذهب بوخامته العسل أو التمر.
وروى أبو داود: (أنه كان عليه الصلاة والسلام يحب الزبد والتمر).
وروى أبو نعيم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: إنك أحب إلي من الزبد والعسل).
زبيبٌ: أحمده الكبار الكثير اللحم، الصغير العجم، حار رطبٌ، يسخن، ويعطش، ويسمن أبدان المبرودين، ويصلح المحرورين بالسكنجبين، وحبه يخشن المعدة، ويقع في سفوف الحب رمان.(1/150)
يروى عن تميم الداري: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم زبيباً فلما وضعه بين يديه قال لأصحابه: (كلوا، فنعم الطعام الزبيب يذهب التعب، ويطفئ الغضب، ويشد العصب، ويطيب النكهة، ويذهب البلغم، ويصفي اللون).
وقال علي رضي الله عنه: (من أكل كل يومٍ إحدى وعشرين زبيبةً حمراء لم ير في جسده ما يكره) ذكرهما أبو نعيم.
ويروى عن ابن عباسٍ: (كلوا الزبيب واطرحوا عجمه، فإن في عجمه داءً، وفي لحمه شفاءً).
وعنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب فيشربه في اليوم والغد أو بعد الغد ثم يأمر به فيسقى أو يهراق).
وفي رواية: (فيسقى الخدم).
و(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزبيب في النقع) خ.
وقال الزهري: من أحب حفظ الحديث فليأكل الزبيب.
وكان الزهري يأكله ولا يأكل التفاح الحامض.(1/151)
وغذاء الزبيب أصلح من غذاء التمر.
ومن أخذ من الزبيب وقلب الفستق وحصا اللبان كل يوم على الريق قوي ذهنه.
زقومٌ: اسمٌ لنباتٍ بالحجاز، وذكره الله تعالى: {إن شجرت الزقوم. طعام الأثيم} الآية.
زعفرانٌ: حار يابسٌ، مفرحٌ، يقوي الروح. روي عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بزعفرانٍ أو ورسٍ) [رواه البخاري]. وذلك لأن الزعفران يقوي جوهر الروح فيعين على الباه، وقد نهي المحرم عن الباه.
زنجبيلٌ: ذكره الله تعالى في القرآن، حار [في الثالثة]، يابسٌ في الثانية، وفيه رطوبة فضلية، يعين على الهضم، ويقوي الباه، ويحلل الرياح.
وإذا أضيف إليه الثريد قوي فعله وأسهل الغليظ من البلغم، والمربى منه يسخن المعدة وينفع من الهرم.
وعن أبي سعيد: (أن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جرةً فيها زنجبيلٌ، فأطعم كل إنسانٍ من أصحابه قطعةً).(1/152)
زيتٌ وزيتونٌ: [زيت] الإنفاق هو المعتصر من الزيتون الفج، وهو باردٌ يابسٌ، والمتخذ من الزيتون المدرك حار باعتدال، مائلٌ إلى الرطوبة، وكلما عتق قويت حرارته، والادهان به يقوي الشعر والأعضاء، ويبطئ الشيب.
وشربه ينفع السموم، ويطلق البطن، ويسكن وجعها، ويخرج الدود.
ومنافعه جمة، وجميع الأدهان تضعف المعدة إلا الزيت، والإنفاق منه أفضل.
وعن ابن عمر مرفوعاً: (ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه من شجرةٍ مباركةٍ) ق.
وفي قوله عز وجل: {وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن} هو الزيت {وصبغٍ للأكلين} هو الائتدام.
وفي الترمذي: (كلوا الزيت وادهنوا به).
وعن عقبة بن عامرٍ: (عليكم بزيت الزيتون كلوه وادهنوا به، فإنه ينفع من البواسير) رواه ابن الجوزي. وفي روايةٍ: (من ادهن بزيتٍ لم يقربه شيطانٌ).(1/153)
و(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الزيت والورس من ذات الجنب).
وقيل: الزيت ترياق الفقراء.
وأما الزيتون الأخضر: فباردٌ يابسٌ، جيدٌ للغذاء، مقوي للمعدة، مثيرٌ للشهوة، مانعٌ تراقي الأبخرة.
وأما الأسود: فحار يابس، يولد السوداء، رديءٌ للمعدة.
وأما الزيتون المالح، فينفع من حرق النار، ومضع ورق الزيتون ينفع من قلاع الفم، ومن الجمرة، والنملة، والشرى.
حرف السين
سبستانٌ: معتدلٌ، يلين الحلق والبطن، ويدخل في المطابيخ والحقن والمغالي.
سدرٌ: الاغتسال منه ينقي الرأس أكثر من غيره، ويذهب الحرارة، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل الميت وذكره الله تعالى.(1/154)
سفرجلٌ: باردٌ يابسٌ قابضٌ، جيدٌ للمعدة، ويقطع الهيضة، وأخذه بعد الطعام يلين البطن، والإكثار منه يولد القولنج، ولعابه ينفع السعال وخشونة الحلق.
ومن السفرجل يعمل الميبسة المطيبة والساذجة، وجوارش السفرجل المسهل والقابض، وشراب الليمون السفرجلي، وشراب السفرجل الخام.
ودهنه يمسك العرق، ويقوي المعدة، ويشد القلب، ويطيب النفس، والمطيب منه بالعنبر أقوى.
وعن أنس مرفوعاً: (كلوا السفرجل على الريق).
وقال طلحة: (دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرجلة وقال: دونكها، فإنها تجم الفؤاد). رواه ابن ماجه.
وعنه عليه الصلاة والسلام.
(كلوا السفرجل، فإنه يجلو عن الفؤاد [داءً]، وما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا وأطعمه من سفرجل الجنة، فزيد في قوته قوة أربعين رجلاً).
وعنه: (أطعموا حبالاكم السفرجل، فإن يجم الفؤاد، ويحسن الولد).(1/155)
يجم الفؤاد: أي يريحه ويوسعه، والله أعلم.
سكرٌ: حار رطبٌ، يجلو البلغم، ويلين البطن، والأحمر منه أشد تلييناً، ويوصل قوى الأدوية إلى المقاصي من الأعضاء، وقصبه فيه رطوبة فضلية، والإكثار منه يولد الجرب.
سك: يقوي المعدة، ويقلع رائحة العرق. وروي عن ابن أبي شيبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطيب بالمسك).
سلوى: هو السماني، قال الله عز وجل: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى}.
والسلوى: طائر ينزل من البحر، أكله يلين القلب القاسي، وهو جيد الكيموس، نافع للأصحاء والناقهين، ومزاجه قريب من مزاج الدجاج، ويسمى: قتيل الرعد، لأنه إذا سمع الرعد مات.(1/156)
سماقٌ: باردٌ يابسٌ، قابضٌ [للمعدة]، مشهي للطعام.
سمسمٌ: حار رطبٌ، وهو أكثر البزور دهناً، يضر المعدة، وأكل كسبه يولد بخر الفم.
سمنٌ: حار رطب في الأولى، يضر المعدة، وسمن البقر مع العسل ينفع من السم شرباً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : (ألبان البقر شفاءٌ، وسمنها دواءٌ).
وفي رواية: (عليكم بألبان البقر، فإنها ترم من كل شجرةٍ).
وقال علي رضي الله عنه: لم يستشف الناس بشيءٍ أفضل من السمن. رواه أبو نعيم.(1/157)
سمكٌ: أجوده المتوسط، وما كان في ماءٍ عذبٍ على خضخاضٍ، ويغذى بالنبات لا الأقذار.
والطري منه باردٌ رطبٌ، عسر الهضم، يولد البلغم ويصلح المزاج الحار، والمالح حار يابسٌ، يولد الجرب والحكة، والسلور كثير السهوكة، لا تأكله اليهود.
سنا: حار يابسٌ في الأولى، وقد تقدم حديث أسماء بنت عميس فيه، وهو مما يكون بمكة شرفها الله كثيراً، ولذلك يختار الأطباء السنا المكي، لأنه أفضل أنواعه.
وروى ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (عليكم بالسنا والسنوت، فإن فيهما شفاءً من كل داءٍ إلا السام).(1/158)
والسام: الموت، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء: (فيهما شفاءٌ من كل داءٍ): يريد من أكثر الأدواء.
والسنا: دواءٌ شريفٌ مأمون الغائلة، يقوي القلب، ويسهل بلا عنف، ولذلك أدخله الأطباء في كل الأدوية لشرفه عندهم وكثرة منافعه، فيدخل في النقوعات المسهلة والمطابيخ والحبوب والحقن والشفافات والسفوفات، وما ذاك إلا لحسن إسهاله.
وهو يسهل الصفراء والسوداء والبلغم، ويغوص على الخلط إلى عميق المفاصل، وكذلك ينفع من أوجاعها ومن الوسواس، وعده ابن سينا في الأدوية القلبية.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء: (بم تستمشين؟ أي: بم تسهلين بطنك؟ قالت: بالشبرم، قال: هو دواء حار ناري، عليك بالسنا).
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (لو أن شيئاً كان فيه شفاءٌ من الموت لكان السنا): فيه سر لطيفٌ، ومعنى جليل، وبرهان بينٌ، على أنه صلى الله عليه وسلم مطلع على كثيرٍ من المعلومات، فإن الشبرم دواء منكر، قوي الإسهال، حار، يابسٌ في الرابعة، ترك الأطباء استعماله لخطره وشدة إسهاله.
وأما السنوت، فقيل هو العسل، وقيل: رب عكة السمن، وقيل: حب يشبه الكمون، قاله ابن الأعرابي، وقيل: هو الكمون الكرماني، وقيل: الرازيانج، وقيل: الشبت، وقيل: التمر. وقيل: العسل الذي يكون في زقاق السمن، حكاه الموفق عبد اللطيف.(1/159)
وهو أشبه أن يخلط السنا المدقوق بهذا العسل المخالط للسمن، فيصلح يبسه، ويسهل إسهاله ويكسبه رطوبة ودهانة.
وقد روى أنسٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم : (ثلاثٌ فيهن شفاءٌ من كل داءٍ إلا السام: السنا، والسنوت، قالوا: هذا السنا عرفناه، فما السنوت؟ قال: لو شاء الله لعرفكموه، قال محمدٌ: ونسيت الثالثة).
وشرب ماء السناء مطبوخاً أصلح من شرب جرمه مدقوقاً، والشربة من مدقوقه: من درهم إلى ثلاثة، ومن مطبوخه: من سبعة إلى عشرة، وإن أضيف إلى طبيخه زهر بنفسج وزبيب أحمر منزوع العجم كان أصلح.
وقال الرازي: السنا والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكة، والشربة من كل واحدٍ منهما: من أربعة دراهم إلى سبعة.
قلت: هذا أصلح ما يكون من الدواء المسهل، لكن ينبغي أن يضاف إليهما إما الزبيب وإما السكر.
سويقٌ: المستعمل منه سويق الشعير، فإنه أبرد من سويق الحنطة، وفيه نفخ وقبض يذهبان بالعسل. وهو غذاءٌ جيدٌ للمحمومين يقوي المعدة ويقطع العطش والغثيان، ويدخل في بعض الضمادات.
سواكٌ: ذكر في باب الأراك.(1/160)
حرف الشين
شاهترجٌ: فيه حرارةٌ ويبسٌ. خاصيته أن يصفي [اللون و] الدم ويسهل الأخلاط المحترقة فلذلك ينفع الجرب والحكة.
شبرمٌ: حار يابسٌ في الرابعة، يسهل السوداء والبلغم، مكرب مغث، والإكثار منه يقتل، ولذلك أكده صلى الله عليه وسلم في قوله (حار حار) في حديث أسماء المتقدم، فلا ينبغي أن يستعمل حتى ينقع في لبن حليب غير مرة. الشربة منه: قيراط إلى أربعة دوانيق وأقل، وهو خطر، وترك الأطباء استعماله.
شحمٌ: يسخن ويرطب، وما عتق منه فهو أشد حرارة، وشحم الذكر أشد حراً من الأنثى، ولا تأكله اليهود.
شعيرٌ: باردٌ يابسٌ في الأولى، أجوده الأبيض، وغذاؤه دون غذاء الحنطة، وماء الشعير نافع للسعال وخشونة الحلق، مدر للبول، جلاءٌ للمعدة، قاطعٌ للعطش، مصفٍ للحرارة، محللٌ، وماؤه أغذى من سويقه.
قال أبقراط: في ماء الشعير عشر خصالٍ: هذه المعدودة، ولزوجةٌ معها ملاسةٌ، وهو أصلح الأغذية من الأمراض الحارة.
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان عليه الصلاة والسلام إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء من الشعير فيعمل لهم). الحديث رواه ابن ماجه.(1/161)
شلجمٌ: هو اللفت، ويقال: اللف: أي فيه ألف منفعة. حار، لينٌ، وإدمان أكله يحد البصر، وماء طبيخه ينفع ثلج اليدين والرجلين العارض من البرد، وأكله يزيد في المني، ويشهي الجماع.
حرف الصاد
صبرٌ: هو نبتٌ بحصد ويعصر ويترك حتى يجف. وأجوده ما يجلب من ((سقطرى)) جزيرة بساحل اليمن.
حارٌ يابسٌ في الثانية، يدفع ضرر الأدوية إذا خلط معها، وينفع ورم الجفن، ويفتح سدد الكبد، ويذهب اليرقان، وينفع قروح المعدة ذروراً.
وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : (في الرجل يشتكي عينيه وهو محرمٌ، قال ضمدهما بالصبر) رواه مسلم.
وفي الترمذي: (ماذا في الأمرين من الشفاء: الصبر والثفاء، يعني الحرف). وقد تقدم ذكر الحرف.
صعترٌ: حارٌ يابسٌ في الثالثة، طاردٌ للريح، محللٌ للنفخ، هاضم للطعام الغليظ، محسن اللون، مدر البول والحيض، نافعٌ من برد المعدة والكبد، باعثٌ للشهوة، وشمه للزكام، وإن شرب قتل الدود، وكذا حب القرع.
وروى ابن الجوزي قال: (بخروا البيوت بالصعتر واللبان).(1/162)
صندلٌ: باردٌ يابسٌ في الثانية، شمه يسكن الصداع مع الخل، والماورد. وشرابه يقوي الكبد ويقطع العطش، ويقع في النقوعات القابضة، وأجوده المقاصيري.
صنوبرٌ: حبه حار رطبٌ، يسخن، ويزيد في الباه وشهوة الجماع.
حرف الضاد
ضأنٌ: هو أكثر غذاءً من الماعز، وأحر وأرطب، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في اللحم.
ضب: حار يابسٌ، يحرك الباه. وقال عليه الصلاة والسلام: (لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالدٌ: فاحتززته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) رواه خ و م.
وقال ابن عمر: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضب؟ فقال: لا آكله ولا أحرمه).
وقال جابر: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله، وقال: أخاف أن يكون من الأمم التي مسخت).
ضرعٌ: أكله يزيد ألبان النساء.(1/163)
ضريعٌ: عشبة مرة منتنة، قال الله تعالى: {ليس لهم طعامٌ إلا من ضريعٍ}.
وقال مجاهدٌ: الضريع هو الشبرق، وهو سم.
ضفدعٌ: قال ابن سينا: من أكل لحمه أو دمه: ورم بدنه وكمد لونه وقذف المني حتى يموت، ولذلك ترك الأطباء استعماله، وقد تقدم أن طبيباً ذكره في دواءٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن قتلها. رواه [د]، س.
وعن أبي هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل دواءٍ خبيثٍ كالسم ونحوه) رواه د.
حرف الطاء
طباشير: باردٌ يابسٌ، يقوي القلب ويقطع الخلفة والعطش.
طحالٌ: لحمه رديءٌ يولد السوداء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أحل لنا دمان: الكبد، والطحال؛ وأحل لنا ميتتان: السمك، والجراد). [والله أعلم].(1/164)
طرخونٌ: حار يابسٌ، ينهض شهوة الطعام، ويقطع شهوة الباه. وإذا أكل مع الكرفس دفع ضرره، وإذا أكل قبل الدواء خدر حاسة الذوق.
طلحٌ: هو الموز، وسيأتي في حرف الميم، وقد ذكره الله تعالى.
طلعٌ: هو ما يبدو من ثمر النخل، وقشره يسمى الكفرى، وقيل: طلع النخل الذكر الذي يلقح به النخل، وقال الله تعالى: {لها طلعٌ نضيدٌ} أي مجتمعٌ.
وعن طلحة بن عبيد الله: (أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى قوماً يلقحون نخلاً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يأخذون من الذكر فيضعونه في الأنثى، فقال: ما أظن ذلك يغني شيئاً، فبلغهم فتركوه ونزلوا عنه فما حمل في تلك السنة شيئاً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إنما هو ظنٌ، إن كان يغني شيئاً فاصنعوه، فإنما أنا بشرٌ مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فخذوا به، فلن أكذب على الله).
قال الياقوتي: طلع النخل يزيد الباه، وقيل: إذا تحملت به المرأة قبل الجماع أعان على الحبل، وهو باردٌ، وإصلاحه بالتمر.
وقال علي رضي الله عنه مرفوعاً: (أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام).(1/165)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (حدثوني عن شجرةٍ مثلها مثل الرجل المسلم، فوقعوا في شجر البوادي، فقال: هي النخلة) رواه خ.
طيبٌ: يذكر مع المسك طيب العرب هو الإذخر، وقد ذكر. وقال عليه الصلاة والسلام: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب).
طينٌ: ذكره الله تعالى فقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ}.
والطين المختوم والطين الأرمني كلها يقطع الدم.
وطين الأكل، يقطع الهيضة وكثرة سيلان الرطوبة من الفم في وقت النوم.
طينٌ أرمني: ينفع من الطاعون ونفث الدم.
حرف الظاء
ظفرٌ: الأطفار، عظمٌ حار يابسٌ، بخوره جيد لاختناق الرحم، والتحمل به عقب الطهر جيد للحمل.
وفي الصحيحين: (قالت أم عطية: رخص لنا إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذةٍ من كستٍ أو أظفار).(1/166)
حرف العين
عجوةٌ: بوب عليه البخاري: باب الدواء بالعجوة للسحر، وتقدم القول فيها مع التمر.
عدسٌ: أجوده أسرعه نضجاً، وفيه بردٌ ويبسٌ، وأكله يحدث غشاوة البصر.
رديءٌ للمعدة، نفاخٌ، ونقيعه ينفع الجدري. وإصلاحه أن يطبخ مع السلق، وتوابله السماق والزيت والكزبرة.
وقد روي: (أن أكله يرقق القلب، ويدمع العين، ويذهب الكبر) رواه البيهقي.
عسلٌ: بوب عليه البخاري: باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: {يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للناس}.(1/167)
وقال أبو سعيد: (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلاً، فذهب أخوه ثم رجع، فقال: سقيته فلم ينفع وعاد مرتين، فقال في الثالثة أو الرابعة: صدق الله وكذب بطن أخيك، ثم سقاه فبرأ) رواه خ وم.
ولمسلم: (إن أخي عرب بطنه).
أي فسد هضمه واعتلت معدته، وعرب كدرب. قوله: (وكذب بطن أخيك) دال على أن الشرب منه لا يكفي مرة ولا مرتين، وذاك الرجل كان إسهاله من تخمةٍ، فأمره عليه الصلاة والسلام، بالعسل.
والعسل شأنه دفع الفضلات المجتمعة في المعدة والأمعاء.
ووجهٌ آخر: وهو أن من الإسهال ما يكون شبيه رطوبة تلحح في الأمعاء فلا(1/168)
تمسك للثقل وهذا المرض يسمى ((زلق الأمعاء)).
والعسل فيه جلاء للرطوبات، فلما أخذ العسل جلا تلك الرطوبة فأحدرها فحصل البرء، ولذلك كثر به الإسهال في المرة الأولى والثانية، وهذا من أحسن العلاج، ولاسيما إن مزج العسل بماء حار.
قلت: أجمع الأطباء على هذا، ولذلك يقولون: إن احتاجت الطبيعة إلى معين على الإسهال أعينت بمثل هذا.
قلت: وهذا النوع من الإسهال يخطئ فيه كثيرٌ من الأطباء، لأنه يتوهم بجهله أن المرض يحتاج إلى دواء يمسكه، فيبقى الطبيب كلما أعطى المريض قابضاً، ازداد البلاء بالمريض إلى أن ييسر الله له طبيباً حاذقاً يبرئه. وهذا يدلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له اطلاع على سائر الأمور والأمراض وعلاجاتها، والأدوية المناسبة لها صلى الله عليه وسلم .
وقال القاضي عياض في قوله: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، يريد قوله تعالى: {فيه شفاءٌ للناس}، وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن.
وقال قوم: الضمير فيه عائدٌ إلى القرآن وبه يقول مجاهد.
وسياق الكلام يدل على أن المراد العسل.
وعن ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من لعق العسل ثلاث غدواتٍ في الشهر لم يصبه عظيمٌ من البلاء).
وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالشفاءين: العسل، والقرآن) رواه ق.
وقال جابرٌ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن كان في شيءٍ من أدويتكم خيرٌ: ففي شرطة محجمٍ أو شربة عسلٍ) رواه خ وم.(1/169)
وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العسل).
وروت عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل) أخرجه البخاري، [ومسلم].
والعسل حارٌ يابسٌ في الثانية، وأجوده الربيعي ثم الصيفي ثم الشتوي.
وأجمع الأطباء أنه أنفع ما يتعالج به الإنسان، لما فيه من الجلاء، والتقوية، وجودة التغذية وتقوية المعدة، وتشهية الطعام، وهو ينفع المشايخ وأصحاب البلغم، ويلين الطبع، نافعٌ من عضة الكلب، ومن أكل الفطير القتال، إذا شربه بماء حار أبرأه، ويحفظ قوى المعاجين وغيرها مجربٌ، ويحفظ اللحم الطري ثلاثة أشهر، والخيار والقثاء ستة أشهرٍ، ولذلك يسمى ((الحافظ الأمين)).
وإذا لطخ به البدن نعمه، وقتل القمل، ولين الشعر، وطوله وحسنه. والكحل به يجلو ظلمة البصر، وسنونه تحفظ اللثة وتبيض الأسنان.
وهو غذاء مع الأغذية، وشرابٌ في الأشربة، ودواء مع الأدوية، وحلواء وفاكهة؛ مأمون الغائلة، ويضر الصفراء، ويدفع ضرره بالخل فيعود نافعاً.
ولعقه على الريق يغسل وخم المعدة، ويفتح سدد الكبد والكلى والمثانة، ولم يخلق لنا مأكول أفضل منه.
وقال عبد اللطيف: العسل في أكثر الأمراض أفضل من السكر، لأنه يفتح، ويجلو، ويدر، ويحلل، ويغسل، وهذه الأفعال في السكر ضعيفة، وفي السكر إرخاء للمعدة وليس ذلك في العسل، وإنما يفضل السكر عليه بحالتين، لأنه أقل(1/170)
حلاوةً وحدة، وقد عمل بعض أطباء العرب مقالة في العسل وتفضيله على السكر، وقد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب كل يومٍ قدح عسلٍ ممزوجاً بالماء على الريق).
وهذه حكمة عجيبة في حفظ الصحة.
وكان صلى الله عليه وسلم يراعي في حفظ صحته أموراً.
منها: شرب العسل.
ومنها: تقليل الغذاء، وتجنب التخم.
ومنها: شرب نقيع الزبيب أو التمر يصرف بهما عداء.
ومنها: استعمال الطيب والأدهان والاكتحال وإتيان النساء.
فما أتقن هذا التدبير وأفضله.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالشفاءين)، جمع بين الطب البشري والطب الإلهي، وبين الفاعل الطبيعي والفاعل الروحاني، وبين طب الأجساد وطب الأرواح، وبين السبب الأرضي والسبب السمائي.
وفي هذا سر لطيف أي لا يكتفي بالقرآن وحده، ويبطل السعي والعمل، بل يعمل بما أمر ويسعى في الرزق كما قدر، ونسأله المعونة والتوفيق لما يسر، بمنزلة الفلاح الذي يحرث الأرض ويودعها البذر ثم يضرع إلى خالقه في دفع العاهات وإنزال القطر، ويستعمل بعد ذلك التوكل عليه سبحانه وتعالى في إتمام ما منه حذر وأنذر في جلب الصحة ودفع الضرر.
وقال بعض العلماء: يريد صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بالشفاءين) أن الله تعالى جعل في العسل شفاءً من الأمراض والآفات، كما جعل القرآن شفاء الصدر من الشكوك والشبهات.(1/171)
عشرٌ: هو ما يقع على العشب يسمى ((سكر العشر))، نافع للاستسقاء، جيد للمعدة والكبد.
عصفورٌ: حار، يابسٌ، يهيج المني، ويزيد في الباه، (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله عبثاً).
عقيقٌ: قال أرسطو: من تختم به رد روعه إليه عند الخصام، وشربه يقطع نزف الدم، ويروى: (تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر).
عنبرٌ: حار يابس، يقوي القلب والدماغ، ويذكي الحواس. ومع دهن الورد ينفع وجع الفؤاد. وقيل: العنبر ملك الطيب.
وقال جابر: (ألقى لنا البحر حوتاً يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهرٍ).
عنابٌ: حار وفيه رطوبةٌ، شرابه ينفع الجدري والحصبة، ويسكن غليان الدم ويقع في المطابيخ والنقوعات والمغالي والحقن.(1/172)
عنبٌ: أجوده اللحم الأبيض ثم الأحمر ثم الأسود، ولحمه حارٌ رطبٌ، وقشره وحبه إلى البرد واليبس، وهو جيد الغذاء، والنضيج منه أجود وأحمد.
وبطيء العهد بالقطف أفضل، فإن الطري منه منفخٌ، مطلقٌ، والإكثار منه معطشٌ، ويصلحه الرمان المز، وإذا ألقى حبه سمن، وروي: (أنه كان عليه الصلاة والسلام يحب العنب والبطيخ).
عودٌ: أفضله القماري، وأجوده الأزرق، حارٌ يابسٌ، يقوي القلب والحواس، والعود هو الألوة.
(وقد استجمر عليه الصلاة والسلام بالألوة غير مطراةٍ مع كافورٍ) رواه م.
وأما العود الهندي وهو القسط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية: يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب) رواه خ.
وسنذكره في حرف القاف إن شاء الله تعالى.
عود السوس: فيه حرارةٌ، يعين على القيء، وينفع البلغم والسعال.(1/173)
حرف الغين
غاليةٌ: تسكن الصداع، وتقوي القلب، وتنفع الخفقان، والحمول بها يعين على الحمل.
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب)، وقال: (الطيب لا يرد).
غزالٌ: حار يابسٌ لحمه أجود لحوم الصيد وألذها، مجففٌ، سريع الهضم.
غرابٌ: هو أربعة أنواعٍ، الأسود الكبير، والأبقع، وكلاهما يأكلان الجيف ولحمهما حرام على الصحيح من مذهب الشافعي.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خمسٌ يقتلن في الحل والحرم، فعد الغراب وسماه فويسقاً).
الثالث: غراب الزرع، هو الزاغ، يأكل الزرع.
والرابع: الغداف، وهو لطيفٌ لونه رمادي، فقيل: يؤكلان، وقيل: لا. وجميع أنواعه رديء اللحم، عسر الهضم، يولد السوداء والجذام، والأطباء ينهون عنه.(1/174)
حرف الفاء
فاغيةٌ: هي زهرة الحناء، تنفع الأورام الحارة، وإذا طويت مع الصوف تمنع العث.
وفي شعب الإيمان عن بريدة مرفوعاً: (سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية).
وعن أنس: (كان أحب الرياحين إلى النبي صلى الله عليه وسلم الفاغية) رواه البيهقي.
فجلٌ: غذاؤه قليل، وفيه حرارةٌ تفتح سدد الكبد، ويغثي، ويقيء، ويعين على الهضم ويعسر هضمه، وأكله يولد القمل.
وقال سعيد بن المسيب: من سره أن يأكل الفجل ولم يجد ريحه فليذكر النبي صلى الله عليه وسلم أول قضمةٍ.
فستقٌ: حار رطبٌ، قشره الأحمر يقطع القيء والإسهال.(1/175)
وقيل: إن أكل قلب الفستق مع الزبيب الأسود يذكي ويقوي القلب.
فضةٌ: تقوي القلب، وتنفع الخفقان، واستعمال آنيتها حرام.
فقاعٌ: رديءٌ للمعدة والعصب، نفاخٌ.
فلفلٌ: حار يابسٌ في الرابعة: ويحلل الرياح.
حرف القاف
قثاءٌ: باردٌ رطبٌ في الثانية، أفضله النضيج، يسكن الحرارة، وهو أخف من الخيار، ويدر البول. (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأكله مع الرطب) خ.
وقالت عائشة: (عالجتني أمي بكل شيءٍ فلم أسمن، فأطعمتني القثاء والرطب، فسمنت كأحسن السمن).
وفي روايةٍ: (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواي أن يطعموني القثاء والرطب فسمنت).
قلت: فيه دليلٌ على جواز استعمال الأدوية المسمنة للنساء.
قرعٌ: ذكره الله تعالى في قصة يونس عليه السلام فقال تعالى: {وأنبتنا عليه شجرةً من يقطين}.
وهو باردٌ رطبٌ في الثانية، يولد خلطاً صالحاً، ويغذي سريعاً، وينفع السعال، وهو أجود المزارير للمحموين.(1/176)
وقال أنسٌ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الدباء) [خ] م.
وروي أنه قال: (عليكم بالقرع، فإنه يزيد في العقل والدماغ).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (من أكل القرع بالعدس رق قلبه، وزيد في جماعه).
وإن أخذ بالرمان الحامض أو السماق: نفع الصفراء.
قرطاسٌ مصري: قال الموفق عبد اللطيف: هو دواءٌ يعمل من الحصير البردي ذكره جالينوس، من قواطع الدم، وينفع من قروح الأمعاء.
وقد ذكر البردي في حرف الباء.
قسطٌ: حارٌ يابسٌ في الثانية، ينفع الفالج، ويحرك الباه، وهو ترياقٌ لنهش الأفاعي، واشتمامه يحلل الزكام، ودهنه ينفع وجع الظهر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط) أخرجه البخاري.
وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين الحجامة والقسط سر لطيف، وهو أنه إذا طلي به شرط الحجامة لم يتخلف في الجلد المشاريط، وهذا من غرائب الطب، فإن هذه الآثار إذا بقيت في الجلد قد يتوهم من يراها أنها برصٌ أو بهقٌ، والطباع تنفر من مثل هذه الآثار، فحيث علم ذلك ذكر مع الحجامة ما يؤمن من ذلك.(1/177)
والقسط هو العود الهندي، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم (أمثل ما تداويتم به) لكثرة منافعه.
وعن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه دماً فقال: ما هذا؟ قالوا إنه العذرة؟ قال: ويلكن لا تقتلن أولادكن، أيما امرأةٍ أصاب ولدها العذرة أو وجعٌ في رأسه فلتأخذ قسطاً هندياً، فلتحكه ثم تسعطه به، فأمرت عائشة رضي الله عنها فصنعت ذلك به فبرأ) وإسناده على شرط مسلم.
والعذرة: وجع الحلق، وقيل: العذرة: دم يهيج في حلق الإنسان وتتأذى منه اللحمتان اللتان تسميهما الأطباء اللوزتين في أعلى الحلق على فم الحلقوم، والنساء تسميها: بنات الأذن، يعالجنها بالأصابع لترتفع إلى مكانها.
وقد روي أنه قال صلى الله عليه وسلم : (لا تعذبن أولادكن بالدغر).
قال أبو عبيد: الدغر أن تدفع المرأة تلك المواضع بأصبعها.
وروى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت).
وذات الجنب قسمان: حقيقي، وهو ورمٌ حار يعرض في الغشاء المستبطن(1/178)
للأضلاع، وغير حقيقي وهو ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياحٍ غليظةٍ تحتقن بين الصفاقات، ووجعه ممدود: أي ووجعه الحقيقي ناخس.
والعلاج في الحديث الكائن عن الريح، فإن القسط إذا نعم وخلط بزيت حارٍ ودلك به المكان أو لعق كان أنفع شيء في هذا.
قال مسيح: العود يقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، نافع من ذات الجنب.
قلت: مسيح [هذا] من فضلاء الأطباء وأعيانهم، له تصانيف في الطب، روى عنه ابن البيطار في (جامعه الكبير).
قصبٌ: منه قصب السكر، حار رطبٌ، ينفع السعال ويجلو الرطوبة والمثانة ومنافعه كثيرة.
قال الشافعي: ثلاثة أشياء دواء من لا دواء له: العنب، ولبن اللقاح [وقصب السكر]، ولولا قصب السكر ما أقمت ببلدكم.
وقيل: من مص القصب بعد طعامه لم يزل يومه مسروراً.
ومنه القصب الفارسي، باردٌ يابسٌ، قليل المنافع. وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن التخلل به، ونهى عنه عمر رضي الله عنه أيضاً.
ويروى مرفوعاً: (من تخلل بالقصب أورثه الأكلة في أسنانه).(1/179)
قطنٌ: حار شديد الإسخان، وثيابه أدفأ من الكتان، والعتيق منه يأكل اللحم الميت من الجراح.
قنبٌ: معروفٌ، وهو الذي منه هذه الحشيشة المشهورة، وهي نجسةٌ، مضرةٌ بالعقل والدين، مضعفةٌ للبصر، وهي حارةٌ يابسةٌ، قاطعةٌ للمني.
قنبيطٌ: بارد يابسٌ، عسر الهضم، أكله يحدث ظلمة البصر.
حرف الكاف
كافورٌ: ذكره الله تعالى في سورة {هل أتى}، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام في غسل الميت.
باردٌ يابسٌ في الثالثة، يقطع الرعاف، ويقوي الحواس، ويقطع الباه وشمه يسهر، والشربة منه وزن شعيرة، يقطع الإسهال.
كاهربا: باردٌ يابسٌ، يقوي القلب، ويجذب النتن إلى نفسه كما يجذب المغناطيس الحديد.
كباثٌ: وهو النضيج من ثمر الأراك، حار يابسٌ، يقوي المعدة، ومنافعه كمنافع الأراك، وقال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث، فقال: (عليكم بالأسود منه فإنه أطيب) الحديث خ م.
كبرٌ: وتسميه العامة القبار، محللٌ، ملطفٌ، ذو قوى مختلفة. ينفع الطحال.(1/180)
ويروى عن ابن عباسٍ قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحكت الجنة فأخرجت الكمأة، وضحكت الأرض فأخرجت الكبر).
كبدٌ: أجودها كبد [الدجاج] يؤكل بالخل والكزبرة، ويأكلها المبرود بالكراويا.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أحلت لنا ميتتان ودمان، فالدمان: الكبد، والطحال؛ والميتتان: السمك والجراد).
كتمٌ: هو حب يشبه الفلفل، مهيجٌ للقيء، نافعٌ من عضة الكلب، إذا خلط بالحناء قوى الشعر، وقد مضى ذكره مع الحناء.
كتانٌ، هو أبرد الملابس، وأقلها قملاً، إذا تبحر به حل الزكام.
كرفسٌ: حار يابسٌ، يهيج الباه، للرجال والنساء، إذا أكله الحبالى خرج الجنين أحمق ضعيف العقل، ويجتنب أكله من خاف لدغ العقارب، لأنه يفتح السدد. ويروى مرفوعاً: (من أكل الكرفس ونام، طابت نكهته، وأمن من وضع الضرس).
كراثٌ: إذا طبخ مع اللحم أذهب زهومته، وأكله يورث أحلاماً رديئةً، ويظلم البصر. ويروى مرفوعاً: (من أكل الكراث ونام، أمن من البواسير واعتزله الملك). رواه صاحب الوسيلة.(1/181)
كراعٌ، ويقال: كارعٌ: يورث دماً لزجاً لطيفاً محموداً، قليل الفضول، ينفع نفث الدم والسعال. وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت) الحديث.
كرمٌ: منافعه جمة كالنخلة. ويروى مرفوعاً: (الحبلة كالنخلة، أو أخت النخلة). وقوته باردة يابسة، تنفع الأورام الحادة ضماداً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يقولن أحدكم العنب والكرم، فإن الكرم هو الرجل المسلم، وقولوا: العنب والحبلة) والحبلة: هو الكرم.
كمون: حار، يحلل القولنج، ويطرد الريح، وإذا نقع بالخل وأكل: قطع شهوة الطين والتراب. وروي: (ليس شيءٌ يدخل الجوف إلا تغير إلا الكمون).
كمأةٌ: باردةٌ يابسةٌ، أجودها المتلذذ منها. أجمع الأطباء أن ماءها يجلو البصر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الكمأة من المن، وماؤها شفاءٌ للعين) أخرجه خ م.
والكمأة: جمعٌ، واحده كمء، وقيل: كمأة: الواحدة والجمع كمؤ، وسميت(1/182)
كمأة: لاستتارها في الأرض، ويقال لمن أخفى الشهادة: كمأها.
ويروى مرفوعاً: (الكمأة جدري الأرض)، لأنها تكثر بكثرته.
وقيل: كان قوت بني إسرائيل في التيه: الكمأة، لأنها تقوم مقام الخبز، والسلوى أدمهم مع المن الذي هو الطل الحلو، فحينئذٍ كمل عيشهم.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أخذت ثلاثة أكمئ أو خمسةٍ أو سبعةٍ فعصرتهن وجعلت ماءهن في قارورةٍ، وكحلت به جارية لي فبرئت.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (من [المن])، أي هي مما من الله تعالى به على العباد بلا تعبٍ ولا عملٍ ولا يحتاج إلى حرثٍ وسقيٍ، ولا غير ذلك.
حرف اللام
لبانٌ: هو الكندر، وتسميه العامة: حصا لبان.
قال عبد الملك بن مروان: ثلاثة أشياءٍ لا تكون إلا باليمن قد ملأت الدنيا: اللبان، والورس، والبرد اليمني.
قال ديسقوريدوس: أجوده الذكر المدور الأبيض الذي إذا فرك فاح منه رائحة البطحاء، وهو يلزق الجراحات الطرية، وقد يزغل بصمغ الصنوبر والصمغ العربي. فالصمغ لا يتلهب بالنار، والصنوبر يدخن، والكندر يلتهب بلا دخان.
وهو حارٌ في الثالثة يابسٌ في الأولى، وهو كثير النفع، نادر الضرر، وينفع من وجع المعدة، ويطرد الرياح، وينبت اللحم في القروح، ويجفف البلغم(1/183)
[ويجلو] [البصر]، وإذا مضغ بصعتر نفع من اعتقال اللسان، ويذكي.
وبخوره نافع من الوباء، مطيب للهواء، ويزيد في الحفظ.
ويفطر عليه مع الزبيب الأسود وقلب الفستق فيورث الذكاء، ومع الورد المربى ينفع كثرة إدرار البول، ومن يبول في فراشه. ويروى عن أنسٍ مرفوعاً: (بخروا بيوتكم باللبان والصعتر).
وعن علي رضي الله عنه أنه شكا إليه رجل النسيان، فقال: عليك باللبان فإنه يشجع القلب، ويذهب النسيان.
وعن ابن عباس: خذ مثقال سكرٍ ومثقال كندرٍ يستفه الرجل أسبوعاً على الريق؛ جيدٌ للبول والنسيان.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أطعموا حبالاكم اللبان، فإن يكن في بطنها ذكرٌ يكن ذكي القلب، وإن يكن أنثى يحسن خلقها، ويعظم عجيزتها).
روى هذه الأحاديث أبو نعيم.
وإذا نقع الكندر وشرب على الريق أذهب النسيان. قلت: النسيان عن برودةٍ، والذي عن يبسٍ يتبعه سهر، فذلك علاجه المرطبات.
ومما يحدث النسيان حجامة النقرة، وأكل الكزبرة الخضراء أو التفاح الحامض، [والحماض] وكثرة الهم، وقراءة القبور، والنظر في الماء الواقف، والبول(1/184)
فيه ثم يتوضأ منه. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، والنظر إلى المصلوب، والمشي بين جملين مقطورين، والمشي في الطواريق، ونبذ القمل، وأكل سؤر الفأر.
لبنٌ: قال الله عز وجل من قائل: {وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه}، وقال تعالى: {لبناً خالصاً سائغاً للشاربين}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ عن الطعام والشراب غيره). رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباسٍ.
وعن ابن عباسٍ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اللبن).
واللبن مركبٌ من ماءٍ وسمنٍ وجبنٍ، والجبنية باردة رطبة، مغذية غذاءً غليظاً، والسمنية معتدلة ملائمة للبدن؛ والمائية حارة رطبة ملطفةٌ للطبع.
واللبن الحليب حار رطبٌ، والحامض باردٌ يابسٌ.(1/185)
وأفضل الحليب لبن الشاة مشروباً من الضرع، وكل لبنٍ بعد عهده بالحليب أو تغير طعمه فهو رديءٌ، ولذلك وصفه الله تعالى بقوله: {لم يتغير طعمه}.
وكل حيوانٍ تطول مدة حمله على حمل الإنسان فلبنه رديء.
واللبن الحليب: يعدل الكيموسات، وينقي البدن، ويزيد في المني والنطفة، ويهيج الباه، ويطلق البطن، وينفع الوسواس، ويزيد في الدماغ، وفيه نفخ.
والإكثار منه يولد القمل، وبالسكر يحسن اللون، ويسكن الحكة العارضة في الجلد والجرب، ويقوي الحفظ.
وكل لبنٍ مؤذي الأحشاء يسدد إلا لبن اللقاح ولذلك هو نافع من نوعي الاستسقاء. فعن أنسٍ قال: (قدم ناسٌ من عكلٍ أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحٍ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي ). الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وفي رواية م: (قدم رهطٌ). الرهط: من ثلاثةٍ إلى تسعةٍ، فقيل: كان هؤلاء ثمانية.(1/186)
واجتوى: استوخم. والجوى: داءٌ في الجوف.
وعكلٌ: قبيلةٌ. وعرينة: بطنٌ من بجيلة. واللقاح: النوق ذات اللبن. فهؤلاء أصابهم الاستسقاء.
وسببه: مادةٌ باردةٌ، تحلل الأعضاء فتربو بها، وهو لحمي ومائي وطبلي.
وفي لبن اللقاح جلاء وتليينٌ، وإدرارٌ، وإسهالٌ لمائية الاستسقاء، لأن أكثر رعيها الشيح والإذخر والبابونج وغير ذلك من أدوية الاستسقاء.
وفي حديث قتادة عن أنسٍ: (أن رهطاً من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا اجتوينا المدينة فعظمت بطوننا) الحديث.
وهذا العلاج من أحسن ما يكون وأنفعه، ليس دواء لهذا الداء مثله. وهذا المرض لا يكون قط إلا عن آفةٍ في الكبد، ولو أن إنساناً أقام على اللبن بدل الماء والطعام لشفي، وقد جرب ذلك.
وأنفع الأبوال بول الجمل الأعرابي.
والحديث فيه دليل على طهارة بول ما يؤكل لحمه.
وعن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فمضمض وقال: إن دسم اللبن رديءٌ للمحموم وذي الصداع) رواه البخاري ومسلم.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن دسم اللبن أضر شيءٍ بالمحموم، وصاحب الصداع لسرعة استحالته إلى الصفراء، وقد نص الأطباء أن اللبن يجتنبه صاحب الصداع والمحمومين.
ولين الضأن أغلظ وأرطب، وفيه زهومة ليست للماعز.
(وقد أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبنٍ شيب بالماء فشرب وقال: الأيمن فالأيمن)، رواه البخاري.
ولبن المعز لطيفٌ معتدلٌ، يطلق البطن، ويرطب، وينفع السل.(1/187)
ولبن البقر بين لبن الضأن والمعزى في الرقة والغلظ، يغذي ويسمن، وقد نبه على نفعه عليه الصلاة والسلام بقوله: (عليكم بألبان البقر فإنها شفاءٌ وسمنها دواءٌ).
وعن ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أنزل الله من داءٍ إلا وله دواءٌ، فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر) رواه النسائي.
قوله ((ترم)): أي تأكل.
وهذا الحديث مشتملٌ على فضيلتين.
أحدهما: أن الله لم ينزل داء إلا وله دواء، وذلك يقتضي حث العزائم، وتحريك الهمم على تعلم الطب، وذلك أنه إذا علم إمكان شفاء كل داء وأن له دواء رغب الإنسان في العلم به، فإن حفظ الصحة أشرف المطالب كما تقدم، فإن بها يحصل تمام أمر الدين والدنيا.
الوجه الثاني: التنبيه على كثرة منافع هذه الألبان، لقوله عليه الصلاة والسلام ((عليكم)) المقتضية لتأكيد الحث. وذلك يدل على أن في هذه الألبان منافع شتى في أمراض شتى.
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على ذلك بل علله بعلة صحيحةٍ وهي قوله: (فإنها ترم من كل الشجر) لأن الألبان تختلف بحسب اختلاف مرعى حيوانها، فالمرعى الحار يجعل اللبن حاراً والبارد يجعله بارداً وعلى هذا فقس.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ترم) يريد به اختلاف لبنها باختلاف مراعيها. وإذا اختلف صح القول بنفعها من كثير من الأدواء، فما أحسن هذا الحكم والتعليل وأوجزه.
ولبن الإبل أرق وأقل دسماً وأكثر إسهالاً، ولا يتجبن في المعدة، وقد ينفع(1/188)
لأصحاب الذرب عن ضعف الكبد لتفتيحه السدد.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في أبوال الإبل وألبانها شفاءً للذرية بطونهم).
وفيه خاصيةٌ: لا يشربه الفأر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إن أمةً من بني إسرائيل فقدت، أخشى أن تكون الفأر، وذلك أنها إذا وجدت ألبان الغنم شربته، وإذا وجدت ألبان الإبل لم تشربه) خ م.
فإن اليهود لا يأكلون لحوم الإبل ولا يشربون ألبانها.
(وأما اللبن الحامض): فيضر المعدة الباردة لبرده ويبسه، وينفع الحارة، ويهيج الجماع للمحرورين.
(وأما اللبأ): وهو ما يحلب في وقت الولادة، فإنه يرطب البدن ويخصبه، وهو سريع الاستحالة، ويصلحه العسل.
(وأما الماست): فهو فاضلٌ كالبقري.
(وأما لبن الجاموس): ففيه حرارةٌ ما، وقيل: إنه لا يقربه دبيب، وتلك خاصيته.
لحمٌ: قال الله تعالى: {وأمددناهم بفاكهةٍ ولحمٍ}.
وعن بريدة مرفوعاً: (خير إدام الدنيا والآخرة اللحم).(1/189)
وعن أبي الدرداء مرفوعاً: (سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم) ق.
وروى أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن للقلب فرحةٌ عند أكل اللحم).
وقال علي رضي الله عنه: عليكم بهذا اللحم فكلوه، فإنه يحسن الخلق، ويصفي اللون.
وعن علي رضي الله عنه قال: اللحم من اللحم، فمن لم يأكل اللحم أربعين يوماً ساء خلقه. وفي روايةٍ: من أكله أربعين يوماً متوالية قسا قلبه.
ومضت السنة بأكله يوماً وتركه يوماً، وأظن هذا عن عمر رضي الله عنه.
قال الأطباء: واللحم أقوى الأغذية، يخصب البدن ويقويه، وأفضله الضأني، حار رطب، وأجوده الحولي.(1/190)
ولحم المسن رديءٌ وكذلك الهزيل.
ولحم الأسود: أخف وألذ وأطيب ويولد غذاءً كثيراً جيداً في الأبدان.
والخصي أفضل، والهبر أجود، والمقدم أفضل من المؤخر.
وفي الصحيحين: (رفعت الذراع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تعجبه).
وقال ابن عباسٍ: (كان أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف).
ونحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ويروى عن مجاهدٍ: (كان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمها).
وقيل: أردؤه الرأس والجوف.
ولحم الرقبة لذيذٌ سريع الهضم، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم : (إنها هادية الشاة إلى الخير وأبعدها من الأذى). رواه أبو عبيدة.(1/191)
ولحم الظهر كثير الغذاء، يولد دماً محموداً. وعنه صلى الله عليه وسلم : (أطيب اللحم لحم الظهر) ق.
وغذاءٌ مشوي اللحم أيبس، ومصلوقه أرطب.
وقال جالينوس: إمام الصناعة الطبية: أصلح اللحم مصلوقه، والسمين والشحم رديئان قليلاً الغذاء، والجانب الأيمن أخف وأفضل من الأيسر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (انهشوا اللحم نهشاً فإنه أهنأ وأمرأ). وفي رواية (أشهى وأمرأ) د.
وقد صح عنه، عليه الصلاة والسلام: (أنه احتز من كتف شاةٍ ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ).
وقال نافعٌ: كان عبد الله يأتي عليه الشهر لا يأكل لحماً، فإذا كان رمضان لم يفته.
وقال محمد بن واسعٍ: أكل اللحم يزيد [في البصر.
وقال الزهري: أكل اللحم يزيد] سبعين قوةٍ.
ولحم الماعز أجوده الثني، قليل الحرارة فيه يبسٌ، يولد خلطاً غير فاضل. وأردؤه التيس، شديد اليبس، عسر الهضم. يولد السوداء، وقيل: يورث الهم والنسيان. ولحم الأنثى أنفع.(1/192)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : (أحسنوا إلى المعزى، وأميطوا عنها الأذى فإنها من دواب الجنة). رواه س.
والجدي معتدلٌ لا سيما الرضيع، هو أسرع هضماً، وأقل فضولاً.
والبقري أميل إلى البرد واليبس، عسر الهضم، يولد السوداء، وأحمده العجل.
وعن صهيبٍ: (عليكم بألبان البقر فإنها شفاءٌ، وسمنها دواءٌ، ولحومها داءٌ).
وصلاحه بالفلفل والدارصيني.
ولحم الفرس حار يابسٌ [غليظ] مضر. وفي جواز أكله خلاف، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل).
ولحم الجمل حار يابسٌ، مولد للسوداء، والصغير أمثل، وله زهومة.
قال ابن سينا: أردأ اللحوم: لحوم الخيل والجمال والحمير.
(وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أكل لحم الجمل).
لحم الوحش: (نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي نابٍ من السباع وكل ذي مخلبٍ من الطير).
ولحم الطير ينبغي التقليل منه، فإنه يورث أمراضاً وحميات.(1/193)
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إياكم واللحم، فإن له ضراوةٌ كضراوة الخمر) رواه مالك في ((الموطأ)).
لسان ثورٍ: فيه حرارة، وماؤه يقوي القلب، وينفع الخفقان، ويسكن وجع الفؤاد، ويدخل في المطابيخ والمغالي.
لسان الجمل: باردٌ يابسٌ، يقطع سيلان الدم، ومنه يعمل شرابه.
لفتٌ: مر في حرف السين في السلجم.
لوزٌ: الحلو منه ينفع السعال، ويرطب، وأكله مع السكر يزيد [في] المني ويزيد في الدماغ، ويخصب البدن ويغذي غذاءً جيداً.
وكذا أكله بقشره، يزيل رطوبة المعدة ويسمن، ويقوي البصر منه. والمر منه حار يابسٌ في الثانية، ودهنه قبل الشراب يمنع السكر ويدخل في المغسولات المخبتة اللون، وينفع الكلف وسائر الآثار وينفع من أوجاع الرحم، ويفتت الحصا.
وروت عائشة رضي الله عنها قالت:
(أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسويق اللوز فرده وقال: هذا شراب الجبابرة والمترفين بعدي).
لؤلؤٌ: معتدل في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبس.
ينفع من الخفقان والفزع والخوف، وكحله يجفف رطوبة العين، وإمساكه في الفم يقوي القلب، وذكره الله عز وجل.(1/194)
لوبيا: فيها نفخٌ، عسرة الهضم، وتعين على الباه.
ليمونٌ: قشره وحبه حاران يابسان، وحمضه بارد.
استعماله مع السكر يحفظ الصحة ويقطع البلغم، ويقمع الصفراء، وينبه الشهوة. وشرابه يقطع القيء والغثيان، منافعه جمة.
حرف الميم
ماءٌ: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : (خير شراب الدنيا والآخرة الماء).
وهو باردٌ رطبٌ، يطفئ الحرارة، ويحفظ رطوبة البدن الأصلية، ويرقق الغذاء، وينفذه في العروق، ولا يتم أمر الغذاء إلا به، وأجوده الجاري نحو المشرق المكشوف، ثم ما يتوجه نحو الشمال، والذي يمر على الطين أفضل من المار على الحصى، والمنحدر أفضل.
وتعتبر جودته بصفائه، وعدم رائحته، وعدم طعمه وبخفة وزنه، وببعد منبعه وعذوبته.
ماء النيل: قد جمع أكثر هذه المحامد.
قال ابن سينا: أفرطوا في مدح ماء النيل الأربعة: بعد منبعه، وطيب ممره، وأخذه إلى الشمال، وكثرته، فيكون حينئذ أفضل المياه، وكذلك:
ماء الفرات: قال صلى الله عليه وسلم : (سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة).
وتعتبر خفته بسرعته وقبوله للحر والبرد.(1/195)
وقال أبقراط، أستاذ جالينوس وشيخ الصناعة: وليحذر الشرب على الريق، وعلى الطعام إلا لضرورة.
والماء البائت أجوده لصفاته عن الكدر وغيره.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب الماء، ويختار البائت منه.
وقال جابرٌ: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فقال: إن كان عندكم ماءً قد بات في شن وإلا كرعنا) خ.
وقال صلى الله عليه وسلم : (خمروا الآنية وأوكوا الأسقية، فإن في السنة ليلةً ينزل فيها الوباء من السماء فلا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاءٌ، أو سقاءٌ ليس عليه وكاءٌ إلا وقع فيه من ذلك الوباء) م.
قال الليث: الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة في كانون الأول، رواه مسلم.
وليحذر الماء الشديد البرد، فإنه يضر الأسنان، ويثير البحة والسعال، وإدمانه يحدث انفجار الدم والنزلة وأوجاع الصدر، لكنه ينفع من صعود الأبخرة إلى الرأس ويطفئ وهج الحمى الحارة، وسيأتي الكلام عليه في باب مداواة الحمى إن شاء الله تعالى.
والمفرط الحر، يسقط الشهوة، ويرخي المعدة، ويحلل، ويفسد الهضم، على أنه صالحٌ للشيوخ وأصحاب الصرع والصداع البارد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من اغتسل بماءٍ مشمسٍ فأصابه وضحٌ فلا(1/196)
يلومن إلا نفسه)، قال أهل العلم بالحديث: هذا حديث موضوعٌ.
وماء المطر: أجود المياه وألطفها، نافعٌ لأكثر المرضى لرقته وخفته وبركته. قال الله تعالى: {ونزلنا من السماء ماءً مباركاً).
وأردأ المياه ما يجري تحت الأرض أو نبت فيه العشب.
وماء البئر: قليل اللطف، والمعطلة أردأ، وأجودها ماء زمزم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم : (ماء زمزم لما شرب له).(1/197)
وقال: (هي طعام طعمٍ وشفاء سقمٍ) خ م.
وإنما ثقل ماء البئر والقني، لعدم الشمس والهواء والاحتقان.
وأردؤه ما عملت مجاريه من رصاص، والثلج والجليد لهما كيفية حادة دخانية، وماؤهما يذم، والطريق فيهما أن يبرد بهما الإناء من خارجٍ.
ماشٌ: باردٌ رطبٌ، خلطه محمودٌ، ينفع السعال، وهو من أغذية المحرورين [وخصوصاً مع الرمان].
ماء الورد النصيبي: باردٌ، ينفع الخفقان، ويسكن الصداع الحار مع الخل. ومن شرب منه زنة عشرة دراهم أسهله عشرة مجالس، وكثرة رشه على الشعير بعجل الشيب، وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام (إن الطيب لا يرد)، (وكان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب).
محمودةٌ: حارة يابسةٌ في الثالثة، تسهل الصفراء، وتبقى قوتها ثلاثين سنة، إلى الأربعين.(1/198)
مرجانٌ: ذكره الله تعالى، أجوده الأحمر، باردٌ يابسٌ، مقو للقلب، نافع من الخفقان، مفرحٌ.
مرزنجوشٌ: حار يابسٌ، يفتح سدد الدماغ، ويحل الزكام.
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عليكم بالمرزنجوش فإنه جيد للخشام).
المسك: قال الله تعالى: {ختامه مسكٌ}.
حار يابسٌ، يقوي القلب. وأشرف الطيب: المسك.
وهو جيدٌ للمبرودين، يقوي الأعضاء الباطنة شرباً وشماً، جيد للغثى والخفقان، وينفس الرياح، ويبطل عمل السموم.
(وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب به، وطيبته عائشة رضي الله عنها عند إحرامه وعند ما حل من إحرامه).(1/199)
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (أطيب الطيب المسك) [رواه مسلم].
وأمر الحائض عند الظهر أن تتبع به أثر الدم، صحيح.
وروي (أنه عليه الصلاة والسلام كان يطلب الطيب في رباع نسائه).
وقال العلماء: يستحب الطيب يوم الجمعة.
(وأمر رسول اله صلى الله عليه وسلم بالطيب والغسل يوم الجمعة).
وفي المسك إصلاح جوهر الهواء لا سيما في الوباء، ويجوز التداوي به.
وهو سرة وحش كالظبي، له نابان يعقفان كأنهما قرنان، وخياره الخراساني ثم الصيني ثم الهندي.
مشمشٌ: باردٌ رطبٌ سريع العفونة، ماء نقيعه يقطع العطش، وهو أوفق للمعدة من الخوخ، ويقع في النقوعات.
مصطكى: حارةٌ يابسةٌ [في الثانية]، تذيب البلغم، وتقوي المعدة وتفتق(1/200)
الشهوة، وتحرك الجشاء وتحسن البشرة، وتمضغ قبل الدواء فتمنع القيء، ومع دهن الورد تسكن وجع الجوف.
مغافيرٌ: وهو شيء شبيه بالعسل كالترنجبين، وهو شبيهٌ بالصمغ، يأكله الناس بالحجاز، ويكون في شجرة الرمث وفي شجرة العشر، فما كان منه في الرمث يكون أبيض جلواً، وما كان في العشر يسمى سكر العشر. وقد ذكر المغافير في الحديث، وقد ذكر العشر في حرف العين.
ملحٌ: حارٌ يابسٌ في الثالثة، استعماله باعتدال يحسن اللون، وفيه إسهال. ويهيج القيء، ويفتق الشهوة، والإكثار منه يورث الحكة، وروي أن رسول الله قال: (سيد إدامكم الملح) رواه ابن ماجه.
وعن ابن مسعود: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ سجد فلدغته عقربٌ في أصبعه فانصرف يقول: لعن الله العقرب ما تدع نبياً ولا غيره، ثم دعا بإناءٍ فيه ماءٌ وملحٌ فجعل المكان في الماء والملح وقرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين حتى سكنت) رواه ابن أبي شيبة.
قلت: فيه تنبيهٌ على نفع الملح من لدغة العقرب وغيرها.
وقال ابن سينا: إنه يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب، لأنه فيه مقاومة للسم البارد بحرارته، ويجذب السم، ويحلله.(1/201)
وعن أبي أمامة مرفوعاً: (من قال حين يمسي: صلى الله على نوحٍ في العالمين، لم يلدغه عقربٌ في تلك الليلة).
وحديث أبي هريرة معروف، رواه مسلم: (لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك شيءٌ).
والملح يحفظ اللحم وما يودع فيه من العفونة والنتن، ويصلح الأطعمة ويصلح الأجسام حتى إنه يصلح الذهب والفضة، فيصفر الذهب، ويبيض الفضة.
وفي معالم التنزيل عن ابن عمر مرفوعاً: (إن الله أنزل أربع بركاتٍ من السماء، الحديد، والنار، والماء، والملح).
من: ذكره الله تعالى في قوله: {وأنزلنا عليهم المن والسلوى}.(1/202)
قوته حارة يابسة، وقيل: فيه اعتدال، وما نزل على الخطمي، فما يخلص منه كان أبيض، وما لم يتخلص منه كان أخضر، وتزيد قوته وتنقص بحسب الشجر الذي يقع عليه، وهو جيد للصدر، ينفع للسعال، وفيه جلاء.
موزٌ: حار رطبٌ في الأولى، غذاؤه قليلٌ، والمبرود يأكله بالعسل.
وقيل: الطلح هو الموز.
حرف النون
نارجيل: هو جوز الهند، حار رطبٌ. أجوده ما كان أبيض اللون، يزيد في الباه، وينفع من وجع الظهر.
نارنجٌ: إشمام رائحته يقوي القلب. وإذا شرب من قشوره مثقالٌ: نفع من لدغة العقرب. وسائر نهش الهوام. وحماضه ينفع من التهاب نهش المعدة، ويقلع الطبوع من الثياب، ومزاج قشره وبزره وحمضه مزاج الأترج، وإن غلى قشره بزيت نفع تثلج الرجلين والشقاق.
نارٌ: ذكرها الله تعالى، حارةٌ يابسةٌ في آخر الدرجة الرابعة، وهي تنفع من جميع الأمراض المزمنة، والكي بها ينتفع به، وسيأتي الكلام على الكي إن شاء الله تعالى.(1/203)
نبقٌ: هو ثمر السدر، شبيه بالزعرور، باردٌ يابسٌ، يعصم الطبع، ويدبغ المعدة.
وفي الطب لأبي نعيم مرفوعاً: (لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض كان أول شيءٍ أكل من ثمارها النبق).
نخالةٌ: حارة [يابسةٌ في الأولى]، طبيخها ينفع [الصدر] والسعال، ومع ورق الفجل يسكن وجع العقرب.
نخلٌ: ذكره الله تعالى، في ورقه يبس وتجفيف.
نرجسٌ: حار يابسٌ [في الثانية]، اشتمامه يفتح سدد الدماغ، وينفع الصرع، وأصله يهيج القيء. ويروى مرفوعاً: (عليكم بشم النرجس فإن في القلب حبة الجنون والجذام والبرص لا يقطعها إلا هو).
نعناعٌ: حار يابسٌ، هو ألطف البقول، يقوي المعدة، ويسكن الفواق، ويمنع(1/204)
القيء، ويعين على الباه، وإذا وضع في اللبن لم يتجبن.
نورةٌ: تعمل في كلس وزرنيخ ويخلطان بماء الثلث زرنيخ، ويترك ساعةً في الشمس أو في الحمام فيزرق، فيطلى به سويعةً ثم يغسل.
وعن أم سلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طلى بالنورة بدأ بعورته) أخرجه ابن ماجه.
وعن أبي مرفوعاً: (أول من دخل الحمام وصنعت له النورة سليمان بن داود عليهما السلام).
وينبغي أن يطلى مكان النورة بالحناء.
ويروى: (الحناء بعد النورة أمانٌ من الجذام).
ويروى أنه -عليه الصلاة والسلام- طلى بالنورة وقال: (عليكم بها).
ويقطع ريحها طين وخل وماء وردٍ.
نوفر: باردٌ رطبٌ منومٌ، يسكن الصداع [الصفراوي]، وكثرة اشتمامه تحدث في الدماغ فتوراً، ويخمد المني، ويكثر [شهوة] الباه. وشرابه شديد النطفية، ينفع السعال [الحار] ولا يستحيل إلى الصفراء.(1/205)
نمام: حار يابس، ينفع الفواق عن امتلاءٍ.
نملٌ: ذكره الله تعالى بقوله: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}.
يمنع نبات الشعر مسحوقاً إذا طلي به الجفن، وإذا لطخ به البرص أزاله.
حرف الهاء
هدهدٌ: في كتاب الخواص: الهدهد خواصه أنه إذا علق على من به نسيان ذكره ما نسيه، وإذا حمله معه إنسان فهو خصمه، وإن بخر به مسحوراً أو معقوداً عن النساء حله، وطبخ لحمه يمنع الشيب.
قلت: غالب هذه الأوصاف لا تصح، وذكره الله تعالى.
هليونٌ: حار رطبٌ، يفتح سدد الكلية [والكبد]، وينفع وجع الظهر، ويزيد في المني، ويسهل الولادة. وقيل: إن الكلاب إذا شربت طبيخه قتلها.
هليلجٌ: ثلاثة أصنافٍ: أصفر، وكابلي، وهندي، وباقي أنواعه يرجع إلى هذه، باردٌ يابسٌ، فالأصفر يسهل الصفراء، والكابلي للبلغم، والهندي للسوداء.
يقع في النقوعات والمطابيخ والحبوب والأطريفلات. وحبه الأصفر يبرد حرارة(1/206)
الفم، والكابلي يربى بالعسل فيزيد [في الباه]، ويمنع الشيب، ويطيب النكهة، ويفتق الشهوة. وروي أن الهليلج من شجر الجنة، وفيه شفاء من سبعين داء.
هندبا: يستحيل مزاجه بحسب الفصول، ففي الصيف فيه حرارة، وفي الشتاء برودة، وقوته تذهب بالعسل للطافته، وينفع أمراض الكبد الحارة والباردة. ويذهب نفخة الخل والسكر، ويقع في المطابيخ وفي شراب الديناري، ويروى مرفوعاً:
(كلوا الهندبا ولا تبغضوه، فإنه ليس يومٌ من الأيام إلا وقطراتٌ من الجنة تقطر عليه) ذكره أبو نعيم.
حرف الواو
وخشيزك: حار يابسٌ، إذا شرب منه وزن مثقالٍ: قتل الدود.
وردٌ: باردٌ يابسٌ في الثانية، والمربى منه في العسل أو السكر، حار يقوي المعدة ويعين على الهضم.
ومن [كان] مزاج دماغه يغلب عليه الحرارة، فإن اشتمامه يعطسه، ويسمى صاحب هذا المرض بالجعل. والنصيبي منه يسهل.(1/207)
ومنه شراب الورد المكرر، ويعمل منه معجون الورد النصيبي.
وأما الأحمر المزي فقابض، ومنه يعمل شراب الورد الطري، ومنه يعمل معجونه ويسمى معجون الورد المزي، ومنه زر الورد.
وأما الورد الأبيض فمنه يعمل معجون الورد مطلقاً. وهو معتدل بين القبض والتليين، ومن ورد السياج يعمل دهن الورد الزيتي، والشيرجي، فالزيتي أكثر تقوية للأعضاء، والشيرجي أكثر لتسكين الأوجاع فافهمه.
ورسٌ: بارد يابس في الثانية أجوده الأحمر، ويزرع باليمن. ينفع من الكلف والحكة والبثور طلاءً. وشربه ينفع من الوضح، والثوب المصبوغ به مقو للباه.
وقال الترمذي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينعت من ذات الجنب: الزيت والورس).
وعن أم سلمة: (كانت إحدانا تطلي على وجهها بالورس من الكلف).
وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أنه نهى أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بورسٍ أو زعفرانٍ).(1/208)
قلت: لأن الثوب المصبوغ يدعو إلى الباه، [والمحرم يحرم عليه الباه].
وسمةٌ: هي ورق النيل؛ سميت بذلك لأنها تحسن الشيب من الوسامة، يخلط بها للخضاب.
وعن ابن عباس: (مر رجلٌ قد خضب بالحناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أحسن هذا، فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم، فقال: هذا أحسن، فمر آخر قد خضب بالصفرة، فقال هذا أحسن من هذا كله) رواه د ق.
واختضب بالصفرة عثمان والمقداد.
وعن ابن سيرين قال: أتى ابن زيادٍ برأس الحسين، وكان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مخضوباً بالوسمة.
وصح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما خضبا بالسواد.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شيب أبي قحافة: (غيروه وجنبوه السواد). رواه مسلم.
حرف الياء
ياقوتٌ: [أجوده الأحمر الرماني، وينفع الخفقان والوسواس و] يقوي القلب ويفرحه، وينفع من السموم. وإذا وضع في الفم قطع العطش، ولا تعمل فيه النار، ولا المبارد. وقد ذكره الله تعالى.(1/209)
ياسمينٌ: حار يابسٌ، ينفع [الصداع البارد، وأصحاب اللقوة، والفالج، ويفتح السدد، وينفع عرق النسا وينفع] المشايخ، وكثرة شمه تصفر الوجه، ودهنه يسخن، وإذا سحق يابسه وذر على الشعر الأسود بيضه.
يقطينٌ: ذكر مع القرع.
فتذكر أيها الإنسان وتفكر وتبصر، واعتبر قوله عز وجل: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوجٍ كريمٍ} و{من كل زوجٍ بهيج}. وقل: سبحان الله الملك الحق المبين، الذي جعل في هذه [المفردات] المنافع والمضار، وعلم من شاء من عباده منافعها ومضارها، ومزاجها حارها وباردها، رطبها ويابسها.
وهذا الذي ذكرته فطرةٌ من بحرٍ، وقليلٌ من كثير.
{وما يتذكر إلا من ينيب}، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ}.(1/210)
الجملة الثانية في الأدوية المركبة وتشتمل على بابين
الباب الأول: في قوانين تركيب الأدوية
قال الأطباء: إنا لا نؤثر على الدواء المفرد مركباً إن وجدناه كافيا، لكنا قد تضطر إلى التركيب: إما لإصلاح كيفية الدواء، [أو] المفرد، أو كراهته حتى يطيب، [أو لتقوية قوته]، كما يخلط الزنجبيل مع الثريد.
أو لإضعاف قوته كإخلاط الشمع في مرهم الزنجار.
أو لدفع ضررٍ كإخلاط الكثيراء بالمحمودة.
أو لحفظ قوة الدواء زماناً، كخلط الأفيون بالمعاجين الكبار.
أو لأن الدواء سريع النفوذ فيخلط به ما يثبته.
أو لأنه بطيء النفوذ فيخلط به ما يسرع نفوذه.
أو لأن المرض مركبٌ، فيركب له الدواء.
أو لشدة المرض وقوته فلم يجد دواءً واحداً يقاومه.
أو لاختلاف مزاج المريض فلم يجد دواءً واحداً يفعل أفعالاً متضادةً فيركب.
أو لبعد العضو [الذي فيه] الألم من المعدة فلا يصل إليه الدواء إلا وقد ضعفت قوته، فيركب معه ما يوصله بسرعة، كالزعفران مع الكافور أو الدارصيني مع الشاذنج.(1/211)
أو لشرف العضو فيخلط بدوائه المحلل هذا ما يحفظ قوته عليه من الأدوية القابضة العطرة.
أو لأن الدواء يوجد فيه مضرة لبعض الأعضاء فيخلط به ما يزيل ضرره.
فصل
إذا علم ذلك، فاعلم أن كل مخلوقٍ فيه جزء نافعٌ وجزء ضارٌ، فإن غلب الجزء النافع كان ذلك المخلوق محموداً نافعاً وبالضد. وكانت الحكمة في ذلك ليمتاز سبحانه وتعالى بصفة الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره من خلقه.
فلما اقتضت الحكمة إصلاح هذه المفردات بعضها ببعض، كذلك اقتضت إصلاح نوع الإنسان بعضه ببعض، فأرسل الحق سبحانه وتعالى إليهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مبشرين ومنذرين لإصلاح فاسدهم وتكميل ناقصهم.
قال لبيد:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح
ولبيد هذا هو القائل: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلٌ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أصدق كلمةٍ قالها الشاعر كلمة لبيد).
ولبيد هذا أسلم وحسن إسلامه، فلما أرسلت إليهم الرسل: كان منهم من غلب خيره على شره، فأجاب وأطاع، وقبل هدي الله، ففاز بالبرء من داء جهله، فصارت دار العافية داره، وجنة النعيم قراره.
وكان منهم من غلب شره على خيره، فأعرض ونأى بجانبه، فمات بدائه،(1/212)
فصارت النار داره، وجهنم مصيره، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه.
وقد أنشد في هذا المعنى [شعر]:
أيا آكلاً كل ما اشتهاه ... وشاتم الطب والطبيب
ثمارٌ ما قد غرست تجني ... فاعتد للسقم عن قريب
وقال الجاحظ:
يطيب العيش أن تلقى حليماً ... وفضل العلم يعرفه الأديب
سقام الحرص ليس لها دواءٌ ... وداء الجهل ليس له طبيب
فصل
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى مثلاً فقال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، وكانت طائفةٌ منها طيبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفةٌ أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) متفق عليه.
فانظر رحمك الله في قوله صلى الله عليه وسلم : ([فكانت) طائفة طيبة).
فصل في اختلاف أوزان الأدوية
فنقول: متى كان الدواء شديد الإسخان أو التبريد أو القوة أخذ منه الوزن القليل، ومتى كان بالضد أخذ منه الوزن الكثير.
وكذلك إذا كان الدواء قليل النفع، أخذ منه الكثير وبالضد.(1/213)
وكذلك إذا كان العضو بعيداً أخذ الوزن [الكثير]، وإن كان قريباً فبالضد، وكذلك [إذا كان العضو ضعيفاً أخذ الدواء القليل، وإذا كان قوياً فبالضد.
وكذلك] إذا كان الامتلاء كثيراً أخذ الدواء القوي، وإذا كان قليلاً فبالضد.
فإذا عرف [ذلك]، فاختر من الأدوية الدواء الحديث الجيد، واستعن بالله، وقل ((لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم] العزيز الحكيم)) وأقدم على المداواة.
الباب الثاني في ذكر شيء من الأدوية المركبة على طريق الاختصار
وذكرت في هذا الباب الأدوية المستعملة المشهورة حتى لا أحتاج إلى ذكرها في مداواة مرض مريض.
(أما المغلي الحلو) فهو عناب، وسبستان، ورازيانج، وعرق سوس.
وأما (المنضج) فيضاف إلى المغلي الحلو بزر كرفس، وزبيبٌ أحمر، وجعدة قناة.
(وأما النقوع الحلو): فهو مشمشٌ، وعنابٌ، وزهر نوفر، وإجاص.
وأما الحامض: فيزاد تمر هندي، وحب رمان.
وأما النقوع المسهل، فيزاد سنامكي، وزهر بنفسج، ويقوى بدانق محمودةٍ، وقليل كثيراءٍ، وكل هذا تنفع في ماءٍ حار، وتصفى مع السكر.(1/214)
وأما مطبوخ الفاكهة: فيزاد النقوع المسهل إهليلج كابلي وأصفر، ويعمل عوض المشمس سبستان، ويطبخ ويقوى مع المحمودة بالرواند.
وأما مطبوخ الأفتيمون، فيزاد مطبوخ الفاكهة وأفتيمون، والبسفانج، وغاريقون، ومع المحمودة حجرٌ أرمني ولا زورد، وإن كان ثم وجع مفاصل أضيف إليه سورنجان، وبورندان وتربد، وقد يضاف إليه الترنجان والشاهترج والهندبا إن كان في الجلد حكةٌ أو جربٌ.
وأما لعوق الرواند، فهو رواند ومحمودة برب إجاصٍ، وقد يضاف إليه عسل ((الخيار شنبر))عوض الرب.
وأما الحبوب، فهي: أيارج، وتربد، وهليلج، ومحمودة، تحل بماءٍ، وتعمل حبوباً مثل الحمص المنقوع.
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: أجد في رأسي صداعاً! فقال: سهل طبيعتك، وذكر أنه من يبس الطبيعة، ثم قال: أعطيك من حب أعمله، فأخرج إلي حباً، فقال: اشرب منه بالليل، وذكر أنه هليلج أصفر وأسود ومصطكي وصبر.
قلت: وهذا الحب أنفع شيء لوجع الرأس.
وأما الحقن الملينة، فهي: عناب، وسبستان، وزهر بنفسج، وسنا، وبزر خبازى(1/215)
وخطمى، و((خيار شنبر)). ومحمودة، وبورق، وسكر أحمر، وشيرج، وأضلاع سلق.
ونص أحمد على كراهة الحقنة لغير حاجة في رواية حربٍ، وبه قال مجاهد والحسن وطاوس وعامر.
ونقل عنه غير واحدٍ: أنها لا تكره، وبه قال إبراهيم وأبو جعفر والحكم ابن عيينة وعطاء.
وقال الخلال: كان أبو عبد الله كرهها ثم أباحها على معنى العلاج.
وروى الخلال بإسناده عن سعيد بن أيمن: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رخص فيها.
وبإسناده عن جابرٍ قال: سألت محمد بن علي عن الحقنة؟ فقال: لا بأس بها، إنما هو دواء أشبه بقية الأدوية.
وقال أبو بكر المروذي: وصف لأبي عبد الله ففعله، يعني الحقنة.
وهل تفطر الصائم أو لا؟ فيه خلافٌ بين الفقهاء.
فعند الشافعي ورواية عن أحمد: أنها تفطر. وعند أبي حنيفة: أنها لا تفطر، وإليه ذهب [الشيخ تقي الدين] أحمد بن تيمية، وهو الصحيح.
وأول ما علمت الحقنة: من طائر كان كثير الأكل للسمك، فيأخذ من منقاره من ماء البحر المالح فيضعه في دبره فيستفرغ ما في جوفه، [وقد تقدم أن الملح من المسهلات].(1/216)
الفن الثالث: في علاج الأمراض مختصراً
قد تقدم أن الغاية من الطب: حفظ الصحة موجودة، وردها مفقودة. فلنتكلم فيه فنقول: قد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي وحث عليه، فروى جابرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله عز وجل) م.
فهذا حث منه صلى الله عليه وسلم على التداوي.
وروى أبو هريرة: (ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاءً) خ.
وفي لفظٍ آخر: (لم يضع له دواء) والشفاء هو الدواء.
وعن أسامة بن شريك قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال: نعم عباد الله، تداووا، فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً غير داءٍ واحدٍ وهو الهرم) رواه الأربعة.(1/217)
وقوله (تداووا): أي استعملوا الدواء.
والهرم: الكبر، جعل الهرم داءً تشبيهاً به، لكون الموت يعقبه.
وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما خلق الله من داءٍ إلا وجعل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام، والسام الموت).
عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : (الذي أنزل الداء أنزل الدواء).
وعن أبي خزامة قال: (قلت يا رسول الله: أرأيت رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به ونفثات ننفثها: هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله) رواه ت وحسنه.
فالمرء مجبولٌ على صيانة نفسه، والبدن مخلوقٌ من أمشاجٍ مختلفةٍ.
قال الله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ}.(1/218)
والأمشاج: الأخلاط، وقوامه وحفظه بتعديل مزاجه، وهذا يكون باستعمال النافع ودفع الضار وهو غرض الطب.
والمرض يحلل الرطوبات الأصلية التي منها خلق الآدمي ويعفنها.
وصناعة الطب تمنع العفونة وتحفظ الرطوبة عن سرعة التحلل.
ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم : (مثل ابن آدم وإلى جنبه تسعةٌ وتسعون منيةً إذا أخطأته وقع في الهرم حتى يموت) أخرجه [البخاري] ت.
وقد جاء عن ابن مسعودٍ مرفوعاً: (فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا) رواه خ.
فالموت متحتم، لكن الطب يعالج من علل مع العمر.
قال حكيمٌ: الموت قائم بالأجساد بالذات، وإنما الطب تحسين أيام المهلة، فالطب يحفظ صحة الصحيح، ويردها بقدر الإمكان على العليل.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان) ولم يصح عنه، بل هذا قول الشافعي، رواه محمد بن سهل الطوسي، عن الربيع رضي الله عنه، عنه.
وعنه قال: صنفان لا غنى بالناس عنهما: العلماء لأديانهم، والأطباء لأبدانهم.
قال عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله).
وقال عليه الصلاة والسلام: (العلم ثلاثةٌ: آيةٌ محكمةٌ، وسنةٌ قائمةٌ، وفريضةٌ عادلةٌ، وما وراء ذلك فضلٌ) رواه د ق.(1/219)
فالطب من السنن القائمة لأنه صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خمسٌ من سنن المرسلين: الحياء، والعلم، والحجامة، والسواك، والتعطر) رواه البزار، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، والله أعلم.
فصل التداوي أفضل أم تركه؟
أجمعوا على جوازه. وذهب قومٌ أن التداوي أفضل، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (تداووا) لأنه كان يديم التطيب في صحته ومرضه.
أما في الصحة: فباستعمال الرطب بالقثاء، والرطب بالبطيخ، وقلة التناول من الغذاء، وإيراده بالظهر، وبجمعه للمطر، واستعماله نقيع الزبيب أو التمر، ونحو ذلك كما تقدم ذكره.
وأما في مرضه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه).
وقال هشامٌ: قلت: لعائشة رضي الله عنها: أعجب من بصرك بالطب! قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طعن في السن وفدت الوفود فتنعته، فمن ثم عرفته) رواه أبو نعيم.(1/220)
وقال كعبٌ: يقول الله عز وجل: (أنا أصح وأداوي فتداووا).
وذهبت طائفة إلى الترك.
فالمنصوص عن أحمد أن تركه أفضل، نص عليه في رواية المروذي فقال: العلاج رخصة وتركه درجة.
وسئل أحمد عن الرجل [اشتدت علته فلم] يتداو، أيخاف عليه؟ قال: لا، هذا يذهب مذهب التوكل.
وكذلك سأله إسحاق في الرجل: يمرض بترك الأدوية أو يشربها؟ فقال: إذا توكل، فتركها أحب إلي.
والدليل عليه ما روى ابن عباس: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله [لي] أن يشفيني، فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: يا رسول الله، لا بل أصبر) الحديث خ م.
وقال صلى الله عليه وسلم : (سبعون ألفاً يدخلون الجنة لا حساب عليهم، الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).
وفي رواية: (هم الذين لا يتطيبون، ولا يسترقون) أخرجه خ.
[قال المصنف رحمه الله]: ونقل [لي الشيخ الإمام العلامة] علاء الدين بن العطار رحمه الله تعالى قال: أجمع المسلمون أن التداوي لا يجب.(1/221)
وعن أحمد وجهٌ في الوجوب نقله أحمد بن تيمية، ويحمل حديث: (تداووا) على الإباحة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: قد رآني. قال: فما قال؟ قال: إني فعالٌ لما أريد.
وقيل لأبي الدرداء: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. قيل: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني.
ودخل جماعة على شيخ لهم فقالوا ألا ندع لك طبيباً! قال: إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع مقدوراتي.
قال المؤلف رحمه الله: التوكل اعتماد القلب على الله، وذلك لا ينافي الأسباب ولا التسبب، بل التسبب ملازم للمتوكل، فإن المعالج الحاذق يعمل ما ينبغي ثم يتوكل على الله في نجاحه، وكذلك الفلاح: يحرث ويبذر ثم يتوكل على الله تعالى في كل حاله وفي نمائه ونزول الغيث.
قال الله تعالى: {خذوا حذركم}.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل).(1/222)
وقال صلى الله عليه وسلم : (أغلقوا الأبواب). وقد اختفى في الغار ثلاثاً.
ثم قد تكون العلة مزمنةً، ودواؤها موهوماً قد ينفع وقد لا ينفع.
ومن شرب دواء سمياً أو مجهولاً فقتله، فقد أخطأ لقوله صلى الله عليه وسلم : (من سم نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم) متفقٌ عليه، وقد تقدم.
فصل في إحضار الأطباء
عن جابر قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعبٍ طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه) رواه م.
وعن أبي هريرة قال: (أجيف برجل من الأنصار يوم أحدٍ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيبين كانا بالمدينة، فقال: عالجاه).
وفي روايةٍ: (قالا: يا رسول الله، وهل في الطب خير؟ فقال نعم).(1/223)
وعن هلال بن يساف قال: (مرض رجلٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعوا له الطبيب؛ فقالوا: يا رسول الله، تعني الطبيب؟ قال: نعم).
وعنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده، فقال: أرسلوا إلى طبيبٍ، فقال له قائلٌ: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم) الحديث.
ذكر هذه الأحاديث أبو نعيم في كتابه (الطب النبوي).
وعن زيد بن أسلم: (أن رجلاً أصابه جرحٌ فاحتقن الدم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا برجلين من بني أنمارٍ فقال: أيكما أطب؟ فقال رجلٌ: وفي الطب خير؟ قال: الذي أنزل الداء أنزل الدواء) رواه مالك في (الموطأ).
قال المؤلف رحمه الله: وينبغي أن يختار الحاذق في الطب، البصير به، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيكما أطب)، ولذلك قال جالينوس: إن الجاهل من الأطباء يدخل على المريض وبه حمى فيخرج وبه حمتان، وذلك لسوء معالجته وقلة معرفته وجهله.
وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه، فكان تقدم عليه أطباء العرب والعجم .. .. ) الحديث.
وقال أحمد: يجوز الرجوع إلى قول الطبيب من أهل الذمة في الدواء المباح، ولا يسمع قوله إذا وصف دواءً محرماً كالخمر ونحوه، وكذلك لا يسمع قوله في الفطر والصوم والصلاة جالساً ونحو ذلك، ولا يقبل مثل هذا إلا من مسلمين عدلين من أهل الطب.
ونص أحمد على كراهة الأدوية التي يصنعها أهل الذمة من المعاجين والمطابيخ.
قال في رواية أحمد بن الحسن: يكره شرب دواء المشرك.
وقال المروذي: كان أحمد يأمرني أن لا أشتري له ما يوصف له من النصراني. قال: لأنه لا يؤمن أن يخلط بذلك شيئاً محرماً من المسمومات والنجاسات وغيرها، ويعتقده صلاحاً.(1/224)
فصل في الحمية
الحمية توقف المرض، فتتمكن القوى من دفعه، (وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بها وينهى عما يؤذي).
أخبرني الإمام حافظ جمال الدين، أبو الحجاج، يوسف بن الزكي عبد الرحمن [بن] يوسف المزي، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم القرشي، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني إذناً، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد وأبو منصور محمود بن إسماعيل الصيرفي وفاطمة بنت عبد الله الجوردانية، قال الحداد: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، وقال الصيرفي: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن فادشاه، وقالت فاطمة: أنبأنا أبو بكر محمد ابن عبد الله بن زيدة، قالوا: أنبأنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، قال: أنبأنا محمد بن العباس المؤدب، قال: أنبأنا شريح بن النعمان، قال أخبرنا فليح بن سليمان، عن أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن يعقوب بن أبي يعقوب، عن أم المنذر سلمى بنت قيس الأنصارية، قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي رضي الله عنه، وعلي ناقهٌ ولنا دوال معلقةٌ، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل وقام علي يأكل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مهلاً يا علي، فإنك ناقهٌ، قال: فجلس علي رضي الله عنه، فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلت له سلقاً(1/225)
وشعيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: من هذا فأصب، فإنه أوفق لك). رواه الإمام أحمد عن شريح بن النعمان، فوافقناه فيه بعلو.
وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من رواية فليح، رواه د في الطب.
والدوالي: جمع دالية. وهي العذق من البسر يعلق، فإذا أرطب أكل.
والناقه: الذي برأ من مرضه وهو قريب العهد به ولم يرجع إليه كمال صحته.
وحميت المريض حميةً وحموةً: إذا منعته من الطعام الضار.
وقال صهيبٌ: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمرٌ وخبزٌ فقال: ادن فكل، فأخذت آكل من التمر، فقال عليه الصلاة والسلام: أفتأكل تمراً وبك رمداً)؟ رواه الحميدي.
وعن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الطعام والشراب). رواه ت. ونحوه عن ابن الجوزي.
ويروى عن عمر أنه حمى مريضاً له حتى إنه من شدة ما حماه كان يمص النوى.
وسئل طبيب العرب الحارث بن كلدة: ما رأس الطب؟ قال: الحمية.(1/226)
وقال كعب بن سعد يرثي أخاه شبيباً [شعراً مفرداً]:
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنك يحميك الشراب طبيب
وقال أحمد رحمه الله: لا بأس بالحمية.
ولما مرض أحمد كان يأكل القرع بالماش، والمزاوير بالشيرج تطبخ له. ووصف له عبد الرحمن الطبيب قرعة مشوية يأخذ ماءها ويشربه بالسكر، ففعله.
وروى أبو نعيم في (الطب النبوي): (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمدت عين امرأةٍ من نسائه لم يأتها حتى تبرأ).
فصل في الحث على تعليم الطب
قد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم ينزل داءً إلا وله دواءٌ).
قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم، وحث العزائم على تعلم الطب. وقد تقدم أن الطب: الحذق.
قال الشافعي: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب. وكان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب، يقول: ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى.
وكان يقول: إن أهل الكتاب قد غلبونا على الطب. وكان الشافعي مع عظمته في علم الشريعة وبراعته في العربية، بصيراً بالطب.
قال المصنف رحمه الله: .. .. ..(1/227)
ورأيت شيخنا الشيخ إبراهيم الرقي بصيراً بالطب، وكذلك شيخنا الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ عماد الدين الواسطي رحمه الله تعالى.
قال أبقراط وغيره: الطب إلهام من الله. وأبقراط رئيس هذه الصناعة، ومذهبه فيها هو المذهب الصحيح، وتبعه عليه جالينوس إمام هذه الصناعة أيضاً، وهما معظمان عند الأطباء تعظيماً كثيراً.
ويقال: إن قبر أبقراط إلى الآن يزار ويعظم عند اليونان.
وقال قومٌ: إن شيئاً عليه السلام أظهر الطب، وإنه ورثه من أبيه آدم، وقيل: إنه حصل بالتجارب، وقيل: بالقياس، وقيل: استخرجه قوم بمصر، وقيل: إن الهند استخرجوه، وقيل السحرة، وقيل إدريس، وهو هرمس استخرج الصنائع والفلسفة والطب. والأغلب أنه من تعليم الله وإلهامه، وهو الحق، ثم أضيفـ[ت] إليه التجارب والقياس.
وعن ابن عباسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان سليمان عليه السلام إذا صلى رأى(1/228)
شجرةً نابتةً بين يديه فسألها: ما اسمك، وما نفعك؟ فيكتب ذلك).
وقد رأينا الناس وبعض الحيوان يستعلمون الطب طبعاً وإلهاماً.
قال: كل من أحس بالجوع طلب الغذاء، وكذلك إذا عطش طلب الماء، وإذا كرب تبرد، وبالضد، وإذا أتخم أعرض عن الأكل، وهذا من الطب.
والحية إذا خرجت بعد الشتاء وقد قل بصرها فتأتي الرازيانج فتأكل منه وتقلب عينها عليه فتبصر. وقد نبه الأطباء على استعماله عند ظلمة البصر.
وكذلك الطائر الغواص على السمك إذا احتبس طبعه، فيحقن نفسه بماء البحر، وقد تقدم الكلام عليه.
وفرخ الخطاف إذا عمي حملت إليه أمه نبات الماميران من الصين فيبصر.
والنسر إذا عسر على الأنثى بيضها أتى الذكر الهند، وأخذ الحجر المسمى ((باكتمت)) وهو كالبندقة إذا حركته سمعت من جوفه حركةً، فيضعه تحتها، فيسهل بيضها.
والثعلب في الربيع إذا مرض يأكل حشيشاً يسهله فيصح، وكذلك الهر تأكله فيعينها على القيء، ومعلومٌ أن الحشيش ليس من أغذيتها.
فسبحان من أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى.
وقال هشام بن عروة: ما رأيت أحداً أعلم بالطب من عائشة. فقلت: يا خالة، ممن تعلمت الطب؟ قال: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض، فأحفظ.
وعنه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، أعجب من بصرك بالطب! قالت: يا ابن أختي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طعن في السن سقم، فوفدت الوفود فتنعت، فمن ثم [رويت عنه].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا ابن أختي كان يمرض الإنسان من أهلي فيبعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغيةً فأنعته للناس). رواهما أبو نعيم.(1/229)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً علمه من علمه) إشارة إلى الأطباء، (وجهله من جهله) من باقي الناس. والله أعلم.
اجتناب من لا يحسن الطب
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من يطبب ولم يكن بالطب معروفاً فأصاب نفساً فما دونها فهو ضامنٌ) أخرجه د س ق.
وعنه: (من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامنٌ).
قال الخطابي: لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض ضمن. والمتعاطي علماً لا يعرفه متعد، وجناية الطبيب في قول الأكثر على عاقلته.
كراهية أن يسمى طبيباً
عن أبي رمثة قال: (دخلت مع أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبي الذي بظهره فقال: دعني أعالج الذي بظهرك فإني طبيبٌ، فقال: أنت رفيقٌ والله الطبيب).
وهذا على شرط الصحيح.
في أجرة الطبيب
عن أبي سعيد قال: (انطلق نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حي من أحياء العرب فلم ينزلوهم، ولا أقروهم، فلدغ رجلٌ منهم فأتوا القوم، فقالوا: هل فيكم راقٍ؟ قالوا: لم تنزلونا ولم تقرونا، لا، حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، قال: فجعل رجلٌ منهم يقرأ بفاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برأ، فأخذوا الغنم، وسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وما يدريكم أنها رقيةٌ؟ كلوا واضربوا لي معكم بسهمٍ) خ م.(1/230)
وفي رواية: (قالوا عندكم دواءٌ؟ قالوا: نعم، ولكن لا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً على ذلك) [رواه أبو داود].
وفي روايةٍ لأبي داود: (فأتوا برجل معتوهٍ في القيود فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيامٍ غدوةً وعشيةً، كلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنما نشط من عقالٍ) رواه أبو داود.
وفي رواية: (فصالحوهم على مائة شاةٍ).
فأم القرآن من أنفع الرقى، لما فيها من تعظيم الرب وإخلاص عبوديته والاستعانة به، ويقال موضع الرقية منها: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : (الرقى والتمائم شركٌ).
ووجه الجمع بين ذلك أنهم كانوا يخلطون برقاهم شركاء فنهوا لذلك، فإن سلمت منها جاز.
ولمسلمٍ: (لا بأس برقى لم يكن فيها شركٌ).(1/231)
وفي لفظٍ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل).
فيحتمل أن النهي كان ثابتاً ثم نسخ، أو يكون لأنهم كانوا يعتقدون منفعتها بطبيعة الكلام، فلما جاء الإسلام واستقر الحق في أنفسهم أذن لهم فيه مع اعتقادهم أن الله هو النافع الضار.
والتميمة: خرزةٌ تعلق كانوا يرونها تدفع الآفات، وهذا جهلٌ.
واعلم أن بعض الكلام له خواص ينفع بإذن الله شهدت العلماء بصحته، فما ظنك بكلام الله عز وجل.
وعن علي رضي الله مرفوعاً: (خير الدواء القرآن) ق.
وفي أخذهم القطيع دليلٌ على أخذ الأجرة على الطب والرقى، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : (اضربوا لي معكم بسهمٍ).
وقيل: قسموا القطيع بمرضاة الراقي تبرعاً. في خبر مفسرٍ: أن الراقي هو أبو سعيد الخدري راوي الحديث، وقد بوب عليه الترمذي في (جامعه) ((باب أجرة الطبيب)). وبوب عليه أبو داود في (سننه) ((باب كسب الطبيب)).
والتفل والنفث سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى.(1/232)
[فصل] في معرفة المرض بالجس
عن مجاهدٍ: (قال سعد: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي وقال: إنك رجلٌ مفؤودٌ فأت الحارث بن كلدةً من ثقيف، فإنه رجلٌ يتطبب) الحديث.
والمفؤود: الذي أصيب فؤاده.
وقال عليه الصلاة والسلام: (تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على يده أو على جبهته ويسأله كيف هو؟) رواه ت.
(وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريضٍ وضع يده عليه) خ.
الفراسة ودخولها في العلاج
عن أبي سعيدٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله).(1/233)
وعنه صلى الله عليه وسلم : (إذا رأيتم مصفراً من غير مرضٍ ولا عبادةٍ، فذلك من غش الإسلام في قلبه).
وعن أنسٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم). ذكره أبو نعيم.
فالفراسة استدلالٌ بالأحوال الظاهرة على الكامنة. وقيل: هي خاطرٌ يهجم على القلب فينفي ما يضاده، وله على القلب استيلاء كاستيلاء الأسد على فريسته، فهو مشتق من ذلك.
وفراسة الشخص بحسب ما عنده من العقل والإيمان والعلم بأصول الفراسة، قال الله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}.
للمتفرسين. ويقال: توسمت [فيه] الخير أي رأيت، وينفع عند اشتباه أسباب المرض، فالطبيب ينظر في مزاج البدن وهو اللون والسحنة واللمس والعين.
في إباحة مداواة النساء للرجال غير ذوات المحارم والرجال للنساء
عن أم عطية قالت: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزواتٍ، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأجيز على الجرحى، وأداوي المرضى) أخرجه م.
وعن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو ومعه أم سليمٍ، ومعها نسوةٌ من الأنصار يستقين الماء ويداوين الجرحى) رواه م.(1/234)
ونص أحمد: أن الطبيب يجوز له أن ينظر [من] المرأة الأجنبية إلى ما تدعو إليه الحاجة إلى العورة، نص عليه في رواية المروذي والأثرم وإسماعيل، وكذلك يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل عند الحاجة. نص عليه في رواية حرب.
قال المروذي: أصاب أبا عبد الله لوى فدعا بامرأةٍ فأخرجته.
وكذلك يجوز خدمة الأجنبية ويشاهد منها عورةً في حال المرض. وكذلك المرأة يجوز لها أن تخدم الرجل وتشاهد منه عورةً في حال المرض، إذا لم يوجد رجلٌ أو محرم، ونص عليه في رواية المروذي.
وكذلك يجوز للشاهد أن ينظر إلى وجه المرأة وكذلك من أراد تزويجها، وكذلك إذا مات رجلٌ بين نساءٍ أو امرأةً بين رجال: جاز للنساء غسل الرجال وللرجال غسل النساء في إحدى الروايتين، والصحيح أنهم ييممان.
ويجوز للمرأة أن تشرب دواء ليقطع الحيض إذا دواءً تأمن ضرره، نص عليه في رواية صالح إذا لم يكن لها زوجٌ، فإن كان لها زوجٌ وقفت على إذنه.
ترك إكراه المريض على الطعام والشراب
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام فإن الله يطعمهم ويسقيهم) رواه ت وحسنه ق.(1/235)
المريض إذا عاف الأكل، فلاشتغال الطبيعة بالمرض، أو لسقوط الشهوة، أو لضعف القوة، وكيفما كان فلا يجوز حينئذٍ إعطاء غذاءٍ له.
فإذا أكره المريض على الغذاء تعطلت به الطبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه عن مقاومة المرض ودفعه فيضر، لا سيما في وقت البحران، فيكون ذلك زيادة الألم فلا يعطى حينئذٍ إلا ما يحفظ القوة وذلك ما لطف قوامه من الأشربة واعتدل مزاجه كشراب الورد والتفاح أو مرقة الفروج وإنعاش القوة بريحٍ عطرة أو بخبرٍ يسره.
وقد يحتاج المريض الغائب العقل إلى إجباره على الغذاء، وقد يكون عدم شهوة المريض للغذاء لكثرة امتلاءٍ في بدنه، فمتى غذيته زدته شراً كذلك.
قال أبقراط: وقال ابن سينا: والتغذية صديقةٌ للقوة من جهة نفسها، عدوةٌ لها من جهة أنها صديقة عدوها وهي المادة.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يطعمهم ويسقيهم).
أي يعاملهم معاملة من يطعم ويسقى، فلا يضره عدم تناول الطعام والشراب.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني).
تشهية المريض وإطعامه ما يشتهي
عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً فقال له: ما تشتهي؟ فقال: خبز بر).(1/236)
وفي رواية: (كعكاً، فقال عليه الصلاة والسلام: من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه)، ثم قال: (إذا اشتهى مريض أحدكم فليطعمه). أخرجه ق.
المريض إذا تناول ما يشتهيه وكان فيه ضرر كان أنفع أو أقل ضرراً من تناول ما لا يشتهيه ولو كان نافعاً، وإن كان نافعاً فما مثله، فمتى صدقت الشهوة لزم الطبيب إجابة المريض إلى ما عرض من شهوته.
قال أبقراط: أما ما كان من الطعام والشراب أحسن قليلاً إلا أنه ألذ، فينبغي أن يختار على ما كان منه أفضل.
منع المريض من الإكثار مما يزيد في علته
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: (أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم قناع من تمر وعلي رضي الله عنه محمومٌ فناوله تمرةً ثم أخرى حتى ناوله سبعاً وقال: حسبك).
وذلك لأن التمر فيه حرارةٌ تضر أصحاب الحميات وتورثهم الصداع والعطش، فإذا أخذ منه القليل لم يكن له تلك المضرة.
إطعام المزورات للمرضى
وقد تقدم حديث أم المنذر وقولها: (فجعلت لهم سلقاً وشعيراً).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك، أمر(1/237)
بالحساء فصنع لهم ثم أمرهم فحسوا منه) وكان يقول: (إنه ليرتو عن فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها) رواه ت.
الوعك: الحمى.
والحساء: طبيخٌ يتخذ من دقيقٍ وماءٍ ودهنٍ، وقد يحلى.
ويرتو فؤاد الحزين: أي يشده ويقويه.
ويسرو: أي يكشف عن فؤاده الألم.
وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له إن فلاناً لا يطعم الطعام قال: (عليكم بالتلبينة فحسوه إياها).
وعنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (التلبينة تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن) رواه خ.
والتلبينة: حساءٌ يعمل من دقيقٍ أو نخالةٍ، وربما عمل فيها عسلٌ، سميت بذلك لبياضها، تشبيهاً باللبن.
وتجم: أي تريحه، وقيل: تفتحه، وقيل: تجمعه، ولأن الغم والحزن يبردان المزاج ويضعفان الحرارة، والحساء يقوي الحرارة وينميها.
والفؤاد: فم المعدة.
وعن عائشة أنها كانت تأمر بالتلبينة وتقول: هو البغيض النافع.(1/238)
وفي رواية م: كانت تأمر بالتلبين للمريض، رواهما خ.
قولها: ((البغيض)): لأن المريض يبغضه ويعافه.
قال المؤلف: إذا شئت أن تحصي منافع الحسو فأحص منافع ماء الشعير، لا سيما إذا كان بنخالته، فإنه يجلو وينفذ سريعاً ويغذي غذاءً لطيفاً، وإذا شرب حاراً فنفعه أبلغ، ونفوذه أسرع، وجلاؤه أكثر.
عصب رأس المريض
روى ابن عباسٍ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقةٍ فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه .. )) الحديث بطوله أخرجه خ.
وفي روايةٍ: (عاصبٌ رأسه بعصابة دسماء).
فيستحب عصب رأس المريض، وفيه تقوية للرأس وتسكين الألم.
حلق الرأس من الأذى
كذلك بوب عليه البخاري.
[روى] كعب بن عجرة قال: (أتى على زمن الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت برمةٍ والقمل يتناثر عن رأسي، فقال: أويؤذيك هوامك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق). أخرجه خ.
وحلق الرأس يفتح مسامه، ويسكن ألمه ويقويه، وأظنه عن ابن عباس.
وحلق القفا يغلظ العنق.(1/239)
سعوط المريض
عن ابن عباس: (استعط النبي صلى الله عليه وسلم ) متفق عليه.
يقال: سعطته وأسعطته إذا جعلت الدواء في أنفه.
منفعة السعوط عظيمة في تنويم المريض وتسكينه
ومن هذا القبيل أمر الأطباء أن يدهن أنف المريض وأطرافه بدهن البنفسج ونحوه.
غسل أطراف المريض
ثبت عنه في (الصحيح): أنه أمر بصب سبع قرب ماءٍ عليه صلى الله عليه وسلم في حال مرضه.
وذلك مما يروح المريض وينفس كربه ويشد قوته وينومه.
كراهية ورود المريض على الصحيح
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يورد الممرض على المصح) أخرجاه.(1/240)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تديموا النظر إلى المجذومين) رواه ق.
وعلق البخاري: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) خ.
روى جابرٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه القصعة)، وقال: (كل باسم الله ثقةً بالله وتوكلاً عليه) ت ق.
وروي نحوه من حديث ابن عمر.
وعنه: (كان في وفد ثقيفٍ مجذومٌ فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع، فقد بايعناك) م س.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يورد ممرضٌ). ليس ذا الرجل المريض بل الذي مرضت ماشيته لا يورد على صاحب الماشية الصحيحة فلعل الصحيحة لو مرضت بقدر الله تحرك في نفس صاحبها أن هذا عدوى، فيتيقن في ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا عدوى ولا طيرة). فأمر باجتنابه.(1/241)
(وأما الجذام) فهو من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وشكلها، وربما تآكلت وسقطت ويسمى هذا المرض: داء الأسد.
قيل: لأنه يعتري الأسد. [وقيل]: بل يصير الوجه كوجه الأسد، وهو عند الأطباء يعدي ويتوارث.
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إدامة النظر إليهم، وأرسل إلى المجذوم يبايعه ورده، ثم واكل المجذوم، فاجتنابه على الاحتياط، والأكل معه لبيان الجواز.
وقال ابن قتيبة: إنه قد يتأذى من قارب المجذوم بالرائحة إلا بالعدوى.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إن هذا نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم : (لا عدوى ولا طيرة) وبمواكلته المجذوم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وفر في المجذوم): أمرٌ على سبيل الإباحة؛ أي إذا لم تصبر على أذاه ففر منه، والرائحة هي أحد أسباب العدوى، وكل بقدر الله تعالى.
فصل في النهي عن التداوي بالنجاسات
تقدم حديث طارق بن سويد وغيره في تحريم التداوي بالخمر وغيره. والخمر يذكر ويؤنث، فيقال: خمرةٌ وخمرٌ، وقد أخبر الصادق أن الخمر ليس بدواءٍ ولكنه داء، وذلك لما فيه من المضار والمفاسد من ذهاب العقل، وإذا ذهب العقل: ذهب الدين، وإذا ذهب الدين كان إلى جهنم المصير، أعاذنا الله منها.
قال أبقراط: ضرر الخمر بالرأس شديدٌ لأنه يضر الذهن.
قال صاحب (الكامل): خاصيته الإضرار بالدماغ والعصب.(1/242)
وقال غيره: يحدث النسيان والموت فجأةً، ويحسن القبائح، ويورث الرعشة واللقوة والفالج والسكتة وغير ذلك.
وقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكرٍ حرامٌ، وما أسكر الفرق فملء الكف منه حرامٌ) رواه الترمذي وأبو داود.
ومعلوم أن الأطباء قالوا إنها دواء لبعض الأمراض، لكن يجوز أن الله تعالى سلبها المنفعة لما حرمها وأطلع على ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال: (هي داءٌ وليست بدواءٍ).
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم : (من تصبح بسبع تمرات عجوةٍ لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحرٌ). قال: أما فضيلة ذلك فأمرٌ علم بالشارع.
قلت: صدق الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، فإن هذا لم يعرفه أحدٌ من الأطباء ولا غيرهم، ولا نبه عليه ولا أشار إليه سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل بعض الأطباء زعم أن العجوة تنفع من السم البارد، وكذلك سلب منافع الخمرة فيكون بما أطلع الله عليه نبيه دون غيره لما حرمها.
وفي رواية أبي طالبٍ: ذكر لأحمد قول أبي ثورٍ: يتداوى بالخمر، فقال: هذا قول سوءٍ، ولذلك نقل المروذي عنه أنه حكى له قول أبي ثورٍ: إذا أجمعت الأطباء على أن يسقى المريض الخمر، قال: يسقى، رواية المروذي، فأنكر أحمد هذا إنكاراً شديداً.(1/243)
ولذلك قال أحمد: لا يجوز التداوي بالترياق لما فيه من لحوم الأفاعي والخمر.
قال في رواية المروذي: أو ألقي فيه لحوم الحيات، فلا أرى أن يشربه، ولذلك قال في لبن الأتان: لا يشرب ولا للضرورة، وكذلك أبوالها.
والدلالة عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تداوى بحلال الله كان له فيه شفاءٌ [ومن تداوى بحرامٍ لم يجعل الله له فيه شفاء]).
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الأتن وألبانها يوم خيبر.
ويجوز شرب أبوال الإبل للضرورة، نص عليه في رواية أبي صالح، [وحنبل] محمد بن الحسن، وإسحاق بن إبراهيم، وحرب، وعبد الله، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث.
وأما شربها لغير ضرورةٍ، فهل يجوز؟ الصحيح: أنه يجوز لحديث أنسٍ المتقدم.
ويكره أخذ الأدوية المخدرة مثل الداري، وهو حب يشبه الشعير أسود اللون، والبنج، وهذان مسكران.(1/244)
وقد تقدم نهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل الضفدع، وإنما نهى عن قتلها لأنها من جملة السموم، ولم ير عليه [السلام] إعلامه بذلك، كيلا يشهر ذلك ويعلم، [وذلك] لأن فيها مضار كثيرة، منها: أن أكل لحمها يسقط الأسنان حتى أسنان البهائم إذا نالته في المرعى ويورم البدن، ويكمد اللون، ويحدث قذف المني حتى يموت الآكل، والصغير منها أشد ضرراً، وقد نهى الأطباء عن استعمالها أشد النهي.
وإذا كان الأطباء قد نهوا عن مثل هذا شفقةً منهم على خلقه، فكيف بمن وصفه الله تعالى بأنه: {بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}؟ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
فصل في مداواة الحمى بالماء البارد
وقال الأطباء: شرب الماء البارد [في الحمى] عند ابتدائها يضعها ويوهي قوتها.
وعن ابن عمر مرفوعاً: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (الحمى من فيح جهنم فأطفئوها عنكم بماء زمزم) أخرجه البخاري.(1/245)
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعكة فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبردوها بالماء وإنها من فيح جهنم) رواه البخاري ومسلم.
قوله عليه الصلاة والسلام: (فأبردوها)، هذا خطاب لأهل الحجاز، إذ غالب حمايتهم ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً لحرارة الحجاز.
(وأبردوها): أي اكسروا حرها ووهجها، و(فيح جهنم): أي شدة حرها وغليانها، أجازنا الله برحمته منها.
وأما قوله: (بماء زمزم) إما لخاصيةٍ فيها، فإن المياه تختلف باختلاف أراضيها أو من جهة التبرك به من قوله: (ماء زمزم لما شرب له).
والموعوكة: المحمومة.
وعن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليالٍ من السحر) رواه ابن الجوزي.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحمى كيرٌ من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد) رواه ق.(1/246)
وعن سمرة رفعه: (الحمى قطعةٌ من النار فأبردوها بالماء).
(وكان عليه الصلاة والسلام إذا حم دعا بقربةٍ فأفرغها على رأسه فاغتسل) رواه الحسن، عن سمرة.
وروت عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم في مرضه: صبوا علي سبع قربٍ من ماءٍ).
وعن رافع بن خديج رفعه: (إذا أصابت أحدكم الحمى فإنما الحمى قطعةٌ من النار فليطفئها بالماء البارد) رواه ت.
وقال جالينوس: لو أن شاباً سميناً سبح في الماء في الحر، لانتفع بذلك.
قلت: أجمع الأطباء أن الماء أنفع شراب للمحمومين حمى حادة، لشدة لطافته وسرعة نفوذه وخفته على الطبع، وقد يحتاج الماء في بعض الأحوال إلى ما يقوي تبريده، فيضاف إليه الثلج أو إلى تقوية تنفيذه فيضاف إليه الخل، أو إلى ما يرطبه، ويوصله إلى متون الأعضاء فيضاف إليه السكر.
وقد يصلح الخل بالسكر والسكر بالخل، ويسمى شراب السكنجبين، وهو أنفع شراب للحمى المادية لتقطيعه وتفتيحه، وذلك أن الحمى أجناسٌ: منها حمى يوم وتزول في الغالب في يومٍ واحدٍ وتمتد إلى ثلاثة أيام، فإن تعلقت بالأخلاط: سميت عفنية، وإن تعلقت بالأعضاء الأصلية: سمعت حمى دق، وربما كانت الحمى منضجة للأخلاط الغليظة، وقد تبرئ الفالج وتحلل القولنج وغير ذلك.
وعن أبي هريرة قال: (ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبها رجلٌ فقال: لا تسبها فإنها تنقي الذنوب كما تنقي النار خبث الحديد) ق.(1/247)
وعن جابر رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب أو أم المسيب، قال: مالك، تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، قال: لا تسبيها، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد) [رواه مسلم].
الرفرفة: الانتفاض.
يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (حمى يومٍ كفارة سنةٍ).
وعن الحسن أنه قال: إنه ليكفر عن العبد ذنوبه بحمى ليلةٍ، فقد صارت الحمى تنفع الأبدان والأديان، فلذلك نهى عليه الصلاة والسلام عن سبها.
فصل في الحمى
الحمى تكون عن دم، وعلامته حمرة الوجه والعين.
(العلاج) الفصد والحجامة وأخذ النقوعات الحامضة.
وتكون عن صفراء، وعلامته صفرة الوجه والسهر، وقيء الصفراء، ومرارة الفم.
(العلاج) أخذ شراب الإجاص والمزاوير الحامضة، وإن كان عطش زائد(1/248)
فليستعمل البطيخ الأخضر، وحليب بزر البقلة، وليلين الطبع بالنقوع المسهل.
وإن غلب السهر فلينشق المريض دهن بنفسج.
فإن ضعفت القوة فغذ بأمراق الفراريج.
فإن طالت المدة، فأسهل بلعوق الرواند.
فإذا أقلعت الحمى فأدخل الحمام وغذه بلحم الحملان.
وقد تكون عن بلغم، وعلامته: قلة العطش، ورصاصية اللون والنافض.
فعند النافض يستعمل القيء ويشرب شراب السكنجبين بالماء الحار أياماً ثم ليلين الطبيعة بالحقن اللينة، وبعد بلعوق ((الخيار شنبر))، وليتغذ بالفروج محمضاً أو بالقرطم. وتكون عن سوداء، وعلامته كمودة الوجه، والبول، وغلبة السهر.
ولا غذاء لها مثل ماء الشعير، فإنه نعم الغذاء لما فيه من الترطيب والتنويم، وحسن التغذية. ومقدار الشربة منه أوقية مع نصف أوقية سكر.
وليسهل الطبع بالمطابيخ. وليغذ المريض بلحوم الجدي والسمك الطري ونحوه.
وقد تكون هذه الحميات بأدوارٍ.
فعلامة الصفراوية أنها تنوب يوماً وتترك يوماً، والسودانية تنوب يوماً وتترك يومين، والبلغمية تنوب كل يوم، وعلاجها بالقيء عند مبدإ النوبة، وباقي العلاج كما تقدم.
وإن تعلقت الحمى بالأعضاء الأصلية ويكون معها سعال وحمى لازمة وكرب عند أخذ الغذاء، وعرق، وضعف، فليستعمل ماء الشعير المبزر.
فإن غلب العطش فليأخذ أقراص الكافور، وإن كانت القوة جيدة وإلا فلا.
وليكثر من دخول الحمام، وليستعمل ماءه دون هواه، وليواظب عليه وعلى أخذ ماء القرع، وعلى لحوم الجدي وأمراق الفراريج بسميد الشعير والخشخاش.
فإن تزايد الحال فأنذر بالهلاك، والله أعلم.(1/249)
وأما الصداع
وهو ألم في الرأس ويكون عن الدم، والصفراء والبلغم، والسوداء.
والعلاج ما تقدم ذكره في مداواة الحمى، لكن في الصداع البارد يشم المسك والعنبر والحبة السوداء.
وليتغذ بالعسل وليأخذ المغالي الحارة، والحقن الحارة، وليجتنب شرب الماء البارد والهواء البارد. وإن احتيج إلى استفراغ فليكن بحب الأيارج.
وليستعمل هذا التدبير في العلل الباردة الدماغية كلها مثل الصرع، والسكتة، والفالج، واللقوة، والرعشة، والشقيقة، والاسترخاء، والسبات، والزكام، والنزلة.
(صفة حب الأيارج) أيارج [درهم]، تربد أبيض درهم، محمودة دانق، كثيراء خروبتين يعمل حبوباً ويبلغ في آخر الليل، وقدم تقدم ذكرها.
وروى أبو هريرة: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي صدع، فيلف رأسه بالحناء) رواه ق.
وقد تقدمـ[ت] منافع الحناء.(1/250)
ومن أراد صحة عينيه فليتق الحر والبرد المفرطين، والهواء الشديد، والدخان، والغبار، والنكاح الكثير، والتحديق، ودوام نسخ الخط الرفيع إلا نادراً، فإن اليسير ينفع النور الباصر.
وليتق النظر إلى الأجسام البراقة، وقرص الشمس، [والنار المفرط]، والأبيض والأسود.
وأجود الألوان للعين الأخضر.
وعن أنسٍ: (كان أحب الألوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضرة) قال تعالى: {ويلبسون ثياباً خضراً}.
روي: (إن لباس أهل الشام في الجنة الأخضر).
وعن ابن عباسٍ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الخضرة والماء الجاري).
وروي عن بريدة مرفوعاً: (النظر إلى الخضرة يزيد في البصر، وكذلك النظر إلى الماء الجاري). رواه ابن الجوزي.(1/251)
وليتعاهد العين بما يقويها ويحفظ صحتها كالإثمد المطيب، وقد تقدم الكلام عليه.
وأما الرعاف
فلا ينبغي قطعه إلا إذا أسرف وأضعف، فحينئذٍ فليأخذ شراب التفاح والحماض، ولينشق ماء الثلج والكافور، وليتقو بأمراق الفراريج.
وأما ما يحفظ صحة الأسنان
فاجتناب مضغ كل علك، وكسر كل صلبٍ، وكل شديد البرد، وشرب الماء البارد الشديد البرد، وخصوصاً عقيب الطعام الحار، وكذلك الطعام الحار عقيب الماء البارد، وكثرة الخلال يفسد الأسنان، ويبخر الفم، وكذلك فساد الطعام، وإنما يفسد لكثرة تناوله، وكذلك المضرسات وأكل بقل القرظ بخاصيةٍ فيه.
وأما علاج السعال
فيؤخذ ماء الشعير المغلي الحلو، والرمان المشوي بدهن اللوز، والحريرة، والبيض النيمرشت، واجتناب الثلوج واللحوم والحوامض والموالح.
وأما وجع الفؤاد والقولنج
فغالب ما يكونان عن كثرة أكل المنفخات كالحمص والفول والعدس(1/252)
وإدخال طعامٍ على طعامٍ.
(العلاج): القي، وهجر ما ذكر من الأغذية واستعمال الورد المربى الحار.
وإن احتيج إلى استفراغ فبالحقن اللينة الحادة وجوارش السفرجل المسهل، ودهن الفؤاد والجوف بدهن الورد والمصطكى، والتكميد بالنخالة المسخنة، والاستحمام بالماء الحار.
وأما مداواة المغس والزحير: فيغلى عرق الخطمى مع شراب التفاح ويستعمل حاراً مع بزر قطونا صحاح وليتنطل بماء حار مغلي فيه قشر خشخاش.
فإن أفرط الزحير فليحمل فتيلة الزحير، وليأخذ الأمراق بماء الحصرم العتيق.
فإن أفرط الإسهال فعليك بشراب الرمان وسفوف حب الرمان.
وأما علاج ذات الجنب
فقد مر علاج غير الحقيقي منه، والحقيقي منه [يعالج] بأخذ المغالي والضماد بدقيق الشعير والخطمية البيضاء وزهر البنفسج وأخذ ماء الشعير بدهن اللوز.
وإن احتبس البطن فليأخذ فلوس ((الخيار شنبر)) بالسكر النبات.
وأما علاج الاستسقاء
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..(1/253)
فتقدم. وقد روى أبو هريرة:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر طبيباً أن يبط بطن رجلٍ أجوى البطن، فقيل: يا رسول الله هل ينفع الطب؟ قال: الذي أنزل الداء أنزل الدواء).
هذا إن صح، يؤيد معالجة من يرى من الأطباء بزل بطن من أصابه استسقاء زقي، وهو أردأ أنواعه. وقيل: أردؤه اللحمي.
وأما البول في الفراش
فكثيراً ما يعرض للصبيان والمشايخ من البرد، فينبغي أن يزداد دثارهم ويجعل فطرهم على الكندر، والمصطكى، والعسل، وهجر الأمراق، والبوارد، والبطيخ ونحوه.
وأما علاج البواسير
فيأخذ شراب البنفسج بالماء الحار، والتغذي بالملوخيا والخبازى، والإسفاناخ، وليعتن بتليين الطبيعة ما أمكن، وليهجر الخبز الناشف والمنشفات.(1/254)
وأما علاج المفاصل
فيكون بالقيء، وهجر اللحوم وخاصة السمك، واللبن، والفواكه الرطبة، وأخذ العسل والأشياء الحارة إن كانت عن برد، وليستعمل الحقن، والحبوب المسهلة.
وأما علاج عرق النسا
فقد ذكر في حرف الألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام: (إن إسرائيل عليه السلام اشتكى عرق النسا فترك ألبان الإبل ولحومها فحرمها على نفسه فبرأ، فحرمت على بنيه).
قلت: وأكثر ما يضر وجع المفاصل وعرق النسا: اللبن واللحم، وخاصة لحم الإبل والبقر.
قال ابن سينا: يحرم على صاحب وجع المفاصل اللحم والخمر.
واعلم أن عرق النسا مبدؤه وجع في مفصل الورك ينزل من خلف على الفخذ، وقد يمتد إلى الكعب، وكلما طالت مدته زاد ألمه، فتهزل معه الرجل والفخذ، وإذا طالت المدة قد يحتاج إلى الكي، وهل يكره الكي؟ على روايتين: أظهرهما جوازه.(1/255)
وقد روى جابرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان في شيءٍ من أدويتكم شفاءٌ، ففي شرطة محجم أو لذعةٍ بنارٍ، وما أحب أن أكتوي) رواه خ وم.
وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفاء في ثلاثةٍ: في شرطة محجم، أو شربة عسلٍ، أو كيةٍ بنارٍ، وأنهى أمتي عن الكي) رواه خ. وفي رواية (وكية آية) بدل (وكية).
قال أبو عبد الله المازري: سائر الأمراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو بلغمية أو سودانية كما قدمنا ذكره.
فشفاء الدموية إخراج الدم، وشفاء الثلاثة الباقية بالإسهال اللائق بكل خلط.
فكأنه عليه الصلاة والسلام نبه بالحجامة على إخراج الدم، ويدخل الفصد في الحجامة، ونبه بشربة العسل على المسهل، فإذا أعيا الدواء فآخر الطرب الكي، فهو يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية، وحيث لا ينجع الدواء.
فعلمنا صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أصل معالجة الأمراض المادية كما علمنا معالجة الأمراض الساذجة بقوله: (إن شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء).
وأما قوله (وكية آية)، فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
وعن جابر قال: (رمي سعد بن معاذٍ في أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده(1/256)
بمشقصٍ، ثم ورمت فحسمه الثانية) رواه م.
وروي عن عمران بن الحصين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي، قال: فبلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا) رواه د ت س ق.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) رواه خ م.
قوله عليه الصلاة والسلام: (محجم)، بكسر الميم، هو مشرط الحجام، والمحجم أيضاً الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة.
و(لذعة) بالذال المعجمة والعين المهملة: هو الخفيف من إحراق النار.
والأكحل: عرقٌ في وسط الذارع يفصد.
و(المشقص) بكسر الميم: السهم الطويل غير العريض، فإن كان عريضاً فهو المعبلة و(حسمه): أي قطع الدم عنه بالكي.
وقوله: (لا يسترقون): أي لا يطلبون من أحدٍ رقيةٍ، (ولا يتطيرون): أي لا يتشاءمون، وهو من الشؤم الذي هو ضد اليمن، واليمن: البركة.
وهذه الأحاديث المذكورة بعضها يدل على الإذن وبعضها يدل على المنع، والجمع بينهما أن النهي إنما كان من أجل أنهم يعظمون أمر الكي ويرون أنه يحسم(1/257)
الدواء، وأنه إن لم يكووا العضو بطل، فنهاهم إذ كان على هذا الوجه، وأباحه إذا كان سبباً للشفاء لا علةً، فإن الله تعالى هو الذي يشفي ويبرئ، لا بالكي ولا الدواء.
وهذا أمرٌ يكثر فيه شكوك الناس، يقولون: لو شرب الدواء لم يمت، ولو أقام ببلده لم يقتل. ويحتمل أن يكون نهيه عن الكي إذا عمل على طريق الاحتراز من حدوث المرض قبل الحاجة إليه وذلك مكروه، وإنما أبيح عند الحاجة ويحتمل أن يكون نهى عنه من قبل التوكل، ويحتمل أن يكون فعله وأذن فيه حيث لم يقم غيره مقامه، لأن الجراحة إذا وقعت بشريانٍ لا ينقطع الدم غالباً إلا بالكي، لأن حركة الشريان مانعة من التحامه، فإذا كوي أحدث الكي على فوهة الجرح خشكريشة لمكان خفاف الدم الخارج على فوهة العرق ويلتصق بفمه فينقطع الدم، وإذا انقطع ألحمته القوة بإذن ربها، وإذا حصل بمثل هذه الضرورة فلا بأس به.
وقال الخطابي: وإنما كوى سعداً خوفاً أن ينزف دمه فيهلك، ومن هذا القبيل كي من قطعت يده أو رجله، فحينئذٍ قد يجب.
وروى نافعٌ عن ابن عمر: أنه اكتوى في وجهه من اللقوة.
قلت: واللقوة إنما تحصل عن مادةٍ غليظةٍ، وهي من الأمراض المزمنة، ولا تكاد تلك المادة تنحل إلا بالدواء، فالكي حينئذٍ من أنفع علاجاتها.
وأما علاج الضربة والوثي، فيكون بإخراج الدم، ويترك اللحم والثلج.
وعن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وركه من وثءٍ كان به) رواه د.
والوثي: الوهن من غير كسرٍ ولا فك.(1/258)
وينبغي أن يقوى المكان بدهن الورد الشيرجي، والآس المطحون.
(وأما علاج الكسر) فبالجبر. قال علي رضي الله عنه: انكسر إحدى زندي فجبرته، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (امسح عليه) ويجوز المسح على الجبيرة إلى حين البرء.
فصل في عضة الكلب
الكلب: هو جنونٌ يعرض للكلب لاستحالة مزاجه من السوداء. وعلامته: احمرار عينيه، وخروج لسانه، وسيلان اللعاب من فيه، وأن يطاطئ رأسه نحو الأرض، ويرخي أذنيه ويدس ذنبه بين رجليه، ويجرب جلده، ويعدو دائماً، ويكون في حركته كالسكران، ويحمل على من يراه، ولا ينبح إلا قليلاً مع بحة صوته، وتهرب منه الكلاب، ويمتنع من الأكل، ويهرب من الماء إذا رآه. فإذا عض إنساناً عرض له من الأعراض نحو ما عرض له.
والعلة التي تتبع عضه عظيمةٌ، حتى إن المعضوض يفزع من الماء إذا رآه، ويستوحش من جميع من يراه، ويرى وجهه في المرآة صورة كلبٍ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً إحداهن(1/259)
بالتراب). وفي رواية: (سبعاً أولاهن بالتراب) رواه م.
وذلك لأن سمية الكلب تسري في لعابه، فإذا ولغ في إناء سرى فيه من تلك اللعابية كما تسري في عضو من عضه.
وسؤر مائه يعمل بمن تناوله كما تعمل عضته، فلذلك -والله أعلم- أمر عليه الصلاة والسلام بغسل الإناء من ولوغ الكلب سداً للذريعة، وشفقةً منه على أمته صلى الله عليه وسلم .
وقد يفزع المعضوض من الماء بعد أسبوع وأسبوعين إلى ستة أشهر.
وإذا اشتبهت علامة المكلوب بغيره فليؤخذ قطعة من خبزٍ، والطخها بالدم السائل من العضة واطرحها إلى كلب آخر: فإن أكلها، فإن الكلب الذي عض ليس بمكلوب، وإن لم يأكلها فإنه مكلوبٌ.
(العلاج): أن يشق موضع العضة، ويوضع عليه المحاجم، وتمص مصاً قوياً، واجتهد أن يبقى الجرح مفتوحاً لتخرج منه تلك المادة الفاسدة، وليستعمل ماء الشعير ولحم الجدي والراحة.
وقد يبول المعضوض أشياء لحمية عجيبة كأنها كلاب صغار، وينبغي للماص أن يدهن فمه بدهن الورد عند المص.
(وأما علاج الملسوع) فيكون بترك النوم، لأنه إذا نام سرى السم إلى أعماق البدن، و[أن] يضع على مكان اللسعة المحاجم، وأن يمص كما تقدم والفصد نافعٌ بعد انتشار السم في البدن، أما في الأول فلا.
أما نهش العقارب فيعرض منها على حالتين: برداً في وقت وحراً في وقت [آخر].(1/260)
(وأما لسعة العقرب) فهو أن يشق العقرب ويضمد به بعد شد العضو شداً جيداً. وليأكل المريض قلب البندق وحب الأترج فإنه مجربٌ.
وقد تقدم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع على لدغة العقرب ماءً وملحاً).
وفي رواية: (قتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا بماءٍ وملحٍ، وجعل يصبه على أصبع الملسوع).
ومن قال حين يمسي: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره عقرب حتى يصبح) الحديث الصحيح.
ومن قال أيضاً حيت يمسي: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره شيءٌ حتى يصبح).
فصل في طرد الهوام
كان من عادة الأطباء أن يمسكوا في المساكن السنانير واللقالق والطواويس(1/261)
والقنافذ، وأن يضعوا السرج والمصابيح بالليل في البيوت لتميل الهوام إليها، كل ذلك حذراً من أذى الهوام. وقد خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا نمتم فأطفئوا مصابيحكم)، وبقوله: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)، ولقوله: (إن هذه النار عدو لكم فأطفئوها إذا نمتم)، وبقوله: (فإن الفويسقة ربما اجتذبت الفتيلة فأضرمت على أهل البيت). كلها صحاح.
أمرنا أن نتعوذ بكلمات الله التامات، وبقراءة آية الكرسي.
قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد، والمعوذتين، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات) متفق عليه.(1/262)
النفث يشبه البزق بلا ريق، والتفل بريقٍ يسيرٍ، وقيل بالعكس.
سئلت عائشة رضي الله عنها عن نفثه عليه الصلاة والسلام فقالت: كنفث آكل الزبيب.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من قرأ الآيتين في آخر سورة البقرة [في ليلةٍ] كفتاه) متفق عليه.
قيل: كفتاه من كل أذى.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) عند نومه.
وإذا استيقظ قال: (الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
وأمر عليه الصلاة والسلام بالاستغفار عند النوم، والتسبيح والتحميد والتكبير(1/263)
كما هو مشهور، عنه صلى الله عليه وسلم .
وقال: (من قرأ آية الكرسي عند نومه لم يزل عليه حافظٌ من الله تعالى حتى يصبح). أخرجه البخاري.
فشرع لنا عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات الطيبات المباركات الحافظات عوضاً من استحفاظ أولئك بالنار والحيوانات، فحفظنا في الدنيا بهذا الذكر المبارك الطيب، وبقي لنا أجره في الآخرة، وذلك بيمنه، وبركته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فصل في الطاعون والوباء
عن سعدٍ، سأل أسامة بن زيدٍ: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الطاعون رجزٌ أرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) خ م.
وعن أنسٍ مرفوعاً: (الطاعون شهادةٌ لكل مسلمٍ).(1/264)
والطاعون هو الموت من الوباء. نقله صاحب (الصحاح).
وهو في الطب: ورمٌ رديءٌ قتالٌ: بتلهبٍ عظيمٍ، ويسود ما حوله ويخضر، ويحدث كثيراً في الإبط وتحت الأذن.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها (والمطعون شهيد) قلت: ما الطاعون؟ قال: [غدةٌ] كغدة البعير، يخرج في المراق والإبط.
قال ابن سينا: إذا وقع الخراج في اللحم الرخو، والمغابن، وخلف الأذن سمي طاعوناً، وهو دم رديءٌ عفنٌ [سمي]، وربما رشح دماً صديداً يؤدي إلى القلب كيفية قتالة فيحدث غثيٌ، وخفقانٌ.
وأخفه الأحمر ثم الأصفر، وأقتله الأسود، لا يفلت منه أحدٌ، وهو يكثر في الوباء.
وفي نهيه عليه الصلاة والسلام عن القدوم عليه فائدتان: إحداهما: لئلا يستنشقوا الهواء العفن الفاسد فيمرضون. ثانيتهما: لئلا يجاوروا المرضى فتتضاعف البلية بالأمرين.
وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من القرف التلف).(1/265)
قال ابن قتيبة: القرف: مداناة الوباء والمرضى.
وقوله: (لا تخرجوا فراراً منه): إثبات للتوكل والتفويض.
وقيل: إنما حذر عليه الصلاة والسلام من الانتقال إليه، لأن الانتقال يغير المزاج ويضعف القوى؛ بدليل قول عائشة رضي الله عنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلالٌ .. .. ) الحديث.
فإذا ضعفت القوى وتغير المزاج كان تأثير الهواء الوبيء فيه أسرع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه).
لأن مثل هذا الداء العظيم إذا وقع بأرضٍ أضعف الأبدان وأثر فيها، وقد ثبت أن الانتقال يضعف الأبدان أيضاً فتتفاقم البلية، فلذلك نهى عن ذلك.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله تعالى جعله رحمةً للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقع الطاعون في بلده فيمكث صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله، إلا كان له مثل أجر شهيد) رواه خ.
وقيل: إن الوباء هو الطاعون والمرض العام. وسببه تعفن يعرض في الهواء يشبه تعفن الماء المستنقع الآجن، إما عن أسبابٍ أرضية كالمقاتل إذا لم يدفن، أو من أسباب سماوية مثل قلة المطر وكثرة الشهب والرجوم، فإذا تعفن الهواء عفن الأخلاط، ويعم أكثر الخلق وهم أكثر الناس امتلاء.
وأما الرجز فهو العذاب، قيل: مات منه في ساعةٍ: عشرون ألفاً من بني إسرائيل، وقيل: سبعون ألفاً، فلعلهم أول من عذب به.
ويقال: ما فر أحدٌ من الطاعون فسلم.(1/266)
وفي قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت}. أي الطاعون.
قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف هربوا من الطاعون فماتوا، فدعا لهم نبي من الأنبياء فأحياهم الله.
قال التميمي: لم تزل الشام إلى آخر أيام بني مروان مطروقة بالطاعون لا سيما دمشق والأردن.
وقيل: إن عم السفاح خطب بدمشق فقال: يا أهل الشام، أحسن الله إليكم إذ رفع عنكم الطاعون في زماننا، فقال [رجل]: إن الله أعدل من أن يجمعكم والطاعون علينا.
وعن جابر بن عتيك مرفوعاً: (الشهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيدٌ، والغريق شهيدٌ، وصاحب ذات الجنب شهيدٌ، والمبطون شهيدٌ، وصاحب الحريق شهيدٌ، والذي يموت تحت الهدم شهيدٌ، والمرأة تموت بجمعٍ شهيدٌ) رواه د، وهو في الموطأ.
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل الوباء بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه) رواه خ وم.(1/267)
الوباء: مهموزٌ، يقصر ويمد.
وقال ابن سينا: يجب على كل محترزٍ من الوباء أن يخرج من بطنه الرطوبات الفضلية ويجوع، ويجتنب الحمام، ويلزم الراحة، ويسكن هيجان الأخلاط، إذا لم يمكن الهرب منه إلا بالحركة، وهي مضرة. فلاح المعنى الطبي من الخبر النبوي.
وخبر عمر مشهورٌ لما خرج إلى الشام حتى قدم سرغ، فقيل له: إن الطاعون [ثم] بأرض الشام، فرجع.
وسرغ: قرية بوادي تبوك، قيل: هي آخر عمل الحجاز، وقيل: بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة.
فصل في الجدري والحصبة والحميقاء
اعلم أن الجدري أنواعٌ كثيرة: فمنه ما لونه أبيض، ومنه ما لونه أحمر، ومنه ما لونه أصفر، ومنه ما لونه بنفسجي، وأخضر وأسود.
فخيره الأبيض لدلالته على قوة الطبيعة كالحال في المدة البيضاء، والرسوب الأبيض. والأحمر دونه الأصفر، والأصفر دونه البنفسجي، والأخضر والأسود رديءٌ جداً، والقليل العدد أسلم وكذلك الكبير الحجم لأنه أدل على مطاوعة المادة وعلى قوة الطبيعة، وذلك إن لم يكن مضاعفاً، أعني أن لا يكون واحدةً وأخرى طالعة في جانبها.
وأما الكثير العدد والصغير الحجم فرديءٌ، وأسلمه ما ابتدئ خروجه في اليوم الثالث أو ما يقرب منه، والبطيء الخروج رديءٌ لدلالته على قوة المادة وعجز الطبيعة.
والذي يظهر تارةً ويغور أخرى فمخوفٌ. والذي يسهل نضجه فسليمٌ وبالضد.(1/268)
والذي هو في شكله ذو أضلاع رديءٌ، والمستدير سليمٌ. والذي يظهر منه في البطن والصدر أكثر فرديءٌ لدلالته على عدم مطاوعة المادة للاندفاع إلى الأطراف. والذي يظهر في الأطراف خيرٌ من الذي يظهر في الوجه والرأس. والذي يقل معه الكرب والحمى فسليمٌ وبالضد. والذي تعرض الحمى قبله أسلم من الذي يعرض قبل الحمى.
ومتى كان النفس جيداً كان أسلم، ومتى تواتر النفس فرديءٌ.
ومتى تواتر معه العطش فهو من الهالكين، ومتى بال دماً أو بولاً أسود فهو هالكٌ.
وأما الحصبة فهي من المرة الصفراء كما أن الجدري مادته الدم.
والحميقاء متوسطة بين الجدري والحصبة.
وعلاجه: ينبغي أن يتوقى الإسهال ويخرج له من الدم بالفصد أو الحجامة، ويسقى شراب العناب والرمان ويغذى بالماش، والإسفاناخ، والحريرة باللوز، وماء الشعير بدهن اللوز، ويقطر في العين ماء الكسفرة، وينفض فيها الكحل الأسود، ويخضب أسفل الرجل بالحناء.
وبعد زوال الحمى يغذى المريض بأمراق الفراريج، وبعد العشرين يدخل الحمام.
ومداواة الحصبة والحميقاء قريبٌ من مداواة الجدري.
فصل في الغيل
عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقتلوا أولادكم سراً، فإن الغيل يدرك الفارس فيذعره عن فرسه) أخرجه د ق.
وعن جذامة بنت وهب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد هممت أن أنهى(1/269)
عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً).
ثم سألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ذلك الوأد الخفي وهو: {وإذا الموءودة سئلت} أخرجه م.
وقال مالك: الغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي ترضع. وأغال ولده: إذا جامع أمه وهي ترضعه. وقيل: إذا أرضعته وهي حاملٌ، واسم ذلك اللبن أيضاً الغيل.
ويذعره: أن يصرعه ويهلكه لأنه لبنٌ رديءٌ من فضلة دم الحيض، لأن المرأة إذا حملت وأرضعت انقطع حيضها، وصار حينئذٍ إلى تغذية الجنين واندفع باقيه، وهو أردؤه، إلى الثديين، وكذلك في وقت الرضاع يندفع دم الطمث كله إلى الثديين، فيستحيل لبناً لتغذية الطفل، فلأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويدرك الفارس فيذعره).
أي لا يزال تأثير الغذاء الفاسد بالرجل حتى يبلغ مبلغ الرجال، فإذا أراد مبارزة قرنٍ في الحرب: وهن عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (لقد هممت أن أنهى). أي: نهي تنزيه، وإنما لم ينله لعلمه بما يلحق الزوج من الضرر بترك الوطء، ومكابدة الشهوة، ولعلمه بأن فارس والروم لم يضر أولادهم ذلك.(1/270)
وأما العزل: فإنه جائزٌ إذا اتفقنا عليه، قال جابرٌ: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) متفقٌ عليه.
ولمسلم: (كنا نعزل، فبلع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا وقال: ما من نسمة كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) متفق عليه.
وقال عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) رواه ق.
ويجوز للمرأة أن تشرب دواء ليقطع دم الحيض عنها إذا كان دواء تأمن ضرره، نص عليه أحمد في رواية صالح.
وقال بعض الشافعية: لا يجوز لها ذلك لأن فيه قطع النسل، فإن كان للمرأة زوجٌ، وقف على إذنه.
فصل في أن العين حق والرقية منها
عن أم سلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيته جارية في وجهها سفعةٌ فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة) خ م.
والنظرة: العين، وبه نظرةٌ: أي أصابته عين الجن.(1/271)
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (العين حق) خ.
وكان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين من كل شيطانٍ وهامةٍ ومن كل عينٍ لامةٍ.
الهامة: جمع هوام، وهي كل ذات سم تقتل كالحية، وقد يقع على ما لا يقتل كقوله لكعب: (أيؤذيك هوام رأسك).
ولامة: أي ذات لممٍ، وهي المؤثرة بسوءٍ فيما نظرت إليه.
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين)، متفق عليه.
وعنها: (كان يأمر العائن يتوضأ ثم يغسل منه المعين) رواه د.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق، ولو كان شيءٌ سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) أخرجه م ت.(1/272)
وعن أسماء بنحوه.
قوله: (استغسلتم): أي إذا طلب منكم من أصبتموه بالعين أن تغسلوا له فأجيبوه، وهو أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدحٍ ثم يصب على المعين ويكفأ القدح وراءه على ظهر الأرض.
وقيل: يغتفله بذلك حين يصبه عليه، فيبرأ بإذن الله تعالى. هكذا رواه مالك في (موطئه).
وسئل أحمد عن داخلة الإزار؟ قال: الذي يلي الجسد من الإزار.
وقال أبو داود: قلت لأحمد: الرقية من العين؟ قال: لا بأس بها.
وقال جماعة من أهل التفسير في قوله تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم}: أي ليصيبونك بأعينهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا رأى أحدكم ما يعجبه في نفسه أو ماله فليبرك عليه).
وقال: (من رأى شيئاً فأعجبه فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله).(1/273)
وروي عنه عليه الصلاة والسلام: أنه كان إذا خاف أن يصيب بعينه قال: (اللهم بارك فيه ولا تضره).
وقال أبو سعيد: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنس). ت.
وأما السفعة: فأثرٌ أسودٌ في الوجه، ويقال: صفرةٌ في الوجه، قال ابن قتيبة: هو لونٌ يخالف لون الوجه، وقال الأصمعي: حمرةٌ بسوادٍ، وقال ابن خالويه: سفعةٌ أي جنونٌ. في كتاب (العين): السفعة سوادٌ وشحوبٌ في الوجه.
وروت عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن أن يسترقى من العين) رواه خ م.
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: (لا رقية إلا من عين أو حمةٍ) رواه خ ق.
الحمة: سم ذوات السموم.(1/274)
وتسمى إبرة العقرب والزنبور: حمة.
وقد صح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى رجلاً من وجع به).
وعن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من العين، والحمة والنملة) رواه م د.
والنملة: قروحٌ في الجسد.
وزعم بعض الحكماء أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيؤذي.
وقد ذكر أن نوعاً من الأفاعي إذا وقع بصرها على الإنسان هلك.
وقد ورد الشرع بوضوء العائن للمصاب في حديث سهل بن حنيف لما أصيب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم [عائنه] أن يتوضأ ويصب عليه كما رواه مالك في (الموطأ).
واعلم أن الرقى والتعاويذ إنما تفيد إذا أخذت بقبولٍ، وصادفت إجابةً وأجلاً، فالرقى والتعوذ التجاءٌ إلى الله سبحانه وتعالى ليهب الشفاء كما يعطيه بالدواء.
والرقى المذمومة ما كانت بغير العربي ولا يعلم معناها، أما إذا علمت فمستحبةٌ.(1/275)
وروى عوف بن مالكٍ: كنا نرقى في الجاهلية فقالوا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شركٌ) م.
وفي لفظٍ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقى من العقرب، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) رواه م.
والنهي إنما كان عن رقي كفرية، أو كان النهي ثابتاً ثم نسخ.
وقال حربٌ: سألت أبا عبد الله عن رقية العقرب؟ فلم ير بها باساً إذا كانت تعرف أو من القرآن.
وعن الشفاء بنت عبد الله قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: علميها رقية النملة كما عملتها الكتابة) [رواه] د.
وفيه جواز تعلم المرأة الكتابة.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء أو كانت قرحةٌ أو جرحٌ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا بالأرض ثم رفعها وقال: (بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى بها سقيمنا بإذن ربنا) متفقٌ عليه.
وقوله: (تربة أرضنا): لأن طبيعة التراب البرد واليبس والتجفيف للرطوبات، فإن(1/276)
القرحة والجرح يكثر فيهما الرطوبة التي تمنع الطبيعة في جودة فعلها، وسرعة إدمالها.
وأما (بريقة بعضنا) أي ببصاقه، فإذا أضيف الريق إلى التراب وجفف ووضع على القرحة والجرح برئ بإذن الله تعالى، والأحاديث بنحو هذا كثيرة.
وأما الرقية بالقرآن فقال علي رضي الله عنه مرفوعاً: (خير الدواء القرآن) رواه ق.
وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين}.
قيل: (من) ليست للتبعيض: ومعناه {وننزل من القرآن} ما كله شفاء: أي كما أنه يشفي من أمراض الجسد إذا استعمل، كذلك يشفي من الضلالة والجهالة والشبه، ويهتدى به من الحيرة، فهو من شفاء القلوب بزوال الجهل عنها، وشفاء الأجساد بزوال الأمراض.
واعلم أن صلاح الجسد متوقفٌ على صلاح القلب، فأصلح قلبك يصلح جسدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن في الجسد مضغةٌ إذا صلحت صلح الجسد كله .. .. ) الحديث.
وقد تقدم حديث الرقية بأم القرآن.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحدٌ من أهله نفث عليه بالمعوذات).(1/277)
وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عباسٍ قال: (من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه وليقرأ: {وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدةٍ} إلى آخر الآية).
وإذا كان بعض الكلام له خواص نفعٍ بإذن الله تعالى، فما ظنك بكلام الله سبحانه وتعالى؟
ونص أحمد أن القرآن إذا كتب في شيءٍ وغسل وشرب ذلك الماء فإنه لا بأس به، وفي الرجل يكتب القرآن في إناء ثم يسقيه المريض، وكذلك يقرأ القرآن على شيءٍ ثم يشرب، كل ذلك لا بأس به.
وكذلك يقرأ على الماء ويرش على المريض.
وكذلك يكتب للمرأة إذا عسرت عليها ولادتها شيءٌ من القرآن وتسقى.
وروي أن ابن عباس قال: كان إذا عسر على المرأة ولادتها أخذ إناءً نظيفاً وكتب فيه: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون}، و{كأنهم يوم يرونها} إلى آخر الآية، {لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب}، ثم يغسل وتسقى المرأة وينضح على بطنها.
ونص أحمد في رواية مهنا أنه يجوز إطلاق السحر على المسحور بضرب من العلاج، وإنما جاز حل السحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر: أخرج وحل، لأن تحليله يجري مجرى التداوي.
والسحر في اللغة صرف الشيء عن وجهه، يقال: ما سحرك عن كذا؟ أي ما صرفك. وسحره أيضاً بمعنى خدعه.(1/278)
والساحر [العالم ثم هو رقى وعقد و] كلام يتكلم به الساحر ويكتبه فيؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من [غير] مباشرةٍ له.
وله حقيقةٌ: منه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، ومنه ما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بينهما.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يخيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد فعل الشيء ولم يفعله) أعاذنا الله منه برحمته.
وقيل لأحمد: إن بعض الأطباء يقولون: لا يدخل الشيء في الإنسان [يعني] من أهل الأرض؟ فقال: هو يتكلم على لسانه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).(1/279)
قلت: لأن الجن أجسامٌ لطافٌ وغير مستنكرٍ اختلاط الجني بروح الإنسي كاختلاط الدم والبلغم في البدن مع كثافته.
ولما أبطأ خبر عمر على أبي موسى أتى امرأة في بطنها شيطانٌ فسألها عنه فقالت: حتى يجيء شيطاني، فجاء، فسألته فقال: تركته يهيئ إبل الصدقة.
وهذا باب واسعٌ فيه من الحكايات والآثار ما يضيق هذا الموضع عن ذكرها، والله أعلم.
وأما تعليق التمائم فنص أحمد على كراهتها وقال: من علق شيئاً وكل إليه.
ونقل حربٌ قال: قلت لأحمد: تعليق التعاويذ فيه القرآن أو غيره؟ قال: كان ابن مسعود يكرهه.
وذكر أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها وغيرها أنهم سهلوا فيه ولم يشدد فيه أحمد.
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ أحدكم من نومه فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لا تضره).
وكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه. رواه د ت، وهذا لفظه، وقال: حسنٌ غريبٌ ورواه النسائي في (عمل اليوم والليلة).(1/280)
والكلام على الكراهة وعدمها إذا اعتقد أحدٌ أنها تنفع بنفسها أو تضر أو كان فيها ما لا يعرف كما تقدم.
وأما النشرة: وهو ما يرقى ويترك تحت السماء ويغسل به المريض، قال أحمد: كان ابن مسعودٍ يكره ذلك.
وذكر أبو داود في كتاب (المراسيل) بإسناده قال: (سألت الحسن عن النشرة فقال: ذكر لي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من عمل الشيطان). وعن جابرٍ نحوه.
فصل في الأدوية النبوية
قال أبو هريرة: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائمٌ أتلوى من وجع بطني فقال: أشكم درد؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال قم فصل، فإن الصلاة شفاءٌ) رواه ق.
هذه لفظة فارسية معناها: أبك وجع البطن؟ فـ(أشكم): البطن، و(درد): وجع.(1/281)
قال العلماء في هذا الحديث فائدتان:
إحداهما أنه عليه الصلاة والسلام تكلم بالفارسية، والثاني أن الصلاة قد تبرئ من وجع الفؤاد والمعدة، والأمعاء، ولذلك ثلاث عللٍ: الأولى أمرٌ إلهي حيث كانت عبادة، والثانية أمر نفسي، وذلك أن النفس تلهى بالصلاة عن الألم ويقل إحساسها به فتستظهر القوة على الألم فتدفعه، والماهر من الأطباء يعمل كل حيلةٍ في تقوية القوة، فتارةٌ يقويها بالتغذية، [وتارةٌ بتحريك السرور والفرح] وتارة بالرجاء، وتارةٌ بالحياء، وتارةٌ بالخوف.
والصلاة قد تجمع أكثر ذلك، لما يحصل للعبد فيها من الخشية والخوف والرجاء والحياء والحب، وتذكر الآخرة: ما يقوي قوته ويشرح صدره، فيندفع بذلك مرضه.
ويروى عن بعض ولد علي أنه كان به جراحٌ فلم يمكنهم بطه، فأمهله أهله حتى دخل في الصلاة ثم تمكنوا منه، فلم يكترث لاستغراقه في الصلاة.
وكان أبو أيوب يأمر أهله إذا كان في البيت بالسكوت، فإذا قام إلى الصلاة أمرهم بالكلام وكان يقول لهم: إني لا أسمع كلامكم وأنا في الصلاة. وانهدم حائط المسجد وهو في الصلاة فلم يلتفت.
وفي الصلاة أيضاً أمر طبيعي رياضة النفس ورياضة الجسد، لأنها جامعة بين قيام، وركوع، وسجود، واستكانة، وجميعة، وإخلاص، وعبادةٍ، وخضوعٍ، وذلةٍ وغير ذلك، التي تتحرك معها مفاصل البدن ويتلين بها أكثر الأعضاء، لا سيما المعدة والأمعاء، وما أقوى معاونتها على دفع الأخبثين وحدر الطعام عن المعدة.
قال الموفق عبد اللطيف في كتاب (الأربعين): وقد رأيت جماعةٌ من أرباب(1/282)
العطلة والترف محفوظي الصحة، فبحثت عن سبب ذلك فألفيتهم كثيري الصلاة والتهجد .. إلى أن قال: وما أنفع السجود لصاحب النزلة والزكام.
وما أشد إعانة السجود على فتح سدة المنخرين، وما أقوى إعانة السجود على بعض الأخبثين وحدر الطعام عن المعدة والأمعاء، وتحريك الفضول المحتقنة فيها وإخراجها، إذ عنده تنعصر أوعية الغذاء بازدحامها، وتساقط بعضها على بعضٍ.
وكثيراً ما تسر الصلاة النفس وتمحق الهم، وهي تطفئ نار الغضب، وتفيد الإحباب للحق والتواضع للخلق، وترق القلب، وتحبب العفو، وتكره قبح الانتقام.
وكثيراً ما يحضر فيها الرأي والتدبير المصيب، والجواب السديد، وتذكر العبد بما نسي، فيتفكر في مصادر أموره ومواردها ومصالح دنياه وأخراه ومحاسبة النفس، لا سيما إن أطال الانتصاب، وكان ذلك ليلاً عندما تهجع العيون، وتهدأ الأصوات، وتتضام قوى العالم الأسفل، وتنزوي فواشيه، وتنتشر قوى العالم الروحاني، وتنبسط غواشيه، ولذلك أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (أرحنا يا بلال بالصلاة).(1/283)
وبقوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، لما يحصل من سرور النفس وابتهاجها، جعلها الله قرة عينه صلى الله عليه وسلم ولما فيها من فضائل الدنيا والآخرة.
وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: (أذيبوا طعامكم بالذكر والكلام عليه).
وهذا أحد الأسباب في سنة صلاة التراويح، فحصل من الصلاة خير الدنيا والآخرة بما نازل القوة من تحليلات باريها وخالقها، فعند ذلك تدفع ما عندها من الأمراض والأسقام البدنية، وينكشف لها أخلاق النفس الدنية فتتشمر لتكميلها وتركيبها.
وعن سهل بن سعد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق في عين علي رضي الله عنه وهو أرمد ودعا له فبرأ مكانه) رواه خ م.(1/284)
وهذا الباب يعجز عن وصفه، والله أعلم.
ويقال: (إن رجلاً شكى وجع عينيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: انظر في المصحف).
وقيل: إن رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قساوة قلبه، فقال: (امسح رأس اليتيم أو أطعمه).
وشكى ذلك إلى أبي الدرداء فقال: (عد المرضى)، وشيع الجنائز، وزر القبور).
وقال المروذي: بلغ أحمد أني حممت، فكتب لي من الحمى رقعةً فيها: ((بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله.
{قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. وأرادوا به كيداً فجعلنهم الأخسرين}. اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق، آمين)).
وعن عثمان بن أبي العاص أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اجعل يدك اليمنى على الذي تألم، ثم قل بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مراتٍ: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجده) رواه م.
وقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق! فقال: (إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما(1/285)
أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جاراً من شر خلقك جميعاً أن يفرط علي أحدٌ منهم وأن يبغي علي، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، ولا إله إلا أنت) أخرجه ت.
والأرق: السهر.
وعن خالد أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً بالليل فقال: (ألا أعلمك كلماتٍ علمنيهن جبريل عليه السلام) وزعم أن عفريتاً من الجن يكيدني فقال: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجرٌ، من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخيرٍ يا رحمن) كذا رواه الطبراني في (معجمه).
[وعن أبي الدرداء: أنه أتاه رجل فذكر له أن أباه احتبس بوله وأصابه الأسر، فعلمه رقية رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين فأنزل رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع) وأمره أن يرقيه بها فرقاه فبرأ. أخرجه أبو داود.
وقد تقدم الحديث في الرقية بأم الكتاب].(1/286)
صفة معجون يصلح القلب ويدفع الوسواس
وهو أكل الحلال، وملازمة الورع، وترك ركوب الرخص بالتأويلات، وحفظ الجوارح الظاهرة، وحفظ الجوارح الباطنة، وسياسة النفس بالعلم، وصيانة السر بالمراعاة، والابتهال إلى الله عز وجل أن يعيذك من شر نفسك، وهواك، وشيطانك.
وعن بلال مرفوعاً: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم ومنهاةٌ عن الإثم، وقربةٌ إلى الله تعالى، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد) رواه ت.
(صفة أخرى): قيل: إن ذا النون مر يوماً ببعض الأطباء وإذا حوله جماعةٌ من الناس رجال ونساء في أيديهم قوارير الماء، وهو يصف لكل منهم ما يوافق مرضه.
قال: فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي، فقلت له: يرحمك الله، صف لي دواء الذنوب، فأطرق ساعةً ثم رفع رأسه فقال: إن وصفت لك الدواء تهمم به وافهمه عني؟ قلت: نعم، إن شاء الله تعالى. قال: خذ عروق الفقر مع ورق الصبر، مع هليلج التواضع، مع بليلج الخشوع، وهندي الخضوع، وبسفانج النقاء، ورواند الصفاء، وغاريقون الوفاء، ثم ألقه في طنجير العصمة، وأوقد تحته نار المحبة حتى يرغى زبد الحكمة، فإذا أزبد الحكمة صفه بمنخل الذكر، ثم صبه في جام الرضا،(1/287)
وروحه بمروحة الحمد حتى يبرد، فإذا برد فأشربه، ثم تمضمض بعده بالورع، فإنك لن تعود على معصية أبداً. إن من عد غداً من أجله، وتمادى جاهلاً في أمله، لم يقدم صالحاً من عمله. فعالج قلبك بهذه الأدوية كما تعالج جسدك بتلك الأدوية، تفز بالعافية التامة الكاملة في الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العظيم].
فصل جامع في فضل الأمراض وعيادة المريض وغير ذلك
المرض هو أقوى الأسباب في توبة العبد وصدقه، وتكفير ذنوبه، وعلو درجته.
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات مريضاً مات شهيداً ووقي فتاني القبر، وغدي وريح عليه برزقه من الجنة) رواه ق.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد: قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصبٍ ولا سقمٍ ولا حزنٍ، حتى الهم يهمه وحتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه) خ م.(1/288)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجبت للمؤمن من جزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم لأحب أن يكون سقيماً حتى يلقى الله) رواه البزار.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيلٍ بين صفين الله أعلم بنيته) رواه ابن أبي شيبة.
وعن جابر مرفوعاً: (الحمى تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) م.
وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من يرد الله به خيراً يصب منه) خ.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما رأيت الوجع على أحدٍ أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ). خ.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، ويبتلى الرجل على حسب دينه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على(1/289)
الأرض ليست عليه خطيئةٌ) ت. وقال: حسنٌ صحيحٌ.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم).
وقال صلى الله عليه وسلم : (ما من مرضٍ أو وجعٍ يصيب المؤمن إلا كان كفارةً لذنبه حتى الشوكة يشاكها أبو النكبة ينكبها) خ.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمٍ يصيبه أذىً إلا حط الله خطاياه كما تحط الشجرة ورقها) أخرجاه. والأحاديث بنحو هذا كثيرة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو لم يكن لابن آدم إلا إسلامه والصحة لكفتاه) رواه د.(1/290)
قال حميد بن ثورٍ:
أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ ... وحسبك منه أن يصح وتسلما
وسئل أبو العيناء، وقد شاخ: كيف أنت؟ قال: في الداء الذي يتمناه الناس.
وقال عمرو بن قميئة:
كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء
وقد ورد في الأثر: (يا عبدي، العافية تجمع بينك وبين نفسك، والمرض يجمع بينك وبيني).
فعلى الإنسان أن يسأل [الله] العافية، فإذا قدر الله عليه المرض تلقاه بالصبر والرضا والشكر.
وقال الحارث المحاسبي: البلاء للمخلصين عقوباتٌ، وللتائبين طهاراتٌ، وللطاهرين درجاتٌ.
وقال عليه الصلاة والسلام: (عودوا المريض وفكوا العاني) خ.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله، ناداه منادٍ: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت في الجنة نزلاتٍ).(1/291)
وقال عليه الصلاة والسلام: (تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته ويسأله كيف هو) ت.
وفي لفظٍ: (يضع يده عليه ويقول: كيف أصبحت أو كيف أمسيت).
وعن أنسٍ: (كان عليه الصلاة والسلام لا يعود مريضاً إلا بعد الثلاث) ق.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخلتم على مريضٍ فنفسوا له في الأجل).
وقال عليه الصلاة والسلام: (عائد المريض في مخرفة الجنة) خ.
(وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل على مريضٍ يعوده وضع يده عليه وقال: لا(1/292)
باس، طهورٌ إن شاء الله) خ.
وعن أبي هريرة يرفعه: (ثلاثةٌ لا يعادون: صاحب الرمد، وصاحب الضرس، وصاحب الدمل).
وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه: (إذا دخلت على مريضٍ فمره يدعو لك، فإن دعاء المريض كدعاء الملائكة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرتم المريض فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) وخرافة الجنة: جناها.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مراتٍ: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافه الله).(1/293)
(وكان عليه الصلاة والسلام إذا أتى مريضاً أو أتي به إليه قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي شفاءً لا يغادر سقماً) أي لا يترك.
وينبغي للمريض أن يقرأ على نفسه الفاتحة، و(قل هو الله أحد) والمعوذتين، وينفث في يديه، ويمسح بهما وجهه كما ثبت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام في (الصحيح).
وينبغي له أن يدعو بدعاء الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
ويجوز للمريض أن يقول: أنا شديد الوجع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وارأساه) ولا يظهر الجزع والتسخط، ويقول: الحمد لله قبل الشكوى، فإنها لم تكن شكوى.
ويجوز لأهل المريض أن يسألوا عنه الطبيب.
وكان علي رضي الله عنه حين يخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه يسأل عنه، فيقول: أصبح بحمد الله بارئاً.(1/294)
ويكره للمريض تمنى الموت، وإن خاف على دينه جاز له ذلك.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموت، وعنده قدحٌ فيه ماءٌ وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه ويقول: (اللهم أعني على غمرات الموت أو سكرات الموت).
وقالت أيضاً: كان يقول: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى) صحيح.
قال الشيخ محيي الدين النووي في كتاب (أذكاره): ويستحب لمن أيس من حياته أن يكثر من تلاوة القرآن والأذكار، ويكره له الجزع وسوء الخلق والمخاصمة، والشتم، والمنازعة في غير الأمور الدينية، ويستحضر أن هذا آخر أوقاته من الدنيا، فيجتهد على ختمها بخيرٍ، ويبادر إلى أداء الحقوق، ورد الودائع والعواري، واستحلال أهله وولده وغلمانه وجيرانه وأصدقائه، وكل من كان بيته وبينه معاملة.
ويكون شاكراً لله راضياً، حسن الظن بالله أن يرحمه ويغفر له، وأن الله غني عن عذابه وعن طاعته فيطلب منه العفو والصفح. ويستقرئ آيات الرجاء وأحاديث الرجال وآثار الصالحين. ويوصي بأمور أولاده، ويحافظ على الصلوات ويجتنب النجاسات، ويحذر من التساهل في ذلك، فإن من أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا(1/295)
التفريط في حقوق الله، وأن لا يقبل قول من يخذله في ذلك، فإن هذا قد يبتلى به.
ويستحب له أن يوصي أهله بالصبر عليه في مرضه، وبالصبر على مصيبتهم، ويجتهد في وصيتهم بترك البكاء عليه، ويقول لهم: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الميت يعذب ببكاء أهله).
فإياكم يا أحبائي والسعي في أسباب عذابي، وأن يتعاهدوه بالدعاء.
ويوصيهم باجتناب رفع الصوت بالقراءة وغيرها في جنازته، وإذا حضره النزع فليكثر من قوله: لا إله إلا الله، [محمد رسول الله] ويقول لهم: إذا أهملت فنبهوني، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه د. وقال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) رواه م.
فإن عجز عن القول لقنه من حضره برفق مخافة أن يضجر فيردها. وإذا قالها مرةً لا يعيدها عليه إلا أن يتكلم كلاماً آخر، ويكون الملقن غير متهم، لئلا يخرج الميت ويتهمه، وإذا غمضت عينيه فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ولا يقول أحد إلا خيراً.
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً، فإن(1/296)
الملائكة يؤمنون على ما تقولون).
وقد روي أن الأنصار كانوا يقرأون عند الميت سورة البقرة وفي رواية: (اقرءوا يس على موتاكم) رواه د. ويضع على بطنه شيئاً من الحديد.
ولما احتضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابنه: ضع خدي على الأرض، قال: فبكى حتى التصق الطين بعينه من كثرة الدموع وهو يقول: يا ويل عمر، يا ويل أمه إن لم يتجاوز الله عنه.
وفي رواية: فبكى وأبكى من حوله وقال حين هذا: لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.
وقال لابنه: إذا وضعتني في لحدي فأفض بخدي على الأرض حتى لا يكون بين خدي وبين الأرض شيء.
وقال لحفصة بنته: بما لي عليك من الحق لا تندبيني، فأما عينك فلا أملكها، إنه ليس من ميت يندب بما ليس فيه إلا والملائكة تمقته.
ولما مات رضي الله تعالى عنه رؤي في المنام، فقيل له: ما صنع الله بك؟ فقال: خيراً، كاد عرشي يهوي لولا أني رأيت رباً غفوراً.
وقال عمر بن عبد العزيز عند موته: ما أحب أن يخفف عني الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المسلم. ورؤي في المنام فقيل له: أي الأعمال وجدت أفضل؟ فقال: الاستغفار.
وقال معاذ حين احتضر: مرحباً بالموت زائر مغب حبيب جاء على فاقةٍ، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك.
وقال معروف في مرض موته: إذا مت فتصدقوا بقميصي، فإني أحب أن(1/297)
أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: كنت عند الجنيد [حين مات] فختم القرآن ثم ابتدأ من البقرة يقرأ [من القرآن فقرأ] سبعين آيةً، ثم مات رحمه الله تعالى.
فصل في التشريح
وقد سألني بعض الإخوان أن أذكر له شيئاً من التشريح، وكيف يصل الغذاء إلى الأعضاء؟، فأجبت سؤاله رجاء ما عند الله.
قال الله سبحانه وتعالى وله الحمد: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ. ثم جعلناه نطفةً في قرارٍ مكينٍ. ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}.
قوله: {ولقد خلقنا الإنسان} يعني ولد آدم، والإنسان: اسم جنسٍ يقع على الواحد والجمع.
{من سلالةٍ}، قال ابن عباس: السلالة صفوة الماء. وقال مجاهد: يعني من بني آدم. وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر، والعرب تسمي النطفة سلالة والولد سليلاً وسلالة، لأنهما مسلولان منه من طين: يعني طين آدم. والسلالة تولد من طينٍ خلق آدم منه، وقيل: المراد بالإنسان هو آدم، وقوله: {سلالةٍ} أي سل من كل تربةٍ. قال الكلبي: من نطفةٍ سلت من طينٍ، والطين: آدم عليه السلام.
{ثم جعلناه نطفةً} يعني الذي هو الإنسان {جعلناه نطفةً في قرارٍ مكينٍ}: حريزٍ وهو الرحم، {مكين}: أي هيئ لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها.
{ثم خلقنا النطفة علقةً} قيل بين كل خلقين أربعون يوماً.(1/298)
روى ابن مسعود حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: يكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) رواه خ م.
اتفق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تنمو أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه.
وقوله: (ثم يكون علقةً مثل ذلك)، والعلقة قطعة دمٍ جامدٍ، (ثم يكون مضغةً مثل ذلك) أي لحمة صغيرة، وهي الأربعون الثالثة، فيتحرك كما قال عليه الصلام والسلام ( فينفخ فيه الروح) واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. والله أعلم.
واعلم أن المني يصير أولاً زبدياً مثل النفاخة، ثم يصير دمياً، ثم لحمياً، ثم يقبل الصورة، ثم يتحرك. وأقل مدة حمل يعيش منها الولد مائة واثنان وثمانون يوماً، وأكملها مائتان وثمانون يوماً.
وعن أنسٍ مرفوعاً: (ماء الرجل أبيضٌ غليظٌ، وماء المرأة رقيقٌ أصفر، فأيهما علا أو سبق يكون منه الشبه) رواه م. ومن ماء الرجل يخلق الأعضاء الأصلية والعظام، ومن ماء المرأة يخلق اللحم.
وروى أنسٌ: (أن عبد الله بن سلام سأل رسول الله: من أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها) رواه خ.(1/299)
مني الرجل أحر وأقوى، فلذلك غلظ وابيض، ومني المرأة أرق وأضعف، فلذلك كان أصفر، والشبه يكون لأسبقهما إنزالاً وأكثرهما منياً وأصدقهما شهوةً.
قال أبقراط: المني يسيل من جميع الأعضاء فيكون من الصحيح صحيحاً ومن السقيم سقيماً.
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (تحت كل شعرةٍ جنابةٌ).
فقوله عليه الصلاة والسلام (تحت كل شعرةٍ جنابةٌ): يشير إلى أن المني يسيل من كل عضوٍ.
وقوله سبحانه وتعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر}. قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والضحاك أبو العالية: هو نفخ الروح فيه.
وقال قتادة: نبات الأسنان والشعر.
وقال مجاهد: استواء الشباب.
وعن الحسن: ذكراً أو أنثى.
وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع، إلى القعود، إلى القيام، إلى المشي، إلى الفطام، إلى أن يأكل ويشرب، إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد، إلى ما بعدها، كما هو مذكور في كتاب التفسير.(1/300)
{فتبارك الله} أي استحق التعظيم والثناء، بأنه لم يزل ولا يزال {أحسن الخالقين}، المصورين المقدرين.
والخلق في اللغة: التصوير، يقال: رجلٌ خالقٌ أي صانعٌ، وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه خلق كل إنسانٍ من بني آدم على ستين وثلثمائة مفصلٍ، فمن كبر الله عز وجل، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجراً عن الطريق، أو شوكةً أو عظماً، وأمر بمعروف ونهى عن المنكر عدد الستين والثلثمائة السلامى، فإنه يمشي يومئذٍ وقد زحزح عن النار) رواه م.
وفي رواية: (فعليه أن يتصدق عن كل مفصلٍ منه صدقةً).
وفي روايةٍ: (فعليه لكل عظمٍ منها في كل يومٍ صدقةٌ).
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المعدة حوض البدن والعروق إليها واردةٌ، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم) ذكره أبو نعيم.(1/301)
وعن ابن عمر مرفوعاً: (المؤمن يأكل من معي واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ) روه خ م.
المعدة عضوٌ عصبي مجوف كقرعة طويلة العنق، رأسها الأعلى يسمى المرئ الذي فيه ينحدر الطعام والشراب، والأسفل منها يسمى البواب، ومنه ينحدر الثفل في الأمعاء، وفم المعدة يسمى الفؤاد وفي باطنها حملٌ. وهي في وسط البطن، وهي بيت الداء إذا كانت محل الهضم الأول، فإن فيها ينطبخ الغذاء وينحدر إلى الكبد، وجعلت عصبية كي تقبل التمدد عند كثرة الغذاء ولا تنقطع، ويليها ثلاثة أمعاء دقاق:
الأول: يسمى الإثني عشري، طوله اثنا عشرة أصبعاً.
والثاني: يسمى الصائم، لأنه في أكثر الأوقات يكون خالياً.
والثالث: طويلٌ ملتف دقيقٌ يسمى اللفايفي.
ثم بعد هذه الثلاثة ثلاثةٌ غلاظٌ:
الأول: يسمى الأعور وهو [معى] واسعٌ ليس فيه منفذ في الجانب الآخر، وفيه ينتن البراز.
والثاني: يسمى قولون.
والثالث: يسمى المستقيم وطرفه السرم،
فهذه ستة أمعاء، والمعدة، فهذه سبعة أمعاء، التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن سينا: إن الله تعالى لعنايته بالإنسان خلق أمعاء ذات عددٍ، وتلافيف،(1/302)
ليكون للطعام المنحدر من المعدة مكث فيها.
والمعدة أصل كل داءٍ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (المعدة بيت الداء).
وكذلك قال: (وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم) وقد تقدم الكلام عليه.
واعلم أن الله سبحانه وتعالى وله الحمد ركب أبدان الحيوان من أعضاء كثيرة، وجعل العظام عمد البدن، ولم يجعل ما في البدن عظماً واحداً، بل عظاماً كثيرة للحاجة إلى اختلاف الحركات، فلو كان البدن عظماً واحداً لامتنع من الحركة المختلفة.
وأوصل سبحانه وله الحمد كل عظمين بجسمٍ يسمى الرباط، وجعل سبحانه في آخر طرف العظم زائدة ناتئة، وفي الطرف الآخر نقرة موافقة لدخول تلك الزائدة، فالتأمت بذلك هيئة الخلقة وتسهلت الحركات.
وجعل سبحانه وتعالى الدماغ مبدأ الحس والحركة، وأنبت منه الأعصاب لتؤدي إلى كل عضوٍ الحس والحركة.
وبعث سبحانه وله الحمد من هذه الأعصاب قسماً إلى العين يسمى العصب النوري به يتم البصر، وقسماً آخر إلى الأذنين به يتم السمع، وقسماً آخر على المنخرين به يتم الشم، وقسماً آخر إلى اللسان به يتم الذوق.
وجعل سبحانه وتعالى حركات الأعضاء بآلات تسمى العضل، وزاد سبحانه وتعالى وثاق الأعضاء بآلاتٍ تسمى الوتر.
ولما كان أسافل البدن فيه بعدٌ ما عن الدماغ، جعل الخالق سبحانه وتعالى في مؤخر عظم قحف الدماغ ثقباً يخرج منه النخاع يمتد في خرز الظهر يعطي أسافل البدن الحس والحركة.
وحصن سبحانه وتعالى الدماغ بعظم القحف، والنخاع بخرز الظهر، كما حصن القلب والكبد بعظام الصدر، فإن هذه الأعضاء شريفة، فحصنت بالعظام لتكون أبعد عن قبول الآفات.(1/303)
وجعل سبحانه وتعالى الدماغ ثلاث بطون: البطن المقدم الأول للتخيل، والثاني المتوسط للفكر، والمؤخر الثالث للذكر.
وكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى القلب معدن الحياة وينبوعاً للحار الغريزي.
وكما تخرج من الدماغ أعصابٌ توصل للأعضاء الحس والحركة، كذلك يخرج من القلب شريانات نابضة توصل للأعضاء مادة الحياة.
ولما كان القلب مستوقد الحار الغريزي والحرارة إن لم تتروح انطفأت، جعل سبحانه وتعالى آلات التنفس: الفم والأنف والمنخرين، وفي الفم مجريان الواحد لدخول الهواء إلى الرئة والآخر لدخول الغذاء والماء في المريء إلى المعدة.
وجعل سبحانه وله الحمد الرئة بمنزلة المروحة تروح على القلب لئلا تنطفئ الحرارة.
وأما الأنف فينقسم [إلى] قسمين: الواحد يكون به الشم والآخر يتأدى فيه الهواء إلى القلب عند انطباق الفم عند النوم، وعند الأكل والشرب، ولولا الأنف لكان الإنسان يختنق عند النوم، ولذلك كان الأنف دائم الانفتاح وعند الأكل والشرب ينسد مجرى الهواء سداً محكماً، فإذا أكثر الإنسان الحديث انفتح مجرى الهواء، وعند ذلك يكون الشرق، لأنه قد يقع في مجرى الهواء شيء من الطعام أو الشراب.
وكما جعل الحق سبحانه وتعالى الدماغ والقلب يؤديان الحسن والحركة والحياة إلى سائر البدن، كذلك جعل الكبد يؤدي الغذاء إلى سائر الأعضاء بعروق ساكنة، فإن الإنسان إذا تناول الطعام قطعته الثنايا وكسرته الأنياب وطحنته الأضراس وقلبه اللسان، وبعد ذلك ينحدر إلى المعدة، فإذا استقر في المعدة انجمعت عليه وانسد بابها من أسفل سداً وثيقاً وانطبخ فيها، فإذا لبث وانطبخ احتاج إلى الماء، فعند ذلك يحصل العطش لتتمكن المعدة من تقليبه وترطيبه لئلا يحترق، فإذا كمل انطباخه بالماء بقي مثل الحسو الرقيق.(1/304)
وبين المعدة والكبد عروقٌ فيها يصل الغذاء من المعدة إليها وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (المعدة حوض البدن والعروق إليها واردةٌ) فيمتص الكبد أجود ما في الغذاء بتلك العروق فتطبخه طبخاً آخر حتى يصير دماً.
فإذا صار دماً أرسلت إلى كل عضوٍ منه ما يكفيه وما يقتضيه مزاجه، والذي يتأخر من الغذاء يندفع إلى الأمعاء [فتتغذى الأمعاء] بأجوده ويندفع الباقي نجواً.
ثم إن الكبد ترسل إلى القلب أجود الغذاء وأصلحه، وإلى الرئة أرقه وأحده، وإلى الدماغ أرطبه، وإلى العظام أغلظه وأيبسه وتبقى فضلاته فيها، فتدفع قسطاً منها إلى المرارة ويسمى المرة الصفراء، وقسطاً إلى الطحال، ويسمى المرة السوداء.
ويندفع قسط من المرارة إلى الأمعاء فيعين على خروج الثقل، ويندفع قسط من الطحال إلى فم المعدة فينبه شهوة الطعام.
ويصحب الدم من الماء قسطاً ليوقفه وينفذه إلى المسالك الضيقة، ثم ذلك الماء يرجع القهقرى إلى الكبد.
ثم إن الكبد يدفعه إلى الكلى والمثانة وهو البول، ويصحب ذلك قليل من الدم لتغذية الكلى والمثانة.
والدليل على أن الماء يصل إلى أطراف الأعضاء ويرجع القهقرى أمر المخضوبة، فإنه يصبح ماؤها عقيب الحناء أحمر لانصباغ الماء من الحناء.
وينبت من الكبد عرقان عظيمان أحدهما من مقعرها يسمى ((الباب)) يتصل بالمعدة ويأخذ ما فيها من الغذاء كما تقدم، والثاني ينبت من محدبها يسمى ((الأجوف)) يتصل بجميع البدن، ويمر قسم منه إلى الصلب يسمى الوتين، ومعلق القلب، لأنه معلق بالقلب يسقي كل عضوٍ في الإنسان، ويسمى أيضاً ((النياط)) قاله ابن عباس. فإذا انقطع مات صاحبه، وهذا معنى قوله عز وجل: {لقطعنا منه الوتين}.
أي العرق الذي يسمى الوتين، ويطلع [منه] قسمٌ إلى الحلق يسمى(1/305)
الوريد، ومنه قوله عز وجل: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}. ويسمى ((الوداج)) أيضاً، وهو الذي يقطع عند ذبح الحيوان.
ويمر قسمٌ منه في تجويف القلب الأيمن يسمى ((الأبهر))، وقيل: ((الأبهر)) عرق منشؤه من الرأس والأول أصح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في مرضه الذي مات فيه: (هذا أوان انقطاع أبهري من تلك الأكلة التي أكلتها بخيبر).
وقال الأصمعي: ((الأبهر)) هو عرق باطن الصلب يتصل بالقلب، فإذا انقطع لم يكن معه حياة. والأكلة كانت من كتف شاةٍ مسمومةٍ، سمتها زينب بنت الحارث أخت مرحب اليهودية الملعونة، وكان ذلك السم يتحرك عليه كل عامٍ في مثل ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم ، وباقي عرق الوريد يطلع إلى الرأس يسمى ((النامة))، ومنه قولهم: أسكت الله نامته، أي: أماته.
ويمر قسم منه إلى اليدين فيتفرع فيهما فيسمى قسم منه ((القيفال))، يقصد في أمراض الرأس، ويسمى قسم منه ((الباسليق))، ويتشعب منهما فروع تجمع وتسمى ((الأكحل))، وهو الذي حسمه النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ لما رمي في أكحله، ويسمى قسمٌ منه: حبل الذراع وقسمٌ منه يسمى الكتفي، و((الأسيلم)) وهذه العروق هي العروق المقصودة في اليد.(1/306)
وينزل عرق منه إلى الفخذ يسمى ((عرق النسا)) يقصد في علة عرق النسا المقدم ذكره، ويفصد أيضاً في توقف الحيض على النساء فيدره.
ويمتد باقيه إلى الساقين يسمى ((الصافن))، يفصد في أمراض الرجلين، وهذه العروق المذكورة لا تتم الحياة إلا بها، فإن الإنسان إذا قطعت يده أو رجله أمكن بقاؤه، وأما هذه إذا قطعت لم يكن معها حياة إلا أن تحسم، ولهذا حسم النبي صلى الله عليه وسلم أكحل سعدٍ.
واعلم أن هضم المعدة فضلية النجو، وهضم الكبد فضلية البول والسوداء، والصفراء، وهضم سائر الأعضاء فضلية العرق والوسخ.
ولكل عضوٍ فضله، ففضلة هضم الدماغ: المخاط والبصاق، وفضلة هضم العين: الرمص، وجعلت مالحةً كي لا يعفن، وفضلة هضم القلب والمثانة: نبات الشعر الذي أمر الشارع بنتفه من الإبط وحلقه من العانة، وفضلة هضم الأذن: وسخ الأذن وجعل مراً كيلا يتولد فيها الدود.
فسبحان الرحمن الرحيم، الخالق البارئ المصور.
ولما تعذر بقاء الشخص الواحد بعينه خلق الحق سبحانه وتعالى أعضاء التناسل لبقاء نوعه، وهي الذكر والأنثيان من الرجل، والرحم والثديان من المرأة.
وخلق سبحانه وله الحمد في الرحم تجويفين عظيمين أحدهما من الجانب الأيمن والآخر من الجانب الأيسر، فيتولد الذكر من الجانب الأيمن غالباً وتتولد(1/307)
الأنثى من الجانب الأيسر غالباً.
{أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً}.
فإذا وقع المني في الرحم انضم عليه، وذلك لما فيه من الاشتياق إلى المني.
وقد أخبر الصادق المصدوق: (إن في الرحم ملكاً يقول: يا رب نطفة يا رب نطفة).
فإذا وقعت النطفة في الرحم انضم عليها فكرهت الأنثى الجماع، وذلك أحد علامات الحمل، أعني كراهة الأنثى للنكاح، وذلك في كل حيوانٍ.
وقد قال بعض الحكماء: إن الرحم كانت حيواناً مشتاقاً، فإذا خالط مني الرجل ماء المرأة، امتزجا وانطبخا، وحدث منهما نفاخات بتوسط حرارة الطبخ، كما يحدث في الأشياء الغليظة المطبوخة، ثم تجتمع تلك النفاخات حتى تصير نفاخة واحدة، فيحدث منها تجويف عظيم، ويجتمع في ذلك التجويف الروح بإذن الله بارئها، ويصير لظاهر ذلك المني المنتفخ صلابة ويسمى ذلك الوقت علقةً.
وعند ذلك يقول الملك الموكل بالرحم: (يا رب ذكر أو أنثى) الحديث.
ثم هذه العلقة يتخللها عروقٌ دموية تغذيها، وتسمى عند ذلك الوقت مضغةً، ثم يأذن الملك الحق الخالق البارئ تقدست أسماؤه وتعالى علاه وشأنه الملك فينفخ فيه الروح.
ثم يأمر الملك بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيدٌ، كما في الحديث.(1/308)
ثم يحيط به ثلاثة أغشية يسمى الواحد منها المشيمة يتصل بسرة الجنين تمده بالغذاء، فإن الجنين في بطن أمه إنما يتغذى من سرته.
والثاني يقبل بول الجنين.
والغشاء الثالث يقتل البخارات التي تصعد من الجنين التي هي بمنزلة العرق والوسخ في أبدان المستكملين، وهذا قوله سبحانه وتعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ} أي نطفة، ثم علقة، ثم مضغةً {في ظلماتٍ ثلاثٍ}، أي في ثلاثة أغشية.
فإذا تكامل أجله الذي أجل الله له في بطن أمه، أذن الله سبحانه وتعالى لتلك الأغشية الثلاث فتخرقت وتقطعت، فحينئذٍ يعرض للمرأة من الألم والنصب، ونزف الدم الذي هو دم النفاس.
واعلم أن الطفل في بطن أمه قاعدٌ ووجهه إلى ظهرها، فإذا أراد الخروج انقلب أعلاه أسفله ولولا ذلك لتشبكت يداه في بطن أمه فيموت وتموت الأم، ولأجل تلك المشاق كان الميتة [بجمع] شهيدة، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فيخرج إلى دار الأحزان، والغموم، والهموم، والخطايا، والذنوب لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فيسخر له أباه وأمه، وقد أعد له أطيب الأغذية وأجودها وأنسبها له ويحنو عليه الغريب والقريب، ويرحمه من يراه لضعفه، فيقضي مدة أجله في دار المحن والبليات، محفوفاً بالسعادات أو مغموراً بالشقاوات، ومصيره إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ.
أعاذنا الله بكرمه ورحمته وفضله من سوء المآل، وختم أعمالنا بالصالحات.(1/309)
فتفكر أيها الإنسان في مبدئك ومنتهاك وعقباك، واسأل العزيز الغفار أن يعفو عنك ويجتبيك ويرضاك.
قال المجربون: إذا كان حمل المرأة ذكراً: حسن لونها وخفت حركتها وكانت حركة الولد في الجانب الأيمن وكبر الثدي الأيمن، وعظم النبض في اليد اليمنى، وتقدم رجلها اليمنى في المشي على اليسرى. والأنثى بالعكس.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (أنه خلق كل إنسانٍ على ستين وثلثمائة مفصلٍ)، فها أنا أعدها لك إن شاء الله تعالى:
قال أصحاب التشريح: إن في الرأس أحد عشر عظماً، وفي العينين سنة أعظم، وفي الوجنتين عظمان، وفي الأنف أربعة، وعظمان فيهما الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس، ويسمى الحنك الأعلى، وعظمان فيهما الثنايا، والرباعيات، والأضراس من أسفل، ويسمى الحنك الأسفل، ويسمى الذقن أيضاً.
وأما عظام الأسنان فهي ستة عشر من فوق، وستة عشر من أسفل، تسمى الثنايا، والرباعيات، والأنياب، والأضراس، وتتصل بعظام الرأس من خلف خرز الظهر وهي أربعة وعشرون خرزةً، وربما زادت واحدة أو نقصت ويتصل بهذا الخرز عظم العجز، وهو الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (لم يبق من ابن آدم إلى عظم الذنب).
ويتصل به من أسل عظام العصعص، وهي ستة، وهي كالأساس لسائر البدن، ويتصل بعظام العجز عظما الخاصرتين، وفيهما حقاً الورك، وفيهما يدخل عظما رأس الفخذين، فهذه هيئة عظام المؤخر.
وأما هيئة عظام المقدم:
فإن دون الرقبة عظمي الترقوتين وعظمى الكتفين، أربعة، وفي العضدين عظمان،(1/310)
وفي الزندين أربعة، وعظام الصدر سبعة، وتسمى هذه العظام القس، والزور.
وعظام الأضلاع من كل جانب اثنا عشر محدبة، تتصل بخرز الظهر من خلف فهذه هيئة عظام المقدم.
وأما عظام اليدين فمنها عظام رسغي الكفين ستة عشر عظماً، ومجمع عظم الذراع مما يلي الكف ويسمى الرسغ والكوع منه مما يلي الإبهام والذي يلي الخنصر يسمى كرسوع.
وعظام مشط الكفين ثمانية.
وعظام الأصابع من اليدين ثلاثين، لكل أصبع ثلاثة أعظم، وتسمى السلاميات وتقدم ذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما عظام الرجلين، فمنها في الوركين عظمان، وفي الفخذين عظمان، وفي الركبتين عظمان، وفي الساقين أربعة، وفي الكعبين عظمان، وفي العقبين عظمان، والعظم الرورقية عظمان، وهما يحتويان على الكعب يتم بهما حركة القدمين وعظام رسغي القدمين ثمانية، وعظام مشطي القدمين عشرة.
وعظام أصابع الرجلين ثمانية وعشرون، لكل أصبع ثلاثة أعظم إلا الإبهام، فإن لها عظمين.
فهذه جملة عظام البدن التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما كانت هذه العظام لا تقوم بذواتها أنبت الخالق سبحانه وتعالى لها من أطرافها أجساماً تشدها وتربطها تسمى أوتاراً ورباطات، وجعل حركتها بالعضلات.
وعدد العضلات خمسمائة وتسعة وعشرون عضلة.
وتركيب العضل من لحم وعصب، ثم يتصل بهذه الجملة الشرايين والعروق والأعصاب لتعطيها الحياة والحس والحركة والغذاء كما تقدم.
ثم يغشى هذه الجملة اللحم والسمن والشحم، وقد جعل سبحانه وتعالى(1/311)
اللحم ليسد خلل الأعضاء ويقيها البرد والانصداع والانقطاع، ومنه ما هو مثل الوطا، مثل لحم الفخذين والإليتين.
وأما السمن فإنه مادة الحرارة، إذ النار لا تقوم إلا بالدهن.
وأما الشحم فإنه يسخن آلات الغذاء مثل الدثار فتعين على الهضم، وأكثره على مراق البطن والأمعاء.
كلما كملت البنية غطاها سبحانه وتعالى بالجلد، وجعل منه رقيقاً مثل جلد الوجه لما احتيج فيها إلى الحسن والجمال، وجعل منه غليظاً مثل جلد باطن القدم لما احتيج فيها إلى [الحرارة] والمشي وملاقاة الأجسام الصلبة.
ثم أودع سبحانه وله الحمد في الجلد ضروب الحس واللمس، وأوصل به فوهات العروق، ففي أي موضع بخشته، ولو بإبرةٍ، نبع منه الدم وذلك بسبب تغذيته.
ثم أنبت فيه أنواع النبات من الشعر والأظفار، فجعل من الشعر ما هو للزينة والوقاية مثل شعر الرأس والحاجبين، وهدب العينين، فإن شعر الحاجبين والرأس للزينة، وشعر هدب العينين ليوقي العينين من شيءٍ يقع فيها وللزينة.
فلو تصورنا رجلاً أقرع محلوق شعر الحاجبين والعينين، لكان أشنع الأشكال وأقبحها، ألا ترى القلندرية ما أقبح أشكالهم وأشنعها.
ومن تمام حكمته ورحمته جعل شعر الحاجبين والعينين واقفاً لا يطول، إذ لو طال لانسبل على العينين، وأضر بالبصر ولو كان نابتاً إلى فوق أو إلى أسفل لعاق البصر. فإن من جملة أمراض العين الشعرة الزائدة، فإنها تضر البصر وتعالج بالقلع، ومن الشعور ما هو للزينة مثل شعر اللحية، فإنه يفيد الرجل مهابةً ووقاراً، ألا ترى الخصيان عند كبرهم ما أقبح وجوههم.
ومن الشعر ما هو للزينة ولا للمنفعة مثل شعر العانة والإبطين، ولذلك أمر(1/312)
الشارع عليه الصلاة والسلام بنتفه وحلقه، إذ حلق العانة يقوي شهوة النكاح كما أن حلق مؤخر الرأي يغلف العنق.
ومن تمام رحمته ولطفه بخلفه جعل في رؤوس الأصابع الأظفار لتقوى حركتها، وتمنع رؤوس الأصابع من التآكل. وجعلت تطول كل وقتٍ، إذ لو كانت واقفةٌ لا تطول لتآكلت بكثرة الأعمال، وقد وردت السنة بتقليمها، وقد ورد في تقليمها ودفنها آثارٌ، مثل قوله: (قص الظفر واحلق العانة وانتف الإبط يوم الخميس، واجعل الطيب واللباس والغسل يوم الجمعة).
وأما غسل يوم الجمعة فمنه واجبٌ ومنه مستحبٌ.
وروي: (من قص أظفاره مخالفاً، لم ير في عينيه رمداً).
وروي: أنه أمر بدفن الشعر والأظفار لئلا يلعب به سحرة بني آدم.(1/313)
وروى وكيعٌ بإسناده عن مجاهدٍ قال: يستحب طفن الأظفار.
وبإسناده: أنه يستحب دفن الدم والشعر.
وروى أبو داود بإسناده قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لرجل: ادفنه لا يبحثه كلب).
وقال الأطباء: إن دم الإنسان إذا لحسه كلب فإنه يكلب، فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الأمي الذي قد بهرت معجزاته الأبصار، وحيرت العقول والأفهام، صلاةً دائمةً بدوام الليل والنهار، فهذا ما يسره الله تعالى من فضله وإحسانه.
{فاعتبروا يا أولي الأبصار} والحمد لله.(1/314)
فصل في السماع
هو طيب الأنفس، وراحة القلوب، وغذاء الأرواح، وهو من أجل الطب الروحاني، وسبب السرور حتى لبعض الحيوانات.
والسرور المعتدل يذكي الحرارة ويقوي أفعال القوى ويبطئ الهرم، ويدفع أمراضاً، ويحسن ويخصب البدن.
كما أنه: (من كثر همه كثر سقمه) رواه أبو نعيم في (الطب النبوي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتزداد فوائد السماع بفهم معاني المسموع قال تعالى: {فبشر عبادٍ. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}.
وعن أبي هريرة مرفوعاً: (ما أذن الله لشيءٍ كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به).
أذن: أي استمع، ويتغنى أي يتلو بلحنٍ طيب.
وقال عليه الصلاة والسلام: (زينوا القرآن بأصواتكم).(1/315)
وجاء في قوله تعالى: {يزيد في الخلق ما يشاء}: هو الصوت الحسن.
وسئل ذو النون عن السماع فقال: وارد حق يزعج القلوب إلى الحق. وسئل عن الصوت الطيب فقال: مخاطباتٌ وإشاراتٌ أودعها الله تعالى كل طيب.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ترنم يوماً في منزله، فقيل له في ذلك، فقال: أنا إذا خلونا ترنمنا كعادة الناس. وقال: الغناء زاد المسافر.
وكان عبد الله بن جعفر مولعاً بالسماع.
قيل للزهري: تكره السماع؟ فقال: نعم، إذا كان غير طيب، وإنما المنكر اللعب واللهو في السماع.
ولما حدا ابن رواحة في بعض طرق المدينة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (رفقاً بالقوارير) أي رفقاً بالنساء لئلا يفتتن بصوتك.
وكان داود عليه السلام حسن الصوت بالنياحة على خطيئته، وكان لما يتلو الزبور يجتمع عليه الجن والإنس والطير والوحش.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: (لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود).
وقال أفلاطون: لذات الدنيا أربعٌ: الطعام والشراب والجماع والسماع.
وأنت ترى أهل كل صناعةٍ متعبةٍ كالقصار والعتال يستخرجون لأنفسهم ألحاناً يخففون بها عن أنفسهم، وترى الطفل إذا بكى سكن بالحداء، والإبل تطوي الفلاة بالحداء.
وحكي أن أعرابياً كان له عبدٌ طيب الصوت، فحدا له إبلاً وهي مثقلة،(1/316)
فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في يومٍ واحدٍ، فلما وصلت تبطحت وماتت، فهذه الإبل أثر فيها الصوت الطيب دون فهم المعاني، فما ظنك في الصوت الشجي بمعانٍ رائعةٍ يسمعه أهل الذوق والمعرفة، وترى الهزار والشحرور يلقي بنفسه في الأماكن التي فيها سماعٌ مطربٌ.
وقد اختلف فيه: فأباحه قوم وحرمه آخرون.
وقال ابن قتيبة: يروق الذهن، ويلين العريكة، ويهيج النفس ويحل الدم، ويلائم أصحاب العلل الغليظة وينفعهم، ويزيد في فضائل النفس، ويوصف لبعض الأمراض السوداوية.
قال المؤلف: الشيخ الإمام العالم المحدث الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي في مسألته في السماع: منه محرمٌ، ومنه واجبٌ، ومنه مباحٌ، ومنه مستحب، ومنه مكروه.
والمحرم: سماع غناء الصبية المليحة الأجنبية التي يخاف منها الفتنة، وقد يباح صوتها في العرس ولا يخلو من كراهة، وكذلك صوت الأمرد المليح، وهو أشد تحريماً، فإذا أضيف إلى ذلك دفوفٌ وشبابات تأكد التحريم وعمال السماع الذين كالفقهاء فهذا أدين الله بتحريمه.
ولا يكاد يوجد ذلك إلا من الفسقة، ومن له عادة من تبذير الدراهم وذلك محرمٌ، ومن الأسافل الغفلة، وهو محرمٌ، ومن أن غالب من يغني فسقة أراذل،(1/317)
ومن أن المجلس بحضره مردان ولاطة عشاق وفساق وترقص الملاح، وتتحرك الشهوة فينبغي لك أن تجتنب حضور ذلك جملةً.
والواجب: هو سماع القرآن في الفرائض، فما أنفعه من إمامٍ خاشعٍ قانتٍ لله، طيب الصوت بالتجويد، وأين يوجد ذلك؟!
والمباح: سماع الحداء الطيب، وسماع الشعر، وسماع التسبيح، وسماع غناء الرجل لنفسه وغناء المرأة لزوجها، والجارية لمالكها، وسماع النسوة اللاتي لا يوصفن بملاحة ليلة العرس للنساء، والعرايس وفي العيد ونحو ذلك.
وسماع الرجل الذي يغني لأصحابه ينشد أبياتاً ملحنةً، هو ورسيله.
ولكن يصير مكروهاً إذا أكثروا من ذلك، واتخذوه عادةً.
والمستحب: له صورٌ منها: جماعة يقرأ لها قارئٌ طيب الصوت، بتلحين سائغٍ وهم يتلذذون بصوته وبكلام ربهم ويتدبرونه ويخشعون أو يبكون، أو يقرأ لهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه في الرقائق ونحوها والإكثار من ذلك حسنٌ.
ومن صور المستحب: رجل صالحٌ له صوتٌ مطربٌ ينشد أبياناً ملحنة موزونة الضرب في الخوف والزهد والحزن على البطالة والبعد عن جناب الحق، والسامعون أخيار أبرار متقون ينشطهم ذلك، ويعقبهم إقبالاً على التوبة والإنابة والعبادة.
وهذا مستب بشروطٍ: أحدهما أن يعمل ذلك في الشهر أو الشهرين ساعة، أو نحوها، وأن يسلم من حضورٍ مليحٍ، وأن يسلم من وجدٍ يغيب العقل، وأن يسلم من شطح ودعوى، وأن يسلم من اعتقاده عبادة لذاته إلى غير ذلك مما يخرجه من الاستحباب إلى المعصية أو الكراهة.
وأما المكروه: فبالإكثار من حضور السماع بالكف وبالدف.(1/318)
وأما حضوره بالشبابة فإنه متوقف في تحريمه بعد، مع اعتقادي بأنها مكروهة وغالب السماع من الباطل لا من الحق في شيءٍ، ولكن الباطل: منه مباح، ومنه مكروه ومنه محرمٌ.
فتدبر هذا ولا تبادر إلى تحريم ما وسع الله على عباده فيه وعفا عنهم.
ومن صور السماع التي يكون فيها عبادة ليلة العرس لمن يحتسبه، وفي يوم العيد لمن يتخذه تأسياً بنبيه صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله}.
يعني عن صلاتكم، وعبادتكم.
فمن ألهاه الغناء عن عبادة الله وعن الصلاة فهو من الخاسرين، وقد خاطب سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}.
فما عنفهم عز وجل على التجارة المباحة واللهو الذي لم يحرمه علينا، إلا إذا تركوا الجمعة والجماعة، والصلاة المفروضة لذلك، وسكت عما عدا ذلك فهو مما عفا عنه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الملة الحنيفية السمحة يتبسم ويضحك، وربما مزح وجازى زوجته، وأركب ابني بنته الحسن والحسين على ظهره وقال: (نعم الرجل جملكما).(1/319)
ويركب الفرس عرياناً.
ودخل يوم الفتح على ناقته وهو يرفع عقيرته بأبي وأمي، ويحسن صوته بقراءة سورة الفتح ويرجع ويقول:
(أأأأ) ويقول: (يا عامر، أسمعنا من هنيهاتك).
ويتفرج على لعب الحبشة وزفتهم وإلى غير ذلك.
وأين القحالة والكلاحة والقطوبة من شمائله الكاملة؟ وهو محب للنساء اللاتي هن من زينة الدنيا، والطيب والثياب النقية الجميلة والحلوى، والعسل والحم، والصوت الطيب لا سيما بأصدق الكلام وأفصحه وأطيبه.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب الطيبات ولا يكثر منها، إذ الإكثار من المباحات يضيع الأوقات عن فعل القرب والطاعات.
فإنه كان عليه الصلاة والسلام مع وصفه بما ذكرنا، صواماً قواماً بكاءً من عظمة الله، أواهاً، منيباً، حليماً، وقوراً، إليه قد انتهى الحلم والعلم، والسخاء والنبالة والشجاعة له، وفيه جمعت المحاسن والأخلاق الحميدة المرضية، وبمجموع ما ذكرنا وبأمثاله صار أكمل الخلق كلهم صلى الله عليه وسلم ، آمين.(1/320)
انتهى
تم كلام الذهبي، وبتمامه تم الكتاب المبارك بحمد الله وعونه. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، في تاريخ يوم الثلاثاء المبارك الثاني عشر من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثماني مائة أحسن الله عاقبتها آمين، وذلك بمصر المحروسة، على يد ماشقه أحمد بن علي الأنصاري، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه وكشف كروبه وفرج همه وغمه وبرحمته عمه آمين.(1/321)